الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيجار المنتهي بالتمليك
إعداد
الدكتور حسن علي الشاذلي
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن
كلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين.
أولًا – تقديم
لقد منَّ الله تعالى على الأمة الإسلامية بأفضال كثيرة ومنح عظيمة، فقد مَنَّ عليها بنعمة التوحيد
…
ومنَّ عليها برسالة محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وسيد ولد آدم أجمعين
…
ومنَّ عليها بشريعته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لأنها تنزيل من حكيم حميد
…
ومنَّ عليها بأن جعل شريعته محيطة وشاملة لكل ما يسعد خلق الله أجمعين
…
قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، [سورة الأنعام: الآية 38] .
وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، [سورة النحل: الآية 89] .
ومنَّ عليها بأن نظم لها أمور دينها وأمور دنياها، بأن شرع لها ما يصلح عقيدتها، وما ينمي ويرقق أخلاقها، وما ينظم مسيرة حياتها بإرساء الأحكام العقائدية والأخلاقية والعلمية (الفقهية) .
ومنَّ عليها بأن حدد لها المرجع الذي ترجع إليه في استقاء هذه الأحكام ومعرفتها
…
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، [سورة النساء: الآية 59] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي)) .
ومنَّ عليها بأن جعل هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين، وأنها تحكم أمور الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومنَّ عليها بأن فتح باب الاجتهاد لعلماء هذه الأمة وصفوتها الذين وهبوا أنفسهم ووجهوا عقولهم وأفكارهم إلى خدمة هذه الشريعة والامتثال لأوامرها فتسلحوا بالإيمان، وعرفوا حقه، وتسلحوا بمعرفة ما في كتاب الله تعالى، وما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانبثقت عن هذه المعرفة اجتهاداتهم التي غمرت أمة الإسلام منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم حتى الآن، ما قصر عهد من عهودها، ولا نكص عالم من علمائها، وما أغلق باب للرحمة فتحه الله تعالى، وطبقه رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار على هديه صحابته من بعده رضوان الله عليهم، ثم تابعوهم وأتباع تابعيهم
…
وهكذا إلى يومنا هذا
…
ومنَّ عليها بأن ظلت رايات الاجتهاد مرفوعة، والقواد الأعلام المجتهدون يتلقفونها جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر بأمانة وإخلاص، وحكمة وروية، ونظر ثاقب وشمول واعٍ
…
فما من عصر إلا وتناديك أعلامه، وما من جيل إلا وتهتف بك أقلامه وكتبه وآثاره
…
وما من معرفة في شرع الله تعالى إلا وذخرت تحت ظل إيمانهم العميق وأينعت تحت ظل فهمهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
…
وصدق الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، [الآية 9 من سورة الحجر] .
ومنَّ عليها بأن جعل عوادي الزمن، وضربات الأعداء، وكيد الكافرين يرتد مندحرًا ويتحطم موليا على صخرة الإيمان بالله تعالى والعمل بكتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فشلت كل غايات الغزاة، واندحرت كل غارات الأعداء على مر التاريخ، وظل الإسلام-دين الحق- دين الدنيا ودين الآخرة يمتد بنوره المبين، وعقيدته الحقة الخالصة وشريعته السمحه الشاملة المستوعبة.
ومنَّ الله عليها بأن جعل من أبنائها، ورجالاتها من يضيئون الطريق دائمًا وسط ما قد يكون من ظلام حل بجانب من جوانب الأمور، وغطى بعض التصرفات في حقل من الحقول، فكان منهم من ثابر على إزاحة كل ظل دخيل على عقيدة الإسلام وشريعته، وإزالة كل تصرف لا ينبع من معين الإسلام الصافي، ولا يمتد نسبه إلى أصول هذا الدين الحنيف، في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة. وفي كل بلد من بلاده وفي كل عصر من عصوره.
ومنَّ عليها بأن جعل أمة الإسلام تبحث دائمًا وأبدًا عما يحل ويحرم، وتبحث دائمًا وأبدًا عن حكم الإسلام في كل أمورها، من خلال الإطار الذي قدمه الإسلام، وطبقًا للمنهج الذي وضعه وأقره، مؤمنة بأن ما حرم فالمصلحة في تحريمه لكل الناس، وما أحل فالمصلحة في حله لكل الخلق، وما تشابه وأشكل فالمصلحة أيضًا في تركه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما – صحيح مسلم، واللفظ له. (5/ 50-51) 596، المختصر.
ومنَّ عليها بهذه الصحوة الشاملة بعد الغفوة العارضة، والتي كان من ثمراتها تدفق المؤتمرات والندوات بغية البحث والدراسة، والتنقيب والاهتداء إلى الحكم الشرعي في أمورها الاقتصادية، ومعاملاتها المالية
…
ومن هذه المؤتمرات مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الذي عقد عدة موضوعات يحتاج المجتمع الإسلامي إلى بيان موقف الفقه الإسلامي من التعامل بها وهي غاية كريمة، وهدف كبير، ومبادرة مأجورة بإذن الله تعالى وتوفيقه.
ولئن كان لنا من جهد نقدمه في هذا البحث (الإيجار المنتهي بالتمليك) فهو جهد المقل، وهو محاولة نرجو الله تعالى أن تكون مصحوبة بالاهتداء إلى الصواب، ومقرونة بالتوفيق إلى ما فيه رضا الله تعالى، ومشمولة بالعفو والمغفرة منه عز شأنه إذا جانبنا الصواب.
ثانيًا_ موضوع البحث
(التأجير المنتهي بالتمليك والصور المشروعة فيه) .
دراسة لإحدى وسائل التمويل المتاحة عن طريق تمليك المنفعة، ثم تمليك العين نفسها في آخر المدة، وشرعية ذلك. وحل ما هناك من تداخل بين طبيعة عقدي الإجارة، ثم البيع والوسيلة الصحيحة للارتباط بين هذين العقدين.
وهو موضوع دقيق تناوله فقهاء القانون – منذ عرفت صيغة (البيع الإيجاري) سنة 1846م حتى الآن- بالدراسة والبحث، وتناولوا صوره مبينين آراءهم في تكييف هذا العقد على ضوء ما اتفق عليه أطراف التعاقد، وما احتوته صيغته من شروط، وما أحاط به من قرائن.
ونجد لزامًا على الباحث في هذا الموضوع أن يعرض صور هذا التعاقد التي توافرت لديه حتى الآن، ومن واقع ما عرضه رجال القانون الوضعي عند شرحهم لأحكام البيوع الائتمانية، وما نصت عليه القوانين الوضعية في هذا الشأن بإيجاز بالغ، تمهيد لتناول الموضوع على ضوء أحكام الفقه الإسلامي، وقواعده
…
صور (الإيجار المنتهي بالتمليك) في الفقه الوضعي:
(أ) للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور تدور حول ما اتفق عليه المتعاقدان، وما أراداه بهذا التعاقد، من إجارة أو بيع، أو إجارة ووعد بالبيع، وما حدداه أجرة في الإجارة، وثمنًا في البيع
…
والوقت الذي تنتقل فيه الملكية
…
ونأخذ هذه الصورة من واقع ما تناوله فقهاء القانون (1) .
ونوضح فيما يلي بعض هذه الصور:
الصورة الأولى: أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة ينتهي بتمليك الشيء المؤجر- إذا رغب المستأجر في ذلك- مقابل ثمن يتمثل في المبالغ التي دفعت فعلًا كأقساط إيجار لهذا الشيء المؤجر خلال المدة المحددة، ويصبح المستأجر مالكًا (أي مشتريا) للشيء المؤجر تلقائيًّا بمجرد سداد القسط الأخير، دون حاجة إلى إبرام عقد جديد.
ويمكن أن نتصور صياغة هذا العقد على الوضع التالي:
أجرتك هذه السلعة بأجرة في كل شهر –أو عام- هي كذا لمدة خمس سنوات مثلًا، على أنك إذ وفيت بهذه الأقساط جميعها في السنوات الخمس كان الشيء المؤجر ملك لك مقابل ما دفعته من أقساط الأجرة في هذه السنوات – وقال الآخر: قبلت.
(1) وقد تناوله فقهاء القانون تحت مسميات (الإيجار الساتر للبيع) أو (البيع الإيجاري) أو (الإيجار المملك) وهي ترجمة الاصطلاح الفرنسي (Locatio-Verte) لهذا النوع من التعاقد أو الإيجار المقترن بوعد بالبيع في بعض صوره، وذلك عند شرحهم لما نص عليه بشأن هذا التعاقد في القانون: المدني المصري م430، والمدني السوري م398، والليبي م419، والعراقي 534، والكويتي المادة 140 من قانون التجارة، أما الأردني فالمادة 487 لم تصرح بحكم البيع الإيجاري
…
المراجع القانونية: 1- البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل، وقد أفاض في تحليل صور هذا التعاقد (مطبوعات جامعة الكويت سنة 1984م) ص303. 2- الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرازق أحمد السنهوري، (المجلد الأول) البيع 4/177، مطابع دار النشر للجامعات المصرية. 3- شرح عقد البيع للدكتور سليمان مرقس ص80، الناشر عالم الكتب سنة 1980م. 4- شرح أحكام عقد البيع للدكتور محمد لبيب شنب والدكتور مجدي صبحي ص16، دار النهضة العربية. 5- عقد البيع للدكتور عبد العزيز عامر ص11، الناشر دار النهضة العربية. - شرح العقود المدنية البيع والمقايضة للدكتور جميل الشرقاوي ص19، الناشر دار النهضة العربية. - شرح عقد الإيجار للدكتور سليمان مرقس ص 74، طبعة سنة 1984م.
الصورة الثانية: (أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة في مقابل أجرة محددة في مدة محددة للإجارة على أن يكون للمستأجر الحق في تملك العين المؤجرة في نهاية مدة الإجارة مقابل دفع مبلغ هو كذا.
ويمكن أن نتصور صيغة هذا العقد على النحو التالي:
(أجرتك هذه السلعة لمدة كذا بأجرة هي كذا –على أنك إذا وفيت بسداد هذه الأقساط خلال هذه المدة بعتك هذه السلعة –إذا رغبت في ذلك بثمن هو كذا، ويقول الآخر: قبلت".
وهذه الصورة يمكن تفريغها إلى صورتين: إحداهما يكون الثمن فيها المحدد لبيع السلعة ثمنًا رمزيًّا، والثانية: يكون ثمنًا حقيقيًّا.
الصورة الثالثة: أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة طبقًا للصورة الثانية إلا أنه في نهاية مدة الإجارة يكون للمستأجر الحق في ثلاثة أمور:
الأول: تملك هذه الأعيان المؤجرة مقابل ثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق له دفعها كأقساط إيجار، وهذا الثمن محدد عند بداية التعاقد، أو بأسعار السوق عند نهاية العقد.
الثاني: مد مدة الإجارة لفترة –أو لفترات- أخرى.
الثالث: إعادة الأعيان المؤجرة إلى المؤسسة المالكة والمؤجرة لها.
وهذا النوع من التعاقد هو تطور حديث الإيجار المنتهي بالتمليك، وهو ما يسمى بعقد (الليزنج Leasing) أو (عقد تمويل المشروعات) ومن خلاله يمكن أن يوكل المصرف العميل في شراء هذه السلعة من الجهة المسجلة لها طبقًا للمواصفات المتفق عليها – كمًّا وكيفًا وسعرًا. (1)
(ب) التحليل والدراسة لما يؤدي إليه (الإيجار المنتهي بالتمليك) من خلال هذه الصور:
إن المتتبع لهذا النوع من التعاقد – من واقع صوره التي تناولها فقهاء القانون الوضعي - يجد أنه أمام عدة أمور يجب أن نبينها، ثم نتبعها ببيان أحكامها في الفقه الإسلامي.
أولها: أن السلعة التي يجري بشأنها هذا الاتفاق هل هي موجودة في ملك المصرف (أي المؤجر أو البائع) وقت إبرام هذا العقد، أو ليست ملكه؟ بل إنه سيشتريها فيما بعد، ثم تتتابع أحكام هذا الاتفاق وآثاره، حينئذ يكون قد باع أو أجّر شيئًا غير مملوك له وقت إبرام العقد.
الثاني: أن هذه السلعة إذا كانت مملوكة للبائع أو المؤجر هل قبضها ممن اشتراها منه أو لم يقبضها؟.
(1) البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور أبو الليل – مرجع سابق.
الثالث: أن العقد الذي يجريه المتعاقدان (عقد إجارة) في بدايته، يتفقان على أنه في نهايته –أي في نهاية المدة التي حددها الطرفان نهاية لعقد الإجارة –يصبح عقد بيع (أي عقد تمليك للعين مع منفعتها) أي أنه بدأ بتمليك المنفعة بعوض (روعي في تقديره ما يؤول إليه هذا العقد) ثم انتهى بتمليك العين ومنفعتها
…
كما رأينا في بعض الصور المتقدمة.
الرابع: أن تمليك العين ومنفعتها (في نهاية مدة الإجارة المحددة) في صور هذا العقد هي عقد بيع –حدد للشيء المبيع فيه ثمنا معينا، وجاء ذلك على عدة صور:
الصورة الأولى: أن يكون ثمن المبيع هو الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال المدة المحددة للإجارة، دون أن يدفع المستأجر (المشتري) شيئًا آخر، وتنتقل الملكية تلقائيًّا بسداد آخر قسط من هذه الأقساط.
وبناءً على هذا يكون ثمن الشيء المبيع دفع مقدمًا على أقساط هي هذه الأقساط الإيجارية المتفق عليها
…
وفي الصورة الثانية: يحدد الطرفان في هذا الاتفاق ثمنًا رمزيًّا للشيء المؤجر يدفعه المستأجر في نهاية المدة المتفق على أنها مدة الإجارة، فإذا دفعه كان الشيء المؤجر ملكًا له.
