المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

‌الحقوق المعنوية:

حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاري

طبيعتهما وحكم شرائهما

إعداد

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

أستاذ بكلية الشريعة – جامعة دمشق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن هذا الموضوع يتناول بعض الاختصاصات الحاجزة التي تدخل في مضمون الحق لنتبين طبيعة الحق فيها: أهو حق معنوي مجرد لا ينحط على عين مادية ولا يسري ضمن - أو إلى - منفعة مالية متقومة؟ أم هو حق مالي متقرر، يتعلق بمنافع مالية متقومة؟ ثم لنتبين على ضوء ذلك حكم بيع هذه الحقوق وشرائها، وما يترتب على ذلك.

وقد تناولت في هذا البحث حقين من هذه الحقوق:

أولهما: حق الابتكار أو الإبداع العلمي (التأليف) .

ثانيهما: حق الاسم التجاري.

وأعني بالاسم التجاري الشعار الذي يتخذ عنوانًا لبضاعة ما ذات صناعة متميزة، وهو ما يطلق عليه " الماركة " كما أعني به أيضًا، الاسم الذي يتخذ لقبًا علي محل تجاري بقطع النظر عما فيه من الأصناف.

ويدور الحديث في بحثنا هذا إذن، عن معنى الحق وطبيعته في كل من هذه الحقوق الثلاثة (إذا اعتبرنا الاسم التجاري نوعين) ، ثم عن حكم شراء هذه الحقوق والاعتياض عنها ما يترتب على ذلك.

والله ولي الهداية والتوفيق.

ص: 1955

مقدمة

الحقوق المعنوية

بدأنا بحثنا بهذا العنوان التمهيدي، انسجامًا مع أصل العنوان المقترح للبحث، والذي يهمنا بيانه، هو الاطلاع على مدى علاقة " الحقوق المعنوية " بحق الابتكار، وما يسمى بالاسم التجاري ونحوه.. حتى إذا تبين أن هذه الحقوق الجزئية التي قد ينظر إليها من حيث هي منافع متقومة، داخلة تحت هذا العنوان:" الحقوق المعنوية " أدخلناها تحت سلطان الأحكام المترتبة عليه، تلك الأحكام المعروفة والمفصلة في أماكنها من كتب الفقه.

أما إن رأينا أن هذه الحقوق الجزئية التي نريد الحديث عنها، بمعزل عن مضمون هذا العنوان، فلا مناص عندئذ من إبعاده عن خطة البحث، حتى لا نقع في أي متاهة أو لبس.

كلمة " الحقوق المعنوية " يراد بها في المصطلح الفقهي ما يقابل الحقوق المالية سواء منها ما يتعلق بالأعيان المتقومة أو بالمنافع العارضة.. كحق البائع في الثمن وحق المشتري في المبيع، وحق الشفيع في الشفعة، وكحقوق الارتفاع وحق المستأجر في السكنى (1)

فكل حق لم يتعلق بمال عيني ولا بشيء من منافعه العارضة، فهو حق معنوي.. مثل حق القصاص وحق رفع الدعاوى وحق الطلاق والولاية، وسائر الحقوق المتعلقة بالكرامة الإنسانية وعموم ما يدخل في معني " العرض "(2) .

ذلك لأن الاختصاص الذي يقضي به الشارع لصاحب هذا الحق، أمر تقديري لا ينحط على عين مادية، ولا يسري ضمن منفعة متقومة، فكان هذا الاختصاص من جراء ذلك (وهو معنى الحق في الجملة) شيئًا معنويًا أو متعلقًا بأمر معنوي.

ولا يغير من واقع هذا الاصطلاح ومعناه، إمكان الاستعاضة عن بعض الحقوق المعنوية بالمال، كالقصاص مثلًا، ذلك لأن مشروعية الاستعاضة فيه ليست آتية من كون ذلك الحق متقومًا بذاته، بل بموجب نص من الشارع في ذلك الحق بعينه، بحيث لو لم ينص الشارع على مشروعية الدية، لما ظهر أي جسر بينه وبين القصاص يتمثل في المنفعة المتقومة.

على أن حديثنا لن يتناول شيئًا مما يدخل تحت اسم الاستعاضة عن الحق المعنوي بالمعني الفقهي المحدد، وإنما يتناول البحث في مدى سريان معني المال ضمن حقوق معينة، قضى العرف التجاري بها أو بكثير منها اليوم حتى إذا علمنا أنها تنطوي شرعًا، وبحد ذاتها، على قيمة مالية ثابتة، بنينا على ذلك الأحكام الملائمة، من إمكان البيع والرهن والإيجار وعقد الشركات، والحوالة بها وعليها ونحو ذلك.

ونظرًا إلى هذا كله، فإن بوسعنا أن نقرر بأن " الحقوق المعنوية " لا علاقة لها بكل من حق الابتكار والاسم التجاري. وستزداد هذه الحقيقة وضوحًا خلال دراستنا لكل من هذين الحقين وما يتعلق بكل منهما، لا سيما عصرنا هذا.

(1) وبذلك تشمل كلمة الحقوق المالية ما يتعلق بالأعيان التي يمكن حيازتها، وهو المعني بالمال في اصطلاح الحنفية، وما يتعلق بالمنافع، وهو داخل في معنى المال عند غيرهم من جمهور الفقهاء.

(2)

انظر أقسام الحق وأنواع الاختصاصات في كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعزبن عبد السلام: 2 / 573.

ص: 1956

حق الابتكار أو الإبداع

لعل هذا الاصطلاح فيه من الاتساع ما يشمل سائر الصور والجزئيات المطروحة في هذا البحث من حق التأليف وإبداع الصنعة ومدلول " الماركة " وعموم ما يسمى اليوم بالاسم التجاري.

ذلك لأن مصدر الحق في هذه الصورة الجزئية وأمثالها، هو الجهد الإبداعي الذي استقل به شخص دون غيره، أو أشخاص محددون. سواء تعلق هذا الحق بمعان ومدركات ذهنية مجردة، أو تعلق بمصنوع مادي أورث اهتمامًا وفائدة للآخرين.

غير أن حديثنا تحت هذا العنوان الجزئي إنما يتناول التأليف دون غيره من المبتكرات الأخرى، وهي كثيرة ومتنوعة.

والمفروض أن المراد بالتأليف في هذا المقام، ما ينطوي على عمل إبداعي أيًا كانت درجته من الأهمية. فأما التأليف الذي يطلق في بعض الأحيان، تبعًا، علي عملية نقل مجردة، أو تجميع عار عن أي تركيب إبداعي يبرز فائدة جديدة لم تكن معروفة ولا واضحة، فهو وإن اندرج تبعًا تحت اسم التأليف، لا يمكن أن يدخل في معني الإبداع أو الابتكار الذي هو مناط ما سننتهي إليه من الأحكام.

إذا تحدد المضمون المراد من هذا العنوان، فلنبدأ بعرض السؤال التالي:

هل الجهد الفكري في التأليف، يورث صاحبه – في ميزان الشرع – أي اختصاص حاجز يتضمن معنى الحق؟ (1) .

