الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوة الوعد الملزمة
في الشريعة والقانون
إعداد
الدكتور
محمد رضا عبد الجبار العاني
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
1-
ليس غريبا أن يلزم الشخص نفسه بالتزامات يطلب منه الوفاء بها حالا أو مستقبلا؛ ذلك لأن الحياة العملية للأفراد بسبب كون هؤلاء الأفراد أعضاء في مجتمع تربط أعضاءه جملة روابط اجتماعية واقتصادية، فالعقود مثلا صورة شائعة معروفة بين الأفراد تتولد عنها التزامات يراد الوفاء بها.
ومن مظاهر التزامات الأشخاص قبل بعضهم " الوعد "، فقد شاع هذا الأمر بين الناس وتراهم يطلقون ألسنتهم لإعطاء الوعود سواء رافق ذلك عزم على الوفاء، أم لم يرافق ذلك نية الوفاء.
وحيث إن الوعد يحقق معروفا لشخص من قبل شخص آخر بأمر من الأمور النافعة فلا شك حينئذ أن يكون للوفاء بالوعد وإنجازه أثره البالغ في التأثير في العلاقات الاجتماعية إيجابيا حين يوفي الواعدون وعودهم، أو سلبيا حين يتخلفون عن ذلك.
وبناءً على ما تقدم فإني وجدت أن للبحث في هذه المسألة أهميته البالغة في إطلاع الأفراد على وعودهم من الأحكام الشرعية فضلا عن أن للبحث هذا أهميته في كشف صورة من صور تراثنا الفقهي اللامع، أسأل الله تعالى أن يجعل جهدنا هذا نافعا، وأن لا يفوتنا أجره إنه سميع مجيب.
معنى الوعد:
2-
قال ابن سيده: وَعَدَهُ الأمر، وبه عِدَةً وَوَعْدًا وَمَوْعُودًا وَمَوْعِدًا وَمَوْعِدَةً، وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومَفْعِلَة، وقد تواعد القوم واتعدوا، وواعده الوقت والموضع، وواعده فوعده، وقد أوعده وتوعده، وقال الفراء: يقال وعدته خيرا ووعدته شرًّا فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخبر: وعدته، وفي الشر: أوعدته وفي الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإذا قالوا: أوعدته بالشر أثبتوا الألف مع الياء، وقال ابن الأعرابي: أوعدته خيرا وهو نادر، وفي الصحاح: تواعد القوم أي: وعد بعضهم بعضًا هذا في الخير، وأما في الشر: فيقال: اتعدوا، والإيعاد أيضا قبول الوعد، وناس يقولون: إيتعد يأتعد فهو مؤتعد بالهمزة. قال ابن البري: والصواب ترك الهمزة، وكذا ذكره سيبويه وجميع النحاة (1) هذا معنى الوعد في اللغة.
3-
أما تعريف الوعد في الاصطلاح الفقهي فقد قال ابن عرفة المالكي: العدة إخبار عن إنشاء المخبر عروفًا في المستقبل. (2)
وعرفه الفقيه الحنفي العيني: الوعد هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل والإخلاف جعل الوعد خلافًا، وقيل عدم الوفاء به. (3)
وبعد النظر في التعريفين يتضح:
أ- أن التعريف الاصطلاحي للوعد اعتمد التعريف اللغوي، فقرر الوعد الذي هو للخير واستبعد الوعيد الذي هو للشر، فالوعد لا بد وأن يكون بمعروف، فحين يكون الوعد بشر فلا يجب الوفاء به. (4)
ب- إن زمن الوفاء بالوعد هو المستقبل وليس الآن (حين الوعد) .
4-
وينبغي أن يفرق بين الوعد والنذر، لكون الوفاء بهما في المستقبل فيتشابهان من هذا الوجه، لكن هذا التشابه لا يمنع وجود الفرق بينهما فالنذر وإن كان فيه معنى الوعد، (5) إلا أن فيه معنى القربة إلى الله تعالى، وأن في عدم الوفاء به الكفارة وليس كذلك الوعد.
(1) نقلناه عن عمدة القاري في شرح البخاري للعيني 1/220 وانظر فتح الباري في صحيح البخاري للعسقلاني 1/90 ومختار صحاح اللغة للرازي ص 728 ط 2.
(2)
انظر: فتح العلي المالك للشيخ عليش 1/254
(3)
انظر عمدة القاري 1/22
(4)
قال العسقلاني: المراد بالوعد الوعد بالخير أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة انظر فتح الباري 1/90
(5)
لذلك عرف الماوردي والروياني النذر بأنه: الوعد بخير خاصة. وعند غيرهما: التزام قربة لم تتعين (انظر مغني المحتاج 4/354)
5-
وهناك فرق بين الوعد والعهد. فإن العهد في اللغة: الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية فتقول: عهد الله علي لأفعلن كذا، (1) أما معنى الوعد في اللغة فهو ما تقدم، لذلك فقد قيل للتفريق بين الوعد والعهد: العهد فيما تعبد الله به من أمور الدين، أو ما يكون بين العباد مما يكون بخلفه إتلاف مال أو نفس أو إدخال ضرر كثير.
وأما الوعد ففيما لا يتعلق ذلك به حق لمخلوق، وكان في خلفه كالساهي، أو ما لا يؤدي ذلك إلى كثير ضرر، فمن نقض عهده فذلك من كبائر الذنوب ويبلغ به الهلاك، ومن أخلف وعده كان آثمًا ولا يبلغ فاعلوه إلى الكفر والهلاك والله أعلم. (2)
ومع ما نقلناه فإن العسقلاني ذكر أنه قد يتحد معناهما، (3) ولعل ما يؤيد قول العسقلاني قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) إذ بدأ الذكر الحكيم بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فلما أخلفوا رتب عليهم ما رتب ثم علله بقوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} .
6-
ويفرق بين الوعد والجعالة بأن في الجعالة معنى المعاوضة فإن الجاعل يلتزم بفعل خير للمجعول له مقابل قيام الأخير بعمل يطلبه الجاعل مقابل الجعل، أما الوعد فهو التزام عمل معروف لآخر بدون مقابل.
(1) مختار الصحاح ص460
(2)
انظر كتاب المصنف المجلد الأول الجزء الثاني ص 200 تأليف أبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي (ت 557هـ) تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور جاد الله أحمد / إصدار وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. وهو من كتب الإباضية؛ لذلك فإن قولهم بإثم مخلف الوعد مخالف لرأي الجمهور من الفقهاء كما سيأتي.
(3)
فتح الباري 1/90
(4)
سورة التوبة الآية (75-77) ، وسبب نزول الآية هو عهد ثعلبة بن حاطب بالصدقة إذا أعطاه الله المال، فلما أعطاه أخلف وعده (انظر سبب نزول الآية في تفسير الجلالين) .
