المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

‌العرف بين الفقه والتطبيق

إعداد

د. عمر سليمان الأشقر

المدرس بقسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية

بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية

جامعة الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة بين يدي البحث

الحمد لله الذي هدانا بفضله إلى دينه الخاتم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد خاتم أنبيائه ورسله الذي حمل الرسالة، وبلغ الأمانة، وعَرَّف بالحق، وأنار الدرب، وعلى آله وصحبه منارات الهدى ومصابيح الدجى، وعلى من اتبع هديه، وسار على دربه، وبعد:

فإنَّ علماء الشريعة مطالبون بإعطاء موضوع هذا البحث حقَّه من الدراسة في مجالسهم ومجامعهم، وقد أحسن مجمع الفقه الإِسلامي عندما اختار هذا الموضوع ليكون واحدًا من الموضوعات التي تطرح للبحث في دورة المجلس هذه.

وأرى أنَّه لا يحسن بعلماء المجمع الكرام أن يخوضوا في جزئيات مسائل العرف مما قتله علماؤنا بحثًا في مدوناتهم ومؤلفاتهم، فذاك أمر قد فرغ منه أهل الفقه والعلم والبحث فيه لن يأتي بجديد، ولن يعالج مشكلًا.

والذي أرى أنَّه يحسن بنا في هذه الدورة بحثه في موضوع العرف أمران:

الأول: تغيير الأحكام التي تقوم على العرف، وإلى أيَّ مدى يراعي الفقهاء فيما يصدرونه من أحكام وفتاوى عرف الناس وعوائدهم.

وقد وجدت جمعًا من الفقهاء الثاقبي النظر على مختلف المذاهب والعصور يَضِجُّون بالشكوى من كثير من معاصريهم من أهل الفقه الذين جمدوا فيما يصدرونه من فتاوى وأحكام على ما أصدره سلفهم، على الرغم من تغيُّر عرف الناس وعوائدهم في المسائل المبنية على العرف.

إنَّ الجمود على أحكام وفتاوى السابقين في المسائل التي مَدْركها العرف أوقع الناس في حرج شديد، وضيق أكيد، جعل الفقهاء الأعلام في كل عصر ومصر يشنون حملات شديدة في دروسهم ومؤلفاتهم على أولئك الذين أوقعوا المسلمين في هذا الحرج، ونسبوا للشريعة أحكامًا تتصف بالقسوة والجمود والظلم، وحَرِيُّ بهذا المجمع الكريم أن يلفت أنظار الباحثين والدارسين والمفتين والقضاة في العالم الإِسلامي كي يتنبهوا إلى هذا الموضوع ويعطوه حقه من الرَّعاية والاهتمام، وفق الضوابط الشروط التي وضعها علماؤنا وفقهاؤنا في هذا الأمر.

ص: 2632

والأمر الثاني: الذي يحسن أن تتجه أنظار فقهاء المجمع إليه هو مكانة العرف من التشريع الإسلامي، ذلك أن المسلمين اليوم ظلموا شريعتهم كثيرًا عندما قدموا عليها في أغلب أقطارهم القوانين الوضعية والأعراف والعوائد التي تسود في مجتمعاتهم، وهذا ظلم كبير لهذه الشريعة المباركة التي يجب أن يكون لها الصدارة والهيمنة على كل الشرائع والمبادئ والنظم والقوانين، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقضي الشريعة عن الحكم وتحصر في نطاق ضيق.

لقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحكم وتسود، وعندما حققت هذا غيرت أعراف البشر الظاملة وعوائدهم الخاطئة، والتي كانت بمثابة قيود وأغلال تقعد بهم عن تحقيق الغاية التي خلقوا من أجلها وتوقعهم في عنت وبلاء لا يستطيعون التخلص من إساره، لا لشيء إلا لأنه تراث الآباء والأجداد، لقد قومت الشريعة الأعراف البشرية، والعوائد الإنسانية ووضعتها في مكانها الذي ينبغي أن توضع فيه ولم تجعل لهذه الأعراف أي دور إذا هي صادمت نصًّا من نصوص الشريعة، وألزمت البشر بتغيير عرفهم وعاداتهم بما يتفق ويوائم هذه الشريعة.

وقد فقه علماؤنا وعوامنا هذه الحقيقة، ووعوها جيدًا، وصاغوا حياتهم ومجتمعاتهم وفقهًا، ونص الأصلويون والفقهاء والمفسرون والمحدثون على أن العرف لا قيمة له، بل يجب تغييره إذا خالف النص الشرعي، وعندما بحث الأصوليون في مصادر التشريع الإسلامي جعلوا العرف في ذيل البحث، بل إن الأصوليين يرون أن العرف ليس مصدرًا مستقلًا من مصادر الفقه اٍلاسلامي.

ولذا فإن جناية المتنفذين في عالمنا الإسلامي كانت كبيرة وعظيمة حينما صاغوا قوانين وضعية ألغوا بها دور الشريعة الإسلامية، وحكموا هذه القوانين في رقاب السملمين، وزادوا الأمر سوءًا عندما جعلوا العرف المصدر الاحتياطي الأول الذي يرجع إليه القاضي في حكمه إذا لم يجد في القانون نصًّا يحكمه في الدعوى التي ترفع إليه، ثم تأتي بعد ذلك الشريعة الإسلامية في المرتبة الثالثة، وبعضهم يجعلها في المرتبة الرابعة، وآخرون لا يذكرونها، ولا يجعلون لها دورًا في قوانينهم ولا في تشريعاتهم.

لقد أثار بعض رجال القانون عواصف شديدة على بعض أهل الغيرة الإسلامية الذين طالبوا بأن تقدم الشريعة على العرف في قوانين المسلمين في ديار المسلمين، وكتب هؤلاء في الصحف والمجلات وتكلموا في المجامع والندوات وأرعدوا وأزبدوا، كل ذلك لأن بعض الذين يهمهم أمر هذا الدين نادى وطالب بتقديم الشريعة على العرف، وحاول أن يستصدر قانونًا يحقق هذا المطلب.

وعلى الرغم من ذلك فإني لا أرى فائدة من البحث في هذا الموضوع، لأن إيماني بشريعتي وديني يأبى علي كل الإباء أن أرتضي جعل الشريعة الإسلامية في المرتبة التالية للقوانين الوضعية، ولا يشرَّف ديني وشريعتي أن تقدَّم هذه الشريعة على العرف إذا كانت مسبوقة بالقانون الوضعي.

ص: 2633

إنَّ على أعضاء هذا المجمع الكريم أن يرفعوا عقيرتهم منادين بغير وجل كي يعود الأمر إلى نصابه، ويعطي القوس باريها، فالشريعة الإِسلامية تأبى كلَّ الإِباء أن يُقَدَّم عليها عرف البشر فضلًا عن قوانين البشر، ورضا علماء المسلمين وحكامهم ومحكوميهم بذلك خيانة لله وللرسول ولهذا الدين.

وهذا البحث الذي أقدَّمه في هذه الدورة من دورات مجمع الفقه الإِسلامي عني بالتركيز على هاتين القضيتين:

الأولى: مسألة جمود كثير من فقهاء المسلمين على الأحكام والفتاوى التي أصدرها السابقون، وكان مدركها العرف، على الرغم من تغير عرف الناس فيها.

والثانية: تقديم عرف الناس وعوائدهم على الشريعة الإِسلامية. وقد تم هذا البحث في مقدمة وثلاثة فصول:

تناولت في المقدمة: تعريف العرف في اصطلاح الفقهاء والقانونيين كما وضحت الفرق بين العرف والعادة عند الفقهاء والقانونيين، وما يترتب على هذا الفرق عند من يقول به.

الفصل الأول: مخصص للحديث عن العرف والشريعة، بينت فيه مكانة العرف عند الأمم الماضية، وكيف كان العرف صادًّا للناس عن اتباع الحق؟ وبينت عيوب العرف وآفاته، وكيف أقصت الشريعة الإِسلامية العرف عندما حكمت ديار المسلمين؟ وكيف أعاد المسلمون العرف إلى الصدارة وقَدَّموه على الشريعة، وفي هذا رِدَّة جاهلية وتأخر وجمود.

والفصل الثاني: يبحث في حجية العرف، وهذا الفصل يتبين به قارئه الموضع الذي يجب أن يضع فيه العرف، وقد بينت فيه موقف الفقهاء من الاحتجاج بالعرف، والأدلة على اعتبار العرف كما ذكرت رتبة العرف من التشريع وبينت أقسامه وأوردت بعض الأمثلة لأحكام بنيت على العرف.

الفصل الثالث: في تغير الأحكام والفتاوى بتغير العرف أوردت في هذا الفصل الأسباب التي تدعو إلى تغير العرف والعوائد، وبينت فيه أيضًا وجوب تغير الأحكام والفتاوى إذا تغير العرف الذي بنيت عليه تلك الفتاوى والأحكام، وختمت هذا الفصل بإيراد بعض الأمثلة التي تغيرت أحكامها أو بطلت بسبب تغير عرف الناس فيها.

آمل أن أكون قد وفيت هذا الموضوع حقه، ومن الله أسأل المثوبة وإليه أتوجه بالحمد والثناء ومنه أسأل العصمة من الزلل في القول والعمل إنه نعم المولى والمجيب.

ص: 2634

المقدمة

تعريف وبيان

المبحث الأول

تعريف العُرْف في اللغة

مدار العُرْف في لغة العرب على أمرين كما يقول اللغوي ابن فارس في معجمه: "تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والسكون والطمأنينة".

يقول ابن فارس في تعريف العُرْف: "العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدلُّ أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر يدلُّ على السكون والطمأنينة.

فالأول: " العُرْف" عُرْف الفرس، وسمي بذلك لتتابع الشعر، ويقال: جاء القطا عُرْفًا عُرْفًا، أي بعضها خلف بعض.

والأصل الآخر: "المعرفة والعِرْفان"، تقول: عَرَف فلان فلانًا عِرْفانًا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدلُّ على ما قلناه من سكونه إليه، لأنَّ من أنكر شيئًا توخى منه ونبأ عنه، والعُرْفُ: المعروف، سُمَّي بذلك لأنَّ النفوس تسكن إليه.

أبى الله إلا عدله ووفاءه

فلا الشكر مَعْروف ولا العُرْف

ضائع (1) .

والعُرْف والعَارفة والمعروف – في لغة العرب – واحد كما يقول أبو منصور الأزهري: "وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتَبْسَأ به، وتطمئن إليه"(2) .

وفَسرَّ الراغب الأصفهاني العُرْف: "بالمعروف من الإِحسان"(3)، وهذا هو معنى العرف في قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (4) .

(1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 4 /281.

(2)

تهذيب اللغة، لأبي منصور أحمد الأزهري: 2 /344.

(3)

المفردات، للراغب الأصفهاني: ص 333.

(4)

سورة الأعراف: الآية 199.

ص: 2635

ويقول الفيروز آبادي: " العُرْف اسم لكل فعل يعرف بالشرع والعقل حسنه. والعرف: المعروف من الإِحسان"(1) .

وقال ابن الأثير: "المعروف: اسم جامع لكلَّ ما عُرِفَ من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس، وكلّ ما نَدَب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه"(2) .

المبحث الثاني

تعريف العُرْف في اصطلاح الفقهاء والقانونيين

نقل ابن عابدين عن النسفي الفقيه الحنفي أنَّه عرَّف العُرْف في كتابه "المستصفى" بقوله: "العادة والعُرْف ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول "(3) .

وفي هذا التعريف نقص – كما يقول الدكتور عبد العزيز الخياط – لأنَّ التعريف ردَّ العرف إلى قبول الطباع السليمة، واعتمد على شهادة العقول، وفي إِطلاق قبول الطبائع لأمر ما ليصبح متعارفًا عليه نظر، إذ ليس كلُّ ما قبلته الطبائع يعدُّ عرفًا، وفي تحديد "السليمة" نظر أيضًا، إذ أنَّه يحتاج إلى جهة تميز بين السليم فيها وغير السليم، والحسن والقبيح، ولا جهة تعين ذلك إِلا الشرع أو العقل عند من يقول بتحسين ما يحسنه وتقبيح ما يقبحه، والعقل يتفاوت عند الناس، ومدى الإِدراك يتأثر بحسب الأزمنة والأمكنة، فتختلف الأعراف عندئذٍ، فلم يبق إِلا تحديد الشرع، وإِذا جعلنا الشرع محدَّدًا فيكون مقتصرًا على العرف الصحيح، فلا يشمل الأعراف الفاسدة، لأنَّ الشرع قبحها، ولا تقبلها الطباع والعقول السليمة" (4) .

والتعريف المُرْتَضَى للعرف ما عَرَّفه به الشيخ عبد الوهاب خلاف، فإنَّه قال في تعريفه:"هو ما تعارفه الناس، وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك"(5) .

وقريب من هذا التعريف تعريف الدكتور عبد العزيز الخياط، فإنَّه قال في تعريفه:" العرف ما اعتاده الناس، وساروا عليه في شؤون حياتهم"(6) .

(1) بصائر ذوي التمييز: 4 /57.

(2)

النهاية، لابن الأثير: 3 /216.

(3)

نشر العرف، لابن عابدين؛ مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112- وعزو هذا التعريف إلى مستصفى النسفي هو الحق، وقد وهم كثير من الباحثين في هذا الموضوع فعزوه إلى مستصفى الغزالي.

(4)

نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز الخياط: ص 24.

(5)

علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف: ص 99.

(6)

نظرية العرف: ص 24.

ص: 2636

وللعرف عند علماء القانون تعريفات متقاربة، فقد عرَّفه الدكتور سعد عصفور بقوله:"هو مجموعة القواعد التي تنشأ من درج الناس عليها، يتوارثونها جيلًا عن جيل، والتي لها جزاء قانوني كالقانون المسنون سواء بسواء"(1) .

