المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌ موضوع العرف

‌العرف

إعداد

الشيخ خليل محيى الدين الميس

عضو المجمع

مفتي زحلة والبقاع الغربي – لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد المصطفى وعلى آله وصحبه. وبعد: فالعرف من مباحث الأصول والفقه، لذا عرض له كل من الأصوليين والفقهاء بوصفه دليلًا تناط به الأحكام الشرعية، ومسائل هذا الباب مبثوثة في كثير من أبواب الفقه وبخاصة في باب الإيمان والتي للعرف فيها مجال واسع وكذلك الشأن في أبواب النذور والمعاملات.

أما الأصوليون فقد عرض بعضهم لمبحث العرف تحت عنوان مستقل كالقرافي في تنقيح الفصول والفروق. وأما بقية الأصوليين فقد عرضوا لمسألة العرف تحت عنوان (ما يترك به الحقيقة) أو تخصيص العام وعدوا منها العرف وخرجوا عليها أحكام المسائل الفرعية.

ومن الحقائق المسلَّمة أن العرف لا يرتفع من المجتمع البشري مطلقًا، لأنه من صنعهم.. لذا كان متعددًا فمرة يكون عامًّا، ومرة يكون خاصًّا ومختلفًا باختلاف الأعصار والأمصار لذا تقرر أن نبقي على كل مِنَ المفتي والقاضي أن يكون محيطًا بعادات الناس وتقاليدهم لإناطة الحكم في بعض الوجوه بالعرف والعادة. وقد أفرد الفقهاء في السلف والخلف مصنفات ضمنوها آداب القاضي والمفتي يرسمون فيها المنهج لكل منهما وعرضوا من خلالها إلى أحكام العرف كما في تبصرة الحكام، لابن فرحون المالكي، وعين الحكام، للطرابلسي.. ومن كتب القواعد الفقهية: الفروق للقرافي، والأشباه والنظائر لكل من ابن نجيم الحنفي والإمام السيوطي الشافعي، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام.

وأما كتب الأصول فقد أفرده بالبحث القرافي في الفصول، وأبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات والاعتصام.

وممن أفرده بالبحث: العلامة ابن عابدين في رسالته نشر العرف. كما أفاض الزركشي الشافعي في تقسيمات العرف في كتابه المرسوم: (المنثور في القواعد) ومن المعاصرين الفضلاء من صنف رسائل علمية في‌

‌ موضوع العرف

، كما سبق وعرض له بشيء من التفصيل العلامة الكوثري رحمه الله في مقالاته.

ص: 2366

ويلاحظ أن آراء المتأخرين كانت متعارضة من حيث الظاهر في حكم العرف. فالعلامة أبو سنة لم يعتبره دليلًا آخذًا برأي العلامة الكوثري في المقالات.

ولكن الباحث مصطفى عبد الرحيم أبو عجيلة رجح اعتباره دليلًا شرعيًّا. واستدل لهذه الدعوة بأدلة نقلية وعقلية كما أورد في الشواهد المستفيضة في الفقه والأصول ما يؤيد صحة دعواه تلك.. لكن العلامة خاتمة المحققين ابن عابدين رحمه الله يميل إلى القول بحجية العرف حيث قال، من نظمه:

والعرف في الشرع له اعتبار

لذا عليه الحكم قد يدار

ولا غرو أن استمرار النظر في هذا الموضوع له ما يبرره؛ لأنه مسألة خلافية كما وأنها حياتية، والقوانين الوضعية لها اهتمام بارز به وعلى اختلافها، والعرف والعادات إلى اليوم تُعد في نظر الحقوقيين مصدرًا من أهم المصادر للقوانين الوضعية ذاتها، فيستمد منه واضعوها كثيرًا من الأحكام المتعارفة، ويبرزونها في صورة نصوص قانونية يزال بها الغموض والإبهام الذي لا يجليه العرف في بعض الحالات. هذا ومن الحكمة طرح الموضوع في المجمع.. لمزيد من الدراسة والبحث واستقصاء المذاهب والأدلة وترجيح ما ينبغي ترجيحه وتكون عليه الفتوى حسب الأصول.

العرف (لمحة تاريخية) :

جاء للإسلام وللعرب عادات وتقاليد ساروا عليها واحتكموا إليها مئات السنين: عادات اختلطت فيها بقية من الشرائع السابقة بقواعد أحكمتها تجاربهم، فيها الصالح والفاسد تنازعتها العقول والأهواء، فكانت الغلبة للعقل مرة، وللهوى مرات.

ولما جاء الإسلام – وهو دين الصلاح والإصلاح – أقر طائفة منها على ما كانت عليه، وألغى أخرى.. وأبقى على ثالثة وعدَّل رسمها.. كما ابتكر نظما لم يسبق لهم عهد بها.

فما ألغاه من عاداتهم وتقاليدهم: بيع المخاطرة والغرر، كبيع الملامسة والمنابذة وإلقاء الحصاة وغيرها.. وأقر من الزواج صنفًا وألغى سواه، فقد أخرج البخاري وأبو داود بسندهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قالت: إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فلما بعث الله محمدًا بالحق هدم نكاح الجاهلية إلَاّ نكاح الناس اليوم (1)

- أقر أصل الطلاق ونظم طريقته.

- وأبقى نظام القصاص في القتل العمد – بعد أن أذهب عنه عنت الجاهلية.

- وأقر الرق بشروط معروفة –..

(1) نيل الأوطار: 6/135، باب: أنكحة الكفار.

ص: 2367

وهكذا اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم العرف القائم عند بعثته، بيد أنه لم يغيره، لأنه مجرد أمر متعارف معمول به من قديم الزمن، وإلا لاعتبر كل ما تعارفوه. وبذلك كان موقف رسول الإسلام من أعراف العرب: إقرار وتنظيم، ووحي السماء ينزل عليه بقرآن وسنة.. وما أقره لم يبق على ما كان عليه عادة وعرفًا، بل أصبح تشريعًا إسلاميًّا واجب الاتباع، ودينًا يتعبد به (1)

الصحابة والعرف:

سار الصحابة رضوان الله عليهم، على هدي رسول الله بما كان عند العرب من عادات. فأقروا الصالح منها، وأهدروا فاسدها، وهذبوا ما احتاج إلى تهذيب بعد وزنها بميزان الشريعة وتقدير ما فيها من مصلحة.

أقر عمر تدوين الدواوين الذي كان معمولًا به عند فارس والروم، وأمر بضرب الدراهم وهو أول من ضربها في الإسلام سنة 18 هـ. وكذلك طبق نظام الخراج والجزية الذي كان يعمل به كسرى.

ومع إقرار الصحابة ما أقروه من عادتهم التي لا تتنافى مع مبادئ الإسلام رفضوا منها ما يخالف تعاليمه كعادات القوم في الأعياد وغيرها.

العرف عند التابعين:

أورد الإمام البخاري في صحيحه بابًا خاصًا بالعرف، ذكر تحته أحاديث تتضمن عمل التابعين بالعرف والعادة، منها: - إحالة شريح الغزَّالين على عرفهم، وجواز كراء الدواب على العرف. وقال البدر العيني: حاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف (2)

قال شريح القاضي: إن أناسا من الغزالين اختصموا إلى شريح في شيء كان بينهم، فقالوا: إن سنتنا بيننا كذا وكذا، فقال شريح سنتكم بينكم، يعني عادتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (3)

(1) شلبي، الفقه الإسلامي: ص 88.

(2)

عمدة القاري: 12 /16.

(3)

عمدة القاري: 12 /16.

ص: 2368

وذكر أن الحسن البصري اكترى حمارًا فقال: بكم؟ قال صاحبه بدانقين، فركبه. ثم جاء مرة أخرى فقال: الحمار الحمار.. فركبه ولم يشارطه. قوله ولم يشارطه يعني الأجرة اعتمادًا على الأجرة المتقدمة المعتادة.

التقسيمات الحصرية للعرف

باستقراء المسائل المبنية على العرف ومواطن بحثه في الفقه والأصول نجد أن للعرف غير تقسيم وذلك لغير اعتبار، وتعدد منشأ هذا التقسيم.

1-

ينقسم العرف إلى قولي وفعلي.

2-

وينقسم إلى عام وخاص.

3-

وينقسم كل العام والخاص إلى عرف مطلق للاسم وإلى عرف مقيد له.

4-

وينقسم العرف القولي: إلى عرف عادي، وعرف شرعي وهو أحد تقسيمات العرف القولي.

5-

وهنالك عرف اللفظ وعرف اللافظ.

6-

وهنالك العرف الذي كان سائدًا قبل الإسلام وإبان نزول القرآن الكريم.

والعرف الطارئ بعد نزول القرآن الكريم وبأقسامه التي ذكرنا.

بيان أقسام العرف

1-

العرف القولي: هو أن يتعارف الناس على إطلاق لفظ لمعنى بحيث إذا أطلق انصرف إليه من غير قرينة، ولا علاقة عقلية، ولا يتبادر عند سماعه إلَاّ ذاك المعنى (1)

وهذا يشمل الاتفاق على إرادة بعض المدلول، وإرادة غير المدلول.

فالأول: كإرادة بعض أفراد العام منه بعد أن كان دالًّا على كل أفراده.

أما إرادة بعض المدلول كالدراهم، الدرهم: بعد أن كان يطلق على كل أفراد الدرهم صار مقصورًا على النقد الغالب.

وأما إرادة غير المدلول: كالاتفاق على إرادة فرد معين من المطلق بعد أن كان دالًّا على فرد شائع والاتفاق على إرادة معنى آخر للمركب غير معناه الأصلي.

(1) التقرير والتحبير: 1 /282..

ص: 2369

- فمثال المطلق: لفظ المرأة في قول الموكل: وكَّلتك بتزويجي امرأة.

- فإن اللغة تطلقها على الأنثى من بنات آدم.

- والعرْف قيدها بالحرة كما هو رأي أبي يوسف ومحمد.

ومثال المركب: قول الحالف: لا يضع قدمه في دار فلان، وقول الحالف أيضًا: على المشي.

فإن العرف، استعمل الأول في دخول الدار على أي حال. واستعمل الثاني في إيجاب أحد النسكين الحج أو العمرة (1)

وهذه الأساليب الفنية في طرائق التعبير هي من صور المجاز في البيان. لأنها تقوم على أساس وجود القرينة أو العلاقة، وليست في شيء من العرف اللفظي الذي يعتبر كلغة وصفية خاصة تصبح معانيها حقائق عرفية تستفاد من مجرد اللفظ (2)

العرف العملي: هو اعتياد الناس على شيء من الأفعال العادية أو المعاملات المدنية.

والمراد بالمعاملات المدنية: التصرفات التي يقصد منها إنشاء الحقوق بين الناس، أو تصفيتها وإسقاطها، سواء كانت تلك التصرفات عقودًا أم غيرها، كالنكاح والبيع والإبراء، وكالغصب والقبض والأداء (ر. ف 413/حـ1) .

من أمثلة العرف في الأفعال: اعتياد الناس في بعض الأماكن أكل نوع خاص من اللحوم كالضأن والمعزى والبقر.

ومن أمثلتهم في المعاملات: اعتياد الناس تقسيط الأجور السنوية للعقارات إلى أقساط معدودة. وتعجيلهم في الأنكحة تعجيل جانب معين من المهور كالنصف والثلثين، وتأجيل الباقي إلى الطلاق أو ما بعد الوفاة (3)

وقسم ابن عابدين العرف باعتبار من يصدر عنه إلى: (عام) و (خاص) و (شرعي) .

(1) أبو البقاء، الكليات: 3 /215؛ والتقرير والتحبير: 1 /282؛ وأبو سنة، العرف والعادة.