وإنما كان هذا الثمن رمزيًّا، لأنه روعي عند الاتفاق على الأقساط الإيجارية أنها تعادل في مجموعها ثمن السلعة الحقيقي مع ما أضيف إليه من ربح
…
وإنما وضع هذا الثمن الرمزي بغية تحقيق هدفين:
أولهما: إظهار الاتفاق بأنه في البداية كان عقد إجارة. ثانيهما: أنه في النهاية عقد بيع، ولما كان لكل عقد خصائصه وأحكامه وآثاره، وهما يريدانه في صورة إجارة في أول الأمر ضمان لحقوق المؤجر التي يريدها من وراء شراء هذه السلعة لمصلحة المستأجر .... ويريدانها بيع في نهاية الأمر، لأن المستأجر يكون في حاجة إليها، وأن المؤجر استوفى حقه وتحقق مقصده، إذ ليس هدفه اقتناء هذه السلعة، وإنما هدفه تنمية أمواله بصورة تضمن له حقوقه
…
ولا شك أن هذه الصورة في ظاهرها – عقد إجارة ابتداء، وعقد بيع انتهاء – أي أن هذا الاتفاق احتوى على عقدين: (عقد ناجز هو عقد الإجارة –اقترن به شرط فاسخ يبدأ بعده عقد البيع. وعقد معلق على شرط، وهو عقد البيع
…
وإنما كان معلقًا على شرط، لأن التصور لهذه الصورة هو أن يقول:
(أجرتك هذه السلعة بأجره هي كذا، ولمدة هي كذا، على أنك إذا سددت هذه الأقساط الإيجارية حتى نهاية المدة (المحددة) بعتك هذه السلعة بثمن هو كذا، وهو المبلغ الرمزي الذي سبق الإشارة إليه) . (1)
وهذا الأمر يستدعي نظره في الفقه الإسلامي البحث عن حكم تعليق عقد البيع على شرط.
(1) وهذا البيع لا يعتبر عقدًا مضافًا، لأن الإضافة إلى زمن معين اقترن بها هنا استمراره في السداد أو عدم استمراره في هذه المدة فإن استمر في السداد حتى نهاية المدة باعه، وإن لم يستمر
…
لم يبعه، ومن ثم فهو تعليق على شرط، وليس إضافة إلى أجل.
وفي الصورة الثالثة: يحدد الطرفان في هذا الاتفاق ثمنًا حقيقيًّا لهذه السلعة المؤجرة، إذا دفعه المستأجر في نهاية المدة المتفق على أنها مدة الإجارة كان الشيء المؤجر ملك له.
وهذه الصورة تجمع أيضًا بين عقدين:
1-
عقد إجارة، وهو عقد ناجز – اقترن به شرط فاسخ يبدأ بعده عقد البيع.
2-
عقد بيع، وهو عقد معلق على شرط –كما سبق إيضاحه-.
ولكنها تختلف عن الصورة السابقة (الثانية) في أن الثمن المحدد للشيء المبيع (والذي كان مؤجرًا) يعادل قيمة الثمن الحقيقي لهذه السلعة، بعكس الصورة السابقة، إذ هو ثمن رمزي، وقد أثر بدوره على الأقساط الإيجارية إذ جعلها مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا عن أجرة المثل
…
وفي هذه الصورة فإن عقد الإجارة المتفق عليه تطبق أحكامه على الفترة المحددة للإجارة، وبنهايتها يصبح الشيء المؤجر مبيعًا إذا ما دفع ثمنه المحدد له
…
بناء على هذا الاتفاق
…
وما قلناه آنفًا من أن تعليق عقد البيع على شرط يحتاج إلى بحثه في الفقه الإسلامي لمعرفة جوازه أو عدم جوازه نقوله هنا بجانب ما يحتاجه الأمر من إيضاح.
وفي الصورة الرابعة: قد يتم الاتفاق على إجارة السلعة، مع وعد بالبيع في نهاية المدة إذا تم السداد حتى نهاية المدة: سواء كان ذلك في مقابل مبلغ يدفعه بعد انتهاء عقد الإجارة –رمزيًّا أو حقيقيًّا- وسداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال هذه المدة، أو كانت هذه الأقساط الإيجارية هي ثمن السلعة ولم يتفق على دفع شيء آخر، لا رمزيًّا ولا حقيقيًّا.
وفي هذه الصورة يكون الوعد ناشئًا من الصيغة نفسها
…
بأن وعده بالبيع في نهاية المدة، والآخر قبل هذا الوعد، أو بأن وعده بالبيع في نهاية المدة – بوعد منفرد لم يقترن بوعد من الطرف الآخر بالشراء.
وبناءً على ذلك تكون الإجارة منعقدة فورًا، وأما الوعد بالبيع فيبحث هل هو ملزم أو غير ملزم في الفقه الإسلامي؟
وهذه الصور جميعها تستدعي أن نتناولها بالحث والدراسة في الفقه الإسلامي على النهج التالي:
1-
بيان حكم بيع ما ليس مملوكًا للبائع وقت البيع.
2-
بيان حكم بيع الشيء قبل قبضه.
3-
بيان حكم اشتراط عقد في عقد.
4-
بيان حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقد من عقود المعاوضات المالية.
5-
تكييف عقد (الإيجار المنتهي بالتمليك) في الفقه الإسلامي.
الصورة الأولى: إجارة تنتهي بالتمليك دون دفع ثمن سوى الأقساط الإيجارية.
الصورة الثانية: (اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن رمزي) .
حكم تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط.
الصورة الثالثة: اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن حقيقي.
الصورة الرابعة: اقتران الإجارة بوعد بالبيع.
الوعد وأثره في الفقه الإسلامي.
الوعد من الجانبين (المؤجر والمستأجر) .
الوعد من المالك (المؤجر) فقط.
الوعد من المستأجر فقط.
الصورة الخامسة: اقتران الإجارة بوعد البيع، أو مد مدة الإجارة، أو انتهاء الإجارة ورد العين المستأجرة إلى المالك في نهاية مدة الإجارة.
وفيما يلي نتائج هذه الدراسة:
المبحث الأول
حكم بيع شيئ غير مملوك لبائعه وقت التعاقد
إذا كان عقد البيع أو الإجارة الذي عقد بين المصرف والعميل قد ورد على عين غير مملوكة للمصرف وقت التعاقد، فإنه يكون حينئذ بيعًا أو إجارة لسلعة غير مملوكة للبائع أو للمؤجر
…
وذلك لأن المصرف حينما يتفق مع العميل على هذه الإجارة المنتهية بالتمليك قد لا تكون السلعة مملوكة للمصرف، فإذا كانت السلعة أو العين سيتم شراؤها بعد هذا الاتفاق، ثم بعد ذلك تبدأ الإجارة أو البيع، فحين انعقاد عقد البيع أو الإجارة لا تكون هناك سلعة مملوكة له تباع أو تؤجر.
وبيع شيء غير مملوك للبائع وقت التعاقد لا يصح، وكذا إجارته
…
لأن من شروط صحة البيع وجود المبيع في ملك البائع وقت البيع، ومن شروط صحة الإجارة وجود العين المؤجرة في ملك المؤجر أيضًا وقت الإجارة
…
وذلك استناد إلى الأحاديث الصحيحة
…
فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام: ((نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخَّص في السلم)) . (1) .
وروي عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال:((لا تبع ما ليس عندك)) (2) ،رواه الخمسة (أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه)، قال الصنعاني:(فدل على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه) .
(1) السلم: هو بيع آجل موصوف في الذمة بعاجل، وقد رخص فيه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:(من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم) رواه الجماعة، وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد
…
يراجع (باب السلم) في كتب الفقه وكتب الحديث
…
(2)
قال الترمذي: حديث حسن صحيح
وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده – عن أبي داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك)) (1) ، أي ما ليس ملكك وقدرتك.
جاء في نيل الأوطار: 5 /155، في شرحه لـ ((لا تبع ما ليس عندك)) : قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيع الأعيان التي لا يملكها. أما بيع موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه، فلو باع شيئًا موصوفًا في ذمته عام الوجود عن المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودًا في ملكه حالة العقد كالسلم.
قال: وفي معنى ((ما ليس عندك)) في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله
…
ثم قال الشوكاني: (وظاهر النهي تحريم بيع ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلًا تحت مقدرته، وقد استثنى من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض) .
وقال الصنعاني في سبله: 2/334، دل حديث حكيم بن حزام على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه –كما ذكرنا آنفًا-.
النتيجة:
ومن هذا يتبين لنا أنه لا يصح أن يبيع الإنسان شيئًا لا يدخل في ملكه وقدرته وقت التعاقد. وهذا يوضح لنا أنه إذا باع المصرف شيئًا للعميل، وكان هذا الشيء غير داخل في ملك المصرف، أو غير مملوك له، كان بيعه غير صحيح استنادًا إلى هذه الأحاديث الصحيحة، وهذا الحكم متفق عليه، واستثنى السلم إذا توافرت شروط صحته، والموضوع الذي معنا ليس من السلم
…
وكذلك لا يجوز إجارة عين غير مملوكة للمؤجر، وذلك لأن الإجارة تمليك لمنافع العين بعوض، وهذا التمليك يستدعي أن تكون العين مملوكة لمن يملك منفعتها بعوض، فإذا كان مالك لها صح تأجيرها، أي بيع منفعتها، وإلا لم يصح له تأجيرها، فحكمها حكم البيع (2) .
(1) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه الحاكم في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة، عن عمرو المذكور بلفظ: نهي عن بيع وشرط، ومن هذا الوجه الذي أخرجه الحاكم، أخرجه الطبراني في الأوسط وهو غريب. وقد رواه جماعة واستغربه النووي. سبل السلام: 2/334.
(2)
الحنفية: (قال شمس الأئمة السرخسي إنما يشترط الملك والوجود للقدرة على التسليم، وهذا لا يتحقق في المنافع، لأنها عرض لا تبقى زمانين، فلا معنى للاشتراط، فأقمنا العين المنتفع بها مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليترتب القبول على الإيجاب
…
، ويبدأ بتسليم المعقود عليه ليتمكن من الانتفاع
…
) الاختيار: 1/222. الشافعية: جاء في مغني المحتاج: 2/222: (ويشترط في المنفعة كون المؤجر قادرًا على تسليمها حسًّا أو شرعًا ليتمكن المستأجر منها، والقدرة على التسليم تشمل ملك الأصل، وملك المنفعة) . الحنابلة: جاء في كشاف القناع: 2 /11 في شروط صحة عقد البيع الشرط الرابع أن يكون المبيع مملوكًا لبائعه –وقت التعاقد، وكذا الثمن- ملكًا تامًّا لقوله عليه السلام، لحكيم بن حزام:(لاتبع ما ليس عندك) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. أو مأذونًا له في بيعه وقت إيجاب وقبول
…
(ولا يصح بيع شيء معين لا يملكه ليشتريه ويسلمه، لحديث حكيم السابق، بل يصح بيع موصوف مما يكفي في السلم غير معين، ولو لم يجد في مثله بشرط قبضه – أي الموصوف، أو قبض ثمنه – في مجلس العقد، وإلا لم يصح لأنه بيع الدين بالدين. والشرط الخامس أن يكون المبيع ومثله الثمن مقدورًا على تسليمه حال العقد، لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه، فكذا ما أشبهه. الزيدية: جاء في شرح الأزهار: 3/247:) وحقيقة أجرة المنافع: عقد على تحصيل منفعة معلومة في عين موجودة معلومة بأجرة معلومة
…
فمن شروط صحتها تعيين العين المؤجرة كالمبيع
…
وكون المؤجر مالكًا للشيء المؤجر أو وليًّا من قبل المالك له) . الإمامية: جاء في المختصر النافع: ص176: (ويشترط لصحة الإجارة
…
وأن تكون المنفعة مملوكة للمؤجر، أو لمن يؤجر عنه
…
) .
المبحث الثاني
حكم بيع الشيء قبل قبضه
اختلف العلماء في حكم بيع الشيء قبل قبضه إلى عدة آراء، نظرًا لأن الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الشيء قبل قبضه بعضها أطلق الحكم في كل مبيع، وبعضها صرح بالطعام، وبعضها بالمكيل والموزون
…
وأرى أن أورد بعضًا من هذه الأحاديث، ثم أتبعها ببيان رأي الفقهاء، ثم الترجيح فالنتيجة
…
أول- الأحاديث التي وردت في هذا الموضوع:
(أ) الأحاديث التي ورد فيها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه جزافًا أو غير جزاف:
1-
روي عن جابر، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه)) رواه أحمد ومسلم.
2-
وروي عن أبي هريرة أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشترى الطعام، ثم يباع حتى يستوفى)) رواه أحمد ومسلم، ولمسلم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يكتاله)) .
3-
وروي عن ابن عمر، قال:((كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه)) رواه الجماعة (البخاري ومسلم وأحمد، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه) ، وفي لفظ في الصحيحين (البخاري ومسلم)((حتى يحولوه)) .
4-
وللجماعة إلا الترمذي: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) .
5-
ولأحمد: ((من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه)) .
6-
ولأبي داود والنسائي: ((نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه)) .
7-
وروي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . قال ابن عباس: ((ولا أحسب كل شيء إلا مثله)) رواه الجماعة إلا الترمذي.
8-
وفي لفظ الصحيحين: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) .
(ب) الأحاديث التي عمت جميع السلع:
9-
روي عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله: إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها، وما يحرم عليَّ؟ قال:((إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه)) . رواه أحمد.
10-
وعن زيد بن ثابت، أن النبي صلى الله عليه وسلم:((نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) رواه أبو داود والدارقطني.
ثانيا: وعلى ضوء ما نصت عليه هذه الأحاديث يمكننا أن نعرض آراء الفقهاء في بيع الشيء قبل قبضه:
- إذا كان سلعة مطلقًا.
- إذا كان طعامًا مطلقًا.
- إذا كان طعامًا مكيلًا أو موزونًا.
- إذا كان مكيلًا أو موزونًا –أو معدودًا- طعامًا أو غيره.
- إذا كان منقولًا، أو عقارًا.
- إذا كان جزافًا (أي لا يعلم قدره على التفصيل) .
الرأي الأول- القبض شرط في كل مبيع مطلقًا: وهو رأي الشافعية ومحمد بن الحسن من الحنفية، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، والأحاديث التي تؤيده، هي: حديث حكيم بن حزام (9) ، وحديث زيد بن ثابت (10) ، وحديث ابن عباس (7) ، وقد تقدم نص هذه الأحاديث.
وأيضًا فإن بيع الشيء قبل قبضه هو بيع ما لم يضمن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) ، وهذا مع باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على أن الشافعية يرون أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري
…
، كما أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا أو الغرر.
الرأي الثاني – القبض شرط في الطعام فقط، ربويًّا أو غير ربوي: وأدلته الأحاديث التي صرحت بالطعان (حديث جابر (1) ، وحديث أبي هريرة (2) ، وحديث ابن عمر (3) ، ورواياته (4، 5، 6) ، وحديث ابن عباس (7) .
وبناء على هذا الرأي يصح بيع كل سلعة –غير الطعام، ولو كانت عقارًا قبل قبضها.
الرأي الثالث – القبض شرط في الطعام الربوي فقط: وهو رأي مالك (المشهور عنه) ، أي الطعام الذي تتوافر فيه علة الربا، وهي:(الاقتيات والادخار) .
وبناء على هذا الرأي يصح بيع كل سلعة – غير الطعام الربوي- ولو كانت عقارًا قبل قبضها
…
الرأي الرابع- القبض شرط في الطعام المكيل والموزون، وأما ما لا يكال ولا يوزن منه فلا بأس ببيعه قبل قبضهن وكذا العقار. ويمكن أن يستدل لهذا الرأي بالأحاديث التي ورد فيها ذكر الطعام المكيل أو الموزون، وهي في روايات حديث عبد الله بن عمر (9، 10) ، وقد تقدم نصها.
وأن هؤلاء الفقهاء اتفقوا على أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن.
الرأي الخامس – القبض شرط في كل ما يكال ويوزن طعامًا أو غيره، وأما غير ذلك، فالقبض ليس شرطًا فيه: وهو قول أبي عبيد وإسحاق وأدلتهم هي أدلة الرأي الرابع، مع أعمال الأحاديث الواردة في عموم السلع ما كان طعامًا أو غيره.
الرأي السادس- القبض شرط في كل ما يكال وما يوزن، وكذا ما يعد (المعدود) ، وما يذرع- قياسًا على المكيل والموزون- طعامًا أو غيره، أي أنه يجري في المثليات وكذا المزروعات- لا في القيميات: وبه قال ابن حبيب من المالكية وعبد العزيز بن أبي سلمة، وربيعة، والحنابلة، فهؤلاء الفقهاء يتفقون مع أصحاب الرأي الخامس في المكيل والموزون، ويستدلون بأدلتهم إلا أنهم يقيسون على المكيل والموزون المعدود والمزروع.
(وكأنهم يعملون الأحاديث جميعها ما ورد منها في الطعام، وما ورد في كل شيء، وما ورد في المكيل والموزون، باعتبار أن الكيل أو الوزن قيد إطلاق الأحاديث التي عمت المكيل والموزون وغيرهما من القيميات، إلا أن المعدود والمزروع يأخذ حكم المكيل والموزون لأنهم جميع مثليات فما اختص به أحدهما من حكم يسري على الآخرين) .
الرأي السابع –القبض شرط فيما ينقل ويحول (المنقول)، وليس شرطًًا في كل ما لا يقل ولا يحول كالدور والعقار: وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف وذلك لأن ما لا ينقل ولا يحول القبض فيه عندهم بالتخلية.
فلا يجوز بيع المنقول قبل قبضه ويجوز بيع العقار قبل قبضه عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، لأن المبيع هو العرصة (1) ، وهي مأمونة الهلاك غالبًا، فلا يتعلق بها غرر الانفساخ، حتى لو كانت على شاطيء بحر، أو كان المبيع علوا لا يجوز بيعه قبل القبض، والمراد بالحديث النقلي، لأن القبض الحقيقي إنما يتصور فيه، وعملًا بدلائل الجواز
…
(1) جاء في كشاف القناع: 2/79 ولم يصح من المشتري تصرفه فيما اشتراه بكيل أو وزن أو عد أو زرع قبل قبضه، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه متفق عليه. وكان الطعام يومئذ مستعمل غالب فيما يكال ويوزن وقيس عليها المعدود والمزروع لاحتياجهما لحق توفية، ولا يصح التصرف فيه ببيع ولا إجارة ولا هبة ولو بلا عوض ولا رهن ولو بعد قبض ثمنه. جاء في مختار الصحاح: العرصة- بفتح العين وسكون الراء وفتح الصاد- بوزن الضربة – كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، والجمع العِراص-بكسر العين- والعَرَصَات بفتح العين والراء والصاد
الرأي الثامن –القبض ليس شرطًا في بيع أي شيء، سواء كان طعام أو غير طعام، مثليًّا أو غير مثلي، منقولًا أو عقارًا: وهو رأي عثمان البتي، وهو رأي مردود، لأن الأحاديث الصحيحة تنقض هذا الرأي، فهو رأي في مقابل النص (ولا اجتهاد مع نص) ، ولعله لم تبلغه هذه الأحاديث، وقد روي عن أبي حنيفة- ومثله جميع الفقهاء- وقوله:(ليس لأحد أن يقول برأيه مع نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله، أو إجماع الأمة) .
وقد ثبت النص، فلا محيص من الأخذ به.
بيع الجزاف: وقبل أن نبين الراجح من هذه الآراء نورد فيما يلي آراء الفقهاء فيما إذا بيع الشيء جزاف (وهو ما لم يعلم قدره على التفصيل) قبل قبضه:
يرى الإمام مالك، أنه يجوز بيع الطعام –إذا بيع جزافًا- قبل قبضه- وأما غير الجزاف فلا يجوز- وبه قال الأوزاعي وإسحاق.
واحتجوا بأن الجزاف يرى، فيكفي فيه التخلية، والاستقباض إنما يكون شرط في المكيل والموزون بدليل الأحاديث التي صرحت بذلك، ومنها حديث ابن عمر فيما رواه أحمد:(من اشترى طعام بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه)(وتقدم رقم9) .
وما رواه الدارقطني من حديث جابر ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري)) ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة، قال في الفتح بإسناد حسن.
قالوا وفي ذلك دليل على أن القبض إنما يكون شرطًا في المكيل والموزون دون الجزاف.
ويرى جمهور الفقهاء، أنه لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه جزافًا كان أو غيره وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
واحتجوا بما يأتي:
1-
إطلاق أحاديث الباب، والتي أوردناها فيما تقدم فلم تفصل في الحكم بين الجزاف وغيره.
2-
وخصوص حديث ابن عمر (سبق نصه تحت رقم3 من الأحاديث) وفيه (أنهم كانوا يتباعون جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه) .
3-
وحديث حكيم بن حزام (سبق تحت رقم9) ، لأنه يعم كل مبيع.
كما أجابوا عن الحديثين اللذين استدل بهما أصحاب الرأي الأول، وهما حديث ابن عمر، وحديث جابر بأن التنصيص على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلًا أو موزونًا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره.
نعم لو لم يوجد في الباب إلا الأحاديث التي فيها إطلاق لفظ الطعام لأمكن أن يقال: إنه يحمل المطلق على المقيد بالكيل والوزن، وأما بعد التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه، كما في حديث ابن عمر، فيتحتم المصير إلى أن حكم الطعام متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره.
الترجيح:
والراجح هو اشتراط قبض المبيع قبل بيعه- سواء كان – طعامًا أو غير طعام- مثليًّا أو قيميًّا، ربويًّا أو غير ربوي، منقولًا أو عقارًا.
وذلك لأن الأحاديث الواردة جاء بعضها عام في كل السلع مثل حديث حكيم بن حزام (رقم9 المتقدم) ، وحديث زيد بن ثابت (رقم10 المتقدم) ، وما صرحت به بعض الأحاديث من ذكر الطعام، لا يدل على نفي الحكم عما عدا الطعام، فهو بعض أفراد العام الوارد في الأحاديث الأخرى، فهو تقرير لنفس الحكم الثابت فيها، نص عليه عناية به، ولعل ذلك لأن أكثر البيوع تكون في هذا المجال
…
كذلك فإن التصريح بالمكيل والموزون لا يدل على نفي الحكم عما عداهما، فهو ذكر لبعض أفراد ما أفادته الأحاديث التي أثبتت أنه يشترط القبض في بيع ما اشتراه الإنسان
…
فهو ذكر لبعض أفراد العام، وذكر بعض أفراده في بعض الأحاديث لا ينفي الحكم عما عداه لأنه ثابت بالأحاديث التي أفادت عموم الحكم، وهو أنه يشترط قبض المبيع قبل بيعه.
وقد فهم هذا ابن عباس رضي الله عنه، فقال: بعد أن روي حديث: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، ولا أحسب كل شيء إلا مثله)) .
وأيضًا فإنه قد علل النهي عن بيع الشيء قبل قبضه بجانب ثبوت ذلك في الأحاديث بما أخرجه البخاري عن طاوس، قال: قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: (دراهم بدراهم، والطعام مرجأ) .
استفهم طاوس من ابن عباس عن سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض، وتأخر المبيع في يد البائع، فكأنه باع دراهم بدراهم.
ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس، أنه قال –لما سأله طاوس-:(ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ) ، وذلك لأنه إذا اشترى طعام بمائة دينار، ودفعها للبائع، ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين –مثلًا- فكأنه اشترى بذهبه ذهبًا أكثر منه.
يقول الشوكاني: وهذا التعليل أجود ما علل به، لأن الصحابة أعرف بما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرى الفقهاء أن هذا الحكم – الذي ورد في عقد البيع – يقاس عليه باقي عقود المعاوضات المالية الأخرى (البيوع والإجارات) ، وهو الرأي الذي أرجحه، لأن ضوابط هذه العقود وأسسها متوافقة- أو أنها في معنى البيع المنهي عنه فتأخذ حكمه.
كيفية قبض المبيع:
المبيع إما عقار أو منقول:
أما العقار- وما في حكمه وهو كل شيء يؤمن فيه الهلاك غالبًا، كما صرح الحنفية في تعليلهم له- وهو الأرض والنخل والضياع، والأبنية، وكذا السفن الكبيرة، كما صرح الشافعية ويمكن أن يقاس على ذلك ما في حكمها من الأموال التي يؤمن فيها الهلاك غالبًا، فإن العقار وما في حكمه اتفق الفقهاء على أن قبضه يكون بالتخلية بين البائع والمشتري بحيث يتمكن من الانتفاع به، والتصرف فيه.
وأما المنقول- وهو كل ما عدا العقار، وما في حكمه- مما ينقل ويحول- فقد اختلف في كيفية قبضه:
فيفرق بعض الفقهاء بين المكيل والموزون والمعدود والمزروع وبين غيرها من باقي المنقولات.
أما المكيل والموزون والمعدود، فقبضه يكون بكيله أو وزنه أو عد لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:((إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل)) رواه أحمد عن عثمان رضي الله عنه، وفي الصحيحين:((ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) ، ومثل المكيل والموزون، المعدود والمزروع لأنها مثليات وهو رأي الشافعية والحنابلة.
وأما غير المكيل والموزون والمعدود والمزروع فقبضه يكون حسبما يقضي به العرف - كما صرح المالكية والحنابلة (1) .
(1) كشاف القناع: 2 /83.
ويرى الحنفية والشافعية أن قبض المنقول مطلقًا تحويله من مكان إلى مكان، لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال:((كنا نشتري الطعام جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه)) وقيس بالطعام غيره، ويكفي في قبض الثوب ونحوه مما يتناول باليد التناول، فإن جرى البيع بموضع لا يختص بالبائع كفى نقله إلى حيز
…
كما صرح الشافعية – والحنابلة.
النتيجة:
من هذا المبحث يتضح لنا أنه إذا باع المشتري السلعة التي اشتراها قبل أن يقبضها –على الوجه الذي بيَّناه- كان البيع غير صحيح، لأنه بيع منهي عنه بصريح الأحاديث النبوية، ومثل البيع غيره من عقود المعاوضات المالية، ومنها الإجارة، فلو أنه أجَّر شيئًا اشتراه قبل أن يقبضه كانت إجارته غير صحيحة أيضًا.
وهذا النوع من التصرف المعروضة صورته إذا كان بيعًا أو إجارة لسلعة لم يتم شراؤها، أو تم شراؤها ولم يتم قبضها (1) على الوجه المتقدم كان غير صحيح، أما إذا كانت السلعة قد اشتراها المصرف وقبضها ثم باعها للعميل أو أجَّرها
…
فإن البيع أو الإجارة يكون صحيحًا ما لم يقترن بشرط يؤدي إلى عدم صحته أو يعلق على شرط غير صحيح
…
وهذا ما سنبحثه في الفقرات التالية.
(1) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت السلعة تحت يد (العميل) المشتري من (المصرف) البائع فإنها تكون في حكم المبيع الحاضر المقبوض
…
(الشوكاني كما ذكرنا آنفًا
…
) .
المبحث الثالث
حكم اشتراط عقد في عقد في الفقه الإسلامي
إذا كانت السلعة المتعاقد عليها مملوكة للمصرف (المؤجر أو البائع) ومقبوضة على الوجه الذي بيناه في المبحث السابق، فإن هذا الاتفاق الذي معنا، وهو (الإيجار المنتهي بالتمليك) قد يؤدي في بعض صوره إلى اجتماع عقدين في عقدن أو صفقتين في صفقة، ونظرًا إلى أن الفقهاء قد اختلفوا في صحة العقد الذي يؤدي إلى ذلك، فإننا نبين رأيهم، ثم نرجح ما نرى رجحانه:
حكم اشتراط عقد في عقد، أو اجتماع عقدين في عقد:
لقد اختلف الفقهاء في حكم اشتراط عقد في عقد اختلافًا كبيرًا، ومرجع هذا الاختلاف هو تفسير لبعض الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، أو التي يوحي ظاهرها بأنها واردة في بيان حكمه، وأورد فيما يلي بإيجاز خلاصة الرأيين:
أولًا: يرى جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والظاهرية والزيدية) عدم جواز اشتراط عقد في عقد، كما يرى المالكية (غير أشهب) والحنابلة ذلك إلا أنهم يجيزون اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة –أي اجتماعهما في عقد واحد.