صيغة الوعد
7-
جاء في فتح العلي: وإنما الْعِدَةُ أن يقول الرجل: أنا أفعل، وأما إذا قال: قد فعلت فهي عملية، وقوله: لك كذا وكذا أشبه بقوله: قد فعلت منه بأنا أفعل (1)
ومنه يفهم أن الصيغة التي ينبغي استعمالها في الوعد هي صيغة الاستقبال المقترنة بسوف أو السين، أما اللفظ الماضي فإنه لا ينبئ عن الوعد وإنما هو يفيد التنجيز حالا.
على أنه لا يكون استعمال الفعل المضارع دائما يفيد الوعد، بل إن ذلك يعتمد القرائن الموجودة في سياق اللفظ، فإذا كان الفعل المضارع الذي يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال أنه يفيد الالتزام جزما فهو ليس وعدا، أما إذا وجد مع المضارع ما يفيد إرادة المستقبل فإنه الوعد. (2)
مشروعية الوعد
8-
الوعد مباح (3) فلكل شخص أن يعد بالمعروف والخير من يشاء من الناس لكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن يتحفظ الشخص في إطلاق الوعود للناس؛ لأن الوفاء بالوعد أمر مستقبل والشخص لا يملك معرفة أحواله المستقبلية {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (4) إذ قد يكون الواعد عاجزا عن الوفاء فيكون مخلفا للوعد فيوصم بخصلة من خصال النفاق، لذلك فإن الإمام الغزالي رحمه الله قد اعتبر وعد الكاذب آفة إذ يقول: إن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق (5) .
هذا فضلا عما يثيره إخلاف الوعد من العداوة بين الوعد والموعود له، وهذا المحذور يؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) أورد الحديث ابن حزم وقال بأنه حديث مرسل (6) .
ومع أن الإباحة هي الأصل في الوعد لكنه قد يكون محرمًا إذا كان الموعود به محرمًا كالوعد بخمر أو زنا، فإن هذا وعد محرم يحرم الوفاء به.
التصرفات التي يدخلها الوعد
9-
التصرفات التي يدخلها الوعد ويندب الوفاء بها أو يجب على الخلاف الذي سنبينه إنما هي التصرفات التي تنضوي تحت تصرفات التبرعات كالقرض والإعارة والهبة والصدقة وما شابهها.
(1) فتح العلي المالك 1/269.
(2)
فتح العلي المالك 1/257.
(3)
أحكام القرآن للجصاص 3/442.
(4)
سورة لقمان الآية 34.
(5)
إحياء علوم الدين 3/132.
(6)
انظر المحلى 8/29.
أما التصرفات التي هي من المعاوضات المالية كالبيع والإجارة ويلحق بها النكاح فإن الوعد بها لا يَلْزَمُ ولا يُلْزِمُ الوفاء بها، يوضح ذلك ما قاله الفقيه المالكي الحطاب رحمه الله في كتابه تحرير الكلام في مسائل الالتزام (1)، قال:(مدلول الالتزام لغة: إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما له وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة والنكاح وسائر العقود، وأما في عرف الفقهاء: فهو إلزام الشخص نفسه شيئا من المعروف مطلقا أو معلقا على شيء فهو بمعنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك وهو: إلزام المعروف بلفظ الالتزام وهو الغالب في عرف الناس اليوم)، ولا شك أن الوعد عند المالكية كما أوضحه تعريف ابن عرفة في الفقرة الثالثة من هذا البحث التزام بمعروف. وحين يذكر المالكية المعروفَ إنما يقصدون به عقود التبرعات وقد قال مالك رحمه الله: من ألزم نفسه معروفا لزمه، لذلك فإن البيع والإجارة والنكاح لا تدخل في دائرة التبرعات وإنما الواعد بها يأخذ عوضًا عما يعد به فهي من المعاوضات.
كذلك نصت المادة (171) من مجلة الأحكام العدلية على ما يلي:
(صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد مثل: سأبيع وأشتري، لا ينعقد بها البيع) وإنما لا ينعقد البيع؛ لأن الوعد المجرد هو في معنى مساومة في البيع (2) .
فالبيع وأمثاله من المعاوضات المالية تستدعي جزم الإرادتين في مجلس التعاقد، فلا بد أن تكون صيغة الإيجاب والقبول مفيدة للبت في العقد بصورة لا تردد معها ولا تسويف، وإلا كانت نية الارتباط منتفية؛ لأن التردد في حكم الرفض، ومن الواضح أنه إذا انتفت دلالة الصيغة على وقوع الارتباط والتعاقد فلا عقد ولا التزام وبناءً على هذا فقد قرر الفقهاء أن الوعد بالبيع ينعقد به البيع ولا يلزم صاحبه قضاء (3) .
أما عقد النكاح فإن عدم إلزام الواعد بوعده فيه فذلك مبني على أن الواعد إذا أراد الرجوع عن وعده وألزمناه بوعده فإن ذلك يعني أننا سنوقع عقد النكاح في ظل الإكراه، وعقد النكاح يتنافى مع الإكراه.
وبناء عليه فإن ما سنذكره من خلاف الفقهاء في وجوب الوفاء بالوعد إنما في الوعود الواردة على عقود التبرعات ولا إلزام في عقود المعاوضات المالية؛ لأن الفقهاء متفقون على أن طريق هذه التصرفات هو الجزم.
(1) انظر فتح العلي المالك 1/254 حيث نقل الشيخ عليش فصلا طويلا من هذا الكتاب تحت عنوان مسائل الالتزام استغرق عشرات الصفحات
(2)
انظر شرح مجلة الأحكام للمرحوم علي حيدر 1/120
(3)
انظر كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الجزء الأول ص346 ط3- وقد علق الدكتور الزرقاء على العقود المعلقة على الشرط أو المضافة إلى المستقبل فنفى أن تكون هذه الصور مشابهة للوعد؛ لأن العقد المعلق أو المضاف إلى المستقبل عقد مجزوم بانعقاده مع اقترانه بشرط الخيار
مدى وجوب الوفاء بالوعد
10-
حقيقة الوعد أن الشخص ألزم نفسه معروفًا أو خيرًا لشخص آخر وهذا المعروف قد يكون قرضًا أو صدقة أو إعارة أو وجها من أوجه المعروف الأخرى.
وهذا الالتزام المتولد عن الوعد ينبغي الوفاء به ديانة ومروءة وتمشيًا مع مكارم الأخلاق التي حثت عليها الشريعة الإسلامية، لكن قوة هذا الالتزام اختلف فيها العلماء، فقد قال الإمام النووي رحمه الله: أجمع العلماء على أن من وعد إنسانًا شيئًا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفيَ بوعده.
وهل ذلك واجب أم مستحب؟ فيه خلاف بينهم (1) .