(2)

الزرقاء، المدخل: 3 /846.

(3)

الزرقاء، المدخل: 2 /847.

ص: 2370

فالعرف العام: هو ما تعامله أهل البلاد الإسلامية سواء أكان قديمًا أي في عصر الرسالة والاجتهاد أو حديثًا أي في عصر التقليد.

مثاله: استعمال لفظ الطلاق في إزالة الزوجية، وتعارف أن دخول المساجد بالأحذية تحقير لها.

والعرف الخاص: هو ما لم يتعامله أهل البلاد جميعا، كتعامل أهل بلد أو حرفة أو دين.. كتعارف أهل العراق لفظ الدابة على الفرس. وكتعارف أهل بلخ وخوارزم جواز دفع الغزل إلى حائك لينسجه بذلة.

ومنه الاصطلاحات الفقهية وكذا اصطلاحات سائر العلوم كالرفع للنحاة، والفرق والجمع والنقض للنظار.

العرف الشرعي: وهو اللفظ الذي استعمله الشرع مريدًا منه يعني خاصًّا مثل المنقولات الشرعية كالصلاة: نقلت عن الدعاء إلى العبادة المخصوصة. والناقل في هذا القسم هو الشارع، وهكذا تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية (1)

الفرق بين العرف العام والعرف الخاص من حيث الحكم:

إن كلًّا من العرف العام والخاص: إنما يعتبر إذا كان شائعًا بين أهله يعرفه جميعهم.

1-

العرف العام: يثبت به الحكم العام.

2-

العرف الخاص: يثبت به الحكم الخاص.

وحكما لعرف يثبت على أهله عامًّا أو خاصًّا.

فالعرف العام في سائر البلاد: يثبت حكمه على سائر البلاد.

والعرف الخاص في بلدة واحدة: يثبت حكمه على تلك البلدة فقط. والحكم العام لا يثبت بالعرف خاصة إذا عارض النص الشرعي، فلا يترك به القياس ولا يخص به الأثر، بخلاف العرف العام.

العرف العادي – والعرف الاستعمالي:

المراد من الاستعمال: نقل اللفظ من موضوعه الأصلي إلى معناه المجازي شرعًا وغلبة استعماله فيه كالصلاة والزكاة حتى صار بمنزلة الحقيقية ويسمى إذ ذاك: حقيقة شرعية.

والمراد من العرف العادي: نقل اللفظ إلى معناه المجازي عرفًا واستفاضته فيه.

مثاله: وضع القدم في قوله: لا أضع قدمي في دار فلان ويسمى: حقيقة عرفية (2)

(1) ابن عابدين، الرسائل: 2 /114؛ ورسم المفتي: 1 /47؛ وابن عابدين الرسائل: 2 /133..

(2)

البزدوي، كشف الأسرار: 2 /95.

ص: 2371

عرف اللفظ وعرف اللافظ

موضوع الكلام في اعتبار عرف اللفظ وعرف اللافظ.

1-

هو في اللفظ العربي: يعتبر وضعه عند أهله.

2-

أما الأعجمي: فيعتبر عرف اللافظ، إذ لا وضع هناك يحمل عليه.

ولهذا قال القفال الشاشي: فيما إذا حلف على البيت بالفارسية لا يحنث بيت الشعر وغيره إذا لم يثبت شمول اللفظ له في غرف الفارسية.

ومنع الإمام الفرق بينهما (1)

وفي تقسيمات العرف يقول صاحب المسودَّة:

العرف في اللغة ينقسم إلى عام وخاص: وكل منهما ينقسم إلى عرف مطلق للاسم، وعرف مقيّد له مثل عرف الفقهاء إذا قالوا (الولد) في باب الفرائض عنوا به الولد وولد الابن.

وإذا قالوه في باب النكاح عنوا به كل من ولده. وكذلك (المفرد والمركب) للنحاة في عدة مواضع، وكذلك لفظ (المحلل) للفقهاء في باب النكاح وباب السبق.

ويكون تخصيص العام بالعرف: تارةً من جهة المتكلم.. وتارة من جهة المتكلم فيه (2)

أوجه عرف الاستعمال

إنّ عرف الاستعمال يكون من ثلاثة أوجه:

أحدها، من جهة اللغة: نحو استعمالنا الدابة لذوات الأربع وما أشبه ذلك.

الثاني، من جهة الشرع: نحو استعمالنا الصلاة والصوم والحج والزكاة على حسب ما ورد به الشرع.

(1) الزركشي: المنثور: 3 /388.

(2)

المسودة: ص224..

ص: 2372

الثالث: من جهة الصناعة: نحو استعمال أهل النظر متكلمًا في من يناظر في أصول الديانات.

واستعمال أهل الدواوين الزمّام في الكتاب الجامع لما يجمعه، واستعمال أهل الإبل الزمّام لخطام الناقة.

وغير ذلك مما لأهل كل صناعة عرف وعادة فيه. فيحمل لفظ كل طائفة على عرفها وعادتها (1)

فصل في بيان الأسماء العرفية

قال الباجي:

الأسماء العرفية: أن تكون اللفظة موضوعة لجنس في أصل اللغة ثم يغلب عليها عرف الاستعمال في نوع من ذلك الجنس.

مثاله: قولنا دابة: فهو اسم كان موضوعًا في الأصل لكل ما دب ودرج.

ثم غلب عليه الاستعمال لمطلق في البهيمة المخصوصة ذات الأربع.

وكذلك قولنا: صلاة، هي في أصل اللغة موضوعة في الدعاء، ثم استعملت في الشرع في الدعاء بقرائن ومعان مخصوصة.

وكذلك الصوم: هو الإمساك ثمَّ استعمل في إمساك عن معنى مخصوص في وقت مخصوص.

وكذلك الحج: هو القصد في أصل اللغة، ثم غلب عليه عرف الاستعمال بالقصد إلى موضع مخصوص في وقت مخصوص على وجه مخصوص.

وأما البيع: فإنه باقٍ على أصله ومستعمل على الوجه الذي وضع به. وكذلك الربا، إلَاّ أنه يدخل التخصيص على حسب ما يدخل ألفاظ العموم، ولم يستعمل في بعض ما يقع عليه في أصل اللغة دون بعض.

الحقيقة العرفية الشرعية والحقيقة اللغوية

من الثابت أن لكل تشريع عرفًا خاصًا في استعماله لكثير من الألفاظ يخالف به عن حقائقها اللغوية فيجب حمل تلك الألفاظ على معانيها العرفية في لسان الشرع. وهي التي تسمى (بالمصطلحات؛ فالصلاة والصوم والزكاة، والحج، والطلاق) مثلًا: ذات مفاهيم وحقائق شرعية قصدها المشرع كعرف خاص له في الاستعمال وجب أن تعرف هذه الألفاظ عند إطلاقها إلى تلك المعاني العرفية الشرعية تحقيقًا لمراد الشارع منها.

ومن ذلك اليمين الواردة في القرآن والسنة.

(1) الباجي، أحكام الفصول: ص 286.

ص: 2373

الأمثلة: قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [الآية 89 من سورة المائدة] ، فإنه مستعمل في معنى الحلف بالله تعالى في عرف الشرع لا الحلف بالطلاق، لأن الحلف بالطلاق لم يكن معودًا أثر نزول الآية الكريمة.

ومن شرط العرف المخصص أن يكون مقارنًا ولهذا فإن اللغو في الأيمان بالله غير مؤاخذ به دون الطلاق.

قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يحكم فيه بالعرف.

ومثاله: الحرز في السرقة، والتفرق في البيع، والقبض، ووقت الحيض وقدره.

ومرادهم: أنه يختلف حاله باختلاف الأحوال والأزمنة، ويختلف الحرز باختلاف عدل السلطان وجوره، وبحالة من الأمن والخوف (1)

أوجه استعمال العرف

للعرف استعمالات مختلفة كان في كل منها مبنى لحكم من أحكامها على نحو خاص يمكن إجمالها في الصور التالية:

1-

استعماله بمنزلة الدليل على تشريع الحكم، أو الدليل المخصص للنص والمقيد له.

مثاله: الاستدلال على جواز المضاربة بالعرف، والاستدلال على جواز وقف المنقول – عند بعض الفقهاء – بالعرف.

والاستدلال على استصناع الحلي والأثاث وغيرهما بالعرف. واستدلال مالك على عدم جواز خيار الشرط بعرف أهل المدينة.

2-

أن يكون استعمال العرف معيارًا يرجع إليه المفتي والقاضي في تطبيق الأحكام المطلقة.

بيان ذلك: أن الشريعة توجد بها أحكام مطلقة تختلف باختلاف عادات الناس ومصالحهم. والشارع إنما ينص على حكم شامل، والقضاة والمفتون يطبقونه بحسب العرف.

مثاله: عقوبة التعزير فقد أجملها الشارع، فقال الفقهاء: هي كل ما يحصل به التأديب والزجر، وهذا ما يختلف باختلاف الناس وعاداتهم وأحوالهم. ويردع الخسيس بما لا يردعه التغريم بالمال، وقد يكون الكيّ، وقد يكون النفي، والضرب هو العقاب الرادع.

ولهذا فوض الشارع تحديد العقاب إلى ولاة الأمر.

(1) الزركشي، المنثور في القواعد: 2 /390.

ص: 2374

الاستعمال الثالث: أن يقوم العرف مقام النطق بالأمر المتعارف في الدلالة على الإذن، أو المنع، أو الالتزام، أو الشهادة أمام القضاء أو غيرها.

بيانه: أن الأصل في التعبير عن المعاني التي تقوم بالنفس هو اللفظ لوفائه بتفهم الغرض من غير صعوبة، وقد يستغنى عن اللفظ بالعادات الجارية بين الناس الدالة على شيء من غير صعوبة، فهذه العادات تجري مجرى النطق بالعبارات الدالة على مضمونها في اعتبار الشارع، وهي القاعدة المشهورة بين الفقهاء:(المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا) فإن المرد بالشرط ما هو أعم من اللفظ الدال على الإذن، أو صيغة العقد، أو بيان النوع أو القدر في الأغراض الواقعة في العقود إلى غير ذلك.

فمثال العرف الدال على الإذن: إيداع المال عند إنسان فإنه يكون إذنا بدفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه كالزوجة والأولاد.

ومثال ما يدل على المنع: تسييج الأرض المملوكة فإنه يكون منعًا من استعمال الغير لها.

ومثال ما يدل على ذكر النوع بعد النص على الجنس: كاستئجار الدور والحوانيت بلا بيان ما يعمل فيها، فإنه يكون كالتصريح بالسكنى بالنسبة إلى الدول، وبالتجارة ونحوها بالنسبة إلى الحوانيت، لأن هذا هو المتعارف.

ومثال ما يكون كالتصريح بالقدر استئجار الظئر: بطعامها وكسوتها عند أبي حنيفة، ومالك: حيث يكون التصريح بالقدر الذي به الكفاية في عرف المتعاقدين.

ومثال ما يكون التصريح بالالتزام عقدًا أو بيعًا أو شرطًا، البيع بالمعاطاة: فإنها في العادة تكون دالة على الرضى من الجانبين، فتكون كالتصريح بالإيجاب والقبول.

من ذلك العرف الذي يبين للقاضي من يكون القول قوله من المتداعيين: كما إذا اختلف الزوجان في متاع البيت ولا بينة لواحد منهما، حيث يأخذ القاضي بقول كل واحد منهما فيما تعورف أن يكون له كالكتب وأدوات الزينة وغير ذلك.

الاستعمال الرابع: هو الاستعمال العرفي للألفاظ اللغوية، وهو العرف القولي. فكل متكلم يحمل كلامه على عرف، سواء كان ذلك في خطاب الشارع أم تصرفات الناس.

ص: 2375

فلفظ الصلاة: تطلقه اللغة على الدعاء، ويطلقه الشارع على الأقوال والأفعال المخصوصة فقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) يحمل على عرف الشرع لا على المعنى اللغوي.

وكذلك للعرف القولي أثره في جعل الكتابة صريحة، إذا غلب استعمال اللفظ في أحد المعنيين بعد أن كان محتملًا لها: كقول الرجل لزوجته: أنت بائن مني، أنت عليَّ حرام – إذا غلب استعماله في الطلاق فيقع الطلاق بهما بلا نية، وكذلك في قول وكيل المرأة: جوزتك فلانة بل زوجتك.. فإنه ينعقد العقد..

الاستعمال الخامس: أن يكون العرف الجاري بين الناس مرجحًا لبعض المذاهب الفقهية على بعض، بشرط أن يكون كل من المذاهب التي جرى بينها الترجيح له دليل مقبول إلا أن دليل أحد المذاهب أقوى فيترجح المرجوح بالعرف، لأنه إمارة على حاجة الناس، أما المذهب الباطل فلا يرجحه العرف بحال.

مثاله: ترجيح مذهب المالكية والحنابلة القائل: إن المفقود يحكم بموته بعد أربع سنين، لأن هذا المذهب هو الذي يتناسب وفساد الزمان وتداعي الأخلاق.

الاستعمال السادس: أن يكون العرف مفيدًا لتمويل الأشياء وتقومها بعد أن لم تكن كذلك.

مثاله: النحل والنبات الذي يثبت الطب فائدته، وفضلات الدواب التي اعتاد الناس تسميد الزروع بها، فإن اعتياد الناس تقوّم هذه الأشياء لحاجتهم إليها جعلتها أولًا تباع وتشترى بعد أن لم تكن كذلك.

الاستعمال السابع: تأثير العادة في الحكم الشرعي، لأن الظروف التي وجد فيها تغيرت يحتاج إلى احتياط أكثر، أو إلى تخفيف، وهذا يسمى بفساد الزمان.

مثاله: أن عدالة الشهود لا تثبت الآن إلا بالتزكية لفشو الكذب، وضعف الإيمان بعد أن كان يكتفي بمجرد إسلام الشاهد.

ومثاله: خروج النساء إلى المساجد، فإنه كان يسمح بها في الليل والنهار، لأن القلوب كانت محصنة بقوة التدين.

أما الآن فقد تغير حال النساء والرجال، قالت عائشة رضي الله عنها: لو يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل (1)

(1) المدخل، أبو سنة: ص 180.

ص: 2376

مستند العرف

ولابد للعرف من مستند يقره الشرع، وأغلب ما يكون العرف مستندًا إلى (مصلحة مرسلة مفيدة ومعقولة بذاتها) كانت هي السبب في انتشاره واضطراده، أو غلبته والنزول عند حكمه.

والمخصص في الواقع مستند العرف لا العرف ذاته.

وعليه يشترط أن تكون (المصلحة) معقولة في ذاتها والتي انعقد الإجماع السكوتي العرفي على شرعيتها.

هذا: والتخصيص ليس إلا إعمالًا للدليلين معًا، بما يحقق التوفيق ويزيل التعارض الظاهر بين النص العام والعرف القائم.

يقول ابن العربي: العادة دليل أصولي بنى الله عليها الأحكام وربط به الحلال والحرام (1)

من له حق الحكم أو الفتوى بالعرف

قال بعض العلماء والمحققين: لا بد للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع.

وكذا المفتي الذي يفتي بالعرف: لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام، وأنه مخالف للنص أو لا.

ولابد له من التخرج مع أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل، فإن المجتهد لا بد له من معرفة عادات الناس، فكذا المفتي.

وقالوا: لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لا بد أن يتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها، لأن كثيرًا من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة.

وقالوا: إن المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس (2)

(1) أحكام القرآن: 3 /1830.

(2)

ابن عابدين، الرسائل: 3 /130.

ص: 2377

ما يحكم به العرف

ما ورد به الشرع مطلقًاً ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة

قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة. يحكم في العرف.

مثاله: الحرز في السرقة، والتفرق في البيع والقبض، ووقت الحيض وقدره.

ومرادهم: أنه يختلف حاله باختلاف الأحوال والأزمنة، ويختلف الحرز باختلاف عدل السلطان وجوره، وبحالة الأمن والخوف.

وهذه الأشياء لا تكاد تنضبط، وكل موضع في كل شيء من ذلك يرجع فيه إلى أهل ناحيته.

فما عدوه حرزًا فالمال محرز، وما لا فلا.

أما كلام الأصوليين: فإنهم يقدمون العرف للعرف الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي.

الجواب: إن كلام الأصوليين، إنما هو في الحقائق والأدلة التي تستنبط منها الأحكام فيقدم فيها الشرعي على العرفي. كبيع الهازل وطلاقه، فإنه نافذ، وإن كان أهل العرف لا ينفذونه.

ويقدم العرفي فيهما على اللغوي عند التقاضي، لأن العرف طارئ على اللغة فهو كالناسخ (1)

تغير العرف

قال ابن عابدين: فإن قلت: العرف يتغير مرة بعد مرة، فلو حدث عرف آخر جديد لم يقع في الزمان السابق، فهل يسوغ للمفتي مخالفة المنصوص واتباع العرف الحادث؟ قلت نعم، فإن المتأخرين خالفوا المنصوص في مسائل لم يخالفوه إلا لحدوث عرف بعد زمن الإمام.

من له حق النظر والفتوى في هذه المسائل ونظائره: فللمفتى اتباع عرفه الحادث في الألفاظ العرفية، وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمانه وتغير عرفه إلى عرف آخر اقتداء بهم، بعد أن يكون المفتي ممن له رأي ونظر صحيح ومعرفة بقواعد الشرع والشروط المرعية حتى يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه، وبين غيره.

قلت: لأن الاستدلال بالعرف ضرب من الاجتهاد والاستنباط وإنزال الدليل منزلته بحيث لا يتقدم على غيره، ولا يقضي به على النص إنما يفسر به النص وذاك إنما هو من اختصاص الفقيه (2)

(1) الزركشي. المنثور: 2 /391.

(2)

ابن عابدين. الرسائل: 1 /45..

ص: 2378

مخالفة العرف ظاهر الرواية

إذا كانت المسائل الفقهية ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما بينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، - بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا – قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكيم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام.

ولهذا: ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه.

فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المسلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم.

وكذا أخذ الأجرة على الإمامة وآذان كذلك – مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف من عدم جواز الاستئجار، وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة ونحو ذلك.

ومن ذلك: قول الإمامين بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادات مع مخالفته لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدركا الزمن الذي فشي فيه الكذب.

وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف: اختلاف عصر وأوان لاختلاف حجة وبرهان.

ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب، من أن الضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسرين.

ص: 2379

وكذا قولهم: المختار في زماننا قول الإمامين في المزارعة والمعاملة والوقف لمكان الضرورة والبلوى

ودخول الحمام بلا بيان مدة المكث وقدر الماء ونحو ذلك من المسائل التي اختلف حكمها لاختلاف عادات أهل الزمان وأحوالهم، التي لا بد للمجتهد من معرفتها وهي كثيرة جدًا (1)

الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام

ويعبر عنها بأنه: هل يجوز تغيير اللغة بالاصطلاح. وهل يجوز للمصطلحين نقل اللفظ عن معناه بالكلية. أو يشترط بقاء أصل المعنى، ولا يتصرف فيه بأكثر من تخصيصه فيه.

قولان للأصوليين وغيرهم، والمختار الثاني.

ومن فروعها: لو اتفق الزوجان على ألف واصطلحوا على أن يغيروا عن الألف في العلانية بألفين.

فالأظهر: وجوب ألفين لجريان اللفظ الصريح به.

والثاني: الواجب ألف عملًا باصطلاحهما.

قال الإمام: وعلى هذه القاعدة تجري الأحكام المتلقاة من الألفاظ.

فلو قال الزوج لزوجته: إذا قلت أنت طالق ثلاثًا، لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي وتقعدي. أو أريد بالثلاث واحدة.

فالمذهب: أنه لا عبرة بذلك.

وقيل: الاعتبار بما توافق عليه. حكاه الرافعي في باب الصداق.

وذكر الإمام في باب الإقرار: أنه لو عمّ في ناحية استعمال الطلاق مخاطبته زوجته على معنى التخلص وحل الوثاق لم يقبل ذلك منه.

والعرف: إنما يعبر في إزالة الإيهام، لا في تغيير مقتضى الصرائح. اهـ (2)

مسألة: تعارض العرف العام والخاص:

إن كان الخصوص محصورًا لم يؤثر، مثاله: لو كان عادة امرأة الحيض أقل ما استقر من عادة النساء، ردت إلى الغالب في الأصح، وقيل تعتبر عادتها. وإن كان الخصوص غير محصور.

مثاله: لو جرت عادة قوم بحفظ زروعهم ليلًا ومواشيهم نهارًا، فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام. في العكس وجهان أصحهما: نعم (3)

(1) ابن عابدين. الرسائل: 2 /126 – 127.

(2)

الزركشي. المنثور في القواعد: 1/180.

(3)

الزركشي. المنثور في القواعد: 2 /389..

ص: 2380

تعارض اللغة والعرف العام

قال الزركشي في المنثور: 2 /383:

وإذا تعارض اللغة والعرف العام: قال صاحب الكافي في كتاب الطلاق: إذا اجتمع في اليمين الحقيقة اللفظية، والدلالة العرفية، فأيهما أولى بالاعتبار، فيه وجهان:

أحدهما: وإليه ذهب القاضي حسين – الحقيقة اللفظية أولى، واللفظ متى كان مطلقًا وجب العمل بإطلاقه عملًا بالوضع اللغوي.

والثاني: - وإليه ذهب محيى السنة – الدلالة العرفية. لأن العرف محكم في التصرفات سيما في الأيمان.

قال: فلو دخل دار صديقه، فقدم إليه طعامًا فامتنع، فقال: إن لم تأكل فامرأتي طالق، فخرج ولم يأكل، ثم قدم اليوم الثاني فقدم إليه ذلك الطعام فأكل.

فعلى القول الأول: لا يحنث.

وعلى القول الثاني: يحنث.

قال المصنف: أقول: اللغة تارة يعم استعمالها في لسان العرب.

وتارة يخص استعمالها.

وتارة يقيد في إطلاقهم.

فإن عمت اللغة: قدمت على العرف، هذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. كما نقله الرافعي في كتاب الأيمان: فيما لو حلف لا يأكل الروس.

قال في كتاب الطلاق: إن تطابق العرف والوضع فذاك.

وإن اختلفا، فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع.

والإمام، والإمام الغزالي يريان اعتبار العرف.

وينبني على هذا قاعدة، وهي: إذا عارض اللغة المستعملة عرف خاص، هل يعتبر عرف اللفظ أو عرف اللافظ.

أو أن الاصطلاح العام، هل يرفع العام؟

ص: 2381

ومن أمثلة هذا: ما لو حلف لا يشرب الماء أو ماء. حنث بالعذب والملح. وإنما حنث بالملح، وإن لم يعتد شربه اعتبارًا بالإطلاق والاستعمال اللغوي.

والضابط أنه: إن كان الخاص ليس له في اللغة وجه ألبتة، فالمعتبر اللغة.

وإن كان الخاص له فيه استعمال، ففيه خلاف في صور:

منها: لو حلف لا يدخل بيتًا أو لا يسكنه، فاسم البيت يقع على المبني بالطين، والحجر والمدر سُمِّي بيتًا لأنه يبات فيه، كما قاله الزجاج في تفسيره.

ثم إن كان الحالف بدويًّا حنث بكل منها. لأنه قد تظاهر فيه العرف واللغة، لأن الكل يسمونه بيتًا.

وإذا ثبت هذا العرف عندهم ثبت عند سائر الناس. لأنهم أهل اللسان فرده على التعميم عملًا باللغة المستعملة. وهذا أيضًا مما اتفقت عليه اللغة والشرع.

قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} [سورة النحل: الآية 80] .

وفي الحديث: ((لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام)) .

ومنها: حلف ألا يأكل الخبز حنث فيما يتخذ من الأرز، وإن كان الحالف من قوم لا يتعارفون أكل خبز الأرز، كما إذا كان بغير طبرستان. لأن خبز الأرز يطلق عليه هذا الاسم لغة في سائر البلاد.

وإن تخصصت اللغة في استعمالهم وهجر استعمال بعضها، فلا يستعمل إلا نادرًا، أو صارت نسيًا منسيًّا. فالمقدم العرف كما إذا حلف لا يأكل البيض فإنه يحمل على ما يزايل بائضة، أي: يفارقه في الحياة كبيض الدجاج والأوز والحمام والعصفور ولا يحنث ببيض السمك والجراد.

ومن هذا القسم لو قال: زوجتي طالق، لم تطلق زوجاته عملًا بالعرف.

وإن كان وضع اللغة يقتضي الطلاق، لأن الجنس إذا أضيف عم. ومنها: لو وصى للفقهاء فهل يدخل الخلافيون المناظرون.

ومنها: ويحتمل وجهين لتعارض العرف والحقيقة.

ص: 2382

حكم تعارض العرف مع الشرع.

إذا تعارض عرف الاستعمال مع عرف الشرع، فهو نوعان:

النوع الأول: أن لا يتعلق بالعرف الشرعي حكم، فيقدم عليه عرف الاستعمال، كما قرره الصيدلاني في شرح المختصر.

مثاله:

1-

حلف ألا يأكل لحمًا. فلا يحنث لحم السمك وإن سماه الله تعالى لحمًا.

2-

أو حلف ألا يجلس على بساط، لا يحنث بالجلوس على الأرض، وإن سماها الله تعالى بساطًا.

3-

ولو حلف لا يقعد في سراج، لم يحنث بالقعود في الشمس، وإن سماها الله تعالى سراجًا.

4-

ولو حلف لا يضع يده على وتد فوضعها على جبل، لم يحنث، وإن سمى الله الجبال أوتادًا.

ووجه في الكل من وجهين:

أحدهما: أن أهل العرف لا يسمونها بذلك، فقدم عرف الاستعمال على عرف الشرع، لأنها فيه تسمية لم يتعلق بها تكليف.

والثاني: أن الإنسان إنما يؤاخذ بما نواه وفعله، قال تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [سورة المائدة: الآية 89] أي قصدتم. وعقد القلب قصده وتصميمه (1)

النوع الثاني: أن يتعلق بعرف الشرع حكم، فيقدم على عرف الاستعمال.

مثاله:

1-

إذا حلف لا يصلي لم يحنث إلَاّ بذات الركوع والسجود دون التسبيح.

2-

وكذا لو حلف لا يصوم، لا يحنث إلَاّ بالإمساك بالنية في زمن قابل للصوم، ولا يحنث بمطلق الإمساك، وإن كان صومًا لغة.

3-

ولو حلف لا ينكح، فالنكاح حقيقة في العقد في الأصح، وفي العرف لا يعني به غير الوطء.

ومن ذلك: لو باع أو اشترى أو نكح أو راجع أو طلق هازلًا نفذت وصحت، وإن كان أهل العرف لا يعدونها بيعا وشراء ونكاحًا وطلاقًا.

(1) الزركشي. المنثور: 2 /378.

ص: 2383

لكن الشرع حكم عليها بالصحة، ففي الحديث:((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)) (1)

ونبَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالثلاث على ما في معناها وأولى منه كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة: الآية 65]، وقال سبحانه:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة: الآية 66] .

فمن تكلم بكلمة الكفر هازلًا ولم يقصد الكفر كفر.. (2)

ملاحظة: وقال الزركشي: قالوا في كتاب الإيمان: أنها تبنى أولًا على اللغة ثم على العرف.

وهذا مخالف لكلام الأصوليين: أنه يقدم العرف الشرعي، ثم الاستعمالي، ثم اللغوي. وكلام الأصوليين إنما هو في الحقائق والأدلة التي تستنبط منها الأحكام فيقدم فيها الشرعي على العرفي.

مثاله: بيع الهازل وطلاقه، فإنه نافذ وإن كان أهل العرف لا ينفذونه.

ويقدم العرفي فيهما على اللغوي عند التعارض، لأن العرف طارئ على اللغة فهو كالناسخ (3)

حجية العرف عند الأصوليين

قال علماء الأصول: تحت عنوان

فصل: في بيان ما تترك به الحقيقة.

وهي خمسة أنواع. وعدَّ منها:

دلالة الاستعمال عرفًا

بيانه: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال عرفًا، لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام.

(1) أخرجه الترمذي: 5 /156، 157؛ وأبو داود: 1 /507؛ والدارقطني: 3 /256؛ والحاكم المستدرك: 2 /197، 198..

(2)

الزركشي: المنثور في القواعد: 2 /380 – 391.

(3)

الزركشي: المنثور في القواعد: 2 /380 – 391.

ص: 2384

فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان ذلك بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه. لوجود إمارة الحقيقة وهي: المبادرة إلى الفهم.

وما سوى ذلك – لانعدام العرف – كالمهجور لا يتناوله إلَاّ بقرينة.

ومثل السرخسي لذلك: بالدرهم. فقال:

ألا ترى أن اسم الدرهم عند الإطلاق يتناول نقد البلد لوجود العرف الظاهر في التعامل به. ولا يتناول غيره إلَاّ بقرينة لترك التعامل به ظاهرًا في ذلك الموضع، وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع الاسم له حقيقة (1)

بيان هذا في اسم الصلاة: فإنها للدعاء حقيقة قال القائل: وصلى على دنها وارتسم.

والصلاة مجاز للعبادة المشروعة بأركانها: سميت به لأنها شرعت للذكر، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وفي الدعاء ذكر وإن كان يثوبه سؤال.

ثم عند الإطلاق – صلاة – ينصرف هذا اللفظ إلى العبادة المعلومة بأركانها سواء كان فيها دعاء أو لم يكن كصلاة الأخرس. وإنما تركت الحقيقة للاستعمال عرفًا.

وكذلك الحج: فإن اللفظ للقصد حقيقة، ثم سميت العبادة بها لما فيها من العزيمة والقصد للزيارة. فعند الإطلاق: الاسم يتناول العبادة للاستعمال عرفًا (2) .

وقال (عبد العزيز البخاري) ..، ومن العادة نقله إلى معناه المجازي عرفًا واستفاضته فيه كوضع القدم في قوله: لا أضع قدمي في دار فلان. ويسمى حقيقة عرفية.

ويجوز أن يكون الاستعمال راجعا إلى القول، يعني أنهم يطلقون في هذا اللفظ معناه المجازي في الشرع والعرف دون موضوعه الأصلي كالصلاة والدابة: فإنهما لا تستعملان في الشرع والعرف إلَاّ في الأركان المعهودة والفرس. إلى أن قال:

وإنما صار استعمال اللفظ في معناه المجازي واستفاضته فيه دلالة على ترك الحقيقة، لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام، فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه وما سواه لعدم العرف كالمجاز لا يتناوله الكلام إلَاّ بقرينة.

وقال: الحقيقة تترك بالتعارف....

وقال: والحقيقة تترك بنية غيرها أو بالعرف (3)

(1) السرخسي: 1 /2189؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /231.

(2)

ابن أمير حج. التقرير والتحبير: 1 / 283؛ والسرخسي: 1/ 190

(3)

كشف الأسرار: 2 /95، 96

ص: 2385

وقال ابن الهمام معقبًا: إن فخر الإسلام أراد بما ذكر هذا المعنى، فهو مجاز لغوي مهجور الحقيقة، فصار حقيقة عرفية (1)

ثم فرع على هذا الأصل مسائل فقال: ومن التخصيص بالعادة:

1-

فيمن نذر المشي إلى بيت الله: لزمه حجة أو عمرة والخيار إليه استحسانًا.

وفى القياس لا يلزمه شيء، لأن الإلزام بالنذر إنما يصح إذا كان من جنسه واجب عليه شرعًا، وليس من جنس المشي إلى بيت الله واجب عليه شرعًا فلا يصح التزامه بالنذر. ولكنا تركنا القياس بالعرف الظاهر بين الناس، أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك وتعارفوا ذلك، والعرف مختص بلفظ المشي المضاف إلى الكعبة أو إلى بيت الله الحرام أو إلى مكة فبقي وراءها على القياس (2)

2-

مسألة: لو قال: لله على أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة. فعليه أن يهديه استحسانًا وفي القياس لا شيء عليه: وجه القياس: لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه (ضرب الثوب) ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى.

وجه الاستحسان: أنه إنما يراد بهذا اللفظ الإمراء به فصار عبارة عما يراد به عرفًا، فكأنه التزم أن يهديه (3)

3-

حلف لا يأكل رأسًا: أنه يقع على المتعارف – رؤوس البقر والغنم – استحسانًا.. لأنا نعلم أنه إنما يراد به رأس كل شيء.. فإن رأس الجراد والعصفور لا يدخلان تحته وهو رأس حقيقية، فإذا علمنا أنه لم يرد به الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو: الرأس ما يكبس في التنانير ويباع مشويًّا.

وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولًا: يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لما رأى من عادة أهل الكوفة أنهم يفعلون ذلك في هذه الرؤوس الثلاثة، ثم تركوا هذه العادة في الإبل فرجع وقال: يحنث في رأس البقر والغنم خاصة.

ثم إن أبا يوسف ومحمدًا رحمهما الله شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك إلَاّ في رؤوس الغنم فقالا: لا يحنث إلَاّ في رأس الغنم فعلم:

- أن الاختلاف اختلاف عرف وزمان لا اختلاف حكم وبرهان.

- ثم قال: والعرف الظاهر أصل في مسائل الأيمان.

(1) الكمال بن الهمام – تيسير التحرير.

(2)

ابن أمير حاج التقرير والتحبير: 1 /283.

(3)

أصول السرخسي: 1 /189.

ص: 2386

وخرج على الأصل مسائل:

منها:

- لو حلف لا يأكل بيضًا فإنه يختص ببيض الإوز والدجاجة استحسانًا.

ومنها:

- لو حلف لا يأكل طبيخًا فهو على اللحم خاصة ما لم ينوِ غيره استحسانًا، وفي القياس يحنث في اللحم وغيره.. لكن الأخذ بالقياس ههنا يفحش فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي يطبخ في العادات الظاهرة (1)

وقلنا: إن هذه العمومات خصصت بالعرف العادي لا بالعرف الاستعمالي: لأن لفظ الرأس كما يستعمل في رأس الغنم يستعمل في رأس العصفور والحمام وسائر الحيوانات على السواء، إلَاّ أن العادة في الأكل مختصة برأس الغنم.

- وكذا إطلاق لفظ البيض على بيض العصفور والحمام شائع كما شاع في بيض الدجاج والإوز لكن العادة الظاهرة في الأكل اختصت بأكل بيض الدجاج والإوز دون غيرهما.

وقال الكمال بن الهمام: كما يقدم المعنى الشرعي في خطاب أهل الشرع على المعنى اللغوي، كذا يقدم المعنى العرفي على اللغوي في لسان أهل العرف خاصًّا كان أو عامًّا.

وضرب لذلك مثلًا فقال: فلو حلف لا يأكل بيضًا كان المحمول عليه ذا القشر.. ولا يدخل فيه بيض السمك إلَاّ أن ينويه، ويدخل بيض النعام – فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة.. فعلم أن المراد دخوله فيما إذا كانت عرف خطاب الحالف بحسب معتادهم في الإطلاقات ما يعمّ بيض النعام.

وأما إذا كان العرف ما هو أخص من ذلك فلا يدخل فيه فيدور ذلك مع التعارف وهكذا في مسألة الطبيخ والشواء: فتركت الحقيقة وهي العموم بالعادة بخلاف ما تقدم؛ فإن الحقيقة تركت فيه بغلبة استعمال اللفظ في تلك المعاني كما بينا لا بالعادة لأن الناس كما اعتادوا فعل الصلاة اعتادوا الدعاء أيضًا (2)

العرف في أقوال الفقهاء

اتفقت كلمة الفقهاء على الاستدلال بالعرف إما باستنباط الأحكام بناء على العرف أو التصريح بحجة العرف سواء كان ذلك في كتب القواعد الفقهية أو من خلال عرض المسائل التي اعتمد في تخريجها على العرف. ومن ذلك قولهم.

اتباع العرف أمر مجمع عليه حكاه القرافي ونقله التسولي في (البهجة: 2 /89)، وقال صاحب المغنى في مفهوم إحياء الموات – الإحياء ما تعارفه الناس إحياء: 2 /435، وقال التادي في هامش (البهجة: 2/94) : إذا جرى العرف بشيء صار هو الأصل، وقال صاحب المهذب في الإذن (إطلاق الإذن يحمل على العرف) ونقل التسولي في الالتزام في عقد النكاح يكون باللفظ والعادة. وقال ألفاظ الوقف تجري على العرف. (البهجة: 1 /230)

واعتبر القاضي حسين أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه حكاه ابن حجر في (الفتح: 4 /406)، هذا ومن المالكية محمد بن سحنون قال: أن كان للقوم عادة وعرف متقدم بينهم حملوا على عرفهم وعاداتهم. (ملتقى ابن عرفة: ص 370) .

وأما السرخسي الفقيه والأصولي الحنفي فذكر في غير موضع من المبسوط حجية العرف قال: الأيمان مبنية على العرف.. وتعامل الناس – من غير نكير منكر – أصل في الشرع، والتعيين في العرف كالتعيين بالنص، والثابت بالعرف كالثابت بالنص، جوزنا العقود بالعرف وإن كان القياس يأباه. (المبسوط: 3 /14) .

ويقول البدر العيني: العرف عند الفقهاء أمر معمول به. وقال: حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب. (عمدة القاري: 12 /16)، وقال الجصاص الحنفي اعتبار الوسع مبني على العادة. (الأحكام: 1 /479) ، بل ونقل عن ابن الهمام قوله: العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص. (الفتح: 7 /15)، ويقول ابن العربي المالكي: العرف والعادة أصل من أصول الشريعة وقد جمع الأستاذ أبو عجيلة في كتابه العرف حكاية أقوال الفقهاء (فقهاء المذاهب) في (حجية العرف: ص 247 – 258) .

العرف المخصص للعام نوعان:

1-

العرف القولي، أو العادة القولية.

2-

العرف العملي، أو العادة الفعلية.

حجية كل من العرف القولي والعرف العملي في حاكميته على النص تقييدًا وتخصيصًا عند الأصوليين.

- لا نزاع بين الأصوليين أن العرف القولي يقضي على النص فيقيده إن كان مطلقًا

ويخصصه أن كان عامًا. ونص عليه الغزالي وصاحب المعتمد والآمدي ومن تبعه (3)

(1) عبد العزيز البخاري: 2 /98؛ وأصول السرخسي: 1 /191؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /269؛ والتحرير: 2 /20.

(2)

البزدوي، كشف الأسرار: 2 /99؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /271.

(3)

نهاية السول: 2 /470.

ص: 2387

واتفقوا كذلك على أن العرف العملي يقيد المطلق.

لكنهم اختلفوا في: تخصيص العام بالعرف العملي. والمراد به تعامل الناس ببعض أفراد العام.

فذهب الحنفية والمالكية: إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعرف العملي – فكلاهما يخصص العام.

وخالفهم في ذلك الشافعية، فذهبوا إلى أن العرف العملي لا يقوى على التخصيص وهنالك قاعدتان في هذا الصدد:

الأولى: إنه يجب إجراء الكلام على حقيقته المتبادرة ولا يحمل على المجاز إلَاّ بدليل

الثانية: العادة محكمة (1)

ومن هنا قرر الأصوليون أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف.

القائلون بحجية العرف:

قال صاحب الأشباه: واعلم أن اعتبار العرف والعادة يرجع إليه في مسائل كثيرة. حتى جعلوا ذلك أصلا (أي دليلًا) ، فقالوا في الأصول في باب ما يترك به الحقيقة.. تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة (2)

وفي القنية للزاهدى (685هـ) ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر المذهب ويتركا العرف.

قال ابن عابدين: والعرف في الشرع له اعتبار؛ لذا عليه الحكم قد يدار (3)

وفي شرح الأشباه للبيري: والثابت بالعرف كالثابت بالنص (4)

وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص (5)

(1) ابن عابدين، نشر العرف: 2 /116.

(2)

ابن نجيم، الأشباه: ص 93.

(3)

ابن نجيم، الأشباه: ص 93.

(4)

ابن عادين، الرسائل: 1 /46.

(5)

الحموي، غمز عيون الأبصار: 1/ 295.

ص: 2388

وقال القرافي في التنقيح: وأما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (1)

وقال ابن الفرس: فالعرف متردد بين أن يراد به أفعال الخير، وبين أن يراد به الأفعال الجارية بين الناس مما لا يرده الشرع، واللفظ مشترك بينهما.

ونقل ابن رحال قول ابن يونس: فالعرف فاصل يقضى به.

وقال أبو الحسن: والعرف عندنا دليل من أدلة الشرع، فيقيد المطلق ويخصص العام ويكون شاهدًا لمدعيه (2)

وقال الإسنوي: إن ما ليس ضابط في الشرع ولا في اللغة يرجع إلى العرف (3)

حجية العرف

يقول القرافي في مختصر التنقيح:

تنبيه: ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع. وليس كذلك.

أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (4)

وابن العربي في تفسير قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} يقول:

المسألة الرابعة في تقدير الإنفاق: قد بينا أنه ليس له تقدير شرعي وإنما أحاله الله سبحانه على العادة، وهي دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام (5) والسرخسي من الحنفية يقول في المبسوط: إن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزع عن العادة الظاهرة حرجًا بينًا (6)

وقال أيضًاً في موضع آخر من مبسوطه: وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معانيه، وعلم السنة بطرقها ومنزلتها ووجوه معانيها. وأن يكون مصيبًا في القياس عالمًا بعرف الناس (7)

ثم عمم ابن عابدين ذلك حيث قال: ولهذا قالوا: من شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس (8)

(1) القرافي، تنقيح الفعول: ص 198.

(2)

حاشية ابن رحال، على مبارة للعاصمية: 1 /191.

(3)

التمهيد: ص 224.

(4)

التنقيح: ص 76.

(5)

أحكام القرآن: 2 /270.

(6)

المبسوط: 13 /24.

(7)

المبسوط: 16 /62.

(8)

الرسائل: 2/ 125

ص: 2389

أدلة القائلين بحجية العرف

استدل القائلون بحجية العرف من الكتاب والسنة.

1-

أما الكتاب: فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .

قال السيوطي في تفسير الآية: قال ابن الفرس: اقضِ بكل ما عرفته النفوس مما لا يردّه الشرع.

ثم عقَّب السيوطي قائلًا: وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف، وتحتها مسائل لا تحصى.

واستدل بهذه الآية على حجية العرف غير واحد من فقهاء المذاهب وبخاصة المالكية منهم ابن يونس وأبو الحسن وابن الفاكهان والقاضي عبد الوهاب (1) وغيره خلق كثير.. وعلاء الدين الطرابلسي في معين الحكام – الباب الثامن والعشرون –.

كما استدل بهذه الآية القرافي في (الفروق) مرتين:

الأولى: في الفرق (190) وهو يتحدث عن اختلاف الزوجين في متاع البيت.

والثانية: في الفرق (231) وهو يتحدث عن الحيازة.

وقال ابن الكلبي: وقيل العرف الجاري بين الناس من العوائد واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد (2)

2-

قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 233] .

قال الرازي الجصاص: وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} يدل على أن الواجب من النفقة، والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه، ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف.. إلى أن قال: فإذا اشترطت المرأة وطلبت من النفقة أكثر من المعتاد المتعارف لمثلها لم تعط. وكذلك إذا قصَّر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العرف والعادة لم يحل له ذلك واجبر على نفقة مثلها. واستطرد قائلًا.. واعتبار الوسع مبني على العادة. اهـ.

(1) ابن رحال في الحاشية: 2/191-249.

(2)

التسهيل: 2 /106.

ص: 2390

وقال: إذ لا توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلَاّ من جهة غالب الظن واكثر الرأي إذ كان ذلك معتبرًا بالعادة وكل ما كان مبنيًّا على العادة فسبيله الاجتهاد (1)

وقال ابن العربي: وحمل على العرف والعادة في مثل ذلك العمل، ولولا أنه معروف ما ادخله الله في المعروف (2)

وقال أبو حيان التوحيدي: ومعنى بالمعروف: ما جرى به العرف.

وقال ابن كثير: أي ما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن (3)

ومن الآيات الكريمة التي فيها تلميح بليغ إلى اعتبار العرف دليلًا قوله تعالى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 228] .

وقوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 19] .

قال القرطبي: العرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس (4)

وجه الاستدلال: أرشد الله تعالى الزوجين في عشرتهما وأداء حق كل منهما إلى الآخر إلى العرف المعتاد والعادة، الذي يرتضيه العقل، ويطمئن إليه القلب، ولا شك أن ذلك متغير حسب الاختلاف بين المناطق وأحوال الناس.

ومن هذا القبيل ما جاء في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [سورة المائدة: الآية 89] .

قال الإمام الطبري: وأول الأقوال في تأويل قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، عندنا قول من قال: أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة، وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم – في الكفارات كلها وردت بذلك، وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم – في كفارة الحلق من الأذى بفرق من طعام بين ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع (5)

(1) أحكام القرآن: 1 /404.

(2)

أحكام القرآن: ص 203.

(3)

ابن كثير: 1 /305.

(4)

تفسير القرطبي: 7 /346.

(5)

جامع البيان: 10 /543.

ص: 2391

وقال الإمام ابن تيمية: أمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم.

وقد تنازع العلماء في ذلك، هل ذلك مقدَّر بالشرع أو يرجع فيه إلى العرف..، وتنازعوا كذلك في النفقة، نفقة الزوجة.

والراجح في هذا كله أن يرجع فيه إلى العرف، فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم. ولما كان كعب بن عجرة ونحوه يقتاتون التمر، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقًا من التمر بين ستة مساكين (1)

ومن شواهد القاعدة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [سورة النور: الآية 58] .

قال العلائي: فأمر الله بالاستئذان في هذه الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب، فانبنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه (2)

قال القرطبي: أدب الله تعالى عباده في هذه الآية: يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، هي الأوقات التي تقضي عادة الناس الانكشاف (3) .

ومن السنَّة:

ومن الأدلة الواردة في السنَّة المطهرة على تحكيم العادة والعرف في بعض الأحكام قوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)) (4)

قال الإمام العلائي في قواعده: وجه الدلالة منه أن أهل المدينة لما كانوا أهل نخيل وزرع، فاعتبرت عادتهم في مقدار الكيل.

(1) مجموعة الفتاوى: 26 /113 - 114.

(2)

المجموع المذهب: ص 42، الوجه الثاني.

(3)

تفسير القرطبي: 2 / 304

(4)

رواه أبو داود، معالم السنن: 5 /12.

ص: 2392

وأهل مكة كانوا أهل متاجر فاعتبرت عادتهم في الوزن (1)

والمراد بذلك فيما يتقدر شرعًا، كنصب الزكاة ومقدار الديات، وزكاة الفطر، والكفارات ونحو ذلك.

فهذا المبدأ عام قرره النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتداد بالعرف الجاري بين الناس.

وليس المراد بالحديث تعديل الموازين والأرطال والمكاييل وجعل عيارها أوزان أهل مكة ومكاييل أهل المدينة عند التنازع حكمًا بين الناس يحملون عليها إذا تداعوا إلى أن قال: فإذا جاء باب المعاملات حملنا العراقي على الصاع المتعارف المشهور عند أهل بلاده.

والحجازي على الصاع المعروف ببلاد الحجاز، وكذلك كل أهل بلد على عرف أهله (2)

قال العيني: كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي أو وزني، فيعتبر في عادة أهل كل بلدة على ما بينهم من العرف فيه، لأن العرف جملة من القواعد الفقهية (3)

ومن السنة: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه حرام بن محيصة، عن أبيه: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته ((فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل))

وفي رواية: فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل (4)

(1) المجموع المذهب: ص 42 الوجه الثاني.

(2)

المعالم: 5 /15.

(3)

عمدة القاري: 16 /102.

(4)

سنن أبي داود بشرح عون المعبود: 9 /483.

ص: 2393

قال الخطابي: ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا: لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار. ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحونها بالنهار، ويردوها مع الليل إلى المراح. فمن خالف هذه العادة كان به خارجًا عن رسم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع، فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع، أو تركه في غير موضع حرز، فلا يكون على آخذه قطع (1)

ومن السنَّة أيضًا: أحوال النساء وعوارضهن. قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: ((فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام)) وذلك لما شكت، إليه بأنها تستحاض حيضة كثيرة. وفيه تنبيه على الرجوع إلى الأمر الغالب والعادة.

قال الخطابي في المعالم: فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النساء، كما حمل أمرها في تحييضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عدتهن، ويدل على ذلك قوله: كما تحيض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن.

وهذا أصل في قياس أمر النساء بعضهن على بعض في باب الحيض والحمل والبلوغ وما أشبه هذا من أمورهن (2)

وفي ضوء هذه النصوص ونظائرها اهتدى الأئمة إلى وضع هذه القاعدة واحتكموا إليها في كثير من المسائل والقضايا، وهذا ما يرمز إليه قول الإمام القاضي شريح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه للغزَّالين:(سنتكم بينكم)، قال العيني في شرح البخاري: يعني عادتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (3)

أدلة المجيزين لتخصيص العموم بالعادات

وعمدة من ذهب إلى أن العموم يخص بالعادات:

1-

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس بلغتهم فيما عرفوا في تحاورهم.

وكذلك أمر الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل من الآية 44] .

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم من الآية 4]

وجه الاستدلال: لو لم يكن خطاب الشرع منزلًا على مقتضى العادة خرج عن أن يكون مفهمًا وبطلت فائدة الرسالة، فلا بد من حمله على مقتضى العادة ليتحقق معنى الإفادة (4)

وقال أبو الوليد الباجي المالكي:

مسألة: يجوز تخصيص العموم بعادة المخاطبين: وبه قال ابن خويز منداد.

وجه هذا القول: أن اللفظ إذا ورد حمل على عرف التخاطب في الجهة التي ورد منها.

وقال القاضي أبو محمد: إن كان العرف من جهة الفعل لم يقع به التخصيص، مثل أن يقول: حرّمت عليكم اللحم، وعادتهم أكل لحم الضأن.

(1) معالم السنن: 5 /202.

(2)

جامع الترمذي: 2 /222 و 223؛ والمعالم: 1 /183.

(3)

عمدة القاري: 12 /16.

(4)

ابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /306.

ص: 2394

وإن كان العرف من جهة التخاطب: وقع به التخصيص، مثل أن يقول: حرمت عليكم ركوب الدواب، فيختص بما يستعمل فيه هذا اللفظ دون ما وضع له (1)

قال القرافي (المالكي) :

تحت باب: في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين.

في الأدلة: وعدَّ منها: العوائد. ثم قال:

العوائد، العادة: غلبة معنى من المعاني على الناس، وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء.

وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب.

وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالآذان للإسلام، والناقوس للنصارى.

حكمها: فهذه العادة يقضى بها عندنا – المالكية (2)

مذهب الحنابلة:

لا يجوز تخصيص العموم بالعادات عندنا.. وقال أبو الخطاب:

وهذا فيه تفصيل:

1-

فإن العادات في الفعل – مثل أن يكون عادة الناس شرب بعض الدماء ثم تحرّم الدماء بكلام يعمها – فهذا الذي لا يجوز تخصيص العموم به.

2-

وأما إن كانت العادة في استعمال العموم – مثل أن يحرم أكل الدواب، والدواب في اللغة اسم لكل ما دبَّ – ويكون عادة الناس تخصيص الدواب بالخيل مثلًا – فإنا نحمل الدواب على الخيل.

قال أبو الخطاب: وليس هذا بتخصيص على الحقيقة وإنما هو تخصيص بالنسبة إلى اللغة (3)

قال ابن القيم:

ومما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة.

موجبات الأيمان، والإقرار، والنذور وغيرها..

(1) الباجي أحكام الفصول: ص 269.

(2)

القرافي. التنقيح: ص 448.

(3)

المسودة: ص 124.

ص: 2395

فمن ذلك: أن الحالف إذا حلف: لا ركبت دابة – وكان في بلد عرفهم في لفظ (الدابة) الحمار خاصة – اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل.

وإن كان عرفهم في لفظ (الدابة) الفرس خاصة، حملت يمينه عليها دون الحمار. وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب. كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب.

فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله، ويفتي كل أحد بحسب عادته.

وكذلك إذا حلف (لا أكلت رأسا) في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة. لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها.

وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك، حنث بأكل رؤوسها.

وكذلك إذا حلف (لا اشتريت كذا) ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك: وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك وحنث قطعًا بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفس ما حلف عليه.

وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل.

وإن قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل. وإن أطلق اعتبر سبب اليمين.

وعلى هذا: إذا أقرَّ الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير، لم يقبل تفسير بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتمول.

فإن أقرَّ به فقير يعدُّ عنده الدرهم والرغيف كثيرًا قبل منه (1)

أما العرف الخاص: قوليًّا كان أو عمليًّا.

فالمالكية: يجيزون تخصيص النص العام بالعرف الخاص.

أما الحنفية: فلا يرون ذلك في الراجح من مذهبهم.

والمدار في ذلك على تحقق مناط التخصيص، فحيثما تحقق المناط وجب القول بوجوب التخصيص، ولا فرق إذ ذاك بين عام وخاص أو قولي وعملي.

(1) ابن القيم: إعلام الموقعين: 2 /62 و 33.

ص: 2396

وأما مذهب الحنابلة: فقد نصَّ عليه صاحب المسودَّة، فقال:

وقال الغزالي في المستصفى:

الثامن عادة المخاطبين:

فإذا قال لجماعة من أمته: حرمت عليكم الطعام والشراب مثلًا، وكانت عادتهم تناولهم جنسًا من الطعام، فلا يقتصر النهي على معتادهم بل يدخل فيه لحم السمك والطير وما لا يعتاد في أرضهم.

وجه القول: لأن الحجة في لفظه وهو عام، وألفاظه غير مبنية على عادات الناس في معاملاتهم حتى يدخل فيه شرب البول وأكل التراب وابتلاع الحصاة والنواة.

وهذا بخلاف لفظ الدابة، فإنها تحمل على ذوات الأربع خاصة لعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ.

وأما أكل النواة والحصاة يسمى أكلًا في العادة، وإن كان لا يعتاد فعله، ففرق بين أن لا يعتاد الفعل وبين أن يعتاد إطلاق الاسم على الشيء.

وعلى الجملة: فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم حتى إن الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد، لكن لا تؤثر في خطاب الشارع إياهم (2 /111) .

استدل المانعون به من وجوه.

أولًا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتبديل العادات وتغييرها.

ولو خص العموم بالعادة الواردة بطلت فائدة الألفاظ الواردة على صاحب الشرع.

ثانيا: إن العادة فعل يصدر من المكلفين، وأفعال المكلفين ليست بحجة.

والعموم: قول الله تعالى وقول رسوله وهو حجة، فكيف تخص الحجة بما ليس بحجة.

والعموم: قول الله تعالى وقول رسوله وهو حجة، فكيف تخص الحجة بما ليس بحجة.

ثالثًا: أن العادة ليست بأمر مشروع، وقول صاحب الشرع يشرع من جهة الله تعالى فلا يجوز أن يترك الشرع الوارد لما ليس بشرع ثابت (1)

مذهب الشافعية في المسألة

قال الزركشي: والعرف الفعلي (العملي) غير معتبر في تخصيص الألفاظ، أما عن ابن برهان: العادات الراجعة إلى الأفعال فلا يجوز أن تكون مخصصة للألفاظ الشرعية.

(1) ابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /306.

ص: 2397

وجه القول: إن العمل ليس عرفًا للأقوال، فلا يكون له سلطان عليها. بل سلطانه على الأفعال.

أو نقول: إن ذلك يقضي إلى تقديمها على ألفاظ صاحب الشرع فلا بد أن يقضى على العادات بالألفاظ الشرعية.

بيان ذلك: إن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، لو كان مخصوصًا بغير الربا الذي اعتادوه فيما بينهم بطلت فائدة الآية.

إنما نزلت لصدهم عن العادة الذميمة ومنعهم منها. فأجرى ما كان اللفظ متناولًا له ودالًا عليه على ما كان شائعًا معتادًا، ولأن الحاجة إنما تدعو إلى بيان ما يتم به البلوى دون ما كان نادرًا، فهذا النوع من العادات لا يجوز أن يخصَّ به الألفاظ.

أما العرف القولي: فسلطانه على الأقوال لأنه عرف لها فيخصصها ولا سلطان له على الأفعال لأنه ليس عرفًا لها.

ثمرة الخلاف: لو حلف السلطان لا يلبس ثوبًا، أو لا يأكل خبزًا، فأكل خبز الشعير أو لبس الكرباس يحنث، وإن كانت عادته عدم تناوله.

وإن حلف هو أو غيره أن لا يأكل رؤوسا، فأكل رؤوس السمك لم يحنث، لأن العرف خصص الرءوس بذوات الأربع.

وفي هذا المقام لا بد من البناء على أصل وهو: أنه إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب كل أمة بلغتهم وبما يتعارفونه جاز التخصيص بهذه الألفاظ لأنها أقرب إلى البيان.

وإن ثبت أنه يخاطب الناس باللغة الأصلية – دون العادة واللغة العرفية – فلا يجوز تخصيص ألفاظه صلى الله عليه وسلم بالعادة المطردة (1)

رأي الكوثري في حجية العرف

- وأما تحكيم العرف على النصوص فلم يقع من مسلم ولن يقع.

والتعامل بين المسلمين بالمعدنين المسكوكين – من غير وزن – إنما هو للعلم بوزنهما من قيام رقابة ساهرة عليه جد السهر وليس ذلك من تحكيم العرف من شيء (2)، وقال: وأحكام الشرع هي: ما فهمه الصحابة والتابعون وتابعوهم من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم على موجب اللسان العربي المبين.

(1) الزركشي. المنثور في القواعد: 2 /393؛ وابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /360.

(2)

الكوثري. المقالات: ص 111.

ص: 2398

وعمل الفقهاء إنما هو الفهم من الكتاب والسنة، وليس لأحد سوى صاحب الشرع دخل في التشريع مطلقًا.

وأما المتأخرون من الفقهاء فليس لهم إلا أن يتكلموا في نوازل جديدة لا أن يبدوا آراء في الشرع على خلاف ما فهمه من النصوص رجال الصدر الأول الذين هم أهل اللسان، المطلعون على لغة التخاطب بين الصحابة قبل أن يعتورها تغيير وتحرير، والمتلقون للعلم عن الذين شهدوا الوحي.

فما فهموه من الشرع فهو المفهوم.

وما أبعدوه عن أن يكون دليلًا بعيد أن يتمسك به.

وإنما يكون الكلام فيما لم يتكلموا فيه، أو اختلفوا في حكمه.

ثم يبدي تخوفه من هذا المسلك فيقول:

يأسف المسلم كل الأسف من وجود أناس في أزياء العلماء تحملهم شهوة الظهور على التظاهر بمظهر المستدرك على فقهاء الصدر الأول، وعلى محاولة ابتداع أساليب بها يحرفون الكلم عن مواضعه، ويجعلون الشرع الواضح الصريح الأحكام يتقلب مع الزمن وذلك لأجل التقرب إلى الذين لا يضمرون للإسلام خيرًا.

تراهم يقولون: عندنا العرف، وعندنا المصلحة بهما تتغير الأحكام

يريدون بذلك أن يجعلوا شرع الله متقلبًا مع الزمن ومع الظروف.

إلى أن قال: وليس للعرف في الشرع إلا ما بينه علماء المذاهب في كتب القواعد وكتب الأصول والفروع.

من مثل: حمل الدرهم في العقود على المتعارف في البلد، وكذا الرطل، وكون المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، وزوال خيار الرؤية برؤية المشتري إحدى غرف الدار عندما كان العرف جاريًا بين الناس ببناء دورهم متساوية الغرف (1) .

وعدم زوال الخيار المذكور عند تغير (الغرف) العرف المذكور.

واعتبار اللفظ صريحًا في معنى تعورف فيه بخلاف ما إذا نقل إلى معنى آخر وتنسي المعنى الأول.

وحمل الطعام واللحم على البر ولحم الضأن في بلد تعورف تخصيصهما بهما إلى غير ذلك مما هو مفصل في التحقيق الباهر في شرح الأشباه والنظائر (لهبة الله التاجي) والمجموع المذهب في قواعد المذهب (للصلاح العلائي) وغيرهما من الكتب المؤلفة في قواعد المذاهب وهي الواسطة بين الفروع والأصول

(1) الكوثري المقالات: ص 327.

ص: 2399

وقال: وليس في شيء منها عد عرف طائفة شرعًا مشروعًا حتى يظن أن عمل أهل المدينة في عهد الفقهاء السبعة ليس بالعمل المتوارث طبقته عن طبقة عن النبي صلى الله عليه وسلم اغترارًا بتقولات بعض الماجنين. فليتقِ الله المرجفون في محاولاتهم تغيير الشرع باسم العرف (1) .

وقال في موضع آخر:

ليس العرف في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، [سورة الأعراف: الآية 199] بمعنى العادة الجارية هنا وهناك.

بل هو الحكم المعروف الذي لا ينكره الشرع، ولا يستقبحه العقل بل يقره الشرع ويستحسنه العقل.

يوصي الله سبحانه في الآية المذكورة بالتسامح مع الناس في المعاملة الشخصية معهم والمجاهرة بحكم الله في غير هوادة، وترك الالتفات إلى من يحاول إيصال الأذى في هذا السبيل.

فمن فسر العرف هنا بالعادة فقد فسر الرأي بدونه مدرك لا في الرواية ولا في الدراية وإنما عرف العرف بمعنى العادة بعد زمن الوحي، كما لا يجهل ذلك أهل العلم بأطوار اللغة (2) .

تخصيص العرف للقياس والأثر: لا يصلح العرف عند أهل العلم أن يكون للقياس أو الأثر إلا إذا كان عامًّا متوارثًا – فضلًا عن أن يكون قاضيًا على النص.

وأما الخاص فإنما يثبت به الحكم الخاص ما لم يخالف القياس والأثر فلا يصح أن يكون مخصصًا لهما.

شروط اعتبار العرف والعادة:

إن اعتبار العرف والعادة مشروط بشروط.

منها ما هو عام في جميع الاستعمالات، ومنها ما هو خاص ببعضها.

ويمكن إيجازها فيما يأتي:

الشرط الأول: أن يكون كل من العرف والعادة مطردًا أو غالبًا.

ومعنى الاطراد: أن يكون العرف شائعًا مستفيضًا بمعنى: أنه لا يختلف عند أحد من أهل العرف سواء أكان عامًا أم خاصًا.

ومعنى الغلبة: أن يكون العرف أكثريًّا بمعنى أنه لا يختلف إلا عند قلة من الناس وهذا لأن العرف بين الناس وتمكنه من نفوسهم بحيث ينسب إليهم جميعًا لا يتم إلا بالاطراد والغلبة وهو المراد، من قول الفقهاء (إن العبرة بالشائع لا بالنادر)، أي المعتبر في العرف الذي هو مبنى الأحكام: الاعتياد الغالب الذي لا يتخلف إلا عند القليل، فالاعتياد المطرد أدخل في الاعتبار.

وهذا الشرط عام في جميع استعمالات العرف والعادة (3) .

(1) الكوثري المقالات: ص:117، 188.

(2)

ص 319.

(3)

أبو سنة محاضرات. المدخل: ص 181.

ص: 2400

اطراد العرف

مسألة: إذا اطرد العرف في ناحية هل يطرد في سائر النواحي.

مثاله: حلف لا يدخل بيتًا فدخل بيت الشعر حنث وإن كان قرويًّا.

وجهة: لأنه ثابت في عرف البادية.

وكذا: لو حلف لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز – بغير طبرستان – حنث.

وقيل: إنما يحنث به بطبرستان لاعتيادهم أكله.

ولو حلف: لا يأكل الرؤوس – وعادة بلده بيع رؤوس الحيتان والصيود منفردة حنت بأكلها هناك وفي غيرها من البلاد وجهان: أصحهما الحنث (1) .

الشرط الثاني: أن يكون العرف عامًا في جميع بلاد الإسلام، وهو بالعرف الذي يكون دليلًا على الحكم - في الظاهر – كاشفًا على دليل حقيقي كالإجماع والمصلحة المرسلة.

كالعرف الذي أجاز الاستصناع، ووقف المنقول.

ذلك: لأن الإجماع لا يتم إلا من عادة المجتهدين في جميع البلاد.

- والمصلحة المرسلة خلاصتها: تأثير الحاجة العامة في التيسير.

- والعلة الضابطة لهذه الحاجة هو: العرف العام (2) .

الشرط الثالث: أن لا يكون العرف مخالفًا.

بأن تكون عادات الناس لا يعارضها حكم من الأحكام التي أفادته الأدلة فلو خالفها بطل اعتباره.

كتعارف الناس شرب الخمر، ولعب الميسر وكشف بعض العورة من البدع العرفية التي بعد الناس عن الإسلام (3) .

الشرط الرابع: أن يكون العرف الذي يحمل عليه صيغ المتصرفين وإعجابهم ونصوص الشارع موجودًا وقت ورودها.

(1) الزركشي المنثور: 2 /389

(2)

ابن عابدين: 2 /124.

(3)

ابن عابدين الرسائل: 2 /116.

ص: 2401

فخرج بهذا أمران:

الأول: ما إذا كان العرف طارئًا على التصرف أو النص وحادثًا بعدهما وإن قارن العمل بمقتضاهما.

الثاني: ما إذا كان العرف سابقًا على التصرف وتغير قبل إنشائه فإنه لا يحمل على كل منهما.

لو أن شخصًا وقف ضيعة على العلماء سنة ألف، وكان المتعارف من هذا اللفظ علماء الدين واللغة.

تم تعورف الآن هذا اللفظ فيما يشمل هؤلاء والعاملين في الكيمياء والطبيعة، وأريد توزيع الريع الآن

فسر كتاب الوقف بالعرف الموجود وقت إنشاء الوقف لا بالعرف الحادث.

كذلك الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة تفسر بما كان عليه العرب في أقوالهم وأفعالهم وقت نزول الوحي لا بما استحدثه الفقهاء وعامة الناس من عرف جديد.

الشرط الخامس: أن يكون العرف ملزمًا:

أي يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس، وهو خاص بالعرف المثبت لحق من الحقوق لقيامه مقام العقد أو الشرط.

مثاله: الهدايا في الأعياد والأعراس.

هل اعتاد الناس المكافأة عليها في مثل هذه المناسبات أو هي عادة بعض البلاد دون البعض.

يرجع إلى العرف في كل ذلك فمتى كان العرف المكافأة لزم ذلك في الفتيا والقضاء (1) .

(1) أبو سنة، المدخل: ص 184.

ص: 2402

أهم القواعد الفقهية في العرف وسلطانه

أثبت الفقهاء قواعد في العرف والعادة كانت أسسًا وضوابط لكثير من الأحكام الفرعية القائمة على العرف، وذكرت المجلة طائفة منها في المواد: 336 و 39 و 60 - 45.

ومن أهم هذه القواعد الفقهية المتعلقة بالعرف القواعد التالية:

1-

العادة محكمة: المجلة 40.

2-

الحقيقة تترك بدلالة العادة: م 40.

3-

استعمال الناس حجة يجب العمل بها: م 37.

4-

المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا: م 43.

5-

التعيين بالعرف كالتعيين بالنص: م45.

6-

لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان: م 39.

وقد خرج الفقهاء على هذه القواعد ما لا يحصى من فروع الأحكام وفي مختلف الأبواب الفقهية والمعاملات.

منها:

1-

تقسيم مهر المرأة إلى معجل ومؤجل في الزواج، ومقدار كل منهما إذا لم يبين في عقد النكاح يرجع فيه إلى العرف.

2-

تقسيم ثمن المبيع وأجرة المأجور إذا لم يصرح به العاقدان وكان فيه عرف جار في بلد العقد، يلزم فيه الطرفان بحكم العرف.

3-

ما يعد في المبيع عيبًا مسوغًا لفسخ البيع أو لا يعد عيبًا إنما يحكم فيه العرف.

4-

تجاوز المستأجر الحدود الجائزة له في استيفاء منفعة المأجور حتى يعتبر متعديًّا ضامنًا قيمته إذا تلف إنما ميزانه العرف.