ثانيًا: يرى أشهب من علماء المالكية، والإمامية جواز اشتراط عقد في عقد ما دام ذلك يحقق غرضًا مشروعًا وكذلك يرى ابن تيمية جواز اشتراط عقد جديد يتعلق بالمعقود عليه يحقق هذا الغرض.
كما يرى المالكية والشافعية والحنابلة، جواز اجتماع عقد البيع من عقد الإجارة لتوافق أحكام البيع مع أحكام الإجارة في الأركان والشروط غالب.
ونورد هنا بعض النصوص الفقهية في هذا:
(أ) جاء في (الشرح الكبير، للدسوقي 4/5) :
(ولا تفسد الإجارة مع بيع صفقة واحدة، ولا يفسد البيع أيضًا، لعدم منافاتهما، سواء كانت الإجازة في نفس المبيع كشرائه ثوبًا بدراهم معلومة – على أن يخيطه البائع- بعضها في مقابلة الثوب- وذلك بيع- وبعضها في مقابلة الخياطة- وذلك إجارة-، أو جلدًا على أن يخرزه نعالًا أو غيرها، أو في غير المبيع كشرائه ثوبًا بدراهم معلومة على أن ينسج له آخر، ويشترط في الصورة الأولى (وهي ما إذا كانت الإجارة في نفس المبيع) شروعه في العمل، كالخياطة والخرز، وضرب أجل الإجارة، ومعرفة خروجه (على أي وجه كان من كونه رديئًا أو جيدًا، بأن كان الرجل متقنًا في صنعته فيخرج جيدا، أولا فيخرج رديئًا) . عين عامله أم لا، أو إمكان إعادته (أي أو لم يعرف وجه خروجه لكن يمكن إعادته) كالنحاس على أن يصنعه قدحًا، فإن انتفى الأمران (أي معرفة وجه خروجه وإمكان إعادته إن لم يعجبه) كالزيتون على أن يعصره فلا يجوز، وأما إن كانت الإجارة في غير نفس المبيع فتجوز من غير شرط.
(ولا يجوز اجتماع عقد البيع مع عقد الشركة والصرف والجعل والنكاح والمساقاة والقراض، خلافًا لأشهب حيث قال بجواز اجتماع هذه العقود مع عقد البيع) . (الشرح الكبير: 4/5؛ والشرح الصغير: 2/235؛ والإتقان والأحكام، لابن ميارة الفاسي؛ شرح تحفة الأحكام لابن عاصم: 1/282 والبهجة شرح التحفه، لأبي الحسن التسولي: 2/10) .
(ب) ما جاء عند الشافعية حول اجتماع عقدين في عقد في صفقة واحدة:
أجاز الشافعية اجتماع عقدين مختلفي الحكم كالإجارة والبيع أو السلم هو صفقة واحدة جاء في (مغني المحتاج: 2/41) : (ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع، كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك ثوبي هذا بدينار، أو إجارة وسلم كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك صاع قمح في ذمتي سلمًا بكذا- صحا في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمتهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه.
- ووجه الاختلاف بين البيع والإجارة اشتراط قبض العوض في المجلس في السلم دونها.
- والرأي الثاني: يبطلان، لأنه قد يعرض لاختلاف حكمها باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ ما يقتضي فسخ أحدهما، فيحتاج إلى التوزيع، ويلزم الجهل عند العقد بما يخص كلًّا منهما من العوض، وذلك محذور.
- وأجاب الأول بأنه لا محذور في ذلك، ألا ترى أنه يجوز بيع ثوب وشفعة من دار في صفقة، وإن اختلفا في حكم الشفعة واحتيج إلى التوزيع بسببها.
- ويؤخذ مما مثل به أن محل الخلاف أن يكون العقدان لازمين، فلو جمع بين لازم وجائز كبيع وجعالة لم يصح قطعًا. كما ذكره الرافعي في المسابقة. أو كان العقدان جائزين كشركة وقراض صح قطع، لأن العقود الجائزة بابها واسع.
- وإنما قال مختلفي الحكم، ولم يقل عقدين مختلفي الحكم –كما عبر به في المحرر- ليشمل بيع عبدين بشرط الخيار في أحدهما أكثر من الآخر، فإنه على القولين مع أن الحكم مختلف والعقد واحد
…
) .
واضح من هذا النص الفقهي أن الشافعية يقولون أن اجتماع عقدين في صفقة واحدة، بشرط أن يكونا مختلفي الحكم كإجارة وبيع، أو إجارة وسلم.. يصحان في الأظهر ويوزع المسمى على قيمتها
…
فهل اجتماع عقد إجارة على عين مع عقد بيع على هذه العين الواحدة المؤجرة بعد انتهاء مدة الإجارة يصح قياسًا على ذلك، أم لا يصح لأن الصورة التي ذكرها المذهب هنا هي إجارة باتة ناجزة، وبيع بات ناجز ليس معلقًا على شرط أو مضافًا إلى أجل على محلين مختلفين، ومن ثم فلا يصح القياس على ذلك وهو رأي المذهب؛ لأن هذه العقود لا تقبل عندهم التعليق على شرط ولا الإضافة إلى أجل.
ولنا أن نقول: إن السلعة هنا مقبوضة في يد المستأجر- تحت ظل عقد الإجارة وملك المستأجر منفعتها- فإذا ما علق بيعها له على انتهاء عقد الإجارة كان مقتضى القول بصحة هذا البيع أن ينضم حق التصرف في هذه العين المؤجرة (المبيعة) إلى حق المنفعة التي ملكها المستأجر (المشتري) ، وبذلك يكون المعلق فيها –هو حق التصرف- لأن صيغة العقد واحدة جمعت بين إجارة وبيع- إجارة ملك بها أحد شقي الملكية، وبيع بعد الإجارة ملك به الشق الآخر
…
فلا يكون تعليقًا للعقد وإنما هو تعليق لحق التصرف إلى ما بعد انتهاء عقد الإجارة
…
والله أعلم. كما في حديث جابر وما صرح به الحنابلة في رأي لهم.
جاء في (الروض المربع: 2/169) : (أو جمع بين بيع وصرف، أو إجارة، أو خلع أو نكاح بعوض واحد صح البيع وما جمع إليه، ويقسط العوض على المبيع وما جمع إليه بالقيم، ومثله كشاف القناع: 2/29، ومنتهى الإرادات: ص17) .
(ج) وأجاز الإمامية اشتراط عقد في عقد:
وقد أوردوا عدة أمثلة لذلك فقالوا: إن الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافي مقتضى العقد، ولا يكون له تعلق بمصلحة المتعاقدين من حيث كونهما متعاقدين، (كاشتراط منفعة البائع كخياطة الثوب وصياغة الفضة، أو اشتراط عقد في عقد كأن يبيعه شيئًا بشرط أن يشتري منهن أو يبيعه شيئا آخر، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يقرضه، أو يستقرض منه، أو يؤجره، أو يستأجر منه، أو يشترط ما بنى على التغلب والسراية كشرط عتق العبد، فهذه الشروط كلها سائغة) .
ومنها أيضًا: (ما إذا باعه شيئًا بشرط أن يبيعه لفلان..) جاز ذلك. وهذا النوع من الشرط قالوا عنه:
(أ) أنه شرط لا يقتضيه العقد، لأنه لا يجب بنفس العقد، وليس مما رتبه الشارع على العقد.
(ب) وأنه شرط لا يتعلق بمصلحة المتعاقدين من حيث كونهما متعاقدين، فلا تعلق له بالعقد، ولا محل العقد - ثمنًا كان أو مثمنًا- وإنما هو اشتراط أمر خارج عن العقد، أو أحد العوضين.
(ج) وأنه شرط لا ينافي مقتضى العقد، لأنه لا تعارض بينه وبين ما يرتبه الشارع على العقد من أحكام وآثار.
(د) وأنه شرط لا يخالف الكتاب والسنة أي أنه (سائغ) .
(هـ) وأنه شرط مقدور عليه.
(و) وأنه شرط يقتضي حصول تصرف في المستقبل، كان هذا التصرف عملًا من الأعمال في محل العقد أو في غيره، أو كان عقدًا آخر.
(ز) وأنه شرط يحقق منفعة.
(ح) وأنه يصح لأي من المتعاقدين اشتراط هذا النوع من الشرط على الآخر.
النتيجة:
أرى أنه لا مانع من اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة سواء أكان العقدان واردين على محل واحد – كما هو الحال في الصور التي معنا- أو كانا واردين على محلين مختلفين، طالما توافرت أركان كل عقد منهما وشروط صحته.
وأما حديث (النهي عن بيعتين في بيعة) وعن (صفقتين في صفقة) ، فقد فسره بعض العلماء بأن المراد به (النهي عن إيجاب البيع في سلعة بثمنين مختلفين إلى أجلين..، أو إيجاب البيع في سلعتين بثمنين مختلفين، ثم يقبل الطرف الآخر، ثم يفترقان على هذا دون تحديد لثمن معين، وأجل معين، أو سلعة معينة)(1) . فهذان الحديثان يتعلقان بصيغة العقد، إذ إنه بهذه الصيغة لا ينعقد العقد، لأنه لم يحدد ثمن معين، وأجل معين عند قوله قبلت- أو سلعة معينة- لأن من شروط صحة الصيغة أن يصدر القبول على وفق الإيجاب، والإيجاب هنا ليس باتًّا في صفقة واحدة، وإنما هو متردد بين بيعتين، أو صفقتين
…
، فيلزم لصحة البيع أن يقول المشتري قبلت في كذا بكذا، وحينئذ يكون قبوله إيجابًا جديدًا يلزم لكي يتم البيع به أن يقول الآخر قبلت، وتكون الصيغة الأولى استدعاء للبيع وليست إيجابًا للبيع
…
(1) فسره بهذا سماك راوي الحديث، والشوكاني، والشافعي، وأبو عبيد بن القاسم والمالكية والحنابلة، والزيدية والإباضية في أحد التفسيرين. وأما التفسير الآخر للحديث عندهم فهو عام يشمل كل شرط يؤدي إلى اجتماع عقد في عقد، أو اجتماع عقد البيع مع عقد آخر، وقد رجحت في كتابي (الشروط في العقد) الرأي الأول ص499-548، إلا أني رجحت أنه لا يصح اجتماع سلف وبيع- لصحة الحديث الوارد في ذلك.
وإذا رجحنا صحة اشتراط عقد في عقد، فإنه من الضروري لصحة كل من هذين العقدين أن يكون كل عقد منهما مستوفيًا أركانه وشروط صحته.
سواء من حيث الصيغة الدالة على الرضا
…
أو من حيث أهلية المتعاقدين..
أو من حيث المعقود عليه – ثمنًا مثمنًا أو أجرة ومنفعة- وتحديدهما تحديدًا نافيا لكل جهالة أو غرر.
أو من حيث ما اقترن به من أوصاف- كالأجل- أو الشرط.
فإذا توافر ذلك كله بأن كان المؤجر أو المبيع مملوكًا مقبوضًا، وكان الاتفاق يقضي أو يؤدي إلى اجتماع عقدي الإجارة والبيع في عقد واحد، فإنا نقول بصحته إذا توافرت شروط صحة كل منهما، ولم يقترن بما يؤدي إلى بطلانه من شرط باطل، أو غرر
…
وهنا أيضًا يجب أن نبين حكم اشتراط بعض الشروط في هذا العقد، وحكم هذا العقد مع هذه الشروط صحيحها وفاسدها، إذ أن الفقه الإسلامي له رأي في الشروط التي تقترن بالعقد- حقيقتها – وعددها- وأثرها.
ونرى أن نوضح هذا الرأي في المبحث التالي:
المبحث الرابع
حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقود المعاوضات المالية
أوضحنا آنفًا أن هذا العقد قد تم على سلعة مملوكة مقبوضة للمصرف وهو عقد إجارة
…
اشترط فيه بعض الشروط مثل:
- أن يتحمل المستأجر لهذه السلعة نفقات الصيانة والحفظ والتأمين.
- وألا يتصرف المؤجر في هذه السلعة طوال مدة الإجارة المتفق عليها
…
بأي تصرف يضر بمصلحة المستأجر، أو يخرج السلعة من تحت يده.
- وأن يبيع المؤجر الشيء المؤجر إلى المستأجر إذا وفى بالأقساط المتفق عليها في المدة المحددة لهذه الإجارة..
- أو أن يجعل المؤجر للمستأجر الحق في أن يتملك الشيء المؤجر في مقابل ثمن معين، أو مد مدة الإجارة، أو ورد الشيء إلى المؤجر في نهاية مدة الإجارة. إذا رغب في ذلك.
كل هذه الشروط أو بعضها إذا اشترطت في عقد الإجارة - على القول بأن العقد هو عقد إجارة- هل يكون عقد الإجارة صحيحًا؟
وللإجابة على ذلك نوجز آراء الفقهاء في حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقد من عقود المعاوضات المالية:
(أ) حكم اقتران عقود المعاوضة بشرط واحد:
إن بيان آراء الفقهاء في حكم اشتراط شرط في عقود المعاوضات المالية لا يمكن أن تحتويه هذه العجالة التي نوضح فيها حكم الشروط المقترنة بعقد الإيجار المنتهي بالتمليك، ولكن يكفي أن ننص على أن الراجح في هذا هو:
أن الشرط الذي يقتضيه العقد- كاشتراط تسليك الشيء المؤجر أو المبيع- وتسليم الأجرة أو الثمن- أو الشرط الذي يؤكد مقتضاه- كاشتراط الرهن أو الكفيل أو الحوالة أو الشهادة - أو الشرط الذي يحقق منفعة لأي من المتعاقدين- كل ذلك يكون شرطًا صحيحًا يلزم الوفاء به..
أما الشروط التي تخالف الشرع فهي باطلة ولا تصح ومنها:
- كل شرط يناقض المقصود الأصلي من العقد- فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي هذا المقصود، فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق.
- وكل شرط يؤدي إلى مخالفة نص شرعي من كتاب أو سنة.
- وكل شرط مستحيل- أي يستحيل الوفاء به-.
وكل شرط يؤدي إلى محظور شرعي.
- وكل شرط يؤدي إلى غرر.
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.
فإذا عرضنا الشروط المشترطة في عقد الإجارة على ما رجحنا الأخذ به لتبين لنا أنها شروط لا تناقض المقصود الأصلي من عقد الإجارة - إذ المقصود الأصلي من هذا العقد هو انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة طوال فترة الإجارة المتفق عليها
…
، وليس في هذه الشروط ما يناقض ذلك.
إلا أنه إذا كانت الشروط تفرغ العقد من مضمونه الأصلي الذي شرع له، فإنها حينئذ تكون باطلة، كما سبق أن ذكرنا.
(ب) حكم اشتراط أكثر من شرط في عقود المعاوضات المالية:
1-
تناول الفقهاء بالبيان أيضًا حكم اشتراط شرطين في البيع، وذلك لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:((النهي عن شرطين في بيع)) وقد سبق نص الحديث، وهو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) (1) ، وهو حديث حسن صحيح وروي عن ابن عمر رضي الله عنه مثله (2) .
2-
آراء الفقهاء في مدلول (النهي عن شرطين في بيع) .
(1) رواه الخمسة وصححه الترمذي، وابن خزيمة والحاكم.
(2)
رواه الخمسة إلا ابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن صحيح
فسر الفقهاء هذا الحديث بتفسيرات ثلاثة:
التفسير الأول: وهو (التردد بين النقد والنسيئة في صيغة واحدة) :
كأن يقول بعتك بكذا نقدًا، وبكذا نسيئة- فيقبل الآخر- على الإبهام. أي لم يحدد أي الصفقتين قبل- نقل ابن الرفعة عن القاضي ذلك.
وهذا التفسير للحديث عليه جمهور من الفقهاء (الحنفية والمالكية والزيدية، والإباضية، والبغوي والخطابي..) .
وبناءً على هذا التفسير يكون هذا الحديث متفقًا في تفسيره مع تفسير حديث النهي عن بيعتين في بيعة، ويكون الحديثان بعيدين عن اشتراط شرط في العقد، وإنما يرجعان إلى صيغة العقد، وما احتوت عليه في إفادتها ودلالتها وتعبيرها عن الرضا بعقد معين، أو عدم إفادتها ذلك..، فهو أمر يتصل بالبحث في صيغة العقد وليس في الشروط المقترنة به.
التفسير الثاني: وهو اشتراط عقد في عقد:
كما لو قال: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني تلك السلعة بكذا، أو باعه هذه السلعة على أن يبيعه بالثمن أشياء أخرى:(ووجهه أن كلًّا من المتعاقدين يصبح طالبًا لسلعة الآخر، فكان كل منهما قد اشترط على الآخر بيعًا) .
وقد فسره بذلك الزيدية، والإباضية، وواضح أن هذا التفسير بعيد عن ظاهر الحديث، فإن هذا البيع قد اقترن بشرط واحد، وهو أن يبيعه كذا بكذا، وليس فيه شرطان، وإنما يوجد العقد، ويوجد شرط فيه، فالأول يطالب بمقتضى العقد، والثاني بمقتضى الشرط، فلا يوجد شرطان في العقد.
التفسير الثالث: اشتراط شرطين فاسدين في العقد:
صرح بهذا التفسير الحنابلة، والأرجح عندهم أن اشتراط شرطين فاسدين يبطل العقد، أما اشتراط شرطين صحيحين أو أكثر فإنه يصح ويصح العقد.
قال ابن قدامة (مسألة) قال: ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد، ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال: (الشرط الواحد لا بأس به، إنما نهى عن الشرطين في البيع، ذهب أحمد إلى ما روى عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك
…
)) قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: (إن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع، فنفض يده، وقال: الشرط الواحد لا بأس به في البيع، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على إباحة الشرط حين باعه جمله وشرط ظهره إلى المدينة.
تفسير الشرطين المنهي عنهما وحكم اشتراطهما- عند الحنابلة-:
اختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما- عند الحنابلة- نظرًا لاختلاف ما روي عن الإمام أحمد، والأرجح في المذهب أن الشرطين المنهي عنهما، هما الشرطان الفاسدان، أي ما كنا منافيين لمقتضى العقد. أما الشروط الصحيحة التي تكون من مقتضى العقد، أو من مصلحته، أو فيها منفعة ولا تخالف الشرع، فإن اشتراط شرطين أو أكثر منها صحيح لا يفسد العقد، لأنه لما كانت هذه الشروط لا تؤثر في صحة العقد وهي منفردة فيلزم ألا تؤثر فيه وهي مجتمعة.
وبناء على هذا التفسير يفسد العقد إذا اشترط فيه شرطان فاسدان، ولا يفسد إذا كان الشرطان صحيحين، ويكون الفرق بين اشتراط شرط فاسد واحد، واشتراط شرطين فاسدين هو عدم فساد العقد في الأول – مع فساد الشرط - وفساد العقد في الثاني.. مع شروطه.
أما الرأي المرجوح في مذهب الحنابلة فهو ما قاله القاضي في المحرر: (من أن ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل، سواء كانا صحيحين أو فاسدين، لمصلحة العقد، أو لغير مصلحته، أخذ من ظاهر الحديث وعملًا بعمومه) . إلا أن ابن قدامة رد عليه بقوله: (وقول القاضي أن النهي يبقي على عمومه في كل شرطين بعيد أيضًا، فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر فيه بغير خلاف، وشرط ما هو من مصلحة العقد كالأجل والخيار والرهن والضمين..، وشرط صفة في المبيع كالكتابة والصناعة، فيه مصلحة العقد فلا ينبغي أن تؤثر في بطلانه قلت أو كثرت، ولم يذكر أحمد في هذه المسألة شيئًا من هذا القسم، فالظاهر أنه غير مراد له) .
وبناءً على هذا التفسير لحديث النهي عن شرطين في بيع، يكون المراد بالشرطين المنهي عن اشتراطهما في البيع الشرطين الفاسدين فأكثر، فاشتراط مثل هذه الشروط يفسد العقد. أما الشروط الصحيحة- شرطًا واحدًا أو أكثر- فإنها تصح ويصح العقد معها.
وهذا ما أرجحه في تفسير حديث النهي عن شرطين في بيع (1) .
النتيجة:
وإذا قلنا بصحة اشتراط شرط أو أكثر في عقد الإجارة، أو غيره من عقود المعاوضات، فهل يمكن تحت ظل هذه الشروط وعلى ضوء ما تفصح عنه أن يكيف عقد الإجارة بأنه عقد بيع، أو العكس..، أو بعبارة أخرى: هل يمكن أن نكيف العقد طبقًا لما توحي به صيغته وما اقترن بها من شروط، وإن كان ما نطلق به المتعاقدان أو صرح به يدل على غير ذلك.
وهنا في (الإيجار المنتهي بالتمليك) يوجد صور لا يتأتى فيها اختلاف في التكييف، وهي صورة ما إذا كان للمبيع ثمن معقول في نهاية مدة عقد الإجارة، حدده المتعاقدان أو أحالاه إلى سعر السوق في هذا الوقت..
أما إذا لم يكن هناك ثمن سوى الأقساط الإيجارية التي تم دفعها خلال المدة المحددة للإجارة، فإنه يمكن النظر حينئذ في هذه الصورة، هل تكيف على أنها عقد بيع فيجب أن تتوافر فيه عند التعاقد أركانه وشروطه، أو تكيف على أنها عقد إجارة، اقترن به عقد هبة بالعين المؤجرة إذا تم سداد الأقساط الإيجارية، ونبحث ذلك فيما يلى..
(1) وقد تناولت وجه الترجيح بإفاضة في (نظرية الشرط)، للباحث: ص531.
المبحث الخامس
تكييف عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، في الفقه الإسلامي.
وبعد أن بيَّنا أنه يصح التعاقد على عين معينة مملوكة للمؤجر أو للبائع، مقبوضة، (على الوجه الذي رجحنا الأخذ به) وأنه لا مانع من أن يحتوي عقد واحد على عقدين من عقود المعاوضات المالية، وبخاصة البيع والإجارة، وأنه يجوز أن يقترن العقد بشرط أو أكثر يقتضيه العقد، أو يؤكد مقتضاه، أو يحقق مصلحة مشروعة لأي من المتعاقدين، ولا ينافي المقصود الأصلي من العقد، ولا يخالف نصًّا في الكتاب أو السنة ولا يؤدي إلى الوقوع في محظور، أو غرر، أو أن الشرط يكون أمرًا مستحيلًا.
يلزمنا أن نتوقف هنا لبيان التكييف الفقهي لصور عقد (الإيجار المنتهي بالتمليك) على ضوء ما وضع فيه من شروط ونتناول كل صورة على حدة، مع بيان حكمها في الفقه الإسلامي:
الصورة الأولى: وقد سبق بيانها:
وفيها تنتقل الملكية إلى المستأجر بمجرد سداد القسط الإيجاري الأخير- تلقائيًّا- ودون حاجة إلى إبرام عقد جديد- ودون ثمن، سوى ما فعه من المبالغ التي تم سدادها كأقساط إيجارية لهذه السلعة المؤجرة خلال المدة المحددة، والتي هي في الحقيقة ثمن هذه السلعة.
وفي هذه الصورة يتضح لنا:
- إنه وإن صيغ العقد على أنه إجارة في بدايته، وأنه بيع في نهايته وذلك للانتفاع بخصائص عقد الإجارة في المدة المحددة، ثم الانتفاع بخصائص عقد البيع في النهاية- إلا أن هذه الصياغة لا يمكن اعتمادها بهذه الصورة لأمور متعددة منها:
أن كل مبيع لا بُدَّ له من ثمن، وهنا لا يوجد ثمن وقت تمام البيع- أي في نهاية مدة الإجارة - إذ أن ما دفع كان أجرة.
إن الأجرة المقدرة لسلعة في المدة المحددة ليست أجرة المثل، بل روعي فيها أنها هي ثمن السلعة مع إضافة ما قد يكون من ربح متفق عليه.
إن إرادة المتعاقدين متجهة- دون ما شك- إلى بيع هذه السلعة وليس إجارتها، وقد دفع إلى ذلك خوف البائع (المؤجر) من عدم الحصول على ضمان السلعة إذا كان الثمن مؤجلًا أو منجمًا لأي سبب كان
…
لأن البيع يترتب عليه نقل الملكية إلى المشتري (المستأجر) حال، ورغبة المشتري- الذي لا توجد لديه إمكانات شرائها بالنقد- في الحصول على هذه السلعة والانتفاع بها، (أو عدم تجميد أمواله في سلعة واحدة كي يتمكن من تحريك أمواله في مجالات متعددة
…
) مع عدم حاجة البائع غالبًا إلى اقتناء هذه السلعة، إذ هو إنما يلبي حاجة المشتري (المستأجر) بالضوابط والقيود التي وضعاها والصياغة التي صاغها بها العقد.
أمام هذه الجوانب المتعددة لهذه الصورة كيفها فقهاء القانون بأنها بيع بالتقسيط، ولم يعتدوا بعقد الإجارة الذي صرح به العاقدان نظرًا للقرائن التي تظهر أنه عقد بيع، وإنما ظهر في صورة عقد إجارة في بدايته للانتفاع بخصائص العقدين كما بينا آنف.
تكييفها في الفقه الإسلامي
ونحن في رحاب الفقه الإسلامي هل يمكن أن نكيفها بذلك؟
للإجابة على ذلك نقول عن الذي يقف أمام هذا التكييف هو أن عقد الإجارة عقد صريح ناجز، لأن صيغته وهي (أجرت – واستأجرت) دالة على الإجارة قطعًا، وإن الشروط التي صاحبت هذا العقد واقترنت به يجب بحثها هل هي شروط صحيحة أو غير صحيحة؟ فإن كانت صحيحة وجب الوفاء بها، وإن لم تكن صحيحة بطلت (وبطل العقد أو فسد أو صح على الخلاف فيها وفي طبيعتها) ، وهذه الشروط لا يمكن أن يقال أنها حولت العقد من إجارة إلى بيع، لأنهما أراداه الآن إجارة، لا بيعًا، فكان القول بذلك عكس إرادتهما الظاهرة والمعلنة.
وأما تمليك الشيء المؤجر الذي علق على سداد جميع هذه الأقساط الإيجارية، فهل يمكن أن يكون بيعًا معلقًا والثمن فيه هو هذه الأقساط التي قام المستأجر بسدادها؟ أن الذي يحول دون ذلك هو أن هذه الأقساط دفعت على أنها أجرة للعين المؤجرة، فكيف تتحول إلى ثمن للعين المؤجرة في نهاية المدة.
والمعلوم أن الثمن يكون حالًا أو مؤجلًا عند تمام عقد البيع، وما أخذ هنا تحت ظل عقد الإجارة هو ثمن هذه المنفعة التي استوفاها المستأجر، فكان تكييفها في ظل العقد الذي أوجبها أنها أجرة، فتحويلها بعد ذلك إلى ثمن للعين المؤجرة بعقد لاحق لا يتمشى ولا يسير مع القواعد التي تحدد لكل عقد أحكامه وآثاره فور انعقاده صحيحًا منتجًا واجب الوفاء بما يقضي به، إذًا تكييف هذه الصورة بأنها عقد بيع بثمن مقسط تكتنفه في الفقه الإسلامي صعوبات كثيرة تحول دون القول بذلك.
وإزاء ذلك يمكن أن نتساءل هل يوافق الفقه الإسلامي على إجراء عقد بيع مع اشتراط عدم نقل الملكية (عدم التصرف في البيع) إلا بعد سداد جميع الثمن المؤجل، باعتبار أن هذه الصورة قد تحقق الهدف المقصود من (الإيجار المنتهي بتمليك) وهو اطمئنان البائع إلى الوصول إلى حقه قبل إباحة التصرف للمشتري في الشيء المبيع فإن لم يوف انفسخ العقد؟
للإجابة على ذلك نقول:
إن بعض الفقهاء أجازوا ذلك ألا وهو (بيع شيء مع اشتراط منع المشتري من التصرف في العين المبيعه بأي نوع من أنواع التصرفات- معاوضة أو تبرعًا- حتى يؤدي المشتري الثمن كاملًا، وإلا انفسخ العقد.
فقد نص المالكية على أنه يجوز أن يبيع المالك السلعة بشرط ألا يتصرف فيها المشتري ببيع ولا هبة ولا عتق حتى يعطي الثمن، فهذا بمنزلة الرهن وكان الثمن مؤجل) (1) .وأيضًا يصح بناء على رأي ابن شبرمة، وكذلك رأي ابن تيمية، ورأي الإمامية، الذين يجيزون اشتراط كل ما لا يخالف الكتاب والسنة، ولا يناقض المقصود الأصلي من العقد
…
(وقد سبق أن وضحنا ذلك) .
وبناءً على هذا الرأي الذي أرجح الأخذ به أرى أنه يمكن أن يصاغ بديل ل عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، وهو عقد بيع يشترط فيه عدم تصرف المشتري في الشيء المبيع بأي نوع من أنواع التصرف - معاوضة أو تبرعًا- إلا بعد سداد جميع الثمن، وإلا انفسخ العقد.
وما يدفع من أقساط إيجارية- تكون أقساط ثمن السلعة المنجمة، فإذا وفى بها أصبح له حق التصرف فيها، وإذا لم يوف كان للمشتري الحق في أخذ السلعة منه، وأما ما دفع من أقساط خلال المدة السابقة على امتناعه عن الوفاء بباقي الأقساط المحددة، فهذه يمكن معالجتها على أساس خصم القيمة الإيجارية الحقيقية من هذه الأقساط التي دفعها خلال هذه المدة، مع إضافة تعويض ملائم عن الأضرار التي لحقت بالبائع نتيجة هذا الإخلال كشرط جزائي (2) .
(1) نظرية الشرط، للمؤلف: ص217، وص365.
(2)
الشرط الجزائي يمكن القول بصحته على أساس ما ورد في بعض المذاهب الفقهية فإن الشرط الجزائي إذا لم يكن محله مبلغ من النقود يصرح بصحته بعض الفقهاء، ومنهم المالكية وكذلك القائلون بصحة كل شرط حلال لا يحرم حلال، ولا يحل حرام، وهم ابن تيمية وابن القيم والشيعة الإمامية (راجع نظرية الشرط، للمؤلف: ص624) .
وهنا يثور تساؤل آخر وهو:
هل يمكن أن يعتبر تمليك العين في نهاية المدة (في هذه الصورة) هبة للشخص الذي أدى الأقساط الإيجارية المحددة خلال المدة المتفق عليها؟
قد أورد الفقهاء في باب الهبة: (هبة الثواب) . وأجازوها ولكنهم أعطوها حكم البيع:
ومن أقوالهم ما أورده الحطاب (1) حيث قال: إذا قال (وإن أعطيتني
…
دارك
…
فقد التزمت لك بكذا، أو فلك علي كذا
…
فهذا من باب هبة الثواب، وقد صرحوا بأنه إذا سمى فيها الثواب أنها جائزة، ولم يوجد في ذلك خلافًا، وأنها حينئذٍ بيع من البيوع، فيشترط في كل من الملتزم به والملتزم عليه ما يشترط في الثمن والمثمون من انتفاء الجهل والغرر – إلا ما يجوز في هبة الثواب- ويشترط فيه أيضًا كون كل منهما طاهرًا منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه
…
وأن يكون كل من الملتزم والملتزم له مميزًا، ويشترط في لزوم ذلك أن يكون طائعًا رشيدًا) .
ومثله ما أورده الموصلي (2) والهبة بشرط العوض يراعى فيها حكم الهبة قبل القبض، فلا يصح المشاع، وحكم البيع بعده، رعاية للفظ والمعنى، (
…
ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو حكم الحاكم
…
) .
ومثله أورده الشربيني (3) حيث قال: (ولو وهب شخصًا شيئًا بثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا، فالأظهر صحة هذا العقد، نظرًا للمعنى، فإنه معاوضة بمال معلوم، فصح كما لو قال بعتك - والثاني بطلانه نظرًا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضي التبرع- ويكون بيع على الصحيح نظرًا إلى المعنى، فعلى هذا تثبت فيه أحكام البيع
…
) .
ومثله أورده البهوتي (4) حيث قال: (وإن شرط العاقد في الهبة عوضًا معلومًا، فهي بيع لأنه تمليك بعوض معلوم
…
فتثبت أحكامه
…
) .
وهنا يثور تساؤل آخر: هو هل يجوز أن يجعل عقد الهبة معلقًا على شرط هو سداد جميع الأقساط التي اتفق على دفعها خلال هذه المدة؟
أي أن تكون الهبة معلقة على شرط هو (سداد جميع الأقساط الإيجارية خلال المدة المحددة، وعدم الإخلال بما اشترط عليه فيها) وتكون الصيغة هي "إذا سددت إلى الأقساط المتفق عليها خلال هذه المدة (المتفق عليها) وهبتك هذه السلعة وقبل الطرف الآخر" فيكون عقد الهبة عقدًا معلقًا على شرط، يجري عليه ما يجري على العقود المعلقة على شرط في الفقه الإسلامي.
وللإجابة على ذلك أقول: إن تعليق الهبة على شرط في الفقه الإسلامي اختلف فيه الفقهاء إلى رأيين:
الرأي الأول (5) يرى عدم صحة تعليقها على الشرط (وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية) .
وذلك لأن عقود التمليكات تثبت آثارها في الحال، فتعليقها على الشرط ينافي ما يقتضيه العقد، فلا يصح لما فيه من معنى القمار، والهبة عقد من هذه العقود، إذ هي تقتضي التمليك في الحال، ولم تبنِ على التغلب والسراية، والتعليق ينافي هذا، لأنه يعلق التمليك على حدوث أمر محتمل الوقوع في المستقبل، فالأمر المعلق عليه قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا ينافي كون هذه العقود تقتضي التمليك في الحال فضلًا عما يترتب عليه من غرر.
الرأي الثاني: يرى جواز تعليقها على الشرط، (وهو قول في مذهب الحنفية) أجاز تعليقها على الشرط الملائم أو المتعارف، وهو رأي المالكية (6) ، والظاهر في مذهب الإباضية.
وقد رجحت في (نظرية الشرط) هذا الرأي لما يأتي:
1-
أن المتبرع متفضل، والمتفضل يقبل تبرعه على الصورة التي أرادها ما دام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا لقوله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [الآية 91 من سورة التوبة] .
2-
أنه روي عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: ((لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت للنجاشي حلة، وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن ردت عليَّ فهي لكِ، قالت: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة)) رواه أحمد
…
وهو حديث لا يقل مرتبة عن الحسن، لأن رجاله رجال الصحيح ،وقد علم من بعض روايات الحديث ما يفيد أن الذي علق رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه لأم سلمة هو الحلة، وقد أعطاها لها حينما تحقق الشرط، وهو رد الهدية بعد موت النجاشي (7) .
وأيضًا يثور تساءل آخر وأخير، وهو هل يجوز أن يعد المؤجر المستأجر بأن يهبه السلعة في نهاية المدة التي حددت لعقد الإجارة، وبعد سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها خلال هذه المدة؟
(1) الالتزامات، للحطاب: ص 211.
(2)
الاختيار، للموصلي: 2/116.
(3)
مغني المحتاج: 2/404.
(4)
الروض المربع: ص241.
(5)
مغني المحتاج: 2/369؛ كشاف القناع: 2/274؛ التاج المذهب: 2/30
(6)
الالتزامات، للحطاب: 1/180؛ وشرح النيل: 6/10؛ يراجع نظرية الشرط في الفقه الإسلامي: ص135.
(7)
تحقيق ذلك والإفاضة فيه مبين بـ (نظرية الشرط) للمؤلف.
وللإجابة عن ذلك أقول: إن للفقهاء رأيين في كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم، فيرى جمهور الفقهاء أنه غير ملزم، ويرى المالكية في أحد أقوالهم، وابن شبرمة أنه ملزم، وسيأتي بيان ذلك في نهاية البحث، وقد رجحت الأخذ بالرأي المشهور في مذهب المالكية، وهو أن الوعد يكون ملزمًا إذا دخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء) وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون.
وإذا قلنا بجواز أن يعده بهبة السلعة في نهاية المدة على الوجه الذي ذكرناه، وبالشروط التي اتفق عليها، ويكون الوعد ملزمًا بالوفاء بوعده عند تحقق الشرط، فإن ظروفًا كثيرة تحتاج إلى نظر.
منها أن الإجارة المدفوعة ليست في حقيقة الأمر ثمنًا للمنفعة، ينطبق عليها أجرة المثل إذا حدث خلل في عقد الإجارة وإنما هي أقساط ثمن السلعة، حيث قسط ثمنها على هذه المدة المتفق عليها، وهي قطعًا تكون مرتفعة أو منخفضة، بمقدار قصر المدة أو طولها وعادة ما تكون المدة قصيرة- فإذا حدث الخلل المشار إليه، أو العجز عن الوفاء، فإن المستأجر يكون مظلومًا بدفعه ما زاد عن أجرة المثل، وما يدفع زيادة عن ذلك هل يعادل تعويض المؤجر عن الأضرار التي لحقت به، مع مراعاة أن تقدير الضرر، ثم التعويض عنه، لا يمكن أن يكون مقدمًا على وقوعه، وتبين أبعاده، كل ذلك يحتاج إلى مزيد نظر.
الصورة الثانية- (حدد فيها ثمن رمزي للمبيع بيع إيجاري) :
وقد سبق إيضاحها (ص8) وهي نفس الصورة السابقة إلا أنه قد حدد هنا في هذه الصورة ثمن رمزي للسلعة المؤجرة يدفعه المستأجر إذا رغب في شرائها بعد انتهاء سداد الأقساط الإيجارية المتفق عليها.
ومن الواضح في هذه الصورة أن هذا العقد قد احتوى على:
1-
عقد إجارة - ناجز- حددت فيه الأجرة، ومدة الإجارة - فإذا انتهت المدة انفسخ عقد الإجارة - أو إذا امتنع عن سداد الأقساط الإيجارية المتفق عليها-.
2-
عقد بيع - يتم في نهاية مدة الإجارة - إذا رغب المستأجر في ذلك- ودفع الثمن الذي اتفقا عليه- (الثمن الرمزي) .
هذا العقد (البيع) عقد معلق على شرط، وهو سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال مدة محددة.
وهذا البيع حدد فيه ثمن معين (رمزي) للسلعة.
رأي الفقه الإسلامي:
لكن نبين رأي الفقه الإسلامي في تكييف مثل هذا العقد، فإنه يلزمنا أن نوضح ثلاثة أمور:
أولها: هل يصح في الفقه الإسلامي اجتماع عقدين في عقد؟
ولقد أجبنا على ذلك فيما مضى، وبينا أنه جائز - على ما رجحنا الأخذ به في ذلك.
الثاني: هل يصح تعليق عقد البيع على شرط؟ - وهذا نحتاج إلى إيضاحه-.
والثالث: هل يصح أن يكون ثمن المبيع رمزيًّا، وذلك لأنه قد روعي أن ما اتفق على أنه أقساط إيجارية، هو في حقيقته جزء من ثمن هذه السلعة.
حكم تعليق عقود المعاوضات على شرط
يرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية) أنه لا يصح تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط مطلق، وقد أفاضوا في ذكر الأدلة المانعة من صحة تعليق هذه العقود، والتي منها (أنها عقود تمليكات، وهذه تثبت آثارها في الحال، فتعليقها ينافي ما يقتضيه العقد، فلا يصح، لما فيه من معنى القمار
…
أو المخاطرة
…
حيث يتردد العقد بين الوجود إذ تحقق الشرط، أو العدم إذا لم يتحقق الشرط
…
- أو أنها مثل بيع الملامسة أو المنابذة، وهما منهي عنهما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رأي مرجوح عند الحنابلة – حكته كتب المذهب رأيًّا للإمام أحمد – أنه يجوز تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط، فقال ابن تيمية:(وذكرنا عن أحمد نفسه جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه ولا عن أصحابه نص بخلاف ذلك، بل ذكر من ذكر من المتأخرين أن هذا لا يجوز..) .
ثم أخذ يفند رأي المانعين، مرجِّحًا هذا الرأي (1) وقد تناولت ذلك في كتابي (نظرية الشرط) ورجحت صحة تعليق عقود المعاوضات على شرط ملائم للعقد يحقق غرض مشروع، وأن ذلك يرتكز على الآيات والأحاديث التي تأمر بالوفاء بالعقود والعهود، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [أول سورة المائدة]، وقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الآية 34 من سورة الإسراء]، وغيرها كثير- وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق أربع
…
)) وعد منها ((وإذا وعد أخلف)) –نص الحديث ص48- وإن التعليق لا يؤدي إلى غرر أو مخاطرة أو أكل أموال الناس بالباطل، وأنه ليس من قبيل بيع الملامسة أو المنابذة المنهي عنهما.
(1) نظرية الشرط، للمؤلف: ص132.
وبناء على هذا الرأي يمكن القول بأن تعليق عقد البيع على شرط ملائم له ويحقق غرضًا مشروعًا جائزًا، ويصح هذا التعليق ما دام الطرفان قد اتفقا عليه وصدرت الصيغة باتة في مدلوها (أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا، على أنك إذا سددت الأجرة بانتظام حتى نهاية سنة كذا أو شهر كذا بعتك هذه السلعة المؤجرة بثمن هو كذا، ويقول الآخر: قبلت ذلك) فيجتمع عقدان: عقد إجارة ناجز- وعقد بيع معلق على شرط هو (الانتظام في سداد الأجرة وهي كذا في مدة هي كذا) وهو تعليق وليس إضافة إلى أجل، لأن الأجل المتفق عليه قد وضع في قالب شرط وهي سداد الأجرة في خلال هذه المدة.
هل يصح أن يكون ثمن المبيع رمزيًّا؟
أولًا: أن ثمن المبيع في الفقه الإسلامي لا بد أن يكون مقاربًا لقيمة السلعة الحقيقي، وذلك لأن البيع هو معاوضة مال بمال، ومعاوضة المال بالمال معناها أن يأخذ البائع من المشتري عوض هذه السلعة وهو الثمن- أو بلفظ آخر- قيمتها، أو ما يقارب ذلك في الأسواق- وأن يأخذ المشتري السلعة من البائع عوض ما دفعه من ثمن - أو ما يقارب ذلك- حيث يغتفر في الفقه الإسلامي التفاوت اليسير، ولكن المطلوب هو تحقيق العدل بين العوضين، والعدل أن تكون السلعة معادلة للثمن الذي حدد لها، وأن يكون الثمن معادلًا للسلعة التي عينت له.
يقول ابن رشد في تحقيق هذا المعنى وتحريره:
(إن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة جعل الدينار والدرهم لتقويمها –أعني تقديرها- ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات- أعني غير الموزونة والمكيلة- العدل فيها إنما هو في وجود النسبة- أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرس بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلًا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذًا اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدلة، أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل) .
ويقول الغزالي عند الحديث عن بيع التعاطي (للبائع أن يتملك الثمن الذي قبضه إن ساوى قيمة ما دفعه، لأنه مستحق ظفر بمثل حقه) .
ويدل على هذا أيضًا:
ما شرع من خيارات – فإنها أجيزت للاطمئنان على أنه لم يحدث غبن ولا ظلم في ميزان العدل الواجب تطبيقه في المعاوضات.
فخيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وغير ذلك من الخيارات التي وضعها المشرع الحكيم لنا أمارة على أنه يجب أن يكون العدل أساسًا في انتقال الأموال معاوضة بجانب ما قرره من ضرورة وقوع التراضي على نقلها من ذمة إلى ذمة
…
ولا يأتي في هذه الصورة البحث حول أن المتعاقدين لهما الحرية التامة في أن يحددا الثمن الذي يريانه، وإن كان قليلًا جدًّا، لأن اقتران عقد الإجارة - مع تحديد الأجرة المرتفعة كثيرًا عن أجرة المثل خلال المدة التي اشترط استمرار الإجارة فيها بهذه الأجرة- بعقد البيع في نهاية هذه المدة وبعد سداد هذه الأقساط الإيجارية – وجعل ثمن المبيع رمزيًّا يفصح بصورة واضحة عن أن المقصود هو عقد بيع من أول الأمر، وليس عقد إجارة ثم عقد بيع، وأن كل ما دفع هو لثمن الرمزي المشار إليه-.
وقد يؤيد هذا أن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، ويقول الفقهاء تطبيقًا لهذه القاعدة: (إن الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة الأصل كفالة، ولو قال: أعتق عبدك عني بألف كان بيعًا للمعنى
…
وينعقد البيع بلفظ الهبة مع ذكر البدل
…
وتنعقد الإجارة بلفظ الهبة والتمليك
…
(1) كما في الخانية، وينعقد السلم بلفظ لبيع كعكسه)
…
ولو شرط رب المال للمضارب كل الربح كان المال قرضًا، ولو شرط لرب المال كان بضاعة.
(1) الأشباه، لابن نجيم: ص207.
وبناءً على هذا لا يعتبر الثمن الرمزي- الذي حدده المتعاقدان في هذه الصورة التي معنا – ثمنًا حقيقيًّا للسلعة- حتى يمكن القول بأنه قد اجتمع في هذا العقد عقدان: عقد إجارة - وعقد بيع - ولكن هذا الثمن الرمزي هو جزء من الثمن وباقي الثمن هو ما يدفعه أو دفعه المستأجر (المشتري) من أقساط ظهرت في صورة أجرة عن كل فترة من الفترات المحددة لانتهاء عقد الإجارة. ولذلك كيَّفه فقهاء القانون الوضعي بأنه عقد بيع بثمن مقسط، إلا أن تكييفه بذلك في الفقه الإسلامي يحول دونه صراحة الصيغة في أنه عقد إجارة، أريدت أحكامه وآثاره خلال هذه المدة ولم يرد عقد البيع بآثاره وأحكامه إلا بعد انتهاء مدة الإجارة والقيام بالالتزامات التي أوجبها العقد ومنها دفع جميع الأقساط الإيجارية.
لذلك فإن هذا العقد يمكن أن يصاغ بديل له على الوجه الذي بيناه في الصورة المتقدمة وهي (عقد بيع يشترط فيه عدم التصرف في المبيع بأي نوع من أنواع التصرفات- معاوضة أو تبرعًا- حتى يتم سداد جميع الأقساط (الثمن) على الوجه المتفق عليه) .
الصورة الثالثة- حدد فيها ثمنًا حقيقيًّا للمبيع بيعًا إيجاريًّا:
وقد سبق إيضاحها، وهي نفس الصورة الثانية إلا أنه قد حدد هنا- في هذه الصورة – ثمن حقيقي للسلعة المؤجرة يدفعه المستأجر- إذا رغب في شرائها- بعد انتهاء سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها. وصيغتها:
(أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا لمدة هي كذا، على أنك إذا سددت جميع هذه الأقساط الإيجارية خلال هذه المدة بعتك هذه السلعة بثمن هو كذا
…
ويقول الآخر: قبلت الإيجار على هذا
…
) .
تكييف هذا العقد:
هذا العقد أيضًا هو عقد احتوى على عقد الإجارة، وعقد البيع. على النهج الذي سبق إيضاحه في الصورة الثانية فهو عقد إجارة ناجز مقترن بشرط فاسخ
…
وعقد بيع معلق على شرط هو سداد هذه الأقساط الإيجارية خلال المدة المحددة لعقد الإجارة.
وهذا البيع قد حدد فيه ثمن حقيقي للمبيع يدفعه المستأجر (المشتري) بعد انتهاء مدة الإجارة، وبذلك تصبح السلعة المؤجرة (مبيعة) ومملوكة للمستأجر (المشتري) منفعة وذاتًا، وله عليها حق المالك على ملكه من الانتفاع بها والتصرف فيها بالتصرفات المشروعة عند سداد هذا الثمن المتفق عليه.
أما اجتماع عقدين عقد البيع على هذا الشرط يمكن القول بجوازه –كما أشرنا آنفًا-.
وأما تكييف هذا الاتفاق فلا شك أنه هنا يعتبر في بدايته عقد إجازة تترتب عليه كل أحكام هذا العقد وآثاره التي قررها الشرع الحكيم.
وأنه بعد انتهاء عقد الإجارة يبدأ عقد البيع المعلق على تحقق الشرط الذي اقترن بعقد الإجارة، وهو هنا في هذه الصورة لا يحتاج إلى صيغة جديدة ما دام قد تم بقوله (بعت)، وقول الآخر:(قبلت) وما في معناهما مما يدل على الجزم، ولم يرد في الصيغة ما يدل على أنه وعد بالبيع أو وعد بالشراء أو وعد بهما من الطرفين.
وهذه الصورة يمكن بناء على ذلك القول بصحتها في الفقه الإسلامي.
جاء في كشاف القناع 2/29: (فإن قال بعتك داري هذه وأجرتكها شهرًا بألف فالكل باطل، لأن من ملك الرقبة ملك المنافع، فلا يصح أن يؤاجر منفعة ملكها عليه) .
قلت: وللصحة وجه بأن تكون مستثناة من البيع. قاله الشيخ التقي في شرح المحرر.
الصورة الرابعة – اقتران الإجارة بوعد بالبيع:
الصورتان السابقتان كانت الصيغة فيهما تحتوي على صيغة بيع بات، (بعت واشتريت) ولكن قد تقترن الإجارة بوعد بالبيع أو بالشراء، أو وعد بهما من الطرفين (وعد تبادلي) .
وصيغتها:
(أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا لمدة هي كذا، على أنك إذا سددت جميع هذه الأقساط الإيجارية خلال هذه المدة أبيعك أو سأبيعك، أو أعدك ببيعها لك بثمن هو كذا إذا رغبت
…
وقال الآخر قبلت) .
والذي يختلف معنا هنا عما سبق إيضاحه، هو أنه قد اقترن في هذه الصورة مع عقد الإجارة وعد بالبيع، أو الشراء أو وعد بهما من الطرفين
…
ونظرًا لأن الفقهاء قد اختلفوا في آثار الوعد، هل هو ملزم أو غير ملزم؟ فإننا نوضح آراءهم فيما يلي:
الوعد وأثره (1)
اختلف الفقهاء في كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم إلى رأيين؟:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والشافعية والحنابلة، والظاهرية وجمهور من الصحابة والتابعين) أن الوعد غير ملزم قضاء في جميع الأحوال، وإن كان مأمورًا بالوفاء به ديانة، لأنه تفضل وإحسان، ويقول الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [الآية 91 من سورة التوبة] .
• الرأي الثاني: وهو رأي المالكية، ولهم في إلزام الوعد وعدم إلزامه أقوال أربعة؟
القول الأول: أن الوعد يكون ملزمًا إذا دخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء، وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون (وهذا هو المشهور) .
القول الثاني: أن الوعد يكون ملزمًا إذا كان على سبب، وإن لم يدخل الموعود فيه فعلًا، وإذا لم يكن على سبب فلا يكون ملزمًا- وهو قول لمالك، وأصبغ من علماء المالكية.
القول الثالث: لا يقضي بالعدة مطلقًا على أية حال وهو الرأي الأول الذي ذكرناه آنفًا، وهو من سماع أشهب من علماء المالكية.
القول الرابع: قال بعض المالكية يقضي بالوعد مطلقًا، وإلى هذا ذهب ابن شبرمة (2)،وصححه القرافي في فروقه: 4/24.
وذكر الحطاب أن القولين الأخيرين ضعيفان جدًّا عند المالكية.
وقد استدل من قال بالقضاء بالعدة مطلقًا (أي أنها ملزمة) بقول الله تبارك وتعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، [الآية 3 من سورة الصف] .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) ، رواه مسلم من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(1) العدة والوعد- هو إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل. والالتزام هو إلزام الشخص نفسه شيئًا من المعروف مطلقًا، أو معلقًا على شيء. ويعرف الفرق بين الالتزام والوعد بما يفهم من سياق الكلام، وقرائن الأحوال، فحيث دل الكلام على الالتزام أو على الوعد حمل على ذلك، فصيغة الفعل الماضي تدل على الالتزام وإنقاذ ما التزم به، والظاهر في صيغة المضارع أنها تدل على (الوعد) إلا أنه إذا وجدت قرينة على أنها للالتزام كانت للالتزام، وإذا لم توجد قرينة كانت وعد، لا التزامًا. الالتزامات، للحطاب: ص 61 ،164.
(2)
أورده المحلى لابن حزم: 8/28
وروي عن أبي هريرة بلفظ: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) ، رواه مسلم أيضًا.
النتيجة:
إن الذي يرجح لدينا هو الرأي الأول الذي يقضي بأن الوعد ملزم إذا دخل الموعود بسبب العدة في شيء، ومن ثم فإنه يقضي به أو يجب الوفاء به قضاء وديانة، للأدلة التي استدل بها من الكتاب والسنة. والله أعلم.
وبناء على هذا الرأي يكون الوعد الصادر من المالك (المؤجر) ببيع هذه السلعة (المؤجرة) للمستأجر- إذا رغب في ذلك، ودفع ثمنًا لها هو كذا- يكون وعدًا ملزمًا للمالك (المؤجر) ببيعها للمستأجر لها، بعد تحقق الشرط، وهو استيفاء جميع الأقساط الإيجارية (المتفق عليها) وإبداء رغبته في شرائها وتقديم الثمن الذي اتفق عليه.
وهنا تحتاج إلى صيغة جديدة في هذا الوقت الذي تحقق فيه كل ذلك من شرط، وإبداء رغبة، وتقديم الثمن المحدد.
وهذا إذا كان الوعد صادر من المالك.
أما إذا كان قد صدر منهما بأن وعد المالك (المؤجر) ببيع السلعة للمستأجر ووعد المستأجر المالك (المؤجر) بشراء هذه السلعة إذا تحقق الشرط وهو الوفاء بكل الأقساط الإيجارية المتفق عليها خلال المدة المحددة، وحدد الثمن.
فحينئذٍ يكون كل منهما ملزمًا بإجراء هذا البيع على الوضع الذي اتفق عليه.
ولا بد من صيغة جديدة هنا أيضًا، لأن العقد لا ينعقد في الفقه الإسلامي إلا بصيغة باتة دالة على أنه أراد البيع في الحال، والآخر أراد الشراء في الحال، ولذلك كانت صيغة الماضي أوكد صيغة في الدلالة على إرادة العقد في الحال- ومثلها الجملة الاسمية-، أما صيغة المضارع المترددة بين الحال والاستقبال فتحتاج إلى قرينة تخلصها للحال فقط، وإلا كانت استدعاء للعقد، وتمهيد له، أو وعدًا- كما أنها لا تصلح إطلاقًا لإبرام العقد إذا اقترن بالمضارع السين وسوف، لأنها تمحضت للاستقبال، ونحن نريد البيع في الحال. فلا تصلح لإبرام العقد بها.
والصيغة التي معنا هي وعد بالبيع ووعد بالشراء فلا بد لإتمام هذا البيع من صيغة لعقد البيع تصدر عند الانتهاء من تحقيق الشرط المعلق عليه الوعد بالبيع وذلك لعدم وجود صيغة له من قبل، وإنما الموجود هو وعد به فقط
…
وأرى أنه عند اقتران عقد الإجارة بوعد بعقد البيع يجب التفرقة بين الوعد الملزم للمشتري بالشراء، والوعد الملزم للبائع بالبيع، أو الملزم لهما؟.
فإنه في حالة ما إذا كان الوعد (تبادليًّا) ملزمًا لهما بإجراء عقد البيع، فإنه في هذه الحالة يجب أن نعود إلى معرفة هل الثمن حقيقي أو رمزي، ومن ثم نقضي بأن العقد بيع وليس إيجار مقترنًا بوعد بالبيع، لأنه ما دام كل منهما قد ألزم بإجراء البيع بمقتضى هذا الوعد، فيكون مثله كمثل ما إذا كان قد اقترن عقد الإجارة بعقد بيع معلق على شرط وهو سداد الأقساط الإيجارية في المدة المحددة، ومن ثم فما قلناه هناك على هذا العقد نقوله هنا.
وأما إذا كان الوعد صادرًا من المستأجر بشراء هذه السلعة المؤجرة له بعد سداد هذه الأقساط الإيجارية في المدة المحددة بعد دفع ثمن معين، ولم يصدر وعد من المؤجر (المالك) ببيعها له (وعد من أحد الطرفين دون الآخر) فمقتضى هذا الوعد أن يكون المالك (المؤجر) مخير في نهاية المدة بين أن يطالبه بالشراء أو لا يطالبه، فالنظر إلى الثمن في هذه الحالة والبحث في أنه صوري أو حقيقي لا يؤثر في أن العقد هو عقد إيجار مقترن بوعد انتهاء الإجارة ولا شك أن الثمن- في الوعد بالبيع- إذا كان رمزيًّا فإن المؤجر (المالك) لا يفكر غالبًا- إن لم نقل قطعًا- في مطالبة المستأجر بالوفاء بوعده (بالشراء) ، لأن الثمن الحقيقي أربح له، والناس يحرصون غالبًا على ما فيه نفعهم.
ومن هنا كانت القرينة دالة على أنهما أرادا الإجارة.
وإن كان الثمن حقيقيًّا، فحينئذ يكون عقد إجارة أيضًا، مدفوعًا بوعد بعقد بيع، والثمن حقيقي فلا أثر له على عقد الإجارة.
أما إذا كان الوعد صادرًا فقط من المؤجر ببيع السلعة المؤجرة بثمن، فإنه يبحث في الثمن المحدد لها أيضا، فإن كان الثمن رمزيًّا، فحينئذٍ سيطالب المستأجر المؤجر ببيع السلعة له قطعًا وفاءً بوعده، لأن ترك ذلك لا يقع فيه إلا من سفه تصرفه وقصر نظره
…
، ومن ثم نلزم المؤجر ببيعها له بهذا الثمن. وأرى أن هذه الصورة تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن رمزي- وقد سبق بيانه.
وإن كان الثمن حقيقيًّا – أو بسعر السوق - فحينئذٍ تأخذ هذه الصورة حكم اقتران عقد الإجارة بعقد بيع بثمن حقيقي- وقد سبق بيانه.
الصورة الخامسة- اقتران عقد الإجارة بوعد من المؤجر للمستأجر بعد انتهاء مدة الإجارة:
(بأن يبيع له السلعة المؤجرة له بثمن – محدد أو حسب سعر السوق - أو مدة الإجارة لمدة أخرى، أو إعادة العين المؤجرة إلى المالك- أي أن المستأجر يكون بالخيار بين هذه الأمور الثلاثة، أيها يختار يجاب له)(1) .
ولقد بين فقهاء القانون أن هذا العقد يحتوي على:
1-
عقد توريد: طرفاه: الشركة المنتجة للسلعة (المورد) وشركة الليزنج المشترية لهذه السلعة منها التي تصبح مالكة لها.
2-
عقد التأجير: طرفاه: العميل (المستأجر) لهذه السلعة، والمالك: وهو شركة الليزنج.
3-
وعد من مؤسسة الليزنج للعميل (المستأجر) بأنه في نهاية مدة الإجارة يكون له الحق في اختيار واحد من ثلاثة أمور:
- شراء السلعة بثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق أن دفعها أقساط إيجارية.
- مد مدة الإجارة لفترة أو فترات أخرى.
- إعادة السلعة (المؤجرة) إلى مالكها (مؤسسة الليزنج) .
ويلاحظ أنه في هذا العقد تكون مدة الإجارة طويلة نسبي حتى تتمكن المؤسسة المالية من حصولها على المبالغ التي أنفقتها على التمويل.
(1) وهي صورة متطورة للإيجار المنتهي بالتمليك أطلق عليها فقهاء القانون عقد الليزنج (Leasing) ويعرب (عقد تمويل المشروعات) أو (عقد التمويل الائتماني) ، لأن هذا العقد يظهر كوسيلة لتمويل التجهيزات التي تحتاجها المشروعات الصناعية والتجارية، دون أن تجمد رأس مالها أو جزء منه. راجع (البيع بالتقسيط، والبيوع الائتمانية الأخرى)، للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل: ص31، 317.
كما أن ثمن المبيع في نهاية المدة- إذا اختار المستأجر الشراء - يمكن أن يحدد في بداية عقد الإجارة أو بأسعار السوق السائدة عند نهاية العقد - مع مراعاة القيمة الاستردادية للشيء المؤجر.
كما يلاحظ أن مؤسسة الليزنج قد توكل العميل في شراء الأشياء التي يرغب في استئجارها من الشركة الموردة طبقًا للمواصفات التي تم الاتفاق عليها نوعًا وكمًّا وصفة.
كما يلاحظ أن مؤسسة الليزنج تظل مالكة للسلعة المؤجرة، وأن المستأجر يلتزم بعدم التصرف فيها كما يتحمل أيضًا بموجب هذا العقد، تكاليف الصيانة والإصلاح والتأمين وغيرها.
النظر في هذا العقد على ضوء قواعد الفقه الإسلامي:
هذا العقد تصاحبه الأمور التالية:
أولًا: أنه تعاقد على سلعة غير مملوكة للمؤسسة التي تؤجرها للعميل- وقت التعاقد-.
وقد سبق أن بينا أن هذا التصرف لا يصح في الفقه الإسلامي، ومن ثم يجب أن تكون السلعة مملوكة للمؤسسة وقت إبرام عقد التأجير مع العميل، ومقبوضة على الوجه الذي رجحنا الأخذ به.
ثانيا: أن هذا العقد قد اشتمل على أكثر من عقد بصورته التي بينها فقهاء القانون.
وعد بالتأجير- عقد توكيل- عقد توريد - عقد تأجير- وعد بالبيع أو مد مدة الإجارة
…
ثم عقد بيع - أو إجارة أخرى
…
في النهاية.
أو بالاختصار (وعد بالتأجير - عقد إجارة - وعد بالبيع أو مد مدة الإجارة
…
، ثم عقد بيع، أو إجارة أخرى بمقتضى هذا الوعد) .
وإن اجتماع مثل هذه العقود وهذه الوعود قد تؤثر على الوفاء بمتطلبات أو موجبات هذه التصرفات التي اتفق عليها. ولكن إذا أخذنا برأي الفقه الإسلامي في أن تكون السلعة مملوكة مقبوضة للمؤسسة وقت التعاقد فإننا بذلك نطوي ونختصر بعض من التصرفات التي تجتمع في هذا العقد حسب صورته القانونية، وهي: (عقد التوكيل، وعقد التوريد، والوعد بالإجارة
…
) .
ونصبح حينئذٍ أمام عقد إجارة مقترنة بوعد بالبيع بثمن محدد أو حسب سعر السوق، أو مد مدة الإجارة، أو إعادة السلعة إلى المؤسسة على الوجه الذي بيناه آنفًا.
وبناءً على ذلك لا يكون هناك محظور في هذا التصرف لأنه يتساوى مع صورة الإجارة المقترنة بوعد بالبيع بثمن حقيقي
…
، بل إنها هنا تكون أكثر مرونة بالنسبة للمستأجر، إذ تعطيه الحق في اختيار واحد من أمور ثلاثة بعد انتهاء مدة الإجارة:
(شراء السلعة
…
مد مدة الإجارة
…
إعادة السلعة إلى المال (المؤسسة) .
ومن ثم فلا مانع من صحة هذه الصورة إذا ما تم تملك السلعة (المراد تأجيرها) للمؤسسة قبل إبرام هذا العقد، وقبضها على الوجه الذي سبق أن رجحنا الأخذ به في موضعه من البحث.
النتائج
ونجعل هذه النتائج في قسمين:
القسم الأول
القواعد العامة التي تحكم مسيرة هذا النوع من التعاقد:
أولًا: أنه يجب أن تكون السلعة المتفق على إجارتها أو بيعها مملوكة للمؤجر أو للبائع وقت التعاقد.
ثانيًا: أنه يجب أن تكون مقبوضة- ويكفي في مثل هذه السلع التي تأخذ حكم العقار في % % % كونها يؤمن فيها الهلاك غالبًا- أن يكون قبضها بالتخلية بين المبيع والمشتري بحيث يتمكن من الانتفاع به والتصرف فيه.
ثالثًا: أنه يجوز أن يجتمع عقد الإجارة مع عقد البيع على رأي المالكية والحنابلة والشافعية (إذا كانا صفقة واحدة) وابن تيمية والإمامية وحينئذٍ يراعى تطبيق أحكام كل عقد عليه.
رابعًا: أنه يجوز اشتراط شرط صحيح أو أكثر في العقد، والشرط الصحيح هو الذي يحقق مصلحة العقد أو مصلحة المتعاقدين، وألا يناقض المقصود الأصلي من العقد، ولا يخالف نص شرعيًّا من كتاب أو سنة، ولا يؤدي إلى محظور شرعي، ولا إلى غرر، ولا إلى ما يستحيل الوفاء به.
خامسًا: أنه يجوز تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط ملائم للعقد أخذًا برأي للإمام أحمد، وابن تيمية وعقود التبرعات أخذًا برأي المالكية وبعض الحنفية: إذا كان الشرط ملائم (متعارف) ،
…
سادسًا: أن الوعد بالبيع أو الإجارة أو غيرهما من العقود والتصرفات يكون ملزمًا لمن صدر منه، إذا كان الموعود قد دخل بسبب هذا الوعد في شيء، أخذ بالرأي المشهور عند المالكية.
القسم الثاني
ما نرجح الأخذ به في صورة الإيجار المنتهي بالتمليك:
الصورة الأولى: (إجارة تنتهي بالتمليك دون ثمن للسعة عند تملكها سوى الأقساط الإيجارية) .
وأرى أنه يمكن أن يؤخذ بصورة بديلة لها تحقق الغرض المطلوب، وهي أن يعقد العقد بيع بشرط ألا يتصرف المشتري بأي تصرف ناقل للملكية- معاوضة أو تبرع- حتى يتم سداد جميع الثمن المؤجل.
أو أن تشتمل صيغة الإجارة على هبة السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأجرة المتفق عليها، ويقبل الطرف الآخر، فتكون هبة معلقة على شرط- على القول بجواز تعليقها- أو أن يعد المالك المستأجر بأن يهبه السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأقساط الإيجارية المستحقة –على القول بأن الوعد ملزم-.
الصورة الثانية: (اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن رمزي بعد الانتهاء من سداد الأقساط الإيجارية) ويمكن أيضا أن يوضع لها الصورة البديلة للصورة الأولى.
الصورة الثالثة: اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن حقيقي بعد الانتهاء من سداد جميع الأقساط الإيجارية في المدة المحددة لها.
وهذه الصورة أرجح القول بصحتها.
الصورة الرابعة: اقتران الإجارة بوعد البيع
…
فإن كان الوعد صادرًا من الجانبين أخذت هذه الصورة حكم الصورة الثانية، إذا حدد للمبيع ثمن رمزي وحكم الصورة الثالثة إذا حدد للبيع ثمن حقيقي.
وإن كان الوعد صادرًا من المستأجر فقط- دون المؤجر- بشراء السلعة بثمن معين رمزي أو حقيقي فإنني أرى أن عقد الإجارة صحيح، وأن الوعد ملزم للمستأجر بالشراء إذا رغب المؤجر، والبحث في الثمن هنا- رمزيًّا أو حقيقيًّا لا يؤثر على ذلك كما أوضحنا في موطنه- لأن الخيار للمالك وهو أدرى بما ينفعه.
وإن كان الوعد صادر من المؤجر ببيع السلعة المؤجرة للمستأجر بثمن محدد، فإن كان الثمن رمزيًّا، فإن هذه الصورة تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن رمزي- المبينة آنفًا.
وإن كان الثمن حقيقيًّا- أو بسعر السوق - فإنها تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن حقيقي في الصورة المبينة آنفًا.
الصورة الخامسة: اقتران الإجارة بوعد من المؤجر للمستأجر ببيع السلعة المؤجرة له بعد انتهاء مدة الإجارة أو مد مدة الإجارة لفترة أخرى أو إعادة العين إلى مالكها.
هذه الصورة أرجح القول بصحتها.
هذا وفي كل الصيغ التي تحتوي على وعد بالبيع أو الشراء أو بهما معًا، لا بد من صيغة جديدة عند انتهاء مدة الإجارة المتفق عليها؛ لأن الوعد لا يصلح أن يكون إيجابًا أو قبولًًا، بل لا بد من صيغة جازمة للعقد الموعود به.
فإذا تخلف الشخص عن إبرام العقد باشره القاضي، أنه ملزم بمقتضى وعده.
وختامًا: أرجو الله تعالى أن تكون هذه الدراسة مشمولة برضا الله تعالى وأن يغفر لنا ما قد نكون وقعنا فيه من زلل أو خطأ أو قصور، ونسأله جل شأنه أن يعيننا جميعًا على ما حملنا، وأن يلهمنا الصواب
…
إنه نعم المسؤول ونعم المجيب، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين.
أ. د حسن علي الشاذلي.