وهذا الخلاف في قوة الوعد الملزمة سأتولى تحريره هنا، وقد وجدت للعلماء في وجوب الوفاء بالوعد ثلاثة مذاهب:
الأول- استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه.
الثاني – وجوب الوفاء بالوعد مطلقا.
الثالث- وجوب الوفاء بالوعد بتفصيل.
وسأتولى بيان كل من هذه المذاهب الثلاثة تِبَاعًا.
المذهب الأول – استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه.
11-
ذهب جمهور العلماء بما فيهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد والظاهرية وبعض المالكية (2) إلى أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه وليس واجبا فلا يقضى به على الواعد، لكن الواعد إذا ترك الوفاء فقد فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيهية شديدة ولكن لا يأثم (3) .
لكن هذا كان مثارا لتساؤل بعض العلماء حيث قال العسقلاني:
وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي أن الواعد يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء الوعد؟
وهذا التساؤل له ما يبرره بسبب ما جاء من النصوص الظاهرة في الحث على الوفاء بالوعد ووصف مخلف الوعد بالكذب والنفاق كما سيتضح ذلك عند عرض أدلة من أوجب الوفاء بالوعد.
لذلك فقد استشكل والد ابن حجر العسقلاني صرف النصوص عن ظاهرها مستنكرا إذ يقول: والدلالة للموجوب منها – أي من النصوص- قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد (4) ؟
(1) انظر كتاب الأذكار للنووي ص282
(2)
انظر: الأذكار للنووي ص282 عمدة القاري 12/121، من مرقاة المفاتيح 4/653، تحفة الأحوذي 6/131، المحلى 8/28، فتح العلي المالك 1/254 وهو مذهب الإمامية كما يفهم من الطبرسي في جامع البيان 9/278 شركة المعارف الإسلامية
(3)
الأذكار للنووي ص282 عمدة القاري 1/221
(4)
انظر: فتح الباري 6/217 طبعة مصطفى البابي الحلبي لسنة 1378هـ1959م
هذا وقد نقل العسقلاني عن المهلب أن إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء (1) . وادعاء الاتفاق هذا رده العسقلاني؛ لأن الخلاف فيه مشهور وإن كان القائل به قليل (2) . وسيتبين لك القائلون بوجوب الوفاء بالوعد عند بيان المذهب الثاني.
12-
ولكي يخرج الواعد من ارتكاب المكروه في وعده فإن عليه استثناء مشيئة الله تعالى ويكون عازما على الوفاء بوعده قال الجصاص (3) : (وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان، فأما قول القائل: إني سأفعل كذا فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله تعالى، وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به ولا جائز له أن يعد وفي ضميره أن لا يفيَ به لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه، وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف الوعد فيه) ولقد تشدد ابن حزم مقررًا أن الوعد بدون استثناء مشيئة الله محرم (4) .
وقد ذكر العلماء أن النية الصالحة للوفاء يثاب عليها الواعد وإن لم يقترن معها المنوي وتخلف عنها (5) .
وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد نفوا الإثم عن مخالف الوعد فإن ذلك لمجرد خلف الوعد، أما لو قصد الواعد في إخلافه إضرار الموعود له فإن ذلك موجب لتأثيمه. (6) .
ولا يلزم الوفاء بالوعد على رأي الجمهور كونه معينًا أو مقترنًا بيمين، فقد ذكر ابن حزم أن (من وعد آخر بأن يعطيه مالًا معينًا أو غير معين أو بأن يعينه في عمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان)(7) .
(1) فتح الباري في الموضع السابق: عدم صحة المضاربة بالموعود به هنا بناء على عدم تأكد الوفاء بالوعد بناء على عدم وجوبه
(2)
الموضع السابق
(3)
أحكام القرآن 3/442
(4)
المحلى 8/29
(5)
مرقاة المفاتيح 4/647
(6)
مرقاة المفاتيح 4/653
(7)
المحلى 8/28
أدلة هذا المذهب
13-
يستدل لمذهب الجمهور بما يلي:
أـ أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في الكذب. فقال: يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك)) (1) .
فهذا الحديث يدل على أن إخلاف الوعد ليس قسيم الكذب، وأنه لا جناح على من أخلف وعده.
وأجيب على هذا الاستدلال بالحديث بأنه يحمل على أن الواعد لم يف مضطرًا جمعًا بينه وبين أدلة الوفاء إذ أن حمله على هذا المعنى أولى من حمله على غيره (2) .
ب ـ أخرج أبو داود ((أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه)) (3) .
وأجيب عنه بمثل ما أجيب على الحديث الذي سبقه عن مالك (4) .
جـ- وبصدد الدفاع عن رأي الجمهور قال ابن حزم: إن وعد وحلف واستثنى – بأن قال: إن شاء الله- فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه وهو الوعد، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضًا فإن الله تعالى يقول {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (5) .
فصح تحريم الوعد بغير استثناء، فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية فإن استثنى فقال: إن شاء الله أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله وقد علمنا أن الله لو شاء لأنفذه فإن لم ينفذه فإن الله لم يشأ كونه (6) .
د- ويمكن الاستدلال لرأي الجمهور بأن الوعد تبرع محض من الواعد ولا دليل على وجوب التبرع على أحد، وهب أننا كيفنا الوعد على أنه عقد محله الوعد بعمل فإن هذا العقد يكون من عقود التبرعات، وهي بطبيعتها عقود غير لازمة، يجوز فسخها قبل بالقبض، لذلك قال النووي: استدل من لم يوجب الوفاء بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا القبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض (7) . وسيأتي أن المالكية يقولون بلزوم الوعد على تفصيل، على أن رأي الجمهور يرد عليه ظواهر نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية التي احتج بها من أوجب الوفاء بالوعد. وقد تأول الجمهور هذه النصوص وصرفوها عن ظاهرها بما يوافق مذهبهم، وسيأتي إيضاح ذلك عند عرض أدلة الموجبين للوفاء بالوعد فيما يلي.
(1) الموطأ بهامش المنتقى للباجي 7/313
(2)
حاشية ابن الشاط على الفروق 4/22
(3)
ذكره القرافي في الفروق 4/21 وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي 13/339 طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة
(4)
حاشية ابن الشاط على الفروق 4/22
(5)
سورة الكهف آية 23/24
(6)
المحلى 8/29
(7)
الأذكار ص282
المذهب الثاني – وجوب الوفاء بالوعد مطلقا
14-
ذهب الفقيه المشهور ابن شبرمة رحمه الله إلى أن الوعد يلزم مطلقًا ويجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إلا من عذر يمنع الوفاء (1) .
ومن أَجَلِّ من قال بهذا الرأي الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (2) .
وذكر البخاري في صحيحه أن هذا قول الحسن البصري، وأن القاضي سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قضى بوجوب إنجاز الوعد، وأن ابن الأشوع ذكر أن وجوب إنجاز الوعد مذهب الصحابي سمرة بن جندب رضي الله عنه، وأضاف البخاري بأنه رأي إسحاق بن راهويه وهو يحتج بحديث ابن الأشوع في القول بإنجاز الوعد (3) .
ووجوب الوفاء بالوعد مطلقا مذهب بعض المالكية وإن وصفوه بأنه مذهب ضعيف (4) وذهب إلى وجوب الوفاء بالوعد أبو بكر بن العربي المالكي (5) وكذلك صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق (6) .
وذكر ابن رجب الحنبلي أن عليه طائفة من أهل الظاهر (7) وقال الإمام الغزالي الشافعي: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر (8) وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترب به حلف أو إقامة شهود على الواعد أو قرائن أخرى.
أدلة هذا المذهب
15-
استدل القائلون بهذا المذهب بأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية:
الدليل الأول – قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (9) .
(1) المحلى 8/28
(2)
الأذكار ص282 فتح الباري طبعة الحلبي 6/219 مرقاة المفاتيح 4/653
(3)
انظر صحيح البخاري بهامش فتح الباري 6/218 طبعة الحلبي وعمدة القاري 13/258 وسعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمن إمارة خالد القسري على العراق بعد المائة للهجرة، وقد مات في ولاية خالد وقد عده ابن حبان في الثقات، وعده يحيى بن معين في المشهورين.
(4)
فتح العلي المالك 1/256 الفروق 4/24
(5)
ذكر ذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/29
(6)
انظر حاشية ابن الشاط على الفروق 4/24
(7)
جامع العلوم والحكم ص404
(8)
إحياء علوم الدين 3/133
(9)
سورة الصف آية 2-3
فقد ذكر المفسرون أنه يحتج بالآية على أن من ألزم نفسه عقدا لزمه الوفاء به، والوعد مما ألزم الشخص نفسه به مع وجود الخلاف في الوجوب أو الاستحباب (1) .
والذين أوجبوا الوفاء بالوعد وجه استدلالهم بالآية أن الواعد إذا وعد وأخلف فإنه يكون قد قال ولم يفعل، فيكون داخلا في استنكار الآية، فيلزم أن يكون وعده كذبا، والكذب محرم فيكون إخلاف الوعد محرمًا أيضا، فلزم الوفاء به خروجًا من صفة الكذب (2) .
16-
وقد اعترض على كون إخلاف الوعد كذبا، بأن الكذب وإن كان تعريفه بأنه الخبر الذي لا يطابق إلا أن عدم المطابقة تعرف بالماضي والحاضر من الأخبار، أما ما يتعلق منها بالمستقبل كالوعد فإنه يحتمل المطابقة وعدمها، فلا يمكن الجزم بعدم المطابقة؛ لأن المستقبل بعدم مجيء وقته يكون مجهولًا، وهذا مدعوم بأمرين:
الأول- أننا إذا عرفنا الشيء بوصف بأن قلنا في الإنسان مثلا: الحيوان الناطق، إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقوة، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا؛ لأنه قابل للحياة والنطق، وحيث أن كون الوعد كذبا بالفعل غير ممكن لتأخر زمنه فإنه لا يمكن التحكم بوصفه بالكذب.
الثاني – أن إخلاف الوعد لا حرج فيه كما صرح بذلك الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ وحديث أبي داود – وقد تقدم ذكرهما- حيث أفاد الحديثان أن إخلاف الوعد ليس قسيم الكذب ولا حرج فيه، فإن قيل: إن النصوص القرآنية كقوله تعالى {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (3) . وقوله {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (4) . وقوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (5) . وقوله {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} (6) وغير ذلك من النصوص تدل على الصدق في وعد الله، فقد تحقق بذلك وصف الصدق في المستقبل، إن قيل ذلك فالجواب عليه: أن الله تعالى يخبر عن معلوم وكل ما تعلق به العلم يجب مطابقته بخلاف واحد من البشر إنما ألزم نفسه أن يفعل مع تجويز أن يقع ذلك منه وأن لا يقع، فلا تكون المطابقة وعدمها معلومين ولا واقعين فانتفيا بالكلية وقت الإخبار (7) .
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/442 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/79
(2)
الفروق 4/20، 34 المحلى 8/28
(3)
سورة إبراهيم آية 22
(4)
سورة آل عمران آية 152
(5)
سورة الزمر آية 74
(6)
سورة الأعراف آية 44
(7)
الفروق وحاشيته وتهذيبه 4/21 -44
17-
وقد رد هذا الاعتراض بوجوه:
أ- إن الكذب يدخل الماضي والحاضر والمستقبل وإنما سومح في الوعد من أجل تكثير الوعد بالمعروف (1) .
ب - إنه لا يسلم أن التعاريف – أي الحدود- تستلزم أن يكون الوصف فيها بالفعل، إذ لو استلزمت ذلك لخرج الطفل الرضيع عن تعريف الإنسان ضرورة؛ لأن النطق الذي هو الفعل مفقود فيه بالفعل مع أن الطفل عند أصحاب التعاريف وهم الفلاسفة إنسان، وما قيل من استلزام كون الجماد والنبات إنسانًا لأنه قابل للحياة والنطق إنما هو جهل بمذهب أصحاب الحدود أو التعاريف، أي الفلاسفة القائلين بأن الحقائق مختلفة بصفتها الذاتية فلا تقبل حقيقة منها صفة الحقيقة الأخرى، فالحيوان لا يقبل أن يكون جمادًا والجماد لا يقبل أن يكون حيوانا، وبهذا فقد بطل كل ما قيل من أن الوعد لا يدخله الكذب؛ لأنه مستقبل (2) .
جـ- إنه لا معنى لحديث الموطأ إلا أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل له من أن يخبر زوجته بخبر يقتضي تغيظها به، كأن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو غير ذلك مما يكون فيه التغيظ لزوجته، وسوغ له صلى الله عليه وسلم الوعد؛ لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازمًا عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، وأن السائل له صلى الله عليه وسلم إنما قصد الوعد على الإطلاق، وسأل عنه؛ لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارًا أو اختيارًا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إنه إن وفى فلا جناح عليه، وإن لم يف مضطرا فكذلك، وإن لم يف مختارًا فالظواهر المتضافرة قاضية بالحرج، فتبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل الوعد قسيمًا للكذب من حيث هو كذب وإنما جعله قسيمًا للخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب والوعد لا يتعين أنه كذب، وما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، فمجرد دعوى لم تقم عليها حجة ولا تعين أن المراد ما قاله، كيف وإن ما قاله هو عين الوعد؟ فإنه لا بد أن يكون ما يخبر زوجته عن وقوعه في المستقبل متعلقا بها، وإلا فلا حاجة لها فيما يتعلق بغيرها، وما قيل من أن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه بل قصد الوعد الذي لا يفي فيه على التعيين، فإنه مجرد دعوى أيضا إذ من أين علم أنه لا يفعله وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به؟ من أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر علمه بذلك تعين أن يكون سواء لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء، فسوغ له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأن عدم الوفاء لا يتعين، أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية ليس بمعصية، وأما حديث أبي داود فإنه يحمل على أن الواعد لم يف مضطرا (3) .
(1) الفروق 4/24
(2)
تهذيب الفروق 4/45
(3)
تهذيب الفروق 4/45،46
18-
وقد رد ابن حزم الظاهري على الذين استدلوا بالآية لوجوب الوفاء بالوعد: بأن المراد بها الذين يقولون ما لا يفعلون في الأمور الواجبة كالوعد بإنصاف من دين أو أداء حق، وهو من قبيل قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (1) فقد استنكر الله إخلافهم؛ لأن الصدقة واجبة والكون من الصالحين واجب فالوعد والعهد بذلك فرضان ففرض إنجازهما، ثم إن هذا نظر من هذا الذي عاهد الله على ذلك، والنذر فرض (2) .
ويبدو لي أن هناك فرقا بين هذه الآية والآية المستدل بها ففي هذه الآية علق العهد على شرط وهو إيتاء الله لهم من فضله، فتحقق الشرط وما وفوا، أما الآية المستدل بها فليس فيها مثل هذا الشرط بل إن سياقها يفيد العموم فقد أنكر عليهم أن يقولوا ومنه الوعد ولم يفعلوا فكان مقتًا كبيرًا عليهم.
19-
الدليل الثاني – أن الوعد أمر بالوفاء به في جميع الأديان وقد حافظ عليه الرسل المتقدمون قال تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (3) . ومدح إسماعيل لصدقه في وعده بقوله {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) وفي شريعتنا من النصوص ما يؤكده الوفاء بالوعد كقوله تعالى {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (5) وقوله {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (6) وقوله {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (7) وكل هذه النصوص وعشرات مثلها تؤكد أن الله قطع على نفسه الوفاء بما وعد فعلى العباد أن يوفوا بوعودهم.
وقد حمل الجمهور القائلون باستحباب الوفاء بالوعد كل ما تقدم من النصوص على الاستحباب لا على الوجوب، فقرروا كراهية الإخلاف فيه.
(1) سورة التوبة آية 75- 77
(2)
المحلى 8/30
(3)
سورة النجم آية 37
(4)
سورة مريم آية 54
(5)
سورة الروم آية 6
(6)
سورة الزمر آية 20
(7)
سورة لقمان آية33
20-
الدليل الثالث- ما أخرجه البخاري ومسلم (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم ((: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذ وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) وفي رواية (من علامات المنافق ثلاث
…
إلخ) وفي رواية أخرى (آية المنافق ثلاث
…
وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) وورد في البخاري: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، وفي مسلم:(إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) .
والدليل في هذه الأخبار أن إخلاف الوعد قد عده النبي صلى الله عليه وسلم في خصال المنافقين، والنفاق مذموم شرعًا وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار حيث قال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرما فيجب الوفاء بالوعد (3) .
21-
والجواب عن هذا الدليل: أن هذا الحديث وإن عده جماعة من العلماء مشكلا كما صرح بذلك النووي (4) من حيث إن هذه الخصال المعدودة في الحديث توجد في المسلم المصدق الذي ليس في إسلامه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار إذ أن إخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال، وكذلك وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذه الخصال أو كلها.
لكن النووي بعد نقله هذا الإشكال نفى أن يكون في الحديث إشكال (5) .
(1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي2/47، 48 صحيح البخاري مع فتح الباري 1/89
(2)
سورة النساء آية 145
(3)
انظر الفروق 4/20 /46
(4)
صحيح مسلم بشرح النووي 2/46
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي 2/47
22-
ونفي الإشكال مبني على أن الحديث مصروف عن ظاهره، وقد ذهب العلماء في صرف الحديث عن ظاهره مذاهب شتى وهي:
أ - قال المحققون والأكثرون وصححه النووي واختاره أن معنى الحديث أن هذه الخصال المعدودة في الحديث خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام، فيظهره وهو يبطن الكفر، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم. ((كان منافقا خالصا)) أي شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال؛ لذلك قال بعض العلماء: وهذا المعنى فيمن كانت الخصال المذكورة غالبة عليه وله دَيْنًا، ويدل عليه التعبير- بإذا – فإنها تدل على تكرار الفعل فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه (1) .
ب - قال الترمذي: إن المراد بالنفاق في الحديث نفاق العمل لا نفاق الإيمان (2) . وقد ارتضى هذا المعنى القرطبي والعسقلاني (3) ؛ لذلك قال الكرماني شارح البخاري: مناسبة هذا الباب- علامات النفاق- لكتاب الإيمان: إن النفاق علامة عدم الإيمان أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض، والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه (4) .
وقد استدل لهذا المعنى بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحذيفة: هل تعلم فيَّ شيئا من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر وإنما أراد نفاق العمل؛ لما علم بأن عمر رضي الله عنه مقطوع بإسلامه وأنه من المبشرين بالجنة (5) .
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2/47 فتح الباري 1/90
(2)
مسلم بشرح النووي 2/47
(3)
فتح الباري 1/90، 91
(4)
فتح الباري 1/89
(5)
فتح الباري 1/.9 عمدة القاري 1/222
جـ- إن المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير للمسلم عن ارتكاب هذه الخصال أو اعتيادها، والتي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهذا المعنى حكاه الخطابي وارتضاه، ودعم هذا التفسير بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((: التاجر فاجر وأكثر منافقي أمتي قراؤها)) فإن معناه التحذير من الكذب إذ هو في معنى الفجور فلا يوجب أن يكون التجار كلهم فجارا، والقراء قد يكون من بعضهم قلة إخلاص في العمل وبعض الرياء، وهو لا يوجب أن يكونوا كلهم منافقين، ثم إن النفاق ضربان: أحدهما- يظهر الإيمان ويبطن الكفر وهكذا كان المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني- ترك المحافظة على أمور الدين ومراعاتها علنًا وهذا أيضًا يسمى نفاقًا، كما جاء ((:سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر)) وإنما هو كفر دون كفر وفسق دون فسق، وكذلك فهو نفاق دون نفاق (1) .
د- إن الحديث ورد في رجل منافق بعينه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول: يا فلان أنت منافق أو: فلان منافق، بل كان صلى الله عليه وسلم يشير إشارة كقوله عليه السلام:((: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)) فههنا عبر بالآية- آية المنافق – حتى يعرف ذلك الشخص بها، وهذا المعنى حكاه الخطابي (2) .