5-

كيفية حفظ الوديعة مما يعد به الوديع مقصرًا في حفظها فيضمن إن ضاعت أو غير مقصر فلا يضمن، إنما يعتبر أيضًا فيه العرف.

6-

اختلاف المعلم مع التلميذ العامل في الصناعات أيهما يستحق على الآخر أجرًا يرجع فيه إلى عرف البلدة، المجلة (596) .

7-

وكذا في باب (الإجارة) كل ما كان من توابع العمل ولم يشترط على الأجير يعتبر فيه عرف البلدة، المجلة (574)(1) .

(1) الزرقاء المدخل: 2 /136.

ص: 2403

فصل: في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق وغيرهما وله أمثلة:

المثال الثالث: استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأن لا يعملوا إلا بالأجرة إذا استصنعهم مستصنع من غير تسمية كالدلال والحلاق والفاصد والحجام والنجار والحمال والقصار

فالأصح: أنهم يستحقون من الأجرة ما جرت به العادة.

لدلالة العرف على ذلك:

المثال التاسع: تقديم الضيفان إذا أكمل وضعه بين أيديهم ودخل الوقت الذي جرت به العادة بأكلهم فيه، فإنه يباح الإقدام عليه

تنزيلا للدلالة العرفية منزلة الدلالة اللفظية.

ولا يجوز للأراذل أن يأكلوا مما بين أيدي الأماثل من الأطعمة النفسية المخصوصة بالأماثل، إذ لا دلالة عن ذلك بلفظ ولا عرف بل للعرف زاجر عن ذلك.

المثال العاشر: دخول الحمامات والقياصير والحانات إذا فتحت أبوابها في الأوقات التي جرت العادة في الارتفاق بها فيها، فإنه جائز إقامة للعرف المطرد مقام الإذن الصريح.

ولا يجوز لداخل الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، ولا أن يستعمل من الماء أكثر مما جرت به العادة؛ إذ ليس فيه إذن لفظي ولا عرفي..

المثال الحادي عشر: الدخول إلى دور القضاة والولاة في الأوقات التي جرت العادة بالدخول فيها بعد فتح أبوابها للحكومات والخصومات.

المثال الرابع عشر: التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه.

فإنه يجوز تملكه والارتقاق به لاطراد العادات ببذله:

المثال الخامس عشر: الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز، إقامة للإذن العرفي مقام الإذن اللفظي، فلو أورد ألفًا من الإبل إلى جدول ضعيف فيه ماء يسير، فلا أرى جواز ذلك على المعتاد؛ لأنه لا يقتضيه إذن لفظي ولا عرفي..

المثال السادس عشر: حمل الألفاظ الحقيقية العربية على مجازها كلفظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة

وحمل ألفاظ الأخبار على الإنشاء، واستعمال الماضي في ألفاظ المعاملات: كبعت وأجرت وضمنت ووكلت ووهبت وأقرضت وتصدقت..

وحمل المستقبل على إنشاء الشهادات كأشهد بكذا..

وكذلك الدعوى في قوله: أدعي عليه بكذا – لأن أشهد مردد بين الحال والاستقبال، وهو منصرف إلى الحال بعرف الاستعمال.

ص: 2404

وكذلك قوله أنت حر وأنت طالق، وضعه أن يكون خبرًا عن أمر محقق ثابت من غير اللفظ.

فصار بالعرف إنشاء للحرية والطلاق

المثال الثامن عشر: وجوب الإثابة في سباب الأراذل للأماثل على العرف الغالب فيه.

المثال التاسع عشر: اندراج الأبنية والاستئجار في بيع الدار، وإن لم يصرح البائع بذلك بناء على العرف الغالب فيه.

المثال العشرون: دخول ثياب العبد والأمة في بيعها عند من رآه لاطراد العرف بذلك.

لمثال الحادي والعشرون: التوكيل في أداء الديون يجب على الوكيل الإشهاد على الأداء بحكم العرف.

المثال الثالث والعشرون: أذن الإمام للجلاد في جلد الحدود والتعزيرات فإنه يحمل على حزب بين حزبين لسقوط بين سقوطين في زمن بين زمانين.

وإذا أمر الإمام بالرجم تعين الرجم بالأحجار المعتادة فلا يجوز بالصخور ولا بالحصيات الصغار، ولا يجلد عريانًا، لأنه صار بعرف الاستعمال محمولًا على الحائل (1) .

وجهة نظر الشاطبي في تقسيم العرف والعادة

أقسام العرف:

قال الشاطبي: العوائد المستمرة ضربان:

أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها..

والثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.

وهذا القسم هو موضوع بحثنا

وفيه، قال فيه الشاطبي: وقد تكون العوائد ثابتة، وقد تتبدل ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.

(1) العز بن عبد السلام الأحكام: 2 /105 – 107.

ص: 2405

إلى أن قال: والمتبدلة: منها ما يكون متبدلًا من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس: فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد الشرقية، وغير قبيح في البلاد الغربية.

فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح بالعدالة.

ومنها ما يختلف في التعبير عند المقاصد: فتنصرف العبارة عن معنى إلى معنى عبارة أخرى.

إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم.

أو بالنسبة إلى الأمة الواحدة، كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور.

أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر أو كان مشتركًا فاختص، وما أشبه ذلك.

والحكم أيضًا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده وهذا المعنى يجري كثيرًا في الأيمان والعقود والطلاق كناية وتصريحًا.

ومنها ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوهما كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره.

فالحكم أيضًا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه.

وقال العز بن عبد السلام:

فصل: في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من العادات لمسيس الحاجة إلى ذلك، وله أمثلة:

أحدهما: زفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها، فإنه يجوز له وطؤها؛ لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في ذلك في العادات.

المثال الثاني: الأكل من الهدي المنحور المشعر بالفلاة جائز على المختار لدلالة النحر والإشعار القائمين مقام صريح اللفظ على البذل والإطلاق.

المثال الثالث: الدخول إلى الأزقة والدروب المشتركة جائز للإذن العرفي المطرد فيه.

ص: 2406

المثال الرابع: طرق باب الدار والإيقاد من السرج والمصابيح كل ذلك جائز للإذن العرفي.

المثال السادس: المعاطاة في المحقرات قائمة مقام الإيجاب والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء، لأنها دالة على الرضى بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ.

المثال التاسع: الاعتماد في المعاملات والضيافات والتبرعات على بذلك الباذل، لأن دلالتها على ملكه واختصاصه ظاهرة في العرف المطرد.

المثال الحادي عشر: الاعتماد على قول المقومين العارفين بالصفات النفسية الموجبة لارتفاع القيمة، والصفات الخسيسة الموجبة لانحطاط القيمة لغلبة الإصابة على تقويمهم.

وكذلك الاعتماد على قول الخارصين لغلبة إصابتهم في ذلك، حتى لا يكادون يخطئون. اهـ باختصار قواعد الأحكام: 2 /138.

هل الخلاف في حجية العرف حقيقي أو ظاهري

من المسلم به بين المخالفين والموافقين أن هنالك تصرفات كثيرة للمكلفين للعرف فيها مدخل

ولكن لا بد من التوسط ما بين التفريط والإفراط

خاصة بالنسبة لنفاة حجية العرف فحيث نفوه دليلًا

وصفوه كاشفًا للحكم لا مثبتًا له

وهل القياس، وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع المجمع عليها، إلا دليل كاشف على ما قال أهل العلم

باعتبار أن الكتاب والسنة والإجماع مثبتة للأحكام

وهي من المصادر الأصلية وما سواها من المصادر – أو الأدلة – هي مصادر تبعية.

والعرف مصدر من المصادر الاجتهادية

ولا اجتهاد في مورد النص

ولم يقل مثبتو حجية العرف بأن العرف يعارض النص بوجه من الوجوه.. وإن قالوا إنه مخصص بذلك يكون تابعا لا أصلا

ويقول صاحب المسودة: وتخصيص العموم بالعادة – بمعنى قصره على العمل المعتاد كثير المنفعة وكذا قصره على الأعيان التي كان الفعل معتادًا فيها زمن المتكلم (1) .

كلمة ختامية

المتتبع للمسائل التي بنيت على العرف – في الفقه والأصول – يتبين له أمور، وهي:

1-

أن العرف يقوى على إنشاء أحكام الحوادث التي لا نص فيها.

2-

يترك القياس بالعرف.

3-

إذا تعارض العرف مع النص خصصه.

4-

الأحكام المبنية على العرف تتغير تبعًا له.

5-

أن منشأ دلالة العرف ليس مجرد كونه تعارفًا بل ما أنبأ عنه من المصلحة لذا قيل: العادة محكمة عامة كانت أو خاصة.

(1) المسودة: ص 125.

ص: 2407

وإذا كان العرف – يرجع في غالب صوره إلى المصلحة التي دعت إليها الحاجة فتكون مرتبته بين الأدلة مرتبة المصلحة.

ولا شك في أن هذه المصلحة التي دعت إليها الحاجة – عامة كانت أو خاصة – دليل من الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام، وهي ليست مجرد رأي، بل حجيتها ثابتة بالنصوص الكثيرة النافية للحرج والداعية إلى التيسير وعدم التعسير (1) .

وأن التخوف من اعتبار العرف دليلًا فإذا عارض النص نسخه، ولا نسخ بعد الرسالة بالإجماع. فالجواب إنما يصدق هذا إذا كانت المعارضة كلية، وذلك لم يقل به أحد ولكن ينحصر أثر العرف في المعارضة الجزئية، وهذه لا تلغي النص ولا تبطله، بل تخصصه ويبقى العمل بالنص فيما عدا موضع العرف، فلا يكون العمل به في هذه الحالة نسخًا.. وأقصى ما فيه أن يكون تخصيصًا

والتخصيص للنص مشروع وباقٍ بعد عصر الرسالة، فكما كان التخصيص في عصر الوحي بالنص، يكون بعده بالقياس والمصلحة والاستحسان.. وهي أنواع من الاجتهاد المأذون فيها إلى قيام الساعة، وعندئذ يكون العرف المخصص عملًا مشروعًا، والعرف الناسخ غير مشروع فافترقا.

وما العرف المخصص إلا عملية استثناء بعض أفراد النص العام وإخراجها من حكمه، فيدخل تحت مبدأ الاستثناء المقرر صراحة في القرآن الكريم.

ونخلص مما تقدم إلى القول بأن العرف في تخصيصه لبعض النصوص أو تفسيره للبعض الآخر والاستناد إليه باعتباره قرينه مرجحة عند التنازع أو إنشائه لبعضها، حيث لا نص – في كل ذلك لم يقف العرف وراء أسوار النصوص بل دخلها، أو أدخلها ليعمل معها بقدر ما أعطي من سلطان.

فهو يعتبر بحق نافذة من نوافذ الفقه الإسلامي التي يطل منها على حياة الناس الواقعية، فيسلط عليها الأضواء لتنير الطريق للسائرين كي لا تلتوي بهم السبل عن الجادة، وليميز الخبيث من الطيب فإذا ما انكشفت الحقائق أقر منها النافع وألغي الفاسد الضار.

وكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكن على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في أمثال هؤلاء:(فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به)(2) .

أو مما قال القرطبي: ينكرونه لفظًا ويعملون به معنى، والصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلًا من أصولها – وكان أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف – وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس.

وما من شك في أن العمل بالعرف أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة الغراء، والتي قال فيها تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

وقال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا)) .

والله من وراء القصد

الشيخ خليل محيي الدين الميس.

(1) بتصرف من الفقه الإسلامي، لشلبي: ص 107، وما بعدها.

(2)

إعلام الموقعين: 2 /414.

ص: 2408