الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرف في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور إبراهيم كافي دونمز
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله
بكليات الإلهيات بجامعة مرمرة
استانبول - تركيا
لقد نشر الباب الأول من هذا البحث بعنوان: " نظرة جديدة إلى مكانة مفهوم العرف والعادة في الفقه الإسلامي "، في" مجلة العلوم الإسلامية "، تصدرها جامعة الأمير عبد القادر، للعلوم الإسلامية بقسنطينة (الجزائر)، السنة: الأولى، العدد: الأول، قسنطينة، إبريل 1986 م.
خطة البحث
العرف
في الفقه الإسلامي
تمهيد
الباب الأول
مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي
1-
بصورة عامة
1-
1 مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامى بصفة عامة.
1-
2 نظرة عامة إلى مكانه العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي.
2-
دور العرف والعادة في مختلف مجالات الفقه الإسلامي.
2-
1 دور العرف والعادة في منهجية القانون
2-
1-1في الاجتهاد البياني
(أ) في التفسير اللفظي
(أ) دور العرف القولي
(ب) دور العرف العملي
(ب) في التفسير بالمعنى
(أ) في التفسير المقرر.
(ب) في التفسير الضيق.
(ج) في التفسير الواسع.
2-
1-2 في الاجتهاد القياسي.
2-
1-3 في الاجتهاد الاستصلاحي.
2-
2 دور العرف والعادة في تطبيق القانون.
2-
2-1 في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف.
2-
2-2 في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم.
2-
2-3 في تفسير التصرفات القانونية.
2-
3 دور العرف والعادة في مجال قانون المرافعات (تقدير أدلة الطرفين) .
الباب الثاني:
نظرة تحليلية إلى محاولات نظرية للعرف في الفقه الإسلامي.
1-
بصفة عامة.
2-
المادة والعرف في اللغة والاصطلاح.
2-
1 المادة اصطلاحًا.
2-
2 العرف لغة واصطلاحًا.
2-
3 النسبة بين العادة والعرف
3-
أنواع العرف والعادة.
3-
1 أنواع العرف من حيث اعتباره الشرعي.
3-
1-1 العرف الصحيح
3-
1-2 العرف الفاسد.
3-
2 أنواع العرف من حيث المحيط الذي فشا فيه.
3-
2-1 العرف العام.
3-
2-2 العرف الخاص.
3-
3 أنواع العرف من حيث ماهيته.
3-
3-1 العرف اللفظي أو القولي.
3-
3-2 العرف العملي أو الفعلي.
4-
الأدلة التي يعتمد عليها لإثبات أن العرف والعادة أصل من أصول التشريع الإسلامي
4-
1 الأدلة الخاصة.
4-
1-1 الكتاب.
4-
1-2 السنة النبوية
4-
2 الأدلة العامة
5-
أركان العرف وشروط اعتباره.
5-
1 أركان العرف.
5-
1-1 الركن المادي: الاطراد أو الغلبة.
5-
1-2 الركن المعنوي: الاستقرار في النفوس
5-
2 شروط اعتبار العرف
5-
2-1 أن لا يكون العرف طارئًا
5-
2-2 أن لا يوجد تصريح بخلاف العرف
5-
2-3 أن لا يكون العرف مخالفًا للنص ومبادئ الشريعة
6-
التقييم العام للعرف
6-
1 مفهوم " المصدر " من ناحية منهجية الحقوق الإسلامية وتقييم العرف
6-
1-1 مفهوم " الدليل " في أدب الفقه الإسلامي
6-
1-2 تحليل لعدم تناول الأصوليين للعرف بين المصادر في مقابل الأهمية التي حظى بها العرف في فروع الفقه
6-
2 مفهوم " المصدر " من ناحية فلسفة الحقوق الإسلامية وتقييم العرف
6-
3 نظام أعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي ومكانة العرف فيه الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
مما لا ريب فيه أن الحركات الاعتيادية تلعب دورًا هامًّا في حياة كل فرد فالإنسان يسلك بنفس السلوك في نفس الأوضاع وهذه الحركات التي تظهر كتفاعلات نمطية تكتسب بمرور الزمن طابع " الاعتياد " وبذلك يسهل الإنسان عيشه إلى حد ما ويتخلص من صعوبة الاختيار واتخاذ القرار على أن يعين سلوكه لكل وضع في كل مرة، كما يسري نفس الشيء في شأن الحركات الاعتيادية الاجتماعية أيضًا.
فالعادات الاجتماعية عبارة عن قواعد السلوك الاجتماعي التي تتكون عن تلك التصرفات الاعتيادية الاجتماعية والتي تتبدل حسب تبدل الأفراد والأزمان والأمكنة.
ومما لا شك فيه أن هنالك تشابهًا كبيرًا بين القواعد القانونية وقواعد العادات الاجتماعية، وهذه القواعد هي التي تنظم حياة الإنسان تنظيمًا إلزاميًّا في المجتمع والحق أن كون العادة قاعدة إلزامية لما يجب أن يكون (doit eire) ، هو الخاصية التي تميزها عن الحركات الاعتيادية الاجتماعية الأخرى. لأن العادة تقضي وتحتم تحقيق استمرارية الأمور في المستقبل أيضًا كما جرت في الماضي، بينما الحركات الاعتيادية الاجتماعية لا تتضمن فكرة الإلزام.
وكما أن هنالك تشابهًا كبيرًا بين القواعد القانونية وبين قواعد العادات الاجتماعية من حيث كونهما ذات الطابع (beteronime) ، (يتلقى من الخارج القوانين التي تسيره) أي من حيث اصطباغهما بالصبغة الجماعية لا الفردية فقط في تناولهما الأمور، فإن هنالك تشابها بينهما أيضًا في هذا المضمار من حيث المحتوى وفي الحقيقة أن محتويات هذه القواعد لا تستقر دائما من حيث المضمون وإنما يمكن أن يطرأ عليهما التغير والتبدل بصفة مستمرة، فإننا نشاهد اليوم كثيرًا من قواعد العادات الاجتماعية قد أصبحت قواعد قانونية بحتة كما نشاهد العكس مثلًا، فإن كثيرًا من القواعد القانونية التي تصادفنا اليوم على صعيد القانون الدولي كانت عبارة عن قواعد العادات من قبل.
وعلى الرغم من وجود شبه كبير بين القواعد القانونية وقواعد العادات الاجتماعية فإن هنالك مواطن اختلاف وافتراق هامة بينهما لأننا نرى أن قواعد العادات الاجتماعية التي تستهدف تسهيل الحياة الاجتماعية وتذليل الصعوبات بالنسبة للأفراد والمجتمعات لم تكن تستند تمام الاستناد إلى العقل وإنما يتحكم فيها مصدر الصدفة، بينما القواعد القانونية تأتي للحفاظ على النظام الاجتماعي في المجتمعات، ومن هذه الحيثية فهي تحظى أهمية كبيرة ومن هذه الأهمية تأخذ القواعد القانونية صفتها الاستقلالية في الوجود والاستمرارية دون أن تراعي رضا وموافقة أتباعها بحيث أنها لا يمكن أن تلغي فاعليتها لمجرد وجود مخالفة ضدها أما قواعد العادات الاجتماعية فهي على العكس من ذلك، لأنها قواعد اتفاقية (conventionnelle) ، بمعنى أنها لا يمكن أن تأخذ صفة استقلالية في الوجود إلا مع موافقة أتباعها ومعتنقيها لتوقف تأثيرها الفعلي على إرادة واستجابة العاملين بها والمتمسكين بأحكامها والحاصل أن القواعد القانونية ومنها قواعد العرف تمتاز عن قواعد العادات الاجتماعية بتضمنها الصفة الإلزامية " القاطعة "(apodictique) ، لما يجب أن يكون (devoir etre) ، بينما قواعد العادات الاجتماعية لا تتضمن إلا صفة إلزامية " غير قاطعة "(Problematique) ، لما يجب أن يكون.
ومن البداهة هنا أن تكون علاقة متينة بين قواعد العادات والقواعد القانونية لكون كل واحدة منهما تنحو منحى اجتماعيًّا وتستهدف تنظيم الحياة الاجتماعية، وبما أن كل قاعدة اجتماعية يمكن لها أن تكتسي النمط القانوني، فمن الممكن جدًّا أن تتشكل وتتكون قواعد العرف من العادات الاجتماعية وهكذا فإن مجموع القواعد العرفية التي تعمل عمل القاعدة القانونية وتنجز مهمتها وذلك بصفة منفصلة عن القانون المكتوب (droit ecrit) ، تشكل القانون العرفي (droit coutumier) وهذه القواعد تتميز عن القواعد القانونية المكتوبة في كونها لم تكن قواعد بيانية مكتوبة معبرًا عنها من طرف مرجع من مراجع السلطة التشريعية، وإنما هي حصيلة قناعة تجلت في ضمير الجماهير، ولذا يطلق على العرف اسم " القانون التلقائي "(droit spontane) .
إلا أنه يجب أن لا يخلط هنا بين القواعد العرفية التي تلعب دور مصدر القانون بشكل مباشر وبين قواعد العادات الاجتماعية لأن العرف يتميز أساسا بما يلحقه من صفة ملزمة ناتجة من الاعتقاد في إلزامه نفس إلزام القواعد القانونية " الشعور القانوني "(opinio necessitates) ، أي من الاعتقاد في وجود جزاء أو إجبار عام أو جماعي ذي طابع قانوني يكفل احترامه، وعلى هذا النحو يتميز " العرف " عن مجرد " العادة " ويتميز عن قواعد العرف حتى العادات الاجتماعية التي لها مكانة هامة في العلاقات القانونية والتي لم تصل في إلزاميتها إلى درجة العرف. ويسمى هذا النوع من العادات الاجتماعية " العادة الاتفاقية "(usage conventionnel) ، وتترتب على هذه التفرقة نتائج من عدة وجوه.
وقد يقع خلط أحيانًا بين " العرف " و" العادة " سواء في اللغة العربية أو اللغة التركية وقد ساعد على هذا الخلط أن الشارع نفسه استعمل أحيانا لفظ العادة بمعنى العرف الملزم، واستعمل أحيانًا أخرى لفظ العرف بمعنى العادة التي لم ترق بعد مرتبة العرف ولكن التعبير الصحيح الذي يجمع عليه الفقه (doctrine) أن لفظ العرف يطلق على القاعدة القانونية الملزمة وأن لفظ العادة يطلق على القاعدة التي لم ترق إلى مرتبة العرف لافتقارها إلى عنصر الإلزام في الدرجة التي يتضمنها العرف، أما في اللغات الغربية، فإن اصطلاحات (usage) في الفرنسية والإنجليزية و (bung) في الألمانية التي تستعمل في معنى العادة و (droit coutumier) في الفرنسية، و (costum law) في الإنجليزية (Gewobnbeitsrecht) في الألمانية التي تستعمل في معنى مجموع القواعد العرفية تشكل حاجزًا أمام ذلك الخلط.
إن العرف الذي له مكانة خاصة ومتميزة في الفقه الإنجليزي – وإن لم يكن يحتفظ بتلك الأهمية السابقة نفسها في الوقت الحاضر – والذي يشكل مصدرًا للقانون في الدرجة الثانية بعد التشريع في أغلب القوانين الحديثة بصفة عامة، قد ميز عن العادات كما أشرنا إليه بصورة موجزة في ما سبق ووضعت نظرية مستقلة خاصة بالعرف وأثناء تناول نظرية العرف نوقشت بصورة معمقة عدة قضايا منها قضية منشأ القواعد العرفية وقضية أساس القوة الملزمة للعرف، ولكننا هنا لن نتطرق إلى هذه الآراء بل سنكتفي بالإشارة – في الباب الثاني من هذا البحث – إلى أهم نقاط تلك النظرية لما احتاج الأمر إلى ذلك (1)
* * *
(1) انظر في هذا الموضوع: حجازي (عبد الحي) ، المدخل لدراسة العلوم القانونية، الكويت 1972 م، 1 /440 وما بعدها، فرج الصدة (عبد المنعم) ، أصول القانون، بيروت، 1979م، ص 140 وما بعدها، كيرة (حسن) ، المدخل إلى القانون، إسكندرية، 1974م، ص 272 وما بعدها ARAL (Vecdi) ، Hukuk ve Hukuk Bilimi Uzerine، Istambul 1975، p84. وما بعدها. LE BRUN، La Coutume، les sources، son Autorite son Autorite en Droit prive (these) ، Sean 1932 ; PACHE (Andre) ، La coutume et les usages dans le Droit Prive Positif. Lausanne 1938
الباب الأول
مكانة مفهوم " العرف والعادة "
في أدب الفقه الإسلامي
1-
بصورة عامة:
1-
1 مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامى بصفة عامة:
إن الإسلام أولى اهتمامًا متزايدًا لمنهج التدرج في ميدان التشريع كما اهتم أشد الاهتمام في تطبيق هذا المنهج بكل دقة للوصول إلى الهدف المنشود ويفهم ذلك بكل وضوح من حديث عائشة رضي الله عنها (1) .
وإن منهج التدرج في التشريع يفيد مراعاة موازنة التأثير والتأثر وعدم التشدد عندما يؤتى بأحكام تقتضي ترك الأمور المعتادة المألوفة التي تركت آثارًا عميقة في الحياة الفردية والاجتماعية، كما يفيد ذلك أيضا عندما توضع أحكام تكليفية إيجابية جديدة ومع ذلك فإن المرحلة النهائية لمنهج التدرج تتجلى في وضع الحكم المطلوب تأسيسه بدون انتقاص أو تنازل عن المبدأ.
وبهذه الصورة والكيفية تكون السلسلة التشريعية في الإسلام حائزة على طابع يراعي هذه الموازنة بدقة وحساسية (2) لأن الإسلام استطاع أن يزيل من المحيط الذي واجهه في أول الأمر أمورًا اعتيادية كثيرة كانت لها آثار عميقة في الحياة الفردية والاجتماعية، بمنهج التدرج في التشريع مذيبًا ردود الفعل التي كان يمكن أن تؤثر في السلطة التشريعية كما تمكن في نفس الوقت من وضع القواعد التي يريد وضعها بصفة نهائية ولا شك أن تلك التأثيرات العميقة التي أشرنا إليها آنفًا قد نتجت ونشأت بصفة عامة عن الأعراف والعادات المتبعة آنذاك إذن، يمكن أن نقول إن التشريع الإسلامي لم يكن بعيدًا عن الاهتمام إزاء تأثيرات الأعراف والعادات في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات.
(1) البخاري، الجامع الصحيح، فضائل القرآن: ص 6. " ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا "، ولو نزل لا تزنوا لقالوا " لا ندع الزنا أبدًا.
(2)
انظر لأمثلة متعلقة بتطبيق منهج التدرج في التشريع الإسلامي: بهنسي (أحمد فتحي) ، السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية، مطابع دار الشروق (بيروت والقاهرة) ، 1983م، ص 29-50
كما أشرنا سابقًا فإن الليونة التي نشاهدها أثناء التشريع التدريجى لم تكن تشكل المرحلة النهائية من الأمر بينما مفهوم " التقرير " الذي نتناوله الآن سوف يطالعنا بنتائج أكثر حسمًا ووضوحًا في هذا الميدان: إن السنة التي تشكل المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن لم تكن عبارة عن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وأفعاله، وإنما تتضمن تقريراته صلى الله عليه وسلم أيضًا وهذه التقريرات هي الأمور الاجتماعية الواقعية – ومنها الأعراف والعادات – التي كانت موجودة من قبل في المجتمع فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، واستصوب ديمومتها واستمراريتها (1) والحق أنه يمكن أن نأتي بأمثلة كثيرة وقائمة طويلة للأعراف والعادات التي كانت موجودة قبل الإسلام في المجتمع العربي فقبلها الإسلام ورضي باستمراريتها ولم يرفضها في ميدان التشريع (2) فمن الممكن أن نذكر كمثال حي عقدي المضاربة والسلم لتلك العادات التي كانت موجودة في البيئة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم والتي أقرها الإسلام (3) إذن، نستطيع أن نقول أن التشريع الإسلامي لم يكتف فقط بعدم مواجهة الوقائع الاجتماعية التي لم تضاد الإسلام، وإنما عمل أيضًا من أجل إكسابها مشروعية في الحياة العملية (4) .
وبما أننا سنتناول في الباب الثاني موقف مذاهب الفقه الإسلامي إزاء العرف والعادة وأدلة من يعتبرها مصدرًا من مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، نكتفي هنا بالقول إن المبادئ العامة للتشريع الإسلامي وكذا الحلول والنتائج الفقهية التي توصل إليها فقهاء الإسلام الذين يعملون في إطار تلك المبادئ، تعكس نظرة إيجابية للأعراف والعادات التي هي عبارة عن قواعد السلوك الاجتماعي، ما دامت لا تتعارض والمبادئ الإسلامية والحق أنه يمكن لنا أن نلاحظ في المؤلفات الفقهية الإسلامية عبارات تفيد أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيما (5) ، دون أن تقابل باعتراض وكذلك، أئمة المذاهب الفقهية، فإنهم – ولو لم يعبروا نظريا عن قيمة الأعراف والعادات في التشريع الإسلامي – إلا أنه لا يمكن أن نتصور بأنهم استغنوا تمام الاستغناء في حلولهم الفقهية عن أعراف وعادات البيئات التي عاشوا فيها، بل على العكس من ذلك، فإننا عندما نلقى نظرة على التاريخ الفقه الإسلامي نرى أن المسائل المستحدثة في العراق الذي تسود فيه العادات الفارسية والنبطية تعرض على أبي حنيفة وأمثاله، وأن المسائل المستحدثة في الشام الذي تسود فيها العادات القديمة من قبطية وبزنطية ونحوها تعرض على الشافعي والليث بن سعد وأمثالهما وأن هؤلاء الأئمة كانوا يبذلون قصارى جهدهم للتوصل إلى الحلول الحقوقية مراعين في تلك العادات والتقاليد (6) .
(1) HAMIDULLH) Muhammed) ، “La philosophie juridique chez les Musulmans”، Annales de la Faculte de Droit distambul. 1968،29-32،p140.
(2)
HAMIDULLH) Muhammed) ، Joufersanslar) Orfve Adet) محاضرات (العرف والعادة) في كلية العلوم الإسلامية بأرضروم (تركيا) مترجمة إلى اللغة التركية) مترجم:(Aksu، Zahir)، ص 5 انظر أيضا عنوان:" السنن التي كانت الجاهلية سنتها بأبقى الإسلام بعضها وأسقط بعضها " من " كتاب المحبر " لمحمد حبيب (المتوفى سنة 245هـ)، تصحيح: إيلزه ليحتن شتيتر ومحمد حميد الله حيد آباد الدكن "، 1942م، ص 309 وما بعدها.
(3)
الزيلعي، تبين الحقائق شرح كنز الدقائق مصر، 1315هـ، 5 /52، 53.
(4)
نفس المكان من المحاضرات المذكورة HAMIDULLAH.
(5)
انظر مثلًا ابن عابدين، رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف (في مجموعة الرسائل) ، استانبول، 1325هـ، 2 /113-118، ولعبارة قريبة منها، انظر: السرخسي، المبسوط، مصر 1331هـ، 13 /14، 15.
(6)
أحمد أمين، ضحى الإسلام، القاهرة، 1952م، 2 /164.
1-
2- نظرة عامة إلى مكانة العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي:
إن الكتب التي تعنى بتاريخ التشريع الإسلامي تتناول بصفة عامة موضوع التشريع حسب الأدوار التاريخية ونحن – وإن لم يكن ذكر تلك الأدوار على حدة أمرًا ضروريًّا – يمكن لنا أن نستدل من هذه المشاهدة العامة بسهولة أن التشريع الإسلامي مر بأدوار لها خاصيات مختلفة (وهذا الاستدلال له أهمية من حيث موضوعنا) .
إننا نرى أن المسائل الحقوقية على الرغم من إيجاد حلول لها في إطار المبادئ الإسلامية قبل تدوين الفقه أيضا (أي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين) ، لم تظهر آنذاك الحقوق الإسلامية كعلم مستقل وبالتالي لم تتضح قواعد هذا العلم تمام الوضوح مثلا، فإننا – بالرغم من مشاهدتنا التأثير القوي للأعراف والعادات في النتائج الحقوقية التي توصل إليها في هذا الدور – نلاحظ أنه لم تظهر في الوجود كمصطلح مستقل كما لم تأخذ مكانها بشكل واضح بين قواعد الاستنباط.
أما في دور التدوين فإن الأسس التي استند إليها الاجتهاد قد أصبحت واضحة وأن الاصطلاحات الحقوقية قد اكتسبت أهمية كبرى في تحليل المسائل بشكل تدريجي، والخلاصة أن الفقه الإسلامي قد نمى واكتمل بصفة تدريجية وأصبح علمًا مستقلًا بحيث ارتكز إلى قواعده الواضحة في بذل جهود ومساعي علمية قيمة (1)(وبعبارة واضحة يمكن القول إن تدوين علم أصول الفقه كان متأخرًا زمنيًّا عن تدوين الفقه)(2) لهذا، يجب أن نتحرى بصفة عامة المعلومات الواضحة المتعلقة بمناهج الحقوق الإسلامية واصطلاحاتها في النتائج والثمرات التي توصل إليها من خلال المساعي القيمة التي بذلت في ذلك الدور غير أن الوضعية تكون مختلفة من جهة موضوعنا لأن دور العرف والعادة – على الرغم من ظهوره في الفقه الإسلامي بشكل أوضح وأدق من ذي قبل – إلا أن ما يلفت النظر هو كونهما لم يأخذا مكانتهما بين المصادر الحقوقية بشكل قطعي وواضح، كما لم تتحدد حدود مفهوم العرف والعادة في ميدان التشريع بشكل بين وجلي.
(1) انظر في موضوع ظهور أصول الفقه على الساحة كنظام علمي ومسيرة تطوره في هذا الصدد، مثلا: ابن خلدون، المقدمة، بيروت، بدون تاريخ. ص 453- 455، المراغي (عبد الله) ، الفتح المبين في طبقات الأصوليين بيروت 1974 م. ص 15-21 بلتاجي (محمد) ، مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، الرياض، 1977م. 1 /11 – 15؛ شعبان (زكي الدين9، أصول الفقه الإسلامي، قاريونس 1979م. ص15 وما بعدها؛ صالح (محمد أديب) ، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي بدون مكان وتاريخ، 1 /90-96.
(2)
ابن عاشور (محمد طاهر) ، مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، 1978م، ص 6.
وفي الحقيقة أن أول تعريف للعرف والعادة أمكن التوصل إليه في أدب الفقه الإسلامي هو ما ظهر في الكتاب المسمى " المستصفى " المتعلق بفروع الفقه للفقيه الحنفي أبي بركات حافظ الدين النسفي المتوفي سنة 710 /1310 (1) ونحن في صدد البحث والدراسة عن الأمور المتعلقة بالعرف والعادة في الفقه الإسلامي، نرى إلزامًا علينا أن نتطرق إلى نقطة تتعلق بتعريف العرف والعادة ألا وهي إقدام أساتذة كرام اشتهروا بآثارهم القيمة في العالم الإسلامي أمثال الشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله (2) ، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء (3) والدكتور محمد سلام مدكور (4) والدكتور عبد العزيز الخياط (5) إلى إسناد تعريف للعرف والعادة إلى الغزالي قائلين أثناء نقلهم له " إن الغزالي عرف العرف والعادة في كتابه المستصفى كما يلي
…
" إلا أنه تبين لنا من خلال تحقيقاتنا في هذا الميدان أن سبب هذا الالتباس، قد نتج عن اتباعهم بالفقيه الحنفي ابن عابدين الذي ألف رسالة مستقلة في العرف والعادة عندما كان يعرف العرف والعادة بتعريف الإمام النسفي قائلا: " وفي شرح الأشباه للبيري عن المستصفى.. " دون أن يصرح اسم المؤلف ويرجع المؤلف إلى صاحبه الحقيقى (6) ، مع أن المراد من كتاب المستصفى هنا لم يكن المستصفى الشهير الذي ألفه الإمام الغزالي وإنما هو الكتاب المسمى بالمستصفى أيضا والذي ألف من طرف الفقيه الحنفي الإمام النسفي المشار إليه آنفًا.
وتتجلى لنا أهمية تطرقنا إلى هذه النقطة من جهتين: الأولى: ثبوت أن أول تعريف للعرف والعادة – أمكن التوصل إليه – لم يكن منشؤه الغزالي (المتوفى سنة 505 /1111)، وإنما كان قد صدر ذلك عن الإمام النسفي الذي عاش متأخرًا عن الغزالي بقرنين من الزمن أما الجهة الثانية: - وهي الأهم بالنسبة لنا - كون هذا التعريف الخاص بالعرف والعادة لم يرد في كتاب من كتب علم الأصول وإنما ورد في كتاب من الكتب التي تهتم بالفروع الفقهية (7) لأن تناول العرف بتعريف مستقل – وإن كان يشكل مقدمة لنظرية خاصة بالعرف – فإن الأمر الأهم من حيث أخذه مكانته الخاصة بين الأدلة الشرعية وحصوله على نظرية مستقلة هو دخوله أو عدم دخوله في أدب علم أصول الفقه.