وعرَّفه الدكتور عبد المنعم فرج الصَدَّة بأنَّه "اعتياد الناس على سلوك معين في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية بحيث تنشأ منه قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ملزمة". وقد يطلقون مصطلح "العرف على القواعد القانونية ذاتها التي تنشأ من اعتياد الناس على مثل هذا السلوك (2) .

وعرَّفه الدكتور حسن كيره بأنَّه "إطراد التقليد على اتباع سنَّة معيَّنة في العمل مع الاعتقاد في إلزام هذه السنَّة لقاعدة قانونية، أو هو تواتر العمل بقاعدة معيَّنة تواترًا تمليه العقيدة في ضرورة اتباع هذه القاعدة، وقد يقصد باصطلاح العرف فضلًا عن ذلك الدَّلالة على القاعدة أو السنَّة التي تحمل العقيدة في إلزامها على اطراد اتباعها في العمل"(3) .

والقانونيون – في تعريفهم للعرف – يحرصون على أن يضَّم التعريف ركني العرف، وهما الركن المادي والركن المعنوي.

ويتمثل الركن لمادي في اعتياد الناس على سلوك معين، ومن هنا اشترطوا في العادة حتى يصبح عرفًا أن تكون عامَّة ومطردة وثابتة وقديمة. وسيأتي بيان هذا في شروط العرف.

ويريدون بالركن المعنوي تولد الاعتقاد لدى الناس بأنَّ هذه العادة ملزمة باعتبارها قاعدة قانونية لها جزاء مادي توقعه السلطة العامة جبرًا على من يخالفها شأنها في ذلك شأن القاعدة القانونية سواء بسواء (4) .

والفقهاء يتفقون مع الباحثين على كثير من الشروط التي اشترطوها في العادة كما سيأتي تفصيل ذلك في شروط العرف.

أما الشرط المعنوي وهو وجود الاعتقاد لدى الناس بأنَّ هذه العادة ملزمة باعتبارها قاعدة قانونية لها جزاء مادي توقعه السلطة العامَّة – فإنَّ هذا الشرط محل نظر لأمور:

(1) القانون الدستوري، للدكتور سعد العصفور: ص 82.

(2)

أصول القانون، للدكتور عبد المنعم الصدَّة: ص 122.

(3)

أصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 332.

(4)

راجع في هذا القانون الدستوري، لسعد العصفور: ص 80؛ وأصول القانون، للدكتور عبد المنعم الصدَّة: ص 126؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 333.

ص: 2637

الأول: صعوبة التحقيق من وجود هذا الركن في واقع الأمور، فالذي يراه ويشاهده القاضي والحاكم هو اعتياد الناس لأمر ما، أما أنهم اعتقدوا لزوم تلك العادة فهذا أمر التحقق منه في غاية الصعوبة.

الثاني: الملاحظ أن الناس يساقون إلى الالتزام بالعادة من غير تفكير ولا اعتقاد، وإنَّما بحكم الإلف الذي يصل إلى درجة التقديس، وكثير من الناس لا يفكر بالجزاء القانوني الذي يوقع على من خالف العادة، وكلُّ الذي يلاقيه المخالف للعادة هو استغراب المجتمع واستجهانه لمخالفة المخالف، ولذا فإنَّنا نجد الفقهاء ينصُّون على أن من حقّ المتعاقِدَيْن أو أحدهما النصُّ على مخالفة العرف وعدم اعتباره.

الثالث: أن الفقه الإِسلاميَّ يخالف القانون في عدم وجود جزاء مادي دنيوي يجب على السلطة العامة إِيقاعه في جميع الأحكام التي عن الشرع.

وهذا فَرْقُ جوهريُّ بين الفقه والقانون ذلك أن الفقه أوسع دائرة من القانون، فالفقه إلى جانب احتوائه على كلَّ فروع القانون الوضعي: الدستوري، والإِداري، والمالي، والجنائي، والدولي، والخاص بفروعه يضم أبوابًا ليس لها مكان في القانون الوضعي.

فباب العبادات وهو باب كبير في الفقه الإِسلامي لا وجود له في القانون الوضعي، وهذا الباب يبحث في الوضوء والغسل والتيمم والحيض والنفاس وإزالة النجاسة والصلاة والزكاة، والصيام والحجّ والعمرة والأيمان والنذور والأطعمة والأشربة والصيد والذبائح.

وكثير من أحكام هذه الأبواب متروك الالتزام بها إلى المسلم لا تستطيع الدولة الإِسلامية أن تتدخل في أمره فيها كالأيمان والنذور والأطعمة والصيد والذبائح (1) . والعرف يعمل في الدائرة نفسها التي تعمل فيها الأحكام الشرعية على النحو الذي سيأتي تفصيله.

المبحث الثالث

الفرق بين العرف والعادة

عَرَّف الراغب في "مفرداته" العادة بأنَّها "اسم لتكرير الفعل والانفعال، حتى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية (2) .

وعرَّفها ابن منظور "بالدَيْدَن يعاد إليه، وجمعها عاد وعادات

وتعَّود الشيء وعاده وعاوده معاودة وعوادًا واعتاده واستعاده وأعاده أي صار له عادة" (3) .

(1) راجع في هذا المبحث كتابنا "تاريخ الفقه الإِسلامي": ص 20، 35.

(2)

المفردات، للراغب الأصفهاني: ص 352.

(3)

لسان العرب: 2 /90.

ص: 2638

والعادة في الاصطلاح: "الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية"(1) .

وقد شرح ابن عابدين هذا التعريف الذي نقله عن "شرح التحرير" لابن الهمام، فقال:"العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكرارها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرَّة في النفوس والعقول متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة، حتى صارت حقيقة عرفية"(2)

ويرى الأستاذ مصطفى الزرقا "أنَّ العادة أعمُّ من العرف، لأنَّ العادة تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي، والعادة الفردية، وعادة الجمهور التي هي العرف"(3) .

فتكون النسبة بين العادة والعرف – كما يقول الأستاذ الزرقا – "العموم والخصوص المطلق، لأنَّ العادة أعمُّ مطلقًا وأبدًّا، والعرف أخصّ إذ هو عادة مقيَّدة، فكلُّ عرف هو عادة، وليست كلُّ عادة عرفًا، لأنَّ العادة قد تكون فرديَّة أو مشتركة (4) .

ويرى كثير من الفقهاء أن العادة والعرف معناهما واحد، يدلُّ على هذا التعريف الذي تناقله العلماء عن النسفيَّ حيث عرفهما تعريفًا واحدًا.

وقال ابن عابدين بعد شرحه للعادة الذي نقلناه عنه فيما سبق "العادة والعرف بمعنى واحد من حيث الماصدق، وإن اختلفا من حيث المفهوم"(5) .

ومن تأمل في مباحث الفقهاء وجد أنَّهم يستعملون العادة والعرف استعمالًا واحدًا لا يفرَّقون بينهما، وعلى كلًٍّ "فالمسألة اصطلاحية، ولا مشاحَّة في الاصطلاح".

والذي يميَّز العرف عن العادة عند علماء القانون أن العرف يجتمع له ركناه: المادي والمعنوي، أما العادة فلا يتوفَّر لها سوى الركن المادي، فالعرف تثبت له قوَّة الإِلزام باعتباره قاعدة قانونية، بينما تفتقر العادة إلى هذه القوة (6) .

(1) نشر العرف، لابن عابدين، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112.

(2)

نشر العرف، لابن عابدين، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112.

(3)

المدخل إلى الفقه الإِسلامي، للأستاذ مصطفى الزرقا: 2 /481.

(4)

المدخل إلى الفقه الإِسلامي، للأستاذ مصطفى الزرقا: 2 /481.

(5)

نشر العرف، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112.

(6)

راجع: أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 129؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 337.

ص: 2639

وبنى الباحثون في القانون على هذه التفرقة بين العادة والعرف عِدَّة أمور:

1-

وجوب تطبيق القاضي للعرف من تلقاء نفسه في الدعوى المرفوعة أمامه، لأن العرف عند رجال القانون – كما سبق بيانه – قاعدة قانونية ملزمة.

ولا يتوقف تطبيق العرف على طلب الخصوم، أما العادة الاتفاقية فتعتبر شرطًا من شروط العقد.

2-

لا يطلب من الخصم إثبات العرف، بل هذا واجب على القاضي حيث يلزمه الإحاطة بالقانون، وهذا يجعل القضاة ملزمين بالتعرف على أعراف الناس للحكم بها عند الفصل بين الخصوم، أما العادة الاتفاقية فلا يلزم إحاطة القاضي بها.

3-

يطبق العرف مع علم الخصوم به أو عدم علمهم به إذا لا يجوز الاعتذار بجهل القانون، أما العادة فلا تطبق إلا إذا انصرفت إرادة المتعاقدين إلى الأخذ بها، وهذا يقضي بعلم المتعقادين بها، ومع جهلهما أو أحدهما بها فلا تطبق عليهما.

4-

يخضع العرف لرقابة محكمة النقض، لأن وظيفة هذه المحكمة مراقبة القوانين، أما العادة فهي من قبيل الواقع، الذي يكون التقدير فيها للقاضي، فلا يخضع القاضي فيه لرقابة محكمة النقض (1)

وأرى أن هذا التفريق بين العرف والعادة غير سديد لأمور:

الأول: أن اشتراط وجود الركن المعنوي لا نوافق عليه، وهو مناط التفريق بين العادة والعرف عند القانونيين، وقد سبق بحث هذه النقطة.

الثاني: أن التفريق بين العادة والعرف على هذا النحو الذي قال به القانونيون يوقع القضاة والحكام في حرج شديد، فالحاكم وإن أمكنه التفريق بين العرف والعادة في بعض الأحيان إلا أن هذا غير ممكن دائمًا وأبدًا.

ولك أن تتأمل في الأمثلة التي مثلوا بها للعادة الاتفاقية فمن الأمثلة التي يضربونها في هذا المجال ما يجري بين تجار الفاكهة في مصر عند البيع بسعر مائة حبة، ومن احتساب المائة وعشرة أو المائة وعشرين إلى غير ذلك بحسب نوع المبيع واختلاف المناطق وما تجري به العادة في بعض المحلات العامة كالفنادق والمطاعم والمقاهي من قيام العملاء بدفع هبة بنسبة معينة من قيمة الحساب إلى القائمين بالخدمة في هذه المحال، وما تجري به العادة من أنه إذا اشترك شخصان فقدم أحدهما رأس مال، وتعهد الثاني بإدارة الأعمال فإن توزيع الأرباح بينهما يكون بنسبة الثلثين للشريك الذي قدم رأس المال وبنسبة الثلث للشريك الذي قام بإدارة الأعمال (2)

(1) أصول القانون للدكتور، عبد المنعم فرج الصدة: ص 132

(2)

أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدة ص 130

ص: 2640

ما الفرق بين هذه الأمثلة التي يعدُّونها من قبيل القاعدة القانونية وبين تلك الأمثلة التي عَدُّوها من قبيل العرف؟

ومن أمثلتهم فيه افتراض التضامن بين المدينين فيكون للدائن في المعاملات التجارية مطالبة أيّ واحد من المدينين بكلَّ الدين.

ومن أمثلته في القانون المدني المصري أن أثاث المنزل يعتبر ملكًا للزوجة لأنَّ العرف جرى هناك بأنَّ الزوجة هي التي تؤثث منزل الزوجية (1) .

لو طولب رجالُ القانون بتحديد الفرق بين ما جعلوه عرفًا من الأمثلة وبين ما جعلوه عادة اتفا قية لعسر عليهم الأمر، فإنْ قالوا: إن مسائل العرف ذاعت وشاعت في كلّ البلاد. فالجواب أن هذا من شروط الركن المادي لا المعنوي. وإن قالوا: إن هذه من القواعد التي جعل لها القانون جزاء وألزم بها فالجواب في هذه الحال: أن الذي رفع الأمر إلى درجة الإِلزام ووضع عليه الجزاء هو القانون لا العرف.

إِن نظر الفقهاء أدقّ في هذه المسألة لأنَّهم لم يشترطوا وراء الركن المادي أيَّ شرط حتى تصبح العادة عرفًا.

(1) راجع: أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 129؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 337

ص: 2641

الفصل الأول

مناقضة العرف والعوائد للشريعة الإِسلامية

المبحث الأول

سلطان العرف على الأمم والشعوب

للعرف سلطان كبير على الأفراد والمجتمعات الإِنسانية عبر العصور، وقد تحدَّث الشيخ أحمد فهمي أبو سنّة عن سلطان العرف وتأثيره، فقال:"مجموعة المصطلحات والتقاليد التي تعتادها كلُّ أمة وتتخذها منهاجًا للسير عليها لها في نفوس الأفراد احترام عظيم، بل لها عليهم السلطان القويُّ، حتى إنهم ليعدُّونها من ضروريات الحياة التي لا يُستَغْنَى عنها، ومن المفاخر التي يُعْتَزُّ بها، وقد ترتفع قداستها عند بعضهم إلى مرتبة الدَّين، فيرون أنفسهم ملزمين باعتناقها والجري على سُنَنِها، ويرون الخروج عليها إثمًا عظيمًا يستجلب الاستياء، ويدعو إلى الثورة "(1) . وقد عَلَّل الشيخ فهمي هذا بما توصل إليه علماء النفس من أن العمل بكثرة تكراره تتكيف به الأعصاب والأعضاء، فيأخذ مكانه من النفوس كالسيل بقوة انحداره يحتفر طريقه في الجبل، فكما أنَّه يصعب تحويله عن طريقه، فكذلك العرف يرسخ في النفوس بحيث يعسر زحزحتها عنه وبخاصة إذا اقتضته الحاجة (2) .

ولما كان للعرف هذا السلطان وتلك المكانة، فإِنَّ أعراف الأمم والشعوب كانت هي الدساتير والقوانين التي تحكم تلك الأمم والشعوب.

يقول الدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: "العرف أول مصدر رسميّ للقانون ظهر في تاريخ المجتمع البشري

ولذلك كان له الشأن الأول في المجتمعات القديمة" (3) .

ويقول الدكتور إسماعيل مرزة: لا نزاع في أن العرف كان مصدرًا رسميًّا، بل المصدر الرسميّ الوحيد للقانون في المجتمعات السياسية الأولى (4) ، ذلك لأنَّ العرف يعدُّ من الناحية التاريخية أسبق من القانون المعروف، لذلك كانت الدساتير تقوم على العرف بصورة رئيسية، ولم تدوَّن إلَاّ بعد الثورتين: الأمريكية والفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.

(1) العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبي سنَّة: ص 16.

(2)

العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبي سنَّة: ص 16.

(3)

أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: 123.

(4)

هذا الذي يردّده القانونيون من كون العرف هو أول مصدر رسمي للقانون في تاريخ المجتمع البشري غير صحيح، والحقُّ أن الشرائع التي جاءت من عند الله هي القانون الأول الذي حكم البشر.

ص: 2642

ففيما يخصُّ الحضارات القديمة جِدًّا كان العرف مصدرًا رسميًّا لـ "نواظم" المجتمعات السياسيَّة الأولى، وقد حافظ العرف على هذا المصدر الممتاز حتى في أغلب الحضارات الأحدث عهدًا من تلك المجتمعات السياسية، ففي الحضارات القديمة استحال العرف الذي كان سائدًا بين سكان ما بين الرافدين القدماء إلى شرائع قانونية مدوَّنة، ونشير مثلًا إلى قانون "بلاما" وقانون "لبت عشتار" وقانون" حمورابي" المشهور.

هذه القوانين وغيرها أحالت الأعراف التي كانت سائدة خلال هذه الحضارات القديمة إلى قواعد قانونية نافذة.

كذلك الحال بالنسبة إلى القانون الهندي المعروف بقانون "مانو" كما أن أحكام القانون المدني الروماني تجد أساسها في قواعد عرفيَّة مستقرَّة دونت على – الألواح الاثني عشر – بناء على نجاح كفاح طبقة "العوام" وانتصارهم ضدّ احتكار "الأشراف" للأحكام القانونية.

وقد بقيت "الألواح" نافذة المفعول نحو ألف سنة، ولم تلغ صراحة إلَاّ بتشريع مجاميع "جوستينيان"(1)

ولا يزال للعرف في بعض الدول المقام الأسمى "فالقانون الإِنجليزي كان مجموعة من العادات التي تخضع لها القبائل الأنجلو سكسونية، ثمَّ اقترنت بعادات القبائل النورماندية التي فتحت الجزيرة الإِنجليزية في القرن الحادي عشر، ولما تطورت المدنية الإِنجليزية صار القضاء مصدرًا رسميًّا للقانون إلى جانب العرف، ثمَّ قام التشريع مصدرًا آخر، فأصبح هو والقضاء المصدرين الرسميين في القانون الإِنجليزي في الوقت الحاضر".

والقانون الفرنسي القديم بدأ عرفًا، ثم امتزج به القانون الروماني بعد الفتح الروماني، ثم وُجِد قانون الكنيسة، وبعد ذلك انقسمت فرنسا إلى قسمين: القسم الشمالي يطبق العرف، والقسم الجنوبي يطبق القانون الروماني، ولما قويت الملكية في فرنسا جمعت قواعد العرف، وقام إلى جانبها التشريع مصدرًا رسميًّا للقانون، وصار التشريع يقوى حتى صدرت تقنينات نابليون، فأصبح هو المصدر الرسميُّ في القانون الفرنسي (2)

(1) القانون الدستوري للدكتور إسماعيل مرزه: ص 78.

(2)

أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 123.

ص: 2643

المبحث الثاني

دور العرف في الصدَّ عن شريعة الله

رأينا في المبحث السابق كيف كانت أعراف الأمم مقدَّسة عندها تقديسًا جعلها بمثابة القوانين والدساتير التي لا يخالفها مخالف ولا ينازعها منازع.

ولذا، فإنَّ هذه الأعراف والعوائد أصبحت جدارًا صلبًا يقف في وجه الشرائع المنزلة من عند الله، وكان الصراع يدور عبر التاريخ بين الشرائع الإِلهيَّة وحملتها من الرُّسل والأنبياء وأتباعهم، وبين الأعراف والعادات وسدنتها من الزعماء والرؤساء الذين يزعمون أن تراث الآباء والأجداد هو المقدَّس والمصان، ويأبون أن يمسَّه أيُّ تغيير أو تبديل.

لقد كانت الأعراف والعادات التي اختطها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين دينًا يتبع، وشرعة لا تخالف، وميراثًا يحرص عليه حرصًا عظيمًا يصلُ إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس وتهدر الأموال، وهذا ديدن البشرية عبر تاريخها الطويل {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (1) .

والمراد بالأمَّة التي وجدوا آباءهم عليها: الطريقة التي سلكوها والعادات والأعراف التي اعتادوها.

هكذا يرفضون الحقَّ من غير دليل ولا بيَّنة ولا برهان، وكلُّ ما في الأمر أن الآباء والأجداد كانوا على ذلك المنهج:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (2) .

وهذه الأعراف والعادات يصنعها في كثير من الأحيان الطواغيت والظلمة المتنفذون في أقوامهم، ويجرون التعامل بها بما لديهم من النفوذ والسلطان {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (3) .

والمراد بالشركاء أولئك الزعماء والقادة ورجال الفكر الذين يقولون القول فيصبح طريقة متبعة، فيكونون بذلك مشرَّعين يشرعون من الدَّين ما لم يأذن به الله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) .

(1) سورة الزخرف: الآيات 22-25.

(2)

سورة البقرة: الآية 170.

(3)

سورة الأنعام: الآية 137.

(4)

سورة الشورى: الآية 21.

ص: 2644

وكان من هؤلاء عمرو بن عامر الخزاعي، فإنَّه كان زعيمًا مطاعًا في قومه، وهو أول من غيَّر دين العرب، ففي صحيح البخاريَّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:((أنَّ أول من سيَّبَ السيوب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجرُّ أمعاءه في النَّار)) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يَجْرُّ قُصبَهُ في النار، كان أول من سيَّب السيوب)) . وقد أنكر القرآن ما شرعه هذا الزعيم وجعله عرفًا يُتَّبع وعادة محكَّمة فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (1) .

وما أنكر الحقُّ تحريمه في هذه الآية أمور معروفة عند أهل الجاهلية، فالبحيرة الناقة تُبْحَرُ أذنها أي تشقُّ، ثم ترسل، فلا يركبها أحد، يفعلون بها ذلك إذا ولدت خمس بطون. والسائبة أن تسيَّب الناقة وتجعل كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، يفعل بها صاحبها ذلك في حال وقوع أمر نذره كان يحب وقوعه. والوصيلة كانت العرب إذا ولدت الناقة أنثى لهم، وإذا ولدت ذكرًا فلآلهتهم، وإذا ولدتهما قالوا: وَصَلْت أخاها، فيحرم ذبحها. والحام: الفحل، يحمل من ظهره عشرة أبطن، فيحرم ذبحه وظهره، ولا يمنع من مرعى ولا ماء.

وقد أقام نوح في قومه ألف سنة إلَاّ خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وأخيرًا دعا الله أن لا يُبْقي منهم صغيرًا ولا كبيرًا:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (2) .

وإبراهيم حاول أن يستثير التفكير في قومه الضالين، ليتركوا معبوداتهم التي لا تملك شيئًا من خصائص الألوهية {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (3) .

وفي خاتمة المطاف جاء الرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه بالحق الأبلج، والملة السمحاء، والشريعة الغراء، فنابذه العرب العداء، ورموه عن قوس واحدة، وعذبوا صحبه وآذوه وحاصروه وتأمروا عليه لسفك دمه، وأرسلوا الجيوش الجرارة لقتاله، فقتلوا من صحبه وقتل منهم، كلُّ ذلك حفاظًا على ما ألفوه واعتادوه {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (4) .

ولكن العرب بعد جهد شديد أبصروا الحق، وأقلعوا عما اعتادوه. وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، وعلت كلمة الله، واستنار الناس بنور الحقَّ، وجاهد العربُ الأممَ الأخرى حتى أخرجوهم عن عاداتهم وأعرافهم وتراثهم الضالة، وهدوهم كما اهتدوا، ولم تزل الشريعة الإِسلامية في دار الإسلام هي الشريعة التي تهيمن على الحياة، وتصنع الأعراف، ويجري عليها الأمر في المحاكم والقضاء.

(1) سورة المائدة: الآية 103.

(2)

سورة نوح: الآيتان 26، 27.

(3)

سورة الشعراء: الآيات 72-74.

(4)

سورة ص: الآيات 1-7.

ص: 2645

المبحث الثالث

عدم صلاحية العرف ليكون قانونًا ودستورًا

عندما يوازن علماء القانون بين العرف والقانون، فإنَّ مقارنتهم تتجه إلى العرف الذي كان يشكَّل قانونًا غير مكتوب يحكم الأوضاع في أمة من الأمم، وهم في هذه الموازنة يرجَّحون جانب العرف؛ لأنَّ العرف يتكون مما جرى عليه الناس في معاملاتهم الاقتصادية وأحوالهم الاجتماعية، ومن ثمَّ تتميز قواعده بأنَّها تعبر أصدق تعبير عما يرتضيه أفراد المجتمع في تنظيم علاقاتهم، فتكون بحكم نشأتها على هذا النحو ملائمة للظروف الاجتماعية كما تؤدي هذه الطريقة ذاتها في نشوء القواعد العرفية إلى تطورها بتطور الظروف في المجتمع فتظلُّ على وجه الدوام ملائمة لهذه الظروف.

أما القوانين المكتوبة، فإنَّه يؤخذ عليها أن قواعدها تأتي غير ملائمة لظروف المجتمع، وإذا جاءت ملائمة لهذه الظروف حين وضعها، فإنَّ صبَّها في نصوص مكتوبة يضفي عليها من الجمود ما يقف عن مسايرة التطور، وقد يقعد عن تعديلها على النحو الذي يستجيب لمقتضيات هذا التطور (1) .

هذه هي المزيَّة التي يذكرونها للعرف في مقابل القوانين المكتوبة، ولكنَّهم يعدَّدُون للقوانين كثيرًا من المزايا تجعلهم يرجَّحون جانب القانون على العرف ومن هذه المزايا:

أولًا: أن القوانين يمكن سنُّها بسهولة لمواجهة الأوضاع الجديدة في المجتمعات كما يمكن المسارعة إلى تعديلها كي تساير التطور في الحياة الاجتماعية. أما العرف، فإنَّه أداة بطيئة في تكوين القاعدة القانونية بحيث يقصر عن تزويد الجماعة في العصر الحديث بما تحتاج إليه من قواعد لمواجهة حاجاتنا المتجدَّدة بالسرعة الواجبة.

ثانيًا: تمتاز القوانين المكتوبة بأنَّها توضع في نصوص مصاغة صياغة محكمة تساعد الأفراد على معرفة حقوقهم وواجباتهم، أما العرف، فإنَّ قواعده تتكون تدريجيًّا كما ينقصها الوضوح والتحديد، ولذلك قد يصعب التثبت من وجود القاعدة أو التحقق من مضمونها.

(1) أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 124.

ص: 2646

ثالثًا: القانون الواحد في الدولة الواحدة أداة لتوحيد نظام الدولة، إذ أن قواعده تنفذ في أقاليم الدولة، فتكون عاملًا على تحقيق الوحدة، بينما العرف أكثره مَحَليٌّ ولذلك فهو يؤدي إلى تعدد النظم في الدولة الواحدة الأمر الذي يفكَّك وحدتها ويعرقل تقدمها.

رابعًا: ويرى رجال القانون أن القانون المدوَّن يصلح أداة لتطوير المجتمع حيث يمكَّن من إدخال النظم والأخذ بالمبادئ التي ينادي بها المصلحون أو يقتبسونها من خارج بيئتهم، أما العرف، فإنَّه يمثل نزعة المحافظة على القديم بما ينطوي عليه من حبَّ التقاليد والحرص على المألوف بحيث لا يكون التخلص منه أمرًا يسيرًا، ولذلك فهو لا يتيح الفرصة للأخذ بالأفكار الجديدة التي يرى فيها المصلحون خيرًا للجماعة إلَاّ بعد زمن طويل (1) .

وعلماء الشريعة يأبون أن يقارنوا بين القانون الوضعي والعرف البشري، وذلك لأنَّهم يرفضون رفضًا قاطعًا أن تكون لهذه القوانين والأعراف الصدارة على الشريعة الإِسلامية.

إنَّنا لا ننظر إلى هذه الموازنة بين العرف والقانون الوضعي نظرة رضى، ونرى أن القانون الوضعي والعرف البشري وجهان لعملة واحدة، فالعرف ثمرة عادات الناس في معاملاتهم وأحوالهم الاجتماعية، والقوانين ثمرة جهود المفكرين الذين خبَّروا أحوال الناس ومشكلاتهم، فوضعوا لهم من القوانين ما يظنون أن فيه صلاحهم، وبهذا يظهر أن كلا السبيلين مصدره البشر، ولا وجه لمقارنة نتاج البشر بالشريعة الإِلهية المنزلة من الحكيم الحميد.

إنَّ القوانين البشرية والأعراف البشرية تتصف بالظلم والجهالة والقصور التي يتصف بها البشر، لأنَّها ناتجة عنهم، والشريعة الإِلهية تتصف بالعدل والكمال، لأنَّها من عند الله العادل الكامل الحكيم.

(1) راجع في هذا الموضوع: أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 125.

ص: 2647

وقد لا نختلف مع علماء القانون الوضعي في أن القانون الوضعي أفضل من العرف البشري، ولكننا نضع القانون الوضعي والعرف البشري في كفة واحدة في مقابل الشريعة.

