الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
إعداد
أ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد.
فقد تفيأت الأمة الإسلامية – قبل أن تمنى بالاستعمار الأجنبي – ظلال الشريعة فأشاعت الأمن والاطمئنان، وانتشرت الفضيلة، وعم الرخاء، وكانت مصدر عزهم وسر منعتهم.
كانت الشريعة عبر القرون الماضية الحارس الأمي للأمة محافظة على ذاتيتها ومستبقية خصائصها، ومن الطبيعي أن يسهل العبث بكل المقدرات إذا أغفت عين الحارس، فكيف إذا أبعد عن الساحة، وأقصي عن الميدان؟
كان كل هذا في وعي المتربصين بها، الحاقدين عليها، الذين جندوا طاقاتهم الفكرية، وإمكاناتهم المادية نحو الأسس والجذور في فكر الأمة الإسلامية، ومقومات شخصيتها، وكان الاختيار الأول إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية في المجتمع المسلم، فمن ثم أقاموا من أنفسهم، وبأنفسهم برهانًا على صدق التنزيل الحكيم:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) .
فكانت ضربة محكمة زعزعت كل القيم في المجتمع الإسلامي، فأصابه ما أصابه من تفكُّك، وانحلال.
أحكم المستعمرون الحاقدون المؤامرة ابتداء بإلغاء العمل بالشريعة، وامتدادًا بإيجاد أجيال من المسلمين تتحمس لقوانينهم وتدين بمبادئهم، وما كان من الصعب بعد أن تعصف التيارات، وتهب ريحها على أبناء الأمة الإسلامية فتختلف بهم الأهواء، وتتجاذبهم الانتماءات المتعددة، وتعددت الولاءات لكل مذهب واتجاه ولم يكن للإسلام من نصيب إلا اللاآت.
أحكم أولئك المؤامرة ابتداء وامتداد لا انتهاء بإلقاء الشبه والشكوك في صلاحية الشريعة بل صحة مصادرها.
(1) سورة البقرة: الآية120
تحقق لهم كل ما أرادوه، بل أكثر مما أرادوا بعد إلغاء الشريعة تعاملًا وقضاءً وأحكامًا.
تلك هي البداية التي أوصلتهم إلى أبعد من الهدف والغاية.
وما كان من سياسته ومؤامراته المحكمة أن يفرغ الأمة الإسلامية من شريعتها ومبادئها الروحية دون أن يملأ هذا الفراغ فأحل محلها معتقداته، وسلوكياته وقوانينه حتى لا تتنبه للمؤامرة، أو تحس بالشر المحدث بها.
أيها السادة:
إن اجترار الماضي، وتحميله مساوئ الحاضر بعد الزمن بالاستعمار من صفات العاجزين، وتكأة يعتمد عليها المتخاذلون، وما أكثر ما يتذرع بها المخادعون الغالطون.
وما سطر القلم ما سطره من استرجاع شريط الماضي إلا لنأخذ منه درسًا مفيدًا لحاضرنا فتشخيص الداء هو المرحلة الأولى في طريق الشفاء.
والدرس الذي نعيه من ذلك الفصل التاريخي هو الآتي:
أولًا: إقصاء العمل بالشريعة تعاملًا وقضاءً في المجتمعات الإسلامية هو البداية التي تهاوت بعدها عقده، وتحطمت قيمه.
ثانيًا: إيجاد فئة من المثقفين متحمسة لقيم المستعمرين وقوانينهم، تتحدث بمنطقهم، وتجادل بلسانهم.
ثالثًا: بث الشبه والشكوك بين المثقفين المسلمين لزعزعة إيمانهم بصلاحية الشريعة وقدرتهم على مواكبة الحضارة الحديثة.
والكثير الكثير من أمثال هذه الشبه والشكوك التي ترتدي مسوح العلم والفكر.
كل هذا أو غيره يدفع الأمة الإسلامية، وقد منَّ الله على معظم بلادها بالتخلص من الاستعمار فملكت زمام أمورها أن تخطط للعودة إلى رحاب الشريعة تخطيطًا محكمًا، وتسلك السبل الفاعلة لعودة كريمة، باحثة عن شخصيتها مسترجعة خصائصها.
وإذا كان معلوما أن إقصاء الشريعة عن التطبيق في المجتمعات الإسلامية هو بداية البداية في هزيمتها النفسية، وفقد هويتها، فمن الطبيعي بل من الضروري أن تكون عودتها إلى التطبيق هي القضية الأولى التي لا يمكن التنازل عنها، أو التهاون بها، بل إن عودتها إل التطبيق يعد الرمز الحقيقي لاستقلالها، ونبذ التبعية عنها.