(1) أبو سنة (أحمد فهمي) ، العرف والعادة في رأي الفقهاء، مصر، 1948م، ص8.
(2)
في كتابه " مالك "، مصر، 1952م، ص420.
(3)
في كتابه " الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد – المدخل الفقهي العام " دمشق، 1964م، 2 /838 هامش رقم 2 و 2 /840هامش رقم1.
(4)
في كتابه " المدخل للفقه الإسلامي "، القاهرة، 1969م، ص228.
(5)
في كتابه " نظريه العرف "، عمان، 1977 م، ص23.
(6)
ابن عابدين، رسالة العرف المذكورة، 2 /112.
(7)
ولا يجب من إفادتنا هنا عدم استعمال لفظي " العرف " و " العادة " وعدم وجود أي توضيح في هذا الموضوع في المؤلفات السابقة حتى إننا نعثر على عبارة قريبة جدًا من تعريف النسفي للعرف عند الجصاص (المتوفى سنة 370هـ /980م) ، وذلك أثناء تناوله لفظ " المعروف " الذي يستعمل أيضا في معنى " العرف "، انظر " أحكام القرآن " له استانبول، 1335 هـ، 3 /38 ومن المفيد أن نبين هنا أن هذين اللفظين وخاصة لفظة " العادة " قد استعملا غالبا في كتب الأصول بمعنى القوانين التجريبية أو المسلمات العقلية، انظر على سبيل المثال: الجويني (إمام الحرمين) ، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبد العظيم الديب، دوسة، 1399هـ، 2 /767، الغزالي، المستصفى من علم الأصول، مصر، 1324هـ، 1 /45، 176، 177، البخاري (عبد العزيز) ، كشف أسرار شرح أصول البزدوي، استانبول، 1308هـ، 3 /259؛ الشيرازي، الوصول إلى مسائل الأصول، تحقيق: عبد المجيد تركي، الجزائر، 1979م، 2 /241، 242.
عندما نلقي نظرة عامة إلى الخطوط العامة لمبادئ المذاهب الاجتهادية يمكن أن نتوقع كنتيجة طبيعية أخذ العرف مكانًا متميزًا وخاصا في الفقه الحنفي، ومع ذلك فإننا لا نكاد نشاهد حتى في كتب أصول الفقه الحنفية خطوات جريئة لبيان موقف واضح وصريح تجاه العرف والعادة ويمكن أن نشير كمثال لذلك التردد الذي نجده عند الجصاص (م. سنة 370 /980) إزاء العرف في كتابه الذي يعتبر كأول كتاب وصل إلينا في ميدان علم أصول الفقه من بين الكتب الحنفية (1) : نراه عندما يعرف الاستحسان في هذا الكتاب – عارضًا الاستحسان بشكليه – يبين إمكانية تحقق الشكل الثاني) تخصيص الحكم مع وجود (العلة بواحد من أسباب خمسة ومنها " عمل الناس "، ولكنه مع ذلك لا يجعل عمل الناس سببًا مستقلًا للاستحسان أثناء تفريقه أقسام الاستحسان عن بعضها البعض كل على حدة وإن كان لا يهمل دور عمل الناس عند إيراده أمثلة لكل من أقسام الاستحسان (2) أما الأصوليون الذين جاؤوا من بعده، فنراهم لا يستسيغون جعل نمط خاص للاستحسان بسبب العرف (3) ، إزاء هذا التحاشي الملحوظ في كتب أصول الفقه، فإننا نشاهد بكل سهولة توضيحات متعددة في كتب الفروع حول تحقق الاستحسان بسبب العرف (4) حتى أنَّ المؤلف نفسه في الوقت الذي يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع يحتزر عن ذكر ذلك في كتابه الخاص بعلم أصول الفقه (5) وإلى جانب ذلك، يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لا نكاد نعثر على عناوين مستقلة في كتب علم الأصول لتناول العرف سواء بصفة إيجابية أو سلبية بينما نجد عناوين سلبية لبعض الأدلة الأخرى التي اختلف في اعتبارها الأصوليون مثل الاستحسان والاستصلاح (6) .
(1) فعلى الرغم من أن أول كتاب وصل إلينا باسم " الأصول " في الفقه الحنفي هو كتاب الكرخي (المتوفى سنة 340هـ /951م) المسمى " بالأصول التي عليها مدار فروع الحنفية "، لم يكن في الحقيقة كتابًا يتعلق بأصول الفقه – على خلاف ما ظنه بعض الكاتبين – وإنما هو رسالة صغيرة تضم 39 قاعدة عامة سائدة في الفقه الحنفي (مطبوع في مصر مع " تأسيس النظر " للبوس) أما " أصول الشاشي " (م. 344هـ) فلا يتناول إلا الأدلة الأربعة (بيروت 1982م) بما أن الطبعة المحققة لكتاب الجصاص لم تكن في متناول يدنا أثناء القيام بإعداد البحث اعتمدنا على النسخة المخطوطة له يقول محقق الكتاب الدكتور عجيل جاسم النشمي بشأن أصول الجصاص:" بل يكاد يكون أول كتاب في أصول فقه الأحناف يصل إلينا في شكل كتاب متكامل منسق مترابط ": 1 /4 (الكويت، 1985م)
(2)
الجصاص، أصول الفقه، مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 129، ق. 294/ ب – 298/ ب.
(3)
انظر على سبيل المثال: الدبوسي تقويم الأدلة، مخطوط بمكتبة سليمانية باستانبول (قسم لعله لي) رقم 690. ق. 225/ب. وما بعدها؛ البزدوي، كنز الوصول إلى معرفة الأصول، استانبول، 1308هـ، 4 /5/ 6؛ السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، بيروت، 1973، 2 /202، 203 هذا لا يعني أن كتب الأصول كلها لا يستعمل فيها أبدًا تعبير " الاستحسان لسبب العرف "، انظر مثلًا: الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، دمشق، 1980م، ص 373؛ الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، 1967م، 4 /136؛ الشاطبي، المرافقات في أصول الشريعة، مصر، بدون تاريخ (بتعلقيات الشيخ عبد الله دراز) ، 4 /207، 208.
(4)
انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط، 12 /46، 159؛ الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع بيروت، 1974 م (بالأوفست) ، 7 /395.
(5)
انظر السرخسي، المبسوط، 12 /159 و " أصول السرخسي "، له، 2 /202، 203.
(6)
انظر مثلًا: الغزالي، المستصفى: 1 / 245 – 315؛ الآمدي، الأحكام: 4 / 121 – 140.
والخلاصة أنه مقابل إعطاء أهمية كبيرة لقاعدة " العرف يترك به القياس (1) في كتب الفروع فإننا يمكن أن نسجل أن العرف لم يتناول أثناء التحقيقات الأصولية، إلا في مؤلفات الأدوار الأخيرة وذلك كدليل تال فقط، فضلا عن حيازته مكانًا مستقلًا بين المصادر. ولا شك أن هذه الوضعية تمكننا من القول بوجود ثنائية (dualite) في أدب الحقوق الإسلامية من حيث تناول العرف (2) .
أما العبارات الواردة في كتب الفروع حول العرف والعادة – فبسبب عدم إخضاع مفهوم " العرف والعادة " لخطوط معينة ومحددة – كانت أحيانًا سببًا لاتخاذ فكرة غير صحيحة لتبيين وتوضيح مكانة العرف والعادة في الحقوق الإسلامية وفي الحقيقة إننا نشاهد حتى في البحوث المستقلة التي لجئ إليها من أجل بيان مكانة العرف والعادة في الفقه الإسلامي، بعض الأمور التي كان يجب تناولها في إطار القواعد اللغوية أو في المفاهيم التي تتعلق بتطبيق القانون (مثل " العدالة " (equite) وسلطة التقدير للحاكم) ، وكذلك بعض المسائل التي تدخل في إطار قانون المرافعات واردة في إطار مفهوم " العرف والعادة ".
والحال أنه إذا ألقينا نظرة في إطار أصول الفقه الإسلامي إلى مكانة العرف بخطوطه العامة نجده قد شكل مادة أساسية للأحكام الاجتهادية، ولكنه مع ذلك لم يتمكن قط من الارتفاع إلى درجة المصدر الشكلي (source formelle) وبعبارة أخرى، على الرغم من رجحان تأثير العرف على المجتهد في استنباط الحكم بعد الكتاب والسنة والإجماع النقلي في المسألة التي يوجد فيها العرف إلا أنه لم يأخذ مكانته بين المصادر الشكلية وكذلك بين سلسلة المراتب للأدلة الشرعية، وإنما لعب دوره في تثبيت الحكم بواسطة مفاهيم أخرى وبخاصة منها الاستحسان والاستصلاح (3) وسنقف عند أسباب هذه الحالة في الباب الثاني من هذا البحث.
(1) انظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، القاهرة، 1334هـ، 6 /185؛ ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /114؛ علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، استانبول، 1330هـ، 1 /93، 94؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 101.
(2)
ولسنا نقصد من الثنائية هنا الثنائية التي تطرق إليها المستشرق شاخت الذي يقول: " بهذا المعنى فإن العادة لا يمكن أن تكون معتبرة في نظر الكتب الفقهية إلا في الميادين التي أشارت إليها الشريعة إشارة صريحة ولكن على الرغم من ذلك، فإن العادة نراها تطغى على القواعد الشرعية في كل مكان، ومن هذه الحيثية فإن الأهمية التي أعطيت لها في كتب الفقه لم تكن تتماشى مع المكانة الممتازة التي أحرزتها في تاريخ " الشريعة الإسلامية ") CHACHT (Joseph) ، Encyclopedie de l Isiam “Sanda” لأن ثنائيته هذه تقودنا إلى تقسيم " القانون العرفي " و" القانون الشرعي " في تاريخ الدول الإسلامية من حيث التطبيقات القانونية إذن، فإن هذا الاتجاه لم يكن يتصل ببحثنا هذا وإنما هو قضية راجعة إلى تحقيق التطبيقات القانونية ويمكن أن يكون موضوع بحث خاص لتاريخ التشريع الإسلامي أما مرادنا نحن من الثنائية هنا، فيتجلى في الثنائية الملحوظة في كتب الأصول وكتب فروع الفقه من حيث تناول العرف كدليل من أدلة الأحكام.
(3)
قارن: أبو سنة، العرف والعادة، ص 32؛ خلاف (عبد الوهاب) ، أصول الفقه، نشر دار القلم (كويت، بيروت) ، 1972، ص 91، نفس المؤلف، مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، مصر، 1955 م، ص 123، 124 دواليبي (محمد معروف) ، المدخل إلى علم أصول الفقه، بيروت، 1965 م، ص 30، 31.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أنه – مع قبولنا لوجود فروق واضحة بين " العرف " وبين " الإجماع "(1) المتفق على اعتباره لدى جميع الأصوليين – يمكن أن نشاهد تداخلًا وتعاضدًا بين دليل " الإجماع السكوتي " الذي يحظى بأهمية كبيرة خاصة عند الحنفيين وبين دليل " العرف العام (2) في بعض الحالات، وخاصة عند التوصل إلى أحكام الإباحة في إطار صيغة " من غير نكير " (3) .
والخلاصة أن أمورًا كثيرة في أدب الفقه الإسلامي كان يتوقع الباحث المتعود على مفاهيم النظريات الحديثة أن تتعرض لها في إطار خاصيات اللغة قد تصورت ضمن مفهوم العرف والعادة كما تناولت العادات الاتفاقية والقواعد العرفية التي تلعب دور " القاعدة القانونية "(4) دون تمييز بينهما وبعبارة أخرى، فقد تطرقوا إلى العرف والعادة باعتبار تأثيرهما بصفة مباشرة أو غير مباشرة على النتيجة القانونية التي ستطبق على الواقعة القانونية دون أي اهتمام بالاتجاه إلى وضع نظرية للعرف أو بيان للدور الذي يلعبه العرف والعادة (ككونهما يلعبان دور تكميل الفراغات القانونية أو تفسير النصوص أو إنارة الطريق للقاضي عند استعماله سلطة التقدير أو تفسيره التصرفات القانونية) .
فنحن في بحثنا هذا لن نتناول العرف كقاعدة قانونية فحسب، وإنما سنتطرق إلى العرف والعادة) دون تفريق بينهما باعتبار المضمون) من حيث مكانتهما في أدب الفقه الإسلامي غير أننا سنعمل من أجل توضيح أدوارهما المختلفة الطابع كما سنسعى بعد ذلك (في الباب الثاني من هذا البحث) في ضوء هذه التحاليل لإجراء بحث نقدي للمحاولات المستجدة لتطوير نظرية مستقلة للعرف في الفقه الإسلامي يجب أن ننبه هنا إلى أن الأمثلة في بحثنا هذا قد ضربت لتكون نماذج لاقتراحاتنا المتعلقة بتناول أدوار العرف والعادة المختلفة الطابع؛ لهذا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار دائمًا وجود احتمال تقييم تلك الأمثلة بصورة مختلفة عند المذاهب الحقوقية الأخرى سواء من حيث النتائج أو الاستدلال.
(1) انظر في الفروق بين الإجماع والعرف: خلاف، مصادر، ص 124؛ مذكور (محمد سلام) المدخل للفقه الإسلامي ص 229؛ خياط (عبد العزيز) ، نظرية العرف، ص 31، 32.
(2)
انظر مثلًا: ابن همام، فتح القدير شرح الهداية، مصر، 1306هـ، 6 /157؛ سيد نسيب، أسس الفقه الحنفي (باللغة العثمانية) ، استانبول، 1337- 1339هـ؛ عبد الله (عمر) ، العرف، ص 6 (نقلًا عن " شفاء العليل في حكم الوصية، لابن عابدين، ص 136) أبو زهرة (محمد) ، أصول الفقه، مصر، 1973م، ص 274.
(3)
انظر: البخاري، كشف الأسرار: 3 /228؛ الزيلعي، تبيين الحقائق: 6 /29 سنعود إلى هذه النقطة بمناسبة أخرى.
(4)
ولا يجب أن يفهم من عبارتنا هذه وجود حقوق العرف المستقلة بين مصادر الفقه الإسلامي لأننا كنا قد بينا آنفًا عدم تمكن العرف من الارتفاع إلى درجة " المصدر الشكلي " بين المصادر في الفقه الإسلامي.
2-
دور العرف والعادة في مختلف مجالات الفقه الإسلامي:
عندما نتمكن من التمييز بين موقف المجتهد الذي يستنبط الأحكام مباشرة من النصوص وبين موقف السلطات التنفيذية التي تضع هذه الأحكام حيز التطبيق، نستطيع آنذاك أن نتوصل إلى إدراك المكانة التي يحرزها العرف في الحقوق الإسلامية بشكل أوضح وأصح.
لهذا، فإننا سنحاول أن نفرق في بحثنا هذا بين دور العرف في منهجية القانون (methodologie du droit) وبين دوره الذي يتجلى أثناء وضع القانون في حيز التطبيق ولا نقصد من هذا التقسيم أن السلطة التي تختص بتنفيذ الأحكام تكون بعيدة في جميع الأحوال عن دائرة الاجتهاد من حيث الأهلية والكفاءة، وإنما قد يكون المقام المختص بتطبيق الأحكام جامعًا بين أهلية الاجتهاد وسلطة التنفيذ، وفي هذه الحالة يعتبر مستنبطًا للحكم الذي سيطبق على الحادثة مباشرة من جهة، ومنفذًا له من جهة أخرى.
2-
1- دور العرف والعادة في منهجية القانون:
إن المنهج الذي يجب أن يتبع في حل مسألة حقوقية قد أصبح معلومًا في بيانات معاذ بن جبل الموجزة التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم (1) وعليه، إذا وجد في الكتاب أو السنة نص خاص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية القانونية التي يتحرى فيها الحكم طبق هذا النص، أما إذا لم يوجد لجئ إلى الاجتهاد فيها ولكن المقصود من " الاجتهاد " هنا هو الاجتهاد في المفهوم الضيق لأن وجود نص خاص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية الحقوقية لا يعني أنه لم يدع مجالًا لاختلاف الآراء أبدًا؛ بل على العكس من ذلك، يمكن أن يجب تناول هذا النص والتفكير فيه لفهم مقصود الشارع منه تارة في إطار ألفاظه وتارة في إطار معاني ألفاظه، فالنشاطات البيانية هذه التي تنصب على الألفاظ والمعاني تسمى " بالاجتهاد البياني " إذن، فإن " الاجتهاد " في مفهومه الواسع يتضمن نشاطات تفسير النصوص أي الاجتهاد البياني أيضا (2) أما الاجتهاد في مفهومه الضيق (الذي يلجأ إليه في حالة عدم وجود نص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية القانونية) له نوعان رئيسيان:
فالنوع الأول عبارة عن تحديد " العلل الموجبة للأحكام " في كل حكم " بصورة خاصة "، ليتخذ منها مقياس من مقاييس الحكم فيما يراد إضافته على النصوص بطريق القياس، ويطلق عليه اسم " الاجتهاد القياسي ".
والنوع الثاني هو تحديد " روح الشريعة بصورة عامة " ليتخذ منها أصل من أصول التشريع للحكم في كل حادث جديد استنادًا إلى المصالح المرسلة، ويسمى هذا النوع " بالاجتهاد الاستصلاحي "(3) .
ففي حالة وجود نص خاص يمكن تطبيقه بشكل مباشر على المسألة الحقوقية لا يمكن أن يلعب العرف والعادة أي دور من الأدوار مثلًا لا يمكن أن يتوصل إلى حكم جديد بأي نوع من أنواع العرف في مسألة التبني المعتبر عادة عند العرب كالبنوة الحقيقية بعد أن ألغي هذا الحكم بنص قرآني صريح.
والآن سنلقي نظرة إلى أدوار العرف والعادة في الحالات الأخرى المتقدمة (في الأنواع الثلاثة للاجتهاد) .
2-
1-1 في الاجتهاد البياني:
(أ) في التفسير اللفظي:
على الرغم من فسح المكان للآراء الخاصة بموضوع " التخصيص بالعرف القولي " و"التخصيص بالعرف العملي " في بحوث أصول الفقه، فإنه في حقيقة الأمر يمكن القول بأن الخصائص اللغوية قد تنوولت هناك في إطار مفهوم العرف والعادة وسنشير إلى هذين الدورين للعرف والعادة بإيجاز شديد فيما يلي:
أ- دور العرف القولي:
إن التخصيص بالعرف القولي هو قصر العام على بعض أفراده بموجب " مفهوم القول "، لا بموجب " مفهوم التعامل "، وذلك مثل الدراهم في مكان ما حيث تطلق وتقال ولا يفهم منها في العرف القولي إلا النوع المتعارف عليه في ذلك المكان، والمراد من العرف القولي في تخصيص النص هو العرف البياني الخاص الذي يوجه الاستعمال في عصر نزول القرآن وورود السنة، أي ما كان يفهمه المسلمون، وما يحيط بالاستعمال في شئون تقييده، لأنها تقيد القول، وتجعله في دائرته هنالك اتفاق بين علماء الأصول وعلماء اللغة في دور العرف القولي في تقييد المطلق وتخصيص العام (4) .
(1) انظر لمتن هذا الحديث ولنقده: أبو داود، السنن، أقضية: 11؛ الترمذي، السنن، أحكام: 3؛ ابن حنبل، مسند: 5 /236 – 242؛ السرخسي، أصول: 2 /107؛ ابن حزم، ملخص أبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، دمشق، 1960 م، ص 14،15؛ الشوكاني، إرشاد الفحول، مصر، 1937، ص 202.
(2)
الغزالي، المستصفى: 2 /229؛ البخاري، كشف الأسرار: 3 /268.
(3)
الدوالبي، أصول الفقه، ص 133 – 136، 381 – 382، 434؛ انظر لتسمية " الاجتهاد القياسي "؛الغزالي، المستصفى: 2 /233
(4)
ابن عبد الشكور، مسلم الثبوت؛ والأنصاري، فواتح الرحموت، مصر 1324 هـ، 2 /345؛ الدواليبي، أصول الفقه، ص 235، 236؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 91.
ب- دور العرف العملي:
أما التخصيص بالعرف العملي هو قصر العام على بعض أفراده بموجب " تعامل الناس " ببعض أفراده لا بموجب " مفهومه القولي " فلو كان من عادة المخاطبين في المكان الذي جاء فيه النص تناول طعام خاص كالبر مثلًا وورد الخطاب بتحريم الطعام كقوله: " حرمت عليكم الطعام " فقد انصرف التحريم عند من قال بتخصيص العام بالعرف العملي إلى ذلك النوع من الطعام فقط، رغم أن له مفهومًا عامًا لديهم ويدل على البر وغيره كما يوجد اتفاق بين علماء الأصول في تقييد المطلق بالعرف العملي غير أنهم اختلفوا حول دوره في تخصيص العام، وقد اشتد الخلاف خاصة بين الحنفية والشافعية، فذهب الحنفيون إلى تخصيص العام بالعرف العملي بينما الشافعية يخالفونهم في ذلك والرأي الغالب عند المالكية يوافق تمام الموافقة لرأي الأحناف إلا أن القرافي من المالكية والزيلعي من الحنفية لا يذهبان إلى رأي مذهبهما في هذه المسألة والأستاذ أبو سنة، بعد أن تعرض لهذا الخلاف بصورة واسعة يبين ترجيحه الشخصي في اتجاه الرأي الحنفي (1) .
(ب) في التفسير بالمعني:
كما هو معلوم فإنه يتم تفسير القانون سواء عن طريق بحثه من ناحية اللفظ أو بحثه من ناحية الروح (المعنى) ، وفي نهاية هذا التفسير إذا ما تساوت النتيجة التي تم الحصول عليها مع المفهوم الذي تم استخراجه من لفظ القانون، يقال لهذا التفسير " التفسير المقرر " أو " التفسير البياني "(interpretation declarative) ، أما إذا كان يختلف عن المفهوم المستخرج من لفظ القانون كان هذا التفسير تفسيرًا يحدث في اللفظ تغييرًا، وهذا التفسير يمكن أن يكون في اتجاهين:
إما أن يوسع ما تم فهمه من اللفظ فيطلق عليه " التفسير الواسع "(interpretation extensive) .
وإما أن يضيف ما تم فهمه من اللفظ فيطلق عليه " التفسير الضيق "(interpretation restrictive) .
أ – في التفسير المقرر:
هنا نجد تطابقًا بين النتيجة المستحصلة من التفسير بالمعنى الذي يأخذ العرف والعادة في الاعتبار وبين النتيجة الحاصلة من تفسير لفظ النص ويسمى هذا التفسير الذي يأخذ العرف بعين الاعتبار في النظريات الحقوقية المعاصرة " بالتفسير التعاملي " كما يسمى العرف الذي أخذ بعين الاعتبار " العرف المؤيد "(la coutume confirmatoire) يمكن توضيح هذا النوع من التفسير بالمثال التالي:
يرى أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني جواز بيع أراضي مكة – وهذا إحدى الروايتين من أبي حنيفة أيضا – مستندين إلى ما جاء من النبي صلى الله عليه وسلم ((هل ترك لنا عقيل من ربع)) ، فالنتيجة الحاصلة من التفسير اللفظي لهذا الحديث قد أيدت بالتعامل وقيل:" وقد تعارف الناس بيع أراضيها والدور التي فيها من غير نكير وهو من أقوى الحجج "(2) ويظهر أن هذا النوع من العرف يرجع في حقيقته إلى مفهوم " السنة التقريرية "(3) .
(1) الغزالي، المستصفي، 2 /111، 112؛ نفس المكان من " مسلم الثبوت " و" فواتح الرحموت "؛ الدوالبي، أصول الفقه، ص 234، 235؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 91 – 94، 124 – 125.
(2)
الزيلعي، تبيين الحقائق، 6 /29 ونلاحظ دورًا للعرف يشبه بذلك الدور في مبحث ترجيح الأخبار: فالغزالي يذكر كسبب من أسباب الترجيح بين الخبرين أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين، انظر: المستصفى: 2 /396.
(3)
انظر عنوان: " دور العرف والعادة " في الاجتهاد القياسي " من هذا البحث.
ب- في التفسير الضيق:
المقصود هنا، هو تخصيص العام بالمصلحة التي تتجلى في دائرة العرف والعادة فمثلًا، إن المعنى المفهوم من لفظ الآية الكريمة التي تقول:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1)، يتجه نحو تكليف الأمهات بإرضاع أولادهن دون تفريق بينهم غير أن الإمام مالك يقول:" إذا كانت المرأة شريفة القدر لا يلزمها إرضاع ولدها إن كان يقبل ثدي غيرها للمصلحة العرفية في ذلك حيث جرى العرف لدى أمثالهن على أن تستأجر لأولادهن المراضع "(2) .
ويجدر بنا أن نسترعي الانتباه هنا أنه لا يكون دور العرف في تأييد المعنى الناتج عن لفظ النص وكذلك في تخصيص النص العام (سواء في التفسير اللفظي أو في التفسير بالمعنى) بيت القصيد إلا إذا كان ذلك العرف مقارنًا لورود النص المبحوث فيه، أما إذا كان العرف حادثًا بعد ذلك النص، فإن هذا العرف لا يعتبر ولا يصلح مخصصًا للنص التشريعي باتفاق الفقهاء ولو كان عرفًا عامًّا لأن التخصيص تفسير لمراد الشارع من نصه منذ صدوره عنه، فلا يمكن أن يعتبر النص العام النافذ على عمومه مخصصًّا منذ صدوره بعرف سيحدث فيما بعد، وربما لا يحدث، كما أشار إلى ذلك الأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء (3) ونحن نشاركه الرأي فيما اعترض على كلام ابن عابدين الذي قال: "
…
لأن العرف العام يصلح مخصصا للنص " بدون تمييز في هذا الضابط بين العرف القائم عند وردود النص، والحادث بعده (4) ومع وجود أحكام فقهية تدفع الباحث في الوهلة الأولى إلى نتيجة أن العرف الحادث أيضا يلعب دور تخصيص النص العام، فإنه يجب تحقيق القضية في تلك المواطن بدقة والحقيقة أن النصوص في مثل هذه الحالات مخصصة بعللها؛ أما دور العرف الطارئ عبارة عن تسجيل انتفاء تلك العلل إذن، فإنه يتم أولا في مثل هذه الحالات تفسير غائي (interpretation teleogique) - وذلك بتثبيث علة الحكم المصرحة من طرف النص وإما باستنباطها من طرف المجتهد – وبعد ذلك، فلو تثبت الفقيه من انتفاء العلة بدلالة العرف، حكم بأن الحكم انتفى في دائرة حدود انتفاء العلة وفقًا للقاعدة الأصولية التي تقول: " إن الحكم يدور مع علته وينتفي مع عدمه " (5) .
(1)[سورة البقرة: الآية 233] .
(2)
الزرقاء (مصطفى أحمد) المدخل الفقهي العام (نقلًا عن " أحكام القرآن " لابن العربي) : 2/ 894.
(3)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /902، سنتناول حالة الاصطدام بين العرف والنص في الباب الثاني.
(4)
ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /114، 122، 123.
(5)
السرخسي، أصول: 2/ 182.
مثلًا، في عقود المعاوضات، مع عدم صحة شرط لا يقتضيه العقد عند الأحناف الذين أخذوا في ذلك بظاهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((قد نهى عن بيع وشرط)) ، فإنه يمكن قبول صحة مثل هذا الشرط عندما يصبح عرفًا لأن علة الحكم القائل بعدم جواز مثل هذا الشرط كانت من أجل إزالة النزاع بين المتعاقدين، فبوجود العرف تكون العلة منتفية (1) بالوفاء أيضًا، يستند في الأصل إلى شرط فاسد ولذا كان هذا النوع من البيوع ممنوعًا قبل أن يصبح عرفًا إلا أنه لما أصبح عرفًا جوزه الفقهاء نتيجة انتفاء العلة المشار إليها آنفًا (2) .
ج- في التفسير الواسع:
من الطبيعي أن يكون كل مادة من مواد القانون في إطار اللغة التي يوضع فيها الحكم المراد تفسيره وفي المتن الذي يتضمن على خاصيات هذه اللغة فتارة تكون ألفاظ هذا المتن مبنية على عادات البيئة التي جاء فيها الخطاب وفي مثل هذه الحالات يجب أن لا يفهم القصد من الحكم من المفهوم الذي استحصل من الألفاظ، وإنما عن طريق العادات التي كانت سببًا في احتواء المتن لهذه الألفاظ.
وكمثال لهذا النوع من التفسير في الحقوق الإسلامية نريد أن نشير هنا إلى الحديث الذي أحرز مكانًا في أدب الفقه الحنفي والذي اشتهر باسم " النص المبتنى على العرف " وهذا الحديث الذي يعرف أيضا بحديث " الربا " يشير إلى أربع مواد (الحنطة والشعير والتمر، والملح) ، مبينا ضرورة التبادل فيها بالكيل كما يشير إلى مادتين أخريين (الذهب والفضة) مبينًا ضرورة التبادل فيهما بالوزن وفي الحقيقة أن أكثر الفقهاء الأحناف قد فسروا الحديث بهذا المعنى، ذاهبين في ذلك إلى إضافة الحكم بشكل مطلق للفظي " الكيل " و"الوزن " اللذين وردا في الحديث؛ فعلى هذا الرأي لا يجوز التبادل في المواد الأربعة المذكورة إلا بالكيل كما لا يجوز التبادل في المادتين الأخريين إلا بالوزن غير أن الإمام أبا يوسف في أثناء تناوله لهذا الحديث وتفسيره له لم يكتف بالتفسير اللفظي المجرد وإنما ذهب إلى كون هذه الألفاظ مبنية على عادات ذلك الوقت تماشيًّا مع قاعدة " النص المبتنى على العرف " متوسعًا بذلك في تفسير الحديث وفي الحقيقة عندما ننظر إلى الحديث بدقة يمكن التوصل إلى أن الحكم المستهدف فيه لم يكن يتعلق بضرورة التبادل " بالوزن " أو " الكيل " وإنما هو عدم وجود التفاضل في التبادل ومنع الربح غير المشروع (3) :
(1) البابرتي، العناية شرح الهداية، مصر، 1306هـ، 6 /76؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2/ 901.
(2)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /901، 902 هذا من ناحية انتفاء النزاع بين الطرفين أما موافقة البيع بالوفاء لمبادئ وقواعد الفقه الإسلامي من كل الجهات أو عدم موافقته لها فقضية أخرى يمكن أن يناقش فيها.
(3)
مع أن السرخسي – وهو واحد من أصحاب الرأي المشار إليه آنفًا – يبين أن " المراد في ذلك الحديث المماثلة من حيث القدر"(المبسوط: 12/ 111) ، فإنه يصل أيضًا من خلال ألفاظ الحديث إلى نتيجة تعين النمط في التبادل باستصواب الرسول صلى الله عليه وسلم استنادًا إلى مفهوم، " التقرير " كما يفهم هذا من عبارته التالية: " والأصل أن ما عرف كونه مكيلًا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو مكيل أبدًا وإن اعتاد الناس بيعه وزنًا وما عرف كونه موزونًا في ذلك الوقت فهو موزون أبدًا، وما لم يعلم كيف كان يعتبر فيه عرف الناس في كل موضع إن تعارفوا فبه الكيل والوزن جميعًا فهو مكيل وموزون، وعن أبي يوسف أن المعتبر في جميع الأشياء العرف لأنه إنما كان مكيلًا في ذلك الوقت أو موزونًا في ذلك الوقت باعتبار العرف لا بنص فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنا نقول تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم على ما تعارفوه في ذلك الشيء بمنزلة النص منه فلا يتغير بالعرف لأن العرف لا يعارض النص، المبسوط 12 /142.
أما سبب استعمال لفظي الكيل والوزن فلم يكن إلا تأثرًا بالعادة الجارية آنذاك (1) .
وهكذا فقد استحسن اجتهاد أبي يوسف هذا من طرف كثير من الفقهاء المتأخرين وأصبح موضوع مدح وثناء (2) كما يلاحظ تأثير اجتهاد أبي يوسف هذا في مسائل مشابهة لها صلة بالعرف (3) .
ونلاحظ أيضا نفس الوضعية إزاء الحديث الذي يقول: ((الوزن وزن أهل مكة والكيل كيل أهل المدينة)) وقد انتقد الخطابي انتقادًا شديدًا الذين اعتبروا وزن أهل مكة وكيل أهل المدينة مقياسين غير متغيرين، وجمدوا روح مضمون الحديث في دائرة الألفاظ (4) ولا شك أن المعلومات المتعلقة بالوضع الاقتصادي والمالي لمكة والمدينة والتفسيرات التي تمت مع أخذ الاعتبار لتلك الأوضاع الاقتصادية والمالية تنور لنا الطريق في فهم مثل هذه الأحاديث (5) .
2-
1-2 في الاجتهاد القياسي:
إن دور العرف والعادة في هذا النوع من الاجتهاد يكون في أكثر الأحوال في طابع غير إيجابي (6) لأنه يكون مانعًا لتعدي حكم الأصل إلى الفرع، ولأنه يتجلى كتسجيل لانتفاء المشابهة والمساواة بين الأصل والفرع من ناحية علة الحكم.
(1) انظر: الجصاص، أصول الفقه، مخطوط، ق 276 /ب؛ ابن همام، فتح القدير: 6 /157؛ يقول إسماعيل حقي إيزميرلي في هذا الصدد: " إن أبا يوسف لا يفضل العرف على النص وإنما يفهم النص بمساعدة العرف " في مقاله: " أسس الإجماع والقياس والاستحسان "(باللغة العثمانية)، جريدة " سبيل الرشاد " المجلد: 12، العدد: 295، ص 154 انظر للروايات الأخرى لهذا الحديث التي تلقي ضوءًا على الحكم المقصود وضعه، ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مصر، 1975م، 2 /141 وما بعدها.
(2)
انظر ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /116؛ رشيد باشا، روح المجلة (باللغة العثمانية) ، استانبول، 1326هـ، 1 /123.
(3)
انظر: البابرتي، العناية: 6 /157.
(4)
انظر: الخطابي، معالم السنن (شرح سنن أبي داود) ، حلب، 1934م، 3 /60-64.
(5)
انظر: المعلومات التي تلقي ضوءًا على الموضوع: الكتاني (محمد عبد الحي) ، التراتيب الإدارية، رباط، 1346هـ، 1 /411- 415؛ الشريف (أحمد إبراهيم) ، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول القاهرة1965 م، ص 374، 375.
(6)
إلا أنه ينبغي أن يلاحظ أن السلبية هنا لم تكن تتعلق بالحكم الذي توصل إليه وإنما هي متعلقة بطابع دور العرف.
مثلًا كان أبو حنيفة لا يجوز بيع النحل ودود القز، لأنه كان لا يعتبرهما "مالًا " قياسًا على سائر هوام الأرض كالوزغ والضفادع وكانت العلة في عدم اعتبار مثل هذه الأشياء موضوع عقد هي عدم إمكان الاستفادة منها وبالتالي تضرر أحد المتعاقدين وربح الآخر بطريقة غير مشروعة إلا أن محمد بن الحسن الشيباني لاحظ إمكان الاستفادة منهما واعتبرهما " مالًا " نظرًا لتعامل الناس وجعلها موضوع عقد للبيع والشراء (1) .
والحري بنا أن نبين هنا أن اعتبار بعض العقود كالاستصناع مثلًا في ميدان الاجتهاد قد نتج عن تطبيق منهج ترك القياس بسبب العرف الذي يسمي ذلك عند الحنفية استحسانًا (2) . وعندما يقومون بإيضاح هذا الموضوع يصيرون إلى وضع قاعدة " أن العرف والتعامل يعتبران كدليل لترك القياس وتخصيص النص"(3) . والحال أن هذا النوع من التصريحات وإن كان يشعر بتقدم العرف كمصدر على القياس فإن ذلك يكون مخالفا بالبداهة لترتيب الأدلة في كتب أصول الفقه. ولذا بدل أن يصار إلى إمكان تقديم العرف على جميع أنواع القياس تمسكًا بشكل مطلق بمثل هذه التصريحات فإنه يستحسن التوجه إلى تثبيت معاني مفهوم " القياس" وبالأخص عند الأحناف وفي الحقيقة لما نمعن النظر في الموضوع بدقة نجد أن رجحانية العرف على القياس المتكلم عنها سابقًا لا تتحقق بصفة عامة في إطار " القياس الأصولي "(القياس القانوني gesetresanalogie) وإنما تتحقق في إطار القياس بمعنى " القاعدة العامة "(القياس الحقوقي rechanalogie) أو في إطار مقتضى الدليل العام (4) . أما لو نمعن النظر في البحث عن العامل الحقيقي الدافع إلي وضع مثل هذه القاعدة (أي " أن العرف يترك به القياس ويخصص به العام إذا كان ظنيًّا ") نلاحظ أنهم يقصدون هنا التعامل الجاري منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير والذي يرجع في حقيقته إلي مفهوم الإجماع (5) . وبديهي أن هذا النوع من الإجماع راجع في حقيقته إلى مفهوم " السنة " إذن، في مثل هذه الحالات (كما كان في تجويز عقد الاستصناع) يكون مصير الاستدلال إلى احتمالين:
(1) الموصلي، الاختيار لتعليل المختار: 2 /25؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 103.
(2)
انظر: النسفي (أبو البركات حافظ الدين) ، منار الأنوار، استنانبول، 1308هـ، ص 285؛ ابن نجيم، البحر الرائق: 6 /185.
(3)
أبو سنة، العرف والعادة، ص 27، 28-101.
(4)
شلبي (مصطفى) ، تعليل الأحكام، مصر، 1947م، ص 337 وما بعدها مع أن كلمة " القياس " قد استعملت في كتب الأصول في معنى " القياس الأصولي" غالبا، فإنه يشاهد في عبارات كثيرة أنها قد استعملت أيضا في معنى " القاعدة العامة "، انظر على سبيل المثال: الجصاص، أصول الفقه (مخطوط) ، ق 271/ب، 272/أ: الدبوس، تقويم الأدلة (مخطوط) ، ق 119/أ، 119/ب، 220 /أ، 226/أ؛ البزدوي الأصول: 3 /249؛ السرخسي، أصول: 2 /155 انظر في: "rechsanalogie"، " gesetranalogie" GENY (Francois) ، Methode d،interpretation et sources en Droit prive prive positif، Paris 1954، 1 /105 et s. 11 /131.
(5)
انظر: السرخسي، أصول: 2 /203؛ الغزالي، المنخول: ص 376؛ الآمدي، الأحكام: 4 /138؛ أبو زهرة، أصول الفقه، ص 274.
الأول: أن يذكر الفقيه سنة قولية أو فعلية متعلقة بالقضية الحقوقية، فدور العرف هنا عبارة عن تأييد المعنى من اللفظ كما بينا ذلك تحت عنوان " التفسير بالمعنى ".
والثاني: أن يستند الفقيه في استدلاله إلى مجرد التعامل المذكور. ففي هذه الحالة لا يكون المقصود إلا سنة تقريرية أي تعاملًا استصوب النبي صلى الله عليه وسلم ديمومته.
2-
1-3 في الاجتهاد الاستصلاحي:
كما سبق أن بينَّا تحت عنوان " مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامي بصفة عامة "، فإن المبادئ العامة للتشريع الإسلامي تقف إزاء العرف – فيما أصبح مألوفًا بين الناس وفي التصرفات التي تركت أثرها العميق في الحياة الاجتماعية – موقفًا إيجابيًّا ما لم يكن مخالفًا لها ومغايرًا لروحها.
وخاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أن الأصوليين يرون بصورة عامة أن حوادث الحياة لا حدود لها، أما النصوص محدودة وكذلك أنهم يتبنون مبدأ عدم ترك أية حادثة حقوقية قط دون حكم (1) .، نجد ميدان الاستفادة من العرف بشكل أوسع في مجال الاجتهاد الاستصلاحي. وبعبارة أخرى، فإن العرف الذي لم يدخل في إطار مفهوم " العرف الفاسد " له مكانة هامة في هذا النوع من الاجتهاد الذي يستند إلى المصالح المرسلة. لأنه يعتبر من الظواهر الرئيسية التي تعطينا أوثق المعلومات حول مصالح الناس (2) .
2-
2 دور العرف والعادة في تطبيق القانون:
إن مفهوم " تطبيق القانون " يعني بشكل موجز ومختصر كيفية إقدام القاضي على تناول القواعد القانونية للتطبيق (3) .
(1) الجصاص، أصول الفقه (مخطوط) ، ق. 261/1؛ الجويني، البرهان: 2 /743؛ البخاري، كشف الأسرار: 3 /271؛ ابن رشد، بداية المجتهد، القاهرة، 1952م، 1 /3.
(2)
انظر: السرخسي، المبسوط: 12 /45.
(3)
يجب التنبه إلى أن المقصود من "القانون" هنا هو القانون بالمعنى العام droit (وهو مجموعة القواعد الملزمة التي تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع)، وليس بالمعنى الخاص Ioi انظر: فرج الصدة، أصول القانون: ص 12. وينبغي أيضًا التفريق هنا بين مفهوم، تطبيق القانون، وبين مفهوم، التطبيقات القانونية.
كما سبق أن أشير فإن تاريخ التشريع الإسلامي قد مر على أدوار لها مميزات خاصة. وهكذا، فإن فقهاء الإسلام الذين جاؤوا عقب أدوار الاجتهاد لما لم ينطلقوا في تحليلاتهم الفقهية من منطلق الاجتهاد أي أنهم لم يتوصلوا إلى الحلول الفقهية عن طريق استخراج الأحكام من نصوصها بالاجتهاد، وإنما توصلوا إليها بتطبيق الأحكام الفقهية الموروثة عن المجتهدين السابقين، وبعبارة أخرى لما شكلت المذاهب الحقوقية المتكونة آنذاك: مصدرًا شكليًّا (formellesource) للحقوق (1) . فإن العرف أخذ مكانته في الحياة الحقوقية بشكل أشمل وأوضح. لأن الأعراف قد تبدلت بتبدل الأزمان كما أصبحت أحكام كثيرة كانت تستند إلى العرف بعيدة عن الإقناع وأداء المطلوب أثناء تطبيق الحقوق.
إن تطبيق القانون – كما بينا سابقًا – يكون بيت القصيد في الأصل سواء بالنسبة إلى أدوار الاجتهاد أو غيرها. ولكنه، - لما تطرقنا إلى أدوار العرف والعادة أثناء عملية الاجتهاد تحت عنوان " دور العرف والعادة في منهجية القانون " – فإن ما سنتناوله الآن تحت عنوان (دور العرف) في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف يتعلق بشكل أزيد بالأدوار التي تلت أدوار الاجتهاد؛ أما مضمون العنوانين الآخرين فيتعلق سواء بأدوار الاجتهاد أو الأدوار التي تلتها.
2-
2-1 في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف:
إذا أمكن الإدراك باختلاف فهم النصوص لاختلاف الزمن عند استنادها إلى العرف، أدركنا بسهولة بأن الأحكام المستحصلة عن طريق الاجتهاد يمكن أن يطرأ عليها التغير مع مرور الزمن حالة استنادها إلى العرف، كما يمكن فهم دور العرف في تعيين نتيجة هذا التغير؛ لأن أثر العرف فيما توصل إليه المجتهدون من الأحكام حقيقة لا تنكر (2) . وحتى لسبب ترجيح رأي المجتهد الذي يكون مطلعًا على أعراف وتقاليد زمانه بصورة يقينية، نرى فقهاء المذهب الحنفي يرجِّحون في الأحكام المتعلقة بالقضاء مذهب أبي يوسف لما له من تجربة كبيرة واطلاع واسع في حوادث الحياة وفي ميدان العرف والعادة (3) . كما روي عن محمد بن الحسن الشيباني أيضًا بأنه كان يلجأ تارة إلى أصحاب الحرف لأخذ المعلومات عنهم فيما يتعلق بتعاملهم ونوعية تعاقدهم بينهم (4) .
وبناء على ذلك، فإن البقاء متجمدًا بصفة مستمرة على ما نقل من المجتهدين السابقين، يكون – بدون شك – عبارة عن الانحراف عن أسس الإسلام وعن عدم المعرفة بمقاصد المجتهدين (5) . ولذا، فإن المحققين من الفقهاء المتأخرين الذين أدركوا إمكان حصول نتائج مغايرة لأسس الإسلام وأهدافه السامية من تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف بعينها فضلًا عن كونها مقنعة، أولوا أهمية خاصة لهذا الموضوع.
(1) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /128؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 104.
(2)
ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /128؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 31.
(3)
نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين.
(4)
نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 104.
(5)
القرافي، أنوار البروق في أنوار الفروق، مصر 1347 هـ، 1 /175-177.
فالقرافي مثلًا، يصرح بأن الإفتاء بالأحكام المستندة إلى العوائد بعد تغير ما مخالف للإجماع ويوصف ذلك بأنه " جهالة في الدين " ممن يقولون:" إننا مقلدون، ليس لنا إلا أن نفتي بما في الكتب من الأحكام المنقولة عن المجتهدين " وبين أن تغيير هذه الأنواع من الأحكام بشكل يوافق للعوائد المستجدة لم يكن إنشاء اجتهاد مناقض لاجتهادات المجتهدين، بل على العكس فهو عمل بقاعدة أجمع على وجودها في الفقه الإسلامي جميع المجتهدين كما أجمعوا على ضرورة السير في ظلها (1) .
وكذلك، فإن ابن عابدين الذي أشار بشكل مفصل إلى أهمية العرف في بناء الأحكام وضرورة رعاية المجتهد للتغيرات الطارئة على الأحكام بالتغيرات الطارئة على الأعراف مع تبدل الأزمان والأحوال في المحيط والمجتمع، أعطى أمثلة عديدة في هذا الميدان، وجعل هذه النقطة سببًا دافعًا إلى تأليف رسالته المتعلقة بالعرف (2) .
إننا نوافق الأستاذ الزرقاء مبدئيًّا في ما ذهب إليه – بعد أن تطرق إلى قضية " تبدل الأحكام بتبدل الأزمان " بشكل واسع – من عدم صحة اعتبار هذا الموضوع من صميم نظرية العرف، بل، ضرورة تناولها في إطار نظرية المصالح المرسلة (3) . إلا أننا في هذا الباب لا نتناول العرف كنظرية وإنما من أجل بيان دوره ومكانته في أدب الفقه الإسلامي، ولذا أحسسنا بالحاجة إلى الإشارة إلى دور العرف في تبدل وتغير الأحكام الاجتهادية. في الحقيقة أن التغير الملحوظ في الأحكام بتغير الأزمان لا يمكن إرجاعه كليًّا إلى تغير العرف، وإن كان تأثير التغيرات في العرف في هذا الميدان لا يمكن إنكاره أيضًا.
سنعطي مثالًا لهذا النوع من أدوار العرف قضية قبض المهر: إن القاعدة الفقهية تقضي بأن الحاكم يجب عليه أن يستمع إلى كل دعوى ترفع إليه يقضي للمدعي أو عليه بحسب ما يثبت لديه، ولكن الفقهاء اعتبروا أن تزف الزوجة قرينة على قبضها – على الأقل جزءًا من – معجل مهرها استنادًا إلى العادة المطردة في ذلك، وحكموا بعدم استماع القاضي دعواها وبردها دون أن يسأل عنها الزوج إذا ادعت أن زوجها لم يدفع إليها شيئا من معدل مهرها. لأن دعواها هذه تعتبر مما يكذبه ظاهر الحال بعد الدخول إذا أخذت بعين الاعتبار العادة القائمة في ذلك فلا تسمع (4) . إلا أن تلك العادة قد طرأ عليها التغيير بمرور الزمن وأصبحت كثير من النساء قد يزففن دون قبض شيء من الصداق تيسيرًا على الزوج وذهب الفقهاء المتأخرون إلى تغير هذا الحكم المستند إلى العادة، كما أيده الشاطبي بقوله:" وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضًا بناء على نسخ تلك العادة، ليس باختلاف في حكم (5) . وكذلك يقول القرافي بعد الإشارة إلى العادة القائمة في عصر مالك: " واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فيصبح القول قول المرأة مع يمينها في عدم القبض لاختلاف العوائد (6) .
(1) القرافي، الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، باب، 1967م، في جواب السؤال: 39 ص 231. انظر التعبيرات القريبة منها: الطرابلسي، معين الحكام، مصر، 1357هـ، ص 152-160.
(2)
ابن عابدين، رسالة العرف السابقة، 2 /123-126.
(3)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /319 - 335.
(4)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /210، نقلًا عن ابن عابدين، رد المحتار: 3 /183؛ وتنقيح الفتاوي الحامدية له أيضًا: 1 /20.
(5)
الشاطبي، المرافقات: 2 /286. ويلاحظ هنا أن الشاطبي بنصه يكتبه، ليس باختلاف في الحكم، ومعنى: ليس باختلاف في الخطاب، وذلك في إطار المفاهيم الأصولية، أما الحكم في معنى النتيجة القانونية التي ستطبق على الواقعة القانونية، فالشاطبي أيضًا يشير إلى تغيره لكلمته هذه، ولذلك ذكرناه في صدد التأييد.
(6)
القرافي، الأحكام، في جواب السؤال:39.
2-
2-2- في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم:
لم تكن القواعد القانونية دائمًا في مستوى واحد من حيث إفادتها القطعية ففي بعض الحالات من أجل توفير السهولة في التطبيق أو من أجل ملاحظات العدالة (quite) وما شابهها، أعطيت للقاضي سلطة التقدير ويقال في نظم الحقوق المكتوبة لهذه المواقف " الفراغات الداخلية "(luchan intra legem) ، فالحاكم يقوم بملء هذه الفراغات اعتمادًا على السلطة التي منحها له القانون وفي إطار حدودها فقد أعطيت سلطة التقدير للحاكم تارة في الواقعة القانونية وتارة في النتيجة، منحها له القانون وفي إطار حدودها القانونية وتارة أخرى في كلتيهما (1) .
ومن الممكن في الفقه الإسلامي أيضًا أن يكون المجتهد قد وجد نفسه في نفس الموقف تجاه النص وكذلك القاضي تجاه تطبيق الحكم المستنبط من النصوص.
أما العرف والعادة فدورهما في الحالات التي تتاح فيها فرصة استعماله سلطة التقدير عبارة عن إنارة الطريق له أثناء استعماله لهذه السلطة وبعبارة أخرى، فإنهما يلعبان دورًا مساعدًا في هذا الميدان. ونحن سنكتفي هنا بإعطاء بعض الأمثلة لبيان دور العرف والعادة في المواقف الثلاثة المذكورة:
مثلًا، إن القرآن الكريم اشترط العدالة في الشهود (2) . فهذه هي النتيجة القانونية المبينة بالنص وبناء على هذا، تقبل شهادة من يتصف بالعدالة وترد شهادة من لم يتصف بها. غير أن تقدير أنواع الأفعال التي تطيح من قيمة الفرد في المجتمع والخصوصات التي تزيل وصف العدالة يكون راجعًا إلى الحاكم، أي أن سلطة تثبيت الواقعة القانونية متروكة له. فأعراف وتقاليد المجتمع وكذلك الملاحظات العامة المنبثقة منه تضيء الطريق للحاكم أثناء استعماله لهذه السلطة (3) ، كما يبين ذلك جيدًا المثال الذي أورده الشاطبي (4) .
(1) DESCHENAUX (Henri) ، Traite de Droit civil. Suise Fribourg، 1962، p.92 ets.
(2)
سورة الطلاق: الآية 2
(3)
أبو سنة، العرف والعادة: ص 46. ويجدر الإشارة إلى أنه لا يعترف بدور العرف والعادة في تثبيت اتصاف أو عدم اتصاف الرواة بوصف العدالة) وله إطار خاص في علم مصطلح الحديث) في رواية أخبار الآحاد، انظر: صديق حسن خان، حصول المأمول من علم الأصول، استانبول، 1296 هـ، ص 57، 58
(4)
انظر: الشاطبي، الموافقات: 2 /284
وكذلك، فإن القرآن الكريم لم يبين مقدار النفقة التي تعطى بصفة إجبارية للأزواج من طرف الزوج، بل اكتفى بالحكم على تعيين ذلك المقدار في دائرة " المعارف "(1) . حيث أرجع أكثر الفقهاء تعيين مقدار إلى العرف والعادة (2) .
وكذلك أيضا قبول حق خيار المجلس لكل من المتبايعين ما لم يتفرقا استنادًا إلى الحديث المعروف، كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي حيث قبل خيار المجلس قبل افتراق المتعاقدين، أما بعد ذلك فلم يقبله. وهذه هي النتيجة القانونية فالحاكم سيستفيد من العرف والعادة لتثبيت الواقعة القانونية (أي لتثبيت حصول الافتراق أو عدم حصوله)(3) .
ويمكننا أن نعطي مثالا للموقف الثاني أي ترك تعيين النتيجة القانونية لتقدير الحاكم بعد تحديد الواقعة القانونية، ترك بعض العقوبات التعزيرية لتقدير الحاكم بعد أن عينت الجرائم التي تقتضيها.
أما موقف تعيين الواقعة القانونية من جهة وتعيين النتيجة القانونية من جهة أخرى، فإنه من الممكن أن نذكر كمثال له حالات ترك تعيين الجرائم التعزيرية من جهة وتعيين العقوبات التعزيرية من جهة أخرى مفوضة لآراء الحكام فالحاكم سيستفيد من الأعراف والعادات عند استعمال سلطة التقدير في مثل هذه الحالات ففي جريمة التعدي على الكرامة بالشتم والإهانة مثلًا، إنما يعتبر من الكلام جرمًا يستحق قائله العقوبة التعزيرية ما يكون في عرف الناس شتمًا وإهانة والعقوبة التعزيرية نفسها أيضًا، إنما تكون شرعًا بالقدر الذي يعتبر كافيًا للقمع في نظر العقلاء وعرفهم بحسب درجة الجرم (4) .
(1) سورة البقرة: الآية 233. فلمثل هذه الحالات يستعمل الجصاص مصطلح " الاستحسان " إلا أن المقصود من هذا الاستحسان عنده هو الاستحسان المتفق عليه لدى الجميع لا المختلف فيه، انظر: أصول الفقه له، (مخطوط) ق. 294/أ، 294/ب؛ انظر أيضًا: السرخسي، أصول: 2 /200، 207؛ الآمدي، الأحكام: 4 /136؛ البخاري، كشف الأسرار: 4 /13. ويمكن أن نقول في هذا الموضوع: إذا فهمت كلمة " المعروف " هنا وفي الأماكن المماثلة بمعنى "العرف والعادة " يكون النص ذاته قد أحال الحكم على العرف والعادة مباشرة، أما لو فهمت بمعنى " المقاييس المعقولة حسب الحال والشرائط " فعند ذلك تكون سلطة التقدير للحاكم بيت القصيد وفي هذه الحالة يكون العرف قد لعب دورًا في إنارة الطريق للحاكم أثناء استعمال سلطة التقدير
(2)
أبو سنة، العرف والعادة: ص 47
(3)
أبو سنة، العرف والعادة: ص 47
(4)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /848؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 45
2-
2-3 في تفسير التصرفات القانونية:
من المعروف أن التصرفات القانونية (وبالتالي التعبير عن الإرادة عند القيام بتلك التصرفات) تشكل سببًا هامًّا سواء لكسب الحقوق أو انقضائها (1) فنحن هنا سنعمل من أجل الإشارة إلى دور العرف والعادة في تفسير التعبير عن الإرادة بشكل موجز.
إذا كانت الألفاظ قد استعملت في غير معانيها الحقيقية بموجب العرف القائم في ذلك ينصرف الكلام إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة فلو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية التي هي معناه في عرف المتكلم لترتب عليه إلزام المتكلم في تصرفاته القولية بما لا يعنيه هو ولا يفهمه الناس من كلامه (2) ، وعن هذا أثبت الفقهاء القاعدة القائلة " الحقيقة تترك بدلالة العادة " والتي احتلت مكانًا بين القواعد الكلية في مجلة الأحكام العدلية (3) ولهذا النوع من العرف (العرف اللفظي) أهمية كبيرة في المسائل المتعلقة بالتصرفات القولية مثل الإقرار والطلاق والوقف ونحوها (4) .
هذا في حالة ما إذا كان التعبير عن الإرادة بعبارة مصرحة، أما إذا كان التعبير عن الإرادة بصورة ضمنية فدور العرف (العرف العملي) يتجلى في تفسيره أكثر وضوحًا وفي إمكان الباحث أن يجد عبارات كثيرة مثل (الشرط العرفي كالشرط اللفظي) و " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " و " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " و " العادة محكمة " مع أمثلة عديدة لهذا النوع من أدوار العرف في المؤلفات الفقهية الإسلامية (5) وتسمى هذه العادات في النظريات القانونية الحديثة " العادات الاتفاقية " فمثلا إن كيفية دفع أجرة المأجور يتبع فيها شرط العاقدين، ولكنهما إذا لم يشترطا شيئا كان كيفية الدفع عندئذٍ تخضع للعرف في التعجيل أو التأجيل أو التقسيط (6) .
ويجدر بنا أن ننبه إلى أن معظم العبارات الواردة في المواطن التي يعلم فيها الكاتبون من أجل إبراز أهمية العرف والعادة في الفقه الإسلامي لا تتعلق إلا بدور العادات في إنارة الطريق أمام من يقوم بتفسير التصرفات القانونية، وبالتالي إلى أن سهمًا هامًّا من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي راجع إلى هذا النوع من العرف.
(1) انظر مثلًا: عبد الباقي (عبد الفتاح) ، نظرية الحق، القاهرة، 1965 م، ص 255 وما بعدها؛ فرج الصدة، أصول القانون: ص 548 وما بعدها.
(2)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /849
(3)
المادة: 40.
(4)
انظر في هذا الموضوع: السرخسي، أصول: 1 /90؛ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، بيروت 1973، 3 /46؛ ابن نجيم الأشباه والنظائر، استانبول، 1290هـ، 1 /130؛ وشروح المجلة تحت المادة: 40
(5)
انظر: ابن سلمون، العقد المنظم للحكام، القاهرة، 1301 هـ، 1 /33، 34، والمواد: 36، 37، 43، 44، 45 من مجلة الأحكام العدلية.
(6)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /864 انظر لأمثلة عديدة في هذا الموضوع: ابن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، القاهرة 1301 هـ، 2 /63، ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /139؛ كوزل حصارى، منافع الدقائق شرح مجامع الحقائق، استانبول، 1308هـ، ص 324 وشروح المجلة تحت المواد المذكورة في الهامش السابق.
2-
3 دور العرف والعادة في مجال قانون المرافعات (في تقدير أدلة الطرفين:
يلاحظ الباحث أن سهمًا هامًّا آخر من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي يتعلق بدور العادات أثناء تقدير وتقويم القاضي أدلة الطرفين المتنازعين والحقيقة أن كثيرًا من المواطن التي يصار فيها إلى استعمال اصطلاح " تحكيم العادة " لا تتعلق إلا بمضامين مفاهيم " تحكيم الحال أو ظاهر الحال " و " القرينة " ونحوهما.
كما يمكن أن نذكر بأن الفقهاء كانوا قد اعتبروا أن زف المرأة قرينة على قبضها –على الأقل – بعض صداقها مستندين إلى العادة القائمة في ذلك، فإنه يمكن للباحث أن يجد في كثير من مسائل " القول لمن؟ " قد استند الفقهاء إلى العرف في الترجيح القضائي بين مزاعم المتداعين، فعلى سبيل المثال فإن الزوجين إذا اختلفا في بعض أمتعة البيت أنها ملك الرجل أو المرأة ولا بينة لأحدهما يترجح قول الرجل بيمينه فيما يستعمله الرجال عادة ويترجح كذلك قول المرأة فيما يستعمله النساء، وذلك بقرينة عادة الاستعمال وعرفه (1) .
(1) انظر: ابن فرحون، تبصرة الحكام: 2 /63، 64؛ طرابلسي، معين الحكام: ص 161؛ ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /133؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /865، 916
الباب الثاني
نظرة تحليلية إلى محاولات تطوير نظرية للعرف
في الفقه الإسلامي
بصفة عامة:
حاولنا في الباب الأول من هذا البحث تعيين مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي وتبين لنا من خلال دراستنا أن الأصوليين لم يتناولوا العرف والعادة كدليل شرعي أثناء دراستهم للأدلة الشرعية (1) ، وبالتالي لم نعثر على محاولة لوضع نظرية للعرف بين الأعمال العلمية للفقهاء المسلمين حتى العصور الأخيرة بغض النظر عما ورد في بعض كتب القواعد من المعلومات حول العرف والعادة.
ومع ذلك فإننا – إذا اعتبرنا مختلف أدوار العرف – نجده يحظى بأهمية كبيرة في كتب فروع الفقه وخاصة نلاحظ أن للعرف تأثيرًا هامًّا في حلول كثيرة مما توصل إليها الفقهاء ولو لم يعبروا نظريًّا عن هذه الأهمية فلذا شعر عدد من العلماء في الأدوار الأخيرة وخاصة في عصرنا الحاضر أمثال العلامة ابن عابدين، والشيخ أبي سنة، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، والأستاذ عمر عبد الله، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور عبد الرحمن الصابوني (2) والدكتور الجيدي، والدكتور محمد شنار، شعروا بحاجة إلى تطوير نظرية للعرف في الفقه الإسلامي ويلاحظ أن بعض هؤلاء المؤلفين ينطلقون من منطلق الدراسات الغربية ولو قسميًّا.
(1) ليس من السهل أن لا يستغرب كلام الدكتور الجيدي، إذ يقول:" وإذا كان هناك خلافًا بين الأصوليين فليس في أصل اعتبار العرف وإنما في مدى التوسع في الأخذ به أو التضييق "(العرف والعمل في المذهب المالكي ومفهومهما لدى علماء المغرب الرباط، 1984 م، ص 90) ، وذلك بعد دراسته الواسعة للعرف " كمصدر للتشريع" – مقارنًا بين المذاهب – في رسالته الدكتوراه
(2)
مع أننا اطلعنا على اسم كتاب في هذا الموضوع للدكتور عبد الرحمن الصابوني وهو " العرف والعادة وأثرهما في التشريع الإسلامي "(القاهرة، 1961 م) ، فإننا لم نعثر عليه رغم بحثنا الطويل عنه وكذلك عثرنا على وعد لتناول العرف تحت عنوان " العرف كمصدر للتشريع في التشريع الإسلامي والقانون الوضعي " في كتاب " المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي "(دمشق، 1985م ص 584، هامش رقم 1 و 587 هامش رقم 1) ، للدكتور فتحي الدريني إلا أنه لم يمكن لنا أن نتأكد من ظهور المجلد الثاني لهذا الكتاب والجدير بالذكر أن المؤلف يتناول موضوع العرف باختصار شديد بمناسبة " أدلة التخصيص ومنها العرف ".
بيد أن العرف، نظرًا لاحتلاله مكانًا خاصًّا بين المصادر الشكلية للحقوق في الفقه الغربي، لا يشعر المؤلفون بحاجة إلى مناقشات واسعة حول وصف المصدرية للعرف، بل يتطرقون إلى مسائل فلسفية مثل منشأ القواعد العرفية وقوتها الإلزامية ويبحثون في أركان العرف وشروط اعتباره انطلاقًا من كون العرف مصدرًا من مصادر الحقوق وبطبيعة الحال، فإن العرف الذي يتسم بسمة القاعدة القانونية يشكل المحور الأساسي في هذه النظرية وإلى جانب ذلك تم تناول الموضوعات الجانبية لتلك النظرية مما لم يرتقِ إلى هذه المرتبة من العادات الاتفاقية والعادات التي تلعب الدور المساعد لتفسير القانون أو أحال عليها القانون في بعض المسائل.
أما في الفقه الإسلامي، فيبدو لنا أن عدم اعتبار العرف فيه مصدرًا مستقلًّا بصورة صريحة يشكل العامل الأساسي الذي يتعسر معه وضع نظرية خاصة به، فالمؤلفون الذين أشرنا إليهم آنفًا رغم علو قدرهم واستفادتنا منهم كثيرًا (ولا سيما الشيخين الجليلين أبي سنة والزرقاء) ، تناولوا العرف في أغلب الأحيان دون أن ينتبهوا إلى هذه النقطة وما للعرف من أدوار مختلفة، فلم يحالفهم الحظ في عرض فكرة واضحة عن مكانة العرف وأدواره المختلفة في الفقه الإسلامي.
وبما أننا بينَّا مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي ومختلف أدوار العرف في الباب الأول من هذا البحث سنكتفي بتحليل عناصر هذه النظرية وبتقييم عام للعرف في هذا الباب.
2-
العادة والعرف في اللغة والاصطلاح:
2-
1- العادة لغة واصطلاحًا:
العادة في اللغة اسم من أصل العود ويفيد تكرير الفعل والانفعال والمعاودة عليه –دون بذل جهد خاص – حتى يصير تعاطيه سهلًا كالطبع، ولذلك قيل: " إن العادة طبيعة ثانية (1) .
أما في الاصطلاح فقد عرفها ابن أمير الحاج بأنها " الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية "(2) فهذا التعريف يعطي مفهومًا شاملًا واسع الحدود للعادة في الاصطلاح، لأن لفظ " الأمر " هنا يشمل كل حادث يتكرر ولبيان هذا الشمول يمكن الإشارة إلى الحالات التالية كما ورد في كتابي كل من الشيخ أبي سنة والشيخ الزرقاء (3) .
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة 1366هـ - 1369 هـ، مادة: العود ": 4 /182؛ الأصبهاني، المفردات في غريب القرآن، مصر، 1324هـ، نفس المادة ص 358؛ ابن منظور لسان العرب، بيروت، 1955م – 1956م، 3 /315- 323
(2)
ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير شرح التحرير لابن همام، بولاق، 1316هـ - 1337 هـ، 1 /282.
(3)
أبو سنة، العرف والعادة: ص 10-11، الزرقاء، المدخل الفقهي، دمشق، 1968م، 2 /839- 840 تجب الإشارة إلى أن إحالاتنا على كتاب الزرقاء في هذا الباب من بحثنا ستكون على أساس الطبعة المذكورة هنا وذلك خلافًا لما جرينا عليه في الباب الأول، انظر: الهامش رقم 14 من الباب الأول لهذا البحث) .
(أ) ما يعتاده الفرد من الناس في شؤونه الخاصة: كعادته في نومه وأكله وحديثه.
(ب) ما يعتاده الجماعات والجماهير، مما ينشأ في الأصل عن اتجاه عقلي وتفكيره حسنًا كان أم قبيحًا. ويمكن قبول هذا النوع من العادة مرادفًا للعرف الذي سيأتي بيانه.
(ج) كل حالة متكررة – بصفة عامة – سواء أكانت:
أ- ناشئة عن سبب طبيعي، كإسراع بلوغ الأشخاص ونضج الثمار في الأقاليم الحارة وإبطائه في الباردة، وكثرة الأمطار في بعض الأقاليم صيفا، وفي بعضها شتاءً بحسب الموقع الجغرافي والعوامل الطبيعية.
ب- أو ناشئة الأهواء والشهوات وفساد الأخلاق، كالتقاعس عن فعل الخيرات، وتفشي الكذب والفسق والظلم.
ج- أو ناشئة عن حادث خاص، كالتغير في اللغة الناشئ من اختلاط الأقوام بعضهم مع البعض.
كما يلاحظ فإن تعريف ابن أمير الحاج يهدف إلى أن يتناول في شموله جميع الحالات المتكررة سواء أكانت متعلقة بالإنسان أم لا، وسواء أكانت ناشئة عن اتجاه عقلي وتفكير أم لا ونشاهد أن الشاطبي أيضا يسلك نفس الطريقة في فهم اصطلاح العادة وأنه يقسم العادات إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة (1) أما السيد الشريف الجرجاني فهو يقصر معنى العادة على الحالات التي يشكل موضوعها سلوك الإنسان والتي تستند أصلًا إلى المحاكمة العقلية فيعرفها بقوله: " ما استمر الناس عليه على حكم المعقول – في مكان آخر العقول – وعادوا إليه مرة بعد أخرى (2) إلا أن المفهوم الأول للعادة يعكس بصورة أنسب استعمالها) وكذلك استعمال العرف في كثير من الأحيان على أن يكون مرادفًا للعادة في كتب أصول الفقه (3) ، وإن كان المفهوم الثاني للعادة يمتاز بخاصية تناوله لها كقاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي.
(1) الشاطبي، الموافقات: 2 /279 وما بعدها.
(2)
الجرجاني (سيد شريف) ، التعريفات مع المتممات، استانبول 1275هـ، ص 60
(3)
انظر: الهامش رقم 18 من الباب الأول
2-
2- العرف لغة واصطلاحًا:
يطلق العرف لغة على الشيء المعروف المألوف المستحسن، وهناك معانٍ كثيرة للعرف منها: ضد النكر (كل ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه) ، كل عالٍ مرتفع (ومن ثم أطلقوا على أوائل الرياح وأعاليها " أعرافًا ") ، الجود، شعر عنق الفرس، عرف الديك، موج البحر، اسم من الاعتراف (يقال: له علي ألف عرفًا أي اعترافًا) يفيد لفظ العرف التتابع أيضا، يقال مثلًا: طار القطا عرفًا أي طار بعضها خلف بعض (1) .
أما في اصطلاح الفقهاء فالأمر الملاحظ في هذا الموضوع هو أنهم استعملوا العرف على مدى عصور طويلة دون تحديد مفهومه بتعريف اصطلاحي وأن أول تعريف للعرف، والعادة أمكن التوصل إليه في أدب الفقه الإسلامي هو ما جاء في كتاب المستصفى المتعلق بفروع الفقه للفقيه الحنفي أبي بركات حافظ الدين النسفي (م 710 /1310) ، وذلك على خلاف ما ذكره عدد كبير من الباحثين الأجلاء أمثال المرحوم الشيخ أبي زهرة، والأساتذة محمد سلام مدكور – رحمه الله – ومصطفى أحمد الزرقاء، وعبد العزيز الخياط ووهبة الزحيلي – حفظهم الله – من أن هذا التعريف مقتبس من كتاب المستصفى، للغزالي كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول (2)، فالتعريف الذي أتى به النسفي للعرف ونقله عنه الكثيرون كما يلي:" ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول "(3) ويعثر على نفس التعريف تقريبا عند الجرجاني إذ يقول: " العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول "(4) هناك ملاحظات حول هذا التعريف مثل كونه ناقصًا لأنه يرد العرف إلى قبول الطباع ويعتمد على شهادة العقول بينما لا يمكن أن يعد كل ما قبلته الطباع عرفًا كما يحتاج إلى جهة تمييز بين السليم منها وغير السليم (5) ولهذا يجب أن يزاد في التعريف عنصر جوهري وهو عدم مخالفته للنص الشرعي (6) .
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة " العرف "، 4 /281؛ ابن منظور، لسان العرب، نفس المادة: 9 /237- 241؛ الفيروز آبادى، القاموس المحيط، نفس المادة:3 /173، 174
(2)
انظر الهوامش: رقم 13، 14، 15، 16 من الباب الأول، انظر أيضًا: الزحيلي (وهبة) ، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، دمشق، 1981م – 1982م الجزء الأول (المصادر الاجتهادية) ، ص 379
(3)
اعتمدنا في بحثنا هذا على تثبيت لأبي سنة من أن أول تعريف وصل إلينا للعرف هو للنسفي، وبنينا تقويماتنا للموضوع على هذا الأساس، علمًا بأننا أشرنا إلى وجود بعض التوضيحات للعرف وتعريف له قريب من تعريف النسفي، في كتب الأقدمين انظر: الباب الأول، الهامش رقم 18.
(4)
الجرجاني، التعريفات، ص 60.
(5)
انظر مع الرد عليها: أبو سنه، العرف والعادة: ص 8، 9.
(6)
الجيدي، العرف والعمل: ص 33، 34.
ولم يجد الأستاذ الزرقاء هذا التعريف وكذلك التعاريف الأخرى المأثورة واضحة ولا وافية (1) ، وقال إنه يحتاج إلى شرح طويل، ثم وضع تعريفا جديدًا مصرحًا بأنه مستوحى من التعريف والشرائط التي ذكرها الفقهاء والأصوليون وهو:" عادة جمهور قوم في قول أو فعل " وفي صدد التوضيحات التحليلية لهذا التعريف يبين أن العرف نوع من العادة وأن تحقق العرف يعتمد على نصاب عددي من الناس لا بد منه (محتزرًا عن العادة الفردية أو العادة المشتركة – وهي التي تساوي معتادوها وغيرهم عددًا -) وأن العرف ينقسم إلى لفظي وعملي وأن العادة لا تسمى عرفًا إلا في الأمور المنبعثة عن التفكير والاختبار لأن عادة الجماعة من الناس في قول أو فعل لا تكون إلا عن عقل واختيار وإلا كانت حادثًا طبيعيًّا مثل إسراع بلوغ الأشخاص في الأقاليم الحارة وبطئه في الأقاليم الباردة (2) .
إلا أننا نلاحظ أن تعريف النسفي أفضل من ناحية تحديد معنى العرف حيث يتضمن كلًّا من الركنين المادي والمعنوي – كما سنرى ذلك في أركان العرف -.
2-
3- النسبة بين العادة والعرف:
كما أشرنا آنفًا يرى الأستاذ الزرقاء أن العادة أعم من العرف لأنها تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي، والعادة الفردية، وعادة الجمهور التي هي العرف؛ فتكون النسبة بين العادة والعرف – في نظره – هي العموم والخصوص (3) ويوافق هذا الرأي آراء عدد كبير من الفقهاء أمثال القرافي (664 / 1284)(4) ، وابن فرحون (799 /1397)(5) ، والطرابلسي (841 /1473)(6) ، وابن أمير الحاج (879 /1474)(7) في هذه المسألة.
ومن جهة أخرى ذهب بعض العلماء أمثال فخر الإسلام البزدوي (482 /1089) ، وابن الهمام (861 /1457)(8) ، وكامل ميراث (9) إلى أن النسبة بين العادة والعرف هي العموم والخصوص المطلق ولكن العرف هو الأعم على خلاف الرأي الأول.
هناك رأي آخر يقول: إن العادة تختص بالأفعال والعرف بالأقوال (10) ، إلا أن كلًّا من لفظي العرف والعادة يستعمل أحدهما بدلًا من الآخر في غالب الأحيان أي أنهما بمعنى واحد دون تفرقة بينهما (11) .
مع أنه يمكن الذهاب إلى تفريق بين هذين اللفظين، انطلاقًا من معانيهما اللغوية مثل القول بأن العرف يسوده طابع العلم والمعرفة والفهم، وبأن العادة تسودها أوصاف العمل والحركة والحادثة (12) ، ومثل القول بأن العرف يعكس " الشعور المشترك للمجتمع "، فإن شيوع استعمال أحدهما مكان الآخر يستسيغ اعتبارهما مفهومين مترادفين (13) .
(1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /131 هامش رقم 1.
(2)
المرجع نفسه: 2 /840- 843.
(3)
الزرقاء، المرجع نفسه: 2 /843، 844.
(4)
القرافي، شرح تنقيح الفصول في الأصول، مصر، 1306هـ، ص 200.
(5)
ابن فرحون، تبصرة الحكام: 2 /57.
(6)
الطرابلسي، معين الحكام: ص 125.
(7)
ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير: 1 /282.
(8)
أبو سنة، العرف والعادة: ص 11، 13.
(9)
ترجمة تجريد الصريح: MIRAS (Kamil) ، Sahih- I Fuhari Muhtasari Tercrid – I Sarih Tercumesi، Ankara، 1956، 5/117 N1
(10)
الزبيدي (السيد محمد مرتضى) ، تاج العروس، مصر، 1306 هـ، 2 /439، نقلًا عن صاحب: التلويح "
(11)
رشيد باشا، روح المجلة: 1 /118؛ أبو زهرة، مالك: ص 420 وأبو حنيفة ص 350 هامش 1.
(12)
(فلسفة التشريع الإسلامي / مقدمة على ترجمة أصول الفقه لخلاف) ATAY (Huseyin) ، Iislam Hukukunaa orf، Izmir، p 106- 107 (محمد شنار، العرف في الفقه الإسلامي)
(13)
LEVY (Reuben) ، The Social Structure of Idlam، Cambridge، 1957، p248، ،N1.
وخلاصة القول، فإن لفظي العرف والعادة ثم استعمالها في أدب الفقه الإسلامي كمفهومين لم تعين بشكل واضح وجلي حدودهما في ميدان التشريع ومترادفين غالبًا كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول وسنعود إلى تحليل وتقويم الموضوع فيما بعد.
هذا وقد ورد استعمال لفظي " السنة " و" الشرعة " في معنى العادة في صدر الإسلام (1) .
أما فقهاء القانون بين " العرف " الذي يلعب دور مصدر من مصادر الحقوق مباشرة أي دور القاعدة القانونية وبين " العادة " التي لم تصل في إلزاميتها إلى درجة العرف (العادة الاتفاقية (usage conventionnel) بفروق، منها:
(أ) أن العرف يلزم الطرفين ولو كانا يجهلانه بخلاف العادة فإنها لا تلزمها إلا إذا قصدا الإحالة عليها صراحة أو دلالة.
(ب) من يريد التمسك بالعادة فعليه أن يثبتها، أما العرف فلا محل لإثباته لأن معرفة العرف كمعرفة القانون المفروض من مهمة الحاكم.
(ج) للحكام أن يراعي العرف رأسًا، بخلاف العادة فإنه يجب على صاحب القضية أن يتمسك بها.
(د) أن العرف يجب على الحاكم مراعاته حتما، وإلا تعرض حكمه لرقابة من طرف سلطة أعلى منه، بخلاف العادة التي لا تخرج عن أن تكون واقعة يكيف الحاكم معها، ولا تثير لديه أكبر اهتمام (2) .
إلا أننا لا نتناول العرف في بحثنا هذا كقاعدة قانونية فحسب، وإنما نتطرق إلى العرف والعادة من حيث مكانتها في أدب الفقه الإسلامي دون تفريق بينها باعتبار المضمون مبدئيًّا كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول أيضا (القسم الأخير من 1-2) .
(1) العيني (بدر الدين) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، مصر ،1348هـ: 12/16SCHACHT (joseph) ، ‘Sharia “، Encyclopedie De L Islam، Leyde (hollande) ، 1934، IV/335.
(2)
انظر المراجع المذكورة في الهامش رقم 1، من الباب الأول وأيضًا الجيدي، العرف والعمل، ص 38.
3-
أنواع العرف والعادة:
يمكن تقسيم العرف إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة هذه هي أهم تلك التقاسيم:
1-
من حيث اعتباره الشرعي وعدم اعتباره:
(أ) العرف الصحيح.
(ب) العرف الفاسد.
2-
من حيث المحيط الذي فشا فيه:
(أ) العرف العام.
(ب) العرف الخاص.
3-
من حيث ماهيته:
(أ) العرف اللفظي.
(ب) العرف العملي.
وقبل الشروع في بيان أنواع العرف يجدر بنا أن نشير إلى أن العرف يشمل المواقف السلبية، كما يشمل المواقف الإيجابية ويمكن أن نعطي مثالًا للمواقف السلبية عرف الناس في تسامحهم فيما يقع خارج البساتين مثلًا من ثمار الأغصان التي تتدلى خارج حدودها، فيجوز التقاطها دون إذن مالكها ولا يعتبر ذلك افتئاتًا على مبدأ حرمة الأموال (1) .
3-
1- أنواع العرف من حيث اعتباره الشرعي:
3-
1-1- العرف الصحيح:
العرف الصحيح هو العرف الذي لا يكون فيه تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة، فهذا النوع معتبر في نظر الشرع وله سلطان محترم.
3-
1-2- العرف الفاسد:
العرف الفاسد هو العرف الذي يكون فيه تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة فإن كان العرف مناقضًا لما جاءت به الشريعة من أصول ومبادئ ولأحكامها الثابتة التي لا تتغير لم يكن عندئذٍ له اعتبار شرعي لأن نص الشارع مقدم على العرف (2) .
إلا أن أحوال تعارض العرف مع الأدلة الأخرى تختلف، ولا يترتب على العرف أحيانا التعطيل المذكور بل يكون العرف مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما، فللتمييز بين حالة وحالة يجب النظر التفصيلي الذي تختلف فيه النتائج بحسب موقف العرف من الأدلة الأخرى وسنعود إلى هذا الموضوع تحت عنوان " شروط اعتبار العرف " وسنحيل القارئ على ما ورد من بيان وتفصيل لبعض المسائل في الباب الأول.
(1) رشيد باشا، روح المجلة: 1 /126؛ الدريني، المناهج الأصولية: ص 579، 580 هامش 1.
(2)
السرخسي، المبسوط: 12 /196؛ النسفي، المستصفى، مخطوط، ق 215 /ب.
3-
2- أنواع العرف من حيث المحيط الذي فشا فيه:
3-
2-1- العرف العام:
هو ما تعارفه عامة أهل البلاد سواء كان قديمًا أو حديثًا أي سواء كان في عهد الرسالة وعهود الاجتهاد أو في عهود التقليد (1) ، وينتظم هذا النوع كثيرًا من الظواهر الاجتماعية الفاشية في جميع البلاد بين جميع الناس مما لها مساس بالأحكام الفقهية فعلى سبيل المثال يمكن ذكر عقد الاستصناع وبيع المعاطاة، وتأجيل جانب من مهور النساء.
والدور المعترف به للعرف العام يتمثل في عبارة الفقهاء التالية: العرف العام يثبت به الحكم العام (2)
3-
2-2- العرف الخاص:
هو الذي لا يكون فاشيًّا في جميع البلاد بين جميع الناس بل يكون مخصوصًا بقطر أو مكان دون آخر، أو بفئة من الناس دون أخرى، فأشكال وبيئات هذا النوع كثيرة لا تحصى، لأنه التعامل الجاري بين أرباب حرفة معينة أو صنعة معينة على أن يكون مصطلحات هذه الفئة أو ذلك الفن داخلة فيه يعتبر كلها من قبيل العرف الخاص مثل عرف التجار فيما يعد عيبًا، وما لا يعد كذلك والألفاظ التي اصطلح عليها المحامون أو أصحاب حرفة الخياطة وتعارف أهل بلد معين بالنسبة لألفاظ الوقف والوصايا والأيمان.
أما دور العرف الخاص فيتجلى في إفادة الحكم بين متعارفيه فقط لا بين عامة أهل البلاد فبعبارة الفقهاء: العرف الخاص يثبت به الحكم الخاص (3) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الألفاظ التي تم استعمالها من طرف الشارع في معانٍ خاصة نحو الصلاة والزكاة أيضًا من قبيل العرف الخاص مثل مصطلحات أهل حرفة معينة.
وكلتا الفئتين تدخلان في نوع العرف اللفظي باعتبار الماهية كما سنرى قريبًا ولكن الفقهاء لا يزالون يعتادون إطلاق اسم " العرف الشرعي " على تلك الألفاظ بناء على شرفها وأهميتها (4) ورغم ما قد يكون هناك من حسن التنويه به إلا أن هذا لا يكون مسوغًا لإضافة هذا القسم نوعًا مستقلًا (5) .
3-
3 أنواع العرف من حيث ماهيته:
3-
3-1-العرف اللفظي أو القولي:
هو ما تعارف عليه الناس في بعض ألفاظهم أو تراكيبهم في معنى معين غير المعنى الموضوع لها لغة بحيث يصبح ذاك المعنى هو المفهوم المتبادر منها إلى أذهانهم عند الإطلاق بلا قرينة ولا علاقة عقلية كتعارفهم إطلاق لفظ " الولد " على الذكر دون الأنثى وإطلاق لفظ "الدراهم " على النقود الرائجة في البلد مهما كان نوعها وقيمتها حتى الورق النقدي في يومنا مع أن الدراهم في الأصل نقد فضي مسكوك بوزن معين وقيمة محددة، وإطلاق لفظ " البيت" على الغرفة في بعض البلدان وعلى الدار بجملتها في البعض الآخر.
(1) أبو سنة، العرف والعادة: ص 19
(2)
ابن عابدين، نشر العرف (في مجموعة الرسائل) : 2 /132؛ علي حيدر، درر الحكام: 1 /94.
(3)
الحموي، غمز عيون البصائر: 1 /134؛ علي حيدر، درر الحكام: 1 /94.
(4)
رشيد باشا، روح المجلة: 1 /119؛ الدريني، علي حيدر، المرجع السابق: 1 /94
(5)
الخياط، نظرية العرف، ص 34.
والذي يجب التنبه إليه هنا هو أنه إذا احتاج فهم المعنى المقصود إلى قرينة أو علاقة عقلية لم يكن ذلك عرفًا بل هو من قبيل المجاز (1) وكثيرًا ما يكون أصل الألفاظ العرفية مجازات لغوية لا يفهم منها المراد إلا بقرينة ثم يتكرر استعمالها فتصير مجازات مشهورة، ثم يزداد شيوع الاستعمال حتى يفهم منها المراد من غير قرينة، وتهجر معانيها الأصلية حتى لا تفهم منها إلا بالقرينة، عندئذٍ ينعكس الأمر: فما كان مجازًا لغويًّا يصبح حقيقة عرفية وما كان حقيقة لغوية يصبح مجازًا عرفيًّا (2) .
ومع أن الأستاذ أبا سنة يرى إمكانية استخراج نوع آخر للعرف من عبارات الفقهاء ويقسم العرف إلى " مقرر للمعنى اللغوي "، و" قاض عليه:، فإنه يبدو لنا أن اعتباره في إطار العرف اللفظي يكون أنسب وأفضل لأن المقرر ما طابق معناه المعنى اللغوي، والقاضي ما غيره بتخصيص أو تقييد أو إبطال (3) ، وهذا كما هو بين لا يتجاوز نطاق العرف اللفظي.
وهذا النوع من العرف له أدوار مختلفة، منها " دوره في الاجتهاد البياني / التفسير اللفظي (تخصيص العام وتقييد المطلق) ودوره في تطبيق القانون / في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم / وفي تفسير التصرفات القانونية، كما بيناها في الباب الأول (2-1-1؛ 2-2-2؛ 2-2-3)(4) ، والجدير بالإضافة هنا هو دور هذا النوع من العرف في تعيين الأحكام الشرعية التي تترتب على أقوال المكلفين، وبخاصة في مباحث اليمين، وألفاظ الطلاق، فهذا الدور تتجلى أهميته في أمور الفتوى خاصة.
3-
3-2- العرف العملي أو الفعلي:
هو ما اعتاده الناس من أعمال ما يتعلق بشئون حياتهم وتبادل مصالحهم وتصرفاتهم فمن أمثلة العرف في الأفعال العادية مما لا يقوم على تبادل المصالح وإنشاء الحقوق: اعتياد الناس في بعض الأماكن أكل نوع خاص من اللحوم كالضأن والبقر، أو استعمال نوع من الملابس والأدوات ونحو ذلك ومن أمثلته في المعاملات المدنية أي في التصرفات التي يقصد منها إنشاء الحقوق بين الناس أو تصفيتها أو إسقاطها سواء أكانت تلك التصرفات عقودًا أم غيرها: اعتياد الناس في اكتفائهم أو عدم اكتفائهم برؤية البيت من الخارج (في موضوع خيار الرؤية)(5) ، وتعاملهم في وقف الأشياء المنقولة (6) ، وتعارفهم على أن وضع اليد الطويلة على عقار دون سند شرعي أو ولاية دليل الملك (مسألة الحيازة)(7) واعتيادهم في بيع بعض الأشياء الثقيلة مثل الحطب والفحم أن تكون على البائع حمولتها إلى بيت المشتري (8) .
(1) القرافي، الفروق، الفرق: 28، 1 /171؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /845 مع أمثلة " القرينة " و " العلاقة العقلية ".
(2)
انظر: القرافي، الفروق، الفرق:133، 3 /85؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /834، 835 مع الأمثلة
(3)
أبو سنة: العرف والعادة، ص20 ،21
(4)
انظر أيضا: القرافي، الفروق، الفرق: 2، 1 /39 فما بعدها، والفرق: 28، 1 /171- 178.
(5)
النسفي، المستصفى، مخطوط، ق 208 / ب، انظر لأمثلة أخرى: 200/ب، 201 / أ، 230 / ب، 259 / أويقول النسفي كقاعدة:" ويحمل العقد على ما هو المعتاد " 234/ ب.
(6)
السرخسي، المبسوط: 12 /45.
(7)
الدريني، المناهج الأصولية، ص 759 هامش 1
(8)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /846، 847؛ انظر: لأمثلة عديدة مما يتعلق بدور العرف العملي في تفسير العقود، القرافي، الفروق، الفرق: 199، 3 /283- 288.
وكما يتبين من خلال الأمثلة لكل من الصورتين – (أ) الأفعال العادية؛ (ب) المعاملات المدنية – فإن الصورة الأولى لا تدخل في الحقيقة في إطار القواعد العرفية، بل يكون لها دور في التفسير، وذلك إما في تفسير النصوص وإما في تفسير التعبيرات عن الإرادة (ينظر لأمثلة تصوير هذا الدور، الباب الأول 2-1-1 (أ) . (ب) ؛ 2-2-3) أما الصورة الثانية فهي تلك التي تشكل العمود الفقري في نظرية العرف التي تهدف أول ما تهدف إلى تناول العرف كمصدر من مصادر الحقوق وسنقف عند أهمية هذا النوع (العرف العملي) على أن يكون محددًا بالصورة الثانية أثناء تقويمنا العام للعرف وسنحاول القيام بتحليل عدم احتلاله مكانًا خاصًّا بين مصادر التشريع الإسلامي.
4-
الأدلة التي يعتمد عليها لإثبات أن العرف والعادة أصل من أصول التشريع الإسلامي:
بما أننا سنتعرض لموقف مذاهب الفقه الإسلامي إزاء العرف والعادة أثناء تقويمنا العام للعرف، نكتفي هنا بذكر الأدلة الخاصة التي اعتمد عليها بعض العلماء لإثبات حجية العرف، وكذلك الأدلة العامة التي يمكن التعويل عليها في هذا الصدد.
4-
1- الأدلة الخاصة:
4-
1-1 الكتاب:
ورد في القرآن الكريم لفظ العرف مرتين: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) ، {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} (2) .
(1)[سورة الأعراف: الآية 199] .
(2)
[سورة المرسلات: الآية 1] .
ذكر فريق من الفقهاء الآية الأولى حين استنادهم إلى العرف والعادة في بعض المسائل الفرعية وعلى رأسهم القرافي وابن قيم الجوزية والطرابلسي (1) .
ومع أن هناك أقوالًا كثيرة حول المراد بالعرف في الآية مثل:
- أن المقصود منه شرائع الأنبياء السابقين ما لم يحدث إليه نسخًا.
- أن المراد منه العوائد الجارية في الأمصار الجامعة ما لم يخالف قاطعًا محكمًا.
- إن الآية نزلت في أخلاق الناس.
- أنه يعبر عن الفضائل الإنسانية (2) .
فإن آراء أغلبية العلماء تنصب على أن الآية لا تدل على حجية العرف بالذات بل المقصود هنا هو المعروف، وأما المعروف فهو اسم جامع لكل ما هو من الدين سواء عرف حسنه بالعقل أو لم يعرف الأمن الشرع (3) .
ونرى لزامًا علينا أن نشير إلى أن الدكتور الجيدي لم يلتزم المبدأ الذي حث الباحثين على التزامه – وهو مبدأ الاهتمام البالغ في نسبة القول إلى صاحبه ولو أدى ذلك إلى الإفراط في جلب النصوص (4) حيث قال: " وقد بنى (يعني القرافي) استدلاله هذا على أن المراد بالعرف في الآية عادات الناس وما جرى تعاملهم به، فحيث أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالأمر، دل على اعتباره في الشرع، وإلا لما كان للأمر به فائدة "(5) ، بيد أن هذا التعليق على الاستدلال القرافي يمكن اعتباره من قبيل حمل ما لم يقل به عليه، لأن القرافي لا يقول في هذا المضمار إلا الكلام التالي (بعد ذكر الآية) :" فكل ما شهد به العادة قضى به لظاهر هذه الآية إلا أن يكون هناك بينة "(6) والنقطة الهامة هنا هي أن القرافي لا يستند إلى هذه الآية إلا في مقام الاستفادة من العادة كوسيلة لإثبات واقعة مادية لا في مقام الاعتماد عليه كمصدر للتشريع بينما الدكتور الجيدي يتمسك بهذا الدليل في الباب الذي عنونه " العرف كمصدر للتشريع " والحقيقة أن التعليق المذكور عبارة عما ورد في كتاب الأستاذ أبي سنة من بيان حول الاستدلال بالآية المذكورة حيث يقول – بعد ذكر عبارات كل من ابن عابدين والقرافي والطرابلسي -: " أقول " وهذا الاستدلال مبني على أن المراد
…
" دون أن ينسب تفسيره الشخصي إلى أحد (7) .
(1) القرافي، الفروق، الفرق: 160، 3 /149؛ ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت، 1953م، ص 97؛ طرابلسي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، بولاق، 1300 هـ، ص 125.
(2)
انظر لأصحاب الآراء ومصادرها: الجيدي، العرف والعمل، ص 54.
(3)
انظر: الجصاص، أحكام القرآن: 3 /37؛ ابن الأثير النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي – محمود محمد الطناحي، مصر، 1963/، 3 /216؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم،مصر، 1300هـ، ث / 280، 281، صديق حسن خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، بولاق، 1300 هـ - 1301هـ، 3 /433؛ مناقشة الموضوع بصورة واسعة: أبو سنة، العرف والعادة: ص 24، 25.
(4)
الجيدي، العرف والعمل: ص 521.
(5)
نفس الكتاب ص 53.
(6)
القرافي، الفروق: 3 /149.
(7)
أبو سنة، العرف والعادة، ص 23
ونجد في كتاب الأستاذ الزرقاء تقويمًا قيمًا في مسألة الاستدلال بهذه الآية على العرف حيث يقول: " ولا يخفى أن العرف في هذه الآية واقع على معناه اللغوي وهو الأمر المستحسن المألوف، لا على معناه الاصطلاحي الفقهي ولكن توجيه هذا الاستدلال هو أن العرف في الآية وإن لم يكن مرادًا به المعنى الاصطلاحي، قد يستأنس به في تأييد اعتبار العرف بمعناه الاصطلاحي، لأن عرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم هو ما استحسنوه وألفته عقولهم والغالب أن عرف القوم دليل على حاجتهم إلى الأمر المتعارف فاعتباره يكون من الأمور المستحسنة (1) .
أما الآية الثانية التي تضم لفظ العرف فلا يعول عليها في صدر الاستدلال بحجية العرف (2) وإن كان هناك من يسعى إلى البحث عن علاقة الآية بالعرف انطلاقًا من معنى المعروف (3) .
وإلى جانب هذا اللفظ ذكر في القرآن الكريم لفظ " المعروف " ثمان وثلاثين مرة (4) ومع أن المعروف يفيد معنى " العرف، فإن استعماله في القرآن الكريم في أغلب الأحيان ورد في المعنى اللغوي وهو – كما سبق – اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس (5) في معنى " النصفة " (6) ، ففي هذه الحالة يكون للعرف دور مساعد لتعيين ما هو موافق للنصفة كما بينا ذلك في الباب الأول (2-2-2، انظر أيضًا: الهامش رقم 76) .
4-
1-2 - السنة النبوية:
استدل عدد من العلماء ممن يستند إلى العرف والعادة أثناء استخراج أو بيان بعض الأحكام الفرعية استدلوا بالحديث الآتي على حجية العرف: " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " فهذا الحديث الذي اعتمد عليه العلماء الأحناف وغيرهم لإثبات حجية العرف (7) ، لم يسلم من المناقشة سواء من ناحية رفعه أو من ناحية دلالته على المطلوب.
(1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /133.
(2)
الأصبهاني، المفردات: 335؛ ابن منظور، لسان العرب: 9 /239
(3)
" والمرسلات عرفا": يعني الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان والعرف ضد النكر، وقيل: أراد أنها أرسلت متتابعة كعرف الفرس ابن الأثير، النهاية: 3 /217؛ الآلوسي، روح المعاني، بولاق 1301هـ، 9 /257.
(4)
عبد الباقي (محمد فؤاد) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مادة " عرف "(سوى " معروفة ") .
(5)
ابن الأثير، النهاية: 3 /216؛ ابن منظور، لسان العرب: 9 /239، 240.
(6)
نفس المصدرين السابقين
(7)
السرخسي، المبسوط: 12 /45؛ النسفي، المستصصفى، مخطوط، ق 235/ ب؛ ابن الهمام، فتح القدير: 7 /157؛ ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية: ص 97؛ السيوطي، الأشباه والنظائر، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، بيروت، 1987م؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /127.
أما من حيث رفعه فقد " قال العلائي: لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده "(1) وإلى نفس النتيجة توصل علماء آخرون أمثال السخاوي والزيلعي (2) ، على أن السرخسي ذكر هذا الحديث أثناء تناوله لأدلة حجية الإجماع من السنة بشكل يعطي انطباعًا أنه يعتبره حديثًا مرفوعًا (3) ، وحتى أن الشيخ المرحوم أبا زهرة صرح بأنه روي مرفوعًا (4) .
ويرى الأستاذ الزرقاء أن القاعدة التي تقضي بأن الخبر الموقوف إذا تضمن معنى تشريعيًّا يعتبر كالخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن هذه القاعدة تزيل نقطة الطعن لهذا الحديث من ناحية الرفع (5) إلا أن الشيخ أبا سنة يقول ردًّا على مثل هذه الفكرة بالنسبة إلى هذا الحديث، " ولكنا نقول في الجواب عنه: إنه على فرض أنه في حكم المرفوع فإن دلالته على المطلوب لم تتم كما يأتي (6) .
ومن جهة أخرى، لا يعد الغزالي هذا الحديث صالحًا لإثبات أصل من الأصول نظرًا لكونه من أخبار الآحاد (7) .
وهنا نود الإشارة إلى دليل آخر من السنة يستدل به الدكتور عبد القادر شنار على حجية العرف في الفقه الإسلامي، كما ورد في كلامه:" أن الفقهاء المسلمين لا يزالون يعتبرون العرف سواء كان عرف العرب أو أعراف وعادات البلدان المفتوحة من لدن عهد الصحابة عملًا بالحديث النبوي الذي جاء فيه: يعمل في الإسلام بفضائل الجاهلية " ونعتقد أن المؤلف يناقض نفسه بنفسه لأنه يقول في الهامش: " لم يكن لنا العثور على هذا الحديث في المصادر التي في متناول يدنا مع أن الدكتور محمد حميد الله يذكره مرات عديدة "(8) ولو كان الفقهاء يعتبرون هذا الحديث في مشروعية العرف لذكروه في المصادر وطالما لم يذكر فيها فلا يمكن إيضاح حجية العرف به عند الفقهاء وبالإضافة إلى ذلك إننا إذا نظرنا إلى مسند أحمد بن حنبل الذي يعتمد عليه الدكتور محمد حميد الله في نقله هذا الحديث نجد فيه – كما أشار إليه الدكتور شنار أيضًا – بعض الروايات المشتملة على عبارات التقدير والإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب سائب بن عبد الله شريكه في عهد الجاهلية وذلك يوم فتح مكة إذن، فلا ينبغي حمل بعض المزايا والمحاسن الخلقية التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، على العرف والعادة مباشرة ويؤكد ذلك ما ورد في الحديث:((مرحبا يا أخي وشريكي كان لا يدارى ولا يمارى يا سائب قد كنت تعمل أعمالًا في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصلة)) (9) .
(1) ابن عابدين، نشر العرف: 2 /115؛ "
…
فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ " أحمد بن حنبل، المسند مصر، 1313 هـ، 1 /379.
(2)
الزيلعي، نصب الراية: 4 /133، 134؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /126
(3)
السرخسي، الأصول: 1 /299.
(4)
أبو زهرة، أبو حنيفة، ص 351 هامش 1.
(5)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /134 هامش 1.
(6)
أبو سنة، العرف والعادة: ص 25.
(7)
الغزالي، المستصفى: 1 /278 يجب الانتباه هنا إلى أن الغزالي لم يذكر هذا الحديث بصدد " العرف " وإنما عند تناول دليل " الاستحسان ".
(8)
(القياس والاستحسان والاستصلاح) : SEKER (Abulkadir) ، Kiyas-Istislah، ve Istislah، Ankara، 1974،p44.
(9)
أحمد بن حنبل، المسند: 33 /425.
هناك حديث آخر اعتاد المؤلفون الإشارة لإثبات حجية العرف وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان التي اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخل زوجها وسألته عن حكم أخذها من مال زوجها خفية، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (1) إلا أنه بدل أن يفسر لفظ " المعروف " هنا وفي الأماكن مثله بأنه العرف والعادة مباشرة، ينبغي المصير إلى فهمه بأنه بمعنى " في إطار الحدود المعقولة والمناسبة " ومن البديهي أن يكون للعرف والعادة دور مساعد في مثل هذه الحالات (2) .
والجدير بالذكر أن البخاري خصص بابًا في صحيحه للأمور المتعارفة بين الناس وعنونه " باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسنتهم على نيتهم ومذاهبهم المشهورة "(3)، ويقول العيني في تعليقه على هذا الباب:" حاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف العادة "(4) .
4-
2- الأدلة العامة:
إذا محص الباحث النظر في مبادئ التشريع الإسلامي ومسيرة تطوره في وضع أحكامه يستطيع أن يقوم بتثبيت مقطعين رئيسيين في موضوع العرف:
* المقطع الأول: مراعاة التشريع الإسلامي للعرف والعادة وذلك لأن دراسة استقرائية للمناهج التشريعية التي سلكها الإسلام وموقفه من العرف والعادة في التشريع تمكن الباحث من البت في أن الإسلام راعى أعراف وعادات البيئة التي ظهر فيها وحتى إنه لم يقف عند عدم مجابهة الوقائع الاجتماعية التي لا تتنافى مع مبادئه فحسب، بل أسبغ عليها أيضا الصفة الشرعية كما سبق الإشارة إليه في الباب الأول (انظر: 1-1) ، إلا أن هناك ظاهرة أخرى يمكن أن تؤدي بالباحث إلى تردد في قبول ذلك وهي أن التشريع الإسلامي ألغى كثيرًا من العادات أو عدلها بشكل يتناسب مع مبادئه وهذا الموقف السلبي مع أنه لا يظهر إلا في حالات خاصة من معارضة تلك العادات للمبادئ الإسلامية فثمة دليل أقوى للاقتناع بمراعاة الإسلام للعرف والعادة وهو صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، وهذا ما تدل عليه النصوص القطعية منها:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (5) ، {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (6) ومن خلال هذه الخاصية للإسلام نتوصل بالبداهة إلى نتيجة أن الإسلام دين الإنسانية جمعاء مهما اختلفت عاداتها عن بعضها البعض وما من شك في أن البشرية بأسرها لا يمكن توحيدها في نمط واحد من الحياة كما أن الإسلام لا يدعو إلى ذلك ولا يستهدفه فضلًا عن تباينه مع المبادئ الإسلامية السمحة وحيلولته دون التقدم والرقي وبعبارة أخرى، فإن وجود اختلاف في بعض العادات غير المنافية للأسس الإسلامية في الجغرافية الإسلامية نتيجة طبيعية لا يمكن الاحتراز عنها طالما الإسلام يخاطب الناس جميعًا في كل زمان (7) .
(1) العيني، عمدة القاري، مصر، 1348 هـ، 12 /16- 17، الشوكاني، نيل الأوطار، مصر، 1357 هـ، 7 /131؛ أبو زهرة، مالك: ص 421.
(2)
انظر الباب الأول: 2-2-2 وخاصة الهامش رقم 76.
(3)
البخاري، الجامع الصحيح، البيوع، ص 95.
(4)
العيني، عمدة القارى: 12 /16.
(5)
[سورة سبأ: الآية 28] .
(6)
[سورة الأحزاب: الآية 40] .
(7)
ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة، بدون تاريخ (تاريخ صبح الجزء الثاني 1401 هـ) ، 1 /320؛ المحمصاني، فلسفة التشريع: ص 221.
وهنا نود أن نقتبس باختصار من العلامة الطاهر بن عاشور بعض ما ذكره في هذا الباب بناء على أهميته في تسليط الأضواء على الحقائق الكامنة فيه:
" فعموم الشريعة سائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلاحية وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين.
الكيفية الأولى: إن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة.
فلا يجدر بحال أن يكون معنى صلاحية التشريع للبشر أن الناس يحملون على اتباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان والتشريع ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريع بين ظهرانيهم سواء لاءم ذلك أحوال بقية الأمم والعصور أم لم يلائم فتكون صلاحيتها مشوبة بحرج ومخالفة ما لا يستطيع الناس الانقطاع عنه، ويعلل معنى الصلوحية بأن يعمل الناس بها في كل عصر فلا يهلكوا ولا يعنتوا، إذ لو كان هذا هو معنى صلوحية الشريعة لكل زمان ومكان لما كان هذا من مزايا شريعة الإسلام وخصائصها إذ لا نجد في شريعة من الشرائع المتبعة أحكامًا لو حمل الناس عليها لهلكوا أو صاروا فوضى إذن يكون في مستطاع أهل كل شريعة أن ينتحلوا شريعتهم وصف الدوام.
فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد، ولذلك كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد " (1) .
" قد يستكن في معتقد كثير من العلماء قبل الفحص والتغوص في تصرفات التشريع أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس، والتحقيق أن للتشريع مقامين:
(1) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 92-93.
المقام الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها.
المقام الثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس وهي الأحوال المعبر عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} والتقرير لا يحتاج إلى القول فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلا عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال، أو تحريض على التناول، وفيما عدا تلك الأسباب ونحوه يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس، فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر وقد تواتر هذا المعنى تواترًا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته.
ولا يستثنى من دلالة السكوت على التقرير إلا الأحوال التي دل العقل على إلحاقها بأصول لها حكم غير الإباحة وهي دلالة القياس بمراتبها.
وليس مرادنا بالتغيير أحوال العرب خاصة ولا بالتقدير تقرير أحوالهم كذلك بل مرادنا تغيير أحوال البشر وتقرير أحوالهم سواء كانوا العرب أم غيرهم وذلك أن جماعات البشر كانوا غير خالين من أحوال صالحة هي بقايا الشرائع أو النصائح أو اتفاق العقول السليمة " (1) .
* المقطع الثاني: عدم إمكانية القول بأن نصوص القرآن والسنة تعترف صراحة بكون العرف مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي مباشرة والمناقشات التي وردت في هذا المضمار حول الآيات والأحاديث التي يستدل بها على حجية العرف ينبغي مراجعتها للتثبت من ذلك حتى أن هذه المناقشات لم تحظَ باهتمام العلماء إلا في عصور متأخرة وكاد الأصوليون أن لا يولوا أي اهتمام لموضوع العرف بين الأدلة الشرعية (انظر: الباب الأول، 1-2) .
ورغم أن هذا المقطع يبدو للوهلة الولى منافيًّا للأول وليس الأمر كذلك بل هو مكمل له لأن الغاية المتوخاة من مراعاة العرف في التشريع الإسلامي ليست إضفاء قدسية للعرف واعتباره مصدرًا يسيطر على قيمة الذاتية وإنما هي قضاء حاجات الناس وتطبيق مبدأ "اليسر".
فالإسلام الذي تميز بطابعه الانقلابي (2) وأنه الدين الأخير للبشرية كان عليه أن يتخذ موقفًا سلبيًّا من الأعراف والعادات المتنافية مع ما أشرنا إليه سابقًا من روح تشريعية له ولو اعتبر التشريع الإسلامي العرف مصدرًا تشريعيًّا بصورة مباشرة لأدى ذلك إلى إفساح المجال للطعن فيه بتناقضه الذاتي فمثل هذا الاعتبار في عهد تبليغ النصوص لا يتفق مع الهدف المنشود لها، أما بالنسبة للعهود المتعاقبة فكان من البديهي أن يراعى العرف مثل مراعاته في عهد تبليغ النصوص وفق سير الأحداث ومجراها الطبيعي حيث إن المسلمين مطالبون بحل ما سيستجد لهم من وقائع ومسائل وفق النصوص الشرعية وروحها ومن الملاحظ أن هذه الخاصية للتشريع الإسلامي برزت بشكل واضح في اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك طريقهم في فهم النصوص وتقييمها (3) .
(1) نفس المرجع: ص 102- 104.
(2)
انظر مثلًا: [سورة البقرة: الآية 170] ؛ و [سورة المائدة: الآية 104]، و [سورة هود: الآية 88] .
(3)
الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 81، 124، 125.
والواقع أن العرف احتل مكانًا مرموقًا بين اجتهادات الصحابة وتطبيقات الخلفاء الراشدين والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها أن الخليفة عمر بن الخطاب أمر الموظفين المحليين في إيران بإبقاء القوانين السابقة فيما يخص الموارد الزراعية سارية المفعول دون تغيير يذكر (1) وكذلك أن الخليفة نفسه لجأ إلى مبدأ التعامل بالمثل فيما يتعلق بالمكوس الجمركية التي يتم تحصيلها من التجار الأجانب (2) وجدير بنا أن نشير إلى أننا نجد تصريحًا خاصًّا بوجوب مراعاة العرف في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وذلك في القضية التالية المعروضة على القاضي شريح:" أن ناسًا من الغزالين اختصموا إلى شريح في شيء كان بينهم فقالوا: إن سنتنا بيننا كذا وكذا، فقال سنتكم بينكم "(3) .
ونعتقد أن عبارة الدكتور زيدان التالية تلقي الأضواء على مسألة دليل العرف حيث يقول: " وأساس اعتبار العرف دلالة القرآن والسنة أما دلالة القرآن فنجدها في قاعدة رفع الحرج عن الناس، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج: الآية 78] ولا شك أن في نزع الناس عما ألفوه بلا مبرر نوعًا من الحرج عليهم، وأما دلالة السنة فتظهر في إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأعراف الجاهلية الصحيحة "(4) .
أما مسألة تأثر الفقه الإسلامي بأحكام نظم الحقوق الأخرى وكذلك علاقة الأحكام التقريرية في الإسلام بشرائع من قبلنا فلا نتطرق إليها لبقائها خارج نطاق موضوعنا أساسًا (5) .
ومهما يكن من أمر، فإننا من خلال دراستنا للأدلة العامة نتوصل إلى نتيجة أن العرف يحتل مكانًا مرموقًا في الفقه الإسلامي وفق إرادة الشارع وإن كان الشارع لم يحل عليه بصراحة (6) .
(1) HAMIDULLAH (Muhammed) ، “Nouvelle etude des sources du droit musulman”، dans Proceeding of International Congress of Orientalists، Istanbul، 1954.) ترجمته إلى اللغة التركية) : Islam Tetkikleri Enstitasu Dergisi، I، 1954. المترجم:(Bulent DAVRAK) . P64.
(2)
Turnagil (Ahmed Resid) ، Islamiyet ye killetler hukuku Istanbul، 1972، p 124، HAMIDULLAH.) الإسلام والقانون الدولي) ص 64، المقال المذكور.
(3)
العيني، عمدة القاري: 12 /16.
(4)
زيدان (عبد الكريم) ، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، بيروت، 1988 م، ص 25 ويؤيد ذلك ما ورد في استدلالات الفقهاء على أهمية العرف في الشريعة الإسلامية، انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط: 12 /46، 197، 13 /14، 15.
(5)
انظر: أبو سنة، العرف والعادة: ص 82؛ الجيدي، العرف والعمل: ص64 – 67؛ hamidullah، "la philosophie juridique chez les musulmana" p146 hamidullah. Influence of roman law on muslim law" islam Tetkikleri enstitusu dergisi، iv، 1-2 istanbul، 1975.
(6)
إشارة قسمية إلى نفس الفكرة: SCHACHT (Joseph) ، "Sharia "، Encyclopedie de L" Islam، 4 /335
5-
أركان العرف وشروط اعتباره:
ليس من البعيد أن تتكون في مجتمع ما أعراف وعادات لا تتفق والنظام الحقوقي السائد في ذلك المجتمع فلهذا ينبغي – في نظرنا – التمييز بين شروط الوجود للعرف أو شروط تحققه وبين شروط اعتباره وإذا اعتبرنا تعريف كل من مفهومي" الركن " و" الشرط " يمكن أن نطلق على الفئة الأولى من الشروط " أركانًا " وعلى الفئة الثانية منها " شروط الصحة " وبما أن القانون يعتبر العرف بصراحة مصدرًا من المصادر الشكلية في الفقه الوضعي في أغلب الأحيان نجد القانونيين ممن يتعرض لموضوع العرف يقفون عند أركان (أو عناصر) العرف بالدرجة الأولى ولا يهتمون بشروط الاعتبار (الصحة) للعرف إلا في الدرجة الثانية أو في إطار دراسة الأركان بينما يلاحظ أن المؤلفين في مجال الفقه الإسلامي يتناولون الأركان وشروط الصحة كلها تحت عناوين مثل " شروط العمل بالعرف " أو "شروط اعتبار العرف " وغيرها والمنهج الصحيح – في رأينا – هو التمييز بين هاتين الفئتين من الشرط.
5-
1 أركان العرف:
رأينا في ما سبق أن الفقهاء المسلمين لم يتناولوا العرف كقاعدة قانونية وكمصدر من المصادر الشكلية للحقوق وأن تصريحاتهم المتعلقة بالعرف والعادة تشملهما معًا سواء كانا لفظين أو عمليين بينما المؤلفون في مجال القانون يتعرضون للعرف من زاوية أنه مصدر من مصادر الحقوق ولهذا نجدهم يقيدون أنفسهم بنطاق السلوك فقط، ويدرسون عناصر العرف من هذا المنظار أما المؤلفون المعاصرون في مجال الفقه الإسلامي – حين تطرقهم إلى شرائط العرف – فيتقيدون بمسائل العرف العملي تارة، ويخوضون في مسائل العرف القولي أيضًا تارة أخرى ومع ذلك فالملاحظ أن العرف العملي هو السائد في بحوثهم لشرائط العرف.
ونحن لا نرى بأسا في تناول أركان العرف وفقًا للتعريف التالي: " العرف هو اعتياد الناس على سلوك معين في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية بحيث تنشأ منه قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ملزمة "(1) واضعين نصب أعيننا أن تعريف النسفي للعرف أيضا يتركز على أساس " السلوك "(2) .
(1) فرج الصدة، أصول القانون: ص 140، 141، 144.
(2)
مع أن لفظ "ما " يشمل القول والفعل، فإن عناصر التعريف الأخرى تجعله متركزًا على "السلوك"، كما يؤيد هذا المعنى ما ورد في كلام النسفي أثناء ذكره الأصول، إذ يقول:" تعامل الناس "، المستصفى، مخطوط، ق 5/ أ.
ويتضح من التعريف السابق أن العرف يقوم على ركنين: ركن مادي، وهو اعتياد الناس على سلوك معين. وركن معنوي، وهو اعتقاد الناس بأن القاعدة التي نشأت من هذا السلوك قاعدة ملزمة.
5-
1-1- الركن المادي: الاطراد أو الغلبة (1) :
يجب أن يكون العمل بالعرف مستمرًا في جميع الحوادث أو في أكثرها إذا كانت العادة جارية في مكان ما بصفة مستمرة فهذه تسمى مطردة وإذا كانت لا تختلف إلا في حالات نادرة تسمى غالبة (2) لأن ذلك هو أمارة فعلية المبني على الحاجة الماسة إليه، في حل مشكلات الناس وتحقيق مصالحهم، واستقامة أمرهم، الأمر الذي استدعى المجتهد إلى مراعاته (3) .
يقول الأستاذ الزرقاء أثناء ذكر شرائط اعتبار العرف: " فاشتراط الاطراد أو الغلبة في العرف معناه اشتراط الأغلبية العملية فيه لأجل اعتباره حاكمًا في الحوادث، أما الأغلبية العددية بمعنى أن يكون العرف جاريًّا بين جميع القوم أو أكثرهم فهي ليست من قبيل الشرائط، بل هو ركن في تكوين لا يتحقق معناه دونها، وهو النصاب العددي الذي تقدم بيانه لتحقق معنى العرف لأن العادة الفردية لا تصبح عرفًا إلا إذا اعتمدها أكثر القوم في بيئتها إذن العرف هو عادة الجمهور "(4) .
مع أن هذا التفريق يبدو وجيهًا للوهلة الأولى إلا أننا لا نوافقه عليه بالكلية، لأنه إذا تحققت الأغلبية العددية في جميع الحوادث أو أكثرها فتتحقق الأغلبية العملية أيضًا، أما إذا لم تتحقق إلا في حوادث نادرة فلا يمكن اعتبار قيام العرف وتوافر أركانه بمجرد وجود هذه الأغلبية العددية في حادثة أو حوادث معينة.
(1) مرغناني، الهداية: 5 /469؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /128؛ مجلة الأحكام العدلية، المادة 41.
(2)
عاطف بك، مجلة أحكام عدلية شرحي) شرح المجلة باللغة العثمانية) قسم القواعد الكلية، استانبول 1339هـ، ص 50.
(3)
الدريني، المناهج الأصولية، ص 587
(4)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /874، 875
والحقيقة أن لزوم اطراد العرف أو أغلبيته في أكثر الحوادث تكمن في كلمة " الاعتياد "(أو " العادة " " كما قال الأستاذ الزرقاء) الواردة في تعريف العرف والتي ينبني عليها وجوده ويؤكد ذلك ما قاله الأستاذ الزرقاء في مكان آخر: " يقول الفقهاء في بعض المواطن: إن العادة تتحقق بتكرر الفعل مرتين أو ثلاثًا، لأنها مأخوذة من العود أو المعاودة ولا يخفى أن مرادهم بذلك عادة الفرد أما عادة الجماعة التي هي بمعنى عرف للجمهور، فلا ينطبق عليها هذا الحد، لأن العادة لا تشيع وتنتشر بين الجماهير إلا بعد أن تتكرر بين الناس مرات لا تحصى) (1) أما إن كان الأستاذ الجليل يقصد بهذا التفريق اعتبار العرف ملزمًا بين جميع القوم أو أكثرهم، فإننا سنتناول هذه الناحية تحت عنوان: " الركن المعنوي للعرف "، وبناء على ذلك ينبغي اعتبار الاطراد أو الغلبة ركنًا من أركان العرف لا شرطًا من شرائطه.
وليس بالإمكان تحديد الحيز الزمني لتكون هذا الركن، أي التطبيق المطرد أو الغالب للعرف ومع أن صاوا باشا يشترط استمرار العمل بالعرف طوال ثلاثة أجيال على الأقل (2) .
هناك آراء حول العدد الذي تحصل به العادة لا نرى مبررًا لذكرها، انظر: الجيدي، العرف والعمل: ص 82.
فإنه من البديهي أن هذا لا يتعين إلا حسب نوعية العرف وظروف تكونه، وبخاصة حسب درجة الانتشار لوسائل المواصلات في مكان العرف.
ويطلق على هذا الركن في النظريات القانونية الحديثة العنصر الخارجي أو المادي أو الموضوعي (element objectif، element materiel) للعرف والجدير بالإشارة أن القانون التجاري الكويتي (المادة 159) أخذ المادتين 41 و42 من مجلة الأحكام العدلية بنفس العبارات، وقال:" إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت والعبرة للغالب لا للنادر "(3) .
(1) المرجع نفسه 2 /839، 840 هامش 1
(2)
SAVAPASA، Islam Hukuk Nazariyati 1⁄2 pti Hakkinda Bir Etud ترجمه من الفرنسية إلى التركية (دراسة حول نظريات الفقه الإسلامي) : Baha ARIKAN، Ankara، 1955، 2/57.
(3)
ينظر للخواص التي يجب توافرها في هذا العنصر: الحجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية: ص 447- 449.
5-
1-2- الركن المعنوي: الاستقرار في النفوس:
لا نكاد نعثر دراسة لهذا العنصر الداخلي، أو النفسي أو الشعور القانوني (opinio necessitates، element psychologique) في الأبحاث العلمية الحديثة التي تهدف إلى تطوير نظرية للعرف في الفقه الإسلامي، بينما النظريات القانونية تولي له أقصى الأهمية والسر في ذلك – حسب ما يبدو لنا – أن القانونيين – كما سبق أن بينا – ينظرون إلى العرف من ناحية القيمة القانونية له أي من ناحية تكوينه قاعدة قانونية أو عدم تكوينه لها وبالإضافة إلى ذلك لا يرون بأسًا في أخذ القاعدة القانونية صفة الإلزامية من الإرادة البشرية، بل إن القواعد القانونية كلها – سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة – تستقي في الفقه الوضعي وجودها واستمراريتها من العقل والإرادة البشرية (1) .
ومع هذا كله لا نرى مانعًا من القول بضرورة تواجد هذا العنصر المعنوي للعرف في الفقه الإسلامي أيضا، حتى إننا نعتقد أن وجود واجب للاقتناع والقبول بأن العرف قد تكون، والحقيقة أن الوقوف عند أهمية الركن المعنوي للعرف في الفقه الإسلامي أمر لم نقترحه من عند أنفسنا وإنما هو موجود في عبارات الفقهاء وتفكيرهم وأدل شيء على ذلك هو تعريف النسفي الذي تلقاه العلماء بالقبول منذ القديم، إذا يقول: " ما استقر في النفوس
…
" فهذا إن دل على شيء إنما يدل على العنصر المعنوي للعرف (2) وحتى يمكن القول بأن صاحب التعريف استغنى عن ذكر العنصر المادي صراحة لأن العنصر المادي مندمج في العنصر المعنوي، إذ لا يمكن تكون العنصر المعنوي إلا بتكون العنصر المادي ولتبيين هذه الناحية نود اقتباس النص التالي: " ويتكون هذا الاعتقاد تدريجيًّا، حتى يأتي الوقت الذي يصبح فيه أمرًا محققًا، ولذلك فإنه في مرحلة هذا التكوين قد يختلف الشراح والمحاكم في أن عادة معينة قد أصبحت عرفًا، كما أن البعض قد يراها مجرد عادة لا ترقى إلى مرتبة العرف، ثم يعود بعد ذلك فيعتبرها عرفًا، فإذا جاء الوقت الذي يسود الاعتقاد فيه بأن هذه العادة أصبحت ملزمة، صارت عرفًا لا سبيل إلى الجدل فيه، فالذي يميز العرف عن العادة بالمعنى الذي قدمناه هو هذا الركن المعنوي فطالما لم يقم في ذهن الناس اعتقاد بأن عادة معينة أصبحت ملزمة، فإن هذه العادة لا تعتبر عرفًا، أي لا تكون قانونًا ملزمًا " (3) .
(1) SAVORY.R.M، Introduction To Islamic Civilisation، Sydney، 1980 ،p54
(2)
ويؤيد ذلك ما ورد في كلام الشيخ أبي سنة: " فقد رأينا أن العرف جرى في الأقوال والأفعال التعاملية والخلقية، وعرفنا قبل ذلك أن كيانه يقوم على استقرار الأمر في النفوس وقبول الطباع السليمة له متى توفر ذلك، فقد وجدت حقيقة العرف، وإن كان اعتباره عند الفقهاء مشروطًا بشروط وراء هذا "، (العرف والعادة: ص 9) وإن كان الشيخ أبو سنة لا يتناول هذه الناحية تحت عنوان الركن أو الأركان.
(3)
فرج الصدة، أصول القانون: ص 147.
أما ما يتبادر إلى الأذهان من أن الركن المعنوي يعكس الإرادة البشرية في التشريع فذلك أمر لم يهمله النسفي في تعريفه السابق للعرف إلا أن الموضوع يحتاج إلى شيء من التفصيل وإلى الاطلاع على ما ورد من مناقشات حول هذه الناحية في النظريات الحديثة ونذكر خلاصة ذلك فيما يلي: " مقتضى النظرية التقليدية هو أن العنصر المادي لا يكفي وحده لإنشاء القاعدة العرفية وأنه يجب أن يضاف إلى العنصر المادي عنصر آخر نفسي هو ما يسمى الشعور القانوني (opinio necessitates)، ويقصد الشراح بهذه العبارة أحد معنيين:
(أ) فإما أن يكون المقصود بها هو أن الأفراد يعتقدون أن المبدأ الذي يسيرون على مقتضاه يطابق العدل والملاءمات الاجتماعية، ولذا يجب أن ينزل منزلة القانون.
(ب) وإما أن يكون معناها هو اعتقادهم أن المبدأ الذي يأتمرون به هو قانون بالفعل أي قاعدة ملزمة ولذا وجبت إطاعتها ومعظم الشراح على هذا المعنى وعلى أساس هذا العنصر يتميز العرف من سائر أنواع السلوك الأخرى، الفردية والاجتماعية، التي مع استقرارها في الجماعة، لا تعد قواعد قانونية عرفية بسبب أنه ينقصها عنصر الإحساس بإلزاميتها من الناحية القانونية ومن هنا عد العنصر الداخلي هو العنصر المميز والجوهري في العرف باعتباره مصدرًا للقانون، حتى لقد اعتبر العنصر الخارجي – في نظرية قديمة كانت تجعل الشعور القانوني عند الجماعة هو أساس كل قانون - هو الوسيلة التي يظهر بها العنصر الداخلي (الشعور القانوني) ، أي إن الشعور القانوني في العرف كإرادة المشرع في التشريع، فكما أن إرادة المشرع لا تسري في حق المخاطبين بها إلا بالنشر، فكذلك الشعور القانوني لا يلزم الأفراد إلا إذا ظهر إلى الحيز الخارجي عن طريق ممارسة فعلية من جانب الأفراد " (1) .
ونحن نرى – تاركين تفاصيل هذه المناقشات والاعتراضات الموجهة إلى العنصر المعنوي إلى جانب – أن العنصر المعنوي إذا تم تفسيره بالمعنى الثاني من المعنيين السابقين لا يتلاءم والتفكير الإسلامي؛ لأن الشارع في الإسلام هو الله تعالى، وتأخذ الأحكام قوتها الإلزامية من إرادته عز وجل، وبينما لا نعثر على إحالة صريحة على حجية العرف في عبارات الشارع التي تعكس إرادته، وإنما نجده يحيل المسلمين على فكرة العدل والمصالح إذن لا يصطدم العنصر المعنوي مع أسس التفكير الإسلامي إذا فسر بالمعنى الأول، وكما نرى في تعريف النسفي قيدًا لا يترك العنصر المعنوي للعرف على إطلاقه، حيث يقول "
…
وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وهذا – فيما يبدو لنا – تعبير عن اشتراط الشرط الأساسي للعرف أو لاعتباره وهو أن لا يكون مخالفًا للنص الشرعي ومبادئ التشريع الإسلامي مخالفة صريحة لأنه لا يمكن التصور أن الطباع السليمة في مجتمع يدين بالإسلام ويتمسك بمبادئه تتلقى العرف المخالف للنصوص صراحة بالقبول وإلا خرجت عن كونها سليمة (2) أضف إلى ذلك أن كل عرف تم تكونه ليس معتبر في الفقه الإسلامي، بل هناك شروط لاعتباره.
(1) الحجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية: ص 449- 450.
(2)
يقول النسفي: " والطبع مؤيد بالشرع "، المستصفى، مخطوط، ق 115 /ب، 194 / ب.
والحقيقة أن هذا التوضيح الأخير كان من الواجب أن يحتل مكانه تحت عنوان " شروط اعتبار العرف / عدم مخالفته للنص " حسب التخطيط العلمي، إلا أننا اضطررنا إلى الإتيان به لنبين مكانة العنصر المعنوي في تفكير وعبارات الفقهاء المسلمين وننبه إلى المعنى الذي يستندون إليه في هذا الموضوع.
5-
2- شروط اعتبار العرف:
هناك شروط يجب توفرها لاعتبار العرف في الشريعة الإسلامية إلى جانب ركنيه المادي والمعنوي، وهي ما يلي:
5-
2-1- أن لا يكون العرف طارئًا:
والمراد من هذا الشرط أن يكون العرف مقارنًا لزمن الشيء الذي يحمل على العرف وليس حادثًا وما من شك في أن لهذا الشرط أهميته ولا سيما في تفسير النصوص وتفسير التصرفات القانونية (انظر لأمثلة دور العرف في تفسير النصوص الباب الأول 2-1-1، ودور العرف في تفسير التصرفات القانونية 2-2-3) .
ومقتضى هذا الشرط أن العرف اللفظي أو العملي الذي يعول عليه لفهم النص يجب أن يكون موجودًا في وقت نزوله ووروده دون الحادث بعده، وكذلك العرف الذي يراد تحكيمه في تعيين حكم التصرف القانوني يجب أن يكون موجودًا عند التصرف دون ما يحدث بعده (1) على أنه ليس كل عرف طارئ غير معتبر، فالقاعدة ليست على عمومها (2) .
فمثلًا يشير الزركشي إلى قضية البطالة في المدارس الموقوفة ويقول: " فقد اشتهر في هذه الأعصار ترك الدروس في الأشهر الثلاثة فكل مدرسة وقفت بعد ذلك ولم يتعرض واقفها لذلك ينزل لفظه على العادة وأما الموقوف قبل هذه العادة أو ما شك فيه هل هو قبلها فلا ينزل على العرف الطارئ " ويلاحظ أنه يربط القضية في آخر المطاف بكون العرف عامًّا أو خاصًّا (3) .
(1) ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /133؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 65؛ دواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 236، 237؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /876 – 879.
(2)
الدريني، المناهج الأصولية: ص 587.
(3)
الزركشي (بدر الدين بن محمود بن بهادر) ، المنثور في القواعد، تحقيق: تيسير فائق أحمد محمود، الكويت، 1982 /، 2 /394، 395.
5-
2-2- أن لا يوجد تصريح بخلاف العرف:
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تحكيم العرف في تفسير العقود في تفسير العقود وتنزيل الأمر المعروف منزلة المشروط (" المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا "، المجلة، المادة 43، 44) ، يعود إلى فكرة سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف اعتمادًا على العرف الجاري، يتبين لنا بجلاء أن العرف في هذه الحالات من قبيل الدلالة فإذا صرح المتعاقدان بخلاف العرف بطلت هذه الدلالة لأن القاعدة المقررة تقول:" لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح "(المجلة، المادة 13)(1) .
وهنا نود أن نسترعي الانتباه إلى أن القواعد مثل " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " مما اعتمد عليه بعض الباحثين بصدد إثبات سلطان العرف في الفقه الإسلامي تنص في حقيقة الأمر على أهمية الإرادة المصرح بها إلى جانب التنوية بدور العرف في تفسير العلاقات القانونية إذا لم يوجد تصريح في القضية المعروضة لأن " النص " هنا يستعمل في المعنى "التصريح "وليس في معنى " النص الشرعي "(2) وذلك بخلاف " النص " الوارد في عبارات تتناول مسألة معارضة العرف مع النص (3) .
5-
2-3- أن لا يكون العرف مخالفًا للنص ومبادئ الشريعة:
إذا وضع الباحث نصب عينيه أن الشريعة الإسلامية تمتاز بخاصية كونها إلهية المنشأ لا يحتاج إلى توسيع النقاش فيما يخص حالة اصطدام العرف مع النصوص وروحها، وليس ذلك نابعًا عن احترام فكرة سلسلة المراتب للأدلة أي كون النص أقوى من العرف فحسب، بل ليتحاشى الفقيه من أن ينقض نفسه بنفسه أيضًا بينما نرى المؤلفين في الفقه الوضعي يتوسعون في مناقشة قضية اصطدام العرف مع القانون (4) ، وإن كان القانون أقوى من العرف حسب ترتيب المصادر، وذلك لأن القانون عندهم يستقي قوته الإلزامية أيضا من الإرادة البشرية.
(1) علي حيدر، درر الحكام: 1 /93؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /879، 880.
(2)
انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط: 12 /160.
(3)
انظر مثلا: السرخسي، المبسوط: 12 /196.
(4)
نشاهد أن الخلاف يتعرض لمسألة اعتبار العرف المخالف لأصل من الأصول، ويشترط لاعتباره أن يكون قد نشأة عن الضرورة ويقول بأنه يجب المصير إلى الاستثناء من الأصل وذلك بجعل الضرورة علة الاستثناء خلاف (عبد الوهاب) ، مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، مصر، 1955م، ص 125.
وبدون إسهاب في القول نود أن ننبه إلى أهمية التفريق بين مخالفة العرف للنص من كل الوجوه وبين حالة اصطدام العرف مع النص في الظاهر، ففي الحالة الثانية يجب التثبت من الأمر في أن الاصطدام هل هو حقيقي أم ظاهري فقط؟
ويلاحظ أن الأستاذ الزرقاء يتناول الموضوع في إطار الخطة الآتية:
1-
حالة اصطدام العرف بنص تشريعي خاص:
حكمها: النص الخاص الآمر هو المعتبر المحترم ولو صادمه عرف عام الاستثناء من ذلك حالة واحدة: النص العرفي، أي ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع مبنيًّا على عرف قائم ومعلل به.
2-
حالة تعارض العرف مع نص تشريعي عام:
(1)
العرف المقارن لورود النص العام المعارض له:
أ- العرف اللفظي: الاتفاق في تخصيص النص بالعرف.
ب- العرف العملي:
أأ – العرف المقارن العام: في الاجتهاد الحنفي يكون العرف مخصصًّا للنص.
ب ب - العرف المقارن الخاص: الراجح من الآراء في الاجتهاد الحنفي لا يعترف للعرف بقوة تخصيص النص والاجتهاد المالكي في التحقيق يقبل تخصيص النص بالعرف.
(2)
العرف الحادث بعد النص العام المعارض له: لا يجوز تخصيص النص بالعرف سواء كان لفظيّا أو عمليًّا.
ملاحظة: العرف الذي تزول به علة النص المعارض يعتبر ولو كان حادثًا.
3-
حالة تعارض العرف والاجتهاد:
حكمها: العرف يترك به الاجتهاد القياسي والاستصلاحي (1) .
أما نحن فقد أوردنا أمثلة هذه الأحوال في الباب الأول من هذا البحث (انظر: 2-1، 2-2-1) ولا داعي للتكرار والجدير بالذكر أن المناهج كلها التي يعول عليها للتمييز بين حالة وحالة أخرى أثناء تناول موضوع مخالفة العرف للنص تدور في الحقيقة حول محور واحد: وهو بذل الجهد بغية البحث عن إرادة الشارع في القضية التي فيها العرف والتحري عن موقف العرف من الغاية المتوخاة للشارع في تلك القضية.
(1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /882- 917.
وهذا يؤدي بنا إلى القول بأهمية العنصر الغائي بين العناصر التي يعول عليها في عملية التفسير وأهمية التفسير الغائي (interpretation teleologique)(1) .
ونرى لزامًا علينا أن نشير هنا إلى عدم مشاركتنا بالإطلاق للأستاذ الجليل الزرقاء في رأيه في موضوع حالة تعارض العرف مع الاجتهاد المستند إلى القياس النظري، إذا يقول:" الأحكام الاجتهادية التي يثبتها الفقهاء المجتهدون استنباطًا وتخريجًا عند عدم النص الشرعي عليها: إما أن تكون ثابتة بطريق القياس النظري على حكم أوجبه الشارع بالنص، لاتحاد العلة بين الحكم المقيس عليه والمقيس؛ وإما أن تكون ثابتة بطريق الاستحسان أو الاستصلاح عندما لا يوجد حكم مشابه منصوص يقاس عليه والاجتهادات الإسلامية تكاد تكون متفقة على أن الحكم القياسي يترك للعرف ولو كان عرفًا حادثًا، لأن المفروض عندئذ أن هذا العرف لا يعارضه نص خاص ولا عام معارضة مباشرة والعرف غالبًا دليل الحاجة، فهو أقوى من القياس، فيترجح عليه عند التعارض (نقلًا عن نشر العرف لابن عابدين) ، بل لقد ذكر العلامة المحقق ابن الهمام في شرح الهداية أن العرف بمنزلة الإجماع شرعًا عند عدم النص (نقلًا عن فتح القدير) ومن المعلوم أن ترجيح العرف على القياس يعتبر عند الحنفية والمالكية من قبيل الاستحسان الذي تترك فيه الدلائل القياسية لأدلة أخرى منها العرف "(2) .
(1) بحثنا بعنوان " مقارنة بين موقف المجتهد تجاه النصوص في الفقه الإسلامي وبين موقف القاضي تجاه القانون في نظم الحقوق الحديثة " ألقي في الملتقي السابع عشر للفكر الإسلامي، قسنطينة (الجزائر)، 1983م انظر أيضًا: محمد شريف أحمد، نظرية تفسير النصوص المدنية / دراسة مقارنة بين الفقهين المدني والإسلامي، بغداد، 1979م، ص 82- 98؛ محمد صبري سعدي، تفسير النصوص في القانون والشريعة الإسلامية، وهران (الجزائر) ، 1984 م، ص 208- 218، 551- 561 ونحبِّذ رأي الدكتور الديني حيث يقول:" المخصص في الواقع مستند العرف، لا العرف ذاته "(المناهج الأصولية: ص 584) ، ونجده مؤكدًا لما أشرنا إليه وإن كان هذا الرأي قد حدد نفسه بقضية التخصيص.
(2)
الرزقاء، المدخل الفقهي: 2 /913، 914.
لأننا ذكرنا ضرورة التمييز بين المعاني المختلفة لمفهوم " القياس " وبالأخص عند الأحناف من جهة، وتناول المؤلفين الأحناف في إطار مفهوم " العرف " التعامل الجاري منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير والذي يرجع في حقيقته إلى مفهوم الإجماع أو السنة من جهة أخرى ولا نستطيع القول بأن العرف يترك به القياس حسب معناه المعروف في علم أصول الفقه إلا إذا أمكن التثبت من أن العرف يدل على انتفاء علة ذلك القياس، كما أشرنا إلى هذا سابقًا (انظر: 2-1-2 الباب الأول) .
فجهة مشاركتنا لرأي الأستاذ الزرقاء أن الحكم القياسي يمكن تركه للعرف إذا تبين زوال علة الحكم، ففي هذه الحالة لا يعتبر أن العرف دليل يقدم على القياس (1)، أما جهة مخالفتنا له فهي أن العبارات الواردة في كتب الأحناف مثل:" العرف يترك به القياس " أو " إن العرف بمنزلة الإجماع شرعًا عند عدم النص " لا ينبغي تفسيرها بصورة مطلقة بل يجب التنبه إلى معنى كل من مفهومي " القياس " و " العرف " في تلك الحالات.
ولعل رأي الأستاذ هذا نابع عن عدم احتفاله بالتمييز بين المعاني المختلفة لمفهوم القياس، كما أنه تناول هذا المفهوم مقتصرًا على معناه المعروف في أصول الفقه أثناء توضيحه الاستحسان أيضًا (2) .
6-
التقييم العام للعرف:
6-
1- مفهوم " المصدر " من ناحية منهجية الحقوق الإسلامية وتقييم العرف:
6-
1-1- مفهوم " الدليل " في أدب الفقه الإسلامي:
إن أكثر الاصطلاحات استعمالًا للتعبير عن مفهوم المصدر في أدب الفقه الإسلامي هو اصطلاح " الدليل " ولذا يتم تناول مصادر التشريع الإسلامي إجمالًا تحت عنوان " الأدلة الشرعية " وقد أورد المؤلفون تعاريف مختلفة لتعيين مضمون هذا الاصطلاح، ولكن الشيء الذي يهمنا هنا هو ثبوت أن المعنى المقصود من اصطلاح الدليل في أصول الفقه أعم بكثير من معنى المصدر الحقوقي (3) .
(1) سنشير إلى أهمية هذا التمييز تحت عنوان 6-1-2، من الناحية المنهجية.
(2)
الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /77- 89، 135.
(3)
انظر على سبيل المثال: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة 1967 م، 1 /11-14، البخاري (عبد العزيز) ، كشف الأسرار، استانبول، 1308هـ، 1 /255 انظر: لتعريف " الدليل " عند أهل الكلام والمنطق والفقه وأصول الفقه، ولتحاليل ومناقشات واسعة حول معناه: البرزنجي (عبد اللطيف) ، التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، بغداد، 1977 م، 1 /175- 204.
أما الاصطلاحات الرئيسية الأخرى المستعملة للتعبير عن معنى المصدر الحقوقي فهي " الأصل " و" الحجة " و" المدرك " و " جهة العلم "(1) .
وبما أن " الدليل " يستخدم في معنى أعم من معنى " المصدر الحقوقي " نصادف بعض المؤلفين ممن أوصلوا تعداد الأدلة الشرعية إلى أربعة عشر (2) ، أو ثمانية عشر (3) ، أو تسعة عشر (4) ، أو واحد وعشرين (5) ، وحتى ستة وثلاثين (6) دليلًا، في الوقت الذي تذكر فيه كتب الأصول عددًا أقل بكثير من ذلك عند تناول نظرية المصادر ومع ذلك، لا يمكننا اعتبار كل واحد من الأدلة الشرعية المذكورة فيها " مصدرًا ".
وفي الحقيقة أن الأدلة التي تشتمل على حلول جاهزة للمسائل الفقهية من القرآن والسنة والإجماع والعرف وقول الصحابي وشرع من قبلنا يمكن أن نصفها بأنها " مصادر " باعتبار ماهيتها، ولكن المفاهيم مثل القياس والاستحسان والاستصلاح فهي " مناهج " استنباط الحكم من المصادر، أما مثل سد الذرائع وعموم البلوى وبراءة الذمة فلا يتعدى حدود " المبادئ الحقوقية.
ونشاهد أن الغزالي يعتبر الأدلة الثلاثة الأولى (الكتاب والسنة والإجماع) التي ذكرناها بين المصادر باعتبار ماهيتها مصادر التشريع الإسلامي من ناحية الحجية أيضًا (7) ومع أنه يقول في كثير من الأماكن أن عدد المصادر أربعة – دون تمييز بين تعابير " الأصول " و " المدارك " و " أدلة الأحكام "(8) ، إلا أنه يصرح عند تناوله مصادر الحكم في المعنى الحقيقي " المثمر " بأنها عبارة عن الأصول الثلاثة (9) وأن تسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تحوز (10) .
(1) انظر مثلًا: الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مصر، 1940م، ص 43، 120، 1468، 1814؛ الدبوسي، تقويم الأدلة، مخطوط، مكتبة السليمانية (قسم بغدادلي وهبي) رقم 350، ق 5/أ، 5/ب؛ أبو الوليد الباجي، كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق: عبد المجيد تركي، باريس، 1978م، ص 15؛ الجويني، البرهان: 1 /185؛ الغزالي، المستصفى: 1 /216، 278، 2 /350.
(2)
يفيد المؤلف في بداية ونهاية مقاله أن الباحث يلاحظ عشرة مصادر أخرى سوى الأدلة الأربعة
(3)
القرافي، الفروق: 1 /128 الفرق: 26 (يعد القرافي هنا ثمانية عشر دليلًا ويقول إنها "نحو عشرين " أما في " التنقيح " فيقول إنها تسعة عشر، ويلاحظ أن بعض الأدلة التي ذكرها في الفروق يختلف عما ذكره في التنقيه مختصر تنقيح الفصول، في مجموعة المتون الأصولية، دمشق، د. ت، ص 73- 76) .
(4)
الطوفي (نجم الدين) ، رسالة في المصالح المرسلة، بيروت، 1324 هـ، ص 39 – 43.
(5)
إيزميرلي (إسماعيل حقي) ، علم الخلاف (باللغة العثمانية) – تقسيم الخادمي – استانبول، 1330هـ، ص 190، 191.
(6)
تقسيم إيزميرلي في المرجع نفسه، ص 191.
(7)
الغزالي، المستصفى: 1 /100.
(8)
الغزالي، المستصفى: 1 /100، 2 /392؛ (أدلة الأحكام) ، 1 /315، 316 (الأصول) : 2 /350 (المدرك) .
(9)
نفس المصدر: 1 /7.
(10)
الغزالي، المستصفى: 1 /100
والجدير بالذكر أن الغزالي يلجأ إلى استخدام تعبير " أصول الأدلة "(1) بين حين وآخر فهذا تعبير جيد من ناحية تحديد الشمول لمفهوم الدليل وإخراجه عددًا كبيرًا من الأدلة المستخدمة في الفقه سواء كانت مناهج للاستنباط أو مبادئ حقوقية من مضمونه وكذلك تعبير أصول الأدلة يعبر عن المصادر التي تشكل أصول تلك الأدلة وقبل تناول أصول الأدلة على حدة يشير الغزالي إلى أن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى إذا اعتبرنا السبب الملزم للأحكام، وأما إذا اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (2) .
أما القياس فهو دليل يعترف الغزالي بحجيته ويدافع عنه دفاعًا حارًّا، ولكنه لا يذكره في نظرية المصادر، لأنه يراه منهجًا من مناهج استنباط الأحكام فيحله بين طرق استثمار الأحكام ومما يلفت النظر أن الغزالي قد انتبه إلى الفرق بين تفسير النصوص وبين القياس، وتناول القياس تحت عنوان مستقل غير العنوانين المتعلقين بتفسير النصوص.
فهذا كله يتعلق بمفهوم المصادر الشكلية في الفقه الإسلامي بالنسبة إلى من يتمتع بأهلية الاجتهاد وبعبارة أخرى فإنه إذا سُئِلَ " في أي مصدر يبحث المجتهد عن حل للقضية المعروضة عليه؟ " فالجواب هو ما ذكرناه آنفا من القرآن والسنة والإجماع، أما بالنسبة لمن أتى بعد أدوار الاجتهاد سواء كان قاضيا أو مفتيًا فالمصادر الشكلية له هي من حيث المبدأ اجتهادات المذهب (doctrine)(3) ، والقوانين التي أصدرتها الدولة في بعض المجالات.
6-
1-2- تحليل لعدم تناول الأصوليين للعرف بين المصادر في مقابل الأهمية التي حظي بها العرف في فروع الفقه:
ومن المعلوم أنه لم يصل إلينا من أئمة المذاهب – ما عدا الإمام الشافعي رحمه الله (4) بيان بتأليف خاص للأصول والمناهج التي سلكوها في استنباط الأحكام، وأنها دونت بعدهم بطريقة استقراء الأحكام الفرعية في مذاهبهم والاستناد إلى بعض الروايات عنهم حول هذه الأصول والمناهج.
(1) الغزالي، المستصفى: 1 /100، 245.
(2)
الغزالي، المستصفى: 1 /100
(3)
CHEHATA (Chafik) ، Etudes De Droit Musulman، paris، 1971، p34.
(4)
لا يتحدث الشافعي عن العرف في أصوله (الرسالة) أما مسألة إعراضه عن مذهبه القديم لاطلاعه في مصر على عوائد غير العوائد التي كان يعرفها في الحجاز والعراق (عمر عبد الله، العرف: ص 33؛ خلاف، أصول الفقه: ص 238) ففيها نظر يقول الشيخ أبو سنة في هذا الموضوع: " ونحن لا نشك في أن الشافعي رضي الله عنه يقول بأنواع العرف الأربعة كما تقدم الاستشهاد لها بمثل من فقهه، ولكن جعل العرف من أسباب العدول عن مذهبه القديم محل نظر فقد تتبعت كثيرًا من الفروع التي اختلف فيها المذهبان القديم والجديد، فوجدت مداركها كلها حديثية أو اجتهادية ولا أثر للعرف فيها...... وسألت كذلك من أثق به من حضرات علماء الشافعية فأنكروا هذا الكلام، وأيًّا ما كان فهذه مسألة تاريخية فصل القول فيها يتوقف على استقرار الأحكام التي اختلف فيها المذهبان "(العرف والعادة: ص 79، 80) ويرى المحمصاني أن التعديلات التي أجراها الإمام الشافعي في مذهبه بمصر كانت بسبب ظروف اجتماعية تختلف من بلد إلى آخر، فلسفة التشريع: ص 182.
ولم ينقل إلينا من أئمة المذاهب ما يعبر نظريًّا عن موقفهم إزاء العرف سوى بعض العبارات المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – مما تشير إلى مراعاته بتعامل أهل بلده في استنباط الأحكام وكذلك بعض التعليقات حول عبارات الإمام مالك – رحمه الله – فيما يتعلق " بعمل أهل المدينة "(1) .
ومع هذا يكاد يتفق المؤلفون على أن دراسة الأحكام التي توصل إليها أئمة المذاهب تبرهن على أنهم ليسوا بعيدين عن مراعاة العرف، بل وقفوا موقفا إيجابيًّا إزاءه ما لم يصطدم مع النصوص ومبادئ التشريع الإسلامي (2) .
إلا أن موقفهم هذا لم يتبلور في كتب الأصول، بل برز في كتب الفروع فقط، وذلك حمل الباحث على القول بأن هناك ثنائية في أدب الفقه الإسلامي من جهة تناول الفقهاء للعرف كما بينا في الباب الأول، وقد أشرنا هناك أن قصدنا منها ليس الثنائية الملحوظة من ناحية الفقه النظري والتطبيقات القانونية في تاريخ التشريع للمسلمين (3)
لا يمكن اعتبار عدم اهتمام الأصوليين بمفهوم العرف بالسلب أو الإيجاب أثناء دراستهم للأدلة الشرعية من قبيل الصدفة (4)، إذا وضعنا نصب أعيننا أنهم جعلوا بعض المفاهيم الأخرى موضوع تحاليل دقيقة ومناقشات واسعة مثل القياس والاستحسان ويجب الانتباه أيضًا في هذا المضمار أن الفقهاء – بغض النظر عن كتب القواعد للعلماء المتأخرين– حين استدلالهم على حجية العرف ببعض الأدلة مثل حديث: ((ما رآه المسلمون حسنًا
…
)) ، لا يتناولون العرف كدليل أصولي أي مصدر من مصادر التشريع وإنما يستندون إلى تلك الأدلة بمناسبة توضيح بعض الأحكام الفرعية (والتنبيه إلى هذه الناحية بصفة خاصة لا يخلو من فائدة نظرًا لعدم إشارة الباحثين المعاصرين إليها أثناء ذكرهم أدلة حجية العرف) .
(1) انظر لبعض الروايات عن أبي حنيفة: أبو زهرة، أبو حنيفة، مصر 1955 م: ص 309؛ لعمل أهل المدينة: القاضي عياض، ترتيب المدارك، بيروت، 1967م، 1 /66 – 74؛ لتقويم العمل بأنه العرف: الجيدي، العرف والعمل: ص 335، 393-395 خاصة.
(2)
القرافي، مختصر تنقيح الفصول: ص 76؛ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، مصر: 1955 م، 2 /393، 3 /89؛ أبو زهرة، مالك، مصر، 1963 م، 1964 م: ص 421؛ الجيدي، العرف والعمل: ص 77 فما بعدها.
(3)
انظر لملاحظة Joseph SHACT وتعليقنا: الباب الأول، الهامش 26 ويلاحظ أن R.LEVY في مادة " ruf "(العرف) و COLDZIHER I. في مادة " Ada"(العادة) أيضا يتناولان الموضوع بشكل أزيد من ناحية التطبيقات القانونية في تاريخ التشريع للمسلمين، انظر: Encyclopedie De L" Islam، Leyde (Hollande) ، 1934، I/124،،IV/1087.
(4)
نلاحظ أن السرخسي يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع وذلك على خلاف موقفه في كتابه المتعلق بالأصول، المبسوط: 12 /59؛ الأصول: 2 /202، 203 وكذلك نجد النسفي يذكر تعامل الناس بين الأدلة الشرعية في كتابه الخاص بالفروع ولا يذكره بينها في كتابه المتعلق بالأصول، المستصفى، مخطوط: ق 5/أ؛ المنار في الأصول، استانبول، 1329 هـ، ص 2 انظر لحالة استثنائية في هذا الموضوع، الهامش 144 من هذا الباب.
أما بخصوص الكشف عن سرِّ الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي، فلتحليل مفهوم المصدر أهمية كبيرة في نظرنا والحقيقة أن الباحث لا يستنكر هذه الثنائية في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي إذا أخذ بعين الاعتبار ما بيناه في المصادر الشكلية بالنسبة إلى كل من المجتهد وفقيه الأدوار التي تلت أدوار الاجتهاد، لأن كتب الفروع تنظر إلى العرف من زاوية الإفتاء أو القضاء بغض النظر عن صلاحية الاجتهاد لمن يتولى ذلك، وهذا ما يجعل أصحاب هذه الكتب يهتمون اهتمامًا بالغًا بالعرف الذي ينتظم عددًا كبيرًا من المسائل الفرعية وكما هو معلوم فإن علم الفروع له صلة وثيقة بواقع الحياة.
وفي مقابل ذلك تهتم كتب الأصول بالمصادر من زاوية الاجتهاد، فمن الطبيعي أن لا يحتل العرف فيها مكانًا خاصًّا، وذلك لأن عدم تناول مفهوم المصدر مرادفًا لمفهوم " الدليل "(بمعناه الواسع) يدلنا – كما أشار إليه الغزالي رحمه الله وغيره من العلماء – على أن المصادر من حيث ماهيتها من جهة والاعتراف بحجيتها من جهة أخرى في الفقه الإسلامي تقتصر على مصدرين وهما الكتاب والسنة (1) وليس هناك مصدر آخر له مثل هذه الخاصية سواهما، لأننا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كلًًّا من قول الصحابي وشرع من قبلنا يؤول إلى الكتاب والسنة، نجد أن الخاصية المشتركة بين ما سوى هذه الأدلة هي كونها متعلقة " بالكيفية " دون " الماهية " ما عدا العرف، أي أنها لا تجيب على سؤال " من أين يؤخذ الحل الفقهي "؟ بل على سؤال " كيف يتم استنباط الحل من المصادر الأصلية؟ " فهذا ما يتبين لنا بجلاء إذا قمنا بدراسة الحجج التي يعول عليها لإثبات حجية تلك الأدلة الشرعية مثل القياس والاستحسان، فالآيات والأحاديث التي يستدل بها على حجيتها لا تحيل المجتهد على مصادر جديدة في الحقيقة، بل تنطوي على فكرة أساسية تدعم الأصولي في اختياره المنهج الواجب اتباعه لاستنباط حلول مناسبة لقضايا جديدة من المصادر الأصلية فعلى سبيل المثال، أن آية {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: 2] تنطوي على فكرة " تسوية الحالات المماثلة في النتائج "، والمجتهد الذي يأخذ بالقياس مستدلًّا بهذه الآية الكريمة على حجيته يبرهن بذلك على صحة منهجه في الاستنباط دون أن يثبت مصدرًا جديدًا.
(1) بما أن الإجماع يعترف بوقوعه من طرف الجميع ينحصر في الإجماعات التي لها مستند في النصوص، يمكن أن نعتبر هنا أن الإجماع في نهاية أمره إلى القرآن والسنة
أما العرف فهو مصدر باعتبار ماهيته كما أسلفنا، ولكن اعتراف النصوص بحجيته قضية تحتاج إلى شيء من التفصيل: فالباحث يجد في القرآن والسنة أدلة عديدة تدل على مراعاة العرف واستنباط الأحكام دلالة تكون لدى المجتهد أساسًا فكريًّا وتنير السبيل أمامه (انظر: 4، وخاصة 4-2 من الباب الثاني) وفي الوقت نفسه لا يمكن القول بأن النصوص تحيل المجتهد على العرف فيما لا نص فيه مباشرة، ومن ثم لا يمكن القول بكونه مصدرًا يعترف بحجيته في الشريعة الإسلامية وإذا أمعن الباحث النظر في القضية يجد في هذا الموقف أمرًا طبيعيًّا، لأن الاعتراف بمصدرية العرف لا يتفق وأسس التفكير الإسلامي وبنية فلسفة الحقوق الإسلامية وتسبب أيضًا بعض المشاكل من ناحية منهجية الحقوق (سنلقي فيما بعد نظرة عابرة على القضية من ناحية فلسفة الحقوق) .
أما من ناحية منهجية الحقوق فما يجب الانتباه إليه هو أن العرف إذا تم الاعتراف بمصدريته في الشرع فليس للمجتهد إلا القيام بتثبيت وجوده وعدم مخالفته للنصوص صراحة، ثم يكون العرف ملزمًا من الجهة الشرعية، ويسد ذلك إلى حد كبير على المجتهد إمكانية الاجتهاد من أجل التوصل إلى الحال الأنسب وإلا وقف مع روح الشريعة الإسلامية في القضية المعروضة عليه والتفكير في المقاصد العامة والخاصة للنصوص مما يمكن إيجاد رابطة بينه وبين تلك القضية بينما إذا كان العرف يلعب دوره كحجر أساسي في مناهج الاستنباط مثل الاستحسان والاستصلاح أمكن للمجتهد أن يقدم على العرف ما يجب مراعاته بالدرجة الأولى لتحقيق مقاصد الشريعة من مبادئ وإن كان العرف الوارد في القضية المعينة لا يصطدم صراحة مع النصوص.
وفي الحالة التالية تبرز بوضوح أكثر أهمية عدم الاعتراف بمصدرية العرف من ناحية منهجية القانون: في نظم الحقوق المكتوبة إذا كان العرف معترفًا به كمصدر مستقل بعد القانون، لا يمكن التحدث عن عملية ملء " فراغ قانوني " من طرف القاضي في حالة ما إذا وجد عرف القضية المعروضة ولم يوجد نص قانوني يتناول في حكمه تلك القضية، ولا يستطيع القاضي في هذه الحالة مراجعة القياس الذي هو منهج من مناهج ملء الفراغ القانوني، أما إذا لم يعتبر العرف مصدرًا مستقلًا في الحالة ذاتها يجب أن يتولى القاضي ملء هذا الفراغ ويتمتع بإمكانية مراجعة مناهج ملء الفراغ القانوني ومنها القياس فيتبين من خلال هذه المقارنة أن عدم اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا في الفقه الإسلامي مكن القياس من الحفاظ على قيمته المنهجية وقد أشرنا إلى أن القياس الوارد في " العرف يترك به القياس " ليس المقصود منه غالبًا معناه الأصولي (القياس القانوني gesetsesanalogie) ، وإنما القاعدة العامة (القياس الحقوقي rechtsanalogie) وكذلك المقصود من " العرف " فيه هو الإجماع السكوتي أو السنة التقريرية بالنسبة لبعض المسائل (1) .
(1) انظر: الباب الأول 2-1-2 والهامش 56، 57
6-
2- مفهوم " المصدر " من ناحية فلسفة الحقوق الإسلامية وتقييم العرف:
المقصود من مفهوم المصدر من ناحية فلسفة الحقوق هو المصدر بمعنى منشأ الحقوق، ومما أجمع عليه الفقهاء المسلمون – وبينهم المعتزلة أيضًا – أن الحقوق الإسلامية بهذا المعنى إلهية تعتمد على الوحي، وأن سلطة إنشاء الحكم ليست لأحد إلا لله وأن العقل ليس له استقلال في هذا المعنى هذه الناحية هي المتفق عليها بين علماء المسلمين. إلا أنهم اختلفوا في مسألتين:
الأولى: هل أحكام الله لا تعرف إلا بواسطة رسله، أو يمكن للعقل أن يستقل بإدراكها وعلى أي أساس يكون هذا؟
والثانية: وإذا أمكن للعقل أن يدرك حكم الله دون وساطة الرسول، فهل يكون هذا الإدراك مناط التكليف وما يترتب عليه من ثواب وعقاب في الآجل ومدح وذم في العاجل؟
والمناقشات حول هاتين المسألتين أدت إلى قيام نظرية عرفت بين العلماء المسلمين بنظرية " الحسن والقبح "(1) .
ونحن نكتفي – دون أن نتطرق إلى تفاصيل هذه النظرية – بلغت النظر إلى أن الأحكام التي أمكن التوصل إليها بمجرد العقل لا تعتبر ملزمة عند العلماء المسلمين – إلا لقليل منهم – وإن كان الفقهاء الذين تبنوا رأي الماتريدية ومن وافقهم يتوسعون في الاجتهاد بالرأي أكثر الآخرين (2) وهذا يعني أن اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا في الفقه الإسلامي لا يتفق والمبدأ الفلسفي للفقهاء (3) .
(1) انظر الخلاصة مركزة في الموضوع اعتمادًا على كشف الأسرار للنسفي وحاشية قمر الأقمار للكنوي والمسامرة في شرح المسايرة لابن همام: الدواليبي، المدخل إلى علم أصوله الفقه، ص 170، 173 (في الهامش) .
(2)
الدواليبي، الكتاب المذكور، ص 174.
(3)
أبو سنة، العرف والعادة، ص 30، 31. ZIADEH (Farhat j.) ، " Urf and law in Islam"، The World Of Islam Studies in honour of P.k.Hltti، London، 1959، p 62..
هذا وإن الدكتور محمد حميد الله يركز على ملاحظة هامة فيما يقوله في فلسفة الحقوق الإسلامية: " ومما لا شك فيه أن المؤمن يطيع ما أمره الله به ورسوله طوعًا، أما ما يتعلق بآراء الفقهاء الذين لم تثبت لهم العصمة مثل الرسول، فهناك اعتباران في نفاذها في المجتمع، فالاعتبار الأول هو أن الفقهاء مكلفون باستنباط الأحكام بطريق القياس على معطيات القرآن والسنة، فبهذه الطريقة يمتزج الحكم المستنبط بمصدره الأصلي الذي استنبط منه والثاني أنه قبل كل شيء يفرض أن لا يكون الفقيه راسخًا في العلم فقط، بل يجب أن يكون مع رسوخه في العلم ورعًا ومتحليًّا بأخلاق حسنة "(1) .
وفي هذا المعنى يقول سافوري: " القانون في نظر المسلم جزء متمم لدينه
…
وكذلك القانون في نظره أمر الله المعتمد على الوحي مثل القرآن " (2) .
ويجدر بنا الإشارة إلى ناحية أخرى تتعلق بالمبدأ الفلسفي وتعين الباحث في الكشف عن سر الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي وهي مسألة مضامين الفقه الإسلامي، والواقع أن الفقه الإسلامي لا ينظم علاقات الإنسان ببني الإنسان فحسب كما يفعله الفقه البشري، بل يتعدى ذلك إلى تنظيم علاقاته مع خالقه أيضًا حتى أن جميع الأحكام في الفقه الإسلامي المتعلقة بتصرفات الإنسان بما فيها علاقاته مع أبناء جنسه تصطبغ بصبغة إلهية الأمر الذي يحمل الفقيه على النظر في القضايا لا من زاوية النتائج الدنيوية لها فقط، بل زاوية نتائجها الأخروية أيضا وبالتالي فإن مسألة الجواز وعدم الجواز وما يتعلق بالعبادات وما للأحكام من جهتين ديانية وقضائية تشكل مجالًا فسيحًا في الدراسات الفقهية وتوسع نطاقها ونتيجة لذلك نجد كتب الفروع في الفقه الإسلامي تعتمد على العرف في مسائل كثيرة من فروع لا يتطرق إليها الفقه الوضعي في قليل أو كثير مثل ألفاظ اليمين والطلاق.
(1) HAMIDULLAH ،" Philosophie juridique chez les musulmans"، p140، 141.
(2)
SAVORY، lntroduction To Islamic Civilisation، p54.
6-
3- نظام إعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي ومكانة العرف فيه، وأخيرًا: نود أن نشير إلى بعض المقاطع التي لها أهمية من ناحية تقييم مكانه العرف في الفقه الإسلامي:
أولا: كان العرف مصدر تنظيم لكل المجالات الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، أما بعدة فقد أهميته السابقة، لأن الإسلام جاء بالقرآن والسنة كمصادر أصلية للتشريع (1) وذلك ما يلاحظ في نظم الحقوق الحديثة أيضًا حيث إن العرف أصيب بالوهن بعد قيام حركات التدوين فيها حتى يمكن القول بأن العرف لم يعد يحتل مكانته السابقة في الفقه الإنكليزي اليوم.
ثانيا: إن العقل بمعنى " النفي الأصلي "أو " العدم الأصلي " الذي يذكره الغزالي بين أدلة الأحكام والذي يقول فيه: " إن تسميته أصلا من أصول الأدلة تجوز " لا يمكن إنكار أهميته من ناحية نظام إعمال الأدلة، أي أن الاستصحاب في معناه الضيق يغني الفقيه من البحث عن الدليل في الجزئيات كلها وبعبارة أخرى فإنه لا يمكن التحدث عن وجود حكم يأتي بتكليف (الوجوب، الندب، الحرمة، الكراهة (أو مؤيده شرعية) مثل الفساد أو البطلان أو العقوبة أو الضمان) في الفقه الإسلامي إلا بالاستناد إلى النصوص الخاصة (أي بالاجتهاد البياني أو القياسي) أو إلى روح النصوص (أي بالاجتهاد الاستصلاحي) كما أسلفنا إذًا فالمجال واسع لمواكبة العرف لمتطلبات الحياة لأن الأصل هو الإباحة في الأشياء وبراءة الذمة، ما لم يعول في الحكم المخالف لذلك على النصوص إما مباشرة وإما برابطة خاصة – وهي العلة ومنهج ربطها يسمى قياسًا – أو عامة – وهي مبادئ الشريعة ومنهج ربطها يسمى استصلاحًا.
ثالثًا: يتبين ما سبق أن العمل بالعرف في تشريع الإباحة لا يقتضي دليلًا خاصًا، لكونه من مقتضيات مبدأ النفي الأصلي، وإنما تمس الحاجة إلى دليل خاص في التشريع الإلزامي ولتوضيح ذلك نقتبس من العلامة الطاهر ابن عاشور ما يقول فيه:
" ولهذه الحكمة الخصوصية جعل الله هذه الشريعة مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد ".
إذن فمراعاة عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم.
(1) المحمصاني، فلسفة التشريع: ص 182.
لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة لزم أن يراعى ذلك في العوائد فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصارَ بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم ولهذا نرى التشريع لم يتعرض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الإسفار ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير ولا أهل الهند والترك من الحمل على البقر، لذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال العجل والعربات والأرتال، وكذلك أصناف المطاعم التي لا تشتمل على شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلا من جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع.
فنحن نوقن أن عادات قوم لا يحمل عليها قوم آخرون في التشريع ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك، نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيروها، لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملتهم إذا سكتوا عما يضادها " (1) .
ففي التشريع الإلزامي لا يعتبر العرف مصدرًا بصورة مباشرة وإنما يلعب دوره عن طريق منهج الاستصلاح وفي بعض الأحيان عن طريق منهج القياس كما بينا في الباب الأول، ولعل الأستاذ أبا سنة يقصد هذا المعنى، إذ يرى من الضروري رد العرف إلى واحد من الأصول الشرعية مثل المصلحة المرسلة، وأصل المنافع والمضار ودلالة الإجماع للتعويل عليه (2) .
رابعا: يشاهد أن العرف يلعب دوره أيضا عن طريق منهج الاستحسان الذي يتسم بطابع سلبي فتزول به شدة وقسوة القياس أي القاعدة العامة التي يرى المجتهد عدم انطباقها على بعض المسائل من خلال اختبار الصحة المنطقية أو الصحة الأخلاقية أو الصحة الاجتماعية والثقافية للحقوق.
* * *
(1) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 89-91.
(2)
أبو سنة، العرف والعادة ص 32 – 43.
الخاتمة
من خلال دراستنا للعرف في الفقه الإسلامي نخلص إلى ما يلي:
1-
لا يمكن إنكار ما للعرف من تأثير عميق على الفرد والمجتمع كما لا يمكن القول بأن التشريع الإسلامي أهمل هذا التأثير له ولم يحتفل به.
2-
ويمكن البت – بعد تمحيص النظر في النصوص – في أن العرف يجب مراعاته في استنباط الأحكام وتطبيقها ولكن لا يبدو أن هناك إمكانية القول بأن النصوص اعتبرت العرف مصدرًا مستقلا لأن إثبات أصل من الأصول (المصادر) يقتضي الدليل القطعي كما نبه إلى ذلك الغزالي بمناسبة تقويم حجية دليل آخر.
أما الأدلة المذكورة بصدد إثبات حجية العرف فهي ظنية كما بينا ذلك في مكانه والجدير بالذكر هنا أننا إذا نظرنا إلى ما يستند إليه كثير من الباحثين بقولهم: " يستدل العالم الفلاني بالآية الفلانية أو الحديث الفلاني على حجية العرف " نلاحظ أن هذا العالم لا يتناول موضوع حجية العرف مستقلا، بل يتحدث عن حجيته بمناسبة حكم فرعي لتدعيم النتيجة التي توصل إليها والتي لها صلة بالعرف.
إلا أنه إذا وضعنا نصب أعيننا أن الدليل الأقوى في نظر العلماء بين الأدلة التي يستدل بها على حجية الإجماع هو ما جاء في عدد كبير من الأحاديث المروية بطريق الآحاد من الدلالة على معنى مشترك مفاده عدم اتفاق الأمة الإسلامية على الضلالة وضرورة ملازمة الجماعة (أي هو المتواتر المعنوي) فالقيام بمثل هذا الاستدلال بشأن العرف لا غبار عليه ولكن النتيجة النهائية لهذا الاستدلال – بحسب ما يبدو لنا – لا تمكننا من قبول العرف مصدرًا مستقلا (1) .
(1) يقول أبو سنة: " فهذا شهاب الدين القرافي يعتد العوائد من أدلة حجية الأحكام "(العرف والعادة ص 28) وبعد دراسة أدلة حجية العرف يخلص إلى أن الفقيه لا يمكن أن يتخذه دليلًا ما لم يؤيده أصل من أصول الفقه (ص 32) ثم يقول: " إن المراد من جعل العوائد دليلًا في كلام القرافي أنها طريق للقاضي إلى الفصل في الدعوى (ص 32) . ونجد ZIADEH أنه يصرح – مستندا إلى كتاب أبي سنة ص 32 – بأن القرافي عد العوائد بين مصادر الفقه واعتبرها مصدرًا محددًا (“ Urf and law in Islam ”،p64) ”a definite soure” والحقيقة أن القرافي يمتاز بتفريقه المعاني المختلفة لمفهوم " الدليل " عن بعضها البعض؛ إذ يقسم الأدلة إلى ثلاثة أقسام: أدلة مشروعيَّة الأحكام، وأدلة وقوع الأحكام، والحجاج وعند تناوله أدلة مشروعية الأحكام لا يعد إلا ثمانية عشر دليلا ولا يذكر بينها العرف أو العوائد مع أنه يقول " وهي نحو عشرين " الفروق: 1 /128 الفرق: 26 أما في كتابه المتعلق بالأصول فيقول في الباب الذي عنونه " في جميع أدلة المجتهدين ": "وهي تسعة عشر "، ويذكر بينها " العادات " (تنقيح: ص 74؛ " العوائد " في شرحه: ص 200) ثم يقول: " ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وليس كذلك. أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها " (ص 76، وشرحه: 200) . بالرغم من أن هذا التصريح يمكن اعتباره استثناء لعدم تناول الأصوليين العرف فإنه ليس تناول العرف ودراسته كدليل مستقل في حقيقة الأمر، وإنما عبارة عن ذكره بين مناهج التشريع ومبادئه، علمًا بأن القرافي لا يذكره في الفروق بالرغم من عده ثمانية عشر دليلًا فيه أما عبارة " العرف مشترك " الواردة في كتاب القرافي وكذلك النسفي (المستصفى، مخطوط، مكتبة سليمانية (استانبول) قسم فاتح، رقم 1846، ق 132/ أ) فيبدو أنها تعود في آخر المطاف إلى التنويه بدور العرف في تفسير النصوص والتصرفات القانونية ونتوصل من خلال ذلك إلى أن القرافي لا يعتبر العرف دليلًا في معنى " المصدر الحقوقي "، مع اهتمامه الكبير به سواء في استنباط الأحكام أو في أمور الفتوى والقضاء فمع أننا نشارك رأي الأستاذ أبي سنة في هذه المسألة مبدئيًّا، إلا أننا لا نحبذ حمل كلام القرافي على أن العوائد طريق للقاضي إلى الفصل في الدعوى فقط، لأنه يذكرها بين " أدلة المجتهدين ".
وإنما يمكن القول بأن النقطة المشتركة للأدلة الخاصة والعامة التي تناولناها من قبل هي " ضرورة مراعاة العرف " في الشريعة الإسلامية، أما اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا فلا يتفق والبنية المنهجية والفلسفية للفقه الإسلامي ولو عنيت مرتبته بين سلسلة المراتب للأدلة وحدد بقيد عدم مخالفته للنص.
3-
قمنا بتثبيت ظاهرة هامة بالنسبة لمكانة العرف في أدب الفقه الإسلامي، وهي أن كتب الأصول مع أنها تولي كبير أهمية لمناقشة الأدلة الشرعية سواء كانت معترفًا بحجيتها أو غير معترف بها لا تهتم بالعرف سلبًا ولا إيجابًا وفي مقابل ذلك يلاحظ أن العرف احتل في كتب فروع الفقه مكانًا ليس متوازيًا مع وضعه في كتب الأصول حتى أن بعض المؤلفين يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع ويحترز عن ذلك في كتابه الخاص بعلم أصول الفقه وكذلك البعض منهم يذكر تعامل الناس بين أصول الشرع في كتابه المتعلق بالفروع بيد أنه لا يتحدث عنه في مكانه أي أثناء تناوله لأصول الشرع في كتابه المتعلق بأصول الفقه (وقد أتيحت لنا فرصة التنبيه إلى خطأ قد يشوش فكر الباحث في تقييم العرف، وهذا الخطأ الذي شاع في كتب عدد من العلماء الأجلاء نسبة تعريف للعرف إلى الغزالي مستندًا إلى كتابه المستصفى من علم الأصول) .
وهنا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر كل من كتب الأصول والفروع – بالإضافة إلى ما لفتنا النظر إليه من البنية المنهجية والفلسفية للفقه الإسلامي – لتثبيت عوامل هذه الظاهرة ونحن حاولنا جهدنا لتسليط الأضواء على هذه الناحية بلفت النظر إلى ضرورة تناول مفهوم " المصدر الشكلي " بالتفريق بين أدوار الاجتهاد وبين الأدوار التي تلت عهد تكون المذاهب.
وإلى جانب ذلك ذكرنا أن العرف الذي ينوه بمكانته في فروع الفقه ليس في أغلب الأحيان في معنى العرف الذي يلعب دور القاعدة القانونية، بل هو العرف الذي يراعى في تفسير النصوص والعرف المتعلق في نهاية أمره بقواعد اللغة (ولا سيما العرف المفسر لعبارات اليمين) والعرف الذي يساعد الحاكم في تقدير أدلة الطرفين أثناء القضاء.
4-
وبطريقة الإشارة إلى نظام إعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي أوضحنا أن مبدأ مراعاة العرف يلعب دوره غالبًا بشكل طبيعي ودون الحاجة إلى التعبير عنه نظريًّا، وأنه يجري مهمته عن طريق مناهج الاستحسان والاستصلاح خاصة في حالات تضمن الحكم تكليفا شرعيًّا أو مؤيدة شرعية أو التي تقتضي الاستثناء من القاعدة العامة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم كافي دونمز.