الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحديد النسل وتنظيمه
إعداد
الدكتور مصطفى كمال التارزي
أستاذ بالجامعة الزيتونية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن مسألة تنظيم النسل أو تحديده قضية إنسانية شغلت الناس وخصوصا المفكرين قديما وحديثا، وكانت موضع خلاف بينهم شأنها شأن كل قضية يتغير الحكم فيها بما يكتنفها من اعتبارات وما يرجح في نظر الباحث من مصلحة أو مفسدة، قد يوجبها وضع ما، أو اعتبار معين.
وتنظيم النسل أو ضبط النسل أو تحديد النسل أو التحكم في النسل أو تنظيم الولادية عبارات حديثة، حلت محل كلمة العزل المعروفة عند العرب وعند الفقهاء خاصة في القديم، وهي كلها تتعلق بمعنى واحد وتؤول إلى نتيجة واحدة هي تحديد النسل، وإنما استبدلوا أخيرا كلمة التحديد بالتنظيم ليخففوا من وقع معنى التحديد في نفوس الذين رفضوا التحكم في عملية الإنجاب.
وسواء قلنا التحديد أو التنظيم، فالسؤال المطروح هو: هل يجوز منع الحمل في حالات خاصة كالمرض؟ وهل يجوز منعه في حالات عامة كما إذا عجزت موارد الدولة عن ضمان ضروريات الشعب أمام تزايد عدد السكان؟
إن الشريعة الإسلامية التي قامت على رفع الحرج والتيسير وجلب المصالح ودرء المفاسد، هي أجدر الشرائع تفهما لهذه المشاكل الاجتماعية، وإيجاد الحلول التي تتحقق بها المصلحة وتبعد عن المجتمع ما يوقعه في الحرج والمفسدة.
ويستطيع الباحث أن يجد في بطون الكتب الفقهية القديمة منها والحديثة مادة غزيرة واسعة حول هذه المسألة، سواء فيما يتعلق بالحالات الخاصة أو الحالات العامة.
لقد دعا الإسلام إلى النكاح وحث عليه واعتبره طريقا لتحصيل العفة مع تحقيق النسل وبقاء النوع البشري.
والمتأمل في كتاب الله عز وجل يدرك من سياق الآيات التي يقترن فيها ذكر الزواج بالنسل صراحة أو كناية أن النسل هدف من أهداف الحياة الزوجية، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية حرصت على المحافظة عليه.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2) .
(1) سورة الفرقان الآية 54
(2)
سورة النساء الآية 1
فهذه الآيات مقترن فيها ذكر الزواج بالنسل، صراحة أو كناية وهذا يوحي بأن النسل كما قلنا غرض أساسي، والاستكثار منه من مقاصد الشريعة.
ومما يؤكد هذا المعنى ويدعو لكثرة النسل أيضا ما روي عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم - وقيل: الأنبياء - يوم القيامة)) (1) .
وما روي عن معقل بن يسار، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال " لا ". ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ")) (2) . كما رويت أحاديث كثيرة بينت أن المقصد الأول من الزواج هو النسل.
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد)) . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((النساء تنكح للولد)) .
وبهذا نعلم أن الإكثار من النسل مطلوب في ذاته ويتماشى مع الفطرة السليمة والطبيعة الإنسانية، ومنع النسل أو تحديده بدون ضرورة ماسة وقوف أمام الفطرة، والإسلام دين الفطرة كما قال تعالى في كتابه العزيز:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
فهل لأحد فردا كان أو جماعة أن يقف أمام هذه السنة الحياتية؟
يظهر أن موضوع معرفة حكم الله في العزل أو تنظيم النسل مرتبط ارتباطا كبيرا بمعرفة من له حق الولد عند فقهاء الشريعة الإسلامية ولهم في ذلك أقوال ثلاثة:
(1) مسند الإمام أحمد
(2)
أبو داود والنسائي
(3)
سورة الروم الآية 30
القول الأول: يرى أن الولد حق للوالد وحده فهو الذي يختار الإنجاب أو عدمه وبموجب هذا الاختيار يكون امتناعه عن إنجاب الولد مباحا لا كراهة فيه؛ لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص ولا نص في الموضوع فترك التلقيح بعد المخالطة مباح ليس فيه إلا مخالفة الأفضل.
ومن القائلين بهذا الرأي الإمام الغزالي ولذلك فهو لا يتقيد بضرر موجب للعزل؛ لأن بواعث العزل كلها مباحة ما لم يكن منصوصا على كراهته كالخوف من ولادة الإناث فإنه مكروه بالنص. ومثل الغزالي لبواعث العزل المباحة:
1 -
باستبقاء جمال المرأة ونضرتها.
2 -
الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد.
القول الثاني: يرى أن الولد حق للزوج والزوجة وهو مذهب الحنفية الذي يقرر أن العزل مباح بشرط أن تأذن فيه الزوجة؛ لأن الإنزال في داخل الفرج من حقها فهما يشتركان في حق الولد.
قال المرغياني صاحب كتاب الهداية (1) : (ويشترط في العزل عن الزوجة الحرة إذنها إذ العزل ينقص من حقها كما أن تحصيل الولد من حقها) .
وقال ابن عابدين (2) . في حاشية رد المحتار (ويعزل عن الحرة بإذنها) .
قال الكمال بن الهمام: إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها، ويقول الكاساني في البدائع (3) :(ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير رضاها؛ لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد ولها في الولد حق وبالعزل يفوت الولد فكان سببا لفوات حقها. وإن كان العزل برضاها لا يكره؛ لأنها رضيت بفوات حقها) .
وجاء في كتاب منتهى الإرادات لابن النجار الحنبلي (4) . (ويحرم وطء في حيض وكذا عزل بلا إذن حرة فالتحريم منصب على حالة العزل دون رضاء الزوجة) .
وينص الدسوقي في حاشيته على الدردير، وهو مالكي، على جواز العزل ليمنع الحمل واشترطوا إذن الزوجة بذلك صغيرة كانت أو كبيرة.
(1) الهداية ج 2 ص 494
(2)
ابن عابدين الجزء الثاني صفحة 379
(3)
بدائع الصنائع ج 2 ص 334
(4)
الجزء الثاني ص 227، 228
القول الثالث: هو رأي جمهور من العلماء يرى أن منع الولد مكروه كراهة تحريم لحق الأمة فيه ولحق الزوجين إذ العزل يخالف المصلحة العامة وهي حفظ النسل الذي هو أحد الضروريات الخمسة التي قام عليها التشريع الإسلامي، كما يعارض رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى استكثار النسل في قوله ((تناكحوا تناسلوا تكثروا)) .
ولهذا قال ابن قدامة (1) . في المغني: والعزل مكروه رويت كراهته عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وروي ذلك عن أبي بكر الصديق أيضا؛ لأن فيه تقليل النسل وقطع اللذة عن الموطوءة.
ثم قال في الشرح الكبير (2) . (ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها) . قال القاضي (ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل ويحتمل أن يكون مستحبا؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال، والأول أولى لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)(3) .
ومعنى هذا أنه إن أجيز للزوج العزل فإن عليه أن لا يتعسف باستعمال هذا الحق بالتعدي على حقوق الغير.
فمنعهم ليس لذات العزل وإنما هو مراعاة لحق الغير لأن استكمال لذتها لا يتم إلا بالإنزال في الرحم.
(1) المغني الجزء الثامن ص 132
(2)
الشرح الكبير الجزء الثامن ص 133
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجه
1 -
وسائل منع الحمل:
يبدو أنه لا خلاف بين العلماء في إباحة إيقاف الحمل إذا كان هناك موجب شرعي يقتضيه بطريقة من الطرق المعروفة سابقا:
1 -
بالعزل: وهي الطريقة البسيطة التي اتخذها القدماء للحيلولة دون الحمل أو دون تكوين الجنين أو دون التقاء الحيوان المنوي للرجل ببويضة الأنثى، ولا زال العزل شائع الاستعمال بين مختلف الأوساط الاجتماعية في الدول النامية والدول الصناعية على حد سواء.
2 -
أو بالوسائل الحديثة: كتناول الحبوب ضد الحمل أو استعمال آلة لمنعه.
3 -
أو بتوقيف المعاشرة الجنسية أياما معينة من الشهر: بحيث يقع في أول الدورة وآخرها وبتجنب وسطها الذي تخرج فيه البويضة، والذي يقع عادة في اليوم الرابع عشر قبل بدء الحيض وما دامت طريقة العزل مباحة شرعا عند الحاجة إليها لدى غالب العلماء فكل طريقة تماثلها تأخذ حكمها بشرط أن لا يكون المراد الإجهاض أو إسقاط الجنين وألا يكون فيها ضرر للمرأة أو الرجل أو الجنين.
4 -
أو الرضاعة: وللإرضاع تأثير مؤقت على الحمل وخاصة في فترته المبكرة وهي طريقة طبيعية ومعروفة من القدم ولكن لا يعول على هذه الطريقة بشكل أكيد؛ لأن فاعلية منع الحمل فيها تختلف من امرأة إلى أخرى.
ولذا فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن وطء المرضع، وسماه وطء الغيلة؛ لأن المرأة إذا حملت في هذه المدة تغير لبنها، فإذا رضع الصغير منه ربما يلحقه ضرر آجل أو عاجل، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده (1) . قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة من فوق فرسه)) .
ثم أباح الرسول صلى الله عليه وسلم وطء المرضع عندما رأى أنه مستعمل عند الأمم بدون ضرر فعال فيها. روى أسامة بن زيد (2) . أن رجلا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((" لم تفعل ذلك؟ " فقال: أشفق على ولدها، فقال الرسول: " لو كان ذلك ضارا لضر فارس والروم ")) .
(1) أخرجه أحمد في مسنده جزء 6 ص 453
(2)
صحيح مسلم، كتاب النكاح باب جواز الغيلة
وقد استطاع ابن القيم (1) . أن يجمع بين الحديثين بأن النهي عن ضعف المولود أقل خطرا من الإمساك عن وطء النساء مدة الرضاع، ولا سيما الشباب وأصحاب الشهوة، لذلك رأى رسول الله أن دفع المفسدة الأعظم أهم من درء المفسدة الأصغر ولهذا أباح وطء المرضعة بعد أن نهى عنه.
وقد تعرض الفقهاء في القديم إلى عدة وسائل أخرى غير العزل كانت تستعملها النساء فقد قال الونشريسي (2) . في المعيار: وقد أجازوا أيضا أن تجعل المرأة وقاية في رحمها تمنع من وصول الماء للوالدة.
وذكر ابن عابدين في حاشيته (3) . أنه كما جاز للرجل أن يعزل بإذن زوجته فلها أن تسد فم رحمها كما تفعله النساء في ذلك الزمان، وبذلك نعلم أن الوقاية من الحمل عند المسلمين لم تكن خاصة في الماضى بالرجل، بل كانت من جانبي الرجل والمرأة على السواء، وإذا كان من المقرر أن الرجل لا يعزل إلا بإذن زوجته قالوا فقياسا على هذا: إن المرأة لا تعزل إلا بإذن زوجها.
ونقل الرملي في نهاية المحتاج (4) . عن الزركشي: هذا كله في استعمال الدواء بعد الإنزال فأما استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني حالة الجماع مثلا فلا مانع منه.
وموضوع وسائل منع الحمل طرقه عدد كبير من الأطباء المسلمين القدامى في بحوثهم حول الوسائل المختلفة في تنظيم الولادات ونجد هذا في قانون ابن سينا وإرشاد ابن الجامي وفي الذخيرة في الطب لإسماعيل الجرجاني وفي التذكرة لداود الأنطاكي، فكل هؤلاء تكلموا عن منع الحمل خوفا على صحة المرأة عند ضعفها خشية من الحمل المتتابع.
(1) زاد المعاد ج 4 ص 18
(2)
المعيار ج 4 ص 164
(3)
الجزء الثاني ص 380
(4)
ج 8 ص 416
أسباب منع الحمل:
أما أسباب منع الحمل فهي كثيرة وقد حصرها الغزالي (1) . في أنواع النية الباعثة على العزل وهي:
- استبقاء جمال المرأة لدوام التمتع خوفا من خطر الطلق.
- الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد.
- الاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء.
وذكر غيره أسبابا أخرى منها:
- الخوف من الضرر إذا كان الحمل يلحق ضررا مباشرا بصحة الأم.
- أو تحقق الأبوين من عجزهما عن القيام بشؤون مولود جديد.
- أو كانا في الجهاد وخيف على الزوجة أن يضعفها حملها عن مشقة السفر أو الجهاد أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها.
قال الكمال بن الهمام (2) : ((: ((وفي الفتاوى إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها)) )) .
فأصل العزل مباح عند من قال إن الولد حق للأب أو للأب والأم معا.
أما من يرى أن الولد حق مشترك بين الأمة والوالدين فإنه يبيح العزل في الصور التي تلحق ضررًا بالأب أو الأم دفعا للمفسدة وتطبيقا للقاعدة المقررة أن الضرورات تبيح المحظورات.
ويبقى الخلاف محصورا بين الفقهاء في حكم العزل فيما سوى الضرورة، كما إذا كان لمجرد رغبة الأب أو الأم أو هما معا في تحديد الأولاد مع توفر الإمكانيات المادية، تحقيقا للراحة وحب الدنيا واتباع الشهوات والفرار من المسئولية الاجتماعية التي أنيطت بعهدتهما.
(1) الإحياء الجزء الرابع ص 151
(2)
ابن عابدين ج 2 ص 379
حجة القائلين بكراهة العزل
من العلماء من يقول بكراهة العزل إذا لم يكن هناك موجب يقتضيه، احتجوا بما ورد من إنكار النبى صلى الله عليه وسلم للعزل في نصوص كثيرة من السنة حيث لم يرد شيء في القرآن يبين حكم الله في العزل.
ومما وقع الاحتجاج به ما ورد في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبيا فكنا نعزل وسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أو إنكم لتفعلون - أو إنكم لتفعلون - ما من نسمة كانت إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة)) (1) . ففهموا أن هذا الحديث سيق بصيغة الإنكار فيكون العزل غير مشروع ولا مباح.
وقد ورد هذا الحديث بعدة صيغ وفي لفظ لمسلم (2) . من طريق ابن محيريز قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري فسأله أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم. غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) وفي لفظ لمسلم ((فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة)) وفي لفظ: ((فقال لنا: وإنكم لتفعلون. وإنكم لتفعلون. وإنكم لتفعلون، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة)) وفي لفظ له قال: ((لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر)) .
وفسر العلماء هذا على أنه حث على عدم العزل حتى قال الحسن بأن قوله: " لا عليكم أن تفعلوا " تشبه الزجر، وقال ابن سيرين: هذا خبر إلى النهي أقرب.
ومنها حديث جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله: " ذلك الوأد الخفي ")) رواه مسلم (3) . ويشير الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (4) .
(1) صحيح البخاري شرح ابن حجر ج 9 ص 305
(2)
النووي على مسلم. الجزء العاشر ص 15
(3)
النووي على مسلم. الجزء العاشر ص 15
(4)
سورة التكوير الآية 8، 9
ومنها ما ورد عن أسامة بن زيد ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أعزل عن امرأتي، فقال له الرسول: " لِمَ تفعل ذلك؟ " فقال له الرجل: أشفق على ولدها أو أولادها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كان ضارا ضر فارس والروم ")) رواه مسلم (1) .
وكذلك استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري من قول الرسول في العزل ((أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره قراره فإنما ذلك القدر)) وهذا الحديث يقتضي بظاهره منع العزل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يقر الماء في مقره، وهذا يدل على أن الله هو الخالق الرازق، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى عزل النطفة والحيلولة بينها وبين أن تستقر في الرحم.
فهذه الأحاديث وغيرها تؤكد عند بعض الفقهاء الاتجاه الإسلامي العام القاضي بأن كثرة الذرية من مقاصد النكاح، وأن المحافظة على النسل هو أحد المصالح الخمسة التي يقررها الإسلام أساسا للتشريع.
إذ من المعلوم أن المصالح التي اعتمدها الفقهاء أساسا للتشريع ترجع إلى المحافظة على خمسة أمور هي: المحافظة على الدين وعلى النفس وعلى العقل وعلى النسل وعلى المال، وقد قال الغزالي في المستصفى ما نصه:(إن جلب المنفعة ودفع المضار مقاصد الحق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكننا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع في الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، لذلك فكل محاولة تهدف إلى منع الحمل هي محاولة تبعد عن منهج الشريعة الإسلامية الذي يدعو إلى التكاثر. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) (2) . كما يحفز من استطاع الباءة أن يتزوج ويدعو الزوج أن يختار لنفسه الولود الودود.
(1) النووي على مسلم ج 10 ص 16
(2)
رواه السيوطي في الجامع الصغير
وقد سبق أن بينا أن الإسلام. يرغب في الزواج ويأمر به ويمتن على المسلمين بشرعه قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
ومن أغراض الزواج تكوين الأسرة وإيجاد النسل، والولد من نعم الله تميل إليه الفطرة السليمة وهو في الآن نفسه زينة الحياة الدنيا، لذلك كان العزل والفرار من الحمل انحرافا عن الفطرة السليمة.
وإذا كان العزل مكروها عند هؤلاء الفقهاء، فإن مذهب ابن حزم من الظاهرية يحرم العزل كما جاء في المحلى (2) : قال: لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة مستدلًّا بحديث جذامة بنت وهب على أن الرسول لما سئل عن العزل قال: " ذاك الوأد الخفي ": قال إنه خبر في غاية الصحة وساق حديث أبي سعيد الذي قال فيه رسول الله: " لا عليكم أن لا تفعلوا " وقال: إن الذين احتجوا بأخبار أخرى لا تصح؛ لأن خبر جذامة بنت وهب يعارضها جميعا ثم قال: إن كل شيء أصله الإباحة لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وعلى هذا كان كل شيء حلالا حتى نزل التحريم قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فصح أن خبر جذامة بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة، وهو أمر متيقن؛ لأنه إذا أخبر عليه السلام أنه الوأد الخفي والوأد محرم فقد نسخ الإباحة المتقدمة بيقين، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت، وأن النسخ المتيقن قد بطل فقد ادعى الباطل وأتى بما لا دليل له عليه ورد كلام ابن حزم بأن ادعاء النسخ يحتاج فيه إلى معرفة تاريخ الناسخ وحيث إن التاريخ غير معروف فلا يصح ادعاء النسخ.
(1) سورة الروم الآية 21
(2)
المجلد السابع ج 10 ص 78 المسألة 197
حجة المجيزين للعزل
من العلماء من يقول بجواز العزل استنادا إلى جملة من أحاديث صحيحة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبتتها الكتب الصحاح، أهما:
1 -
ما جاء عن جابر رضى الله عنه الوارد في الصحيحين (1) . قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)) متفق عليه. ولمسلم ((فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا عنه)) .
وأول ما يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينه عن العزل بل أقره ولو كان حراما لنهى عنه؛ لأنه كان في وقت تقرير الأحكام ونزول الأوامر والنواهي، وقد أكد جابر رضي الله عنه أن عملهم بالعزل لم يكن خافيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل علم به فأقرهم ولو كان محرما ما أقرهم عليه.
2 -
ما جاء في صحيح مسلم (2) . أيضا عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله: لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، فقال: رسول الله: " لو كان ضارا - أي العزل - لضر فارس والروم ")) .
3 -
عن جابر ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية هي خادمتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل، فقال: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم فقد كان السائل يطلب من الرسول الحكم في أمر العزل فجاءه النص صريحا في إباحة العزل، ومن العلماء من يرى أن هذا الحديث يفيد معنى أكثر من الجواز؛ لأن الرسول هو الذي أشار بالعزل.
4 -
عن أبي سعيد الخدري قال: قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود. إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) رواه أحمد وأبو داود، ويقول الشوكاني: وقد أخرج هذا الحديث أيضا الترمذي والنسائي ونقل عن الحافظ أن رجاله ثقات.
(1) كتاب النكاح باب جواز الغيلة
(2)
كتاب النكاح باب جواز الغيلة
5 -
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) رواه أحمد وابن ماجه.
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) وهذا يدل على جواز العزل بإذنها.
6 -
ما ورد عن رفاعة بن رافع قال: (جلس إلى عمر كل من علي والزبير وسعد وجماعة من أصحاب الرسول فتذاكروا العزل فقال عمر: لا بأس به. فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي: إنها لا تكون موءودة حتى تمر على الأطوار السبعة تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت) لأن الوأد لا يتصور إلا بعد أن تمر بالمادة الأطوار السبعة وبروز الجنين إلى الوجود.
7 -
ما رواه أبو داود عن أسماء بنت زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة عن فرسه)) فقد دل الحديث على أن مواقعة الزوجة في مدة الرضاعة تؤثر على الرضيع حالا أو مستقبلا ولو كان في قوة شبابه. ومن هنا استنتج الفقهاء أن وطء الحامل والمرضع مكروه إن خيف منه ضرر الولد وإن غلب على الظن الضرر حرم. وإذا كانت مدة الحمل والرضاع حولين كاملين فليس للزوج من طريق للوصول إلى مباشرة زوجته إلا عن طريق العزل، وهذا إذن ضمني من الشارع بالعزل على أن القائلين بعدم جواز العزل كثيرا ما يترددون في الاستشهاد بالنصوص القاضية بالمنع.
ويرى الأستاذ محمد سلام مدكور في كتابه نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل (1) . أن ما ذهب إليه الإمام الشوكاني (2) . من أن معنى (لا عليكم أن لا تفعلوا) من الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري هو: " نفي الحرج عن عدم الفعل وهذا يفيد ثبوت الحرج في فعل العزل " لا يستقيم مع القواعد الأصولية المقررة التي تقول إن نفى الحرج عن جانب يفيد نفيه عن الجانب الآخر. فإذا كان الحديث قد أفاد نفي الحرج عن عدم الفعل، فنفي الحرج أسلوب يفيد الإباحة التي تقتضي التسوية بين جانبي الفعل والترك، فكان الأولى أن يستدل بهذا الحديث على جواز العزل؛ لأنه المتفق مع ما يفيده الأسلوب العربي.
(1) نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل ص 43
(2)
نيل الأوطار للشوكاني الجزء السادس ص 340
وقد ذكر الإمام الشوكاني أنه يمكن أن يخرج الحديث على أن يقال إن (لا) زائدة فيكون المعنى نفي الحرج عن الفعل؛ لأن (لا) كثيرا ما تزاد في أساليب العرب لذا اقتضى السياق ذلك، نظير ذلك قوله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} والمعنى ليعلم أهل الكتاب.
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره محمد بن خلفة الأبي (1) . في كتابه إكمال الإكمال بعد أن أورد وجهين في فهم الحديث قال والمعنى: لا جناح عليكم في أن تفعلوا العزل.
ويقول ولي الله الدهلوي (2) . في قول الرسول ((ما عليكم ألا تفعلوا)) يشير إلى كراهية العزل من غير تحريم والسبب في ذلك أن المصالح متعارضة فالمصلحة الخاصة بنفسه قد تدعوه إلى العزل والمصلحة النوعية ألا يعزل لتحقيق كثرة الأولاد وقيام النسل، والنظر إلى المصلحة النوعية أرجح من النظر إلى المصلحة الشخصية في عامة أحكام الله تعالى التشريعية والتكوينية، فالقضية في نظره لا تزيد على أن يكون العزل خلاف الأولى.
وقال ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين (3) . في حديث جابر بن عبد الله الذي قال: كنا نعزل والقرآن ينزل: إن ما فهمه جابر هو كمال فقه الصحابة وعلمهم واستيلائهم على طرق معرفة الأحكام ومداركها. وهذا يدل على أمرين:
1 -
أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي، وإقراره لهم عليه، دليل على عفوه عنه.
ويقول الإمام الشوكاني في حديث جابر (4) . في قوله: والقرآن ينزل: فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم الأحكام، لأنه لو كان ذلك الشيء حراما لم يقروا عليه.
(1) إكمال الإكمال هو شرح أكمل به الأبي شرح القاضي عياض لكتاب المعلم بفوائد مسلم لمؤلفه محمد بن علي التميمي المشهور بالإمام المازري دفين المنستير
(2)
حجة الله البالغة ج 2 ص 706
(3)
الجزء الثاني ص 438
(4)
نيل الأوطار للشوكاني ج 6 ص 347
وقال القاضي عياض (إن كثيرا من الصحابة والتابعين أجازوا العزل استنادا إلى حديث جابر) ، ومهما يكن من أمر فإن المسافة بين المانعين والمجيزين لا تتعدى حدود الكراهة، فالمانع يقول بالكراهة، والمجيز يقول بأن العزل هو خلاف الأولى وهو كذلك إذا لم يكن هناك داع.
ويعبر عن هذا المعنى الإمام النووي في شرحه على مسلم فيقول: إن هذه الأحاديث التي استدل بها المانعون مع غيرها من الأحاديث التي أفادت الإباحة، يجمع بينها أن ما ورد في النهي محمول على الكراهة التنزيهية، وما ورد في الإذن محمول على أنه ليس بحرام، وليس معناه نفي هذه الكراهة التنزيهية.
ويؤيد هذا الاتجاه الإمام الغزالي في آداب معاشرة النساء (1) . حيث يقول (وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ولنهي التنزيه ولترك الفضيلة وهو مكروه هنا بالمعنى الثالث) .
ثم يقول: (وإنما قلنا لا كراهية بمعنى التحريم والتنزيه لأن إثبات النهي إنما يمكن بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي.
لذلك فإن المجيزين لمنع الحمل يردون على المانعين ويؤولون كل النصوص التي يستشهدون بها وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تكثروا)) الحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا في أول الإسلام، وفى فترة كان المسلمون فيها قلة، وكانوا بحاجة أن يكونوا كثرة نامية للوقوف في وجه أعدائهم الكثيرين على أن الرسول عندما يفاخر لا يفاخر بالكم وحده بل إنه يقرن الكم بالكيف وهو القائل:((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) وهو الذي نزل عليه قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .
(1) إحياء علوم الدين ج 4 ص 150
فالشريعة أيضا لا تعجبها الكثرة الهزيلة ولا تقيم لارتفاع نسبتها في التعداد وزنا إذا لم تكن مؤهلة للقيام بمسؤلياتها، ويشير إلى هذا ما صح في دلائل النبوة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:((توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا بل أنتم كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) .
وتحتج فئة أخرى بقوله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فيكون الله متكفلا برزق جميع خلقه، ولا يتنافى هذا مع الأخذ بالأسباب، قال في تفسير المنار (1) :(قد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته) ثم قال (وليس معناها أن الله جعل لكل دابة من كل نوع أن يخلق لها ما تتغذى به، ويوصله إليها بمحض قدرته وإنما معناها: خلقه تعالى لكل منها الرزق الذي تعيش به، وأنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله) .
ولقد جعل الإسلام من الزواج مسئولية مادية ومعنوية تجاه الزوجة والأولاد، وقد نص صراحة على أنه إذا تعذر على الرجل القيام بأعباء الزوجية أو يجد في ذلك حرجا فإنه مطالب بألا يقدم على الزواج. قال تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} سورة النور [33] .
وروى البخاري ومسلم عن علقمة رضي الله عنه قال: واللفظ لمسلم (2) . كنت أمشى مع عبد الله بمنًى فلقيه عثمان رضي الله عنهما فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن: ألا نزوجك جارية ثانية لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ قال: فقال عبد الله: لئن قلت ذلك: لقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) .
(1) المنار ج 12 ص 13
(2)
حديث 794 مختصر صحيح مسلم كتاب النكاح ص 207
فالدعوة إلى الزواج والإنجاب مرتبطة بالقدرة على تحمل مسئولياتها ونتائجها، ومسئولية الزوج تزداد إذا أنجب إذ عليه مسئولية التربية والتوجيه وتوفير المسكن والغذاء، وإعداد الولد ليكون مواطنا صالحا، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسئولية في قوله ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) وكثرة العيال قد تكون سببا في تشتيت العائلة وضياع مصالحها وتلاشي تربيتها.
وعندما يتأمل المرء في كل الأحاديث والآثار التي استند إليها المانعون للعزل والمجيزون له لا يستطيع الجزم بحرمة العزل الشخصي أو الفردي ما دامت النصوص الواردة في هذا الموضوع غير صريحة والقضية اجتهادية، بل يجد الإنسان نفسه أميل إلى القول بالإباحة إذ هي الأصل، لا سيما إذا وجدت الدوافع أو المصالح التي تدعو الزوج أو الزوجة لمنع الحمل بحيث يكون اتخاذ هذه الوسيلة في حدود الداعي الذي استلزمها ويكون هذا التنظيم فرديا اختياريا.
وبهذا نعلم أن ضعف الموارد المادية في العائلة قد يكون عائقا يمنع الزوج عن النهوض بتبعات الأسرة والأظهر اعتباره عذرا من الأعذار المبيحة لمنع الحمل المؤقت
وهذا لا ينافي ما نعتقده كمسلمين أن قدرة الله وإرادته فوق قدرة الإنسان وإرادته وأن الإنسان لا يستطيع الفرار من قدر الله وقضائه. وأن الله هو الرزاق وأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها؛ لأن الله في نفس الوقت مكن الإنسان من الكسب والاختيار ومكنه بما أوتي من عقل وفكر أن يدبر ويعمل ويسعى لإصلاح حياته وتنظيمها.. وأن إفساد المادة التناسلية قبل التلقيح هي وسيلة من وسائل منع الحمل لمصلحة لا يكون فيه اعتداء على الجنين بحال من الأحوال.
وقد صدرت فتاوى كثيرة عن هيئات علمية إسلامية محترمة كمشيخة الأزهر الشريف (1) . ومعهد البحوث الإسلامية (2) . وعن مؤسسات دينية ومن شخصيات علمية (3) . جوزت منع الحمل المؤقت للأفراد وعللت ذلك بقولها:
(لما فيه من التيسير على الناس ورفع الحرج لا سيما إذا خيف من كثرة الحمل) .
أما قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في الحكم الشرعي في تحديد النسل فيبدو أنه أكثر تشددا من القرارات السابقة في خصوص هذا الموضوع فكأنه يريد قصر جواز منع الحمل بحالات المرض خاصة حيث يقول (4) . (لا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعا.
أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعا. وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة) .
(1) الجزء الثانى من كتاب الإسلام وتنظيم الأسرة ص 541
(2)
كتاب المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965 ص 404
(3)
الجزء الثاني من كتاب الإسلام وتنظيم الأسرة 544
(4)
قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة سنة 1400
فكرة تحديد النسل الجماعي ونشأتها
إذا كانت كثرة النسل في العصور الأولى تعتبر عنوانا للعزة والقوة في القبيلة وسبيلا إلى الصمود أمام كل اعتداء فإن الكثافة السكانية أصبحت - مع مرور العصور، وتغير المفاهيم والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية - تعتبر في بعض الأحيان من المحاذير التي يجب أن ينظر إليها من قريب حتى لا تنقلب هذه الكثافة كارثة تدعو الحكومة إلى درئها قبل وقوعها.
وإذا كان موضوع الانفجار السكاني بهذا الاعتبار فلا غرابة أن يجد اهتماما كبيرا من المفكرين والمشرعين قديما وحديثا، وأن تختلف أنظارهم في الحكم عليه.
ولم تَعْدُ فكرةُ تحديد النسل في القديم حدودَ الأسرةِ، وبقيت تطبق بصفة فردية حسب الضرورات الخاصة التي دعت إليها، وإن اختلف مفهوم الضرورة من مدينة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر.
وأول بروز لفكرة تحديد النسل الجماعي كان في أوروبا ثم في أمريكا في أواخر القرن الثامن عشر، عندما تبنى هذه الفكرة عدد من رجال الاقتصاد في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وحذروا المجتمعات من بروز مشكل اقتصادى خطير وهو عدم التوازن بين نمو عدد السكان في العالم الذي صار يزداد بنسبة عالية، بل أصبح عدده يتضاعف في مدة قصيرة، وبين ضعف نمو وسائل العيش الذي لا يتم بنفس النسبة.
وهذا من شأنه أن يحدث خللا كبيرا في التوازن، ويبشر بمجيء يوم يكون فيه عدد السكان أضعاف أضعاف موارد الرزق، وبذلك تحل بالمجتمعات أزمات ومجاعات قد يصعب التخلص منها.
ولقيت حركة تحديد النسل الجماعي في أول أمرها صعوبات واعترضتها عراقيل متعددة منعتها من البروز والانتشار حقبة من الزمن.
ثم لقيت في النهاية إقبالا من المجتمعات الأوربية المصنعة، فانتشرت كما انتشرت وسائل الوقاية من الحمل في جميع أنحاء أوروبا، ودلت الإحصائيات في أوائل القرن العشرين على أن التخطيط الشعبي الذي انتهجته بعض الدول في التقليل من الإنجاب قد حقق نتائج محسوسة في تقليل الولادية.
واستمر انتشار حركة تحديد النسل في جميع أنحاء أوروبا بل في جميع بلاد العالم وما زالت تنتشر بخطى سريعة في مدة وجيزة لاحتواء العالم كله.
أسباب نجاح حركة تحديد النسل
لم تكن الوقاية من الحمل بإحدى الوسائل الواقية هي التي حمت وحدها البلاد الأوروبية من الكثافة السكانية، وإنما هي عوامل متعددة أحاطت بهذا المجتمع الذي آمن بأن الأسرة إنما تقوم على الكيف لا على الكم، وعلى سمو تربية الأولاد وتوفير وسائل العيش لهم لا على كثرتهم.
وأهم هذه العوامل التي ساعدت على انتشار فكرة تحديد النسل هي:
1 -
النهضة الصناعية: وما جلبته من أيد عاملة نازحة كونت كثافة سكانية في المدن، ورغبة في رفع مستوى المعيشة، فكان تحديد النسل وسيلة لمواجهة تلك الضغوط.
2 -
مشاركة النساء في العمل: وعجزهن عن القيام بشؤون رعاية البيت والأولاد مع ذلك، إذ كثرتهم تعوق المرأة عن مواصلة عملها خارج البيت.
3 -
فقدان التوازن بين الطموح الشخصي وبين المستوى الاقتصادي والاجتماعي: وتعلق الطبقات الكادحة بإيصال أبنائهم إلى أعلى المراتب أسوة بمطامح الطبقات الغنية. وهذا لا يتحقق إلا بقلة الأولاد.
4 -
انتشار المبدأ المادي الإلحادي: الذي قطع الصلة بالله الرزاق المجير المنعم المتفضل وجعل الإنسان يفكر في حدود ضيقة، لا يؤمل من الحياة إلا موارده المادية المحدودة.
5 -
الانغماس في الاستمتاع الشخصي: إلى أبعد حدوده، فلا يريد الزوجان الإنجاب؛ لأنه - حسب زعمهما - يعكر صفو حياتهما، ومسؤوليات الأبناء تقف حجر عثرة أما شهواتهما ورغباتهما الشخصية وتمتعهما بملذات الحياة.
وهذه الأفكار في مجموعها هي التي تسربت إلى العالم الإسلامى، وتهافتت المجتمعات الإسلامية في تقليدها واعتناقها، مستبيحة كل الوسائل التي استباحها الغرب في التقليل من النسل، وحادت بها - أحيانا - عن مقاصد الإسلام التي تمنع التحديد، إلا إذا كان استجابة لضرورة اقتضتها مصلحة الأبوين، لتبني مبادئ بعيدة عن الإسلام، أساسها:
1 -
تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
2 -
تغليب الجانب الاستهلاكي في الإنسان على الجانب الإنتاجي، وعدم تقدير قيمة توفير الأيدي العاملة التي تمكن المجتمعات من استغلال خيرات الله في أرضه وتناسي أن الأزمات الاقتصادية كان سببها في الغالب:
- تكاسل الحكومات عن إيجاد حلول اقتصادية إيجابية قد تكلفها متاعب ومشاق.
- ضعف التعاون الصادق النزيه بين دول العالم عامة، والدول الإسلامية خاصة.
- عدم سعي المجتمعات إلى روح الإنتاج وتحسين الجودة لضعف الوازع الأخلاقي والديني.
والذي ينبغي أن نلاحظه في هذا الموضوع أن العالم الغربي أصبح يتراجع عن تأييد فكرة تحديد النسل، ومناصرتها، إذا هو الآن يدعو إلى تكثير النسل، وتشجيع الإنجاب، وإعانة العائلات ذات الأطفال، ومكافأة العاملين على كثرة الإنجاب بالأوسمة والجوائز بينما تقوم بعض الدول الإسلامية في هذه السنوات الأخيرة بإكراه النساء على استعمال وسائل منع الحمل دون مراعاة لأدنى نصيب من إنسانية الإنسان وكرامته. يقول الدكتور محمد على البار:(ففي بعض البلاد العربية التي تبذل كل جهدها في نشر وسائل منع الحمل بكافة الطرق يقوم الطبيب بإدخال لولب إلى رحم المرأة عند قيامه بفحصها، دون علمها ولا رغبتها ولا موافقتها، وذلك تنفيذا لأوامر الدولة. وهو أمر يجافي أبسط المبادئ الإنسانية)(1) .
(1) مقال نشر بمجلة المسلم المعاصر. الصفحة 11 العدد 42
نظرة الشريعة إلى تحديد النسل الجماعي
لقد تبين لنا مما تقدم أن المنع الفردي للنسل، بالعزل أو بغيره من الوسائل، هو ترك الأفضل أو مكروه، وإذا وجد موجبه عند الفرد كان العزل مباحا على مقدار هذه الرخصة الفردية، والسؤال المطروح: هل يُجَوِّزُ الفقه الإسلامي قياس الرخصة الجماعية لأمة من الأمم أو لدولة من الدول على الرخصة الفردية في منع الحمل، وتحديد النسل، ولو لمدة معينة، حتى يزول المانع؟
المعروف عند الفقهاء أن الرخصة الفردية. محدودة بحدود الضرورات والضرورة تقدر بالنسبة لكل واحد على حدة، حسب ظروفه المادية والمعنوية. فإذا أبيح التحديد فإنما يباح للشخص الذي كانت عنده الرخصة، ولا يباح كقاعدة عامة تعم جميع الناس في بلد أو إقليم، فينتفع بالإباحة صاحب الرخصة وغيره.
ولهذا فإن من قاس تحديد النسل على العزل فقد أخطأ، إذ هو قياس مع وجود الفارق، والقاعدة في القياس اتفاق المقيس مع المقيس عليه من جميع الوجوه ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة جماعية، إذ من المقررات الشرعية أن المباح بالشخص أو بالجزء، يكون إما مطلوبا بالكل، أو ممنوعا بالكل، على حسب موافقته للمبادئ الكلية المقررة في الشريعة، أو مناقضتها.
فإن كان خادما للمبادئ الشرعية الثابتة، كان مطلوبا بالكل، مباحا بالجزء. وإن كان مناقضا للمبادئ العامة، كان مباحا بالجزء حراما بالكل. وقد بين هذا الموضوع الشاطبي في الموافقات، عند تعرضه لبيان المباح، فقال:
(إن المباح ضربان: أحدهما أن يكون خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني أن لا يكون كذلك.
فالأول: قد يراعى من جهة ما هو خارج له فيكون مطلوبا ومحبوبا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء وهو خادم لأصل ضرورى، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب. فالأمر راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي.
والثانى: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء. كالطلاق، فإنه ترك للحال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في وجود وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما. فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرقا لذلك المطلوب ونقضا عليه، كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه، إلا لعارض أقوى كالشقاق (بين الزوجين) ، وعدم إقامة حدود الله. وهو من حيث كونه جزئيا في هذا الشخص وفي هذا الزمان فهو مباح وحلال) (1) .
وبهذا نعلم أن الشرع لا يجوز منع النسل بالكل، ولا يبيحه كأمر عام، لأن اعتبار حق الأمة في الولد حق تقرره الشريعة الإسلامية لحفظ كيانها، ولنهوضها القومي، ومعاكسة الطبيعة في كف أجهزتها عن القيام بوظيفتها التي خلقت لها مما لا تقره الشريعة. والله يقول {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .
فالتحديد الجماعي لا تقره الشريعة الإسلامية، ولا تبيحه مهما كانت الأعذار ولا تحدد عدد الأولاد الذين ينبغي أن تنجبهم الأسرة، لأن الحكمة في عدم تحديد العدد الأقصى للأولاد، مادام ذلك يتعلق بالاختيار الإنساني في الأسرة، وقدرة كل أسرة على تربية الأولَاد تربية واعية.
ولذلك فإن كثيرا من العلماء يرون أن تحديد النسل الجماعي ليس معناه جبر الأمة أو جبر إقليم من أقاليم البلاد على اتخاذ تدابير معينة لتحديد النسل للوصول بهم إلى نسبة ولادية معينة، فهذا مما لا يجيزه الشرع قطعا، بل معناه توعية الآباء والأمهات بمسؤولياتهم الزوجية والأبوية، وإقناعهم بهذه المسؤولية المرعية حتى يصبحوا أكثر احتياطا لمستقبل أولادهم، وأحرص على الاكتفاء بعدد من الأولاد حسب قدراتهم المادية والأدبية، وحتى يمدوا المجتمع بجيل قادر على مواجهة مشاكل الحياة؛ لأن من اهتمامات الشريعة الوصول بحياه المجتمع إلى المثل الأعلى.
(1) الموافقات للشاطبي. الجزء الأول، صفحة 77 مطبعة المدني
ولا يتم ذلك إلا بتدخلها تدخلا مباشرا في تنظيم الأسرة، وإخراجها من دائرة الحيرة والفوضى والتعسف إلى دائرة الوعي والنشاط والإنتاج، وذلك بتوعيتها توعية دينية واجتماعية وطبية تدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء الإنسال الأهوج وإطلاق الحرية غير الواعية في تحصيل النسل وكثرته؛ لأن الكثرة الهزيلة التي تتملكها عوامل الضعف والانهيار كثرة لا خير فيها. فالدعوة إلى تنظيم الأسرة لا يجوز أن تكون دعوة إلى محاربة الزواج أو محاربة النسل، فوجود الذرية بين البشرية أمر فطري لابد منه، والقرآن نفسه يوجبها إلى الذرية الطيبة الصالحة النافعة والمنتفعة، يوجهنا أن ندعو ربنا بدعاء زكريا {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (1) .
كما علم عباد الرحمن أن يدعوه ليهبهم الذرية القوية الصالحة بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (2) . وإنما تكون الذرية سببا للسعادة إذا كانت سليمة قوية، ومستعدة لخوض غمار الحياة.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن الإسلام يشترط في الزواج أن يكون الرجل صالحا للنهوض بواجبه، قادرا على تحمل تبعاته. فإن كان عاجزا غير قادر طالبه بالتعفف والانتظار، حتى يتوافر لديه المال والاقتدار، يقول الله تبارك وتعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (3) .
وإذا أباح عدد من العلماء توعية الأسرة توعية دينية وإجتماعية قصد تعريفها بحقوقها وواجباتها إزاء الأخطار التي تهدد حياة المجتمعات فلا ينبغي أن يقتصر جهدنا على هذا الجانب وحده، بل يجب أن تبذل كل الجهود لمضاعفة الإنتاج، وتطوير الصناعة والزراعة، ومواصلة السعي لكشف خيرات الأرض، والتعاون لتوزيع الفوائض والطاقات بين بلدان العالم.
(1) سورة آل عمران الآية 38
(2)
سورة الفرقان الآية 74
(3)
سورة النور الآية 33
كما علينا - من جانب آخر - أن نعالج المصابين والمصابات بالعقم، حتى يشعر كل الناس أن توعية الأسرة هدف عام وندعو الأغنياء وأصحاب القصور أن لا يبخلوا بإنجاب الأولاد حسب طاقتهم، تلبية لرغبة الأمة المستمرة في إنجاب الأولاد الصالحين.
من كل ما قدمناه يتبين أنه لا مجال لإلزام مجتمع ما بإنجاب عدد معين من البنين إذ هو تحكم في حرية الأسرة، وفيه مخالفة للفطرة البشرية، وخروج عن أهداف الشريعة من تكوين العائلة.
كما أن إطلاق الحرية للمجتمع كي ينجب دون وعي ولا مراعاة للقدرات الفردية والعائلية والاجتماعية، الصحية منها والاقتصادية أمر لا يتماشى مع أهداف الشريعة الداعية إلى إنجاب أجيال قادرة على تبوء مركز الخلافة في الأرض تماشيا مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((..... فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) .
وهكذا يتبين أن موقف الشريعة الإسلامية من قضية تحديد النسل هو موقف الاعتدال والوسطية الذي ينصح العائلة ويوجهها، ويبقي لها حق اختيار الموقف الملائم لقدراتها في نطاق استعمال الوسائل التي لا تخرج بها عما يبيحه شرع الله.
إن هذا هو الموقف الذي يتحقق به قول الله سبحانه.
شبهات حول تحديد النسل
وقبل أن ننهي الحديث عن تحديد النسل الجماعي لابد أن نتكلم عن شبهات ذائعة بين المسلمين وبعض العلماء الساهرين على شؤون الدعوة الإسلامية حول تنظيم الأسرة.
فهناك شبهة تقول: إن الدعاية لتحديد النسل غزو يهودي صهيوني يقصد منه تقليل أفراد الأمة الإسلامية لتبقى ضعيفة لا تستطيع الجهاد والإنتاج وحينئذ تكون عالة على غيرها فيتحكم فيها كما يحلو له ويشهد بهذا ترويج وسائل منع الحمل بين أوساط المسلمين بأرخص الأسعار وقد يباع بعضها بأقل من سعر التكلفة ولا يوجد نظير هذه الحركة بين اليهود أنفسهم.
وهناك من يقول إنها دعاية أمريكية وإنجليزية وغربية سرت إلينا وتبعها بعض المخلصين غافلين عن جذورها ومواردها وما يغذيها واتبعها بعض آخر ممن هو معجب بالأفكار الغربية وهؤلاء يتبعون كل ناعق ويسيرون وراءه من غير أن يعرفوا: أَيُسَارُ بهم في طريق يوصل إلى الخير أم يسار بهم في طريق مملوء بالأفاعي والحيات؟
وهناك من يقول: إن الدعوة إلى تنظيم النسل دعوة مرحلية وإننا إذا ذهبنا مع هذه الدعوة وفتحنا صدورنا لتقبلها بشروط وحدود معينة تقبلها الشريعة الإسلامية فإنها ستتحول في المستقبل لا محالة إلى تحديد النسل بصفة إجبارية موحدة وبطريقة لا تقبلها الشريعة الإسلامية بحال.
وأمام هذه الشبهات وقف الشيخ أبو زهرة موقفا واضحا في المنع فقال (1) : (هل هنا علاقة بين هذه الدعوة إلى تحديد النسل أو تنظيمه وبين إسرائيل ومن استتر خلفها) ثم قال: (إنه لا يجوز منع النسل بالكل ولا يباح كأمر عام؛ لأنه يعارض قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أو {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} لذلك نعارض باسم الدين ولا نريد أن نقطع نسلنا ونقلل جمعنا ونعصي رسولنا ونكفر بقدرة ربنا الذي يرزق من يشاء بغير حساب وهو نفس الموقف الذي وقفه المجمع الفقهي الإسلامي بمكة (2) . في قراره في تحديد النسل حيث نص على: (أن تحديد النسل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله لعباده، ونظر إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية.
لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق) .
(1) مقال لأبي زهرة في تنظيم الأسرة وتنظيم النسل نشر في مجلة الأزهر سنة 1966
(2)
قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثالثة سنة 1400
أما مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فإنه لم يتعرض إلى الشُّبَهِ التي تحيط بتحديد النسل الجماعي واقتصرت الفقرة الثالثة من القرار على قضية تحريم جبر الناس على التحديد ونص الفقرة الثالثة (ولا يصح شرعا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه) ويوصي القرار في الآخر بتوعية المواطنين وتقديم المعونة لهم بصدد تنظيم النسل.
أما الشيخ شلتوت (1) . فإنه يرى أن الشريعة الإسلامية لا تعجبها الكثرة الهزيلة ولا تقيم لارتفاع نسبتها في التعداد وزنا ولا يتخذ منها النبي الكريم مبعثا للمباهاة بها.
ويرى عدد من العلماء المعاصرين (2) . أن عدد السكان لما أصبح يزيد زيادة مطردة مع نقص في الموارد الطبيعية لا تسير بنفس النسبة مما يخشى معه عدم القدرة على تحقيق المستوى اللازم لمستوى الفرد فإنه لا مانع شرعا عندهم من النظر في تنظيم النسل إذا كانت الحاجة تدعو إليه على أن يتم ذلك دون قهر أو قسر.
إن الجزم بقيمة ومدى تدخل الدول الأجنبية في موضوع تحديد النسل يبقى موقوفا على قلة من الباحثين الذين اطلعوا على أسباب هذا التدخل؛ لأنه يتم في الغالب بطرق سرية ومقنعة.
وفي انتظار الكشف عن ذلك للعموم لابد لنا أن نواجه بشجاعة ووعي ما قامت وتقوم به منظمات عالمية وأهلية من جهود كبيرة لخدمة تنظيم الأسرة وما عملته في هذا الميدان منذ عشرات السنين (الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية) الذي أسس منذ سنة 1952 وقسم العالم إلى ثمانية أقاليم وكان أحد أقاليمه إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ويضم البلدان الممتدة من أفغانستان حتى المغرب والسودان.
وإدارة الإقليم تقدم لمعظم بلدان الإقليم المساعدات المادية والفنية الخاصة في حقل التدريب الطبي والفني لتحديد النسل (3) .
(1) الإسلام عقيدة وشريعة ص 220
(2)
انظر الإسلام وتنظيم النسل مؤتمر الرباط
(3)
نشرة الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تونس سنة 1978
إن عمل هذا الاتحاد ينبثق من إيمانه بأن ممارسة طرق سليمة وفعالة لتنظيم الأسرة (سواء بمنع الحمل أو المباعدة بين الولادات) هو حق إنساني أساسي كما أن تحقيق التوازن بين سكان العالم وموارده الطبيعية أمر أساسي لتأمين السعادة والرفاهية والسلم للإنسان.
والهدف البعيد لهذه المنظمة هو العمل لخلق رأي عام ملائم يشجع الحكومات على تبني خدمات تنظيم الوالدية ضمن خدمات الصحة العامة.
وقد تقدمت هذه المنظمة العالمية وغيرها من المنظمات والهيئات التي تعمل في تنظيم الأسرة تقدما كبيرا في عملها هذا، ووجدت إقبالا كبيرا من شعوب العالم واهتماما بالغا ومساعدات متعددة من الدول والحكومات الإسلامية وغير الإسلامية.
ويبدو أن بعض الحكومات الإسلامية قد تبنت فكرة تنظيم الأسرة قبل أن تتعرف على حكم الشريعة في ذلك واندفعت في تنفيذ مخططات الجمعيات العالمية والإقليمية العاملة على تنظيم الولادية حتى أصبحت هذه الحركة تشمل آلافا من مراكز تنظيم الأسرة مزودة بأطباء متخصصين في هذا الميدان من مختلف جنسيات العالم.
وأصبحت عملية تنظيم الأسرة واستعمال وسائل الوقاية من الحمل معروفة لدى الخاص والعام وعلى الأخص لدى الطبقات الشعبية التي صارت تتردد على هذه المراكز زرافات ووحدانًا وتسعف في غالب جهات العالم الإسلامي بوسائل الوقاية المجانية غير مبالية بما يقول الشرع في هذا الموضوع؛ لأن حركة تنظيم الأسرة غزت المجتمع، والمجتمع استجاب لتوجيهاتها وطبق وسائلها.
وفي الختام أدعو إلى إعداد دراسات موضوعية صحية واجتماعية واقتصادية وغيرها تحدد بدقة ما لعملية تنظيم النسل من إيجابيات وسلبيات ودراسات أخرى تكشف بوضوح نوايا الدول المتدخلة في هذا الميدان ودراسات وإحصائيات تبين ما قطعه هذا العمل في مختلف البلدان الإسلامية من أشواط منذ ولجتها فكرة تحديد النسل أو تنظيمه.
وبذلك نستطيع أن نحدد من الآراء ما ينير طريق المؤمنين ويساعد على حل هذا المشكل في ضوء شريعة الله.
والسلام
مصطفى كمال التارزي