إنَّ القوانين البشرية في كثير من الأحيان ظالمة قاسية توضع لمصلحة فريق من الناس ضدَّ بقية فئات المجتمعات، والأعراف قد تقوم على جهالات وضلالات موروثة يشقى بها المجتمع، وليس فيها منتفع كاسترقاق المدين المعسر عند الرومان وفي جاهلية العرب، وكوأد البنات والسائبة في الجاهلية، وكدفن الزوجة حيَّة مع زوجها إذا مات عند الهنود الوثنيين، وكدفن نفائس الأموال مع أصحابها عند قدماء المصريين (1) .

الأعراف والعوائد البشرية تقف – في كثير من الأحيان – حاجزًا أمام دعاة الإِصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحقَّ مظلومين منبوذين لدعوتهم الناس إلى الرجوع إلى الدَّين الحقَّ الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ومطالبتهم الناس بترك ما هم عليه مما يخالف شريعة الإسلام وآداب الإِسلام.

ولذلك فإنَّ الإسلام يأبى كلَّ الإِباء أن يكون العرف هو القاضي والحاكم بين الناس، كما يأبى أن يترك هذه المهمة لرجال من البشر يضعون للناس الشرائع والقوانين، ولذا فإنَّ الشريعة الإِسلامية عندما حكمت أقصت العرف وحصرته في دائرة ضيقة، وإبقاء الشريعة الإِسلامية للعرف في الدائرة التي حدَّدتها يمثل واحدًا من أسرار خلود الشريعة واستمرار صلاحيتها لكلَّ زمان ومكان، ذلك أن الشريعة لم تقع في الخطأ الذي وقع فيه رجال القانون عندما تبنوا أحكامًا متغيرة، فجعلوها ثابتة دائمة، ومن ذلك المسائل التي تركتها الشريعة للعرف مقرة تغيرها بتغير الزمان والمكان.

وإذا أمعن الباحث النظر في مزايا العرف التي دونها رجال القانون، فإنَّه يجدها وهمًا، فكثير من الأعراف التي تسيطر على المجتمعات إنَّما سادت فيها بقوة الحاكم وسلطانه، فلما طال الأمد عَضَّوا عليها بالنواجذ، واتخذوها شِرْعة ومنهاجًا، وكثير من الأعراف التي يعدُّها الناس من محاسن العرف هي في الحقيقة أغلال وقيود.

إن العوائد والأعراف تمثل نهجًا يختلط فيه الصواب بالخطأ، والحقُّ بالباطل، وهي تحتاج إلى تقويم وتهذيب، مثلها في ذلك مثل القوانين الوضعية والشريعة الإلهية هي الصالحة لتحقيق الخير الخاص من الشوائب.

(1) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا، ص:835.

ص: 2648

المبحث الرابع

إقصاء الشريعة للعرف وحصره في دائرة ضيقة

عندما انتصر الإِسلام، وحكمت شريعته الديار التي رضي أهله بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، أقصت الشريعة الإِسلامية أعراف تلك الأمم عن الصدارة، وحصرت تلك الأعراف في دائرة ضيقة، وهذا مقتضى كون الشريعة الإِسلامية مهيمنة على كلَّ الشرائع والقوانين والأعراف.

وقد أكثر القرآن من التأكيد على وجوب تفرد هذه الشريعة المباركة بالحكم، وعدم جواز تقديم شيء عليها، لا قول حاكم، ولا حكم قاضٍ، ولا اجتهاد مفتٍ أو عالم، ولا عادة قوم ولا عرف أمة أو شعب {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (2) .

وقد وعى علماؤنا الذين بحثوا في العرف ما علَّمهم الله إيَّاه، فإنَّهم نصُّوا على أن العرف الذي يصادم النصوص الشرعية عرف فاسد يجب رفضه، ولا يجوز الأخذ به بحال الأحوال.

وقد تحدَّث الشاطبي عن العوائد التي أمر بها الشارع أمر إيجاب أو أمر استحباب أو نهى عنها نهي تحريم أو كراهة، وبيَّن أنَّه لا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها، فلا يصحُّ أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا، ولا القبيح حسنًا، حتى يقال مثلًا:"إنَّ كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنُجِزْه أو غير ذلك. إذ لو صحَّ مثل هذا لكان نسخًا للأَحكام المستقرَّة المستمرَّة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل"(3) .

وقول ابن عابدين مبينًا عدم اعتبار العرف إذا خالف النصَّ الشرعيَّ من الكتاب والسنة: "ولا اعتبار للعرف المخالف للنصّ، لأنَّ العرف قد يكون على باطل بخلاف النصّ كما قاله ابن الهمام "(4) .

ويقول ابن نجيم: "وإنَّما العرف غير المعتبر في المنصوص عليه. قال في "الظهيرية" من الصلاة: وكان محمد بن الفضل يقول: الصرَّة إلى موضع نبات الشعر من العانة ليست من العورة لتعامل العمال في الإِبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار، وفي النزع عن العادة الظاهر نوع حرج، وهذا ضعيف وبعيد، لأنَّ التعامل بخلاف النصّ لا يعتبر"(5) .

(1) سورة النساء: الآية 65.

(2)

سورة النور: الآية 51.

(3)

الموافقات: 2 /209.

(4)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /113.

(5)

الأشباه والنظائر: ص 94.

ص: 2649

المبحث الخامس

تقديم الأعراف البشرية على الشريعة الإِسلامية

استمرَّت الشريعة الإِسلاميَّة حاكمة للديار الإِسلامية أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ثمَّ جاء الذين رضعوا ثقافة الغرب وتغذَّوا بلبانه الذين غزا الفكرُ الغربيُّ عقولَهم، وأشربت قلوبُهم حبَّ ما جاءهم من عنده ولو كان سمًّا زعافًا، جاء هؤلاء لِيُقْصوا الشريعة الإِسلامية المباركة، ويُحِلُّوا القوانين الوضعية محلّها، ثم جعلوا العرف المصدر الاحتياطي الأول، وقدَّموا رتبته على مبادئ الشريعة مما يدلُّ على مدى هوان الشريعة الإِسلامية على هؤلاء الذين هم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا، ولكنَّهم كانوا أشدَّ خطرًا علينا من أعتى أعدائنا.

عندما أرادت مصر أن تضع قانونًا مدنيًّا في عام 1936م لتطبقه في عام 1949م جعلت المادَّةُ الثانية فيه الشريعةَ الإِسلامية نكرة، وجاء نصُّ المادة هكذا: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها وفحواها.

فإذا لم يوجد نصٌّ تشريعى يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.

ويستلهم في ذلك الأحكام التي أقرَّها القضاء والفقه مصريًّا كان أو أجنبيًّا، وكذلك يستلهم مبادئ الشريعة الإِسلامية (1) .

أين موقع الشريعة؟ وأين مكانها؟ هل أبقى واضع هذه المادة لهما شيئًا؟

كأني به إنَّما وضع اسمها خجلًا وتعذُّرًا، ولولا ذلك لما تفضَّل بذكره، وعندما هاج المسلمون في ذلك الوقت وثاروا على هذا الوضع المشين، وكتب من كتب وخطب من خطب عدلت هذه المادة لتحلَّ مبادئ الشريعة بعد العرف، وأصبحت المادة هكذا:" تُسرى النصوص التشريعية التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نصٌّ تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون"(2) .

لقد قدَّم واضع القانون مبادئ الشريعة على مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، ولكنَّه قدَّم عليها القانون الوضعي الذي صاغه البشر، كما قدَّم عليها أعراف البشر، وجعلها مصدرًا احتياطيًّا تاليا للعرف فإلى الله المشتكى.

وسارت القوانين المدنية في أكثر البلاد الإِسلامية على النحو الذي سار عليه القانون المدني المصري.

* * *

(1) القانون المدني الأعمال التحضيرية: 1 /182.

(2)

القانون المدني الأعمال التحضيرية: 1 /190.

ص: 2650

الفصل الثاني

حجية العرف

المبحث الأول

نطاق العرف ومجاله

رأينا فيم سبق كيف كانت عوائد البشر تشكَّل إطارًا يحكم المجتمعات الإِنسانية، وكيف نُصَّبت تلك العوائد جدارًا صلبًا يقف في وجه الشرائع التي ينزلها الله على عباده عبر رسله ومن خلال كتبه، ورأينا كيف قلّصت الشريعة سلطان العرف ودائرته عندما كانت هي الحاكمة في الديار الإِسلامية، فأبطلت العوائد المنحرفة الضالَّة، وقوَّمت الأعراف الخاطئة، وأقرَّت من العوائد والأعراف ما كان حقًّا وصوابًا.

ويمكننا أن نحدَّد الدائرة التي أذنت الشريعة الإِسلامية للمسلمين أن يرجعوا فيها إلى العرف في المجالين التاليين:

الأول: تفسير النصوص التي وردت مطلقة ولم يرد في الشرع ولا في اللغة ما يفسَّرها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا:"كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف"(1) .

ويقول السيوطي: "قال الفقهاء: ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في الذمَّة يُرْجع فيه إلى العرف"(2) .

وقال الزركشي: "العادة تُحَكَّم فيما لا ضبط له شرعًا"(3) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأسماء التي علَّق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حدُّه ومسمَّاه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحجَّ والإِيمان والإسلام والكفر والنفاق.

(1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 7 /40.

(2)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 98.

(3)

المنثور في القواعد، للزركشي: ص 356.

ص: 2651

ومنه ما يعرف حدُّه باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والبر.

ومنه ما يرجع حدُّه إلى عادة الناس وعرفهم، فيتنوع بحسب عادتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدَّها الشارع بحدّ، ولا لها حدّ واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس (1) .

الثاني: الأحكام التي لم تأمر بها الشريعة ولم تنه عنها، وهذا النوع ليس للشريعة غرض في فعلها على نحو معيَّن، وإنَّما المراد فعلها على أي وجه كان هذا الفعل، وهذا يختلف باختلاف عوائد الناس وعرفهم.

أما مجال العرف عند الأمم التي لا تحكَّم الشريعة الإِسلامية، فقد سبق القول بأنَّ العرف كان بمثابة القانون والدستور عند الأمم قبل تدوين قوانينها، فلما دونت القوانين بقى العرف مصدرًا رسميًّا للقواعد القانونية في مختلف فروع القانون، كما جعل العرف مصدرًا احتياطيًّا في كثير من القوانين يلجأ إليه القاضي في المسائل التي لا يجد فيها نصًّا في القانون.

ومن هنا، فإِن القانونيين يصرَّحون بأنَّ العرف لا يستطيع إِلغاء أو مخالفة نصوص القانون الآمرة، ولكنهم أعطوه الحقَّ في مخالفة النصوص المفسَّرة أو المكملة لإِرادة المتعاقدين دون إلغائها.

وقد سبق القول بأنَّ الشريعة الإِسلامية تأبى كلَّ الإِباء بأن تُسَاوى بقوانين البشر وعرفهم فضلًا عن أن تقدم عليها هذه القوانين والأعراف.

المبحث الثاني

موقف العلماء من الاحتجاج بالعرف

لا خلاف بين أهل العلم من الأصوليين والفقهاء والمفسَّرين والمحدَّثين في اعتبار العرف في المجالين الذين سبق تحديدهما. يقول الشيخ أحمد فهمي أبو سنَّة: "اعتبر الفقهاء – على اختلاف مذاهبهم – العرف، وجعلوه أصلًا ينبني عليه شَطْرٌ عظيم من أحكام الفقه"(2) .

وفي اعتبار الشرع للعرف يقول ابن عادين في أرجوزة له:

والعرف في الشرع له اعتبار

لذا عليه الحكم قد يدار (3) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام. 19/ 235

(2)

العرف والعادة، لأحمد فهمي أبو سنَّة: ص 33

(3)

نشر العرف: راجع مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/112.

ص: 2652

ويقول أيضًا: "اعتبار العادة والعرف رُجِع إليه في مسائل كثيرة، حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب "ما تترك به الحقيقة: " تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة، هكذا ذكر فَخر الإِسلام، وفي "شرح في الأشباه" للبيرمي، قال: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي. وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنصّ "(1) .

وقال القرافي: "كلُّ من له عرف سيحمل كلامه على عرفه"(2) .

وقد بوَّب البخاريُّ في "جامعه الصحيح" للعرف الصحيح الذي أقرته الشريعة، فقال:"باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإِجارة والمكيال والميزان، وسننهم على نيَّاتهم ومذاهبهم المشهورة "(3) .

وأورد تحت هذا الباب قول شُرَيْحَ للغَزَّاليِن: "سُنَّتَكُم بينكم". ومراده أن الذي يحكمهم هو ما تعارفوا عليه، وأصبح لهم سنَّةً وطريقة، وأورد تحت هذا الباب اكتراء "الحسن البصري من عبد الله بن مِرْداس حمارًا، فقال له الحسن: بكم؟ قال: بدانقين. فركبه ثمَّ جاء مرة أخرى، فقال: الحمارَ الحمارَ، فركبه ولم يشارطه، فبعث إليه بنصف درهم". فالحسن لم يشارطه في المرة الثانية، بل اكتفى بالاتفاق الأول، وإن كان زاده دانقًا من عنده تفضلًا. وأورد البخاريُّ تحت هذا الباب حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها: "قالت هند أمُّ معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أبا سفيان رجل شحيح، فهل على أن آخذ من ماله سرًّا؟ قال:((خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف)) (4) .

وأورد حديث عائشة أنَّها فسَّرت قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (5) . قالت "أُنْزِلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه، ويصلح في ماله إن كان فقيرًا أكل منه بالمعروف"(6) .

قال ابن حجر في شرحه لترجمة الباب: "قال ابن المنير: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنَّه يُقْضى به على ظواهر الألفاظ، ولو أن رجلًا وكَّل رجلًا في بيع سلعة فباعها بغير نقد البلد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الوزن أو الكيل المعتاد".

(1) نشر العرف: راجع مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /113. وانظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93

(2)

الفروق، للقرافي: 1 /76.

(3)

صحيح البخاري: انظر فتح الباري: 4 /405.

(4)

صحيح البخاري: انظر فتح الباري: 4 /405.

(5)

سورة النساء: الآية 6.