إلا أن العودة إلى تطبيق الشريعة في بلاد حكمتها قوانين أجنبية عقودًا طويلة من السنين نشأ في ظلها أجيال وأجيال لن يكون سهلًا معبدًا، بل ستكون معارضات ومقاومات مخططًا لها تخطيطًا محكمًا كما خطط للبدايات، فمن ثم يتوجب العمل في سبيل إرجاعها إلى الساحة الاجتماعية تدبيرًا محكمًا بعيدًا عن الغوغائية والعشوائية.
والبداية الصحيحة تقتضي العمل في ثلاثة اتجاهات:
الأول: إصلاح التعليم الديني في معاهده ومؤسساته والخروج به من أسر الطرق التلقينية، وحشد المعلومات التي تعتمد على الكم، والحفظ والترديد دون وعي.
ولا يتحقق الإصلاح في هذا المجال إلا بتحسن الدارسين للمعاني والحكم لتعاليم الشريعة، وتنمية ملكات الطلاب، وإثارة مواهبهم لإدراك مفاهيمها، والوقوف على جوانب العظمة فيها، وتناول الحقائق الشرعية مفصلة مبرهنة بعيدًا عن التعميمات الخطابية، والعبارات الانفعالية.
إن إيجاد الوعي الصحيح، واستقامة المفاهيم عن الشريعة بين صفوف الأمة الإسلامية، وبخاصة ناشئتها أمر ضروري للعودة المستنيرة، وسلامة التطبيق.
ثانيًا: ومع الاعتراف التام، والقناعة الكاملة بأن الفقه الإسلامي نظام قانوني عظيم، يتميز بأصوله الثابتة، ومرونته الكافية، وخصائصه الوافرة، وأخلاقياته الرفيعة، وبأن حظ الأمة الإسلامية في أجيالها المتأخرة من التراث الفقهي الرصين ثروة عظيمة، كمًّا ونوعًا، تتابعت على تطويره، وتنقيحه عقول كبيرة، وجهود مخلصة غير محدودة، برغم كل هذا فإنه يعترض الاستفادة منه الاستفادة الحقيقية صعوبات عديدة دفعت بالكثير من المتخصصين إلى الإفصاح عنها، وأنها بمقارنتها بالقانون من حيث الصعوبة
…
أشد وعورة لما يلقاه الباحث، من صعوبات مردها الأول عدم صياغة أحكامها صياغة فنية كتلك التي نجدها في القانون
…
إذ هي عبارة عن حلول لمسائل كثيرة معقدة، ومن هذه الحلول تستنبط القاعدة العامة. واستنباط القاعدة العامة أمر من الصعوبة بمكان لكثرة المسائل وتعقدها. وقد يختلف الحل فيها، لا لاختلاف الحكم، ولكن لاختلاف التقدير، وقد يخفى هذا فيضطرب الحكم في ذهن الباحث، فلا بد له ليتفادى ذلك من كثير من البحث والاستقصاء. هذا إلى تعدد الروايات واختلافها، وعدم مراعاة المؤلفين أحيانًا ذكرها جميعًا أو نسبتها إلى صاحبها مما يجعل الباحث في حيرة. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من عبارات الفقهاء غير محددة المعاني، فيمكن حلها على أكثر من معنى، وأن الحكم قد يرد بغير تعليل، أو بتعليل غير قريب.
أما الصعوبة الثانية، وهي تتصل بالأولى، فهي حال مؤلفات الفقه الإسلامي. فما زالت هذه المؤلفات، على ضخامتها وكثرتها، في حاجة إلى فهارس تهدي الباحث إلى موضع مسألته ولا يخامره شك في أنها لم تبحث في مواضيع أخرى، حتى لا يضطر، إذا كان مدققًا، إلى قراءة المؤلف كله، وقد يتكون من عدة مجلدات، بحثًا وراء مسألته. هذا فوق أن ما طبع منها قليل، وأن الكثرة منها لم تطبع بعد. وما طبع لم يحفظ بالعناية الواجبة في التحقيق وفي الطبع. يضاف إلى ذلك تشتت المؤلفات مطبوعها ومخطوطها، في المكتبات العامة المختلفة وصعوبة الحصول على المطبوع منها، وصعوبة المكث في المكتبات للاطلاع على المخطوطات لظروف الباحث ولظروف المكتبات نفسها (1)، ويستخلص مما تقدم النتيجة التالية: "لهذا السبب وذاك قل عدد الباحثين في الفقه الإسلامي وضؤل إنتاجهم
…
" (2) .
(1) عبد البر، محمد زكي، نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الفجالة الجديدة، 1369هـ/ 1950م، ص1-2
(2)
عبد البر، محمد زكي، نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الفجالة الجديدة، 1369هـ/ 1950م، ص1-2
فتذليل هذه الصعوبات خطوة ضرورية، ومرحلة أولية للاستفادة من الفقه الإسلامي، وإن كانت الجهود المبذولة في الوقت الحاضر قد تجاوزت بعضًا منها، وأنَّى يكون الحماس لتطبيقه دون معرفته في صورة كاملة، بأسلوب مشرق!!!
ثالثًا: وثالثة الأثافي لأحكام خطة تطبيق الشريعة بين الشعوب الإسلامية عن قناعة تامة، وفهم كامل يكون بالقيام بدراسات علمية جادة لإزالة الشبه والشكوك في صحته وفاعليته، ومواكبته للتقدم الحضاري في العصر الحديث.
أيها السادة:
كانت الآمال معلقة في تكوين هيئات علمية متخصصة تمتلك الإمكانات المادية والطاقات الفكرية لمواجهة تلك المخططات بتأنٍ وعقلانية، وعلى نفس المستوى من الأحكام كالذي فعله المستعمرون، إن لم يكن أحكم وأضبط.
وتشاء إرادة المولى عز وجل وعلا الذي تكفل بحفظ هذا الدين، وإظهاره على الدين كله أن أصبحت الآمال أعمالًا بارزة، ومؤسسات شامخة، ومجامع فقهية، وهيئات علمية هنا وهناك بتمويل مادي وتعضيد معنوي من الدول الإسلامية، صدقت وعدها ليتحقق التخطيط والتنفيذ، وهكذا تهيأت أسباب العمل الناجح.
والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أنجز في السنوات القليلة الماضية الأبحاث والدراسات للموضوعات الفقهية الملحة، وخطط لمشروعات علمية فقهية ما بعد إنجازًا كبيرًا في فترة قياسية.
ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي وقد اضطلع بهذه الأمانة الكبيرة، وأثبت قدرته في هذا الميدان بما تحقق على أيدي المسؤولين الأكفاء فيه قادر بمشيئة الله ثم بكفاءة نخبة الفقهاء المخلصين أن يسد الفراغ القانوني في العالم الإسلامي بتأليف مدونة فقهية كامل في المعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والمحاكمات تلبي حاجة العصر وتواكب التقدم الحضاري في تخطيط سليم، ومسار شرعي مستقيم، يسجل به إنجازًا تاريخيًّا على مستوى العالم الإسلامي كالذي تحقق بظهور مجلة الأحكام العدلية العثمانية، يجد فيه العالم الإسلامي حكومات وشعوبًا بغيتهم، تقوم به الحجة على عامتهم وخاصتهم، فتقطع به اتهامات المبغضين، وتدحض به تبريرات المستسلمين المنهزمين.
ومما يعزز هذا المشروع ويعضده أن يخصص جانب من نشاط هذا المجمع المبارك لتجميع كافة دراسات المستشرقين والقانونيين والباحثين في الفقه الإسلامي، ودراستها وفحصها فحصًا علميًّا دقيقًا، للإفادة من نقدها، في سبيل إيجاد مدونة فقهية كاملة، ونقض ما يتخللها من نقائض ونقائص قد أسيء فيها فهم الشرعية قصدًا أو بغير قصد، بمنطق واعتدال.
إن تعبئة الطاقات البشرية، والإمكانات المادية لهذين المشروعين المتكاملين في المرحلة الجديدة القادمة تعد خدمة جليلة في سبيل مساعدة الدول الإسلامية للحكم بما أنزل الله، وتطبيق الشريعة بصورة كاملة في جميع الجوانب التشريعية.
إذا تحقق هذا بمشيئة الله بالخطى والخطوات المطلوبة على مستوى العصر فكرًا وتنظيمًا فسيكون علامة بارزة في تاريخ هذا المجمع، وأمجاد هذا الجيل من الفقهاء والمفكرين والدول الإسلامية المعاصرة تحمده لهم الأجيال الحاضرة والقادمة.
وإن أمانة المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بما هيأ الله لها من رئاسة وأمانة مخلصة يساندهم، ويقوي من أزرهم الفقهاء والمفكرون ورؤساء الدول الإسلامية جديرة بإنجاز هذه المهمات، وتحقيق الطموحات والتطلعات في سبيل إنجاز هدف سام، وغاية نبيلة، ذلك هو بذلك كل جهد من شأنه أن يساعد على تطبيق الشريعة لتعود للمجتمعات الإسلامية فضائلها، وتسترد بالاحتكام إليه عزتها وكرامتها، والله الموفق، وهو الهادي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.
أ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان.