الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوفاء بالوعد
في الفقه الإسلامي
تحرير النقول ومراعاة الاصطلاح
إعداد
الدكتور نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
1-
إن تحرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالوعد من حيث وجوب الوفاء به ديانة أو استحبابه، أو من حيث القوة الملزمة له في القضاء والحكم تقتضينا تناول ألفاظه الاصطلاحية المتعددة التي يستعملها سائر الفقهاء أو بعضهم بالبيان والتفصيل وهي (العدة، المواعدة، الوعد) وذلك من أجل الوصول إلى فقه محكم في المسألة، بعيد عن الاختلاط والتداخل، قد تميز فيه محل الوفاق عن مواطن النزاع، وتبين فيه الموقف الأخلاقي والموجب الدياني من الحكم القضائي حيث يوجد التباين أو يقع الفرق، وبذلك يمكننا إبراز الأحكام الشرعية في القضية واضحة جلية، لا لبس فهيا ولا خلل يعتريها
…
2-
وإن كون هذه الألفاظ الثلاثة مشتقة من مادة لغوية واحدة تدل في أصل الوضع " على ترجيةٍ بقول" كما قال ابن فارس (1) لا يسلتزم كون دلالتها الاصطلاحية واحدة؛ لأن تواضع الفقهاء أو بعضهم على مدلول شرعي متميز لكل كلمة قد نقل معناه اللغوي وحوله إلى معنى اصطلاحي جديد، ربما كان أخص أو أضيق شمولا واستيعابا.
(1) معجم مقاييس اللغة 6/125
(أ) العدة
3-
العدة في لغة العرب معناها الوعد، يقال: وعدت فلانًا بكذا
…
والاسم منه العدة، فالعدة اسم منقوص من الوعد يحمل معناه دون زيادة أو نقصان (1) .
4-
أما في الاصطلاح الفقهي، فقد درج على استعمالها المالكية بدلالة خاصة وهي " الإعلان عن رغبة الواعد في إنشاء معروف في المستقبل يعود بالفائدة والنفع على الموعود".
قال الحطاب في كتابه " تحرير الكلام في مسائل الالتزام ": " وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئًا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل "(2) .
فالعدة إذًا عند فقهاء المالكية هي عبارة:
أ- عن تصرف شرعي قولي يتم بالإرادة المنفردة.
ب- قوامه تعهد شخصٍ بلفظ الإخبار بأن يسدي لغيره معروفًا مجانًا دون مقابل.
جـ- في المستقبل لا في الحال.
5-
أما حكم العدة من حيث وجوب الوفاء بها قضاء أو ديانة أو استحباب ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال:
(أحدها) يقضى بها مطلقًا. وهو مذهب القاضي سعيد ابن أشوع الكوفي الهمذاني (3) ،وقول عند المالكية (4) ، ورأي ابن شبرمة كما نقل ابن حزم في المحلى (5) .
(والثاني) يجب الوفاء بها ديانةً لا قضاءً وهو رأى الإمام تقي الدين السبكي الشافعي، قال:" ولا أقول يبقى دينا حتى يقضى من تركته، وإنما أقول يجب الوفاء تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف"(6) .
(1) المصباح المنير 2/831، مشارق الأنوار 2/291، مفردات الراغب ص526، بصائر ذوي التمييز 5/237، مقاييس اللغة 6/125
(2)
تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153
(3)
أخرجه وكيع في أخبار القضاة (3/118) مسندًا، والبخاري في صحيحه (صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/289) معلقا
(4)
البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154
(5)
المحلى لابن حزم 8/28
(6)
الفتوحات الربانية لابن علان 6/258، 259
وقد استشكل الحافظ ابن حجر هذه المقولة فقال: " وينظر: هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف، وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟ " أي في القضاء (1) .
فأجاب الإمام السخاوي على ذلك في جزئه المسمى " التماس السعد في الوفاء بالوعد"، فقال:" قلت: ونظير ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به، ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها"(2) .
(والثالث) أن الوفاء بها مستحب لا واجب، وهو مذهب جماهير العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية وغيرهم (3) .
جاء في " العقود الدرية" لابن عابدين: " سئل فيما إذا وعد زيد عمرا أن يعطيه أرضه الفلانية، فاستغلها وامتنع من أن يعطيه من الغلة شيئا، فهل يلزم زيدًا شيء بمجرد الوعد المزبور؟ الجواب: لا يلزمه الوفاء بوعده شرعا، وإن وفى فبها ونعمت"(4) .
وفي " التمهيد" لابن عبد البر: " وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبيد الله بن الحسين وسائر الفقهاء: أما العدة فلا يلزمه فيها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية: أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، ولصاحبها الرجوع فيها "(5) .
(1) فتح الباري 5 /290
(2)
الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 6/259
(3)
البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154، شرح السنوسي على صحيح مسلم 6/118، المبدع في شرح المقنع 9/345، شرح المجلة للأتاسي 1/239
(4)
العقود الدرية في تتنقيح الفتاوى الحامدية 2/321
(5)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 3/209
وقال ابن عبد البر رحمه الله: " إن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة، وذلك من أخلاق أهل الإيمان، وقد جاء في الأثر " وأي المؤمن واجب " (1) أي واجب في أخلاق المؤمنين، وإنما قلنا: إن ذلك ليس بواجب فرضا، لإجماع الجميع على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به مع الغرماء كذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن في المروءة، ولا يقضى به، ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن، يستحق صاحبه الحمد والشكر على الوفاء به، ويستحق على الخلف في ذلك الذم، وقد أثنى الله عز وجل على من صدق وعده ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحا وبما خالفه ذما (2) .
وقال ابن حزم: " ومن وعد آخر بأن يعطيه مالًا معينًا أو غير معين، أو بأن يعينه في عمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف، لم يلزمه الوفاء به. ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله، كمن قال: تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا أو نحو هذا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي "(3) .
(والرابع) إن كانت العدة مرتبطة بسبب، ودخل الموعود في السبب، فإنه يجب الوفاء بها كما يجب الوفاء بالعقد، أما إذا لم يباشر الموعود السبب فلا شيء على الواعد، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن دار يريد شراءها، فاشتراها حقيقة، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج " فتزوج اعتمادًا على هذا الوعد " ففي هذه الحالات وأمثالها يلزم الواعد قضاء بالوفاء بما وعد به، أما إذا لم يباشر الموعود تلك الأسباب، فلا يلزم الواعد بشيء.
وهذا هو القول المشهور والراجح في مذهب مالك (4) . وعزاه القرافي إلى مالك وابن القاسم وسحنون (5) .
(1) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وأشار إلى أنه رواه أبو داود في المراسيل (الفتح الكبير 3/301) ، كما نبه على ضعفه ابن حزم في المحلى 8/29
(2)
التمهيد 3/207
(3)
المحلى 8/28
(4)
تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص155، البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، المنتقى للباجي 3/227
(5)
الفروق للقرافي 4/25، وانظر مجالس العرفان لجعيط 2/34، وقارن بما نقل ابن عبد البر عن مالك وابن القاسم وسحنون في التمهيد 3/208، 209
وقد أشار العلامة محمد العزيز جعيط إلى أن هذا القول المشهور ليس مبنيا على أساس وجوب الوفاء بالوعد (أي أن في الوعد قوة ملزمة للواعد كما هو الشأن في العقد) بل هو مبني على عدم وجوب الوفاء به، وإنما قضي به في صورة ما إذا أدخله في شراء عقار أو تزوج امرأة أو غير ذلك، لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله ولا يقدر عليه، رفعا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرًا لمبدأ تحميل التبعة لمن ورطه في ذلك، إذ لا ضرر ولا ضرار (1) . (والخامس) إن كانت العدة مرتبطة بسبب، وجب الوفاء بها قضاء، سواء دخل الموعود في السبب أو لم يدخل فيه، وإلا فلا، فلو قال شخص لآخر: أعدك بأن أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر أو أن أقضي دَيني أو أن أتزوج، فأقرضني مبلغ كذا. فوعده بذلك. ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو زواج أو وفاء دَين أو حراثة أرض
…
إلخ، فإن الواعد يكون ملزمًا بالوفاء، ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا إن امتنع. أما إن كانت العدة على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا، ولم تذكر سببًا، أو أعرني دابتك أو بقرتك ولم تذكر سفرًا ولا حاجة، فقال: نعم. أو قال الواعد من نفسه: أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا، ثم رجع عن ذلك، فلا يلزم بالوفاء بها.
(1) مجالس العرفان ومواهب الرحمن لجعيط 2/34
قال القرافي: " وبذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله "(1) ، وهو قول في مذهب المالكية (2) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ أصبغ الذي حكاه الباجي في " المنتقى" بقوله: " وأما إن كانت عدة لا تدخل من وعد به في شيء، فلا يخلو من أن تكون مفسرة أو مبهمة:
فإن كانت مفسرة: مثل أن يقول الرجل للرجل: أعرني دابتك إلى موضع كذا. فيقول: أنا أعيرك غدًا. أو يقول: علي دَيْن فأسلفني مائة دينار أقضيه. فيقول: أنا أسلفك، فهذا قال أصبغ - في العتيبة- يحكم بإنجاز ما وعد به، كالذي يدخل الإنسان في عقد، وظاهر المذهب على خلاف هذا؛ لأنه لم يدخله بوعده في شيء يضطره إلى ما وعده.
وأما إن كانت مبهمة: مثل أن يقول له: أسلفني مائة دينار، ولا يذكر حاجته إليها، أو يقول: أعرني دابتك أركبها، ولا يذكر له موضعًا ولا حاجة. فهذا قال أصبغ: لا يحكم عليه بها.
فإذا قلنا في المسألة الأولى: إنه يحكم عليه بالعدة إذا كان لأمر أدخله فيه، مثل أن يقول له: انكح وأنا أسلفك ما تصدقها، فإن رجع عن ذلك الوعد قبل أن ينكح من وُعِدَ، فهل يحكم عليه بذلك أم لا؟ قال أصبغ في العتبية: يلزمه ذلك ويحكم به عليه، ألزمه ذلك بالوعد (3) .
(1) الفروق 4/25
(2)
تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154، الفروق 4/25 البيان والتحصيل 8/18، وانظر الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6/261، أحكام القرآن لابن العربي 4/1800
(3)
المنتقى للباجي 3/227. وقارن بما نقله القرافي عن أصبغ في الفروق 4/25 وما حكاه جعيط في مجالس العرفان عن أصبغ 2/34
(ب) المواعدة
6-
المواعدة في اللغة: تعني نشوء وعدين متقابلين من شخصين، فهذا يعد فلانا، والآخر يعده بكذا في مقابلة ذلك.
7-
أما في الاصطلاح الفقهي فهي عبارة عن " إعلان شخصين عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما". وأكثر الفقهاء استعمالا لهذا المصطلح المالكية، وقد عبر عنها في النكاح الحطاب بقوله:" المواعدة أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج فهي مفاعلة، لا تكون إلا من اثنين، فَإِنْ وعد أحدهما دون الآخر، فهذه العدةُ "(1) .
وبهذا افترقت " المواعدة " عن " العدة " من حيث كون الأولى لا تنشأ إلا باجتماع رغبة طرفين، بينما تتم " العدة" بإعلان الرغبة من طرف واحد.
وقد ذكر الفقهاء المواعدة في مسائل عديدة منها: المواعدة على النكاح في العدة، والمواعدة في الصرف، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، والمواعدة على البيع وقت نداء الجمعة، والمواعدة على بيع ما ليس عند الإنسان (2) .
ومع أن الفقهاء اتفقوا على عدم مشروعية بعضها، كالمواعدة على النكاح في العدة، واختلفوا في جواز بعضها الآخر كالمواعدة في الصرف ونحوها، فإنه لم ينقل عن أحد منهم- سواء أكان من المجيزين أو من المانعين – قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين أو لكليهما؛ لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدًا، وفي ذلك يقول ابن حزم:" والقواعد والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعا "(3) .
على أن المتواعدين لو اتفقا على أن يكون العقد الذي تواعدا على إنشائه في المستقبل ملزمًا للطرفين من وقت المواعدة، فإنها تنقلب إلى عقد، وتسري عليها أحكام ذلك العقد، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
(1) مواهب الجليل 3/413
(2)
انظر إيضاح المسالك للونشريسي ص278، شرح الخرشي 5/38، القوانين الفقهية ص255، المقدمات الممهدات ص 507، الأم 3: 27، إعداد المهج للاستفادة من المنهج لأحمد بن أحمد المختار الشنقيطي ص195، المنهج إلى المنهج لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني ص 90، المواق على خليل 3/412
(3)
المحلى لابن حزم 8/513
(جـ) الوعد
8-
الوعد في اللغة معناه: الإخبار عن فعل أمر في المستقبل، سواء أكان خيرًا أم شرًّا. بخلاف الوعيد، فإنه لا يكون إلا بشر. وقيل: الوعد والوعيد واحد (1) .
9-
ويستعمل الفقهاء كلمة " الوعد " بنفس مدلولها اللغوي، بمعنى أن الوعد قد يكون بمعروف، كقرض أو تمليك عين أو منفعة مجانًا للموعود، وقد يكون بصلة أو برٍّ أو مؤانسة كعيادة مريض وزيارة صديق وصلة رحم ومرافقة في سفر ومجاورة في سكن، وقد يكون بنكاح، كما في خِطْبَةِ النساء، وقد يكون بمعصية كما إذا وعد شخصا بأن يقتل له خصمه أو غريمه أو يتلف ماله ظلما وعدوانا ونحو ذلك.
10-
أما الحكم التكليفي للوعد من حيث الوفاء به: فهو محل خلاف بين الفقهاء، وإذا أردنا تحرير محل النزاع في المسألة فلابد من البيان والتفصيل الآتي:
* فإذا كان الوعد بمعروف (وهو ما يسمى عند المالكية بالعدة) أو كان من قبيل المواعدة، فقد سبق عرض آراء الفقهاء فيه على الخصوص.
* أما ما عدا ذلك من ضروب الوعد وصوره وحالاته، فإنه لا خلاف بين الفقهاء:
(أ) في أن من وعد بشيء منهي عنه، فلا يجوز له الوفاء بوعده، بل يجب عليه إخلافه (2) .
قال ابن حزم: " من وعد بما لا يحل أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذمومًا ولا ملوما ولا عاصيًا، بل قد يكون مطيعًا مؤدي فرضٍ (3) .
(ب) وأن من وعد بشيء واجب شرعا، كأداء حق ثابتٍ أو فعل أمر لازم، فإنه يجب عليه إنجاز ذلك الوعد (4) .
(جـ) وأن من وعد بشيء مباح أو مندوب إليه فينبغي له أن يفي بوعده، حيث إن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق وخصال الإيمان، وقد أثنى المولى جل وعلا على من صدق وعده وكفى به مدحا، وبما خالفه ذمًّا.
ولكن هل الوفاء بذلك واجب أم مستحب أم غير ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال:
(أحدها) أن الوفاء بالوعد واجب (5) . قال القاضي أبو بكر ابن العربي: " أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز "(6) .
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/125، بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 5/237، مشارق الأنوار للقاضي عياض 2/291
(2)
الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6/ 258، أحكام القرآن للجصاص 3/ 442
(3)
المحلى 8 / 29
(4)
المحلى 8/29
(5)
انظر أحكام القرآن لابن العربي 1800/4، الأذكار للنووي مع شرحه لابن علان6/260
(6)
الأذكار (مع شرحه الفتوحات الربانية) 6/260، المبدع في شرح المقنع 9/ 345 فتح الباري 5/290
وقد حكي هذا القول عن ابن شبرمة (1) ، وإليه ذهب العلامة تقي الدين السبكي (2) ، وهو وجه في مذهب أحمد اختاره الإمام تقي الدين ابن تيمية (3) ، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق (4) .
وحجتهم على هذا الرأي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: آية 2، 3] .
وما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) . (5)
(والثاني) أن الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر، وهو رأي القاضي ابن العربي، فإنه قال:"والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر"(6) وقال أيضًا: "وإذا وعد وهو ينوي أن يفي، فلا يضره إن قطع به عن الوفاء قاطع، كان من غير كسب منه، أو من جهة فقر، أقضى ألا يفي للموعود بوعده، وعليه يدل حديث أبي عيسى –أي الترمذي - عن زيد بن أرقم: ((إذا وعد الرجل وهو ينوي أن يفي به، فلم يف فلا جناح عليه)) ، وهو غريب ضعيف". (7)
وإلى هذا الرأي مال الإمام الغزالي، حيث قال في الوعد:" فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر "، ثم نزل النفاق المذكور في الحديث ((وإذا وعد أخلف)) : على من ترك الوفاء بالوعد من غير عذر. (8)
(1) حكاه ابن حزم في المحلى 8/28، وبرهان الدين ابن مفلح في المبدع 9/345
(2)
ذكر ذلك ابنه التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 10/232
(3)
الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي ص 331، المبدع 9/ 345
(4)
حاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي 4/24
(5)
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/289، صحيح مسلم 1/78
(6)
أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي 4/1800
(7)
عارضة الأحوذي لابن العربي 10/100
(8)
الإحياء للغزالي 3/115
(والثالث) أن الوفاء بالوعد مستحب، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم، وهو رأي جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم (1) .
قال ابن علان الشافعي: " قد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب "(2) . وجاء في " المبدع" لبرهان الدين ابن مفلح: "لا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه " أي الإمام أحمد – وقاله أكثر العلماء " (3) .
(والرابع) أن الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع، وهو رأي الإمام أبي بكر الجصاص القائل:" وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل، وهو مباح، فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان "(4) .
(والخامس) أن الوفاء بالوعد المجرد غير واجب، أما الوعد المعلق على شرط، فإنه يكون لازمًا، وهو مذهب الحنفية. جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم:" وفي القنية: وعده أن يأتيه فلم يأته، لا يأثم. ولا يلزم الوعد إلَّا إذا كان معلقًا "(5) . وجاء في الفتاوى البزازية:
" إن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة "(6) ونصت المادة " 84" من مجلة الأحكام العدلية المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة.
مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: ادفع ديني من مالك، فوعده الرجل بذلك، ثم امتنع عن الأداء، فإنه لا يلزم الواعد على أداء الدين، أما لو قال رجل لآخر بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك، فلم يعط المشتري الثمن، لزم الواعد أداء الثمن المذكور بناءً على وعده (7) .
(1) الأذكار للنووي (مطبوع مع الفتوحات الربانية) 6/258، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للغزالي 7/507، كشاف القناع 6/279، شرح منتهى الإرادات 3/456، المحلى لابن حزم 8/28
(2)
الفتوحات الربانية 6/260
(3)
المبدع 9/345
(4)
أحكام القرآن للجصاص 3/442
(5)
الأشباه والنظائر لابن نجيم. كتاب الحظر والاباحة ص344
(6)
الفتاوى البزازية (مطبوع بهامش الفتاوى الهندية) 6/3
(7)
شرح المجلة لعلي حيدر 1/77
وأساس ذلك: أن الإنسان إذا أنبأ غيره بأنه سيفعل أمرًا فالمستقبل مرغوبًا له، فإذا كان ذلك الأمر غير واجب عليه، فإنه لا يلزمه بمجرد الوعد؛ لأن الوعد لا يغير الأمور الاختيارية إلى الوجوب واللزوم، أما إذا كانت المواعيد مفرغة في قالب التعليق، فإنها تلزم لقوة الارتباط بين الشرط والجزاء، من حيث إن حصول مضمون الجزاء موقوف على حصول شرطه، وذلك يكسب الوعد قوة، كقوة الارتباط بين العلية والمعلولية، فيكون لازما (1) .
وحكى العلامة الحموي أن الوعد إذا صدر معلقا على شرط، فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد، فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه، قال:" لأنه إذا كان معلقا يظهر منه معنى الالتزام، كما في قوله: إن شفيت أحج. فشفي، يلزمه، ولو قال: أحج. لم يلزمه بمجرده "(2) .
على أن الحنفية إنما اعتبروا الوعود بصور التعاليق لازمة إذا كان الوعد مما يجوز تعليقه بالشرط شرعًا حسب قواعد مذهبهم، حيث إنهم أجازوا تعليق الإطلاقات والولايات بالشرط الملائم دون غيره، وأجازوا تعليق الإسقاطات المحضة بالملائم وغيره من الشروط، أما التمليكات- كالبيع والإجارة والهبة ونحوها- وكذا التقييدات، فإنه لا يصح تعليقها شرعًا بالشرط عندهم. فليتأمل (3) .
(1) شرح المجلة للأتاسي 1/238، 239
(2)
حاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2/110، وانظر الفتاوى البزارية 6/3، شرح المجلة لعلي حيدر 1/77
(3)
شرح المجلة للأتاسي 1/233، 234، 239
* وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن النافين لوجوب الوفاء بالوعد حيث نفوه:
أ- حملوا المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] على من وعد وفي ضميره ألا يفي بما وعد. أو على الإنسان الذي يقول عن نفسه من الخير ما لا يفعله (1) .
ب- وأجابوا على استدلال الموجبين للوفاء بالوعد المجرد بحديث " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان": بأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم إن عزم على الإخلاف حال الوعد، لا إن طرأ له (2) . وقال الغزالي:
" وهذا ينزل على من وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق"(3) .
* وأن أكثر الفقهاء نصوا على أنه ينبغي للواعد أن يستثني في وعده بقوله: " إن شاء الله " غير أنهم اختلفوا في حكم هذا الاستثناء:
- فقال الإمام الغزالي: هو الأولى (4) .
- وقال العلامة الجصاص: إن لم يقرنه بالاستثناء فهو مكروه (5) .
- وقال الحنابلة والظاهرية: يحرم الوعد بغير استثناء (6) .
ودليل الاستثناء قوله تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف آية 23، 24] .
ولأن الواعد لا يدري هل يقع منه الوفاء أم لا؟ فإذا استثنى وعلق بالمشيئة الإلهية خرج. عن صورة الكذب في حال التعذر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الدكتور نزيه كمال حماد
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/442
(2)
مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 1/ 106، الحموي على الأشباه والنظائر 2/110
(3)
إحياء علوم الدين 3/115، وانظر الفتوحات الربانية لابن علان 6/259
(4)
إحياء علوم الدين 3/115
(5)
أحكام القرآن للجصاص 3/442
(6)
كشاف القناع 6/279، شرح منتهى الإرادات 3/456، المبدع 9/345، المحلى 8/29