(6)

صحيح البخاري: فتح الباري: 4 /405.

ص: 2653

ونقل عن القاضي حسين من الشافعية: "أنَّ الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس الذي يبنى عليها الفقه. فمنها: الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإِضافية، كصغر ضبة الفضة وكبرها، وغالب الكثافة في اللحية ونادرها، وقرب منزل وبعده، وكثرة فعل أو قلته في الصلاة

وثمن مثل، ومهر المثل، وكفء نكاح، ومؤنة نفقة وكسوة وسكنى، وما يليق بحال الشخص من ذلك. ومنها: الرجوع إليه في المقادير كالحيض والطهر، وأكثر مدة الحمل وسن اليأس. ومنها: الرجوع إليه في فعل غير منضبط يترتب عليه الأحكام كإِحياء الموات، والإِذن في الضيافة، ودخول بيت قريب، وتبسط مع صديق، وما يعدُّ قبضًا وإِيداعًا وهديَّة وغصبًا وحفظ وديعة انتفاعًا بعارية. ومنها: الرجوع إليه في أمر مخصوص كألفاظ الأيمان، وفي الوقف والوصيَّة والتفويض ومقادير المكاييل والموازين والنفوذ وغير ذلك (1) .

المبحث الثالث

الأدلَّة على اعتبار العرف

سبق أن بيَّنا أن أهل العلم على اختلاف مذاهبهم أصدروا كثيرًا من الأحكام والفتاوى بناء على ما تعارف أهل عصرهم عليه.

وقد استدلَّوا على اعتبار القدر الذي حدَّدناه في العرف بأدلة منها:

1-

النصوص المطلقة التي وردت في الكتاب والسنة، وترك تفسيرها وتحديدها إلى عرف أهل كل عصر وبلد، وسيأتي ذكر أمثلة كثيرة لهذا النوع من العرف.

2-

واستدلُّوا بقاعدة رفع الحرج، ووجه الاستدلال أن ثبات العوائد على حكم واحد على الرغم من تغيُّرها وتبدُّلها يوقع الناس في حرج شديد، وضيق أكيد، ويخرج الأحكام التي تنسب إلى الشريعة عن جادَّة العدل والرحمة التي تتصف بهما الشريعة إلى الظلم والقسوة اللذين برأ الله شريعته من الاتصاف بهما.

يقول الشاطبي في هذا المعنى: " العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا، كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية، أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أو أمرًا أو إذنًا أم لا؟ "(2) . ويقول مبينًا وجه ضرورتها: "لو لم تعتبر العوائد لأدَّى إلى تكليف ما لا يطاق، وهو غير جائز أو غير واقع"(3) .

(1) فتح الباري: 4 /406.

(2)

الموافقات: 2 /211.

(3)

الموافقات: 2 /212.

ص: 2654

ويقول ابن عابدين مبيَّنًا الآثار السيئة المترتبة على عدم اعتبار العرف وعدم مراعاة تغيُّرها من قبل العلماء والقضاة والمفتين: "كثير من الأحكام تختلف باختلاف عادات الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقَّة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتمّ نظام وأحسن إِحكام"(1) .

واستدل كثير من الباحثين في العرف والعوائد على حجيتها بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2) .

ولا يتم الاستدلال بهذه الآية إلَاّ بناء على القول بأنَّ المراد بالعرف فيها المعنى الاصطلاحي، وقد بَيَّنتُ فيما سبق أن المراد بالعرف في الآية العرف المعني الذي قال فيه ابن الأثير:"هو اسم جامع لكلَّ ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس، وكلّ ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه"(3) .

واستدلَّ آخرون على حجيَّة العرف بحديث رفعوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) .

وهذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال السيوطيُّ بعد أن ساق الحديث في "أشباهه": "قال العلائيُّ: ولم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال. وإِنَّما هو من قول عبد الله بن مسعود أخرجه أحمد في مسنده"(4) .

وقد أكد العجلونيُّ عدم صحة رفع الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقل عن الحافظ ابن عبد الهادي أن إِسناد المرفوع إسنادٌ ساقط، ونبَّه العجلونيُّ أيضًا إلى أمرين:

الأول: أن الحديث رُوي بإسناد حسن إلى ابن مسعود موقوفًا عليه.

والثاني: أن الحديث الموقوف رواه أحمد في كتاب "السنَّة" لا في "المسند" كما عزاه إليه بعض أهل العلم.

(1) نشر العرف: (انظر مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /123.

(2)

سورة الأعراف: الآية 199.

(3)

النهاية، لابن الأثير: 3 /216.

(4)

الأشباه والنظائر: ص 89.

ص: 2655

وذكر العجلونيُّ أيضًا أنَّه أخرجه البزَّار والطيالسيُّ والطبرانيُّ وأبو نعيم والبيهقيُّ في "الاعتقاد" عن ابن مسعود (1) .

هذه هي الأدلة التي استدلَّ بها الفقهاء على حجيَّة العرف في الدائرة التي يجوز أن يستند فيها إلى العرف والعوائد.

أما العرف عند القانونيين فإنَّهم اختلفوا في مصدر قوته، ففريق منهم يرى أن أساس قوته الملزمة هو رضا واضع القانون عنه وقيامه على تطبيقه، فيعتبر بذلك إرادة ضمنية له كما يعتبر التشريع إرادة صريحة.

وهذا الاتجاه يعتبر القانون وليد إرادة الدولة بحيث لا يتصوَّر وجود قانون دون الاستناد إلى هذه الإِرادة.

ويكفي للرد على هذا الاتجاه أن العرف كان أسبق في الوجود من القانون المدوَّن ممَّا يدل على أنَّه مصدرٌ مستقلٌ عن القانون لا يحتاج إلى صدور قانون به.

وذهب فريق وهم القائلون بالمذهب التاريخي إلى إِسناد قوة إلزام العرف إلى "الضمير الجماعي" وهذا الضمير يحلُّ عندهم محلَّ إرادة مصدر القانون.

ويرى فريق ثالث أن أساس قوة العرف هو قضاء المحاكم بتطبيقه لا من باب إلزام العرف من تلقاء نفسه، ويرى "لامبير" القانوني الفرنسيّ أن العرف لم يَخْرج من العادات الشعبية، وإنَّما خرج من أحكام الكهنة والقضاة الذين كانوا يستمدُّون سلَطَتهم في القضاء من صفتهم الدينية نظرًا لاختلاط القانون بالدَّين حينئذ، ولم يتغيَّر الحال بعد ذلك، لأنَّ القضاة أصبحوا يستمدّون سلطتهم في القضاء من الدولة لا من الدين.

ويرى القانونيون في هذا العصر أن قوة العرف مستمدَّة من الضرورة الاجتماعية التي تفرضه وتحتَّم وجوده حين لا يوجد قانون مدوَّن كما في الجماعات البدائية أو حين يكون القانون المدوَّن ناقصًا كما في الجماعات الحديثة (2) .

ونحن في هذا ليس لنا غرض في مناقشة هذه النظريات والموازنة بينها، بل نرى أن القانونيين أخطأوا ليس في نظرتهم إلى مصدر قوَّة العرف فحسب، بل في نظرتهم إلى أساس قوة القانون، ففلاسفة اليونان يجعلون الحاكم أو السلطان هو صاحب الحقَّ في سنَّ القوانين، والعلماء الغربيون جعلوا ذلك حقًّا من حقوق المجالس التشريعية المسمَّاة بالبرلمان أو مجلس الأمة.

(1) كشف الخفاء ومزيل الإِلباس، للعجلوني: 2 /185.

(2)

راجع أصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 346 – 354.

ص: 2656

ونحن نرفض ذلك كلَّه ونقول: إن حقَّ التشريع لله وحده، ولا يجوز لغيره إصدار القوانين والتشريعات إلَاّ في الدائرة التي تتركها الشريعة للفقهاء والعلماء وولاة الأمر، وبذلك يظهر أن بحث القانونيين في أساس قوة العرف كبحثهم في أساس قوة القانون كلاهما على غير أساس (1) .

المبحث الرابع

العرف ليس دليلًا مستقلًّا من أدلَّة الأحكام

عندما يدقَّقُ الباحث النظر في مباحث الأصوليين والفقهاء يعلم يقينًا أن العرف ليس دليلًا مستقلاًّ من أدلَّة الفقه الإِسلامي، وقد خَلْص إلى هذه النتيجة عالمان معاصران أطالا البحث في العرف واستقصيا فيه.

يقول الشيخ أحمد أبو سنَّة في رسالة ألَّفها في هذا الموضوع: "فتمَّ بهذا أن العرف مطلقًا لا يمكن أن يجعل مقياسًا للخير، كما لا يمكن أن يتخذه الفقيه دليلًا على قواعد صالحة لتنظيم روابط الناس ما لم يؤيده أصل من أصول الفقه "(2) . ونقل الشيخ أبو سنَّة أقوال بعض الفقهاء التي قد يفهم منها أن العرف دليل بنفسه، ثم قال:"إنَّ العرف في هذه النصوص ليس دليلًا على الحقيقة، وإنَّما هو دليل ظاهر فقط، وبانضمام النظر يرى دائمًا مردودًا إلى دليل آخر من الأدلَّة الصحيحة "(3) .

وتوصَّل إلى هذه النتيجة الدكتور السيد صالح عوض في بحثه القيَّم المعنون: "بأثر العرف في التشريع الإِسلامي "، فقد جاء في خاتمة بحثه قوله:"في الحديث عن مدى اعتبار العرف في التشريع تبيّن لنا أن العرف ليس مصدرًا من مصادر التشريع، ولا دليلًا بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة مصدر أو دليل"(4) .

وقال مثل ذلك الشيخ عبد الوهاب خلَاّف، فقد جاء في بحثه عن العرف:"والعرف عند التحقيق ليس دليلًا شرعيًّا مستقلًا"(5) .

(1) راجع في هذا كتابنا: الشريعة الإلهية: ص 164.

(2)

العرف والعادة، لأحمد أبي سنَّة: ص 32.

(3)

العرف والعادة، لأحمد أبي سنَّة: ص 32.

(4)

أثر العرف، لسيد صالح عوض: ص 617.

(5)

علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف: ص 91.

ص: 2657

المبحث الخامس

الشروط التي يجب توفرها في العرف الذي يحتجُّ به

اشترط علماؤنا في العرف الذي يعتبر شرعًا عدَّة شروط:

الأول: أن لا يخالف العرف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنَّه عرف باطل.

فالعرف الذي يُحلُّ الحرام، ويحرَّم الحلال، ويناقض الشريعة لا يجوز أن يصير العباد إليه، وهو ليس من المعروف، بل من المنكر الذي تجب محاربته مثل ما اعتاده الناس من أكل الربا والتبرج ومنكرات الأفراح والمآتم وعقود المقامرة وحرمان النساء من الإِرث في بعض البلاد وأخذ الرشوة ولبس الرجال الذهب والحرير.

وقد سبق الحديث عن هذا النوع من العرف وهو الذي يسمَّيه الفقهاء بالعرف الفاسد أو العرف الباطل.

الثاني: أن يكون العرف مطّردًا أو غالبًا، ومعنى اطراده أن يكون العمل بالعرف مستمرًا في جميع الحوادث، لا يتخلف في واحدة منها، أو يكون غالبًا في أكثر الحوادث.

يقول السيوطيُّ: إنَّما تعتبر العادة إذا اطَّردت، فإن اضطربت فلا، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف (1) .

وعزا السيوطيّ إلى إمام الحرمين قوله في باب الأصول والثمار: كلُّ ما يتَّضح فيه اطراد العادة فهو المحكم، ومُضْمَرُه كالمذكور صريحًا" (2) .

وقال ابن نجيم: "إنَّما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت، ولذا قالوا في البيع: لو باع بدراهم أو دنانير وكانا في بلد اختلفت فيه النقود مع الاختلاف في المالية والرواج انصرف البيع إلى الأغلب. قال في الهداية: "لأنَّه هو المتعارف، فينصرف المطلق إليه".

ومنها لو باع التاجر في السوق شيئًا بثمن ولم يصرَّحا بحلول ولا تأجيل، وكان المتعارف فيما بينهم أن البائع يأخذ كلَّ جمعة قدرًا معلومًا انصرف إليه بلا بيان.

قالوا: لأنَّ المعروف كالمشروط" (3) .

(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 92.

(2)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 92.

(3)

الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 92.

ص: 2658

الثالث: أن يكون العرف المراد العمل به والسير وفقه موجودًا عند إنشاء التصرف. ومن هنا قال السيوطي: "العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنَّما هو المقارن السابق دون المتأخر (1) .

وقال ابن نجيم: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنَّما هو المقارن السابق دون المتأخر، ولذا قالوا: لا عبرة بالعرف الطارئ (2) .

الرابع: أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه فلو صرَّحا بخلافه فلا حكم للعرف، فإذا كان العرف جاريًا على أن يدفع المستأجر الأجرة مقدمًا في أول كلَّ شهر فاتفقا على دفع أجرة المنزل في آخر الشهر جاز.

وفي هذا يقول العزُّ بن عبد السلام: "كلُّ ما يثبت في العرف إذا صرَّح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صحَّ.

فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب لزمه ذلك، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب، وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صحَّ، ووجب الوفاء بذلك، لأنَّ تلك الأوقات إنمَّا خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشروط، فإذا صرَّح بخلاف ذلك مما يجوَّزه الشرع ويمكن الوفاء به جاز" (3) .

والباحثون في القانون الذين يفرَّقون بين العادة والعرف يشترطون في الركن المادي وهو العادة عدة شروط (4) .

وهم يوافقون الفقهاء في اشتراط كون العادة عامَّة مطردة وقديمة، ويعنون بالقديمة أن يكون مضى على نشوئها مدة طويلة تدلُّ على رسوخ أثرها في النفوس وقيام عرف مستقرًّ على أساسها، والفقهاء لم يبحثوا في قِدَم العادة، وكلُّ ما اشترطوه هو وجود العرف عند إنشاء التصرف، والشرطان مؤداهما واحد.

ويشترط الفقهاء عدم تصريح المتعاقدين بخلاف العرف، فلو صرَّحا فلا حكم للعرف، والقانونيون يرون أن العرف ملزم لا يجوز للمتعاقدين مخالفته، لأنَّه بمثابة القاعدة القانونية، ولا شكَّ أن نظر الفقهاء أدقُّ وأهدى، فإنَّ الإِلزام به إنما يكون عندما يحصل الخلاف، ولا اتفاق عندئذٍ لا يكون أمامنا إلَاّ عرف الناس المماثل للقضية المطروحة، فإذا صرَّحا بخلافه فلا شك في عدم المصير إليه.

(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 96.

(2)

الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 101.

(3)

قواعد الأحكام للعزَّ بن عبد السلام: 2 /186.

(4)

انظر هذه الشروط في كتاب أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 127؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيرة: ص 334.

ص: 2659

والفقهاء يصرَّحون ببطلان العرف الذي يخالف نصًّا من نصوص الشريعة، والقانونيون يرون بطلان العرف إذا خالف قاعدة نصَّ عليها القانون، وقد بينا الظلم الكبير الذي وقع على الشريعة بسب إِقصائها وتحكيم القوانين الوضعية في رقاب المسلمين.

واشترط القانونيين عدم مخالفة العادة للنظام العام أو لآداب المجتمع، ولا حاجة بالفقهاء للنصَّ على هذا الشرط، لأنه داخل في شرطهم الكبير، وهو عدم مخالفة العرف للشريعة، والشريعة تضمُّ الأحكام الأخلاقية والآداب الاجتماعية التي يجب الالتزام بها، كما تضمُّ الأحكام العملية، والأحكام الاعتقادية.

المبحث السادس

أقسام العرف وأمثلته

قَسَّم الفقهاء العرف إلى عرف قوليّ وعرف عمليّ من جهة، وعرف عامّ وعرف خاصّ من جهة أخرى، وأطالوا في التمثيل للمسائل التي تبنى على العرف، وسنورد في هذا البحث ثلاثة مطالب لتجلية هذه المسائل الثلاث.

المطلب الأول

العرف القولي والعرف العملي

العرف القولي أو اللفظي هو الذي يسمَّيه الأصوليون بالحقيقة العرفية، ويسمَّيه بعض الفقهاء بالعادة في اللفظ، وقد عرَّفه ابن عابدين، بقوله:"العرف القولي: هو أن يتعارف قوم إِطلاق اللفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلَاّ ذلك المعنى"(1) .

وعرَّفه القرافي بقوله: "العادة في اللفظ: أن يغلب إِطلاق لفظ أو استعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإِطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه، فهذا هو معنى العادة في اللفظ، وهو الحقيقة العرفيَّة، وهو المجاز الراجح في الأغلب، وهو معنى كلام الفقهاء أن العرف يُقَدَّم على اللغة عند التعارض، وكلُّ ما يأتي من هذه العبارات"(2) .

(1) تنبيه الرقود على أحكام النقود، لابن عابدين: ص 36. وهذا التعريف عزاه ابن عابدين، لابن أمير حاج.

(2)

الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي: ص 234.

ص: 2660

وقال فيه شيخ الإِسلام: " الحقيقة العرفيَّة: هي ما صار اللفظ دالَاّ فيها على المعنى بالعرف لا باللغة، وذلك المعنى يكون تارة أعمّ من اللغوي، وتارة أخصّ، وتارة مباينًا له.

فالأول: مثل لفظ (الرقبة) ، و (الرأس) ، كان يستعمل في العضو المخصوص، ثمَّ صار يستعمل في جميع البدن (1) .

والثاني: أن يوضع الاسم لمعنى عامّ، ثم يُخَصص عرفُ الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته، كاختصاص اسم الدابّة بذوات الأربع مع أن الوضع لكلَّ ما يدبَّ، واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام مع أن كلّ قائل ومتلفظ متكلم، كاختصاص اسم الفقيه ببعض العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عامّ. قال الله تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (2) . وقال" {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (3) .وقال عز وجل: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (4)

والثالث: أن يصير الاسم شائعًا في غير ما وضع له أولًا بل فيما هو مجاز فيه، كالغائط المطمئن من الأرض، والعذرة البناء الذي يستتر به، وتقضى الحاجة من ورائه، فصار أصل الوضع منسيًّا والمجاز معروفًا سابقًا إلى الفهم بعرف الاستعمال" (5) .

ومثَّل شيخ الإسلام للثالث بلفظ "الغائط" و "المزادة". و "الظعينة" و "الراوية". فإنَّ الغائط في اللغة هو المكان المطمئنُّ من الأرض، فلمَّا كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم سَمُّوا ما يخرج من الإِنسان باسم محله. والظعينة اسم الدابَّة، ثمَّ سَمُّوا المرأة التي تركبها باسمها، ونظائر ذلك (6) .

ومن أمثلة العرف القولي إطلاق النّاس الولد على الذكر دون الأنثى، ومع أن الشريعة تطلقه على الذكر والأنثى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (7) .

والعرف العملي ما جرى عليه عمل الناس وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم، فمن ذلك اعتياد الناس أجرة معينة لبعض الأعمال، مثل ما تعارف عليه أصحاب سيَّارات الأجرة والنقل من أجرة معيَّنة عند نقل الركاب من مكان إلى مكان، ومثل تعارف الناس على البيع بالمعاطاة من غير إِيجاب وقبول عند شراء حوائجهم من أسواقهم وحوانيتهم.

(1) مجموع الفتاوى شيخ الإِسلام: 7 /96.

(2)

سورة البقرة: الآية 31.

(3)

سورة الرحمن: الآيتان 3، و4.

(4)

سورة النساء: الآية 78.

(5)

المستصفى، للغزالي: 1 /325.

(6)

مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 7 /97. وانظر: المطلع على أبواب المقنع: ص 391.

(7)

سورة النساء: الآية 11.

ص: 2661

وتعارفهم على أن من ينقل الركاب يكتفي بالأجرة ولا يطلب قيمة ما تستهلكه السيارة من وقود وزيوت.

وتعارفهم في كثير من الصناعات على عدم دفع شيء غير الأجرة، فلا يدفعون للخياط قيمة ما يستهلكه من خيوط وإِبر، ولا يدفعون إلى القصَّار والبنَّاء قيمة ما يستهلك من أخشاب وأدوات.

ومن ذلك ما تعارف عليه أصحاب الشركات على أن العامل يستحقُّ يوم عطلة من عمله كلَّ أسبوع، كما يستحقُّ إِجازة سنويَّة لها عدد محدَّد من الأيام.

وجرت العادة في بعض البلاد على إِعادة ظرف الهدية إلى المُهْدي، وجرت العادة في بلاد أخرى على عدم ردَّها، وكلُّ قوم يتعاملون وفق عرف أهل بلادهم.

المطلب الثاني

العرف العام والعرف الخاص

ويُقْسَمُ العرف إلى عام وخاص:

فالعرف العامُّ هو الذي يكون فاشيًا في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور. ومن العرف العامَّ ما يكون عالميًّا كتعارف الناس على تسمية أيام الأسبوع، وكاتفاقهم على بداية الأشهر والسنوات، واتفاقهم على عدد أيام السنة ونحو ذلك.

ومن العرف العامَّ ما يكون شائعًا عند جميع المسلمين، كلفظ (دابُّة) ، فإن وضع هذه الكلمة بأصل اللغة كلَّ ما يدبُّ على الأرض من ذي حافر وغيره، ثمَّ هُجر الوضع الأول، وصارت في العرف حقيقة للفرس، ولكلّ ذات حافر.

ومن العرف العامَّ كلُّ ما شاع استعماله في غير موضعه اللغويّ كالغائط والعذرة والراوية، فإنَّ حقيقة الغائط المطمئنُّ من الأرض، والعذرة فناء الدار، والراوية الجمل الذي يستقى عليه الماء (1) ، وقد سبق بيان هذا.

والعرف الخاص هو الذي يختصُّ ببلد أو فئة أو طائفة من الناس، مثل عرف النحاة في إطلاق اسم الفاعل على كل اسم مرفوع تقدَّمه فعل ودلَّ على فعل الفعل، وتعارف بعض البلاد على دفع الأجرة في أول العام، وآخرون في آخر العام، ونحو ذلك.

(1) راجع شرح الكوكب المنير، لابن النجار: 1 /150.

ص: 2662

المطلب الثالث

أمثلة للعرف والعوائد الصحيحة

جاءت كثير من النصوص الشرعية في كثير من الأحكام مطلقة، وتركت الشريعة التفصيل فيها للعرف واجتهاد الفقهاء تبعًا لتغيَّر الظروف والأحوال والأماكن والأزمان.

1-

فمن ذلك تقدير النفقة الواجبة على الزوج نحو مطلقته المنصوص عليها في قوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (1) .

فهذا التقدير متروك إلى أعراف الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولم تحدّ الشريعة فيه حدًّا يُنْتَهى إِليه.

2-

ومِثْل ذلك يقال في تقدير النفقة المنصوص عليها في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .

قال العزُّ بن عبد السلام: "السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير، والغالب أن ما رُدَّ في الشرع إلى المعروف أنَّه غير مقدَّر، وأنَّه يرجع فيه إلى ما عرف الشرع أو إلى ما يتعارفه الناس (3)

3-

ومثل ذلك يقال في تقدير المسافة في السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة وجمعها، فإنَّ مناط الحكم فيهما "السفر" أما تحديد السَّفر فيختلف من زمان إلى زمان.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "عَلَّق الله ورسوله القصر والفطر بمسمَّى السفر، ولم يَحُدَّه، ولا فرَّق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدَّدة لبينه الله ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكلُّ ما يسميه أهل اللغة سفرًا فإنه يجوز فيه القصر والفطر، كما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة.

وقد أطال شيخ الإسلام في بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة، وذِكْرِ أدلتهم ومناقشتها، وإيراد الأدلة التي ترجَّح أن المرجع في تحديد السفر هو العرف (4) .

4-

وأرجع شيخ الإسلام تفسير الخُفَّ الذي جاءت الأحاديث بإِجازة المسح عليه إلى العرف، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالمسح على الخفين، ولم يقيد ذلك بكون الخفّ يثبت بنفسه أولا يثبت بنفسه، وسليمًا من الخرق والفتق أو غير سليم، فما كان يسمى خفًّا ولبسه الناس ومشوا فيه مسحوا عليه المسح الذي أذن الله فيه ورسوله، وكلُّ ما كان بمعناه مسح عليه، فليس لكونه يسمَّى خفًا معنى مؤثر، بل الحكم يتعلق بما يُلْبَس ويُمْشى فيه (5) .

(1) سورة الطلاق: الآية 7.

(2)

سورة البقرة: الآية 233.

(3)

قواعد الأحكام: 1 /71.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19 /243، 24 /40.

(5)

مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 19 /242.

ص: 2663

5-

وجعل الحقُّ – تبارك وتعالى – كفارة من حنث بيمينه إِطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم الحانث أهله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} (1) .

وألزم من قتل صيدًا وهو محرم بالتكفير عن فعله، وأحد الكفَّارات المخيَّر بينها إِطعام مساكين:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (2) .

والذي يظاهر من أهله ولا يجد رقبة يعتقها، ولا يستطيع صيام شهرين متتابعين، فيجب عليه {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (3) .

ومقدار الإِطعام الذي يكفي الفقير، ومقدار الوسط من طعام كلَّ شخص يُرْجع فيه كلَّه إلى عرف الناس في مختلف البلاد والأزمنة فقوم طعامهم الأرز، وآخرون التمر، وقوم السمك، وقوم ينوعون الطعام، وكلُّ يخرج من أوسط ما جرت عادته بأكله يقول ابن تيمية:"وكل يطعمون من أوسط ما يأكلون، كفاية غيره"(4) .

6-

اتفق أهل العلم على أن السارق لا تقطع يده إلا إذا سرق المال من حِرْزِ مثله، وأرجعوا معرفة الحرز الذي تحفظ فيه الأموال إلى عادات الناس وأعرافهم، يقول ابن قدامة:"والحرز ما عُدَّ حرزًا في العرف، فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنَّه رَدَّ ذلك إلى أهل العرف لأنَّه لا طريق إلى معرفته من جهته، فيرجع إليه". والحِرْزُ عند الناس يختلف باختلاف الأموال كما هو مشاهد معروف، فحِرْز البهائم الحظائر، وحِرْز الأقمشة البيوت والمتاجر، وحِرْز الذهب والفضة الخزائن المحفوظة في جوف الدار أو بيوت الأموال.

يقول العزّ بن عبد السلام: "حمل الودائع والأمانات على حِرْز المثل، فلا تحفظ الجواهر والذهب والفضة بإِحراز الثياب والأحطاب تنزيلًا للعرف منزلة تصريحه بحفظها في حرز مثلها"(5) .

(1) سورة المائدة: الآية 89.

(2)

سورة المائدة: الآية 95.

(3)

سورة المجادلة: الآية 4.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19 /252.

(5)

قواعد الأحكام: 2 /127.

ص: 2664

ومن الأعراف الصحيحة التي أقرتها الشريعة الإِسلامية مراعاة ما عليه أهل كلَّ بلد في ألفاظهم وموازينهم ومكاييلهم، ومن أمثلة ذلك:

1-

إذا حلف شخص فقال: "لا ركبت دابَّة، وكان في بلد عرفُهم في لفظ الدابَّة الحمار خاصة اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل.

وإن كان في عرفهم لفظ الدابَّة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار، وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب، فيُفْتَى في كلَّ بلد بحسب عرف أهله، ويُفْتَى كلُّ أحد بحسب عادته (1) .

2-

إذا حلف شخص لا اشتريت كذا، ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها، ونحو ذلك، وعادته ألا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حنث قطعًا بالإِذن والتوكيل فيه، فإنَّه نفس ما حلف عليه (2) .

3-

إذا حلف حالف: لا أكلت رأسًا في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها (3) .

4-

إذا حلف شخص بألا يأكل ميتة فأكل سمكًا فإنَّه لا يحنث كما صححه الرافعيُّ وعلله بالعرف. ولو حلف لا يأكل دمًا لا يحنث بأكل الكبد والطحال (4) .

5-

وإذا حلف إِنسان أن لا يضع قدمه في دار فلان، فدخل الدار راكبًا أو محمولًا على الأكتاف حنث، لأنَّ المعنى العرفيَّ لوضع القدم في الدار يعني الدخول فيها على أي صورة كان، وليس المراد منه مجرد وضع القدم.

6-

إذا وكَّل رجلٌ آخر في البيع، ولم يقيده بشيء فإنَّ الموكَّل يتقيد بثمن المثل وغالب نقد البلد تنزيلًا للغلبة منزلة صريح اللفظ، كأنه قال للوكيل: بع هذا بثمن مثله من نقد هذا البلد.

فإذا باع الوكيل الدار التي تساوي عشرات الألوف من الدنانير ببضعة دنانير فعند أهل العرف أن هذا لا يقبل، لأنَّ قول الموكَّل لوكيله: بع داري يجب حمله على ثمن مثلها (5) .

(1) إعلام الموقعين: 3 /64.

(2)

إعلام الموقعين: 3 /65.

(3)

إعلام الموقعين: 3 /65.

(4)

التمهيد: ص 234.

(5)

هذا المثال والأمثلة التي بعدها مستفادة من أمثلة كثيرة ذكرها العزُّ بن عبد السلام في قواعد الأحكاك: 2 /126، ولكن بشيء من التصرف والاختصار.

ص: 2665

7-

إِذا وكَّل الرجل الشريف الفاضل الغنيُّ شخصًا بتزويج ابنته، فزوَّجها من فاسق مشوَّه الخَلْق على نصف درهم، فإنَّ أهل العرف يقطعون بعدم الجواز، لأنَّ الإِذن المطلق في مثل هذا يحمل على الكفء ومهر المثل.

8-

إذا وكَّل غيره في إجارة داره سنة، وأَجرة مثلها ألف، فأجَّرها بنصف دينار لا يصحّ، لأنَّ العرف يلزم بتأجيرها بأجرة المثل.

9-

إذا طلب شخص من صانع أن يصنع له شيئًا، فإنَّه يجب أن يصنع هذا الشيء على النحو المتعارف عليه، فإن صنع الخياط الثوب على طريقة مخالفة لثياب أهل البلد أو خاط الثوب بخيوط رديئة لم تجرِِ العادة أن يخاط بها فلا يقبل منه.

10-

استحقاق الصنّاع الأجرة التي جرت العادة بها إذا لم يتفق معهم من عملوا له على أجرة معينة كالحلَاّق والنجَّار والحمَّال والقصَّار.

11-

جواز دخول الحمامات والفنادق التي جرت العادة بدخولها من غير إذن، إقامةً للعرف المَّطرد مقام الإِذن الصريح ولا يجوز لداخل الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، وكذلك لا يجوز له أن يستعمل من الماء أكثر مما جرت العادة باستعماله.

12-

إذا باع دارًا فيدخل في المبيع الأبنية والأشجار التابعة لها بناء على أن هذا عرف الناس في بيوعهم.

13-

إذا باع سيارة فإنَّه يدخل في البيع الإِطار الاحتياطي، وعدة إصلاحها والرافعة التي ترفع بها عند تبديل الإِطار لجريان العرف بذلك.

ص: 2666

الفصل الثالث

تغير الأحكام والفتاوى بتغير العرف والعوائد

المبحث الأول

وجوب تَغَيُّر الأحكام والفتاوى بتغيُّر العرف والعوائد

بنى كثر من أهل العلم الأحكام التي أصدروها في عصرهم على العوائد والأعراف التي كانت سائدة في تلك العصور، فإذا تغيَّرت تلك العوائد، وصارت العوائد تدلُّ على ضدَّ ما كانت عليه أولًا، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء؟ ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجدَّدة؟ أو يقال: نحن مقلَّدون، وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟

أورد هذا السؤال القرافي في كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام"(1) . ثمَّ أجاب عنه قائلًا: "إنَّ إِجراء الأحكام التي مُدْرَكُها العوائد، مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإِجماع، وجهالة في الدَّين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغيّر فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة"(2) .

وذكر القرافي في ردَّه: "أنَّ الفقهاء أجمعوا على أن المعاملات إذا أُطْلِق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معيَّنًا حملنا الإِطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عَيَّنا ما انتقلت العادة إليه، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه.

وكذلك الإِطلاق في الوصايا والأيمان وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيَّرت العادة تغيَّرت الأحكام في تلك الأبواب، وكذلك الدعاوى إذا كان القول قول من ادَّعى شيئًا لأنَّه عادة، ثم تغيَّرت العادة لم يبقَ القول قول مُدَّعيه، بل انعكس الحال فيه (3) .

(1) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231.

(2)

الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231.

(3)

الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231.

ص: 2667

ويرى القرافي أنَّه لا يشترط تغيّر العادة في البدل الواحد، بل إذا انتقل العالم من بلد إلى أخرى وجب عليه مراعاة البلد الذي انتقل إليه، وفي هذا يقول:"ولا يشترط تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنَّا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم، ولو تعتبر عادة البلد الذي كنا فيه، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادَّة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلَاّ بعادة بلده دون عادة بلدنا "(1) .

ومَثَّل لهذه الأحكام المتغيَّرة بما رُوِىِ عن الإِمام مالك – رحمه الله تعالى – أنَّه إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض.

قال القاضي إِسماعيل: "هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد"(2) .

ومن الذين تعرَّضوا لهذه المسألة ابن القيم – رحمه الله تعالى – فإنَّه عقد في كتابه "إعلام الموقَّعين" فصلًا كبيرًا لتغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيَّات والعوائد.

وقرَّر في هذا الفصل أن الجمود على الأحكام التي أصدرها أهل العلم في الماضي وفقًا للعرف والعادة السائدة في أيامهم أوقع الناس في الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، كما نسب إلى الشريعة الإِسلامية المباركة السمحة الظلم والقسوة، وكلُّ هذا بسبب الجمود على الأحكام مع تغيَّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وفي هذا يقول:"هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به"(3) .

ثم استطرد لبيان خصائص الشريعة الإِسلامية، وكيف أن الجمود الذي أشار إليه أفقد هذه الشريعة خصائصها، استمع إليه يقول: "إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلُّها، ورحمة كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلُّها. فكلُّ مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإِن أدْخِلت فيها بالتأويل.

(1) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 233.

(2)

الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 233.

(3)

أعلام الموقعين: 3 /5.

ص: 2668

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسول صلى الله عليه وسلم أتمُّ دلالة وأصدقها. وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي اهتدى المهتدون به، وشفاؤه التام الذي به دواء كلَّ عليل، وطريقة المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذَّة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكلُّ خير في الوجود فإنَّما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكلُّ نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا، وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطيَّ العالم رَفَع الله ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدَّنيا والآخرة (1) .

وإنِّما أطال الشيخ رحمه الله في بيان خصائص الشريعة ليبيَّن عظم جناية الذين جمدوا على الأحكام التي أصدرها الفقهاء السابقون مع تغيّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وقد أطال الشيخ في شرح ذلك كله وضرب له الأمثلة.

وطالب الشيخ ابن القيم الجوزية – رحمه الله تعالى – المفتي والعالم بمراعاة العرف دائمًا اعتبارًا وإسقاطًا، وحذَّر من الجمود على المنقول في الكتب، ودعا إلى التعرف على عرف السائلين، وعوائد الذين يُفْتَى لهم في الدين، وفي هذا يقول: مهما تجدَّد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك (2) .

وعقَّب على هذا قائلًا: "فهذا هو الحقُّ الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين"(3) .

وهاجم الشيخ بقوة أولئك الذين يفتون الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم (4) .

ومن فعل ذلك فقد ضلَّ وأضلَّ وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّبَ الناس كلَّهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتب الطبّ على أبدانهم.

(1) إعلام الموقعين: 3 /5.

(2)

أعلام الموقعين: 3 /99.

(3)

إعلام الموقعين: 3 /99.

(4)

إعلام الموقعين: 3 /100.

ص: 2669

بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل، أضرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم (1) .

وألَّّف ابن عابدين – رحمه الله تعالى – رسالة في العرف صرح فيها مرارًا بوجوب مراعاة عرف الناس وعوائدهم من قبل المفتين والفقهاء والحكام، ولام الذين جمدوا على الأحكام التي أصدرها سلفهم إذا كانت مبنية على عوائد زالت وعرف تغير.

وأنا أنقل في هذا المبحث بعض نصوص كلامه:

قال رحمه الله تعالى: "قال في القنية": ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف، ونقل المسألة عنه في "خزانة الروايات" كما ذكره البيرمي في "شرح الأشباه"(2) .

وقال: "ليس للمفتي الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وألاّ يُضيَّع حقوقًا كثيرة، ويكون ضرره أعظم من نفعه"(3) .

وقال: "النقول ونحوها دالّة على اعتبار العرف الخاص، وإن خالف المنصوص عليه في كتب المذهب ما لم يخالف النصَّ الشرعيَّ"(4) .

وقال: "العرف يَثْبُتُ على أهله عامًّا أو خاصًَّا، فالعرف العامُّ في سائر البلاد يَثْبُتُ حكمه على أهل سائر البلاد، والخاصُّ في بلدة واحدة يَثْبُتُ حكمه على تلك البلدة فقط"(5) .

وقال أيضًا: "المفتي لا بدَّ له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس"(6) .

وقال: "من لم يكن عالمًا بأهل زمانه فهو جاهل"(7) .

وقال: "اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة لم يخالفون إلَاّ لتغيّر الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه"(8) .

ونقل عن بعض علماء الحنفية قوله: من لم يكن عالمًا بأهل زمانه فهو جاهل" (9) .

(1) إعلام الموقعين: 3 /100.

(2)

نشر العرف) مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2/ 113.

(3)

نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /129.

(4)

نشر العرف) مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /131.

(5)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /130.

(6)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /127.

(7)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128.

(8)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /126.

(9)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128.

ص: 2670

وقال: "كثير من المسائل الفقهية الثابتة بضرب اجتهاد ورأي يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا، ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقَّة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتمَّ نظام وأحسن إِحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه "(1) .

ويذكر ابن عابدين أن الإِمام صاحب أبي حنيفة كان يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملتهم وما يديرونه فيما بينهم (2) .

وأحبُّ أن أختم هذه النقول القيَّمة من كلام ابن عابدين بهذا النقل الذي يبين أهمية معرفة الحكام والمفتين بأعراف الناس وعاداتهم، يقول رحمه الله في ذلك: "قال بعض العلماء المحقَّقين: لا بدَّ للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلَّية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحقَّ والمبطل، ثمَّ يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالف الواقع.

والمفتي الذي يفتي بالعرف لا بدَّ له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاصٌّ أو عامٌّ، وأنه مخالف للنصَّ أولًا، ولا بدَّ له من التخرُّج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل، فإنَّ المجتهد لا بدَّ له من معرفة عادات الناس، فكذا المفتي، ولذا قال في آخر "منية المفتي": لو أن رجلًا حفظ جميع كتب أصحابنا لا بدَّ أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها، لأنَّ كثيرًا من المسائل يجاب عنها على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة" (3) .

المبحث الثانى

أسباب تغيّر العرف

العادات التي تختلف أحكامها هي العوائد المتغيَّرة المتبدَّلة التي لم يرد دليل شرعي بإثباتها أو نفيها، لأنَّ الشارع ليس له غرض في إِجرائها على سَنَن معيَّن، فكيفما وقعت فإنَّ غرض الشارع يتحقق بهذا الوقوع. وتغيّر العرف والعوائد يعود إلى أمور كثيرة منها:

(1) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /123.

(2)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128.

(3)

نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /127.

ص: 2671

1-

اختلاف الناس في منازعهم ومشاربهم وأمزجتهم، وهذا الاختلاف سَيُحْدِثُ حتمًا اختلاف الناس في الأحكام والتصرفات، ولذا فقد يُقبَّحُ بعضُ الناس فعلًا يراه الآخرون حسنًا وجميلًا، وقد يحسَّنون فعلًا يراه غيرهم قبيحًا، فمن ذلك غطاء الرأس يراه كثير من المسلمين من لوازم المروءة، وتركه يخلُّ بها، بينما يرى آخرون كشف الرأس حسنًا لا بأس فيه (1) ، وجرت العادة في بعض ديار المسلمين أن يَدْخُل الزوج على زوجه في بيت والدها، وفي ديار أخرى يرون هذا قبيحًا.

2-

اختلاف طبيعة الأرض والمناخ، فالبلاد تختلف وعورة وسهولة وبرودة وحرارة، ولهذا الاختلاف أثر كبير في اختلاف عادات الناس في لباسهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم.

3-

اختلافٌ خارج عن إِرادة المكلَّفين كاختلاف الناس في سِنَّ البلوغ واختلاف النساء في: سِنَّ الحيض، ومقدار الحيض والنفاس، ومقدار الطهر بين الحيضتين، واختلافهنَّ في السنَّ الذي يكون فيه اليأس من المحيض.

4-

تأثير الحكّام والمفكَّرين والعلماء في أممهم، فكثير من الأعراف والعوائد تتغيَّر بسبب ما يصدرونه من قوانين وتوجيهات، واعتبر بهذا بحال المسلمين في واقعهم المعاصر، فإنَّ كثيرًا من العادات في اللباس والتصرفات تغيَّرت تغيرًا كلَّيًّا بسبب ما صدر من قوانين، وبسب الآراء والنظريات التي ناقشت ما كان عليه الناس في عرفهم وعوائدهم.

5-

اختلاط الناس بعضهم ببعض، وتسلط بعضهم على بعض، فالناس يتأثر بعضهم ببعض، ويأخذ بعضهم عادات بعض، وخاصة في حال غلبة قوم على قوم، وقبيل على قبيل، فإنَّ المغلوب يتشرب عادات الوافد الغالب، ويترك عادته، ومن نظر في حال المسلمين اليوم علم إلى أي مدى أثَّر فينا الكفار الذين احتلوا ديارنا وتقلَّدوا أمورنا.

6-

اختلاف الناس في التعبير عن مقاصدهم، ومن هنا اختلفت اللغات، فالشيء الواحد له في كلَّ أمَّة اسم يخصُّه غير الاسم الذي تطلقه عليه بقية الأمم، وقد تتفق الألفاظ عند الأمم، ولكنْ تختلف في المعاني المرادة بتلك الألفاظ، وفي الأمة الواحدة ذات اللغة الواحدة تختلف المعاني المرادة من ألفاظ بعينها، فطائفة تطلقه على معنى، وأخرى تطلقه على معنى مغاير، ويكثر هذا عند أرباب الصنائع، والشارع يُمْضي ألفاظ الناس على المعاني التي يقصدونها في أيمانهم وبيعهم وشرائهم وزواجهم وطلاقهم وعقودهم.

(1) انظر الموافقات: 2 /209.

ص: 2672

المبحث الثالث

أمثلة لأحكام نصَّ الفقهاء

على تغيُّر الحكم لتغير عادة الناس فيها

قال القرافي: "سأسرد أحكامًا نصَّ الأصحاب على أن المُدْرَكَ فيها العادة، وأنَّ مستند الفتيا بها إنَّما هو العادة والواقع اليوم خلافه، فيتعيَّن الحكم على ما تقتضيه العادة المتجدَّدة.

الحكم الأول: بعض ألفاظ المرابحة، وهو قول البائع: بعتك بوضيعة العشر أحد عشر، أو بوضيعة العشرة عشرين.

قال الأصحاب: هذا اللفظ يقتضي عادة أن يُأْخَذَ لكلَّ عشرة عشرة، ويحطُّ نصف الثمن في اللفظ الآخر، ويُلْزِمون ذلك المتعاقدين من الجانبين بمجرد هذا اللفظ لأنَّه عادة " (1) .

قال القرافي بعد سياقه لهذا المثال: "وهذه عادة قد بطلت، ولم يبق هذا اللفظ يفهم منه اليوم هذا المعنى ألبتة، بل أكثر الفقهاء، لا يفهمه فضلًا عن العامة، لأنَّه لا عادة فيه، ولا يُفْهَمُ منه ثمنٌ معيَّن باعتبار اللغة أيضًا.

فينبغي إِذا وقع هذا العقد بين العامة في المعاملات أن يكون العقد باطلًا، فإِنَّه ليس عادتهم استعماله ألبته، لأنَّا طوال عمرنا لم نسمعه إلَاّ في كتب الفقه، أمَّا في المعاملات فلا، وإِِذا لم يكن الثمن معلومًا بالعادة ولا باللغة كان العقد باطلًا (2) .

الحكم الثاني: في المرابحة إِذا قال: بعتك بما قامت علي. قالوا: يصحُّ البيع، ويكون للبائع مع الثمن ما بذله من أجرة القِصَارة والكِمَادة (3) ، والطرازة والخياطة والصبغ ونحو ذلك مما له عين قائمة، ويستحقُّ له حصته من الربح إن سمَّى لكلَّ عشرة ربحًا.

وما ليس له عين قائمة إلَاّ أنَّه يؤثر في السوق زيادة رغبة فيه وتنمية للثمن فإنَّه يستحقُّه، ولا يستحقُّ له حصة من الربح، نحو كراء الحمولات في النَّقل للبلدان ونحوه، وما لا يؤثر في السوق فلا يستحقُّه، ولا يكون له ربح، كأجرة الطيّ والشدّ، وكراء البيت، ونفقة البائع على نفسه.

قال القرافي معقَِّبًا على هذه المسألة: "وهذا التفصيل لا يفيده قوله: بما قامت على لغة، بل يصحُّ هذا البيع بهذه العبارة إِذا كان هذا اللفظ يقتضيه عادة، فيصير الثمن معلومًا، فيصحُّ البيع، أما اليوم فلا يفهم هذا في العادة، ولا يتعامل الناس في أسواقهم بهذه العبارة، فلا عادة حينئذٍ، فهذا الثمن مجهول، فلا يُفْتى بما في الكتب من صحته وتفاصيله لانتقال العادة"(4) .

(1) الإِحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام، للقرافي: ص 234.

(2)

الإِحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام، للقرافي:2/ 235.

(3)

الكمادة: دقُّ الثوب.

(4)

الكمادة: دقُّ الثوب: 2 /236.

ص: 2673

الحكم الثالث: "ما وقع في (المدونة) إذا قال لامرأته: أنت علي حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتك لأهلك، يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها، ولا تنفعه النيَّة أنَّه أراد أقلّ من الثلاث".

قال القرافي في هذا المثال: "وهذا بناء على أن هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة، واشتهر في العدد الذي هو الثلاث، وأنَّه اشتهر في الإِنشاء المعيَّن، وانتقل عما هو عليه من الإِخبار عن أنَّها حرام، لأنَّه لو بقي على ما يدلُّ عليه لغة لكان كذبًا بالضرورة، لأنَّها حلال له إِجماعًا، فالإِخبار عنها بأنَّها حرام كذب بالضرورة.

وليس مدلول هذا اللفظ لغة إلَاّ الإِخبار عن أنَّها مُحَرَّمة عليه، وأنَّ التحريم قد دخل في الوجود قبل نطقه بهذه الصيغة، وهذا كذب قطعًا، فلا بدَّ حينئذ أن يقال: إِنَّها انتقلت في العرف لثلاثة أمور: إِزالة العصمة، والعدد الثلاث، والإِنشاء، فإنَّ ألفاظ الطلاق إن لم تكن إنشاء أو يراد بها الإِنشاء لا تزيل عصمة ألبتَّةَ.

وملاحظة هذه القاعدة هي سبب الخلاف بين الخلف والسلف في هذه المسألة".

وبعد سياق القرافي لهذا المثال قرَّر "أنَّ الناس في عصره لا يستعملون الصيغ المتقدمة فيما كانت تستعمل في الماضي، وأنَّه تمضي الأعمار ولا يُسْمع أحدٌ يقول لامرأته إِذا أراد طلاقها: أنت خَلِيَّةٌ، ولا وهبتك لأهلك، ولا يَسْمَعُ أحدٌ أحدًا يستعمل هذه الألفاظ في إزالة عصمة ولا في عدد طلاقات، فالعرف حينئذٍ في هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قرَّرها مالك في (المدونَّة) بالضرورة. ولا يَدَّعي أنَّها مدلول اللفظ لغة إلَاّ من لا يَدْري اللغة، وإذا لم تفِ هذه الألفاظ هذه المعاني لغة ولا عرفًا ولا نيَّة ولا بساطًا فهذه الأحكام حينئذ بلا سند والفتيا بغير مستند باطلة إِجماعًا وحرام على قائلها ومعتقدها.

نعم، لفظ الحرام في عرفنا اليوم لإِزالة العصمة خاصة دون عدد، وهي مشتهرة في ذلك بخلاف ما ذُكِر معها من الألفاظ، ومقتضى هذا أن يُفْتَى بطلقة رجعية ليس إلَاّّ" (1) .

وأفتى متأخرو الحنفية في مسائل كثيرة بخلاف ما أفتى فيه سلفهم بسبب تغيّر العرف، فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، لانقطاع عطايا المعلَّمين التي كانت في الصدر الأول.

(1) الكمادة: دقُّ الثوب: ص 237.

ص: 2674

ولو اشتغل المعلَّمون بالتعليم بالأجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم، وكذا على الإِمامة، والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه، كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك (1) .

ومن ذلك قول الإِمامين بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نصَّ عليه أبو حنيفة بناءً على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنَّه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريَّة، وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب، وقد نصَّ العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر لا اختلاف حُجَّةٍ وبرهان.

ومن ذلك تحقق الإِكراه من غير السلطان مع مخالفة قول الإِمام بناء على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإِكراه، ثم كثر الفساد، فصار يتحقق الإِكراه من غيره، فقال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون.

ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب في أن الضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسدين.

ومن ذلك مسائل كثيرة: كتضمين الأجير المشترك، وقولهم: أن الوصيَّ له المضاربة بمال اليتيم في زماننا، وإفتائهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف، وبعدم إِجارته أكثر من سنة في الدور، وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي، مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدَّة.

ومن ذلك منع النساء عما كنَّ عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حضور المساجد لصلاة الجماعة.

وإفتائهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن أوفاها المعجَّل لفساد الزمان (2) .

د. عمر سليمان الأشقر

(1) نَشْر العرف لابن عابدين (انظر مجموعة رسائله) : 2 /123. وفي جعل هذه المسألة من اختلاف العرف نظر عندي، لأنَّ التحريم الذي قال به المتقدَّمون ليس مبنيًّا على العرف، بل على نصوص كثيرة دلَّت على هذا من الكتاب والسنَّة، والذين جَوَّزوا أخذ الأجرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إنَّما جوزوه لأدلَّةٍ صحَّت عندهم، فلا يجوز أن يقال: إن العرف تغيَّر في هذه المسألة، وليست هذه المسألة من المسائل المبنيَّة على العرف، والأصحُّ أن يقال: إن تغيُّر الحكم فيها تغير اجتهاد.

(2)

نَشْر العرف لابن عابدين (انظر مجموعة رسائله) : 2 /123. وفي جعل هذه المسألة من اختلاف العرف نظر عندي، لأنَّ التحريم الذي قال به المتقدَّمون ليس مبنيًّا على العرف، بل على نصوص كثيرة دلَّت على هذا من الكتاب والسنَّة، والذين جَوَّزوا أخذ الأجرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إنَّما جوزوه لأدلَّةٍ صحَّت عندهم، فلا يجوز أن يقال: إن العرف تغيَّر في هذه المسألة، وليست هذه المسألة من المسائل المبنيَّة على العرف، والأصحُّ أن يقال: إن تغيُّر الحكم فيها تغير اجتهاد: 2/124. وقد ذكر مسائل كثيرة غير المسائل التي نقلناها عنه، وفي أثناء بعض هذه المسائل على العرف نظر.

ص: 2675

المراجع

مُرتبة على حروف المعجم

1-

أثر العرف في التشريع الإِسلامي، للدكتور السيد صالح عوض، طبعة دار الاتحاد الجامعي مصر.

2-

الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، مكتب المطبوعات الإِسلامية، حلب، سوريا، 1387 هـ - 1967 م.

3-

الأشباه والنظائر، لابن نجيم، مؤسسة الحلبي وشركاه، 1387 هـ - 1968 م.

4-

الأشباه والنظائر، للسيوطي، مكتب ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1378 هـ - 1959 م.

5-

أصول القانون، للدكتور حسن كيره، دار المعارف، مصر، الثانية 1959م.

6-

أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1965م.

7-

أعلام الموقعين، لابن القيم، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1389 هـ - 1969م.

8-

بصائر ذوي التمييز، للفيروزآبادي، نشره المجلس الأعلى للشؤون الإِسلامية، القاهرة، 1393 هـ - 1973 م.

9-

تاريخ الفقه الإِسلامي، للمؤلف، مكتبة الفلاح، الكويت، الأولى 1402 هـ - 1982م.

10-

التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للأسنوي، تحقيق وتعليق الدكتور محمد حسن هيتو، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1401 هـ - 1981م.

11-

تهذيب اللغة، لأحمد الأزهري: الدار المصريَّة للتأليف، القاهرة.

12-

شرح رسالة تنبيه الرقود على أحكام النقود، لابن عابدين، لمحمد سلامة جبر، مطابع القبض التجارية، الكويت.

13-

شرح الكوكب المنير، لابن النجار الحنبلي، مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز، جدة 1400 هـ - 1980م.

14-

الشريعة الإِلهية، للمؤلف، دار الدعوة، الكويت، الثانية 1406 هـ - 1986 م.

15-

صحيح البخاري، اعتمدت على متن فتح الباري، طبعة المكتبة السلفية، القاهرة، الأولى 1380 هـ.

ص: 2676

16-

العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنَّة، مطبعة الأزهر، القاهرة.

17-

علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، التاسعة 1390 هـ-1970م.

18-

فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة المكتبة السلفية، القاهرة، الأولى 1380 هـ.

19-

القانون الدستوري، للدكتور سعد العصفور، دار المعارف، مصر، الأولى 1954م.

20-

القانون المدني: مجموعة الأعمال التحضيرية، دار الكتاب العربي، القاهرة.

21-

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعزَّ بن عبد السلام، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1388 هـ - 1968 م.

22-

كشف الخفا ومزيل الإِلباس عمَّا يدور من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثالثة 1352 هـ.

23-

لسان العرب، لابن منظور، ترتيب يوسف خياط ونديم مرعشلي، طبعة دار لسان العرب، بيروت.

24-

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، نشر حكومة السعودية، الطبعة الأولى.

25-

المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى أحمد الزرقا، مطبعة جامعة دمشق، الطبعة السابعة 1383 هـ - 1963 م.

26-

المستصفى، للغزالي، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر 1322 هـ

27-

معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، طبعة الحلبي، القاهرة.

28-

المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.

29-

المنثور في القواعد، للزركشي، نشر وزارة الأوقاف، الكويت، الأولى 1402 هـ - 1982م.

30-

الموافقات، للشاطبي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، القاهرة.

31-

نشر العرف، لابن عابدين، منشور في مجموعة رسائل ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

32-

نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز خيَّاط، مكتب الأقصى، عمان 1397 هـ-1977م.

33-

النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، المكتبة العلمية، بيروت.

ص: 2677