والجواب نعم، بل لا نعلم في هذا القدر أي خلاف.. ومن أبرز ما يدل على ذلك ما هو ثابت من حرمة انتحال الرجل قولًا لغيره، أو إسناده إلى غير من صدر عنه بل كانت الشريعة الإسلامية قاضية ولا تزال بنسبة الكلمة والفكرة إلى صاحبها.. لينال هو دون غيره أجر ما قد تنطوي عليه من خير، ويتحمل وزر ما قد تجره من شر.

بل وقد ذهب الإمام أحمد في تحديد هذا الاختصاص وتفسيره مذهبًا جعله يمنع من الإقدام علي الاستفادة بالنقل والكتابة عن مقال أو مؤلف عرف صاحبه، إلا بعد الاستئذان منه.

فقد روى الغزالي أن الإمام أحمد سئل عمن سقطت منه ورقة كتب فيها أحاديث أو نحوها، أيجوز لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ فقال: لا، بل يستأذن، ثم يكتب (2) .

(1) عرف صاحب كشف الأسرار الحق الخاص بأنه: موجود من كل وجه تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لمن ينسب إليه. وهذا التعريف ينطوي على الاختصاص الحاجز كما هو واضح. (كشف الأسرار على أصول البزدوي: 4 / 134 و 135) .

(2)

الإحياء، للإمام الغزالي: 1 / 96 طبعة مصطفى محمد.

ص: 1957

وسواء أكان مصدر هذا الحكم أخلاقيًا مجردًا يتعلق بآداب التعامل والسلوك، أو اقتصاديًا يتمثل في منفعة مالية متقومة، فإنه في كل الأحوال ينطوي على اختصاص ما، يعطي صاحبه حق التسلط على ما اختص به، وذلك هو معنى الحق.

إذن، فالتأليف يورث صاحبه حقًا يتعلق بمحله الذي هو ثمرة جهده الفكري أو العلمي.

ولكن ما هي طبيعة هذا الحق؟ أهو حق مادي مالي، أم هو حق معنوي خال عن شوائب النفع المادي أو المالي؟

ونقول في الجوانب:

في العصور الغابرة، حيث كانت الإبداعات الفكرية والعلمية تنشأ داخل أفكار أصحابها، ثم لا تستقر إلا بكتابتها على أيدي النساخ الذين كانوا يبذلون جهودًا شاقة في عملية النسخ والكتابة: لم يكن يتجلى لهذا الحق أي معنى أو قيمة، أكثر من مجرد اختصاص نسبة، تكسب صاحبها، كما أوضحنا، المثوبة والثناء، فيما هو مقبول ومستحسن، وتعرضه للقدح والعقاب فيما هو مرفوض ومستهجن.

أما القيمة المالية، فلم يكن ليبدو شيء منها، منوطًا بتلك الإبداعات العلمية. من حيث هي إبداع علمي، أي بقطع النظر عن أعطيات الحكام والأمراء ونحوهم.. ومن ثم لم تطرح فكرة الحق المالي في التأليف في أي من تلك العهود الغابرة، وربما لم تكن تخطر من أحدهم على بال وعلى هذا فبوسعنا أن نقول: إن هذا الحق كان حينئذ حقًا معنويًا.

ولكن، فما السبب في ذلك؟

إن السبب يتمثل فيما يلي:

إن القيمة المالية في الشيء إنما يبرزها، بل يوجدها، العرف الاجتماعي، سواء أعرفنا المال بأنه كل ما يمكن حيازته مما يمكن الانتفاع به كما هو رأي الحنفية، أو عرفناه بأنه مطلق ما كانت له قيمة يعتد بها عرفًا كما هو رأي الجمهور.

ذلك لأن إقبال الناس على الشيء بالاستفادة منه أو إعراضهم عنه، هو الذي يلعب الدور في إعطاء ذلك الشيء أو عدم إعطائه القيمة

ومن أبرز الأمثلة على ذلك دود القز. فقد مر عهد طويل في بعض البلاد، والناس لا يرون لدود القز أي جدوى، إذا لم يكونوا يقبلون عليه بأي محاولة استفادة، إما لجهلهم بما فيه من المزية المعروفة، وإما لجهلهم بسبل الوصول إلى هذه المزية فيه.. ومن ثم فلم يكن التعامل به مشروعًا، حتى إذا تبدلت الأحوال وتنبه الناس إلى ما فيه من مزية، وتمرسوا بسبل استخراج الحرير منه، تغير الحكم فأصبح التعامل به مشروعًا، بل أصبح مصدرًا من مصادر الثروة والتجارة (1) .

(1) انظر ما كتبه الإمام النووي موسعًا في أثر العرف في المنافع والأموال، وحكم بيع دود القز. في المجموع: 9 / 227 و240 وما بعد. وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 / 125.

ص: 1958

ولم يكن في مألوف الناس وعرفهم السائد أن جهدًا فكريًا أو عمليًا ظهر من خلال كتابة مرقومة على صفحات، يقوم بأي قيمة مالية، ما عدا قيمة الورق والحبر والجهد الذي بذله الناسخ في الكتابة.

نعم، ربما كان ينظر إليه من خلال قيمة معنوية قد تكون أهم وأخطر، كخدمة الدين وإزالة كثير من الغواشي التي قد تغشي عليه، وكاللذة التي يجدها القارئ في الاطلاع على حقيقة علمية كانت محجوبة أو غائبة، أو في حل مشكلة فكرية مستحكمة.

والمفروض أن فائدة عظيمة كهذه يتسابق إليها الناس ويتنافسون عليها، من شأنها أن تتحول إلى قيمة مالية ومنفعة متقومة، بمقتضى ما يفرزه قانون العرض والطلب.

غير أن الذي كان يحول دون ذلك أن هذه الفائدة – على الرغم من أهميتها – كانت تستهلك في جهد الناسخ وعمله الصبور الدائب، وذلك نظرًا لما كانت الكتابة تتطلبه من صبر وجهد آنذاك.

وهكذا، فإن الكتاب مهما عظمت الفائدته المعنوية ومهما كان محل رغبة عالية من جماهير الناس، فإن القيمة المالية التي يمكن أن تقدر تلك الفائدة بها، تذوب وتختفي إزاء قيمة الجهد الكبير الذي كان النساخ يبذلونه في سبيل رصد هذه الفائدة وتسجيلا، بحيث تبدو قيمة النسخ مساوية أو أغلى من قيمة المضمون العلمي أو الفكري للكتاب.

ولمزيد من الإيضاح نقول: إن جهد الناسخ لكتاب ما عندما يقدر بعشرة دنانير مثلا، فإن القيمة الاسمية له لن تزيد في السوق على هذا المبلغ. ذلك لأن الناسخ هو الذي يقرر الثمن، وإنما الثمن من وجهة نظره قيمة جهده اليدوي وتكاليف الكتابة، إن كان من وجهة نظر المشتري قيمة ما يتضمنه الكتاب من علم وإبداع فكري إذ هو لا ينظر إلى الجهد الكتابي – مستقلًا – بأي اعتبار ذاتي!

ويمكن أن يقال عندئذ إن هذا المؤلف له قيمة مالية في نظر القراء المقبلين عليه، ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن هذه القيمة استهلكت داخل القيمة التي اقتضاها جهد الكتابة وتكاليفه. وهكذا فإن المؤلف لم يكن يخطر بباله قط أن يجعل من أعماله العلمية مصدر رزق، لأن وصولها إلى أعين القراء وأفكارهم كان يتطلب دائمًا جهدًا أغلى أو مساويًا لقيمة أعماله العلمية تلك.

ولهذه المسألة نظير معروف في حياتنا اليوم، وهو أننا كثيرًا ما نتأكد من وجود معادن ثمينة داخل بقعة ما من الأرض التي في جوزتنا. غير أن السعي إلى استخراج هذه المعادن وتصفيتها يتطلب من الجهد والتكاليف ما قد يربو ثمنه على القيمة تلك المعادن، ووجوه الاستفاده منها.. لا ريب أن قيمة تلك المعادن تضمحل وتذوب إزاء الجهود والصعوبات التي تقف في طريق استخراجها. وعندئذ يصح أن يقال إن هذه المعادن لا تنطوي – حكمًا – علي أي قيمة مالية حية.

ص: 1959

أما اليوم، وقد ظهرت الآلات الطباعة التي تقذف الواحدة منها عشرات النسخ من الكتاب في الدقيقة الواحدة، فقد اختلفت موازين الأمر!..

إن إخراج النسخة الواحدة مطبوعة مجلدة جاهزة للقراءة، لم يعد يكلف إلا مبلغًا زهيدًا من المال، هو في مجموعة قيمة الورق والغلاف ونفقات الآلة، يتبين لك ذلك عندما تقسم مجموع النفقات على عشرين ألف نسخة مثلًا.. وأمام ضمور كلفة استخراج النسخة الواحدة تبرز قيمة المضمون العلمي له، تلك القيمة التي ظلت خفية أو ضامرة ضمن ضخامة القيمة التي كان يستحقها إخراج النسخة الواحدة منه.

وهذا هو السبب في تسابق الناشرين وأصحاب المطابع إلى طبع آلاف النسخ من مؤلف أو ابتكار علمي، يشعرون أن له قيمة مالية، وراء تكاليف الطباعة والإخراج. فقد تحولت عملية الإنفاق على ذلك إلى أداة اقتناص لقيمة مالية، كان يعوزها أن تحبس في وعاء صالح، ليتسنى بذلك بيعها وتسليمها لآلاف الراغبين.

ولكن فمن الذي يستحق هذه القيمة المالية التي برزت لمضمون هذا الكتاب، بفضل ظهور وسائل الطباعة الحديثة؟

والجواب المضمون العلمي للكتاب إذا كان حقًا لمؤلفه الذي أبدعه، كما سبق أن أوضحنا، طبقًا للأدلة التي لا خلاف فيها، فلا ريب أن كل ما قد يبرز فيه من قيمة مالية، لا بد أن يكون عائدًا بالضرورة لصاحب الحق بذاته.

غير أن الذي يقوم بدور الطباعة والإخراج، يستحق على ذلك أجره كاملًا غير منقوص. ويعود الأمر ليشبه، مرة ثانية، تلك الأرض الغنية بالمعادن، عندما قامت الوسائل الحديثة باستخلاصها وتحضيرها، ومن ثم أبرزت القيمة الذاتية لها.. إذا لما هبطت قيمة تلك التكاليف والجهود هبوطًا كبيرًا، صعدت من خلال ذلك قيمة تلك المعادن وأمكن التعامل بها على هذا الأساس.

ص: 1960

ولكن كيف يمكن للمؤلف صاحب هذا الحق، أن يستوفي من الناس قيمته وعلى أي أساس؟

ومن الواضح أن الجواب على هذا السؤال يتوقف على الجواب عن سؤال أسبق منه، وهو: كيف يتسنى للراغب في الاستفادة من هذا الإبداع العلمي أن يستوفي لنفسه الفائدة منه؟

والجواب أن إمكان هذا الاستيفاء متوقف على إمكان تسليم المؤلف ابتكاراته العلمية هذه للآخرين.. وإنما سبيل ذلك تسجيلها عن طريق الطباعة والنشر. فبذلك يمكن التسليم، ويمكن للآخرين أن يستوفوا الفائدة التي هي مناط القيمة المالية.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الحكم الذي يتكفل باستيفاء كل من الطرفين للقيمة التي يطمح إليها، إنما هو البيع. ويتسنى تكييف هذا الحكم بإحدى طريقتين:

الأولى: اعتبار الطابع أو الناشر هو المشتري لحق الابتكار، ثم إنه يبيعه للناس بدوره في وعائه المادي الذي هو الكتاب، ولكن لا بد أن يكون عقد الشراء بين المؤلف والناشر واقعًا على وعاء مادي يتمثل في النسخة المخطوطة التي يتقدم بها المؤلف، على أن يصحب ذلك اشتراط رفع المؤلف يده عن حقه هذا كليًا، أو جزئيًا، أي إلى أمد محدود.

الثانية: اعتبار المستهلكين " آحاد الناس " هم المشترين من المؤلف، ولكن عن طريق الطابع أن الناشر. وإنما يستحق كل منهما عندئذ الأجر المتفق عليه من المؤلف. أي إن الطابع أو الناشر في هذه الحالة مجرد وسيط بين البائع والمشتري.

ص: 1961

غير أن العقدة التي تخضع للمناقشة والبحث هي الوجه الشرعي الذي يمكن أن يجاب به على السؤال التالي:

ألم يصبح المشتري، أيًا كان، للكتاب، مالكًا له؟ ومن ثم ألم يعد من حقه أن يتصرف بكاتبه هذا كما يشاء؟ كأن يصور منه آلاف النسخ ثم يبيعها للناس كما يشاء؟

لكي نتصور الجواب العلمي عن هذا السؤال، ينبغي أن نتذكر أن عقد البيع كان ينبغي أن يقع على المنفعة العلمية المقدرة التي ابتكرها المؤلف، إذ هي المقصود دون غيرها. غير أن المنفعة لما لم يمكن تسليمها، ومن ثمن لم يمكن استيفاؤها، إلا ضمن وعاء مادي يتمثل في كتاب، فقد كان لا بد أن يقع عقد البيع على هذا الوعاء. وإذن فلا شك أن قدرًا محددًا من تلك المنفعة العلمية تم بيعه تبعًا للوعاء الذي هو مناط العقد. وهذا القدر المحدد يحدده فعلًا الوعاء المادي المتمثل في عدد النسخ التي يتم الاتفاق على طبعها إن تصورنا أن الناشر هو المشتري، أو في عدد النسخ التي تم الاتفاق على شرائها إن فرضنا أنه المستهلك.

ويترتب على هذا التصور أن الناشر لا يملك حق طبع عدد أكثر مما تم الاتفاق عليه. كما أن المستهلك أيضًا لا يملك – اعتمادًا على امتلاكه للكتاب – أن يطبع أي عدد منه قل أو كثر، لأن كلًا من الناشر والمستهلك إنما يستلُّ بهذا العمل الذي يقدم عليه من حوزة المؤلف حقًا متقومًا منسوبًا إليه خارج حدود الوعاء الذي وقع البيع عليه. ومن ثم فهو تصرف غير شرعي.

غير أن هذا الكلام يناقش من بعض الناس بحجة ما هو مقرر من أن المالك يحق له أن يتصرف بملكه كما يشاء، ما لم يكن في تصرفه إضرار بالآخرين، على ما هو معروف من النهي عن التعسف في استعمال الحق. ثم يقولون: إن استنساخ مالك الكتاب نسخًا أخرى منه عن طريق الكتابة أو الطباعة، إنما هو تصرف بملكه، وليس فيه أي تعسف أو إضرار بالآخرين، فيما قد يتصوره هؤلاء المناقشون.

والجواب عن هذا الوهم أن عقد الشراء لم يقع على جوهر الحق الذي هو في الأصل ملك المؤلف، وإنما وقع العقد على كتاب.. وهو ما نعبر عنه بالوعاء المادي الذي يحوي صورة عن ذلك الحق المتقوم. إذن فالمشتري قد امتلك الوعاء المادي أصالة، وما قد تضمنه تبعًا، وبناء على ذلك، فهو لا يستطيع أن يزعم أنه بهذا الشراء قد انتزع حق تلك الأفكار من مبدعها الذي لا تزال تنسب إليه شرعًا، وأنه قد جعل نفسه بذلك المالك لهذا الحق من حيث هو، بدلًا من المؤلف أو المبتكر.

وإذا كان هذا الكلام محل اتفاق، وأعتقد أنه كذلك، فلا ريب أن استباحة مشتري الكتاب تصوير آلاف أخرى منه واستقلاله ببيعها والحصول على أرباحها، إنما هي ثمرة نقيض هذا الكلام المتفق عليه. إذ إن هذا العلم لا يعدو أن يكون اقتناصًا لحق تم الاتفاق على أنه لا يزال منسوبًا إلى صاحبه المؤلف أو المبتكر، ومن ثم فهو لا يزال مالكًا لأي فائدة مادية تتفرع عنه، ولا يعدو أن يكون اعتصابا أو سرقة لحق مالي متقوم من صاحبه.

فقد تبين إذن، أن مالك الكتاب بالهبة أو الشراء أو نحوهما، إنما يحق له أن يتصرف بالعين المادية التي اشتراها، إذ هي التي وقع عليها العقد، كما أنه يملك أن يعبر عن الأفكار التي في الكتاب وأن يناقشها ويرفضها أو يرويها، ولكن على أن لا ينتحلها لنفسه، كما مر بيانه والدليل عليه، بل يغزوها إلى من لا تزال حقه المنسوب إليه. ثم إنه لا يملك من باب أولى – كما هو واضح – أن يبيع هذا الحق المنسوب إلى غيره ويستقل هو بثمنه، اعتمادًا على مجرد أنه قد امتلك نسخة من كتاب تحوي صورة لهذا الحق. لا شك أن هذه النسخة تغدو عندئذ في يده أشبه بكوة فتحت في جدار لتتسرب اليد الأجنبية منها إلى الداخل، ثم لتقتنص كل ما قد يوجد فيه بدون حق.

ص: 1962

حق الاسم التجاري

ما المراد بالاسم التجاري؟

الاسم التجاري اصطلاح يمكن أن يستعمل في التعبير عن أحد المضامين الثلاثة التالية:

الأول: الشعار التجاري للسلعة، وهو ما قد يسمى اليوم بـ " الماركة " المسجلة. إذ يصح هذا الشعار تعبيرًا عن الصنف المتميز عن غيره في كثير من الخصائص والسمات.

الثاني: الاسم الذي إذ غدا عنوانًا على محل تجاري نال شهرة مع الزمن، بحيث تتجسد هذه الشهرة في الاسم المعلن عليه. وقد يكون هذا الاسم هو اسم التاجر ذاته أو لقبه، وقد يكون اسمًا أو وصفًا اصطلاحيًا لقَّب به المحل، وربما أطلقت على هذا المضمون الثاني كلمة " الشهرة التجارية".

الثالث: الوصف الذي يتمتع به المحل التجاري بحد ذاته، أي من حيث إنه موقع ومكان، لا من حيث الجهد أو الشهرة التي نسجها لها عمل صاحب المحل.

فأما الحديث عن هذا المضمون الثالث، فليس داخلًا فيما نحن بصدده، بل هو راجع إلى ما يسمى اليوم بالفراغ أو الخلو وهو اصطلاح على المال الذي يدفع علاوة على قيمة العقار أو أجرته، مقابل ما يمتاز به من أهمية ذاتية أو موقع تجاري.

وأما المضمون الأول والثاني، فهما اللذان يمكن أن يرادا بالاسم التجاري في هذا البحث وإذن فإن ما يتناوله حديثنا هو:

بيان حكم الشريعة الإسلامية في بيع التاجر الشعار التجاري الذي كان قد اتخذه عنوانًا لسلعة تجارية له حتى عرفت به، أو بيع التاجر للاسم الذي اتخذه عنوانًا ولقبًا لمحله التجاري الذي عرف واشتهر به.

ص: 1963

ويقتضي بلوغ معرفة هذا الحكم أن نقطع إليه المراحل التي تتمثل في بيان المسائل التالية:

المسألة الأولى: هل الاسم التجاري ينطوي على حق يعطي صاحبه مزية الاختصاص؟

المسألة الثانية: هل يستتبع هذا الحق – على فرض وجوده – منفعة قيمية أو ثمرة مالية تنفصل عن الشخص صاحب الحق وتتمثل في عين مستقلة عنه، بحيث يصبح هذا الحق حقًا ماليًا متقررًا، لا حقًّا مجردًا؟

المسألة الثالثة: على اقتراض وجود هذه المنفعة المالية، هل يدخل هذا الحق بذلك في المملكات، بحيث تسري عليه أحكامها من حق التصرف بها والمعاوضة عنها؟

المسألة الرابعة: إذا ثبت دخول هذه المنفعة في حكم الممتلكات، فهل ثمة ما يمنع من بيعها أو شرائها، بحيث يسبب البطلان أو الحرمة، وما هو هذا السبب؟

ص: 1964

المسألة الأولى - هل الاسم التجاري ينطوي على حق شرعي؟

ونحن نعني الآن بالاسم التجاري الشعار الذي يتخذ اسمًا لنوع البضاعة. أما اسم الملح التجاري فنذكره فيما بعد.

ولعل أخصر وأجمع تعريف للحق ما ذكره الأستاذ الجليل مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الفقهي مستخلصًا من عدة تعاريف ذكرها الفقهاء، وهو:

" اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع "(1) .

إلا أن الأستاذ الزرقاء ساق هذا العريف وارتضاه للملك لا للحق. ونحن نرى أن تعريف الحق الذي هو أعم من الملك داخل فيه، وهو " اختصاص حاجز شرعًا " إذ الحق بمعناه العام ما أورث صاحبه الاختصاص، بقطع النظر عن تسويغه التصرف به والاعتياض عنه أو عدم تسويغه ذلك. فيشمل هذا التعريف العام حقوق الله وحقوق العباد والحقوق المعنوية والمالية والعقدية

إلخ.

إذا علمنا هذا، فهل ينطبق تعريف الحق على العلاقة السارية ما بين التاجر والشعار الذي اتخذه عنوانًا على بضاعته. أي هل للتاجر أن يستأثر بهذه العلاقة من دون الناس، باسم الشرع وحكمه، بحيث لا يجوز شرعًا أن ينسب غيره هذا الشعار إلى بضاعته على نحو ما هو مقرر من نسبة حق التأليف إلى صاحبه؟

تتوقف معرفة الإجابة عن هذا السؤال على إدراك المغزى الذي يعبر عنه الشعار التجاري الدارج إن هذا الشعار أو الاسم لا يراد من إطلاقه أكثر من التعريف بالبضاعة التي انفرد صاحبها بصنعها أو ابتكارها، وإخراجها على الوجه المتميز الذي أتيح له وحده، اقتراضًا، أن يخرجها فيه. ولما كان من حق صاحب هذه الصنعة المتقنة أن يحيط صنعته بذاتية مستقلة تحجزها عن الضياع والالتباس، فقد كان أيسر سبيل إلى هذا الحجز والتمييز أن يَسِمَهَا بشعار خاص يكسبها الذاتية المستقلة بين السلع والبضائع الأخرى.

(1) المدخل الفقهي العام: 1 / 241؛ وانظر المدخل إلى نظرية الالتزام، للأستاذ الزرقا أيضًا: 2 / 39.

ص: 1965

ومن هنا يتبين أن العلاقة القائمة بين تلك الصنعة المتميزة واسمها الذي اختير لها، إنما هي في الحقيقة تحصين للعلاقة القائمة فعلًا بين تلك البضاعة والصانع أو التاجر الذي استقل بإبداعها أو بإخراجها بصفاتها المتميزة.

وهذه العلاقة في الحقيقة من نوع العلاقة التي بين المؤلف والأفكار العلمية التي استقل بإبداعها، على نحو ما سبق بيانه. فكما أن نسبة تلك الأفكار إلى صاحبها حق شرعي لا يجوز إنكاره ولا التطاول عليه، فكذلك ثمرة الجهد العضلي أو الصناعي حق شرعي لصاحبه لا يجوز إنكاره أو العدوان عليه. إلا أن المؤلفات العلمية تكون محصنة في العادة ضد أي انتحال، بكتابة أسماء مؤلفيها عليها. في حين أن البضائع المصنعة تنقطع نسبتها إلى المعمل الذي تم تصنيعها فيه، بمجرد طرحها في السوق فكان الشعار التجاري أو " الماركة " المسجلة عليها كالبديل عن ذكر اسم المؤلف وتسجيه على الكتاب.

ونظرًا إلى الاسم التجاري كان رمزًا لهذا الحق الذي يعود إلى صاحب الصنعة والإبداع، فقد اقتضى العرف التجاري أن يكون الشعار الذي يعتمده لبضاعته حقًا مكتسبًا له، لا مجال للازدواج أو التنافس فيه، لا مجرد تسمية وتعريف لذات السلعة من حيث هي عين مادي. وقد علمنا آنفًا أن الحق كما يتعلق بالأعيان المادية من سلع وغيرها، على وجه التملك والاختصاص، فهو يتعلق أيضًا بالجهد المعنوي والطاقة الإبداعية التي تتعلق بالأفكار أو الصناعات.

وتعود فائدة هذا الاختصاص إلى جهتين اثنتين:

الجهة الأولى: التاجر، وتتمثل الفائدة التي ينالها في مزيد من الإقبال إلى بضاعته ومن نتائج ذلك تحقق المزيد من أرباحه وفاعليته التجارية.

الجهة الثانية: المستفيد أو المستهلك، وتتمثل فائدته في تيسير الطريق أمامه إلى الوصول لما قد يبحث عنه من الجودة والإتقان. ولا شك أننا نقرض في هذا كله الصدق في مساعي التاجر وجهوده ودعوى سعيه إلى الإتقان.

وإذا كان هذا هو العرف التجاري السائد، فإن ذلك يكون بدوره مصدرًا لثبوت معنى الحق الشرعي الذي عرفه صاحب كشف الأسرار بأنه " موجود من كل وجه تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لمن ينسب إليه "(1) ، وقد علمنا فيما مضى أن العرف مرجع أساسي في تثبيت الحقوق الشرعية.

وبناء على ذلك نقول: إن الاسم التجاري حق تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لصاحب السلعة ومن ثم فهو يعطي صاحبه مزية الحصر والاختصاص.

(1) كشف الأسرار على أصول البزدوي: 4 / 134، و 135.

ص: 1966

المسألة الثانية – هل ينطوي هذا الحق على منفعة قيمية أو ثمرة مالية؟ :

وبتعبير آخر: أيعد حق الاسم التجاري – بعد ثبوته – من الحقوق المالية المتقررة، أم من الحقوق المجردة غير المالية؟

ونقول في الجواب: لا ريب أن مصدر هذا الحق هو الجهد الذهني مضافًا إليه النشاط الحركي والعضلي، وهو شيء ثابت ومستقر في كيان صاحب الحق ذاته؛ غير أن لهذا الجهد الذهني ثمارًا تنفصل عنه لتستقر في سلعة أو بضاعة منفصلة عنه، بحيث يمكن استيفاؤها والانتفاع بها وتقديرها. وبذلك تصح هذه الثمار ذات كيان ووجود مستقل، وأثر ظاهر في المصلحة العامة. ومن ثم نشأت عنها قيمتها المالية التي أخضعتها لقانون التداول (1) .

وكما أن السلع والبضائع تعد بحد ذاتها أموالًا متقومة خاضعة للمعاوضة والتداول، فإن الأجهزة والأدوات التي تستخدم في إنتاجها تعد هي الأخرى أموالًا متقومة.

وإذا ثبت هذا، فلا فرق بين أن تكون هذه الأجهزة والأدوات وسائل وأسبابًا مادية، وأن تكون جهودًا وابتكارات ذهنية، أي فكما تكون الأجهزة المادية ملكًا لأصحابها فكذلك جهودهم الفكرية وطاقتهم الإبداعية، ينبغي أن تكون هي أيضًا ملكًا لأصحابها، على نحو ما مر بيانه في مسألة حق التأليف؛ ونظرًا إلى أن هذه الطاقات الإبداعية أمور معنوية بحد ذاتها، فقد اقتضت الضرورة إحرازها وحصرها عن طريق تحصينها في الاسم التجاري.

وهكذا يتضح أن حق الاسم التجاري كناية عن السياج الذي يحصر سائر الفوائد المالية والاعتبارية التي جاءت ثمرة المزايا التي استقل بها التاجر في بضاعته، عن طريق ما بذل من الجهد الفكري والنشاط الحركي، كي لا تتبدد أو تتحول إلى غيره.

أي أن الاسم التجاري عنوان على السر الذي تمتاز بها به بضاعة ما، إذ يعطيها ذلك مزيدًا من القيمة ويضمن مزيدًا من الإقبال عليها والرغبة فيها. فهو في الحقيقة كناية عن منفعة مالية متقومة، داخلة تحت سلطان المعاوضة وخاضعة لقانون الاختصاص.

(1) انظر " حق الابتكار في الفقه الإسلامي "، للدكتور فتحي الدريني وفئة من العلماء: ص 60، و61.

ص: 1967

المسألة الثالثة: هل يدخل إذن هذا الحق في دائرة الممتلكات بحيث تسري عليه أحكامها؟

إذا كان تعريف الملك: " الاختصاص الذي يسوغ صاحبه حق التصرف إلا لمانع" كما سبق أن أوضحنا، فلا شك أنه ينطبق على حق الاسم التجاري.

فقد علمنا أنه اختصاص حاجز

ثم علمنا أنه تعبير عن ثمرة جهد فكري ونشاط حركي، يتمثل في صنعة مبتكرة أو درجة ممتازة من الإتقان ثم علمنا أنها ثمرة مالية متقومة، هو وليها، وهو صاحب الاختصاص فيها ونظرًا إلى أنها منفصلة عن كيانه الإنساني متمثلة في قيمة متداولة، فله عليها سلطان التصرف عن طريق السلعة التي تلبس بها هذا الحق وتمثل فيها معنى الابتكار أو الإتقان وهذا هو تحليل معنى الملك وواقعه.

وينبغي أن نعيد هنا إلى الذهن الفرق بين الحق في هذه المسألة وهو أمر معنوي نعبر عنه بالإتقان أو الابتكار وبين جوهر السلعة ذاتها التي هي مظهر لذلك الحق.

إننا إذ نقرر أن هذا الحق مالي متقرر، وأنه بذلك داخل في الممتلكات، فإنا لا نعني بالممتلكات هنا السلعة ذاتها، فإن امتلاك صاحبها لها أمر بدهي ليس محل بحث. وإنما نعني بالمملوك هنا هذه الصفحة المعنوية التي نسميها الابتكار أو الإتقان.

صحيح أن حق التصرف إنما ينصب على العين المادية،ولكن سبب ذلك أن المنفعة التي هي الأساس وهي مصدر التقوم والتمويل لا يمكن أن تقوم بنفسها ومن ثم فلا يمكن استيفاؤها، إلا عن طريق العين القائمة بها ومن هنا كان لا بد من حيازتها عند امتلاك منفعتها (1) .

فمن هنا، نقول: إن التاجر يملك العين بالحيازة أو الصنعة. ثم يملك المنفعة المالية الإضافية التي نتكلم عنها بما بذله من جهد الإتقان أو الابتكار. وكل منهما مستقل – في الاعتبار – عن الآخر.

(1) انظر كشاف القناع: 3 / 308 و 309.

ص: 1968

المسألة الرابعة – هل ثمة ما يمنع من شراء الاسم التجاري من صاحبه؟

وهذه المسألة هي لب هذا الموضوع الثاني ومحوره. وقبل أن نجيب عنها ينبغي أن نعود إلى تحرير المعنى المراد، فنقول:

لقد تبين مما قلناه في المسائل السابقة أن الاسم التجاري كناية عما يفترض اتصاف السلعة به من مزايا الجودة والإتقان التي قد لا توجد في أمثالها. وعلى هذا فالمراد بشراء الاسم التجاري شراء هذه المزايا مجسدة ومحددة في مظهر ذلك الشعار الدال عليه، بحيث تتحول هذه المزايا فتصبح من صفات بضاعة التاجر المشتري، ولولا هذا الهدف لما كان لهذا التبايع أي معني.

فهل يصح هذا العقد؟

هناك طريقتان يعرفهما التجار لعملية شراء الاسم التجاري.

الطريقة الأولى: تتم في الغالب بين شركة عربية وأخرى أجنبية، تشتري الأولى من الثانية الاسم التجاري لبضاعة ما. ويتضمن عقد الشراء هذا، تكفل الطرف البائع بتقديم خبراء ومهندسين في تصنيع البضاعة المعروفة بذلك الاسم والكشف عن مصدر المزايا التي فيها، حيث يقوم هؤلاء الخبراء بدور التدريب والإرشاد، لتصنيع البضاعة على مستوى الجودة والمزايا التي ارتبطت مع الزمن بذلك الشعار أو الاسم. كما يلتزم الطرف البائع الاستمرار في التدريبات والقيام بالتجارب العلمية، ريثما تترسخ لدى الطرف المشتري عوامل الإتقان ذاتها.

إن عملية الشراء في هذه الحالة، إنما تنصب في الحقيقة على نقل الخبرة وشرائها، وإنما يدخل الاسم الجاري في الصفقة تباعًا. فمن الطبيعي لمن يشتري خبرة في صناعة سلعة ما أن ينال معها أطرها ومظاهرها المادية، وفي مقدمتها شعارها العالمي المسجل. ولست أرى أي إشكال في مثل هذا العقد، فهو عقد سائغ صحيح، سواء صيغ صياغة بيع وشراء أو صياغة جعالة أو استئجار.

أما صيغة الشراء، فلما علمنا من أن حق التاجر في الاسم التجاري ظل لحقه في الخبرة المنفصلة عن ذاته وكيانه والمتجلية في العين المادية المتقومة، وهو حق مالي خاضع للتصرف به والاعتياض عنه، وإنما سبيل نقل هذا الحق واستيفائه نقل الخبرة بالتعليم والتدريب مقابل ثمن يتفق عليه، وإنما ينتقل الاسم التجاري تبعًا لانتقال الخبرة، نظرًا لما هو قائم بينهما من التلازم المستمر. ثم إن هذا الاسم التجاري، شأنه كشأن الكتاب، ليس إلا وعاء لتحصين تلك الخبرة وحصرها لمستحقها الجديد.

ص: 1969

وأما صيغة الاستئجار فالشأن فيه كأي عقد استئجار على التعليم من العلوم الدينية أو الدنيوية، بأجر معين. وإنما يملك المتعلم الصنعة التي تعلمها تحت سلطان هذا الاستئجار الشرعي.

أما نقل الاسم التجاري في هذه الحالة، فينبغي أن يكون خاضعًا للاتفاق الذي يتم بين الطرفين إذ الاستئجار عقد على منفعة لا على عين، والمنفعة هنا يمكن انفكاكها عن العين، إذ هي لا تعدو أن تكون تعليمًا أو تدريبًا على عمل. ولكن إذا تم الاتفاق على تنازل صاحب الحق عن الاسم التجاري للطرف الآخر، ضمن عقد الاستئجار أو ضمن اتفاق مستقل، فلا أرى ما يمنع من ذلك.

الطريقة الثانية: ما يجري عادة بين بعض التجار أو الشركات التجارية، من شراء الاسم التجارية للسلعة دون أي التزام من البائع بتقديم خبرة أو الكشف عن أسرار الصنعة. وإنما يكون هذا الشراء تنازل البائع عن الاسم الذي كان مسجلًا لسلعته والذي كان من حقه هو، بحيث يتمكن المشتري من جعله شعارًا لسلعته المشابهة، وتكون الفائدة المرجوة للمشتري من ذلك رواج سلعة تحت هذا الاسم، إذ كان الاسم التجاري الذي اشتراه ذا شهرة وثقة في الوسط التجاري أو لدى عامة الناس. فما حكم هذا العقد؟

من الثابت يقينًا أن هذا الشراء لا يتحقق له أي مضمون. ذلك لأن المزايا التي عرفت بها السلعة والتي هي المضمون المراد من الشعار الجاري، ستظل ثابتة للسلعة الأصلية ذاتها، وستظل وثيقة الارتباط بها، مهما انفصل عنها اسمها أو شعارها التجاري ليلتصق بسلعة أخرى مشابهة. إذ إن هذه المزايا إنما هي ثمرة جهود صاحبها ونشاطه الفكري أو الصناعي الممتاز، فهي متعلقة به من حيث الجهد، متجلية في صناعته من حيث الصورة والمظهر. وهيهات أن تنفك هذه العلاقة عنه وعنها مهما باع أو تصرف في رمزها التجاري.

كل ما يمكن أن يحدثه نقل هذا الرمز التجاري من تاجر إلى آخر، بعقد كهذا، هو التغرير والتدليس!

أي إن هذا العقد منطو على غرر بالغ فيما يتعلق بالصلة بين المشتري والبائع، ومنطو على التدليس والخداع فيما يتعلق بالصلة ما بين المشتري وعامة الناس الذين سيتحولون إليه، بحثًا عن الجودة التي آل إليه شعارها.

والقاسم المشترك في التعريفات المتعددة والمتنوعة للغرر أنه كل عقد لا يوثق بحصول العوض فيه (1) وتعبير آخر: هو ما شك في حصول أحد عوضيه أو المقصود منه غالبًا (2) ، وهو منطبق على موضوع بحثنا هذا بهذه الطريقة الثانية كما ترى.

والمعروف أن مرد الغرر إلى الجهالة بأحد طرفي العقد: الثمن أو المثمن. والجهالة تتفاوت في درجات كثيرة حصرها الإمام القرافي في سبع درجات. ومن المتفق عليه أن أفحشها وأخطرها ما يسمى بالغرر في الوجود والغرر في الحصول. وأشدهما الغرر في الوجود. ويمثلون له بالبعير الشارد الذي يشك في وجوده، ويليه الغرر في الحصول، ويمثلون له ببيع الطير في الهواء والسمك في الماء، أي في الماء غير المحصور في الأحواض ونحوها.

ولا نعلم خلافًا في بطلان العقد المنطوي على أي من هذين الغررين (3) .

(1) انظر حاشية قليوبي وعميرة على المحلى على شرح المنهاج: 2 / 58.

(2)

مواهب الجليل: 4 / 362.

(3)

انظر الفرق، للقرافي: 3 / 25؛ وبدائع الصنائع: 5 / 157 و 163.

ص: 1970

ومن الثابت يقينًا أن شراء الاسم التجاري على هذه الطريقة الثانية، إن خلا من الغرر في الوجود فإنه لا يخلو من الغرر في الحصول. بل إن احتمال عدم الحصول هنا أقوى بكثير من احتمال الحصول. إذا من الواضح هنا لكل من المتعاقدين أن الذي سيناله المشتري هو الشعار والاسم المجرد. أما الجودة التي تكونت منها قيمة ذلك الشعار، فهي باقية في تضاعيف جهود البائع وخبرته، هذا إن استمر في إنتاج تلك السلعة، وهي منتهية وآيلة إلى زوال إن توقف صاحبها عن مواصلة العمل والانتاج. ومن ثم فإن الغرر هنا أقرب إلى الغرر الوجودي منه إلى الغرر الحصولي.

ولا وجه للقول بأن الحق المتعلق بالاسم التجاري، حق مستقل بذاته وأنه من الحقوق المجردة، كحق الشورى والوظيفة والمنصب والولاية، وأن العرف قد جرى بالتنازل عنه على عوض، فأصبح كالتنازل بعوض عن الوظائف والمناصب المستحقة، وهو شيء أجازه وسوغه كثير من الفقهاء، ومنهم متأخرو الأحناف (1) .

نقول: لا وجه لهذا القول، لأن الاسم التجاري لا وجود له، أو لا معنى لوجوده بمعزل عن الشهرة التي اكتسبتها السلعة المقرونة به. وإنما نالت السلعة الشهرة بالجودة والإتقان، فغدا شعارها من طول الاقتران بها بمثابة الظل الملازم لها والمعبر عنها. فهو إذن ليس حقًا مجردًا، بل هو حق مالي متقرر، ولكنه يتمثل في القيمة التي تقابل الجودة أو تقابل حق الابتكار.

ونحن هنا لا نسقط عن الاعتبار احتمال أن تكون الجودة وهمية نسجتها في الأذهان الدعاية المجردة ومن ثم تكون قيمتها أيضًا وهمية مجردة

ولكنا لسنا مخولين هنا أن نبني الأحكام الفقهية على ظنون سيئة قائمة على احتمالات خفية من هذا القبيل. بل القاعدة الفقهية العامة تلزمنا ببناء الأحكام على الظواهر، مع إحالة البواطن إلى الله عز وجل.

إذن، فإن بوسعنا أن ننتهي إلى شراء الاسم التجاري المتمثل فيما يسمى اليوم " الماركة المسجلة" بهذه الطريقة الثانية التي أوضحناها، عقد باطل، لا يوجد أي وجه لصحته، بسبب أنه مغرق في الغرر بأنواعه.

هذا إلى جانب أنه ذريعة جلية وغالبة إلى التلبيس والخداع في المعاوضات الجارية. فإن التاجر الواثق من جودة بضاعته أغني ما يكون عن أن يغطيها بشعار ينسج لها الشهرة من جهود غيره ولولا أن بضاعته يعوزها البرهان على الجودة والإتقان، لما سعى إلى القفز بها على صعيد الشهرة، اعتمادًا على مثل هذا الشعار.

والذرائع التي يغلب أن يتسبب عنا الضرر بالصالح العام أو المعارض لحكم شرعي ثابت، محل اتفاق من الفقهاء وعلماء الأصول على حرمتها ووجوب سدها (2) .

(1) انظر حاشية ابن عابدين: 4 / 14، و 15.

(2)

الفروق للقرافي: 2 / 32 و 33؛ و" سد الذرائع في الشريعة الإسلامية "، للأستاذ هشام البرهاني: ص 615؛ وضوابط المصلحة، لكاتب هذا البحث: ص 273.

ص: 1971

الاسم التجاري بمعنى اللقب المعلن على المحل التجاري:

بقي أن نتكلم على اللقب الذي يطلق على محل تجاري، أيجوز شراؤه، وهل يكون هو الآخر مناط حق لمالك المحل؟

ومن المعلوم أن عوامل شهرة متجر ما كثيرًا ما تتمركز في الاسم المعروف لمحله، بحيث يستقل هذا الاسم في كثير من الأحيان بجذب المستهلكين، ويحملهم على تقديم الثقة المطلقة بصاحبه.

ومما لا ريب فيه أن هذا الاسم يشكل بذلك حقًا ماليًا لصاحبه، فله أن يستأثر به من دون الناس لا من حيث إن التاجر سبق الآخرين في اختيار هذا الاسم، فكان له أولوية السبق إليه والاختصاص به، كما قد فهمه بعض الباحثين، ذلك لأنه لا تزاحم في اختيار اسم واحد لأكثر من مسمى. بل من الممكن أن يستوعب الاسم الواحد مسميات شتى، بخلاف السبق إلى الأماكن وإحراز الأموال المباحة، فإن التزاحم فيها قائم، والحل أن يستقر الحق للسابق.

وإنما تتكون علاقة الاختصاص بين اللقب التجاري للمحل وبين صاحبه، من الدلالة التي يحملها ذلك اللقب على ما يمتاز به ذلك المحل من خصائص ومزايا يفترض أنها قد لا توجد في غيره.

إذ من الواضح أن أي شهرة تجارية ينالها محل تجاري ما، إنما تنصب وتتمركز في اسم ذلك المحل ومن هنا تنشأ شرعية اختصاص الاسم به أو بصاحبه بتعبير أصح.

ومن ثم يدخل استلاب هذا الاسم في معنى الغصب والعدوان، ذلك لأن الاستلاب لم يكن في الحقيقة لاسم مجرد يحمل دلالة لغوية على معنى

وإنما هو استلاب لرصيد شهرة يفترض أنها تكونت من مجموعة مزايا وصفات تجارية حميدة لصاحب المحل، وحملت في داخلها من جراء ذلك بذور نفع مادي لصاحب ذلك الرصيد. فهو في الحقيقة عدوان على الوعاء الذي حوى بذور نفع مادي مستمر لا على اسم من حيث هو اسم ذو دلالة لغوية مجردة.

وهذا يعني أن الحق الكامن في لقب المحل التجاري حق مالي متقرر، يتعلق بمنفعة مالية متقومة. والشأن فيه كالشأن في المنفعة المالية الثابتة في الاسم التجاري للبضاعة، طبقًا لما أوضحناه.

ولكن هل يصح شراء اللقب المعلن على المحل التجاري؟

يرد في الجواب عن هذا السؤال الكلام ذاته الذي قلناه في شراء الاسم التجاري للبضاعة فهو شراء لما لا سبيل للحصول عليه. ومن ثم فهو عقد يتضمن غررًا وجوديًا أو حصوليًا. وقد أوضحنا أن مثل هذا العقد باطل بالاتفاق. هذا عدا أنه يستلزم انتشار الغرر والتلبيس على عامة الناس من المتسهلكين، إذ يخدعهم العنوان قبل أن يفاجأوا بأنه عنوان قديم ولكن على بضاعة وصناعة أخرى حديثة.

ص: 1972

ولا بد أن نلفت النظر إلى أن موضوع البحث محصور فيما درج عليه عرف كثير من التجار المحدثين الذين لم تتحقق لهم شهرة كافية، من الإقدام على شراء أسماء ذائعة لمحال تجارية مشهورة، كي يغطوا أنفسهم تحتها؛ ومعنى هذا أن اللقب الذي يتم شراؤه يبقى كما هو دون أي تعديل أو تقييد أو بيان لصاحب المحل الجديد؛ ذلك لأن أي تعديل فيه يذهب بجدوى عملية الشراء كلها.

إن من الواضح أن شراء هذا اللقب على هذا النحو ينطوي على غرر وتدليس واضحين. ومن ثم فإن القواعد الفقهية تقتضي بطلان هذا العقد.

ولكن ينبغي أن يقال إن عملية الشراء هذه تصبح نافذة، فيما إذا أمكن أن تكون تعبيرًا عن عملية نقل للخبرة والمزايا التجارية إلى المحل الجديد أو الإدارة الجدية، إن العقد عندئذ يصبح نافذًا دون أن يكون ثمة ما يمنع من صحته، سواء كان التكييف الفقهي لذلك شراء للخبرة والمزايا الخاصة، أو استئجارًا على عملية تدريب وتعليم.

ويتحصل مما قلناه أن لقب المحل التجاري، عندما لا يكون أكثر من عنوان تقليدي على المحل للدلالة عليه، أي لم يتحول بعد إلى وعاء يحمل مزاياه وشهرته، فإنه لا يشكل عندئذ أي حق لصاحب المحل لا حقًا ماليًا متقررًا ولا حقًا شخصيًا مجردًا. وقد علمنا أن اختيار اسم ما لشيء، لا يجري فيه تزاحم ولا تنطبق عليه قاعدة؛ من سبق إلى مباح فهو أحق به.

وبناء على ذلك فإن لمن شاء أن يختار أي اسم رآه لمحل تجاري اسمًا لمحله هو أيضًا، أو اسمًا لأي شيء في حوزته، ما دام أنه لم يتحول إلى وعاء شهرة، ولم يصبح دالًا على مزايا وصفات معينة قد يختص بها ذلك المحل وحده.

ولكن الأمر يختلف عندما تتجسد شهرة المحل بسبب مزاياه التي اختص بها، في الاسم الذي عرف به. إذا يغدو أخذ هذا الاسم عندئذ مضارة واضحة لا يقرها العدل، ومن ثم لا يقرها الشرع.

وشراء هذا الاسم صحيح، إذا تحقق فيه شرط الإقباض، ولما كان محط العقد في حقيقته على مصدر الشهرة الذي هو الجودة والإتقان لا على مجرد لوحة كتب عليها اسم، فإن عملية الإقباض يجب أن تتجه إلى هذه الجودة وأسرارها، لا إلى عنوانها الكلامي المجرد.

فإن لم يتحقق هذا الإقباض فالعقد غرر وتلبيس، غرر بين المتبايعين، وتلبيس على الناس والمستهلكين، فهو لذلك عقد باطل.

والله تعالى أعلم بالصواب،والحمد لله رب العالمين.

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

ص: 1973