وقال العسقلاني: إن أصحاب هذا التفسير قد استدلوا بأحاديث ضعيفة لو صحت لوجب المصير إليها (3) .
هـ- إن المراد بالحديث: المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري أن كان على خلافه (4) .
إلا أن ابن رجب الحنبلي نفى أن يكون الحسن البصري قد رجع إلى قول عطاء (5) .
وقال القاضي عياض الفقيه المالكي بأن كثيرا من أئمتنا مالوا إلى هذا الرأي (6) .
(1) فتح الباري 1/98 عمدة القاري 1/222 مسلم بشرح النووي 2/47
(2)
مسلم بشرح النووي 2/47
(3)
فتح الباري 1/.9.
(4)
مسلم بشرح النووي 2/47 عمدة القاري 1/222، جامع العلوم والحكم ص403
(5)
جامع العلوم والحكم ص 403 حيث ذكر أن خبر الحسن هذا ذكره الشيخ محمد محرم وهو شيخ كذاب معروف بالكذب
(6)
عمدة القاري 1/222 مسلم بشرح النووي 2/47
و قال حذيفة: ذهب النفاق وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه الكفر بعد الإيمان، فإن الإسلام شاع وتوالد الناس عليه فمن نافق بأن أظهر الإسلام وأبطن خلافه فهو مرتد (1) .
وعلى قول حذيفة فإن النفاق إظهار الإسلام وإبطان الكفر فلا يكون إخلاف الوعد من النفاق، إنما النفاق إما نفاق العمل أو التساهل في أمور الدين سرا والاهتمام بها علنا.
ز- قال ابن حزم: لا حجة في الحديث؛ لأنه ليس على ظاهره، لأن من وعد بما لا يحل له أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك. كمن وعد بخمر أو زنى وما شابه ذلك فصح بعد ذلك أنه ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا، بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض، فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا من وعد بواجب عليه كإنصاف من دَيْنٍ أو أداء حق (2) .
من كل ما تقدم يتضح أن الجمهور القائلين بعدم وجوب الوفاء بالوعد، قد صرفوا ظاهر الحديث إلى المعاني التي تقدمت، ومن ثَمَّ فإنهم لا يرون في الحديث دليلا على وجوب الوفاء بالوعد.
(1) عمدة القاري 1/222
(2)
المحلى 8/29
23-
الدليل الرابع- قال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال ((: ((وعدني فوفاني)) )) أخرجه البخاري وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب إنجاز الوعد (1)
24-
الدليل الخامس – عن جابر رضي الله عنه قال: ((لما مات النبي جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، وكان في البحرين فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أو كانت له قبله عِدَةٌ فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة)) (2) .
وأخرجه البخاري بلفظ قريب في باب من تكفل عن ميت دَيْنًا (3) .
قال العيني: وقد استدل بعض الشافعية على وجوب الوفاء بالوعد في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم زعموا أنه من خصائصه ولا دلالة فيه أصلا لا على الوجوب ولا على الخصوصية (4) .
كذلك أورد البخاري جملة أحاديث بهذا المعنى في باب من أمر بإنجاز الوعد (5) ولكنها محمولة على الاستحباب عند الجمهور.
25-
الدليل السادس – قال صلى الله عليه وسلم ((:وَأْيُ المؤمن واجب)) أي: وعده واجب الوفاء به (6)، وأورده ابن حزم بلفظ ((وَأْيُ حق واجب)) وقال عنه: فيه هشام بن سعيد وهو ضعيف والحديث مرسل (7) .
وأورده الغزالي بلفظ ((الْوَأْيُ مثل الدَّيْنِ أو أفضل)) وقال العراقي: أخرجه ابن أبي الدنيا مرسلا، ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف (8) . والوأي بمعنى الوعد وهو صريح في وجوب الوفاء لكنه ضعيف كما عرفت.
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 6/218عمدة القاري 13/258
(2)
انظر البخاري مع فتح الباري 6/218 عمدة القاري 13/258
(3)
عمدة القاري 12- 121
(4)
عمدة القاري 12/121
(5)
انظر البخاري مع فتح الباري 6/218 عمدة القاري 13/258
(6)
الفروق للقرافي 4/.2.
(7)
المحلى 8/29
(8)
إحياء علوم الدين 3/132
26-
الدليل السابع- أورد ابن حزم جملة أحاديث استدل بها من أوجب الوفاء بالوعد ثم ضعفها، من ذلك (1) :
عن طريق الليث عن ابن عجلان: ((أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر قالت لي أمي: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة)) (2) .
قال عنه ابن حزم: هذا الحديث ليس بشيء؛ لأنه عمن لم يسم. والآخر: من طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) قال عنه ابن حزم: حديث مرسل وابن عياش ضعيف. وأضاف ابن حزم: كان على أبي حنيفة ومالك أن يقولا بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا؛ لأنهما يحتجان بالمراسيل، أي أن كلام ابن حزم يعني: لو أن الوفاء واجب لتناقض أبو حنيفة ومالك في قولهما بعدم وجوب الوفاء مع أصلهم بالأخذ بالمراسيل.
27-
الدليل الثامن – ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وعد وعدًا قال: عسى)) ، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يعد وعدًا إلا ويقول: إن شاء الله، وقد حمل الغزالي ذلك بعد ذكره أنه إذا جزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر فإن كان عند الوعد جازما على أن لا يفي فهذا هو النفاق (3) ، لكن صاحب مرقاة المفاتيح قال بعد نقل هذا عن الغزالي (4) .
وهذا كله يؤيد الوجوب إذا كان الوعد مطلقا غير مقيد بعسى أو المشيئة ونحوهما مما يدل على أنه جازم في وعده فقول الغزالي محل بحث.
(1) المحلى 8/29 وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص404
(2)
رواه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان انظر مرقاة المفاتيح 4/648
(3)
إحياء علوم الدين3/133
(4)
مرقاة المفاتيح 4/653
28-
الدليل التاسع – روى الترمذي وقال عنه حسن غريب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) (1) .
فقد ذكر شراح الحديث أنه يحتمل أن يخلفه- بالرفع- فيكون المنهي عنه الوعد المستعقب للإخلاف، فالمعنى لا تعده موعدا فأنت تخلفه على أنه جملة خبرية معطوفة على إنشائية، ويحتمل النصب أي: فيكون- فتخلفه- جوابا للنهي على تقدير: فيكون مسببًا عما قبله فعلى هذا يكون التنكير في موعد النوع من الموعد وهو ما يرضاه الله تعالى بأن يعزم عليه قطعًا ولا يستثني فيجعل الله ذلك سببًا للإخلاف أو ينوي في الوعد كالمنافق فإن آية المنافق الخلف في الوعد (2) .
المذهب الثالث – التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد:
29-
ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى التفصيل فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب وكانوا في ذلك فريقين:
الفريق الأول – ويمثله مشهور مذهب مالك وابن القاسم وسحنون وعليه المدونة، ومفاد رأيهم: أن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا كان الوعد قد تم على سبب، ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء (3) .
(1) عارضة الأحوذي 8/161، تحفة الأحوذي 6/131
(2)
تحفة الأحوذي 6/131 مرقاة المفاتيح 4/653
(3)
الفروق 4/25، فتح العلي المالك 1/254
وبمعنى أوضح أن الوعد لو تم وكان له سبب، ثم باشر الموعود ذلك السبب معتمدا على وعد الواعد، فإن على الواعد وجوب الوفاء ويقضي عليه به، مثال ذلك: أن يقول الرجل للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، ثم باشر الموعود شيئا من هذه التصرفات لزم الواعد الوفاء (1) .
وحيث يتنازع الواعد والموعود له فيما يلزم الواعد بسبب وعده فقد قالوا (2) 0 إن زعم الموعود أنه أراد شيئًا سماه فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئًا أرضاه الواعد بما شاء، وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك، وهذا هو رأي أشهب، أما على رأي ابن وهب واستحسنه أصبغ فإن على الواعد إرضاء الموعود بما يشبه أي بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس، أما لو حلف الواعد ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس.
30-
الفريق الثاني – ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي (3) ومفاده أن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي به عليه إذا تم الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود له في مباشرة شيء، مثال ذلك: قولك: أريد أن أتزوج، أو: أريد أن أشتري كذا، أو: أن أقضي غرمائي فَأَسْلِفْنِي كذا، أو: أريد أن أسافر غدا إلى مكان كذا فَأَعِرْنِي دابَّتَك، أو: أن أحرث أرضي فأعرني بقرتك، فقال: نعم، ثم بدا للواعد الرجوع قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضي به عليه (4) . وهذه الصورة تمثل طلبا واستجابة، وكذلك لو لم تسأله بل هو قال لك من نفسه: أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك فإن ذلك يلزمه ويقضي به عليه (5) . وهذه الصورة تمثل التزاما من جانب واحد.
ويعلم من ذلك أن الوعد المجرد عن سبب كما لو قلت: أسلفني كذا أو أعرني بقرتك ولم تذكر سببًا ولا حاجة، ثم وعدك وبدا له أن يرجع فله الرجوع ولا شيء عليه عند الفريقين، ويلاحظ أن هذه الصيغ تكون لازمة على رأي من أوجب الوفاء بالوعد مطلقًا، وهم ابن شبرمة وموافقوه؛ لأنهم لم يشترطوا وجود سبب في الوعد بل إن مجرد الوعد يوجب الوفاء به.
(1) فتح العلي المالك 1/254، الفروق 4/25
(2)
فتح العلي المالك 1/254
(3)
فتح العلي المالك 1/255، الفروق 4/.2.
(4)
فتح العلي المالك 1/254
(5)
المرجع نفسه
31-
ويظهر الفرق بين فريقي المالكية في مسائل منها:
الأولى – لو قال له: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم، فقال الواعد: نعم، ثم بدا له الرجوع فإن على مذهب أصبغ يجب الوفاء؛ لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه لا يجب؛ لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه (1) .
الثانية – لو سألك مدين أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت: أنا أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل؛ لأنه وعد على سبب وهذا مذهب أصبغ، أما على مذهب مالك وموافقيه فلا يلزمه ذلك إلا إذا ورطه بذلك أو تدل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد، والتورط يكون بأن يدفع ما بيده إلى دائن آخر أو شراء حاجة له بسبب بنائه على وعد الواعد (2) .
32-
وحجة المالكية في تفصيلهم هذا أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود حيث إن الآية {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] نزلت في قوم كانوا يقولون: جَاهَدْنَا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (3) . ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب، وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا كما تقدم، فكان لا بد من حمل هذه النصوص على خلاف ظاهرها وأن يجمع بين الأدلة، فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يوجب الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (4)، وقد رد ابن الشاط كلام القرافي هذا في حاشيته على الفروق: بأن جمع الأدلة ينبغي أن يكون بحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية، وحديث خصال المنافق بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارا (5) .
33-
وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم وقال: بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون فمن أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا (6) ؟
(1) فتح العلي المالك 1/256
(2)
فتح العلي المالك 1/257
(3)
الجامع لأحكام القرآن حيث ذكر أسباب النزول 18/77 –78.
(4)
الفروق 4/25.
(5)
حاشية ابن الشاط على الفروق 4/25
(6)
المحلى لابن حزم 8/28 أقول: لعل الحل عند ابن حزم في هذه الحالة هو رفع الضرر والظلم عن الموعود له أي أنه لا يرى الوعد هنا سببا لإيجاب ضمان على الواعد بناء على أن الوفاء بالوعد ليس بلازم عنده
المذهب الراجح
34-
تبين لنا أن للعلماء في وجوب الوفاء بالوعد ثلاثة مذاهب: مذهب الجمهور الذي يرى استحباب الوفاء بالوعد، ومذهب ابن شبرمة وموافقيه في وجوب الوفاء بالوعد مطلقا إلا لعذر، ومذهب المالكية على التفصيل الذي ذكرناه.
والذي يظهر لي راجحا من المذاهب الثلاثة هو مذهب الجمهور، فالوفاء بالوعد مستحب ويكره للواعد الإخلاف في وعده كراهة شديدة فليس الوفاء بالوعد واجبًا يقضى به على الواعد؛ وذلك لأمرين:
الأول – أن الوعد كما عرفه الفقهاء: إخبار عن إنشاء خير في المستقبل فهو بهذا الاعتبار محض تبرع، والمتبرع ليس ملزما بالوفاء بتبرعه في المستقبل إذ له الرجوع عنه.
الثاني – لو أقمنا الوعد مقام العقد في حكمه فإن الوعد على رأي كل الفقهاء يرد على عقود التبرعات، وعقود التبرعات ذاتها غير لازمة قبل قبض محل العقد فيجوز فسخها، فجواز فسخ الوعد بها أولى فلا يمكن القول بلزوم الوعد فيها.
وإذا كان فقهاء المذهب المالكي بناء على ما ذكر عن إمامهم مالك رحمه الله يرون أن من ألزم نفسه معروفا لزمه ما لم يمت أو يفلس، إلا أنهم قالوا (1) :
واعلم أن الالتزام إذا لم يكن على وجه المعاوضة فلا يتم إلا بالحيازة ويبطل بالموت والفلس كما في سائر التبرعات.
فتحصل من كل ذلك أن القول بوجوب الوفاء بالوعد مطلقًا أو على التفصيل كما يرى المالكية يكون مذهبا مرجوحًا والله أعلم.
(1) فتح العلي المالك 1/211
رأي القانون في الوعد:
35-
يذهب علماء القانون إلى أن الوعد عقد (عقد الوعد) ينعقد بإيجاب وقبول من الواعد والموعود له، ويجوز أن يكون أي عقد موضوعا للوعد سواء كان عقدًا رضائيا يتم بإيجاب وقبول، أم عينيا يتم بإيجاب وقبول مع قبض محل العقد؛ لذلك يجوز الوعد بالبيع والإيجار والقرض والرهن وغير ذلك من العقود (1) ، فعلى هذا إذا وعد شخصٌ آخرَ بأن يبيعه قطعة أرض في وقت معلوم فإن التزاما قد ترتب على الواعد فيجب عليه الوفاء بالتزامه، وكذلك إن وعد بقرض يجب عليه الوفاء، وقد خالف القانون مذهب فقهاء الشريعة الإسلامية قاطبة في إجازته الوعد بعقود المعاوضات، فنظر فقهاء الشريعة على أن عقود المعاوضات ليست من التبرعات فلا يدخلها الوعد، إضافة إلى أن عقود المعاوضات إنما هي عقود تمليك وطبيعة عقود التمليك أن يكون طريقها الجزم لا الوعد المستقبل، فلا ينفض مجلس العقد إلا وقد انعقدت وترتب عليها حكمها وإلا فلا أثر للوعد فيها، أما رجال القانون فقد أعطوا للوعد في البيع والشراء حكم العقد الموعود به من ترتيب حق شخصي للموعود له على الواعد، وقيدوه بقيود يلتزم من خلالها بالوفاء بوعده وحيث أخل بوعده فإن عليه التعويض، وأنت ترى أن هذا تحكم في ملكية الواعد وحريته في تصرفه في ملكه، مع أن العقد الناقل للملكية لم يتم بعد. وإنما يتم حين يبدي الموعود له رغبته والتي حدد لظهورها مدة معلومة.
وإذا كان رجال القانون قد خالفوا فقهاء الشريعة في جواز الوعد في عقود المعاوضات إلا أنهم وافقوهم في جواز الوعد في عقود التبرعات وفاقًا لمذهب ابن شبرمة وموافقيه في لزوم الوعد بها مطلقا.
(1) راجع مسألة الوعد بالتعاقد: نظرية العقد للدكتور السنهوري ص262، الوسيط للسنهوري 1/265 أصول الالتزام للدكتور حسن على الذنون ص67 مطبعة المعارف، الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم 1/193، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ الزرقاء 1/346
36-
وحين يعد شخص آخر بالبيع ويعده الآخر بالشراء فإنه وعد ملزم للجانبين، وقد أسماه رجال القانون بالاتفاق الابتدائي. والفرق بين الاتفاق الابتدائي والاتفاق النهائي، هو أن الاتفاق الابتدائي تم ليستكمل المتواعدان مستلزمات العقد النهائي، كاستشارة آخرين أو تهيئة ثمن، في حين أن الاتفاق النهائي يعتبر عقدًا ناقلا للملكية لا يتوقف على شيء (1) .
وليس لهذا شبه في الفقه الإسلامي؛ لأن الاتفاق على البيع يعتبر على رأي الفقه الإسلامي عقدا كاملا صحيحا؛ لأنه تم بإيجاب وقبول، نعم هناك عقود تتم وفيها خيار الشرط أو خيار الرؤية، ففي هذه العقود يتم العقد صحيحا لكن لزومه متوقف على أمر آخر هو الخيار، فإذا اختار صاحب الخيار الإمضاء مضى العقد وإن اختار الفسخ ألغى العقد.
37-
على أن الدكتور حسن علي الذنون يرى تنافيا بين فكرة عينية العقود مع فكرة الوعد بالتعاقد، فلا عبرة عنده بالوعد بالتعاقد في القرض (2) وذلك بناء على أن العقود العينية لا تتم إلا بقبض محل العقد.
وبناء على رأي الدكتور الذنون فإن فكرة الوعد في القانون تختلف تمامًا مع فكرة الوعد في الفقه الإسلامي؛ وذلك لأن مجال الوعد في الفقه الإسلامي هو عقود التبرعات التي هي من العقود العينية باصطلاح رجال القانون، ولا مجال للوعد في عقود المعاوضات في حين أن رأي الدكتور الذنون: أن مجال الوعد هو عقود المعاوضات ويتنافى مع عقود التبرعات (العينية) ، ورأي الدكتور الذنون لا يتفق مع رأي الدكتور السنهوري الذي يرى جواز الوعد في كل العقود.
38-
هذا وإن الوعد في النكاح لا ينشئ التزاما في ذمة الواعد على رأي القانون (3) ، وهو متفق مع الفقه الإسلامي؛ لأن إلزام الواعد يؤدي إلى قيام الزوجية في ظل الإكراه.
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني
(1) المراجع السابقة
(2)
أصول الالتزام للدكتور الذنون ص68
(3)
الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ الزرقا 1/346 هامش
مراجع البحث
بعد القرآن الكريم
1-
أحكام القرآن لأحمد بن علي الرازي الجصاص نشر دار الكتاب العربي، بيروت.
2-
إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي، المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.
3-
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
4-
جامع البيان للطبرسي، شركة المعارف الإسلامية.
5-
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، نشر دار الكتاب العربي بالقاهرة.
6-
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، نشر دار العلوم الحديثة بيروت ودار الشرق الجديد – بغداد.
7-
الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأخيار النووي، الطبعة الرابعة.
8-
صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر – بيروت.
9-
عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني، إدارة الطباعة المنيرية.
10-
فتح الباري بشرح البخاري للعسقلاني: راجعت الجزء الأول في طبعة دار المعرفة- بيروت والجزء السادس في طبعة البابي الحلبي.
11-
فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش، الطبعة الأخيرة 1378هـ 1958م.
12-
الفروق لأبي العباس الصنهاجي القرافي مع حاشية قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط مع تهذيب الفروق لمحمد بن الشيخ حسين.
13-
الفقه الإٍسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى الزرقا، الطبعة الثالثة.
14-
المحلى لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المكتب التجاري، بيروت.
15-
من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: لعلي بن سلطان محمد القاري، نشر المكتبة الإسلامية.
16-
الموطأ للإمام مالك بهامش كتاب المنتقى للباجي، الطبعة الأولى.
مراجع قانونية
17-
أصول الالتزام للدكتور حسن علي الذنون، مطبعة المعارف.
18-
الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى الزرقا، ط3.
19-
نظرية العقد للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري.
20-
الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري.
21-
الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم.