الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعاملات الإسلامية وتغيير العملة
قيمة وعينًا
إعداد
الشيخ/ محمد الحاج الناصر
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
المقدمة
اللهم لك الحمد كفاء ما أنت أهله على ما أجزلت من نعمة الإسلام والهداية إليه ورحمة القرآن والشغف به وكرامة السنة النبوية والتعلق بها، وأنت المسؤول أن تتم علينا نعمتك بالتوفيق ورحمتك بالهداية وكرامتك بالعون وأن تعصمنا من الزلل في الفهم والخطأ في الاستدلال والخطأ في القول، وأن تجنبنا زيغ الهوى وضلالة التقليد وتحريف التعصب وانحراف من يؤثر كلام الرجال على نصوص كتابك الكريم وأحاديث نبيك المصطفى الحبيب ومن إنعامك وبإلهامك نصلي عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لشريعته المعتصمين بسنته أفضل الصلوات ونسلم أزكي التسليم.
وبعد، فهذه نظرات في "تغيير قيمة العملة " وحكمه وما يترتب عليه من آثار في الأحكام الشرعية ما كان منها من العبادات وما كان من المعاملات نتجاوب بها مع رغبة "مجمع الفقه" المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، إذ جعل هذا الأمر من عنايته للبحث والدراسة وابتغاء الاهتداء إلى ما يتجلى له حكمًا سليمًا في دورته الخامسة خدمة للعلم وتعزيزًا للانبعاث الإسلامي الذي تهز المجتمع الإسلامي عوامله هذا يتزايد مع الأيام اشتدادًا واتساعًا وتعمقًا، ونرجو من ورائه خيرًا كثيرًا لعزة الإسلام وسعادة المسلمين.
ومن قبل ومن بعد ابتغاء وجه الله الكريم بالإسهام في اجتلاء الحقائق من شريعته واكتشاف السرائر من أوامره ونواهيه واستبانة المقاصد من تنزيله وحديث نبيه التماسًا لأسباب التوفيق بينها وبين مبتغيات الحياة المعاصرة ومقتضياتها مما يتراءى أنه يستعصي على الاحتفاظ بالصيغة الإسلامية مع مواصلة سيره الطبيعي في مسيره المفروض عليه بتطور حياة الناس وتوالي تغير أوضاعهم الحضارية حتى لقد يلتبس على بعض الأغرار كيف يمكن تصور انبعاث إسلامي كامل شامل مع مواكبة هذه الأطوار والأوضاع.
وسنلتزم - بحول الله - منهجنا الذي لن نحيد عليه فيما شاء الله أن يبقى من عمرنا وأن يوفقنا إليه من عمل علمي من الاعتماد على نصوص القرآن والحديث وإيثار الحديث الضعيف على القياس إلا أن تشهد للقياس شواهد ترجح به أو يتدنى ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق ضعيفة إسنادًا ومتنًا إلى مرتبة يستريب معها القلب من إسناده إلى صاحب الرسالة النيرة أو يختلف جوهريًا مع ما اقتضته طبيعة التطور البشري اقتضاء فرضته سنة الكون لا مجرد شهوة أو رغبة في تقليد الغير ومجانسته أو الاتساق معه.
ولذلك سنسوق ما نعتمد عليه من الأحاديث والآثار التشريعية والتاريخية مسندة بنفس ألفاظ الإسناد الواردة في مصادرها التي سنذكرها مع تحديد أرقام الصفحات من النسخ المطبوعة التي صدرنا عنها.
واحتياطًا لنا وللقارئ سنحرص على إيراد الطرق المتعددة - أو أغلبها - لكل حديث أو أثر نسوقه وإن تماثلت هي أو ألفاظها أو تقاربت بحيث يتراءى الاختلاف بينها كما لو أنه غير ذي بال، فالقاعدة التي تنطلق منها هي أن اللفظ الواحد أو الكلمة الواحدة أو الحرف وإن كان من غير حروف المعاني تختلف في شأنه طريقان من طرق الإسناد لا يخلو من أثر في المفاضلة بين الروايتين للحديث أو الأثر الواحد وأن الأسانيد الصحيحة تتقوى بتعدادها وإن تماثلت، وقل أن تتماثل، نظرًا لتفاوت أقدار الرجال، وإن كانوا جميعًا موثقين وأنما دونها من الأسانيد إذا تعددت طرقها وإن اختلفت في رجالها فحسب يتقوى بعضها ببعض تقوية ترجح اعتمادها ترجيحًا قد يبلغ درجة الطمأنينة واعتبارًا لهذه القاعدة فإن ما قد يجده القارئ من تكرار الرواية الواحدة - وأن تكن تاريخية - فحسب لم يأت سهوًا منا وإنما جاء عمدًا طلبًا للتأكد والاطمئنان أو للأسباب المؤهلة للترجيح مما يبرئ ذمتنا العلمية والدينية ويتيح له أن يشاركنا عن بينة فيما ذهبنا إليه أو ينقدنا عن بينة إذا اخطأنا الفهم أو التقدير أو الاستنباط وما برئ من الخطأ غير الأنبياء المعصومين.
وقد نقدم النصوص بين يدي ما نعرضه من فهم أو رأي وقد نقحمها في ثنايا العرض إذا اقتضى ذلك منهج البيان والاستدلال.
وقد نبين في صلب البحث معنى كلمة استعملت اصطلاحًا في تسمية شيء أو التعبير عنه كأسماء النقد والعملات، وقد نحيل إلى التعليق على الهامش بيانه إذا كان يستلزم تفصيلًا يخرج بالتعبير عن مساره ولكنه ضروري لتحديد أصل الكلمة وفقههًا.
وقد نترجم لمن نرى ضرورة الترجمة له ممن يرد ذكرهم في صلب البحث من الرواة أو المجتهدين، لكن نحيل الترجمة على التعليق وستكون أرقام التعاليق متسلسلة من أولها إلى آخرها، وستتضمن إلى ما سبق تخريج بعض الأحاديث والآثار التي لا نرى حاجة ماسة إلى استيعاب طرقها أو أغلبها في صلب البحث، كما ستشتمل على ذكر بعض "المراجع" إذا رأينا من المفيد الإحالة عليها، وهي غير "المصادر" التي نعتمدها باعتبار ما ورد فيها "وثائق" نستمد منها ونستدل بها فهذه نذكرها ونحدد صفحاتها في صلب البحث.
وقد يكون ما ننقله أكثر بكثير مما سنقوله، لأن ما سبقنا إليه أئمة الرواية والدراية لا يعد له عندنا ما قد يبدو لنا أو لغيرنا من فهم أو رأي، وهمنا الأول بيان التوافق بين مقتضيات الحاضر وظواهره وبين نصوص المأثور وأحكامه.
ومن الله سبحانه وتعالى نأمل في التوفيق والهداية والعون والإرشاد وإليه نبرؤ من كل خطأ قد نقع فيه وما قصدنا إليه ونسأله الغفران له فهو العليم الخبير بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، الغفور الذي سبقت رحمته غضبه ووسعت رحمته كل شيء وقال لعباده:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الآية رقم (54) من سورة الأنعام] .
(2)
بين يدي البحث
التشريع الإلهي - كما يدل الاستقراء لأطواره وأحكامه - ليس "ابتداعًا" لحياة يقسر عليها الإنسان قسرًا وإنما هو "تكييف " بالتنظيم والتمحيص طبقًا لمقتضيات العدل والمصلحة العامة والخاصة للحياة البشرية الطبيعية التي درج عليها الإنسان منذ كينونته الأولى في الأرض، إذ أن قسر الإنسان على حياة لم يعرفها ولا ألف نمطها يعني اضطراره إلى الحرج والعسر وجوهر مناط التشريع إنما هو التيسير ونفي الحرج، وهما قاعدة العدل وهدفه، وقد لا يتجلى هذا المعنى فيما هو من العبادات إلا بتدبر عميق في جوهرها لا في طقوسها وشعائرها، بيد أنه جلي واضح أبدع ما يكون الجلاء والوضوح فيما هو من المعاملات وما هو مؤتلف من المعاملات والعبادات كالزكاة والحج.
وهذه الحقيقة من الجلاء والوضوح بحيث لا نشعر معها وفيها بحاجة إلى الاستدلال لها، فهي جوهر جميع ما يتألف منه التشريع من قواعد وأحكام ومنها ما يتصل بالنقد: تطوره وأحكامه وأحواله المختلفة.
وقد تعددت أوجه الرأي والتصور لدى المؤرخين والفقهاء ورواة الآثار فيما يتعلق بالأسباب والأحكام المصاحبة والضابطة لأطوار النقد في الأمة الإسلامية منذ نشأتها، ومرد هذا التعدد إلى أن طائفة منهم لم تجتمع لها العناصر الضرورية لاجتلاء مراحل النقد وتطوره وكانت معارفهم مشوشة لهذه المراحل، والأطوار قبل الإسلام فجاء رواياتهم وتصوراتهم لنشأة النقد الإسلامي ومصاحبته والأحكام التي يجب استنباطها من ذلك مضطربة متضاربة تبعًا لهذا التشويش.
وطائفة أخرى - وهم جمهرة الفقهاء والمتفقهة - قصرت همها على محاولة استجلاء الحكم لما يعرض لها من واقع أو يتخيل من افتراضات واحتمالات من النصوص الواردة في الروايات المشوشة المشار إليها آنفًا عن ظهور النقد في الأمة الإسلامية ومصاحباته وأطواره.
على حين أن الأمة الإسلامية لم تكن بدعًا من الأمم ولا بمعزل عنها رغم أن "المسافة" كانت في معظم العصور الإسلامية تتحكم في تكييف العلاقات بين الأمم والشعوب.
ذلك بأن "الوسطية" الجغرافية لمهد الأمة الإسلامية " شبه الجزيرة العربية " جعلت نشأة الأمة الإسلامية استمرارًا حضاريا متمادى العروق عريقها تعمق أصوله وتترامى إلى عصور موغلة في القدم وأقطار شديدة التباين ما بين شرقية وغربية، ونتيجة لذلك كان التشريع الإسلامي إنما هو تكييف وضبط بالتمحيص والتقويم والتوجيه لطور متقدم من الحضارة الإنسانية كافة.
والنقض ظاهرة حضارية لا تقل تأثيرًا في تكييف مسيرة الإنسان الحضارية عن أروع ما نشهده اليوم من المخترعات التي تتراءى لنا كما لو كانت بدعًا من اهتداء العبقريات الخارقة للعادة إلى ما لم يكن ممكنا تصوره بأبعد خيال وأنزعه في الإغراق والإغراب.
فلولاه ما استيسرت التجارة للإنسان وأمكن تبادل المنتجات الطبيعية والمصنوعة التي تتمايز بها الأمم والشعوب لما هيأت الطبيعة لكل واحدة منها، وقد أبدع الدكتور جواد علي وأجاد في التعبير عن هذا الواقع أو هذه الحقيقة إذ قال (في المفصل في تاريخ العرب ما قبل الإسلام: 7/488) :
والعملة تطور خطير من التطورات التي أثرت في الحياة الاقتصادية للبشر، أحدث اختراعها انقلابًا كبيرًا في النظم الاقتصادية والاجتماعية ويعد إيجادها من المخترعات الكبرى التي لعبت دورًا خطيرًا في حياة الإنسان ولا تزال تلعبه.
قلصت أعمال المقايضة المرهقة المتعبة وقضت على التعامل بالوزن في تقدير الأثمان، أعني التعامل بوزن الذهب والفضة في تقدير قيم الأشياء بأن يعطي إنسان إنسانًا قيراطًا من ذهب أو نصف مثقال أو مثقالًا مقابل سلعة تم التساوم على سعرها أو وزن مثقال من فضة أو أقل من ذلك أو أكثر في مقابل سلعة يريدها المشتري وهو نظام سبق نظام النقد الذي ولدت منه فكرة العملة وهو نظام متقدم بالنسبة إلى نظم المقايضة التي سبقته قلص من صعوباتها كثيرًا وأراح التاجر في التعامل حتى وردت فكرة سك العملة فقلصت منه ومن تعقيداته لسهولة التعامل بالعملة ولاكتسابها صفة رسمية وسعرًا ثابتًا مقررًا ووزنًا معينًا حددته الحكومات.
(3)
نشأة النقد وتطوره
من أقدم ما عرف الإنسان من ألوان النقد المسكوكات "الليدية" وقد لا تكون أقدمها، بيد أنها في تقديرنا من أبعدها أثرًا في رسم مسار نشأة النقد وتطوره في الشرق الأوسط، وعن هذه المسكوكات يقول ديورانت (قصة الحضارة: 2/306) :
(وامتاز "كروسس" - أحد ملوك ليديا - عن غيره من الملوك بسك نقود ذهبية وفضية ذات شل بديع تضربها الدولة وتضمن قيمتها الاسمية، وليست هذه أول المسكوكات الرسمية التاريخية كما اعتقد المؤرخون زمنًا طويلًا، وليست هي - بلا جدال - بداية اختراع المسكوكات ولكنها مع هذا كانت مثالًا يحتذى، ساعد انتشار التجارة في بلاد البحر الأبيض المتوسط، لقد ظل الناس قرونًا طوالًا يستخدمون معادن مختلفة لتقدير قيم البضائع وتسهيل تبادلها، ولكنها - سواء كانت من النحاس أو البرونز أو الحديد أو الفضة أو الذهب - كانت في أغلب البلاد تقدر قيمتها في كل عمل تجاري حسب وزنها أو حسب غيره من الاعتبارات، لهذا كان استبدال عملة قومية معترف بها رسميًّا بهذه الوسائل المتبعة إصلاحًا عظيمَ القيمة في علم التجارة فقد يسرت هذه الوسيلة الجديدة انتقال السلع ممن يحسنون إنتاجها إلى من هم في أشد الحاجة إليها فزاد ذلك في ثروة العالم ومهد السبيل لقيام المدنيات التجارية كمدنية الأيونيين واليونان حيث استخدمت الثورة التي جاءت من طريق التجارة لتمويل الأعمال الأدبية والفنية) .
وعن ليديا أخذت فارس سك النقود، يقول ديورانت (قصة الحضارة: ص414) :
(وكانت الأجور والقروض وفوائد الأموال تؤدى في بادئ الأمر سلفًا وكثيرًا ما كانت تؤدى به الماشية والحبوب ثم جاءتهم النقود من "ليديا" وسك "دارا" "الدارق" (1) من الذهب والفضة وطبع عليه صورته) .
وظهرت العملة في الصين ولكن لا يبدو قريبًا من الاحتمال أن تكون محاكاة لما فعله الليديون أو الفرس، فالحضارة الصينية لبثت مستقلة بنشأتها وتطورها زمنًا طويلًا، بل إن العالم القديم والحديث تأثر بها قبل أن تتأثر به، وعن ظهورها يقول ديورانت (قصة الحضارة: 4/249، 250) :
ومن الحكم الصينية المأثورة قولهم: "السارقون بالجملة ينشئون المصارف " وأقدم ما عرف من النقود ما كان يتخذ من الأصداف البحرية والمدى والحرير.
ويرجع تاريخ أقدم عملة معدنية إلى القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل، وجعلت الحكومة الذهب العملة الرسمية في عهد أسرة "شين" وكانت العملة الصغرى تصنع من خليط من النحاس والقصدير وما لبثت هذه أن طردت الذهب من التعامل ولما أخفقت التجربة التي قام بها"وودي" والتي أراد بها أن يضرب عملة مصنوعة من الفضة والقصدير لكثرة ما زين وقتئذ من النقود استعيض عنها بشرائح من الجلد بلغ طول الواحدة منها قدمًا وكانت هذه الشرائح مقدمةً لاستعمال النقود الورقية، ولما أن أضحى ما يستخرج من النحاس أقل من أن يفي بالأغراض التجارية لكثرة البضائع المتداولة أمر الأمبراطور "شين دوزونج" عام 807 أن تودع العملة النحاسية كلها في خزائن الحكومة وأن يصدر بدلًا منها شهادات مدينة - هكذا، ولعلها محرفة صوابها: مداينة أو مديونية أو ما يشبه هذا - أطلق عليها الصينيون اسم النقود الطائرة لأنهم كما يبدو تحملوا متاعبهم المالية بنفس الطمأنينة التي تحمل بها الأمريكيون متاعبهم في عام 1933م ولم تستمر هذه الطريقة إلا ريثما زالت الضائقة ولكن اختراع الطباعة بالقوالب أغرى الحكومة على أن تستخدم هذه الطريقة الجديدة في عمل النقود، فشرعت ولاية "سشوان" شبه المستقلة في عام 935 للميلاد والحكومة الوطنية في "شنجان" عام 1970م تصدران النقود الورقية وأسرفت الحكومة في عهد أسرة "سونج" في إصدار هذه النقود، فنشأ من ذلك تضخم شديد قضى على كثير من الثروات.
(1) أوضح المؤلف في تعليقه أن لفظ "الدارق" ليس له صلة ما باسم "دارا"، بل إن لفظ دارق" مشتق من كلمة "زارق" الفارسية. وهي قطعة من الذهب وكانت قيمة "الدارق" الذهبي الاسمية خمس ريالات أمريكية
ويقول "ماركوبولو" عن مخازن "كوبلايخان": إن دار السك الإمبراطورية تقوم في مدينة "كمبوك - بيكين"، وأنت إذا شاهدت الطريقة التي تصدر بها النقود، قلت: إن فن الكيمياء أتقن إتقانًا لا إتقان بعده وكنت صادقًا فيما تقول. ذلك أنه يصنع نقوده بالطريقة الآنية، ثم أخذ يستثير سخرية مواطنيه وتشككهم فيما يقول وعدم تصديقهم إياه فوصف الطريقة التي يؤخذ بها لحاء شجر التوت فتصنع منه قطع من الورق يقبلها الشعب ويعدها في مقام الذهب، ذلك هو منشأ السيل الجارف من النقود الورقية الذي أخذ من ذلك الحين يدفع عجلة الحياة الاقتصادية في العالم مسرعة تارة ويهدد هذه الحياة بالحرب تارة أخرى.
لكن لا سبيل إلى الشك في أن اليونان تأثروا بالليديين ثم بالفرس أو بأحدهما حين أخذوا في سك العملة تيسيرًا لنشاطهم التجاري، وفي ذلك يقول ديورانت (قصة الحضارة: 7/55، 56) - نقلًا عن يوناني لم يشأ أن يعرف اسمه:
كان التجار في معظم المدن - أي اليونانية - قبل توحيد الدولة يضطرون أن ينقلوا على سفنهم بضائع وهم عائدون إلى مدنهم لأنهم لم يكن في وسعهم أن يحصلوا على نقود ذات نفع لهم أي في مكان آخر وكانت بعض المدن تسك نقودًا من خليط من الذهب والفضة وينافس بعضها بعضًا في إنقاص ما في هذا الخليط من الذهب، أما الحكومة الأثينية - منذ أيام "صولون" - فقد أخذت على نفسها تشجيع التجارة إلى أقصى حد لإيجاد عملة موثوق بها طبعت عليها "بومة" أثينا، وكان قولهم "يأخذ البومة إلى أثينا" هو المثل اليوناني المقابل لقول الإنجليز "يحمل الفحم إلى نيوكسل"، وإذا كانت "أثينا" قد أبت - خلال صروف الدهر - أن تخفض من قيمة "درخماتها" الفضية فقد كانت سائر بلاد البحر الأبيض المتوسط تقبل وهي راضية هذه "البومات" التي أخذت تحل شيئًا فشيئًا محل العملة المحلية في جزائر "إيجه" وكان الذهب في هذه المرحلة لا يزال سلعة تجارية تباع بالوزن ولم يكن وسيلة يستعان بها على الاتجار ولم تكن أثينا تسكه عملة إلا في حالات الضرورة النادرة وكانت النسبة المعتادة بينه وبين الفضة كنسبة 14 إلى 27، وكانت أصغر النقود الأثينية تسك من النحاس وكانت ثماني قطع منها تكون أبولة - وهي عملة من الحديد أو البرونز سميت بهذا الاسم لمشابهتها للأظافر أو السفود - وكانت ست أبولات تكون الدراخمة - أي الحفنة - والدراخمتان تكونان الستائر Stater وكانت الدراخمة في النصف الأول من القربن الخامس يبتاع بها بشل Buchel من الحبوب.
وطبيعي أن تتأثر روما بالأنظمة اليونانية حين أخذت في الازدهار لتحل محل أثينا تدريجيًّا في مختلف المجالات العالمية الإقليمية ومن أبرزها المجال التجاري وهذه المرحلة من التطور التجاري والمالي لروما يشرحها ديورانت (قصة الحضارة: 9/164، 166) بقوله:
وكان لابد لتيسير هذه الحركة التجارية الداخلية والخارجية من وضع نظام للنقود والمقاييس والميكاييل والموازن مضمون من الدولة.
لقد ظلت الماشية حتى القرن الرابع للميلاد تتخذ وسيلة للتبادل لما لها من قيمة عند جميع الناس ولأنها كان يسهل نقلها من مكان إلى مكان، فلما اتسع نطاق التجارة استخدمت قطع من النحاس خشنة الصنع غير مهذبة تسمى "الأيس""Aes" بواسطة للتعامل (حوالي 330ق. م) .
ثم قال: وكانت الوحدة المستعملة في تقويم الأشياء هي "الآس""AS"(الواحد وكان وزنها رطلًا من النحاس ولما أن سكت الدولة عملة نحاسية عام 335 ق. م. كانت تطبع عليها في الغالب صورة ثور أو شاة أو خنزير ومن ثم سميت "بيكونيا" (Pecunia) من بيكس (Pecus) أي ماشية) .
ويقول بلني أنه لما شبت الحرب "اليونية" ولم تجد الجمهورية من الأموال ما يفي بحاجتها خفضت وزن "الآس" إلى أوقيتين من النحاس وبهذه الوسيلة اقتصدت في قيمته وأفلحت في تصفية الدين العمومي. وما إن وافى عام 202 حتى كان وزن الآس قد نقص إلى وقية واحدة ثم خفض في عام 87 إلى نصف أوية لتستعين الدولة بذلك على تموين الحرب الاجتماعية وفي عام 269 سكت قطعتان من النقود الفضية أولهما "الديناريوس""Denarius" وكان يساوي عشرة "آسات" أي قيمة "الدراخمة" الأثينية في صورتهما الهلينية المخفضة والأخرى "السترتيوس" ومقدارها آسان ونصف آس أو ربع ديناريوس. وفي عام 217 ظهرت أول عملة ذهبية رومانية "الأوري" Aurei وكانت قيمته عشرين أو أربعين أو ستين "سترتيوس".
أما من حيث قيمة المعادن التي تحتويها كل قطعة من هذه النقود فقد كان في الآس ما قيمته 2 % و"الستر" 5 % و"الديناريوس" 20 % من الريال الأمريكي.
وفي متابعة لتطور الأوضاع التجارية والمادية لدى الرومان تبعًا لأوضاعهم السياسية يقول: (قصة الحضارة: 10/235) :
ترى كيف كان الإنتاج والتجارة يمولان؟ لقد كانا يمولان قبل كل شيء بنقد محترم موثوق به في العالم إلى حد كبير ثم إن النقود الرومانية جميعها قد انحطت قيمتها شيئًا فشيئًا من أيام الحرب اليونية الأولى لأن الخزانة وجدت أنه يسهل عليها أن تؤدي ما استعانته الحكومة من المال بسبب الحروب بسماحها بالتضخم الذي ينشأ بطبعه من ازدياد النقود ونقص السلع من ذلك أن الآس وكان في الأصل رطلًا من النحاس انخفض وزنه إلى أوقيتين في عام 241 وإلى أوقية واحدة في عام 202 وإلى نصف أوقية عام 37 ق. م. وإلى ربع أوقية في عام 60م وفي المائة عام الأخيرة من عهد الجمهورية كان قواد الجنود، يسكون نقودهم وكانت هذه النقود في العادة من "الأوري" وهو نقد ذهبي كانت قيمته في الغالب مائة "ستريس" ومن هذه النقود الحربية جاءت نقود الأباطرة وقد جرى هؤلاء على سنة قيصر فطبعوا صورتهم على ما يسكونه من النقود رمزًا لضمان الحكومة إياها وسك "الستريس" وقتئذ من النحاس بدل الفضة وجعلت قيمته أربع آسات وأنقص "نيرون" ما كان يحتويه الدينار من الفضة إلى 90 % مما كان يحتويه منها قبل ثم أنقصه "تراجان" إلى 85 % و "أورليوس" إلى 75 % و "كمودس" إلي70 % و "سبتميوس سيفريس،Septimius Severus إلى 50 % وأنقص "نيرون" قيمة الأوريوس من 40/1 من الرطل من الذهب إلى 45/1 وأنقصها "كركلا" إلى 50/1. وصحب هذا التخفيض ارتفاع عام في أثمان السلع ولكن يلوح أن الدخل ارتفع بنسبة هذا التخفيض وظل يرتفع حتى زمن "أورليوس".
ثم عرض ديورانت إلى تطور النقد - بعد انقسام الدولة الرومانية - في الدولة البيزنطية فقال: (قصة الحضارة: 12/241، 242) :
وكان من أكبر العوامل في هذا النشاط الاقتصادي الكبير النقد الإمبراطوري الذي كان عمله مقبولة في جميع أنحاء العالم لثباته وسلامته. وكان "قسطنطين" قد سك نقدًا جديدًا يحل محل الأوريوس" Aureus الذي سكه "قيصر" وكانت هذه القطعة النقدية الجديدة المعروفة باسم "صوليدوس" Solidus أو بيزنت Besant تزن 4.55 غرامات أو جزءًا من ستة أجزاء من الأوقية الإنجليزية من الذهب وتعادل قيمته 583 من الدولارات في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1946 وإن تدهور "الصولديوس" في قيمته المعدنية والاقتصادية حتى صار هو "الصولدي" ليدل أوضح الدلالة على ارتفاع الأثمان خلال عصور التاريخ المختلفة وعلى انحطاط قيمة النقد ويوحي بأن الادخار فضيلة تتطلب ممارستها كثيرًا من الدقة والحصافة.
ونعتقد أن ما نقلناه عن ديورانت من صور لمعالم تطور النقد ومراحله يوضح لنا أن ما نواجه اليوم ليس بدعًا من عصرنا ولا من طورنا الحضاري، وإنما هو تكرار لما عرفته البشرية منذ أخذت تتعامل بالنقد على اختلاف أنواعه وإن اختلفت أشكاله اختلافًا شكليًّا، واختلفت كذلك بعض ظواهره ومظاهره إذ أن استكناه جوهر العوامل المؤثرة في ارتفاع النقد وانخفاضه والمؤدية إلى تغييره أحيانًا يجلو بما لا مجال معه للشك أنها هي هي في تلك العصور، وفي هذا العصر بصرف النظر عن الأشكال التي تتخذها والظواهر والمظاهر التي تصاحبها وتلابسها بل وإن العواقب والمعقبات هي هي لا تكاد تختلف في جوهرها من عصر إلى عصر وإن تراءى بعض التغاير بينها في ظواهر ومظاهر وأشكال.
وهذه الحقيقة تفضي بنا إلى ضرورة اعتبارها في اجتلاء الأحكام الشرعية واستنباطها، وإن غابت عن بعض الفقهاء والمجتهدين في العصور السالفة ممن تراءى لهم أن ما يشهدونه من أحداث وأطوار بدع من عصورهم أو ظروفهم الحضارية على أن هذا لا يعني إلغاء الظرفية في اجتلاء الأحكام الشرعية للأوضاع والأحوال الناتجة عن تغيير قيمة العملة في هذا العصر، فلا مجال لنكران تأثير الظرفية في تحديدها واستنباطها، لكن قبل أن نصير إلى هذه النقطة يجب أن نقف أولًا على نشأة النقد عند العرب وتطوره. ففي بيئتهم نزل الإسلام ولظروفهم أثرها العميق في صياغة نصوصه وفي المفاهيم والاجتهادات المنبثقة عنها، وذلك ما سنحاول تبيانه في الفصل الآتي:
(4)
نشأة النقد وتطوره عند العرب
الروايات الإسلامية القديمة لا تعرض للمؤثرات الخارجية في نشأة النقد وتطوره عند العرب ويكاد المرء يعتقد - إن اقتصر على الصدور عنها - إن العرب حين قرروا سك النقد أو التعامل به كانوا يصدرون على نفوسهم غير متأثرين بأي سواهم لولا أسماء المسكوكات التي ينسبها أصحاب هذه الروايات إلى الفرس أو إلى الروم أو إليهما معًا وبذلك يشيرون إلى أن سك النقد ليس اختراعًا عربيًّا دون أن يفيضوا في ذلك أو يبينوا الزمن الذي وقع فيه الاتصال بين العرب والنقد المسكوك وبدأوا يتعاملون به.
على أنهم لا يتفقون في نسبة هذا أو ذاك من النقود التي يتعامل بها العرب إلى هذه أو تلك من الأمم الأعجمية التي تصدر عنها.
وهم يشيرون إلى أنها كانت قبل الإسلام وإلى أوائل عهده ذات موازين مختلفة بيد أنهم يختلفون أيضًا في نسبة هذا النقد الخفيف أو الثقيل إلى هذه الأمة أو تلك من الأمم التي يذكرون أنها صادرة عنها ولا يعللون سبب خفة هذا أو ذاك من النقود وزنًا ولا سبب ما يشيرون إليه أحيانًا من الغش في بعضها بل إنهم يختلفون في تحديد نسبة الخفيف أو الثقيل وتحديد نسبة الخفة أو الثقل وتعيين مصدر هذا أو ذاك.
ثم إنهم يجمعون على أن عبد الملك بن مروان هو الذي أشاع النقد المسكوك في أقطار الدولة الإسلامية ما بين سنتي 74 و 76هـ. ولكنهم في ما عدا ذلك يختلفون في تعيين أول من سك النقد في الإسلام، وأحيانًا تأتي أقوايلهم بما يوهم أن وزن الوحدة النقدية إنما استقر على يد عبد الملك وأن المسلمين المعاصرين له من الصحابة والتابعين أهل الحل والعقد أجمعوا على إقرار ذلك الوزن واعتباره شرعيًّا يعتمد عليه تنفيذ الأحكام الإسلامية في الزكاة والأنكحة والديات والمعاملات وما إلى ذلك في حين أن بعضًا منهم يعود فيذكر أن تقرير الوزن - وهذا هو الحق - إنما تم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتشريع منه ومعنى ذلك أن عبد الملك حين أشاع النقد لم يكن إلا مطبقًا للتشريع الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن بعض الرواة يذكرون عمر بن الخطاب رضي الله عنه باعتباره أول من فكر في سك النقد وسك وحدات منه ولكنه لم يشعه أو لم يعمل على إشاعته بحيث يحل محل النقد الموزون وتبعه في ذلك عبد الله بن الزبير ثم كانت إشاعة سكه والتعامل به على يد عبد الملك بنفس الوزن الذي التزم به من قبله تنفيذًا لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما نطمئن إليه كل الأطمئنان.
ولهم اختلافات في تفاصيل غير هذه تأتي في المرتبة الثانية من الاعتبار وأهمها سبب تسمية بعض النقود المسكوكة في عهد عبد الملك بـ " المكروهة ". فمن قائل أن فقهاء معاصرين له كرهوها لأنه نقش عليها آيات قرآنية أو بعض أسماء الله أو بعض الصور ورأوا في ذلك تعريضًا للقرآن أو لأسماء الله أن يقع في يد من لا يجوز له حمله كالمشرك والحائض والجنب أو ممارسة لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم "عنه" من التصوير.
ومن قائل أن السبب هو أن قيصر الروم كره نقود عبد الملك لما نقش فيها من ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذره إن لم يكف عن ذلك أن ينقش في النقد الذي لم يصدره إليه ذكرًا سيئًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع أن هذا القول قد يكون وجيهًا إلا أن ما يريب فيه هو أن القيصر قد أدرك من غير شك حين شرع عبد الملك في إصدار النقد الإسلامي أن اعتماد المسلمين على النقد المصدر إليهم من بيزنطة قد انتهى عهده، والأقرب إلى الاحتمال في هذه الحال أن لا يلجأ إلى التهديد ليبقي على إمكان استمرار النقد المصدر من بيزنطة إلى جانب التعامل بالنقد المسكوك في الدولة الإسلامية فذلك أجدى له اقتصاديًّا ولم يعرف البيزنطيون بشدة التشنج والانفعال كما عرف الأكاسرة بل كانوا ألين جانبًا وأدنى إلى تفهم مستلزمات التعايش بينهم وبين الدولة الناشئة لاعتبارات اقتصادية ولأن المسيحية ليس من خلقها التشنج والانفعال.
على أن من المؤرخين المحدثين من كان أوسع أفقًا وأعمق بحثًا من نقلة الروايات الإسلامية القديمة في استجلاء العوامل التي حملت العرب في الجاهلية ثم في الإسلام إلى التعامل بالنقد ثم إلى سكه ومصادر النقد الذي تعاملوا به في الجاهلية وفي صدر الإسلام وأسباب اختلاف أوزانه وما إلى ذلك من الآثار الاقتصادية والسياسية المكيفة لمسار التعامل العربي بالنقد واردًا أو منتجًا محليًّا.
وليتضح للقارئ ما أجملناه في هذه الحوصلة من الأقاويل والآراء ونتائج الدراسة والبحث نضع بين يديه ما اصطفيناه من الروايات إذا ارتأينا بمجموعه أنه يصور ما لناقليه القدماء والمحدثين في هذا الشأن.
وقد يكون من الأنسب أن نقدم على الروايات القديمة تحريرين جليلين لمؤرخين متميزين من المحدثين فيهما ما نعتبره التحديد والتصوير الصحيحين لنشأة النقد وتطوره عند العرب والمؤرخان هما ديورانت وجواد علي.
قال ديورانت (قصة الحضارة: 12/240،241) :
وراجت التجارة الداخلية أو الخارجية في الإمبراطورية البيزنطية من عهد "قسطنطين" إلى أواخر جستنيان" وكان ما فيها من الطرق والجسور الرومانية يتعهد ويصلح بانتظام ودفع الحرص الشديد على الكسب وما يبعثه من إيداع وإنشاء إلى بناء أساطيل بحرية ربطت العاصمة بمئات الثغور في الشرق والغرب وظلت القسطنطينية من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر أعظم الأسواق التجارية ومراكز النقل البحري في العالم كله، وانحطت الإسكندرية التي كانت لها السيادة في هذه الناحية منذ القرن الثالث ق. م فأصبحت منزلتها في التجارة بعد أنطاكيا وكانت سوريا كلها تعج بالمتاجر والمصانع ويرجع هذا إلى موقعها بين بلاد الفرس والقسطنطينية ومصر وإلى ما اتصف به تجارها من حذق وحب للمغامرة بحيث لم يكن ينافسهم في انتشار تجارتهم ودهائهم إلا اليونان الذين لا يجارونهم في المثابرة والجلد كما يرجع إلى انتشارهم هم أنفسهم في جميع البلاد الإمبراطورية فكانوا بذلك عاملًا في إيجاد ذلك الطابع الأخلاقي والفني الذي طبعت به الحضارة البيزنطية.
وإذا كان الطريق التجاري القديم بين سوريا وأواسط آسيا يخترق بلاد الفرس المعادية للدولة البيزنطية فقد أراد "جستنيان" أن ينشئ طريقًا جديدًا بإقامة صلات ودية بينه وبين الحميريين المقيمين في الطرف الجنوبي الغربي من جزيرة العرب وملوك الحبشة وكان هؤلاء وأولئك يسيطرون على أبواب البحر الأحمر الجنوبية وكانت السفن التجارية البيزنطية تخترق هذه المضايق والمحيط الهندي في طريقها إلى الهند ولكن الفرس الذين كانوا يسيطرون على ثغور الهند كانوا يفرضون على هذه التجارة رسومًا عالية كأنها تمر ببلاد إيران نفسها.
وقال جواد علي (المفصل بتاريخ العرب ما قبل الإسلام: 7/487، 488) :
وقد استعمل أهل العربية الجنوبية النقود في معاملاتهم فاستعملوا نقودًا سكت من فضة وأخرى سكت من نحاس ومن معادن أخرى وقد عثر على نماذج من كل من هذه الأنواع كما تعاملوا بالنقود الأجنبية كذلك مثل النقود اليونانية والرومانية والمصرية والحبشية والفارسية وقد عثر على نماذج من هذه النقود في مواضع متعددة من العربية الجنوبية في اليمن وفي حضرموت وفي مواضع أخرى، وقد زاد تعامل أهل اليمن بالنقود الحبشية والساسانية في أثناء احتلال الحبش والساسانيين لليمن ولاشك يوجد في بعض المتاحف ودور الآثار وعند بعض هواة جمع النقود والأشياء القديمة قطع من نقود جاهلية ضربت في العربية الجنوبية بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعض آخر من نحاس ومنها الكبير ومنها نقود صغيرة دون على بعضها اسم الملك الذي ضربت في أيامه أو الحرف الأول من اسمه وعلى بعض آخر رموز وصور ألف العرب والجنوبيون ضربها على النقود مثل صورة أثينا (1) أو البوم وهي من الطيور التي ألف العرب الجنوبيون إظهار صورتها على النقد وعلى الحجارة المكتوبة وعلى جبهات البيوت.
ثم قال: - ص493/502: بعد أن أفاض في تفصيل ما عرف من نقود العربية الجنوبية وأشكالها وأسمائها وما رسم عليها من رموز ومواقع سكها:
وقد عثر في بصرى في مواضع من المنطقة التي عرفت بـ: " المقاطعة الغربية " الكورة العربية" على نقود معظمها من نقود الرومان واليونان كما عثر على نقود نبطية ويذهب بعض الباحثين في النميات أن الملك "الحارث الثالث" - 87/ 62ق. م - هو أول ملك نبطي أمر بضرب النقود أخذ السكة من اليونان أثناء استيلائه على دمشق وقد عثر على نقد من فئة "دينار" طبع عليه رمز يمثل اتفاق الحارث و "سكاروس" وصورة جمل وشجرة وعثر على نقود أمر الحارث هذا بضربها تشبه النقود التي ضربها ديمتروس الثاني" و"الثالث"(Demetriuss Eukaross III) بمدينة دمشق شبهًا كبيرًا ولهذا يرى الباحثون أنها تقليد ومحاكاة لها، ولم يصل إلينا نقد من نقوده يحمل كتابه مدونة بالنبطية.
(1) أثينا عاصمة اليونان منذ القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا، ومنها انطلق مجد اليونان التجاري والمالي ثم الفلسفي والعلمي الذي لا يزال يؤثر في الحياة الفكرية رغم تباعد أماد الأطوار الحضارية بين عصر نشأتها ثم عصر ازدهارها، وبين هذا العصر، وهذا ينهض حجة واقعية على الوحدة الجوهرية للفكر الإنساني مهما تعاقب في التطور وتعاقبت عليه الأطوار
وجاد عبادة الثالث من ملوك النبط علينا بقطع من النقود يرى الملك على أحد وجهيها ومعه صورة امرأة يظن أنها صورة أمه وأنها تشير إلى مبدأ حكمه إذ كان قاصرًا فكانت أمه تدير الملك باسمه نيابةً عنه، وذلك بالنسبة إلى النقود التي ضربت في أوائل أيام الحكم وأما في النقود المتأخرة فإنها صورة زوجته التي كانت تساعده وتؤازره ونشاهد صورة نسر واقف قابض على جناحيه في الوجه الثاني من أحد النقود وعلى طرفي الصورة كتابة وصورة رجل في القطعتين المرقمتين "سبعة" و "ثمانية" يرى أنها رأس الملك وعلى طرفي الصورة كتابات نبطية وتاريخ الضرب.
وتعد النقود التي ضربت في أيام الحارث الرابع من خير ما ضرب من النقود في أيام النبط ولم يعثر على نقد له ضرب في مدينة دمشق في المدة التي استولى فيها على تلك المدينة وقد ضرب بعضها باسم الملك وباسم زوجته "خَلد"، "خُلد" اسم زوجته الأولى وطبعت صورة زوجته هذه على النقد وضرب بعضها باسمه وباسم زوجته الأخرى "شقيلة" وطبعت صورتها على النقد كذلك وضرب بعض آخر باسم الملك وحده وهي مختلفة بعضها من الفضة، وبعض آخر من البرونز وعلى عدد منها تاريخ الضرب.
وضرب اسم "شقيلة" الثانية ملكة النبط مع اسم الملك "ملك""مالك" الثاني في نقد وصل إلينا وقد وصفت في النقود بأنها أخته أما القطع التي وصلت إلينا فبعضها مصنوع من الفضة وبعض آخر من البرونز وعلى نقوده شيء من التبديل والتغيير عن النقد الذي ضرب في أيام "الحارث الرابع".
وتبورك في النقود مثل نقود "بصرى" بضرب صورة الآلهة أو نعوتها أو رموزها فقد ضرب نعت الإله "ذو شري""ذو الشري" على نقد ضرب في "بصرى" كما أشير إلى هذا الإله في نقد ضرب بـ: "بصرى" بتصوير منظر من مناظر الاحتفالات السنوية التي كانت تقام في كل سنة إكرامًا له وتعرف بـ (Actia Dusaria) أما آلهة المدينة التي ضربت صورتها على ضرب النقود فتشبه صورتها صورة "عشتاروت""عشتروت" المعروفة بفلسطين وفينقيا وسيظهر أنها "اللات" وتشبه في بعض النقود صورة " أثينا " وقد دعيت بـ: (Tyche) وأثينا" هي "اللات" عند أهل "حوران"
وعثر في جزيرة "فيلكا" على نقود يونانية من بينها درهم ضرب في عهد الملك "انطونيوخس الثالث" من ملوك السلوقيين ويعود تاريخ هذا الدرهم إلى حوالي السنة 212 ق. م وتبين أن بعض الدراهم قد ضرب في "جرها"(Gerhha)"الجرعاء" كما عثر على نقود ضربت من النحاس تبين أن قطعة منها ضربت في عهد سلقيوس الأول ضربها باسم الملك الإسكندر الأكبر وأن قطعتين منها ضربتا في أيام أنطونيوخس الثالث" فهي تعاصر الدراهم المذكورة.
أما أهل الحجاز فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية وتعاملوا بالدنانير وتعاملوا بالدراهم وتعاملوا بالدانق وتعاملوا بنقود أهل اليمن ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل الحبشة، كذلك فقد كان أهل مكة خاصةً تجارًا يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام والحبشة وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود.
ولم يرد في الأخبار ما يفيد قيام أهل العربية الغربية أو أي مكان آخر في جزيرة العرب بضرب النقود الجاهلية فيها لكن ذلك لا يمنع من احتمال عثور النقابيين في المستقبل على نقود محلية ضربت في مكة أو في الطائف أو في يثرب أو في مكان آخر ولو على نطاق ضيق محدود. وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة الدرهم فارسية الأصل وقد عربت وقالوا في جمعها دراهم ودراهيم وهي نقد من الفضة وقد عرف بـ "دَرم"(Diram) في الفارسية وبـ "دراخمة"" دراخما"(Drachma) في اليونانية وظاهر أن العرب أخذوا بالتسمية الفارسية وقد استعملوا في التعامل دراهم الفرس ودراهم اليونان.
ثم ساق ملخصًا للروايات التي نقلناها آنفًا من مختلف المصادر العربية الموثقة حول نشأة العملة الإسلامية وأوزانها والتعابير التي أطلقت على كل نوع منها.
ثم قال - ص503: وقد ذكر علماء اللغة نقدًا دعوه "النمي" وقالوا: إنه الدرهم الذي فيه رصاص أو نحاس وقال بعض آخر: إنه "الفلس" من الرصاص بالرومية وكانت بالحيرة على عهد النعمان بن المنذر.
ثم قال: والدانق (1) من الأوزان ومن النقد وهو "داناق" أيضًا من أصل فارسي هو "دانك" في الفهلوية ومن Dang "دانك" في الأرمية وهو يعادل سدس الدينار أو سدس درهم وكان معروفًا عند أهل مكة في الجاهلية.
ثم (2) فلفظة لاتينية يونانية الأصل عربت من أصل (Follus) اللاتيني ويراد بها نقود مسكوكة من النحاس وقد استعملها العرب في تعاملهم واحتفظوا بالأصل الأجنبي وقد كان الفلس في أيام القيصر "أنستاس الأول""أنستانيوس الأول"(491/518م) زهاء ثلاثين غرامًا ورسم بالحرف M وظهرت بعد ذلك فلوس لأوزان تقل عن هذه، ولما ضرب المسلمون النقد كانت الفلوس في جملة ما ضرب من النقد.
(1) سدس الدرهم الإسلامي فيكون وزنه تقريبًا 768 من الألف من الغرام، وهو أيضًا سدس الدينار
(2)
جمعة في القلة أفلس، وفي الكثرة فلوس، وكلمة فلس معربة عن اليونانية وهو نقد أثيني قيمته ما يقرب من ثلاث سنتيمات مغربية على أن قيمته غير مستقرة. فقد كانت عند اليونان تساوي ربع أوقية من الفضة وكان في نفس الوقت قطعة من معدن براق تزين بها الخوذات يتدلى منها على الخدين، ثم أطلق على الرصائع وما يزين بها اللوجان، وقد اضطربت قيمته في الإسلام أيضًا إذ كانت ترتفع وتنخفض طبقًا للكميات المسكوكة منه وحسب سعر النحاس مقابل الفضة والذهب وتبعًا لما يحدث من تضخم أو انحسار نقدي نتيجة لتغاير الأوضاع الاقتصادية
وقال ابن سعد - الطبقات الكبرى: 5/229 - في ترجمته لعبد الملك بن مروان:
أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أن عبد الملك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم سنة خمس وسبعين.
أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا خالد بن ربيعة بن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك بن مروان اثنتين وعشرين قيراطًا (1) إلا حبة بالشامي وكانت العشرة وزن سبعة.
أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن ابن كعب بن مالك، قال: أجمع لعبد الملك على تلك الأوزان.
وقال أبو عبيد - الأموال: ص700،702 - الأثر: 1622:
سمعت شيخًا من أهل العلم بأمر الناس كان معنيًا بهذا الشأن - يعني بشأن النقد - يذكر قصة الدراهم وسبب ضربها في الإسلام، قال: إن الدراهم التي كانت نقد الناس على وجه الدهر لم تزل نوعين: هذه السود الوافية وهذه الطبرية (2) العتق (3) - أي الخيار أو القديمة - فجاء الإسلام وهي كذلك فلما كانت بنو أمية وأرادوا ضرب الدراهم نظروا في العواقب فقالوا - إن هذه تبقى مع الدهر وقد جاء فرض الزكاة أن في كل مائتين أو في كل خمس أواق خمسة دراهم والأوقية أربعون فأشفقوا إن جعلوها كلها على مثال السود ثم تناقشوا بعد لا يعرفون غيرها أن يجعلوا معنى الزكاة على أنها لا تجب حتى تبلغ تلك السود العظام مائتين عددًا فصاعدًا فيكون في هذا بخس للزكاة وأشفقوا إن جعلوها كلها على مثال الطبرية أن يجعلوا المعنى على أنها إذا بلغت مائتين عددًا حلت فيها الزكاة فيكون اشتطاطًا على رب المال فأرادوا منزلة بينهما يكون فيها كمال الزكاة من غير إضرار بالناس وأن يكون مع هذا موافقًا لما وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة.
(1) نصف عشر الدينار غالبًا، وقد يكون جزءًا من أربعة وعشرين منه، وليس له وزن قار، وهو في العصر الحاضر جزء من الذهب الإبريز يزن واحدًا من أربع وعشرين جزءًا من مجموع الثقل للمزيج الذهب المعدني، ولا يتخذ إلا لوزن الجواهر
(2)
مدينة فلسطينية ينسب إليها نوع من الدنانير، افتتحها شرحبيل ابن حسنة سنة 13 للهجرة، صلحًا، ثم نكثت العهد فسير أبو عبيدة إليها عمرو بن العاص وأعاد فتحها على مثل صلح شرحبيل
(3)
الدينار العتيق هو الدينار القديم
قال: وإنما كانوا قبل ذلك يزكونها شطرين من الكبار والصغار فلما أجمعوا على ضرب الدراهم نظروا إلى درهم واف إذا هو ثمانية دوانيق - جمع دانق بفتح النون "فارسية" - وإلى درهم من الصغار فكان أربعة دوانيق فحملوا زيادة الأكبر على نقص الأصغر فجعلوهما درهمين متساويين كل واحد ستة دوانيق ثم اعتبروها بالمثاقيل ولم يزل المثقال في آباد الدهر مؤقتًا محدودًا فوجدوا عشرة من هذه الدراهم التي واحدها ستة دوانيق ثم اعتبروها بالمثاقيل تكون ميزان سبعة مثاقيل سواء فاجتمعت فيهم وجوه ثلاثة أنه وزن سبعة وأنه عدل بين الصغار والكبار وأنه موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة ولا وكس فيه ولا شطط.
فمضت سنة الدرهم على هذا واجتمعت عليه الأمة فلم تختلف أن الدرهم التام ستة دوانيق فما زاد أو نقص قيل درهم زائد وناقص فالناس في زكاتهم بحمد الله ونعمته على الأصل الذي هو السنة والهدي لم يزيغوا عنه ولا التباس فيه.
وكذلك المبايعات والديات على أهل الورق وكل ما يحتاج إلى ذكرها فيه.
هذا كما بلغنا أو كلام هذا معناه.
وكانت الدراهم هذا وزن ستة بذلك جاء ذكرها في بعض الحديث.
حدث عن شريك، عن سعد بن طريف، عن الإصبغ بن نباتة، عن علي، قال: زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام على أربع مائة وثمانين درهمًا وزن ستة. (1) .
(1) لم نقف على هذا الحديث عند غير أبي عبيد
وقال الطبري - التاريخ: 6/256 - في آخر سنة ستة وسبع:
وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدراهم والدنانير. ذكر الواقدي أن سعد بن راشد حدثه عن سعد بن كيسان بذلك، قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه أن عبد الملك ضرب الدراهم والدنانير عامئذ وهو أول من أحدث ضربها.
وحدثني خالد بن أبي ربيعة عن أبي هلال عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة وكانت العشرة وزن سبعة.
وحدثني عبد الرحمن بن جرير الضبي، عن هلال بن أسامة، قال: سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين مثقالًا بالشامي نصف مثقال قلت: ما بال الشامي من المصري؟ قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب الدنانير كانت اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة قال لسعيد: قد عرفته قد أرسلت بدنانير إلى دمشق فضربت على ذلك.
وقال البلاذري - فتوح البلدان: ص651، 657:
حدثنا الحسين بن الأسود، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثني الحسن بن صالح، قال: كانت الدراهم من ضرب الأعاجم مختلفة كبارًا وصغارًا فكانوا يضربون منها مثقالًا، وهو وزن عشرين قيراطًا، ويضربون منها وزن اثنى عشر قيراطًا، ويضربون عشرة قراريط وهي أنصاف المثاقيل، فلما جاء الله بالإسلام واحتيج في أداء الزكاة إلى الأمر الواسط فأخذوا عشرين قيراطًا واثني عشر قيراطًا وعشرة قراريط فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطًا فضربوا على وزن الثلث من ذلك وهو أربعة عشر قيراطًا فوزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطًا من قراريط الدينار العزيز فصار كل وزن عشرة دراهم سبعة مثاقيل وذلك مائة وأربعون قيراطًا وزن سبعة.
وقال غير الحسن بن صالح: كانت دراهم الأعاجم ما العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وما العشرة منها وزن ستة مثاقيل وما العشرة منها وزن خمسة مثاقيل فجمع ذلك فوجد إحدى وعشرين مثقالًا فأخذ ثلثه وهو سبعة مثاقيل فضربوا دراهم وزن العشرة منها سبعة مثاقيل.
القولان يرجعان إلى شيء واحد:
وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر الأسلمي، قال: حدثنا عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أبيه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية وترد عليهم دراهم الفرس البغلية (1) فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر وكان المثقال عندهم معروف الوزن وزنه اثنان وعشرون قيراطًا إلا كسرًا وزن العشرة دراهم سبعة مثاقيل فكان الرطل اثني عشر أوقية وكل أوقية أربعين درهمًا فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأقره أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فكان معاوية فأقر ذلك على حاله ثم ضرب مصعب بن الزبير في أيام عبد الله بن الزبير دراهم قليلة كسرت بعد فلما ولي عبد الملك بن مروان سأل وفحص عن أمر الدراهم والدنانير فكتب إلى الحجاج بن يوسف أن يضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطًا من قراريط الدنانير وضرب هو الدنانير الدمشقية قال عثمان: قال أبي: فقدمت علينا المدينة وبها نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين فلم ينكروا ذلك.
قال محمد بن سعد: وزن الدرهم من دراهمنا هذه أربعة عشر قيراطًا وهو وزن خمسة عشر قيراطًا من أحد وعشرين قيراطًا وثلاثة أسباع.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا إسحاق بن حازم، عن المطلب بن السائب، عن أبي وداعة السهمي أنه أراه وزن المثقال، قال: فوزنته فوجدته مثقال عبد الملك بن مروان، يقال: هذا كان عند أبي وداعة بن ضبيرة السهمي في الجاهلية.
وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا الواقدي، عن سعيد بن مسلم بن بابك، عن عبد الرحمن بن سابط الجمحي (2)، قال: كانت لقريش أوزان في الجاهلية فدخل الإسلام فأقرت على ما كانت عليه. كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهمًا، وتزن الذهب بوزن تسمية دينارًا قيل عشرة من أوزان الدراهم سبعة أوزان الدنانير وكان لهم وزن الشعيرة (3) وهو واحد الستين من وزن الدرهم وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهمًا والنش (4) وزن عشرين درهمًا وكانت لهم النواة وهي وزن خمسة دراهم فكانوا يتبايعون بالتبر على هذه الأوزان فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقرهم على ذلك.
(1) لم أقف على أصل هذه النسبة إلا أن يكون اسم يهودي كان يسك النقود للحجاج كما تقول بعض الروايات، وفي النفس شيء من هذا.
(2)
عبد الرحمن بن سابط الجمحي، ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط تابعي ثقة من الثالثة كثير الإرسال
(3)
واحد من الستين من وزن الدرهم
(4)
النش نصف الأوقية (عشرون درهمًا) ، ويكون من الذهب (وزن نواة)، وقيل: خمسة دراهم، وقيل: ربع أوقية العرب يسمون الأربعين درهمًا أوقية والعشرين نشًا والخمسة نواة
حدثنا محمد بن سعد، عن الواقدي، قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، قال: رأيت الدنانير والدراهم قبل أن ينقشها عبد الملك ممسوحة وهو وزن الدنانير التي ضربها عبد الملك.
وحدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أبيه، قال: قلت لسعيد بن المسيب: من أول من ضرب الدنانير المنقوشة؟ قال: عبد الملك بن مروان وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم كسروية وحميرية قليلة، قال سعيد: فأنا بعثت بتبر إلى دمشق فضرب لي على المثقال في الجاهلية.
وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، أن أول من ضرب وزن سبعة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أيام ابن الزبير.
وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني محمد بن عمر، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك أول من ضرب الذهب عام المجاعة سنة 74هـ.
قال أبو الحسن المدائني: ضرب الحجاج الدراهم آخر سنة 75هـ، ثم أمر بضربها في جميع النواحي سنة ست وسبعين.
وحدثني داود الناقد قال: سمعت مشايخنا يتحدثون أن العباد من أهل الحيرة كانوا يتزوجون على مائة وزن ثمانية يريدون ثمانين مثقالًا دراهم وعلى مائة وزن خمسة يريدون خمسين مثقالًا دراهم وعلى مائة وزن مائة مثقال، قال الناقد: ورأيت درهمًا عليه ضرب هذه الدراهم بالكوفة سنة ثلاث وسبعين فأجمع النقاد أنه معمول وقال: رأيت درهمًا شاذًّا لم ير مثله عليه عبيد الله بن زياد فأنكر أيضًا.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني الواقدي،عن يحيى بن النعمان الغيفاري،عن أبيه قال: ضرب مصعب الدراهم بأمر عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة وعليها بركة،وعليها "الله" فلما كان الحجاج غيرها.
وروي عن هشام بن الكلبي- لعل صوابه هشام بن السائب الكلبي - أنه قال: ضرب مصعب مع الدراهم دنانير أيضا.
حدثني داود الناقد، قال: حدثني أبو الزبير الناقد، قال: ضرب عبد الملك شيئًا من الدنانير في سنة اثنين وسبعين ثم ضربها سنة خمس وسبعين، وأن الحجاج ضرب دراهم بغلية كتب عليها: بسم الله، الحجاج، ثم كتب عليها بعد سنة: الله أحد الله الصمد، فكره ذلك الفقهاء فسميت مكروهة، ويقال: إن الأعاجم كرهوا نقصانها فسميت مكروهة، قال: وسميت السميرية بأول من ضربها واسمه سمير.
حدثني عباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، قال: حدثني عوانة بن الحكم، أن الحجاج سأل عما كانت الفرس تعمل به في ضرب الدراهم فاتخذ دار ضرب وجمع فيها الطباعين فكان يضرب المال للسلطان ما يتجمع له من التبر وخلاصة الزيوف والستوقة (1) والبهرجة (2) ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضرب لهم الأوراق واستغلها من فضول ما كان يؤخذ من فضول الأجرة للصناع والطباعين وختم أيدي الطباعين، فلما ولى عمر بن هبيرة العراق ليزيد بن عبد الملك خلص الفضة أبلغ من تخليص من قبله وزود الدراهم فاشتد في العيار ثم ولي خالد بن عبد الله البجلي ثم القسري العراق لهشام بن عبد الملك فاشتد في النقود أكثر من شدة ابن هبيرة حتى أحكم أمرها أبلغ من إحكامه، ثم ولي يوسف بن عمر بعده فأفرط في التشديد على الطباعين وأصحاب العيار وقطع الأيدي وضرب الأبشار فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية غيرها فسميت الدراهم الأولى المكروهة.
وقال قدامة بن جعفر (الخراج: ص59، 61) :
قال أبو الفرج - يعني الأصبهاني -: لما أخذ أمر الفرس يضمحل ودولتهم تضعف وسلطانهم يهن وتدابيرهم تفسد وسياستهم تضطرب فسدت نقودهم، فقام الإسلام ونقودهم من العين والورق غير خالصة فما زال الأمر على ذلك إلى أن اتخذ الحجاج دار الضرب وجمع فيها الطباعين فكان المال يضرب للسلطان مما يجمع له من التبر وخلاصة الزيوف والبهرجة ثم أذن للتجار في أن تضرب لهم الأوراق وأشغل الدار من فضول ما كان يؤخذ من الأجور وختم على أيدي الصناع والطباعين وذلك في سنة خمس وسبعين ثم نقش على الدراهم (الله أحد الله الصمد) فسميت المكروهة لأن الفقهاء كرهوها ثم لما ولي عمر بن هبيرة العراق ليزيد بن عبد الملك خلص الفضة أبلغ تخليص وجود الدراهم واشتد في العيار ثم لما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق لهشام بن عبد الملك اشتد في النقود أكثر من اشتداد ابن هبيرة حتى أحكم أمرها أبلغ من إحكامه على الطباعين وأصحاب العيار وقطع الأيدي وضرب الأبشار فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية ولم يكن يقبل المنصور من نقودهم في الخراج غيرها فسميت الدراهم الأولى المكروهة ثم جود العيار في أيام الرشيد وأيام المأمون وأيام الواثق حتى كان الأئمة المعمول عليها في دور الضرب مال جمع عياره من ثلاثة دنانير مضروبة في تلك الأول الثلاثة وهي على هذا إلى الآن.
(1) الستوق بفتح السين المشددة وقد تضم وتشديد التاء ما يغلب عيه الغش من الدراهم وهو الزيف، والبهرج الذي لا خير فيه أو ما غلب عليه النحاس، وقيل: البهرجة إذاغلب فيها النحاس لا تؤخذ، وأما الستوقة فهي في حكم الفلوس، والستوق كلمة فارسية معربة قيل أنها مركبة من كلمتين معناهما ثلاثة وقوة فيكون معناها ذا ثلاثة قوى لأن هذا النوع من الدراهم مركب من ثلاثة معادن: الفضة والنحاس والحديد، أو ما يشبه الحديد من المعادن.
(2)
الستوق بفتح السين المشددة وقد تضم وتشديد التاء ما يغلب عيه الغش من الدراهم وهو الزيف، والبهرج الذي لا خير فيه أو ما غلب عليه النحا، وقيل: البهرجة إذاغلب فيها النحاس لا تؤخذ، وأما الستوفة فهي في حكم الفلوس، والستوق كلمة فارسية معربة قيل أنها مركبة من كلمتين معناهما ثلاثة وقوة فيكون معناها ذا ثلاثة قوى لأن هذا النوع من الدراهم مركب من ثلاثة معادن: الفضة والنحاس والحديد، أو ما يشبه الحديد من المعادن.
فأما الورق فإن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان، درهم منها على وزن المثقال وهو عشرون قيراطًا ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا ودرهم وزنه عشرة قراريط فلما احتيج في الإسلام إلى الزكاة أخذ الوسط من مجموع ذلك وهو اثنان وأربعون قيراطًا فكانت أربعة عشر قيراطًا من قراريط الدينار وكانت الدراهم في أيام الفرس يسمى منها البعض مما وزن الدرهم فيه مساوٍ لوزن الدينار العشرة، ووزن عشرة، ومما الدرهم منه اثنا عشر قيراطًا العشرة ووزن ستة، ومما الدرهم منه عشرة قراريط العشرة وزن خمسة، فلما ضربت الدراهم الإسلامية على الوسط من هذه الثلاثة الأوزان قيل في عشرتها وزن سبعة لأنها كذلك.
فلهذه العلة يفيد ذكر الأوزان في الصكاك بأن يقال: وزن سبعة جريًا على المذهب الأول الذي كان يحتاط فيه لوجود الأوزان الثلاثة في الدراهم في ذلك الوقت.
وقال الماوردي - الأحكام السلطانية: (ص153 - 154) في معرض شرحه لما يتصل بالجزية وأحكامها:
وأما الدرهم فيحتاج إلى معرفة وزنه ونقده، فأما وزنه فقد استقر الأمر في الإسلام على أن وزن الدرهم ستة دوانيق ووزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، واختلف في سبب استقراره على هذا الوزن، فذكر قوم أن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان، منها درهم على وزن مثقال عشرون قيراطًا، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا ودرهم وزنه عشرة قراريط فلما احتيج في الإسلام إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط من جميع الأوزان الثلاثة وهو اثنان وأربعون قيراطًا فكان أربعة عشر من قراريط المثقال فلما ضربت الدراهم الإسلامية على الوسط من هذه الأوزان الثلاثة قيل في عشرتها وزن سبعة مثاقيل لأنها كذلك، وذكر آخرون أن السبب في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى اختلاف الدراهم وأن منها البغلي وهو ثمانية دوانق، ومنها الطبري وهو أربعة دوانق ومنها المغربي وهو ثلاثة دوانق ومنها اليمني وهو دانق، قال: انظروا الأغلب مما يتعامل به الناس من أعلاها وأدناها فكان الدرهم البغلي والدرهم الطبري فجمع بينهما فكانا اثني عشر دانقًا فأخذ نصفها فكان ستة دوانق فجعل الدرهم الإسلامي في ستة دوانق ومتى زدت عليه ثلاثة أسباعه كان مثقالًا ومتى نقصت من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهمًا فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهمًا وسبعان.
فأما النقص فمن خالص الفضة وليس للمغشوشة مدخل في حكمه.
وقد كان الفرس عند فساد أمرهم فسدت نقودهم فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورق والذهب غير خالصة إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفوًا لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص.
واختلف في أول من ضربها في الإسلام فقال سعيد بن المسيب: إن أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان، وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم ترد كسروية وسميرية قليلة، قال أبو الزناد: فأمر عبد الملك بن مروان الحجاج أن يضرب الدراهم بالعراق فضربها سنة أربع وسبعين وقال المدائني: بل ضربها الحجاج آخر سنة خمس وسبعين ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين وقيل إن الحجاج خلصها تخليصًا لم يستقصه وكتب عليها (الله أحد الله الصمد) وسميت مكروهة واختلف في تسميتها بذلك فقال قوم لأن الفقهاء كرهوها لما عليها من القرآن وقد يحملها الجنب والمحدث، وقال الآخرون: لأن الأعاجم كرهوا نقصانها فمسيت مكروهة ثم ولي بعد الحجاج عمر بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك فضربها أجود مما كانت ثم ولي بعده خالد بن عبد الله القسري فشدد في تجويدها وضرب بعدها يوسف بن عمر فأفرط في التشديد فيها والتجويد فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، وكان المنصور رضي الله عنه هكذا يقول الماوردي غفر الله له - لا يأخذ في الخراج من نقودهم غيرها وحكى يحيى بن النعمان الغيفاري، عن أبيه، أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبع على ضرب الأكاسرة وعليها بركة في جانب و "الله" في الجانب الآخر ثم غيرها الحجاج بعد سنة وكتب عليها باسم الله في جانب والحجاج في جانب.
وقال أبو يعلى الفراء الأحكام السلطانية: (ص174) :
(وأما الدرهم فيحتاج فيه إلى معرفة وزنه ونقده.
فأما وزنه فقد استقر في الإسلام على أن وزن الدرهم ستة دوانيق وزن كل عشرة منها سبعة مثاقيل. وقد نص على هذا في الزكاة في رواية الميموني، وقد سأله عمن عنده شيء وزنه درهم أسود وشيئ وزنه دانقين - لعل صوابه دانقان - وهي تخرج في مواضع: ذا مع نقصانه على الوزن سواء. فقال: يجمعهما ثم يخرجهما على وزن سبعة.
وقال في رواية بكر بن محمد، عن أبيه - وقد سأله عن الدراهم السود ـ، فقال: إذا حلت الزكاة عن شيئين من دراهمنا هذه أوجبت فيها الزكاة، فأخذ بالاحتياط، فأما الدية فأخاف عليه، وأعجبه في الزكاة أن يؤدي من ميئين من هذه الدراهم، وإن كان على رجل دية أن يعطي السود الوفاية. وقال: هذا كلام لا يحتمله العامة.
وظاهر هذا أنه إنما اعتبر وزن سبعة في الزكاة والخراج محمول عليها، واعتبر في الدية أولى من ذلك، وقال في رواية المروزي - وذكر دراهم اليمن صغارًا في الدرهم منها "دانقين" ونصف، فقال: ترد إلى المثاقيل كيف تزكي هذه؟
فقد نص على اعتبار كل عشرة منها سبعة مثاقيل.
واختلف في سبب استقرارها على هذا الوزن) .
ثم ساق خلاصة لما ذكره البلاذوري والماوردي ونقلناه عنهما.
وقال محمد حامد الفقي في تعليقه على كلام الفراء: قال العلامة تقي الدين أحمد المقريزي الشافعي في رسالته النقود الإسلامية القديمة. (طبع الآستانة) .
اعلم أن النقود التي كانت بأيدي الناس على وجه الدهر على نوعين: السوداء الوافية، والطبرية العتق، وهما غالب ما كان البشري يتعاملون به، فالوافية - وهي البغلية - هي دراهم فارس الدرهم وزنه زنة المثقال الذهب والدراهم "الجواز" تنقص من العشرة ثلاثة، فكل سبعة "بغلية" عشرة بـ "الجواز"، وكان لهن أيضًا دراهم تسمى جوارقية، وكانت نقود العرب التي تدور بينها الذهب والفضة، لا غير، ترد إليها من الممالك دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم، ودراهم فضة على نوعين: سوداء وافية، وطبرية عتق، وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية مثل وزنها في الإسلام مرتين، ويسمى المثقال من الفضة درهمًا، ومن الذهب دينارًا، ولم يكن شيء من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية، وكانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم وهو الرطل الذي هو اثنتا عشرة أوقية (1)، والأوقية هي أربعون درهمًا فيكون الرطل ثمانين وأربع مائة درهم. والنص: هو نصف الأوقية حولت صادة شيئًا فقيل "النش"(2) ، وهو عشرون درهمًا، والنواة وهي خمسة دراهم، والدرهم الطبري ثمانية دوانق، والدرهم البغلي" أربعة دوانق وقيل: بالعكس، و"الدرهم الجوارقي" أربعة دوانق ونصف، والدانق ثمانية حبات وخمسًا حبة من حبات الشعير المتوسطة التي لم تقشر وقد تقطع من طرفيها ما امتد، وكان الدينار يسمى لوزنه دينارًا وإنما هو تبر، ويسمى الدرهم - لوزنه - درهمًا وإنما هو تبر، وكانت زنة كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، والمثقال زنة اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة. وهو أيضًا زنة اثنتين وسبعين حبة شعير مما تقدم ذكره، وقيل: إن المثقال - منذ وضع - لم يخفف في جاهلية ولا إسلام، ويقال: إن الذي اخترع الوزن في الدهر الأول بدأه بوضع المثقال أولا فجعله ستين حبة زنة الحبة مائة من حب الخردل البري المعتدل، ثم ضرب صنجة (3) بزنة مائة من حب الخردل، وجعل بوزنها مع المائة حبة صنجة ثانية، ثم صنجة ثالثة حتى بلغ مجموع الصنج خمس صنجات، فكانت صنجة نصف سدس مثقال ثم أضعف وزنها حتى صارت ثلث مثقال، فركب منها نصف المثقال ثم مثقالا وعشرة، وفوق ذلك فعلى هذا تكون زنة المثقال الواحد ستة آلاف حبة.
ولما بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أقر أهل مكة على ذلك كله، وقال: الميزان ميزان أهل مكة (4) ،وفي رواية ميزان المدينة (5) .
(1) قال عياض في (المشارق: 1/59، 60، مادة أوق) : جرى في غير حديث في الزكاة والنكاح والكتابة والبيوع ذكر الأوقية والأواقي وأحدها مضموم الهمزة مشدد الياء في الواحد والجمع، كذا أكثر رواياتنا في الكتب مثل أضحية وأضاحي وكراسي وهو المعروف في كل كلام العرب وكثير من الرواة من شيوخنا يقول فيها في الجمع أواق وأضاح وجوار، وبعضهم يروي في الواحد وقية وكذا في كتاب القاضي الشهيد في موضع من كتاب مسلم، وفي كتاب البخاري من جميعهم في الشروط وخطأه البخاري وجوازه ثابت كما قالوا: أثاف. وحكي الجبائي في الواحد وقية قال: ويجمع وقايا مثل ضحية وضحيا وبعض الرواة بمد ألف أواق وهو خطأ وقال ابن الأثير في (النهاية: 1/80) : الأواقي جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء، والجمع يشدد ويخفف مثل أثفية وأثافي وأثاف، وربما يجئ في الحديث وقية وليست بالعالية، وهمزتها زائدة وكانت الأوقية قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا وهي في غير الحديث نصف سدس الرطل وهوجزء من اثني عشر جزءًا وتختلف باختلاف اصطلاح البلاد. ونقل الأبي (شرح صحيح مسلم: 3/109) عن المازري قوله: الأواقي بتشديد الياء وتخفيفها جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء وتخفيفها أيضًا على أواق. ونقل عن عياض قوله: أنكر غير واحد أن يقال في الفرد وقية بفتح الواو. وحكى الجبائي أنه يقال: ويجمع على وقايا
(2)
راجع التعليق رقم (3) في الصفحة 1892
(3)
الصنجة: الميزان بفتح فسكون ما يوضع في الميزان مقابل ما يوزن لمعرفة قدره وقد تنطق بالسين بدل الصاد، وهي فارسية الأصل
(4)
سيأتي تخريجهما في موضعه من البحث
(5)
سيأتي تخريجهما في موضعه من البحث
وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الأموال، فجعل في خمس أواق من الفضة الخالصة التي لم تغش خمسة دراهم، وهي النواة، وفرض في كل عشرين دينارًا نصف دينار كما هو المعروف من سنته في كتب الحديث (1) .
قال: فلما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه عمل في ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يغير منه شيئًا حتى إذا استخلف أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق لم يعترض بشيء من النقود - لعل صوابه. يتعرض - بل أقرها على حالها، فلما كانت سنة ثماني عشرة من الهجرة،وهي السنة الثامنة من خلافته أتته الوفود منهم وفد البصرة وفيهم الأحنف بن قيس، فكلم عمر بن الخطاب في مصالح البصرة فبعث معقل بن يسار فاحتفر نهر معقل الذي قيل فيه - إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل - ووضع الجريب والدرهمين في الشهر - فضرب حينئذ عمر رضي الله عنه الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها غير أنه زاد في بعضها "الحمد لله"، وفي بعضها "محمد رسول الله"، وفي بعضها "لا إله إلا الله وحده"، وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، فلما بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ضرب في خلافته دراهم نقشها "الله أكبر" فلما اجتمع الأمر لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وجمع لزياد بن أبيه الكوفة والبصرة قال: يا أمير المؤمنين إن العبد الصالح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صغر الدرهم وكبر القفيز، وصارت به يومئذ ضريبة أرزاق الجند ورزق عليه الدرية طلبًا للإحسان إلى الرعية، فلو جعلت أنت عيارًا دون ذلك العيار ازدادت الرعية به رفقًا، ومضت لك به السنة الصالحة فضرب معاوية رضي الله عنه تلك الدراهم السود الناقصة من ستة دوانيق فتكون خمسة عشر قيراطًا تنقص حبة أو حبتين، وضرب منها زياد وجاء وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل وكتب عليها، فكانت تجرى مجرى الدراهم وضرب معاوية أيضًا دنانير عليها تمثال مقلد سيفًا فوقع منها دينار ردئ في يد شيخ من الجند، فجاء به معاوية، فقال: يا معاوية إنا وجدنا ضربك غير ضرب، فقال له معاوية: لأحرمنك حقك ولأكسونك القطيفة.
(1) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
فلما قام عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ضرب دراهم مدورة وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة وكافة ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحًا غليظًا قصيرًا، فغيرها عبد الله ونقش على أحد وجهي الدرهم "محمد رسول الله"، وعلى الآخر "أمر الله بالوفاء والعدل" وضرب أخوه مصعب بن الزبير دراهم بالعراق وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل وأعطاها الناس في العطاء حتى قدم الحجاج بن يوسف للعراق من قبل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فقال: ما نبقى من سنة الفاسق أو المنافق شيئًا فغيرها، فلما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان بعد قتل عبد الله ومصعب ابني الزبير فحص عن النقود والأوزان والمكاييل وضرب الدنانير والدراهم في سنة ستة وسبعين من الهجرة. فجعل وزن الدينار اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة بالشام، وجعل وزن الدرهم خمسة عشر قيراطًا سوى، والقيراط أربع حبات، وكل دانق قيراطين ونصفًا، وكتب إلى الحجاج وهو بالعراق أن أضربها قبلك فضربها وقدمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها بقايا الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكروا منها سوى نقشها، فإن فيه صورة، وكان سعيد بن المسيب رحمه الله يبيع بها ويشتري ولا يعيب من أمرها شيئًا.
وجعل عبد الملك الذهب الذي ضربه دنانير على المثقال الشامي وهي المكيالة الوازنة المسألة - هكذا في النسخة المطبوعة والظاهر المماثلة - دينارين.
وكان سبب ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم كذلك، أن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان قال له: يا أمير المؤمنين إن العلماء من أهل الكتاب الأول يذكرون أنهم يجدون في كتبهم أن أطول الخلفاء عمرًا من قدس الله تعالى في درهمه فعزم على ذلك ووضع السكة الإسلامية.
وقيل: إن عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى ملك الروم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر التاريخ، فأنكر ملك الروم ذلك وقال: إن لم تتركوا هذا وإلا ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهون فعظم ذلك على عبد الملك واستشار الناس فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة وترك دنانيرهم.
وكان الذي ضرب الدراهم رجلا يهوديًا من تيماء (1)
(1) بلد في أطراف الشام كان فيها حصن للسموأل فسميت تيماء اليهودي. هكذا يزعم ياقوت الحموي، لكن نرجح أن هذه التسمية كانت لأن اليهود استوطنوها أيام الزحف البابلي الأشوري على شبه الجزيرة، ولما وطئ النبي صلى الله عليه وسلم وادي القرى أرسلوا إليه وصالحوه على الجزية ولبثوا فيها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود من جزيرة العرب، وقد ورد ذكرها في شعر الجاهليين والإسلاميين من ذلك قول المجنون: ونبأتماني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا وهذه شهور الصيف عنها قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا
يقال له سمير، نسبت الدراهم إذ ذاك إليه، وقيل لها: الدراهم السميرية.
وبعث عبد الملك بالسكة إلى الحجاج، فسيرها الحجاج إلى الآفاق لتضرب الدراهم بها، وتقدم إلى الأمصار كلها أن يكتب إليه منها في كل شهر بما يجتمع قبلهم من المال كي يحصيه عنده، وأن تضرب الدراهم في الآفاق على السكة الإسلامية وتحمل إليه أولا فأولا. وقدر في كل مائة درهم درهمًا عن ثمن الخطب وأجر الضرائب. ونقش على أحد وجهي الدرهم "قل هو الله أحد"، وعلى الآخر " لا إله إلا الله" وطوق الدرهم على وجهيه بطوق، وكتب في الطوق الواحد "ضرب هذا الدرهم بمدينة كذا"، وفي الطوق الآخر (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) . وقيل: الذي نقش فيها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هو الحجاج.
وكان الذي دعا عبد الملك إلى ذلك أنه نظر للأمة وقال: هذه الدراهم السود الوافية والطبرية العتق تبقى مع الدهر، وقد جاء في الزكاة أن في كل مائتين وفي كل خمس أواق خمسة دراهم، واتفق أن يجعلها كلها على مثال السود العظام مائتي عدد يكون قد نقص من الزكاة وإن عملها كلها على مثال الطبرية - ويحمل المعنى على أنها إذا بلغت مائتي عدد وجبت الزكاة فيها - فإن فيه حيفًا وشططًا على أرباب الأموال، فاتخذ منزلةً بين منزلتين يجمع فيها كمال للزكاة من غير بخس ولا إضرار بالناس، مع موافقة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده من ذلك، وكان الناس قبل عبد الملك يؤتون زكاة أموالهم شطرين من الكبار والصغار، فلما اجتمعوا مع عبد الملك على ما عزم عليه عهد إلى درهم وافٍ وزنه، فإذا هو ثمانية دوانيق، وإلى درهم من الصغار، فإذا هو أربعة دوانيق فجمعها وكمل زيادة الأكبر على نقص الأصغر وجعلهما درهمين متساويين زنة كل منهما ستة دوانيق سوى، واعتبر المثقال أيضًا، فإذا هو لم يبرج في آباد الدهر موفى محدودًا كل عشرة دراهم منها ستة دوانيق فإنها سبعة مثاقيل سوى، فأقر ذلك وأمضاه من غير أن يعرض لتغييره، فكان فيما صنع عبد الملك في الدراهم ثلاث فضائل، الأولى: أن كل سبعة مثاقيل زنة عشرة دراهم، والثانية: أنه عدل بين صغارها وكبارها حتى اعتدلت وصار الدرهم ستة دوانيق، والثالثة: أنه موافق لما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فريضة الزكاة من غير وكس ولا شطط فخصت بذلك السنة واجتمعت عليها الأمة.
وضبط هذا الدرهم الشرعي المجمع عليه أنه - كما مر - زنة العشرة منه سبعة مثاقيل، وزنة الدرهم الواحد خمسون حبة وخمسًا حبة من الشعير الذي تقدم ذكره، ومن هذا الدرهم تركب الرطل والقدح، والصاع وما فوقه، وإنما جعلت العشرة من الدراهم الفضة بوزن سبعة مثاقيل من الذهب، لأن الذهب أوزن من الفضة وأثقل، فأخذت حبة فضة وحبة ذهب ووزنتا فرجحت حبة الذهب على حبة الفضة ثلاثة أسباع فجعل من أجل ذلك كل عشرة دراهم زنة سبعة مثاقيل، فإن ثلاثة أسباع الدرهم إذا أضيفت عليه بلغت مثقالا، والمثقال إذا نقص منه ثلاثة أعشار بقى درهمًا، وكل عشرة مثاقيل تزن أربعة عشر درهمًا وسبعًا درهم، فلما ركب الرطل جعل الدرهم منه ستين حبة، لكن كل عشرة دراهم تعدل زنة سبعة مثاقيل فتكون زنة الحبة سبعين حبة من حب الخردل، ومن ذلك تركب الدرهم فركب الرطل ومن الرطل تركب المد ومن المد تركب الصاع وما فوقه، وفي ذلك طرق حسابية مبرهنة بأشكال هندسية ليس هذا موضعها، وكان مما ضرب الحجاج الدراهم البيض ونقش عليها "قل هو الله أحد"، فقال القراء: قاتل الله الحجاج، أي شيء صنع للناس الآن بأخذه الجنب والحائض فكره ناس من القراء مسها وهم على غير طهارة، وقيل لها: المكروهة فعرفت بذلك.
ثم ذكر المقريزي مذهب مالك في أنه كان لا يرى بها بأسًا، وأن عمر بن عبد العزيز قبل له: هذه الدراهم البيض فيها كتاب الله يقبلها اليهودي والنصراني والجنب والحائض فإن رأيت أن تأمر بمحوها؟ فقال: أردت أن تحتج علينا الأمم إن غير توحيد ربنا واسم نبينا، ومات عبد الملك والأمر على ذلك، فلم يزل من بعده في خلافة الوليد، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز إلى أن استخلف يزيد بن عبد الملك فضرب الهبيرية بالعراق عمر بن هبيرة على عيار ستة دوانق، فلما قام هشام بن عبد الملك - وكان جموعًا للمال - أمر خالد بن عبد الله القسري لسنة ست ومائة من الهجرة أن يعيد العيار على وزن سبعة، وأن يبطل السكك من كل بلد إلا واسط، فضرب الدراهم بواسط فقط وكبر السكة فضربت الدراهم على السكك الخالدية حتى عزل خالد في سنة عشرين ومائة، وتولى من بعده يوسف بن عمر الثقفي فصغر السكة وأجراها على وزن ستة وضربها بواسط وحدها حتى قتل الوليد بن يزيد في سنة ست وعشرين ومائة، فلما استخلف مروان بن محمد الجعدي آخر خلائف بني أمية ضرب الدراهم بالجزيرة على السكة بحران إلى أن قتل وأتت دولة بني العباس.
وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء: 4/248، ترجمة 89) في ترجمته لعبد الملك بن مروان:
قال مالك: أول من ضرب الدنانير عبد الملك، وكتب عليها القرآن.
وقال القلقشندي في (مآثر الأناقة: 3/245) في معرض ذكر أوليات عبد الملك بن مروان:
وهو أول من ضرب الدراهم في الإسلام، وكتب في أولها "قل هو الله أحد" سنة خمس وسبعين، وجعل كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، فاستمر هذا الوزن إلى الآن، وإنما كان قبل ذلك الدراهم المشخصة ثم ضربها الحجاج ونقش عليها "الله أحد الله الصمد" ونهى أن يطبع أحد غيره فطبع سهير اليهودي دراهمه السهيرية - لعله هو الذي سماه البلاذوري سمير - من فضة خالصة، وجعل فيها ذهبًا فأمر الحجاج بقتله، فقال: انظر فإن لم تكن أجود من دراهمك فاقتلني فوجدها أجود منها، فأمر بقتله لجرأته على ضربها: قال فإني أعرض عليك أمرًا فإن رأيته أصلح للمسلمين من قتلي فأعفني. قال: هاته، فوضع الوزن وزن ألف وخمس مائة، وثلاث مائة، إلى وزن ربع قيراط فجعلها حديدًا ونقشها وجاء بها إلى الحجاج فأعجبه وعفى عنه. وكان الناس قبل ذلك يأخذون الدرهم الوازن فيزنون به غيره وأكثر ذلك يؤخذ عددًا.
(5)
النقد كما يتمثل في الحديث الشريف
ألمعنا في الفصل السابق إلى أن النقد ليس جديدًا على العرب، وأنهم لم يتعاملوا به فحسب بل من فيهم من سك منه وحدات بعضها بنفس الاسمين المعروف بهما نقد العهد الإسلامي الأول وما بعده إلى قريب من هذا العصر.
وذلك ما يقرر قاعدة هامة سنعود إلى بيانها بالتفصيل في فصل لاحق وهي أن الإسلام لم يأت ولا غيره من الشرائع التي سبقته - بالتغيير الجذري لطبيعة وأعراف الناس وإنما لتنظيمها وتكييفها بمعيار من إقرار العدل والقسط وتحقيق التطور في إطار من الالتزام بالعدل التزامًا يعصم جميع أطوار الإنسان معاشًا وحضارة من الانحراف، وآية ذلك ما نسوقه فيما يلي من أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها المتفق على صحته، ومنها ما حاول البعض الغمز فيه لكن يتقوى بشواهد تعضده ولا نريد أن نتقصى جميع الأحاديث الشريفة التي ورد فيها تحديد النقد فضة كان أو ذهبًا، إنما نسوق نماذج منها وقد نعمد إلى استقصاء طرق بعض ما غمزوا فيه لبيان أنها ليست معلولة كما يفهم من غمزهم إما بتعدد طرقها فيظاهر بعضها بعضًا أو بما لها من شواهد تعتضد بها.
قال مالك في (الموطأ: ص 197،ح1) :
1 -
عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنه قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمس ذود)) (1) صدقة وليس فيها دون خمس أواق (2) ، صدقة (3) .
2 -
عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم الكوفي، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق)) . (4) صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة (5)
(1) سيأتي تخريجه في موضعه من البحث أيضًا
(2)
راجع التعليق رقم (1) في الصفحة 1897
(3)
أنظر فصل "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(4)
قال العيني في (عمدة القارئ: 8/257) : الورق والورق والرقة دراهم وربما سميت الورقة فضة والرقة الفضة والمال، وعن ابن الأعرابي: وقيل الفضة والذهب، وعن ثعلب: وجمع الورق أوراق، وجمع الرقة رقوق ورقون، ذكر ابن سيده في الجامع، أعطاه ألف درهم رقة يعني لا يخالطها شيء من المال غيرها، وفي الغريبين الورق والرقة الدراهم خاصة، أما الورق فهو المال كله. وقال أبو بكر" الرقة معناها في كلامهم الورق وجمعها رقات، وفي المغرب الورق بكسر الراء المضروب من الفضة، والورق من المال. ورد النووي على صاحب البيان في قوله: الرقة هي الذهب والفضة، وقال: هذا غلط فهو مردود عليه كما ذكرنا عن ابن الأعرابي
(5)
انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
وأخرج الشافعي (الأم: 2/42،43) :
عن طريق مالك هذين الحديثين بلفظ مالك وسنده. وقال البخاري (الصحيح: 2/121)
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) . (1) حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثني ابن سعيد قال: أخبرني عمرو سمع أباه، عن أبي سعيد رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.
ثم قال: (ص133) :
حدثنا مسدد، حدثنا يحيى حدثني مالك، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة ولا في أقل من خمسة من الإبل صدقة، ولا في أقل من خمسة أواق من الورق صدقة)) . (2)
وقال مسلم (الصحيح: 2/673، ح979) :
حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سألت عمرو بن يحيى بن عمارة، فأخبرني عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة)) (3)
حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث:
وحدثني عمرو الناقد، حدثنا عبد الله بن إدريس كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد مثله.
(1) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(2)
انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(3)
أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه يحيى بن عمارة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بكفه بخمس أصابعه ثم ذكر بمثل حديث ابن عيينة (1) حدثني أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا بشر - يعني ابن مفضل ـ، حدثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة)) . (2)
ثم قال:
حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي ـ، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة)) . (3)
وحدثني عبد بن حميد، حدثني يحيى بن آدم، حدثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية بهذا الإسناد مثل حديث ابن مهدي.
وحدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري ومعمر، عن إسماعيل بن أمية بهذا الإسناد مثل حديث ابن مهدي ويحيى بن آدم غير أنه قال: بدل التمر ثمر.
980 -
حدثنا هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي قالا: حدثنا ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله، عن ابن الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ولا فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) . (4)
(1) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(2)
انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(3)
انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(4)
انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
وروى عبد الرزاق (المصنف: 4/89، ح7077) :
عن الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا على إني عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فأما الإبل والبقر والشاة فلا ولكن هاتوا ربع العشر من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين دينار نصف دينار وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول فإذا حال عليها الحول ففيها خمسة دراهم فما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم)) (1) .
ورواه عبد الرزاق موقوفًا أيضًا فقال (المرجع السابق: ص 88، الأثر 7074) :
عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: في مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد فبحساب ذلك قال: قلت: ما قوله: فما زاد فبحساب ذلك؟ قال: يقول بعضهم: إذا زادت على المائتين فكانت زيادته أربعين درهمًا ففيها درهم وقال آخرون: فما زاد فبحساب ذلك إذا كانت عشرة ففيها ربع درهم.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 3/117،118) :
حدثنا ابن نمير عن الأعمش، عن ابن إسحاق، عن عاصم، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس في أقل من مائتي درهم شيء)) . (2)
حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثني عمار، عن زريق، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس في أقل من مائتي درهم شيء)) . (3)
قلت: لم يأت ذكر للذهبي في هذا الحديث في الإسنادين معًا لكن ورد ذكره في رواية عن على موقوفًا عند ابن أبي شيبة قال (ص119) :
(1) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(2)
انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(3)
انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: ليس في أقل من عشرين دينارًا شيء وفي عشرين دينارًا نصف دينار وفي أربعين دينارًا دينار فما زاد فبالحساب. قال الترمذي (الجامع الصحيح: 3/16، ح 620) :
حدثنا محمد بن عبد الله الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عوانة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة عن كل أربعين درهمًا درهمًا وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) (1) .
وتعقبه بقوله: روى هذا الحديث الأعمش وأبو عوانة وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة عن علي.
وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث - يعني الأعور - عن علي.
قال: وسألت محمدًا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح، عن أبي إسحاق يحتمل أن يكون روى عنهما جميعًا.
وأخرجه أبو داود في (سننه: 2/101، ح 1574) فقال:
حدثنا عمرو بن عون، أخبرنا أبو عوانة عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس في تسعين ومائتين شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) . (2) .
وتعقبه بقوله: وروى هذا الحديث الأعمش، عن أبي إسحاق كما قال أبو عوانة ورواه شيبان أبو معاوية وإبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وروى حديث النفيلي شعبة وسفيان وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن على لم يرفعوه، أوقفوه على علي.
ورواه ابن حزم في (المحلى: 6/60) فقال في معرض كلامه عن الأصل في تحديد نصاب الذهب والخلاف في ذلك:
فوجدنا من حدود في ذلك عشرين دينارًا احتج بما رويناه عن طريق ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم وآخر عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور، عن على، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر كلامًا وفيه: وليس عليك حتى يكون - يعني في الذهب - لك عشرون دينارًا، فإن كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك قال: لا أدري أعلي يقول بحساب ذلك أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق الحديث عن طريق عبد الرزاق وقد نقلناه آنفًا.
(1) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(2)
أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
وغمز فيه ابن حزم بمغامز يدفعها أن غيره رواه من طرق ليس فيها بعضها.
وأخرجه ابن ماجه في (سننه: 1/570، ح1790) : فقال:
حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق ولكن هاتوا ربع العش من كل أربعين درهمًا درهم)) (1)
وروى ابن ماجه حديثًا آخر في تقدير نصاب الذهب فقال (نفس المرجع: ص 571، ح 1791) :
حدثنا بكر بن خلف ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عبد الله بن واقد، عن ابن عمر وعائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارًا فصاعدًا نصف دينار ومن الأربعين دينارًا دينارًا)) . (2) .
لكن تعقبه الكتاني في (الزوائد: 1/316، ح 647) : بقوله:
هذا إسناد فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف، رواه الدارقطني في سننه من هذا الوجه.
ورواية الدارقطني التي أشار إليها الكتاني وردت في (السنن: 2/92) : ولفظه:
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا عباس بن محمد.
وحدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن موسى، وحدثنا عمر بن أحمد الجوهري، حدثنا سعيد بن مسعود قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر وعائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارًا نصف دينار ومن الأربعين دينارًا دينارًا)) . (3) .
وروى حديث علي مرفوعًا فقال:
حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، حدثنا الحجاج بن ارطأة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن على بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس في تسعين ومائة درهم زكاة إلا أن يشاء صاحبها وإذا تمت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم فإذا زادت فعلى نحو ذلك)) (4) .
(1) انظر فصل: " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف ".
(2)
أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(3)
أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(4)
انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف.
حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الكاتب، حدثنا جعفر بن محمد الصائغ، حدثنا إسحاق بن منذر أبو يعقوب، حدثنا أيوب بن جابر الجعفي، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس فيما دون المائتين شيء فإذا كان مائتين ففيها خمسة دراهم فما زاد فعلى حساب ذلك)) . (1) .
وروى أحمد في (مسنده الساعاتي الفتح الرباني: 8/238، ح45) حديث علي فقال:
حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا أبو عوانة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) . (2) .
حدثنا ابن نمير، حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق وليس فيما دون المائتين زكاة)) . (3) .
وقال النسائي (السنن: 5/36، 37)
أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي، عن حميد قال: حدثنا يحيى وهو ابن سعيد، عن عمرو بن يحيي، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أواق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أوسق صدقة)) . (4) .
أخبرنا محمد بن سلمة قال: أنبأنا ابن القاسم، عن مالك قال: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) . (5) .
أخبرنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عبد الرحمن أبي صعصعة، عن يحيى بن عمارة وعباد بن تميم، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لا صدقة فيما دون خمس أوساق من التمر ولا فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) (6)
(1) انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف.
(2)
انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف.
(3)
انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف.
(4)
انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف.
(5)
انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف.
(6)
أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
أخبرنا أحمد بن منصور الطوسي قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان ومحمد بن أبي عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة وكانا ثقةً عن يحيى عن عمارة بن أبي الحسن وعباد بن تميم وكان ثقة، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) . (1)
أخبرنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن الخيل والورق فأدوا زكاة أموالكم من كل مائتين خمسة)) . (2)
وأخبرنا حسين بن منصور قال: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن الخيل والورق وليس فيما دون مائتين زكاة)) .
وقال ابن زنجويه (الأموال: 3/910،1039، ح 1610، 1915) :
أخبرنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن معمر، حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة)) . (3)
وأخرجه أحمد في (مسنده: 2/420) فقال:
حدثني علي بن إسحاق قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا معمر قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة)) . (4)
(1) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
(2)
أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
(3)
أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
(4)
أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
ثم قال (ص403) :
حدثنا عتاب قال: حدثنا عبد الله قال: أخبرنا معمر قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة)) (1) .
ويتجلى الارتباط الوثيق بين المكيال والميزان في العهد النبوي وما سبقه من عهود تعامل العرب بهما فيما نقلنا بعضه في الفصل السابق من تحديد المكاييل بوزنها من الدراهم، وفيما جاء هنالك وما سيأتي بعد من تحديد ميزان الدرهم وغيره من القطع النقدية المتداولة حينئذ بعدد حبات الشعير المتوسطة المقطوعة الجوانب مما يثبت علاقة كل منهما بالآخر حتى ليتعذر التأكد من أيهما كان أسبق.
ويتراءى لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه - والله أعلم - ضبط المكاييل على أساس من الموازين في الحديث الذي سنورده بعد قليل من عدة طرق وقرينتنا في ذلك ما رواه الطبري في (ج10 من تفسيره جامع البيان: ص 58) في تفسير سورة المطففين - فقال:
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:(لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل) . وهذا الذي رواه الطبري وغيره من حال الكيل في المدينة قبل نزول سورة المطففين يوضح لماذا قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سنورده من طرق مختلفة ضبط المكيال وضبط الميزان في حديث واحد كما أنه من مرجحات الرواية التي ورد فيها المكيال مكيال المدينة عن تلك التي جاء فيها المكيال مكيال أهل مكة.
وها هو الحديث من عدة طرق:
(1) أنظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف"
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/67، ح 14335) :
أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المكيال على مكيال أهل مكة والوزن عي وزن أهل المدينة)) . (1)
14336 -
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة)) . (2)
14337 -
عن الثوري، عن رجل، عن عطاء مثله.
وقال أبو عبيد (الأموال: ص 696، الأثر 1606)"بتصرف":
سمعت إسماعيل بن عمرو الواسطي يحدث عن سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة)) . وبعضهم يرويه: ((الميزان ميزان المدينة والمكيال مكيال مكة)) (3)
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 5/119، 120، ح3272) :
أخبرنا عمر بن محمد الهمذاني، حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن حنظلة عن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) (4)
3273 -
أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري.
قال ابن خزيمة: وحدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا أبو مروان العثماني حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أصغر الأمداد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين)) (5)
(1) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
(2)
أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
(3)
أنظر: "من أحكام اضطراب العملةفي الحديث الشريف
(4)
أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف.
(5)
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طرق مختلفة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، وعن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، وعن عباد بن تميم، عن عبد الله بن يزيد، انظر المزي (تحفة الأشراف: 1/89، 294،295، و4/339، و12/124) .
وتعقبه بقوله: في ترك إنكار المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: صاعنا أصغر الصيعان بيان واضح أن صاع أهل المدينة أصغر الصيعان ولم يختلف أهل العلم من لدن الصحابة إلى يومنا هذا في الصاع وقدره إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون فزعم الحجازيون أن الصاع خمسة أرطال وثلث. وقال العراقيون: الصاع ثمانية أرطال فلما لم نجد بين أهل العلم خلافًا في قدر الصاع إلا ما وصفنا صح أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم كان خمسة أرطال وثلث إذ هو أصغر الصيعان وبطل قول مَنْ زعم أن الصاع ثمانية أرطال من غير دليل ثبت له على صحته.
وقال أبو داود (السنن: 3/246، ح 3340) :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ابن دكين، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاوس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) (1)
وتعقبه بقوله: وكذا رواه الفريابي وأبو أحمد، عن سفيان وافقهما في المتن، وقال أبو أحمد، عن ابن عباس مكان ابن عمر ورواه الوليد بن مسلم، عن حنظلة قال:- وزن المدينة ومكيال مكة.
قال أبو داود: واختلف في المتن في حديث مالك بن دينار، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا.
وقال النسائي (السنن: 5/549:)
قال أبو عبيد وحدثنيه زياد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن مكة)) (2)
ثم قال (نفس المرجع: 7/284) :
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، عن الملائي عن سفيان.
(1) أنظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(2)
أنظر: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف"
وأنبأنا محمد بن إبراهيم قال: أنبأنا أبو نعيم، عن سفيان، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال على مكيال أهل المدينة والوزن على وزن أهل مكة)) واللفظ لإسحاق. (1)
وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى: 6/31) فقال:
أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أنبأ سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة)) . (2)
أخبرنا علي ، أنبأنا سليمان بن حنبل ، حدثنا نصر بن علي
أخبرنا سليمان بن محمد بن الوليد الترسي، حدثنا عمرو بن على قالا: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((المكيال مكيال أهل مكة والميزان ميزان أهل المدينة)) .
قال سليمان: هكذا رواه أبو أحمد قال: عن ابن عباس فخالف أبا نعيم في لفظ الحديث والصواب ما رواه أبو نعيم بالإسناد واللفظ.
قلت: لسنا بصدد تحرير أي الروايتين أصح فليس هذا من شأننا في هذا المجال لكن نلاحظ أن المدينة أشهر بالزراعة فهي الأكثر استعمالا للكيل والأولى بأن يكون مكيالها هو المعتمد وأن مكة أشهر بالتجارة ولا علاقة لها بالزراعة فهي أولى بأن يعتمد ميزانها ولئن كانت التجارة بحاجة إلى استعمال الكيل فهي إلى استعمال الوزن أحوج ثم إن تجارة أهل مكة غالبًا ما تكون في الأشياء غير المكيلة كالثياب والبز وما إليها والتعامل فيها بالنقد وليس بالمقايضة. أما تجارة أهل المدينة - وهي قليلة بالمقارنة مع تجارة أهل مكة - ففيها تصدير المنتجات الزراعية للمدينة وما حولها لاسيما التمر مما يحتمل أن تكون المقايضة من طرائقها كما قد يكون من طرائقها بيع صادراتها بالنقد وهو أمر يحتاج إلى استعمال الكيل ثم شراء ما تستورده بالنقد وهذا قد لا يكون بحاجة إلى استعمال الكيل.
ثم إن الدرهم الذي استقر عليه العمل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع سك النقود على أساسه فهو في أرجح الروايات ذلك الذي كان شائع الاستعمال في مكة فترجح لدينا بكل هذا أن رواية الميزان ميزان أهل.. الحديث. هي الأرجح والأقرب إلى التعبير عن الواقع التجاري والمالي في العهد النبوي الشريف.
على أن تحديد الصاع والمد كان يعتمد على الميزان ربما كان اعتماده عليه بمقارنته معه حين احتاج الأمر إلى اعتماد معيار لكل منهما وقد تقدم شيء من ذلك في الفصل السابق، ونورد هنا بعض ما جاء عن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ربع الصاع في أرجح الروايات.
(1) أنظر: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف"
(2)
أنظر: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف"
قال عبد الرزاق (المرجع السابق: ص 67، 68، ح 14339) :
أخبرنا معمر قال: رأيت مد النبي صلى الله عليه وسلم عند إسماعيل بن أمية أحسبه رطلًا ونصفًا ولا أعلمني إلا قد عيرته فوجدت ثلاثة أرباع من الربع. (1)
ثم قال (14341) عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن سويد بن قيس:(جلبت أنا ومخرقة العبدي بزًّا من هاجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ " منى " فساومنا بسراويل فابتاعها منا) .
وقال البخاري (الصحيح: 3/22) :
حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم الأنصاري، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة)) (2)
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم)) (3)
ثم قال (نفس المرجع: 7/237) :
حدنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا القاسم بن مالك المزني، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، عن السائب بن يزيد قال: كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدًا وثلثًا بمدكم اليوم فزيد فيه في عهد عمر بن عبد العزيز (4)
حدثنا منذر بن الوليد الجارود، حدثنا أبو قتيبة - وهو سلم - حدثنا مالك، عن نافع، قال: كان ابن عمر يعطي زكاة رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول في كفارة اليمين بمد النبي صلى الله عليه وسلم: قال أبو قتيبة: قال لنا مالك: مدّنا أعظم من مدّكم ولا نرى الفضل إلا في مدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لي مالك: لو جاءكم أمير فضرب مدًّا أصغر من مدّ النبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء كنتم تعطون؟ قلت: كنا نعطي بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفلا ترون أن الأمر إذن يعود إلى مدّ النبي صلى الله عليه وسلم؟
حدثنا عبيد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((اللهم بارك لهم في صاعهم ومكيالهم ومدهم)) .
(1) العبارة غير واضحة ، ولعل فيها خطأ أو خللا فلتحرر
(2)
انظر التعليق رقم (2) في الصفحة 1912.
(3)
أنظر التعليق رقم (2) في الصفحة 1912
(4)
أخرجه البخاري أيضًا. انظر المزي (تحفة الأشراف: 3/) 258
وقال النسائي (السنن: 5/54) :
أخبرنا عمر بن زرارة قال: أنبأنا القاسم وهو ابن مالك، عن الجعد، سمعت السائب بن يزيد قال: كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدًا وثلثًا بمدكم اليوم وقد زيد فيه. (1)
ويتحصل من كل ما سبق أن ضبط معيار النقد إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما ذكره الإخباريون وفقهاء السياسة مما نقلناه في الفصل السابق وما ذكره فقهاء التشريع مما سنذكر طائفة منه في الفصل الآتي عن ضبط موازين النقد وعمن ضبطه ومتى وقع إنما ينحصر بتاريخ صياغة النقد المسكوك طبقًا لما ضبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أساس الضبط فهو سنة نبوية وليس اجتهادًا من الصحابة أو التابعين والذي ذكر عن جمع عمر رضي الله عنه درهمًا أو فى ودرهمًا أنقص ودرهمًا وسطًا وسكه درهمًا من مجموعها مقسومًا على ثلاثة فإنما هو بيان من عمر رضي الله عنه لمعنى ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ميزان الدراهم إذ يبعد أن يكون عمر غير مستحضر لما ضبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع معياره للدرهم المسكوك.
(6)
النقد كما تصوره فقهاء التشريع واللغة
قال الفراء في (معاني القرآن: 2/40) في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [الآية (20) من سورة يوسف] .
وإنما قيل معدودة ليستدل به على القلة لأنهم كانوا لا يزنون الدرهم حتى تبلغ أوقية والأوقية كانت وزن أربعين درهمًا.
وقال ابن حجر (الفتح: 3/245،246) :
وقال عياض: قال أبو عبيد: إن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتى جاء عبد الملك بن مروان فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، قال: وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وسلم أحال بنصاب الزكاة على أمر مجهول وهو مشق، والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد فعشرة مثلًا وزن عشرة ووزن ثمانية فاتفق الرأي على أن ينقش بكتابة عربية ويصير وزنها وزنًا واحدا، وقال غيره: لم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام وأما الدرهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يخالف في أن نصاب الزكاة مائة درهم يبلغ مائة وأربعين مثقالًا من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فقد انفرد بقوله: إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهم. وذكر ابن عبد البر اختلافًا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرهم من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي بالإجماع (2) ، فاعتبر النصاب العدد لا الوزن، وانفرد السرخسي من الشافعية (3) بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس لبلغ نصابًا فإن الزكاة تجب فيه، كما نقل عن أبي حنيفة.
(1) أخرجه البخاري أيضًا. انظر المزي (تحفة الأشراف: 3/) 258
(2)
لم أقف على قول أبي عبيد هذا في مظانه من كتاب "الأموال"
(3)
هذا وهم من الحافظ أو خطأ من الناسخ أو الطابع، فالذي نعلمه أن شمس الدين السرخسي من أئمة الحنفية، وهو شارح المبسوط لمحمد بن الحسن الشيباني، وهذا الشرح مشهور متداول وهو من أنفس التراث في الفقه الحنفي إن لم يكن خيرها على الإطلاق
وقال العيني في (عمدة القاري 8/256) :
وهي جمع أوقية - بضم الهمزة وتشديد الياء - ويجمع على أواقيّ - بتشديد الياء وتخفيفها - وأواق - بحذفها - قال ابن السكيت في (الإصلاح) : كل ما كان في هذا النوع واحدة مشدد جاز في جمعه التشديد والتخفيف كالأوقية والأواقي، والسرية والسراري، والبختية والعلية والأثفية ونظارها، وأنكر الجمهور أن يقال في الواحدة: وقية بحذف الهمزة، وحكى الجبائي جوازها بفتح الواو وتشديد الياء وجمعها وقايا مثل ضحية وضحايا.
ثم قال (ص257) :
وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهمًا وهي أوقية الحجاز، وقال القاضي عياض: لا يصح أن تكون الأوقية والدرهم مجهولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوجب الزكاة على أعداد منها وتقع بها البيانات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة في زمان عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء كل عشرة سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم صغارًا وكبارًا وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه وتصييرها وزنًا واحدًا لا يختلف وأعيانًا يستغنى فيها عن الموازن فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم.
قال القاضي: ولاشك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة وإلا فكيف كان يتعلق بها حقوق الله في الزكاة وغيرها وحقوق العباد، وهذا كما كانت الأوقية معلومة.
ثم قال:
وذكر في كتب أصحابنا - يعني الحنفية - أن الدراهم كانت في الابتداء على ثلاثة أصناف: صنف منها كل عشرة منه عشرة مثاقيل كل درهم مثقال، وصنف منها كل عشرة منه ستة مثاقيل كل درهم ثلاثة أخماس مثقال، وصنف منها كل عشرة منه خمسة مثاقيل كل درهم نصف مثقال. وكان الناس يتصرفون فيها ويتعاملون بها فيما بينهم إلى أن استخلف عمر رضي الله عنه فأراد أن يستخرج الخراج بالأكبر، فالتمسوا منه التخفيف، فجمع حساب زمانه ليتوسطوا ويوفقوا بين الدراهم كلها وبين ما رامه عمر رضي الله عنه وبين ما رامه الرعية، فاستخرجوا له وزن السبعة بأن أخذوا من كل صنف ثلثه فيكون المجموع سبعة.
وفي الذخيرة للقرافي أن الدرهم المصري أربعة وستون حبة، وهو أكبر من درهم الزكاة فإذا أسقطت الزائدة كان النصاب من دراهم - يظهر أنه سقطت كلمة مصر مضافة إلى دراهم، إذ بإثباتها تستقيم العبارة - مائة وثمانين درهم وحبتين
وفي فتاوى الفضل تعتبر دنانير كل بلد ودراهمهم.
ثم قال (ص258) :
وزعم المرغيناني أن الدرهم كان شبه النواة ودُوِّر في عهد عمر رضي الله عنه تعالى - فكتبوا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم زاد ناصر الدولة ابن حمدان:"صلى الله عليه وسلم،" فكانت منقبة لآل حمدان.
وفي كتاب المكاييل، عن الواقدي، عن معبد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن سابط قال: كان لقريش أوزان في الجاهلية فلما جاء الإسلام أقرت على ما كانت عليه الأوقية أربعون درهمًا والرطل اثنا عشر أوقية فتلك أربعة مائة وثمانون درهمًا وكان لهم النش وهو عشرون درهمًا والنواة وهي خمسة دراهم وكان المثقال اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل والدرهم خمسة عشر قيراطًا فلما قدم سيدنا صلى الله عليه وسلم كان يسمي الدينار لوزنه دينارًا وإنما هو تبر ويسمي الدرهم لوزنه درهمًا وإنما هو تبر فأقرت موازين المدينة على هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الميزان ميزان أهل المدينة)) راجع التعليق: (31) ، وعند الدارقطني بسند فيه زيد بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر يرفعه " الوقية " أربعون درهمًا. (1)
وقال أبو عمر: وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار أربعة وعشرون قيراطًا)) . (2) . قال أبو عمر: هذا وإن لم يصح سنده ففي قول جماعة العلماء واجتماع الناس على معناه ما يغني عن الإسناد فيه.
(1) لا أدري ماذا يريد العيني ملاحظته في قوله ، وفيه زيد بن أنيسة لأن زيدا أخرج له الجماعة وكان كثير الحديث فقيها راويا للعلم. ابن حجر (تهذيب التهذيب: 3/397، وترجمة 729)
(2)
لم نقف على الحديث في مظانه من المدونات والمعاجم والمسانيد ولا في الأجزاء المطبوعة من التمهيد لابن عبد البر
قال الأبي في (شرح صحيح مسلم: 3/110) :
ـ بعد أن ساق كلام أبي عبيد وعياض في وزن الأوقية والدرهم.
فإذا كانت الأوقية أربعين درهمًا فالنصاب من الفضة مائة درهم شرعية ووزن الدرهم الشرعي خمسون حبة شعير وخمسًا حبة.
ثم ساق كلام ابن حزم الذي نقلناه سابقًا عن المحلي حول تحقيقه لوزن الدرهم.
ثم قال:
وتبعه في ذلك عبد الحق وابن شاس وابن الحاجب وخطأهم في ذلك العزفي وشيخنا أبو عبد الله - يعني ابن عرفة - ومعرفة قدر نصاب الفضة من درهم كل بلد أن تضرب المائتين عدد النصاب الشرعي في عدد حبات الدرهم الشرعي وتقسيم الخارج وهو عشرة آلاف وثمانون حبة على عدد حبات الدرهم المجهول النصاب منه والخارج هو النصاب من دراهم ذلك البلد فالنصاب من الدرهم التونسي المسمى بالجديد - على ما اختاره بعض محققي المقادير بتونس سنة 686هـ - ثلاث مائة درهم وستة وثمانون درهمًا وستة أجزاء من ثلاثة عشرة جزءًا من درهم وهو - على ما اختبره شيخنا أبو عبد الله سنة ستين وسبعمائة - أربع مائة درهم وعشرون درهمًا وموجب الاختلاف بين هذين النقدين اختلاف عدد حبات الدرهم في التاريخين فقال الأول: وجدته ستة وعشرين من حبات الشعير الوسط المقطوع الذنب. وقال شيخنا: وجدت أربعة وعشرين.
ونقل عن عياض قوله: ولم يذكر في الحديث نصاب الذهب لأن غالب تصرفهم كان من فضة والنصاب منه عشرون دينارًا والمعول على تحديده بذلك الإجماع وجاءت في تحديده بالعشرين أحاديث ضعيفة (1)،ولكن المعول عليه الإجماع كما ذكرنا وشذ الحسن والزهري وقالا: لا زكاة في أقل من أربعين دينارًا (2) والمشهور عنهما تحديده بالعشرين.
(1) يغفر الله لعياض فالأحاديث الواردة في هذا الشأن ليست كلها ضعيفة، وقد سقنا بعضًا منها في فصل النقد كما يتمثل في الحديث الشريف مما أخرجه ابن أبي شيبة (موقوفًا عن علي) وابن ماجه والدارقطني وابن حزم مرفوعًا وغيره من رواة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، وإذا أمكن بعض الشك في شيء مماأخرجه ابن ماجه أو الدارقطني فإن ما أخرجه ابن حزم يصعب الارتياب فيه لشدة تحرجه غالبًا، ونقول غالبًا لأننا لا نزكي على الله أحدًا وما من بشر معصوم من الخطأ"
(2)
وأخذ به بعض فقهاء بعض المذاهب
وقال بعض السلف: إذا كانت قيمة الذهب مائة درهم ففيها الزكاة وإن لم تبلغ العشرين دينارًا قال: ولا زكاة في العشرين إلا أن تكون قيمتها مائتي درهم. قلت: القائل الأبي - ووزن الدينار الشرعي اثنان وسبعون حبة. ثم ساق كلام ابن حزم في وزنه وقد نقلناه من المحلى في الفصل السابق.
ثم قال:
قال العزفي: وذلك خلاف الإجماع ومعرفة نصاب الذهب من دينار كل بلد أن تضرب العشرين عدد النصاب الشرعي في عدد حبات الشرعي وتقسيم الخارج وذلك ألف وأربعمائة وأربعون على عدد حبات الدينار مجهول النصاب منه والخارج عدد نصاب دينار البلد المجهول النصاب منه فنصاب الذهب من الدينار التونسي على ما اختاره الأول ثمانية عشر وعلى ما أختبره شيخنا سبعة عشر وتسعة وعشرون جزءًا من ثلاثة وثمانين جزءا.
وقال السرخسي (المبسوط: 18/4) :
وأصل المسألة أن الأوزان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كانت مختلفة، فمنها ما كان الدرهم عشرين قيراطًا ومنها ما كان عشرة قراريط وهو الذي يسمى وزن خمسة ومنها ما كان اثني عشر قيراطًا وهو الذي يسمى وزن ستة. فلما كان في زمن عمر طلبوا منه أن يجمع الناس على نقد واحد فأخذ من كل نوع من الأنواع الثلاثة درهمًا وكان الكل اثنين وأربعين درهمًا وأمر أن يضرب من ذلك ثلاثة دراهم متساوية فكل درهم أربعة عشر قيراطًا وهو وزن سبعة التي جمع عمر رضي الله عنه عليها الناس وبقي كذلك إلى يومنا هذا.
وقال ابن رشد في (البيان والتحصيل: 2/402) :
لا اختلاف بين أهل العلم في أن النصاب من الورق خمس أواق وهي مائتا درهم "كيلا" - هكذا في النسخة المطبوعة، ولم يعلق عليه المحققون بشيء، وهذا التعبير يحيك في النفس ولعل صوابه:"كملا" لأن كلمة "كيلا" لا تستعمل في الذهب في اصطلاح الفقهاء - تجئ بوزن زماننا مائتي درهم وثمانين درهمًا فإن نقصت من ذلك نقصانًا بينًا تتفق عليه الموازين لم تجب فيه الزكاة إلا أن يجري عددًا وهي تجوز بجواز الوازنة فتجب فيها الزكاة وإن كان النقصان كثيرًا وهو ظاهر ما في الموطأ.
ثم قال:
وأما إن كانت لا تجوز بجواز "الكيل" فلا تجب فيها الزكاة وإن كان النقصان يسيرًا قول واحد.
وقال ابن قدامة في (المغنى: 3،2، 6) :
والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسة، وهي الدراهم الإسلامية التي تقدر بها نصب الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك.
وكانت الدراهم في صدر الإسلام سوداء وطبرية وكانت السود ثمانية دوانيق والطبرية أربعة دوانيق، فجُمِعا في الإسلام وجُعِلا درهمين متساويين في كل درهم ستة دواني، فعلى ذلك بنو أمية فاجتمعت فيها ثلاثة أوجه: أحدها أن كل عشرة وزن سبعة، والثاني أنه عدل بين الصغير والكبير، والثالث أنه موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية، ولا فرق في ذلك بين التبر والمضروب ومتى نقص النصاب من ذلك فلا زكاة فيه سواء كان كثيرًا أو يسيرًا. هذا ظاهر كلام الخرقي ومذهب الشافعي وإسحاق وابن المنذر لظاهر قوله عليه السلام:((ليس فيما دون خمس أواق صدقة)) . والأوقية أربعون درهمًا بدون خلاف فيكون ذلك مائتي درهم. وقال غير الخرقي من أصحابنا - يعني الحنابلة -: إذا كان النقص يسيرًا كالحبة والحبتين وجبت الزكاة لأنه لا يضبط غالبًا فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين وإن كان نقصًا بينًا الدانق والدانقين فلا زكاة فيه.
وعن أحمد أن نصاب الذهب إذا نقص ثلث مثقال زكاة - هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: أن في نصاب الذهب.. إلخ - وهو قول عمر بن العزيز وسفيان وإن نقص نصفًا لا زكاة فيه.
وقال أحمد في موضع آخر: إن نقص ثمنًا لا زكاة فيه اختاره أبو بكر. وقال مالك: إذا نقص نقصًا يسيرًا يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة لأنها تجوز جواز الوازنة أشبهت الوازنة - هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: فأشبهت الوازنة.
ثم قال:
ولو كان له نصاب من أحدهما - أي من الذهب أو الفضة - وأقل من نصاب من الآخر فقد توقف أحمد عن ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم وجماعة، وقطع في رواية حنبل أنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابًا، وذكر الخرقي: فيه روايتان في الباب قبله إحداهما لا يضم وهو قول ابن أبي ليلي والحسن بن صالح وشريك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور واختاره أبو بكر عبد العزيز لقوله عليه السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة. ولأنهما مالان يختلف نصابهما فلا يضم أحدهما إلى الآخر كأجناس الماشية.
والثانية يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب وهو قول الحسن وقتادة ومالك والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي لأن أحدهما يضم إلى ما يضم إليه الآخر فيضم إلى الآخر كأنواع الجنس، ولأن نفعهما واحد والأصول فيهما متحدة فإنهما قيم المتلفات وأروش الجنايات وأثمان البياعات وحلي لمن يريدهما لذلك فأشبه النوعين والحديث مخصوص بعرض التجارة فنقيس عليه.
فإذا قلنا بالضم فإن أحدهما يضم إلى الآخر، يعني كل واحد منهما يحتسب بنصابه فإذا كملت أجزاؤهما نصابًا وجبت الزكاة مثل أن يكون عنده نصف نصاب من أحدهما ونصف نصاب أو أكثر من الآخر أو ثلث من أحدهما وثلثان أو أكثر من الآخر، فلو ملك مائة درهم وعشرة دنانير أو مائة وخمسين درهمًا وخمسة دنانير أو مائة وعشرين درهمًا وثمانية دنانير وجبت الزكاة فيهما وإن نقصت أجزاؤهما عن نصاب فلا زكاة فيهما.
سئل أحمد عن رجل عنده ثمانية دنانير ومائة درهم فقال: إنما قال من قال: فيها الزكاة إذا كان عنده عشرة دنانير ومائة درهم وهذا قول مالك وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي، لأن كل واحد منهما لا تعتبر قيمته في وجوب الزكاة إذا كان منفردًا فلا تعتبر إذا كان عنده عشرة دراهم مضمومة كالحبوب والثمار وأنواع الأجناس كلها. قال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد رواية المروزي أنها تضم بالأحوط من الأجزاء والقيمة ومعناه أنه يقوم الغالي منها بقيمة الرخيص فإذا بلغت قيمة الرخيص منهما نصابًا وجبت الزكاة فيهما، فلو ملك مائة درهم وسبعة دنانير قيمتها مائة درهم أو عشرة دنانير وسبعين درهمًا قيمتها عشرة دنانير وجبت الزكاة فيها، وهذا قول أبي حنيفة في تقويم الدنانير بالفضة لأن كل نصاب وجب فيه ضم الذهب إلى الفضة ضم بالقيمة كنصاب قطع السرقة لأن أصل الضم لتحصيل حظ الفقراء فكذلك صفة الضم.
والأول أصح لأن الأثمان تجب الزكاة في أعيانها فلا تعتبر قيمتها كما لو أفردت ويخالف نصاب القطع، فإن نصاب القطع فيه الورق خاصةً في إحدى الروايتين وفي الأخرى أنه لا يجب في الذهب حتى يبلغ ربع دينار
ثم قال في نصاب الذهب:
وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالًا ولا يبلغ مائتي درهم فلا زكاة فيه، وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مقالًا من غير اعتبار قيمتها إلا ما حكى عن عطاء وطاوس والزهري وسليمان بن حرب وأيوب السختياني أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة فما كانت قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير في نصابه فثبت أنه حمله على الفضة.
ولنا ما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((ليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة)) . رواه أبو عبيد (1)
وروى ابن ماجه عن عمر وعائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارًا نصف دينار ومن الأربعين، دينارًا)) .
وروى سعيد والأثرم عن على في كل أربعين دينارًا دينار وفي كل عشرين دينارًا نصف دينار.
ورواه غيرهما مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2) ، ولأنه مال تجب الزكاة في عينه فلا يعتبر في غيره كسائر الأموال الزكوية.
(1) أنظر الأموال لأبي عبيد (ص560، ح 1113) .
(2)
راجع فصل: النقد كما يتمثل في الحديث الشريف
ثم قال (ص10، 11) :
وهل يجوز إخراج أحد النقدين عن الآخر؟ فيه روايتان نص عليهما إحداهم: لا يجوز وهو اختيار أبي بكر، لأن أنواع الجنس لا يجوز إخراج أحدهما عن الآخر إذا كان أقل من المقدار فمع اختلاف الجنس أولى والثانية: يجوز وهو أصح إن شاء، لأن المقصود من أحدهما يحصل بإخراج الآخر فيجزئ كأنواع الجنس وذلك لأن المقصود منهما جميعًا الثمنية والتوصل بها إلى المقاصد وهما يشتركان فيه على السواء فأشبه إخراج المكسرة عن الصحاح بخلاف سائر الأجناس والأنواع مما تجب فيه الزكاة فإن لكل جنس مقصودًا مختصًا به لا يحصل من الجنس الآخر وكذلك أنواعها فلا يحصل بإخراج غير الواجب من الحكمة ما يحصل بإخراج الواجب، وها هنا المقصود حاصل فوجب إجزاؤه إذ لا فائدة باختصاص الإجزاء بعين مع مساواة غيرها لا في الحكمة وكون ذك أرفق بالمعطي والآخذ وأنفع لهما ويندفع به الضرر عنهما فإنه لو تعين إخراج زكاة الدنانير منها شق على من يملك أقل من أربعين دينارًا إخراج جزء من الدينار ويحتاج إلى التنقيص ومشاركة الفقير له في دينار من ماله أو بيع أحدهما نصيبه فيستضر المالك والفقير وإذا جاز إخراج الدراهم عنها دفع إلى الفقير من الدراهم بقدر الواجب فيسهل ذلك عليه وينتفع الفقير من غير كلفة ولا مضرة، ولأنه إذا دفع إلى الفقير قطعة من الذهب في موضع لا يتعامل بها فيه أو قطعة من درهم في موضع لا يتعامل بها فيه لم يقدر على قضاء حاجته بها، وإن أراد بيعها بحسب ما يتعامل بها احتاج إلى كلفة البيع وربما لا يقدر عليه ولا يفيده شيئًا، وإن أمكن بيعها احتاج إلى كلفة البيع والظاهر أنها تنقص عوضها عن قيمتها فقد دار بين ضررين وفي جواز إخراج أحدهما عن الآخر نفع محض ودفع لهذا الضرر وتحصيل لحكمة الزكاة على التمام والكمال.
قلت: ومن العجب ما جاء في (مجموع الفتاوى) لابن تيمية: (19/248، 251)، وهو حنبل وواسع الاطلاع على فقه الصحابة والتابعين وفقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى وإن كان قد يستقل برأيه عن الحنابلة - من قوله:
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون مسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة)) وقال: ((لا شيء في الرقة حتى تبلغ مائتي درهم)) وقال في السارق: ((يقطع إذا سرق ما بلغ ثمن المجن)) (1)، وقال:((تقطع اليد في ربع دينار)) (2) والأوقية في لغته أربعون درهمًا ولم يذكر للدرهم ولا للدينار حدًا ولا ضرب هو درهمًا ولا كانت الدراهم تضرب في أرضه بل تجلب مضروبة من ضرب الكفار وفيها كبار وصغار، كانوا يتعاملون بها تارةً عددًا وتارة وزنًا كما قال: زن وارجع فإن خير الناس أحسنهم قضاء لا نعرف حديثًا بهذا اللفظ الذي رواه ابن قدامة، ولكن المعروف "زن وأرجح" طرفًا من حديث سويد بن قيس الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن طريق سماك بن حرب. انظر المزي (تحفة الأشراف: 4/134، ح4810) . وكذلك ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لعلاء الدين الفارسي: 7/298، ح5125) . ولفظه من الترمذي (الجامع الصحيح: 3/598، ح 1305) : حدثنا هناد ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة (مخرقة) - على خلاف في الاسم - العبدي برًّا من هجر فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا بسراويل وعندي وزان يزن بالأجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان:((زن وارجح)) .
وتعبقه الترمذي بقوله: وفي الباب عن جابر وأبي هريرة ثم قال: حديث سويد حديث حسن صحيح.
وحديث جابر الذي أشار إليه الترمذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وفي بعض ألفاظه فزادني قيراطًا. لكن ليس فيه لفظ: "زن وأرجح" بصيغة الأمر.
(1) راجع فصل "النقد كما يتمثل في الحديث الشريف
(2)
أخرجه الجماعة من طريق الزهري، عن عمرة، عن عائشة، انظر المزي (تحفة الأشراف: 12/417) .
أما حديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذي أيضا. فأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. انظر المز (تحفة الأشراف: 10/461، ح 14963)، وليس فيه زن وأرجح لأنه يتصل برد سول الله صلى الله عليه وسلم جملا أحسن من ذلك الذي اقترضه فلا مجال فيه للوزن لكن فيه ((خياركم أحسانكم)) - وفي رواية:((أحسنكم قضاء)) - وأصل حديث أبي هريرة هذا حديث أبي رافع الي رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. انظر المزي (تحفة الأشراف: 9/202، ح 12025) ، عن طريق عطاء بن يسار، ولفظه عند مسلم (الصحيح: 3/1224، ح 1600) : حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرج، أخبرنا ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا - البكر الفتى من الإبل - فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًّا فقال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء)) . وفي رواية لمسلم: ((فإن خير عباد الله أحسنهم قضاء)) . وقد ارتأينا أن حديث أبي رافع هو أصل حديث أبي هريرة لأن أبا رافع باشر القضية بنفسه.، وكان هنالك وزان يزن بالأجر ومعلوم أنهم إذا وزنوها فلابد لهم من صنجة يعرفون بها مقدار الدراهم لكن هذا لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدره، وقد ذكروا أن الدراهم كانت ثلاثة أصناف ثمانية دوانيق وستة وأربعة فلعل البائع قد يسمى أحد تلك الأصناف فيعطيه المشتري من وزنها ثم هو مع هذا أطلق لفظ الدينار والدرهم ولم يحده فدل على أنه يتناول هذا كله وأن من ملك من الدراهم الصغار خمس أواق مائتي درهم فعليه الزكاة وكذلك من الوسطى وكذلك من الكبرى.
وعلى هذا فالناس في مقادير الدراهم والدنانير على عاداتهم فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهمًا فهو درهم وما جعلوه دينارًا فهو دينار وخطاب الشارع يتناول ما اعتدوه سواء كان صغيرًا أو كبيرًا فإذا كانت الدراهم المعتادة بينهم كبارًا لا يعرفون غيرها لم تجب عليه الزكاة حتى يملك منها مائة درهم وإن كانت صغارًا لا يعرفون غيرها وجبت عليه إذا ملك منها مائتي درهم، إن كانت مختلفة فملك من المجموع ذلك وجبت عليه وسواء كانت خالصة أو مغشوشة ما دام يسمى درهمًا مطلقًا وهذا قول غير واحد من أهل العلم.
فأما إذا لم يسم إلا مقيدًا مثل أن يكون أكثره نحاسًا فيقال له درهم أسود لا يدخل في مطلق الدرهم فهذا فيه نظر وعلى هذا فالصحيح قول من أوجب الزكاة في مائتي درهم مغشوشة كما هو قول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، وإذا سرق السارق ثلاثة دراهم من الكبار أو الصغار أو المختلفة قطعت يده.
وأما الوسق فكان معروفًا عندهم أنه ستون صاعًا والصاع معروف عندهم وهو صاع واحد غير مختلف المقدار، وهم صنعوه لم يجلب إليهم فلما علق الشارع الوجوب بمقدار خمسة أوسق كان هذا تعليقًا بمقدار محدود يتساوى فيه الناس بخلاف الأواقي الخمسة فإنه لم يكن مقدارًا موحدًا يتساوى فيه الناس بل حده في عادة بعضهم أكثر من حده في عادة بعضهم كلفظ المسجد والبيت والدار والمدينة والقرية هو مما تختلف فيه عادات الناس في كبرها وصغرها ولفظ الشارع يتناولها كلها.
ولو قال قائل: إن الصاع والمد يرجع فيه إلى عادات الناس، واحتج بأن صاع عمر كان أكبر، وبه كان يأخذ الخراج وهو ثمانية أرطال كما يقوله أهل العراق لكان هذا يمكن فيما يكون لأهل البلد فيها مكيالان صغير وكبير، وتكون صدقة الفطر مقدرة بالكبير والوسق ستون مكيالًا من الكبير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر نصاب الموسقات ومقدار صدقة الفطر بصاع ولم يقدر بالمد شيئًا من النصب والواجبات.
لكن لم أعلم بهذا قائلًا، ولا يمكن أن يقال إلا ما قاله السلف قبلنا لأنهم علموا مراد الرسول قطعًا، فإن كان من الصحابة أو التابعين من جعل الصاع غير مقدر بالشرع صارت مسألة اجتهاد.
وأما الدرهم والدينار، فقد عرفت تنازع الناس فيه واضطراب أكثرهم حيث لم يعتمدوا على دليل شرعي، بل جهلوا مقدار ما أراده الرسول هو مقدار الدراهم التي ضربها عبد الملك لكونه جمع الدراهم الكبار والصغار وجعل معدلها ستة دوانيق، فيقال لهم: هب أن الأمر كذلك لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خاطب أصحابه وأمته بلفظ الدرهم والدينار وعندهم أوزان مختلفة المقادير كما ذكر لم يحد لهم الدرهم بالقدر الوسط كما فعل عبد الملك بل أطلق لفظ الدرهم والدينار كما أطلق لفظ القميص والسراويل والإيزار والرداء والدار والقرية والمدينة والبيت وغير ذلك من مصنوعات الآدميين، فلو كان للمسمى عنده حد لحده مع علمه باختلاف المقادير، فاصطلاح الناس على مقدار درهم ودينار أمر عادي.
قلت: وقد كان يمكن أن ننقل أقواله هذه كما نقلنا أقوال غيره من الفقهاء من غير أن نقف عندها بالذات لولا أن أقواله هذه تخالف - ليس أقوال الحنابلة فحسب - ولكن ما جرى عليه جمهور الأمة من أن الدينار والدرهم اللذين كان أداة التعامل بين الناس في العصر النبوي وبهما تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا معروفي الوزن وإن لم يكونا مسكوكين بسكة إسلامية استحدثت في العهد النبوي، وأن السكة التي استحدثت بعد ذلك سواء على يد عمر أو غيره من الصحابة - رضوان الله عليهم - أو على يد عبد الملك بن مروان وعامله الحجاج مما أوضعناه وسقنا الروايات المختلفة بشأنه في الفصل السابق إن كانت على المقدار المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تعامل به واعتبره المقدار القار لكل من الدينار والدرهم عندما سن - بيانًا أو ابتداءً - ما سن من الشعائر التعبدية أو الجنائية أو المتصلة بالمعاملات ذات العلاقة بالذهب والفضة، بل إن المكيال والوزن اللذين شرع اعتبارهما أساسًا للتعامل بين الناس، ولتقدير أنصبة الزكاة في الحديث الذي سقناه سابقًا ((المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة)) قد بينا في الفصل السابق أنهما قائمان على تقدير للأوقية والدينار والدرهم، وهذا لم يختلف فيه الحنابلة ولا غيرهم من فقهاء المذاهب ولا من كان قبلهم من فقهاء الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث والإخباريين، وقد يكون من المفيد أن ننقل ما قاله ابن قدامة عن ذلك في المغنى (2/701) .
أما كون الوسق ستين صاعًا فلا خلاف فيه. قال ابن المنذر: هو قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم، وقد روى الأثرم عن سلمة بن صخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الوسق ستون صاعًا)) (1) وروى أبو سعيد وجابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك رواه ابن ماجه (2) .
(1) لم نقف على هذا الحديث من طريق سلمة بن صخر، لكن وقفنا عليه مرفوعًا عن طريق البحتري، عن أبي سعيد الخدري، وفيه (والوسق ستون مختومًا) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن طريق عمرو بن مرة العجلي كلاهما عن أبي سعيد. وقال أبو داود: أبو البختري لم يسمع عن أبي سعيد. انظر المزي (تحفة الاشراف: 3/356، ح 4042) . وعند ابن ماجه أيضًا في (السنن: 1/557، ح 1833) ، حديث لجابر بن عبد الله، عن طريق عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسق ستون صاعًا) لكن قال الكتاني في (الزوائد: 1/321، ح 659) : هذا إسناد ضعيف فيه محمد بن عبد الله العرزمي وهو متروك، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه الشيخان وغيرهما ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وغيرهم ورواه أصحاب السنن خلا الترمذي عن أبي سعيد. قلت: يغفر الله لشهاب الدين. الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد إنما هو الجزء الأول من الحديث. أما قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي البختري وغيره. أما قوله صلى الله عليه وسلم (الوسق ستون صاعًا) فلم يخرجاه.
(2)
لم نقف على هذا الحديث من طريق سلمة بن صخر، لكن وقفنا عليه مرفوعًا عن طريق البحتري، عن أبي سعيد الخدري، وفيه (والوسق ستون مختومًا) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن طريق عمرو بن مرة العجلي كلاهما عن أبي سعيد. وقال أبو داود: أبو البختري لم يسمع عن أبي سعيد. انظر المزي (تحفة الاشراف: 3/356، ح 4042) . وعند ابن ماجه أيضًا في (السنن: 1/557، ح 1833) ، حديث لجابر بن عبد الله، عن طريق عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسق ستون صاعًا) لكن قال الكتاني في (الزوائد: 1/321، ح 659) : هذا إسناد ضعيف فيه محمد بن عبد الله العرزمي وهو متروك، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه الشيخان وغيرهما ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وغيرهم ورواه أصحاب السنن خلا الترمذي عن أبي سعيد. قلت: يغفر الله لشهاب الدين. الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد إنما هو الجزء الأول من الحديث. أما قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي البختري وغيره. أما قوله صلى الله عليه وسلم (الوسق ستون صاعًا) فلم يخرجاه.
وروى أبو سعيد وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك رواه ابن ماجه (1)
وأما كون الصاع خمسة أرطال وثلثًا ففيه اختلاف ذكرناه في باب الطهارة وبينا أنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي، فيكون مبلغ الخمسة أوسق ثلاث مائة صاع وهو ألف وست مائة رطل عراقي والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، ووزنه بالمثاقيل سبعون مثقالا ثم زيد في الرطل مثقال أخر وهو درهم وثلاثة أسباع فصار إحدى وتسعين مثقالا، كملت زينته بالدراهم مائة وثلاثين درهمًا، والاعتبار بالأول قبل الزيادة فيكون الصاع والرطل الدمشقي الذي هو ست مائة درهم رطلا وسبعًا وذلك أوقية وخمسة أسباع أوقية ومبلغ الخمسة أوسق بالرطل الدمشقي ثلاث مائة رطل وثلاث وأربعون رطلًا وعشر أواقي وسبع أوقية وذلك ستة أسباع رطل.
والنصاب معتبر بالكيل فإن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات والمكيلات تختلف في الوزن، فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، ومنه المتوسط. وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة، وروى جماعة عنه أنه قال: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثي رطل حنطة، وقال أحمد: قال حنبل: أخذت الصاع من أبي النضر وكان أبو النضر أخذه من ابن أبي ذئب وقال: هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرف بالمدينة. قال أبو عبد الله: فأخذنا العدس فعيرنا به وهو أصلح ما يكال به لأنه لا يتجافى عن موضعه، فكلنا به، ووزنَّاه فإذا هو خمسة أرطال وثلث، وهذا أصح ما وقفنا عليه، وما بيّن لنا من صاع النبي صلى الله عليه وسلم. قال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحرمين على أن مد النبي صلى الله عليه وسلم رطل وثلث قمحًا من أوسط القمح، فمتى بلغ القمح ألفًا وستمائة رطل ففيه الزكاة، وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، وأما الخفيف فتجب الزكاة إذا قارب هذا ولم يبلغه.
(1) لم نقف على هذا الحديث من طريق سلمة بن صخر، لكن وقفنا عليه مرفوعًا عن طريق البحتري، عن أبي سعيد الخدري، وفيه (والوسق ستون مختومًا) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن طريق عمرو بن مرة العجلي كلاهما عن أبي سعيد. وقال أبو داود: أبو البختري لم يسمع عن أبي سعيد. انظر المزي (تحفة الاشراف: 3/356، ح 4042) . وعند ابن ماجه أيضًا في (السنن: 1/557، ح 1833) ، حديث لجابر بن عبد الله، عن طريق عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسق ستون صاعًا) لكن قال الكتاني في (الزوائد: 1/321، ح 659) : هذا إسناد ضعيف فيه محمد بن عبد الله العرزمي وهو متروك، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه الشيخان وغيرهما ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وغيرهم ورواه أصحاب السنن خلا الترمذي عن أبي سعيد. قلت: يغفر الله لشهاب الدين. الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد إنما هو الجزء الأول من الحديث. أما قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي البختري وغيره. أما قوله صلى الله عليه وسلم (الوسق ستون صاعًا) فلم يخرجاه.
وما أشار إليه ابن قدامة من الاختلاف الذي ذكره في باب الطهارة من المغنى نصه (1/222، 223) :
والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي والمد ربع ذلك وهو رطل وثلث، وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي يوسف. وقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال لأن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وهو رطلان ويغسل بالصاع (1)
ولنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: ((أطعم ستة مساكين فرقًا من الطعام)) متفق عليه (2) . قال أبو عبيد: ولا اختلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع والفرق ستة عشر رطلا فثبت أن الصاع خمسة أرطال وثلث (3) . وروي أن أبا يوسف دخل المدينة فسألهم عن الصاع فقالوا: خمسة أرطال وثلث فطالبهم بالحجة فقالوا: غدا، فجاء من الغد سبعون شيخًا فكل أحد آخذ صاعًا تحت ردائه، فقال: صاعي ورثته عن أبي وورثه أبي عن جدي حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجع أبو يوسف عن قوله (4) وهذا إسناد متواتر يفيد القطع.
(1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة. انظر المزي (تحفة الأشراف: 1/260، ح 963) .
(2)
وقال ابن الأثير في (النهاية: 3/437) الفرق بالتحريك مكيال يسع ستة عشر رطلا وهي اثنا عشر مدًّا أو ثلاث آصع عند أهل الحجاز، وقيل: الفرق خمسة أقساط والقسط نصف صاع، فأما الفرق بالسكون فمائة وعشرون رطلا
(3)
لم أقف على سند لهذا الأثر
(4)
لم أقف على سند لهذا الأثر
ثم قال:
والرطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وهو تسعون مثقالا، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، هكذا كان قديمًا. ثم إنهم زادوا فيه مثقالا فجعلوه إحدى وتسعين مثقالا وكمل به مائة وثلاثون درهمًا، وقصدوا بهذه الزيادة إزالة كسر الدرهم والعمل على الأول لأنه الذي كان موجودًا وقت تقدير العلماء للمد به فيكون المد عندئذ مائة درهم وإحدى وسبعين درهمًا وثلاثة أسباع الدرهم، وذلك بالرطل الدمشقي الذي وزنه ست مائة درهم ثلاثة أواق وثلاثة أسباع أوقية والصاع أربعة أمداد فيكون رطلا وأوقية وخمسة أسباع أوقية، وإن شئت قلت: هو رطل وسبع رطل.
وليس الحنابلة ببدع من أمرهم في تقدير الكيل بالوزن تقديرًا يعتمد بداهة على أن مقدار الدرهم والدينار والمثقال والأوقية والرطل وما إلى ذلك كان متعارفًا لديهم تعارفًا لم يكن بحاجة إلى تنصيص عليه، ومعنى ذلك أن أنصبة الزكاة منضبطة بمقادير معينة وليست متأرجحة - كما ذهب ابن تيمية رحمه الله فيما نقلناه عنه آنفًا " ولكل جواد كبوة "، وكما ذهب ممن شذ غيره عن الجمهور.
ولو أننا واكبنا هؤلاء في اعتبار عدم انضباط وزن الدينار والدرهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعل مسنون منه لوقعنا في فوضى لا حدود لها، فلو أن بلدًا سك دينارًا أو درهمًا بدانق أو قيراط أو حبة لأصبح نصاب الزكاة بزعمهم ما مثاله مائتا دانق أو قيراط أو حبة من الفضة أو عشرين منها من الذهب وهذا لا يقول به عاقل، والقول بأن الدنانير والدراهم الصغار إذا تواضع عليها أهل بلد يعتبر فيها العدد وحده في النصاب كما أن الكبار يعتبر فيها العدد وحده يؤدي إلى إلغاء جميع الأحكام المرتكزة على اعتبار الوزن في العقول والحدود والأنكحة والمعاملات، وبذلك ينهار جانب كبير من الفقه وتضطرب أحكام شتى من أحكام الشرع، وما من أحد يسيغ ذلك.
ولقد ارتأينا أن نقف هذه الوقفة من قول ابن تيمية وبعض من شذ غيره لأن عليها سيترتب ما قد نقف عليه في مناسبة من أحكام تتصل بتغيير العملة وما يترتب عنه من ضوابط المعاملات.
وقال النووي في (المجموع: 6/14، 16) :
قال الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن في أول كتاب البيع في باب ((المكيال ميكال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة)) (راجع التعليق: 1) . قال معنى الحديث أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة، وهي دراهم الإسلام المعدلة منها العشرة بسبع مثاقيل، لأن الدراهم مختلفة الأوزان في البلدان، فمنها البغلي وهي ثمانية دوانيق، والطبري أربعة دوانيق، ومنها الخوازرمي وغيرها من الأنواع ودراهم الإسلام في جميع البلدان ستة دوانيق وهو وزن أهل مكة الجاري بينهم، وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عددًا ووقت قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قول عائشة رضي الله عنها في قصة شرائها بريرة " إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت "(1) تريد الدراهم فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوزن وجعل المعيار وزن أهل مكة.
(1) أخرجه الشيخان وغيرهما. انظر المزي (تحفة الأشراف: 12/133، ح 16813؛ والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: ا. ي. و. ونسنك و. ي. ب. دي بروين: 4/145) .
قال - يعني الخطابي -: واختلفوا في حال الدرهم، فقال بعضهم: لم يزل الدرهم على هذا المعيار في الجاهلية والإسلام، وإنما غيروا السكك ونقشوها بسكة الإسلام الأوقية أربعون درهمًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ليس فيما دون خمس أواق صدقة)) (1)، وهي مائة درهم. قال: وهذا قول ابن عباس (2) وابن سريج (3) .
(1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف".
(2)
يظهر أن في العبارة خطأ صوابه: وهي مئتا درهم على أساس أن الأوقية أربعون درهمًا. انظر في المأثور عن وزن الدرهم قبل الإسلام وقبل سك النقود في الإسلام ما سقناه في فصل " نشأة النقد وتطوره ". وابن سريج هو أحمد بن صباح النهشلي أبو جعفر الرازي ثقة حافظ من الطبقة العاشرة روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي. انظر ابن حجر (التقريب: 1/14) .
(3)
يظهر أن في العبارة خطأ صوابه: وهي مئتا درهم على أساس أن الأوقية أربعون درهمًا. انظر في المأثور عن وزن الدرهم قبل الإسلام وقبل سك النقود في الإسلام ما سقناه في فصل " نشأة النقد وتطوره ". وابن سريج هو أحمد بن صباح النهشلي أبو جعفر الرازي ثقة حافظ من الطبقة العاشرة روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي. انظر ابن حجر (التقريب: 1/14)
ثم قال:
وقال الرافعي وغيره من أصحابنا - يعني الشافعية -: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن، وهو أن الدرهم ستة دوانيق كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام. هذا ما ذكره العلماء في ذلك، والصحيح الذي يتعين اعتماده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة الوزن ومعروفة المقدار وهي السابقة إلى الأفهام عند الإطلاق، وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق والمقادير الشرعية ولا يمنع من هذا كونه كان هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر، فإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الدراهم محمول على المفهوم عند الإطلاق وهو كل درهم ستة دوانيق كل عشرة سبع مثاقيل، وأجمع أهل العصر الأول فمن بعدهم إلى يومنا على هذا ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. والله أعلم.
وأما مقدار الدرهم من الدينار، فقال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي في كتابه الأحكام.
وساق كلام ابن حزم في المحلى.
ثم قال:
فالرطل مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم وهو تسعون مثقالًا، وقيل: مائة وثلاثون درهمًا. وبه قطع الغزالي والرافعي: وهو غريب ضعيف.
وقال ابن حزم في (المحلى: 5/246) :
بحثت أنا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه، فكل اتفق لي أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير المطلق والدرهم سبعة أعشار مثقال فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبة وعشر عشر حبة فالرطل مائلة درهم واحدة وثمانية وعشرون درهمًا بالدرهم المذكور. وقال ابن العربي في (عارضة الأحوذي: 2/104) عند شرحه لحديث علي الذي أخرجه الترمذي عن نصاب زكاة الفضة (1) :
والحكمة في أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفضة والتنصيب وتقدير الواجب وترك ذكر الذهب أن تجارتهم إنما كانت في الفضة خاصة معظمها فوقع التنصيص على المعظم ليدل على الباقي لأن كلهم أفهم خلق وأعلمهم، وكانوا أفهم أمة وأعلمها، فلما جاء الحمير - كذا قال يغفر الله له - الذين يطلبون النص في كل صغير وكبير تمس عليهم باب الهدى وخرجوا عن زمرة من أستن بالسف واهتدى. والراجح أنه يقصد الظاهرية أصحاب ابن حزم.
ثم قال (نفس المرجع: ص 104، 105) في وزن الوسق والصاع والرطل والدرهم:
…
هذه المقادير كانت معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأحال عليها بالبيان، ولما استأثر برسوله غيرت الشرائع شيئًا فشيئًا من الأذان إلى الصلاة إلى آخر الأزمنة حتى انتهى التغيير إلى الكيل، فغيره هشام والحجاج، فغلب المد الهاشمي والحجاجي على مد الإسلام وغيرت الدراهم والدنانير واختلف ضربها، ودخل عليها من الزيادة والنقصان واضطراب الأقوال ما لو سمعتموها لقلتم إنها لا تحصل أبدًا، والذي ننخل منها أن المثقال أربعة وعشرون قيراطًا، والقيراط ثلاث حبات، والدرهم نصفه وهو ستة دوانيق، والدانق ست حبات ضربته بنو أمية ليسهل الصرف. وكان الحسن يقول: لعن الله الدانق، ما كانت العرب تعرفه ولا أبناء الفرس. قال الخطابي: والأوقية اثنا عشر درهمًا من ذلك الوزن، والرطل اثنتا عشرة أوقية، فهذا هو المطابق لوزن الشريعة فدع غيره سودي فليس له آخر ولا مدى وركب على هذا الوزن الكيل فله أصل - لعل صواب العبارة: فهو له أصل - فالمد رطل وثلث والصاع أربعة أمداد والوسق ستون صاعًا وسائر الأكيال يفسرها أصحابها فإنه لا يتعلق بها حكم إذ ليست من ألفاظ الشرع.
(1) حديث علي هذا سقناه في الفصل السابق.
هذه صفوة من تصوراتهم للنقد لا نريد أن نناقشها لأن مرد الاختلاف بينها عند التأمل هو اختلاف البيئات ثم الأجيال، وكذلك تباين ما بلغهم من نصوص معتمدة، فواضح أن بعضهم لم يبلغه مثلا أن عمر رضي الله عنه سك بعض النقود فحسب أن الأمويين هم الذين أحدثوا سكها، وكذلك لم يبلغه فعل ابن الزبير، ومنهم من بلغه فعله ولم يبلغه فعل عمر بيد أنهم مجمعون - عدا ما نقلنا عن ابن تيمية وبعض من شذ غيره - على أن السكة المعتمدة في عصر التابعين وبقية الصحابة أيام بني أمية إنما اعتمدت لأنها التزمت وزنًا بما كان عليه التعامل في الذهب والفضة لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المقادير الموزنة التي بنى عليها التشريع في الزكاة والنكاح والديات والمعاملات وما إليها من الشئون ذات العلاقة بالتبادل المالي. وكذلك لم يقل أحد ممن يعتمد قولهم بأنه يمكن قبول كيل أو وزن غير اللذين اعتمدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي يعنينا في هذا المجال ليس مناقشة بعض الآراء تاريخيًا أو فقهيًا، فهذا شأن له مجال آخر، وإنما تقديم صورة واضحة لوجود اضطراب في النقد منذ العصر الأول للهجرة ومن قبل الإسلام ترتبت عليه أحكام سنرى بيانها مفصلا في الفصل الآتي وما بعده، وهي الأحكام التي سنعتمد عليها وليس لأحد أن يعتمد غيرها في تبيان موقف الشريعة الإسلامية من تغيير العملة ومدى تأثر المعاملات بين المسلمين بها ما التزموا بضوابط الشرع الإسلامي.
(7)
أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
عندما أخذ المجتمع الإسلامي ينشأ في المدينة المنورة نتيجة لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها كانت أنماط من المعاملات سائدة فيها، وفيما حولها وجلها - إن لم نقل كلها - كان سائدًا في مختلف أنحاء العالم المتمدين، وخاصة الأقطار التي يتصل بها العرب بالتجارة تصديرًا واستيرادًا. أو بالأحرى نقلا للبضائع إليها ونقلا لها منها، وأبرزها فارس وبيزنطة. وكانت المقايضة هي الطريقة السائدة في أغلب حالات الاتجار عندهم، وإن أخذ التعامل بالنقد يحسر مداها ويحصر مجالها شيئًا فشيئًا، بيد أن التعامل بالنقد نفسه تأثر تصوره في عقولهم يومئذ بصورة المقايضة، ذلك بأن الذهب والفضة لم تستأثر إحداهما بالهيمنة على النقد المتعامل به باعتبارها المعيار الوحيد له، وإنما كانتا معًا تمثلان المعيار النقدي وتتناوبان السيطرة على سوقه بصورة تشبه إلى حد كبير قاعدة العرض والطلب، فأحيانًا تحكم الذهب في الفضة، وأخرى تحكم الفضة في الذهب. ومن أسباب ذلك - وليس السبب الوحيد - أن سك العملة الذهبية والفضية لم يتوافر بحيث تصبح الوحدة النقدية من الذهب أو الفضة هي أداة التعامل ولو توافر لكان للعملة الغالبة في السوق أن تهيمن على الأخرى الأقل رواجًا أو قبولا لدى المتعاملين، فكانت الوحدة النقدية تتمثل مسكوكة حينًا، ووزنًا حينًا آخر. وكانت المسكوكة تخضع في بعض الحالات للتزييف ونقص الوزن، فكان ذلك مما أرجح التعامل بالوحدة " الوزنية" وأشاعه على حساب الوحدة المسكوكة.
وفي هذا الوضع المضطرب نشأت أنواع من التعامل الجائر تشملها كلمة " الربا"، ومن أبرزها: التعامل بأحد النقدين متفاضلًا نسيئة أو متفاضلًا ناجزًا أو نسيئة غير متفاضل، وكذلك التعامل بهما معًا بتفاضل ونسيئة أو بإحدى الحالتين.
وعلى النهج الذي سار عليه التشريع الإسلامي من تنظيم وتوجيه عادات الناس وأعرافهم على أسس من العدل المطلق وإزالة كل ما من شأنه أن يكون من الظلم أو وسيلة إليه كان تنظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاملات المسلمين، ومنها ما يتصل بالنقد، وكان الضابط الذي يشكل جوهر هذا التنظيم إلغاء كل ما من شأنه تعريض مصلحة أحد المتعاملين إلى أن تكون ضحية لاستغلال المتعامل الثاني.
وسيتبين القارئ ذلك جليًّا مما ندرجه فيما يلي من أحاديث شتى أسانيد أغلبها صحيحة، وما كان منها ضعيف السند فهو صحيح بشواهده ويجب اعتماده. وقد ارتأينا أن نطيل المدى بما يشبه الاستقراء للألفاظ والأسانيد، ولا يخلو في كثير من الأحيان من التكرار في إيراد هذه الأحاديث لأننا نرى أن اللفظة الواحدة ترد في الحديث ولا ترد في الآخر، أو تختلف في الحديث عن الآخر صيغة أو موقعًا لها تأثيرها إذا جمعت مع غيرها في تقديم البيان الجلي الصحيح الدقيق لمناط التشريع وعلته في التنظيم النبوي للمعاملات، وخاصة ما كان منها له صلة بالنقد ذهبًا أو فضة أو هما معًا. وفيما يلي ما ارتأينا إدراجه مما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن.
أحاديث في الصرف:
عن أبي بكر الصديق:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/124، ح 14569) :
عن الثوري عن محمد بن السائب - يعني الكلبي وهو متروك - عن أبي سلمة، عن أبي رافع، قال: خرجت فلقيني أبو بكر الصديق بخلخالين فابتعتهما منه فوضعتهما في كفة الميزان، ووضعت ورقي - كلمة " ورقي" زادها المحقق لتوقف العبارة عليها - في كفة الميزان فرجح فقلت: أنا أحله لك قال: وإن أحللته لي فإن الله لم يحلله لي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الفضة بالفضة وزنًا بوزن، والذهب بالذهب وزنًا بوزن، الزائد والمستزيد في النار)) .
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/107، ح 2543) :
حدثنا أبو يعلى عن الكلبي، عن أبي سلمة، عن أبي رافع، عن أبي بكر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والزائد والمستزيد في النار)) .
وعن عمر بن الخطاب:
من طريق مالك بن الحدثان، وعبد الله بن عمر:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/116، ح 14541) :
أخبرنا معمر ومالك، عن الزهري، قال: أخبرنا مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صرفت من طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب، فقال: أنظرنا حتى يأتينا خازننا من الغاب (1) فسمعها عمر، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
(1) هكذا في بعض الروايات ويظهر أنه خطأ فالغاب آخره باء موحدة موضع باليمن كما يقول ياقوت في معجم البلدان: (4/182) . وصوابه كما في الروايات الأخرى. الغابة وهو موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة وهو المذكور في حديث السياق من الغابة إلى موضع كذا ومن أثل الغابة وفي تركة الزبير اشتراها بمائة وسبعين ألفًا وبيعت في تركته بألف ألف وست مائة ألف. ثم قال ياقوت - المرجع السابق -: وقال الواقدي: الغابة بريد من المدينة على طريق الشام وصنع منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرفاء الغابة. وروى محمد بن الضحاك عن أبيه قال: كان العباس بن عبد المطلب يقف على سلع فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم، وذلك من آخر الليل وبين سلع والغابة ثمانية أميال.
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/99، 100، ح 2525) :
حدثنا ابن عيينة، عن الزهري سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول: سمعت عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر إلا هاء وهاء)) .
قلت: لعل في الرواية خطأ من الناسخ صوابه: الذهب بالذهب كما في روايات أخرى، ونقل المحقق عن الزيلعي أنه أخرج الحديث عن ابن أبي شيبة وفيها الذهب بالذهب.
وقال مالك في (الموطأ: ص 531، 532، ح 36) :
عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، أنه أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع فقال عمر: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء هاء)) .
وقال الشافعي (ترتيب المسند للسندي: 2/155، 156، ح 538) :
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتيني خازني أو حتى تأتي خازنتي من الغابة. قال الشافعي رضي الله عنه: أنا شككت - وعمر يسمع، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء هاء)) .
قال الشافعي رضي الله عنه: قرأته على مالك رضي الله عنه صحيحًا لا شك فيه ثم طال على الزمان فلم أحفظه حفظًا، فشككت في "خازني" أو " خازنتي" وغيري يقول عنه:"خازني".
539 -
أخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل معنى حديث مالك، وقال:((حتى يأتي خازني)) . وقال: حفظت لا شك فيه.
540-
أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
وقال أحمد (الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15/70، 71، ح 234) :
حدثنا سفيان، عن الزهري، سمع مالك بن أوس بن الحدثان، سمع عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال سفيان مرة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
ثم قال (نفس المرجع: ص 75، ح 249) :
حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صرفت عند طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب فقال: أنظرني حتى يأتينا خازننا من الغابة. قال: فسمعها عمر بن الخطاب فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء)) .
وقال البخاري (الصحيح 3/30) :
حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، أخبر أنه التمس صرفًا بمائة دينار، فدعا أبي طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلى هاء وهاء)) .
وقال مسلم (الصحيح: 3/1209، 1210، ح 1586) :
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث.
وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث.
عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله - وهو عند عمر بن الخطاب -: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقة، فقال عمر بن الخطاب: كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق، عن ابن عيينة، عن الزهري بهاذ الإسناد.
وقال أبو داود (السنن: 3/248، ح 3348) :
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) .
وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 4/545، ح 1243) :
حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقك، فقال عمر: كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم.
وقال ابن ماجه (السنن: 2/757، ح 2253) :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلى بن محمد وهشام بن عمار ونصر بن على ومحمد بن الصباح، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
ثم قال (نفس المرجع: ص 759، ح 2259) :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((" الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء)) . قال أبو بكر بن أبي شيبة: سمعت سفيان يقول: الذهب بالورق احفظوا.
2260 -
حدثنا محمد بن رمح، أنبأنا الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خازننا نعطيك ورقك، فقال عمر: كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء)) .
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي 7/ 238، 239، ح 4992) :
أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، قال: أخبرنا أحمد بن بكر، عن مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنه أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، وقال: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) .
ثم قال (نفس المرجع ص 240، ح 4998) :
أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، قال: حدثنا عنبسة بن خالد، قال: حدثنا همام بن يحيى قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، أن ابن شهاب حدثه، أن مالك بن أوس بن الحدثان حدثه، قال: انطلقت بمائة دينار، فأتيت طلحة بن عبدي الله بظل جدار، فاستلمها مني إلى أن يأتيه خادمه من الغابة، فسمع ذلك عمر فسأل عنه، فقال: دنانير أردتها إلى أن يأتي خادمي من الغابة. قال عمر: لا تفارقه، لا تفارقه حتى تنفذه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهات، والبر بالبر ربًا إلى هاء وهات، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهات، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
وقال الدارمي (السنن 2/258) :
أخبرنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب هاء وهاء، والفضة بالفضة هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء، والبر بالبر هاء وهاء، والشعير بالشعير هاء وهاء لا فضل بينهما)) .
وقال الطبري (تهذيب الآثار، مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/227، ح 18، 23) :
حدثني أحمد حماد الدولابي ويونس بن عبد الأعلى الصدفي، وسفيان بن وكيع بن الجراح قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمع الزهري مالك بن أوس بن الحدثان النصري يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) .
حدثني على بن مسلم الطوسي، حدثنا عباد بن العوام، حدثنا سفيان بن الحسين، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالفضة ربا إلا هاء وهاء)) .
حدثني العباس بن الوليد البيروتي، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، حدثني مالك بن أوس بن الحدثان، قال: أقبلت بمائة دينار أصرفها، فوجدت عمر بن الخطاب عند دار ابن العجماء، فقال لي طلحة بن عبيد الله: يا مالك ما هذه؟ قلت: مائة دينار أصرفها. قال: قد أخذتها إلى أن يأتيني خازني من الغابة. قال: فقال عمر: لا والله لا تفارقه حتى تعطيه صرفها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهات، والحنطة بالحنطة ربًا إلا هاء وهات، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهات)) .
حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: خرجت بورق لي ابتعتها بالسوق، فبايعت بها طلحة بن عبيد الله وعمر بن الخطاب منا قريب، فلما استوفي ورقي مني قال: يأتي غلامي، فأرسل إليك ذهبك فسمعها عمر، فقال: إن استنظرك إلى أن يدخل بيته فلا تنظره، فقال له طلحة: وماذا تخاف علينا يا أمير المؤمنين؟ قال: أخاف عليكم الربا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدينار بالدينار هاء وهاء، والدرهم بالدرهم هاء وهاء، والقمح بالقمح هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء والشعير بالشعير هاء وهاء لا فضل بينهما)) .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني ابن مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنه أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله إليه فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب، فقلبها بيده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ ثمنه. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) .
حدثنا الحسين بن يحيى وأحمد بن منصور - قال الحسين: أنبأ، وقال أحمد: حدثنا - عبد الرزاق، قال: أنبأ معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صارفت طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب، فقال: أنظرني حتى يأتينا خازننا من الغابة، فسمعها عمر، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالزبيب ربًا إلا هاء وهاء)) .
حدثنا الحسين بن يحيى وأحمد بن منصور - قال الحسين: أنبأ، وقال أحمد: حدثنا - عبد الرزاق، قال: أنبأ معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صارفت طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب، فقال: أنظرني حتى يأتينا خازننا من الغابة، فسمعها عمر، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالزبيب ربًا إلا هاء وهاء)) .
وتعقب الطبري هذه الأحاديث بقوله: وهذا خبر صحيح سنده لا علة فيه توهنه، ولا سبب يضعفه، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح لعلتين.
إحداهما: أنه خبر قد حدث بهذا الحديث عن عمر بن الخطاب من غير حديث مالك بن أوس بن الحدثان، فجعل هذا الكلام موقوفًا على عمر غير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأخرى: أنه لا يعرف عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام مرفوعًا من غير حديث مالك بن أوس، عن عمر، عنه.
وقال ابن عبد البر في (التمهيد: 6/282، 284) :
- تعقيبًا على حديث مالك بن أوس بن الحدثان الذي أخرجه مالك في الموطأ كما أخرجه غيره، وسقنا آنفًا طائفة من طرقه -.
لم يختلف عن مالك في هذا الحديث.
حدثنا ابن القاسم، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا معن بن عيسى وروح بن عبادة، وعبد الله بن نافع، قالوا: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء)) . الحديث.
هكذا قال مالك ومعمر والليث وابن عيينة في هذا الحديث، عن الزهري ((الذهب بالورق)) ولم يقولوا:((الذهب بالذهب)) و ((الورق بالورق)) ، وهؤلاء هم الحجة الثابتة في ابن شهاب على كل من خالفهم.
وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أبو وضاح قال: قال لنا أبو بكر بن أبي شيبة: أشهد على ابن عيينة أنه قال لنا: ((الذهب بالورق)) ولم يقل: ((الذهب بالذهب)) . يعني في هذا حديث ابن شهاب هذا، عن مالك بن أوس، عن عمر.
ورواه محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر مثله، إلا أنه قال فيه:((الذهب بالذهب مثلا بمثل هاء وهاء، والفضة بالفضة مثلا بمثل هاء وهاء، والبر بالبر مثلا بمثل هاء وهاء، والشعير بالشعير مثلا بمثل هاء وهاء، والتمر بالتمر مثلا بمثل هذا وهاء لا فضل بينهما)) . هكذا رواه يزيد بن هارون وغيره عن أبي إسحاق، ورواية أبي نعيم لهذا الحديث عن ابن عيينة في ((الذهب بالذهب)) مثل رواية ابن إسحاق، ولم يقله أحد على ابن عيينة غير أبي نعيم.
وقد روى هذا الحديث بنحو ذلك همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن مالك بن أوس، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربًا إلا هاء وهاء، من زاد أو ازداد فقد أربى)) .
قلت: لكن سبق أن نقلنا رواية عن الشافعي وأخرى عن البخاري، وكلتاهما عن طريق مالك، وفيهما:((الذهب بالذهب)) . كذلك نقلنا رواية عن الطبري من طريق ابن عيينة، وفيها:((الذهب بالذهب))
وصحيح أن مالكًا حجة عن الزهري وعن غيره، ولكنه ليس بأرجح حجية في "الموطأ" عنه إذا روى عنه مثل الشافعي أو البخاري ممن لا مغمز في تثبتهما وحفظهما، كما أن رواية الطبري عن طريق ابن عيينة لا ترجح عنها الروايات المخالفة لها، فليس الطبري بأقل تثبتًا ولا بأدنى حفظًا من نقلة تلك الروايات. فتأمل.
قال ابن الجارود في (المنتقى: ص 219، ح 651) :
حدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) .
وقال الطبراني (المعجم الكبير: 1/72، ح 85) :
حدثنا المقدام بن داود، حدثنا النضر بن عبد الجبار، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن عبد الله بن دينار، قال: قال رجل من أهل العراق لعبد الله بن عمر: قال ابن عباس وهو علينا أمير: من أعطى بدرهم مائة درهم فليأخذها، فقال ابن عمر: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ((الذهب بالذهب ربًا إلا مثلا بمثل لا زيادة، فما زاد فهو ربا)) . قال ابن عمر فإن كنت في شك فاسأل أبا سعيد الخدري في ذلك، فانطلق فسأل أبا سعيد الخدري، فأخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لابن عباس: ما قال ابن عمر وأبو سعيد الخدري، فاستغفر ابن عباس وقال: هذا رأي رأيته.
وعن عثمان بن عفان:
قال الشافعي في (مسنده تهذيب السندي: 2/157، ح 543) :
أخبرنا مالك أنه بلغه عن جده مالك بن أبي عامر، عن عثمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)) .
وقال مسلم في (الصحيح: ح 1585) :
حدثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأبلي وأحمد بن عيسى، قالوا: حدثنا ابن وهب، أخبرني مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت سليمان بن يسار يقول: إنه سمع مالك بن أبي عامر يحدث، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)) .
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/65، 66) :
حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن مولى لهم، عن مالك بن أبي عامر، عن عثمان بن عفان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)) .
وعن على بن أبي طالب:
قال عبد الرزاق في (المصنف: 8/124، ح 14570) :
أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عباس العامرين، عن مسلم بن نذير السعدي، قال: سمعت عليًا - وسأله رجل عن الدرهم بالدرهمين -، قال: ذلك الربا العجلان.
14571 -
أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، أنه سئل عن درهم بدرهمين، فقال: ذلك الربا العجلان.
وقال الطبري في (تهذيب الآثار، مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/736، ح 1066) :
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا أبي، عن عمر بن محمد بن على بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، ومن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بورق، والصرف هاء وهاء)) .
وقال (نفس المرجع: ص 743، ح 1081) :
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا أبي، عن عمر بن محمد بن على بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، ومن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب فليصطرفها بورق، والصرف هاء وهاء)) .
1082 -
حدثنا صالح بن مسمار، حدثنا سفيان، عن وردان الرومي، قال: قال لنا ابن عمر: هذا عهد صاحبنا إلينا، وكذلك عهدنا إليكم. قال لنا صالح: يعني في الصرف.
وقال ابن ماجه (السنن 2/760، ح 2261) :
حدثنا أبو إسحاق الشافعي إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا أبي، عن أبيه العباس بن عثمان بن شانع، عن عمر بن محمد بن على بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، فمن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق والصرف هاء وهاء)) .
وقال الدارقطني (السنن: 2/25، ح 86) :
أخبرنا أبو إسحاق نهشل بن دراهم التميمي، حدثنا على بن حرب، حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي، قال: سمعت أبي محمد بن العباس يحدث عن عمر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن على بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب، وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق، والصرف هاء وهاء)) .
وعن أبي سعيد الخدري:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/121، 122، ح 14563) :
أخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع، قال: بلغ ابن عمر أن أبا سعيد الخدري، قال في الصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال نافع: فذهب ابن عمر وأنا معه، فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذناي هاتين وأبصرت عيناي هاتين - لعل الصواب: هاتان - يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض
ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) .
14564-
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: إن أبا سعيد أفتاني أن الذهب بالذهب، والورق بالورق لا زيادة بينهما، قال نافع: فأخذ عبد الله بن عمر بيد الرجل وأنا معهما حتى دخلنا على أبي سعيد، فقال ابن عمر: زعم هذا حدثته بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف، فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأذني هاتين، وأبصرت بعيني هاتين أنه قال:" الذهب بالذهب والورق بالورق، ولا تشفوا بعضه على بعض، ولا تبيعوا منه غائبا بناجز، فمن زاد واستزاد فقد أربى ".
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/101، 102، ح 2528) :
حدثنا ابن أبي زائدة، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن أبي سعيد، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم ليس بينهما فضل، ولا يباع عاجل بآجل)) .
2529 -
حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلح درهم بدرهمين، ولا صاع بصاعين، الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم)) .
2530 -
حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن نافع، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ثم قال (نفس المرجع: ص 104، 105، ح 2536) :
حدثنا وكيع قال: حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، قال: حدثنا أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) .
وقال مالك في الموطأ (ص 528، ح 27) :
عن نافع، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها عن بعض، ولا تبيعوا شيئًا منها غائبًا بناجز)) .
وقال الشافعي في مسنده (ترتيب السندي: 2/156، 157، ح 541) :
أخبرنا مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل يدًا بيد، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) . وقال أحمد (المسند الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15 / 71، ح 236) :
حدثنا روح، حدثنا سليمان بن علي حدثنا أبو المتوكل الناجي، حدثنا أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له رجل من القوم: أما بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد؟ قال: لا والله ما بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد. قال: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح كيلا بكيل وزنا بوزن، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه الآخذ والمعطي فيه سواء "(1)
ثم قال (نفس المرجع: ص 72، 73، ح 240) :
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن نافع قال: قال ابن عمر: لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز، فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء الربا، قال: فحدث رجل ابن عمر هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تم مقالته حتى دخل به على أبي سعيد وأنا معه، فقال: إن هذا حدثني عنك حديثا يزعم أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعته؟ قال: بصر عيني وسمع أذني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منه غائبا بناجز ".
وقال البخاري (الصحيح: 3/30، 31) :
حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا عمى، حدثنا ابن أخي الزهري، عن عمه، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو سعيد: في الصرف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل)) .
(1) أبو المتوكل الناجي البصري علي بن داود أخرج له الجماعة عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وجابر وعائشة وأم سلمة وربيعة الجرشي قال عنه أحمد: ما علمت إلا خيرا ووثقه ابن معين وأبو زرعة وابن المديني والنسائي وابن حبان والعجلي والبزار وابن حبان مات سنة 102 أو 108 هـ على خلاف بينهما. ابن حجر (تهذيب التهذيب:7/ 318، ترجمة 35)
قلت: قول البخاري في هذا الإسناد مثل ذلك، ينبغي تحريره. قال ابن حجر (الفتح 4/317) ، تعقيبا عليه، فذكر الحديث، هكذا ساقه وفيه اختصار وتقديم وتأخير، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين، عن يعقوب بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بلفظ: أن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصرف، فقال أبو سعيد: فذكره فظهر بهذه الرواية معنى قوله مثل ذلك، أي مثل حديث عمر، أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بين عبيد الله، وتكلف الكرماني هنا فقال: قوله مثل ذلك، أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة، ولو وقف على رواية الإسماعيلي لما عدل عنها. انتهى كلام الحافظ.
ورجح العيني (عمدة القاري: 11/294) تأويل الكرماني لأن حديث أبي بكرة لم يفصل بينه وبين حديث ابن عمر هذا فاصل بخلاف حديث عمر.
لكن سبق أن نقلنا عن أحمد هذا الحديث عن طريق أيوب عن نافع، وفيه ما يدل على أن ابن عمر كان يقول في الصرف كلاما هو نفس ما رواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رجلا من ليث أخبره بذلك اصطحبه إلى أبي سعيد، فأكد أبو سعيد ما قال له الرجل الليثي ولم ينسب أحمد الرجل ولكن سيأتي ذكره باسمه ونسبه في روايات أخرى، وقد أشار إليه مسلم كما سيأتي بعد قليل ويتراءى لنا أن قول البخاري مثل ذلك يشير به إلى قصة الرجل الليثي. أما لماذا لم يذكرها فلعل الطرف المتصل بها من الحديث أو بعض ألفاظه لم يثبت لديه على شرطه فاكتفى بالإشارة إليه وهذا التأويل عندنا أرجح من تأويل ابن حجر والكرماني والعيني والله أعلم.
ثم قال البخاري:
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) .
حدثنا على بن عبد الله، حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات، أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله فقال أبو سعيد: سألته فقلت: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله تعالى قال: كل ذلك لا أقول وأنتم أعلم برسول الله مني ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ربا إلا في النسيئة)) .
قلت: آثرنا أن لا ندرج هنا من أمر ابن عباس وحديث أسامة إلا هذه الإشارة التي ذكرها البخاري وإن كان حديث ابن عباس وأسامة مثار خلاف لبعض الفقهاء عن الجمهور وذلك لأن أمر هذا الخلاف لا يعنينا في بحثنا هذا ولأنه خلاف لا نأبه له لأن من ذهب إليه تعلق بحديث واحد يمكن تأويله بيسر وحاول به أن يعارض أحاديث معناها متواتر وألفاظ بعضها بلغ حد التواتر أيضًا.
ثم قال مسلم في (الصحيح: 3 /1208، 1209، ح 1584) .
حدثني يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) .
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث.
وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث عن نافع أن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية قتيبة فذهب عبد الله ونافع معا. وفي حديث ابن رمح قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليثي حتى دخل على أبي سعيد الخدري، فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل فأشار أبو سعيد بأصبعه إلى عينيه وأذنيه، فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) .
حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا جرير - يعني ابن حازم -.
وحدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد.
وحدثنا محمد بن المثني، حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون.
كلهم عن نافع بنحو حديث الليث عن نافع عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا قتيبة وسعيد، حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الرحمن القاري عن سهيل عن أبيه، عن أبي الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) .
ثم قال (نفس المرجع: ص 1211، 1212، ح 1584 مكرر)(1) :
(1) يظهر أن محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله اعتبر حديث أبي المتوكل وحديث نافع حديثا واحدا فكرر الرقم الذي رقم به حديث نافع في حديث أبي المتوكل، لكن ترقيم الحديثين يرقم الكتاب لا بالرقم المسلسل لأحاديث الصحيح عامة لم يتكرر فرقم حديث نافع (75) ورقم حديث أبي المتوكل (82) ، وهذا يعني أنهما ليسا حديثا واحدا في اعتبار الراقم المصحح ولم نستطع فهم تكريره للرقم المسلسل لأحاديث الصحيح في الحديثين
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، حدثنا أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربي الآخذ والمعطي فيه سواء)) .
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سليمان الربعي حدثنا أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل فذكر مثله)) .
وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 4 /542، 543. ح 1241) :
حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا حسين بن محمد، أخبرنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع، قال: انطلقت أنا وابن عمر إلى أبي سعيد فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سمعته أذناي هاتان) - يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل لا يشف بعضه على بعض ولا تبيعوا منه غائبا بناجز)) .
وتعقبه بقوله: وحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال النسائي (السنن: 7/277) :
أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن سليمان بن على أن أبا المتوكل مر بهم في السوق فقام إليه قوم أنا منهم قال: قلنا: أتيناك لنسألك عن الصرف قال: سمعت أبا سعيد الخدري - فقال له رجل: ما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد الخدري؟ قال: ليس بيني وبينه غيره - قال: فإن الذهب بالذهب والورق بالورق - قال سليمان: أو قال: الفضة بالفضة - والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح سواء بسواء فمن زاد على ذلك أو ازداد فقد أربى والآخذ والمعطي فيه سواء.
ثم قال (ص 278، 279) :
أخبرنا قتيبة عن مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز)) .
أخبرنا حميد بن مسعدة وإسماعيل بن مسعود قالا: حدثنا يزيد هو ابن زريع قال: حدثنا ابن عون، عن نافع، عن أبي سعيد، قال: بصر عيني وسمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر النهي عن الذهب بالذهب والورق بالورق إلا سواء بسواء مثلا بمثل ولا تبيعوا غائبا بناجز ولا تشفوا أحدهما عن الآخر.
وقال ابن ماجه (السنن: 2/ 758. ح 2256) :
حدثنا أبو كريب، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرزقنا تمرا من تمر الجمع فنستبدل به تمرا هو أطيب منه ونزيد في السعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلح صاع تمر بصاعين ولا درهم بدرهمين والدرهم بالدرهم والدينار بالدينار ولا فضل بينهما إلا وزنا)) .
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/ 239، ح 4995) :
أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز)) .
4996-
أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص قال: حدثنا عمرو بن عثمان، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن نافع أن رجلا حدث ابن عمر أن أبا سعيد الخدري يحدث هذا الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثابت: فانطلق ابن عمر وذلك الرجل وأنا معه فقال: يا أبا سعيد هل حديث بلغني أنك حدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الذهب بالذهب والورق بالورق؟ فقال أبو سعيد: ((سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز)) .
1071 -
حدثني تميم عن المنتصر الواسطي أنبأنا عبد الله بن نمير أنبأنا عبيد الله عن نافع قال: سمعت أبا سعيد الخدري يحدث عبد الله بن عمر يقول: أبصرت عيناي وسمعت أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره نحوه.
1072 -
حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت نافعا يحدث أن عمرو بن ثابت العتواري أخبر عبد الله بن عمر أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث عن الصرف حديثا فانطلق عبد الله بن عمر إلى أبي سعيد الخدري ومعه نافع وعمرو بن ثابت فدخلوا على أبى سعيد فقال عبد الله لأبي سعيد: ما حديث حدثنيه؟ قال أبو سعيد: بصر عيني وسمع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم ليس بينهما فضل ولا يباع عاجل بآجل)) .
1073 -
حدثنا ابن بشار، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا يحيى أن نافعا، أخبره أن عمرو بن ثابت العتواري حدث ابن عمر أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم ثم ذكر نحوه)) .
1074 -
حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي حدثنا ابن فضيل عن ليث، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل أو وزنا بوزن ولا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل أو وزنا بوزن، ولا تبيعوا غائبا بشاهد ولا شاهدا بغائب إلا ناجزا بناجز إني أخاف عليكم الرماء)) .
1075-
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، أنبأنا حيوة، عن شريح، أنبأنا محمد بن العجلان، أن نافعا مولى بن عمر، أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري، يقول: رأي عيني وسمع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز)) .
1076 -
حدثنا الربيع بن سليمان المرادي، حدثنا أسيد، حدثنا الليث بن سعد، أخبرني نافع، أن عبد الله بن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نافع: فذهب عبد الله بن عمر وأنا معه والليثي حتى دخل على أبي سعيد الخدري، فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل، وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل)) فأشار أبو سعيد بأصبعه إلى عينيه وأذنيه، فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ثم ذكر نحوه ".
1077 -
حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة التِّنِّيسيُّ، حدثنا أبو معبد، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه أتي أبا سعيد الخدري فقال: يا أبا سعيد قد بلغنا انك تروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا فبينه لنا، قال أبو 1سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل لا زيادة ولا نظرة والفضة بالفضة لا زيادة ولا نظرة ولا تبيعوا ناجزا بآخر غائبا أبصرته عيناي وسمعته أذناي)) .
1078 -
حدثني العباس بن الوليد البيروتي قال: أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني نافع مولى عبد الله بن عمرو، قال: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا غائبا بناجز)) .
1079 -
حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
وقال ابن الجارود (المنتقي: ص 218، ح 648) :
حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الله الزعفراني، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفضة بالفضة والذهب بالذهب سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء)) .
649 -
أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم، أن ابن وهب أخبرهم، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، منهم مالك بن أنس، أن نافعا مولى ابن عمر حدثهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) .
وقال الطبراني (المعجم الكبير: 1/ 177، ح 458) :
حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية، قال: قال أبو سعيد لابن عباس رحمه الله: تب إلى الله عز وجل فقال: أتوب إلى الله وأستغفر له ألم تعلم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)) وقال: ((إني أخاف عليكم الربا)) . قلت لعطاء: ما الربا؟ قلت: الزيادة والفضل بينهما.
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/67، 68) :
حدثنا ابن يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن أن سهيل بن أبي صالح أخبره عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) .
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا أبو عاصم، عن أبي داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدرهم بالدرهم لا زيادة، والدينار بالدينار، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز)) .
حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس، أن نافعا مولى ابن عمر حدثهم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
ثم قال:
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: دينار بدينار، ودرهم بدرهم، وصاع تمر بصاع تمر، وصاع بر بصاع بر، وصاع شعير بصاع شعير لا فضل بين شيء من ذلك)) .
حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون قال: حدثنا الوليد عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: حدثني عقبة بن عبد الغافر، قال: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا صاع تمر بصاعين، ولا حنطة بصاعين، ولا درهم بدرهمين)) .
وعن أبي الدرداء:
قال مالك في (الموطأ: ص 529، ح 30) :
عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأسا، فقال أبو الدرداء، من يعذرني من معاوية أنه أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه؟ لا أساكنك أرضا أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل ووزنا بوزن.
وقال الشافعي في مسنده (تهذيب السندي: 2/ 158، ح 547) :
أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية، ما أرى بهذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض.
وقال أحمد في (المسند الساعاتي، الفتح الرباني: 15/72، ح 238) :
حدثنا يحيى بن سعيد بن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية اشترى سقاية من فضة بأقل من ثمنها أو أكثر قال: فقال أبو الدرداء: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا إلا مثلا بمثل.
وقال النسائي (السنن: 7/279) :
حدثنا مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل.
وعن عبادة بن الصامت:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/ 100، 101، ح 2526) :
حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: كنا في غزاة، وعلينا معاوية فأصبنا ذهبا وفضة، فأمر معاوية رجلا يبيعها الناس - لا حاجة إلى زيادة " أن " كما فعل المحق نقلا عن السنن الكبرى، فالعبارة مستقيمة بدونها - في أغطياتهم فتسارع الناس فيها فقام عبادة فنهاهم فردوها، فأتى الرجل معاوية فشكى إليه، فقام معاوية خطيبا، فقال: ما بال رجال يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث يكذبون فيها - لا حاجة لزيادة " عليه " كما فعل المحقق نقلا عن السنن الكبرى - لم نسمعها فقام عبادة فقال: والله لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح إلا مثلا بمثل، سواء بسواء، عينا بعين)) .
ثم قال (نفس المرجع: ص 103، 104، ح 2534) :
حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كما شئتم يدا بيد))
2535 -
حدثنا وكيع، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب الذهب، والكفة بالكفة، والفضة بالفضة، والكفة بالكفة)) ، حتى خلص إلى الملح، فقال عبادة: إني والله ما أبالي أن لا أكون بأرض بها معاوية.
وقال الشافعي في (الأم: 8/173) :
اخبرني عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، الورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم)) .
قال: ونقص أحدهما - لم يعينه إن كان مسلم بن يسار أو رجل آخر – ((التمر بالتمر، والملح بالملح)) وزاد الآخر ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) .
وقال الشافعي في مسنده (تهذيب السندي: 2/157، 158، ح 545) :
أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب بن أبي تميمية، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، كيف شئتم - ونقص أحدهما الملح أو التمر، وزاد أحدهما - من زاد أو ازداد فقد أربى)) .
546 -
أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم قال: ونقص أحدهما الملح والتمر)) .
قال أبو العباس الأصم في كتابي (عن أيوب، عن أبي سيرين) ثم ضرب عليه ينظر في كتاب الشيخ، يعني الربيع.
وقال أحمد (في المسند الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15/72، ح 239) :
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، كان أناس يبيعون الفضة من المغانم إلى العطاء، فقال عبادة بن الصامت:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء، مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) .
زاد في رواية: فإذا اختلفت فيه الأوصاف، فيبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد.
ثم قال (نفس المرجع: 73/241) :
حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلا بمثل، حتى خص الملح)) ، فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا - لعبادة - فقال عبادة: لا أبالي أن لا أكون بأرض يكون فيها معاوية أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وقال مسلم (الصحيح: 3/12210، 1211، ح 1587) :
حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم: غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى فرد الناس ما أخذوا فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبًا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه، فلم نسمعها منه، فقال عبادة بن الصامت، فأعاد القصة، ثم قال، لنحدث بما سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال: وإن رغم - ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب بهذا الإسناد نحوه.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم (واللفظ لابن أبي شيبة) - قال إسحاق: أخبرنا وقال الإخوان: حدثنا - وكيع، حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأنصاف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد))
وقال أبو داود (السنن: 3/248، 249، ح 3349) :
حدثنا الحسن بن علي، حدثنا بشر بن عمر، حدثنا همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الاشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالذهب، تبرها وعينها، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، والبر بالبر، مدي بمدي، والشعير بالشعيرمدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد وأما نسيئة فلا)) .
قال أبو داود: وروي هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، عن قتادة، عن مسلم بن يسار من إسناده.
3350 -
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يزيد وينقص قال: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد.
وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 3/541، 542، ح 1240) :
حدثنا سويد بن نصر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالذهب، مثلا بمثل، والبر بالبر، مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة، كيف شئتم يدًا بيد وبيعوا الشعير بالتمر، كيف شئتم يدًا بيد)) .
وتعقبه بقوله: حديث عبادة حديث حسن صحيح، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن خالد بهذا الإسناد، وقال: بيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدًا بيد.
وروى بعضهم هذا الحديث، عن خالد، عن أبي قلابة، عن الأشعث، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث. وزاد فيه: قال خالد: قال أبو قلابة: بيعوا البر بالشعير كيف شئتم. فذكر الحديث.
وقال النسائي (السنن: 7 /274، 278) :
أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سلمة، وهو ابن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار، وعبد الله بن عتيك، قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت، ومعاوية حدثهم عبادة، قال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر - قال أحدهما: والملح بالملح، ولم يقله الآخر - إلا مثلا بمثل يدًا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدًا بيد كيف شئنا)) قال أحدهما: ((فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) .
أخبرنا المؤمل بن هشام قال: حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، قال: حدثني مسلم بن يسار، وعبد الله بن عبيد، وقد كان يدعي ابن هرمز، قال: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية حدثهم عبادة، قال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير - قال أحدهما: والملح بالملح، ولم يقله الآخر - إلا سواء بسواء، مثلا بمثل - قال أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى ولم يقل الآخر - وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدًا بيد، كيف شئنا)) .
أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا بشر بن مفضل، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد، قال: حدثني مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد، قالا: جمع منزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية، فقال عبادة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، (قال أحدهما: والملح بالملح ولم يقله الآخر) إلا سواء بسواء، مثلا بمثل، (قال أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى ولم يقل الآخر) وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد، كيف شئنا.
فبلغ هذا الحديث معاوية، فقال: ما بال رجال يحدثون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صحبناه ولم نسمعه منه فبلغ ذلك عبادة بن الصامت، فقام فأعاد الحديث ، فقال: لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رُغِم معاوية.
خالفه قتادة، رواه عن مسلم بن يسار، عن أبي الأشعث، عن عبادة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، وكان بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخاف في الله لومة لائم أن عبادة قام خطيبًا فقال: أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا أدري ما هي ألا إن الذهب بالذهب، وزنًا بوزن، تبرها وعينها، ولا بأس ببيع الفضة بالذهب، يدًا بيد والفضة أكثرهما ولا تصلح النسيئة، ألا إن البر بالبر، والشعير بالشعير، مُدْيًا بمُدْيٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة يدًا بيد والشعير أكثرهما ولا يصلح نسيئة ألا وإن التمر بالتمر، مديًا بمُدْىٍ حتى ذكر الملح مدًّا بمدٍّ فمن زاد أو استزاد فقد أربى.
أخبرنا محمد بن المثنى ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا عمرو بن عاصم، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، تبره وعينه، وزنًا بوزن والفضة بالفضة، تبره وعينه، وزنًا بوزن، والملح بالملح، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، سواء بسواء، مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) ، واللفظ لمحمد ولم يذكر يعقوب: الشعير بالشعير.
ثم قال:
أخبرني هارون بن عبد الله، قال: حدثني أبو أسامة، قال: قال إسماعيل: حدثنا حكيم بن جابر وأنبأنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى عن إسماعيل، قال: حدثنا حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب الكفة بالكفة)) ، ولم يذكر يعقوب: الكفة بالكفة. فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا، قال عبادة: إني والله لا أبالي أن لا أكون بأرض يكون بها معاوية إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
قلت: لكن ينبغي تحرير ما رواه النسائي، عن إسماعيل بن مسعود من حديث عبادة، ففي أوله (جمع المنزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية فقال عبادة) الحديث. وفي وسطه (فبلغ هذا الحديث معاوية فقام فقال) الحديث. ذلك بأنه إذا كان المنزل جمع بين عبادة ومعاوية فإن معاوية سمع الحديث بنفسه من عبادة ولم يبلغه بلاغًا، والظاهر أن في هذه الرواية خلطًا بين قصتين أولاهما كانت بعد الثانية أعني أن عبادة كرر حديثه في منزل جمع بينه وبين معاوية بعدما كان من نكير معاوية عليه في بيت أو كنيسة أو مكان غيرهما شهده جمع من الناس بل لعل هذا التكرار كان بعد أن لحق عبادة بعمر، فرده إلى الشام وكتب إلى معاوية أن لا إمارة لك عليه، فأخذ عبادة يردد حديثه إصرارًا على النكير على معاوية وسنعود إلى هذا الموضوع بعد حين.
وقال ابن ماجه (السنن: 2/757، 758، ح 2254) :
حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا يزيد بن زريع.
وحدثنا محمد بن خالد بن خداش، حدثنا إسماعيل بن علية.
قالا: حدثنا سلمة بن علقمة التميمي، حدثنا محمد بن سيرين، أن مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد حدثاه، قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية إما في كنيسة، وإما في بيعة فحدثهم عبادة بن الصامت، فقال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالورق، والذهب بالذهب، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر - قال أحدهما: والملح بالملح. ولم يقله الآخر - وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر، يدًا بيد كيف شئنا)) .
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/238، ح 4994) :
أخبرنا أحمد بن على الصيرفي بالبصرة، قال: حدثنا أبو كامل الجحدري، قال: حدثنا ابن زريع، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن ابن الأشعث، قال: كان الناس يتبايعون آنية فضة في مغنم إلى العطاء، فقال عبادة:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) .
ثم قال (نفس المرجع: ص 239، 240، ح 4997) :
أخبرنا الحسن بن سفيان قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، مثلا بمثل، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأنصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) .
وقال الدارمي (السنن: 2/258، 259) :
أخبرنا عمرو بن عون، أنا خالد، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، قال: قام أناس في إمارة معاوية يبيعون آنية الذهب والفضة على العطاء، فقام عبادة بن الصامت، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا مثلا بمثل، سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) .
وقال الدارقطني (السنن: 3/18، ح 58) :
حدثنا أبو محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد بن الحسين وآخرون، قالوا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الربيع بن صبيح (1) ، عن الحسن، عن عبادة، وأنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعًا واحدًا ومكيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به)) .
وتعقبه الدارقطني بقوله: لم يروه غير أبي بكر، عن الربيع هكذا وخالفه جماعة فرووه عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة وأنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ غير هذا اللفظ.
59-
حدثنا محمد ابن أحمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة وأبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن أبي الأشعث الصنعاني.
قال قتادة: وحدثني صالح أبو الخليل ، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث.
أنه شهد خطبة عبادة بن الصامت، قال: سمعته يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن، والورق بالورق، إلا وزنًا بوزن، تبره وعينه، وذكر الشعير بالشعير، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ولا بأس بالشعير بالبر، يدًا بيد، والشعير أكثرهما يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . قال عبد الله: فحدثت بهذا الحديث أبي فاستحسنه.
ثم قال (نفس المرجع: ص 24،ح 8) :
حدثنا سليمان بن النعمان، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي - بجيمين بمفتوحتين ورائين الأولى ساكنة - حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأنصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) .
(1) الربيع بن صبيح البصري أخرج له الترمذي وابن ماجه والبخاري في التاريخ يروي عن الحسن ومجاهد، وثقه بعضهم وضعفه آخرون. كان القطان لا يرضاه، وقال الشافعي وحرملة: كان خزاء يريدان بذلك الغمز فيه كمحدث، وقال عفان بن مسلم: أحاديثه كلها مقلوبة، وقال أبو الوليد: كان لا يدلس. وروي عنه قوله: ما تكلم أحد فيه إلا والربيع فوقه، وعن أحمد لا بأس به رجل صالح وضعفه ابن معين، وفي رواية قال: لا بأس به. وقال عنه: ربما دلس، كذلك ضعفه ابن سعد والنسائي، قال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح، وزاد أبو زرعة: صدوق، وقال شعبة: من سادات المسلمين، وقال يعقوب بن شيبة: رجل صالح ثقة ضعيف جدًا، وقال ابن عدي، له أحاديث صالحة مستقيمة ولم أر له حديثًا منكرًا جدًّا وأرجو أنه لا بأس به ولا برواياته. خرج غازيًا إلى السند فمات في البحر حوالي 160هـ للهجرة ودفن في جزيرة. انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب: 3/247، ترجمة 474) .
وقال ابن الجارود (المنتقى: ص 218، 219، ح 650) :
حدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا وكيع، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) .
652 -
حدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر الأحمسي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وحدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا مروان - يعني ابن معاوية - عن إسماعيل وحكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وهذا حديثه عن وكيع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، الكفة بالكفة، والفضة بالفضة، الكفة بالكفة، حتى خص إلى الملح)) . قال عبادة رضي الله عنه: إني والله لا أبالي أن لا أكون بأرض معاوية. وقال مروان: حتى خصاه أن أذكر الملح.
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/66) :
حدثنا على بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني، أنه شهد خطبة عبادة، أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((الذهب بالذهب، وزنًا بوزن، والفضة بالفضة، وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلا، والشعير بالشعير، ولا بأس ببيع: الشعير (بالتمر) - هكذا في النسخة المطبوعة وصوابه: (بالبر) كما عند غير الطحاوي - و (التمر) أكثرهما يدًا بيد، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ومن زاد أو استزاد فقد أربى)) .
ثم قال: (ص 67) :
حدثنا على بن شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون: قال: أخبرنا إسماعيل بن خالد، عن حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، مثلا بمثل، الكفة بالكفة، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل، الكفة بالكفة، والبر بالبر، مثلا بمثل، يدًا بيد، والشعير بالشعير، مثلا بمثل، يدًا بيد، والتمر بالتمر، مثلا بمثل، يدًا بيد، حتى ذكر الملح)) .
ثم قال (ص 76) :
حدثنا يحيى المزني، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: كنا في غزاة علينا معاوية فأصبنا ذهبًا وفضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها الناس في أعطياتهم قال: فتسارع الناس فيها فقام عبادة فنهاهم فردوها فأتى الرجل معاوية فشكى إليه فقام معاوية خطيبًا فقال: ما بال رجال يحدثون عن رسول بالله صلى الله عليه وسلم أحاديث يكذبون فيها عليه لم نسمعها فقام عبادة فقال: والله لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، يدًا بيد، عينًا بعين)) .
حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، أنه قال: قدم ناس في إمارة معاوية يبيعون آنية الذهب والفضة إلى العطاء، فقام عبادة بن الصامت، فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا مثل بمثل سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) .
وقال ابن عبد البر (التمهيد: 4/76، 86) :
وأما قصة معاوية مع عبادة، فحدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أصبغ بن قاسم، قال: حدثنا الحارث بن أسامة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، مثلا بمثل، الكفة بالكفة، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل، الكفة بالكفة، والبر بالبر، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والشعير بالشعير، مثلا بمثل، يدًا بيد، والتمر بالتمر، مثلًا بمثل، يدًا بيد)) ، قال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا، فقال لي عبادة: والله لا أبالي أن لا أكون بأرضكم هذه.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل قال: حدثني حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه إلى قوله: الملح بالملح، فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا، فقال عبادة: إني والله لا أبالي أن لا أكون بأرض معاوية أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا بكر بن حماد، حدثنا مسدد بن مسرهد، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن خالد الحذاء، قال: أنبأنا أبو قلابة، عن أبي أسماء - أبو أسماء هو مُبَرْتَدُّ الرحَبي، بفتح الحاء المهملة الدمشقي - عن عبادة بن الصامت أنهم أرادوا بيع آنية من فضة إلى العطاء، فقال عبادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر البر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى))
وتعقب هذا ابن عبد البر بقوله: هكذا قال المعتمر، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء وهو خطأ والصواب في الحديث ما قاله أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، وقول المعتمر، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء خطأ، وقد خالفه الثوري وغيره عن خالد وأخطأ أيضًا المعتمر في قوله: إن الآنية بيعت إلى العطاء، وإنما بيعت في أعطيات الناس وإنما الحديث لأبي قلابة، عن أبي أسماء فكذلك روي الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة.
قلت: تخطئة أبي عمر رحمه الله للمعتمر في روايته عن أبي أسماء وفيها جاء فيها من قوله: (في أعطيات الناس) يبدو لنا أنه تسرع فيها ذلك أن كلا من أبي أسماء والأشعث من طبقة واحدة من التابعين وكلاهما روى عن نفر من الصحابة وإن ذكر عبادة فيمن روي عنهم أبو الأشعث ولم يذكر فيمن روي عنهم أبو أسماء، وذلك عندنا لا يغمز في روايته فكلاهما دمشقي سكنا، وكان عبادة في دمشق وقضية نزاعه مع معاوية ليست بالعابرة أو العارضة التي يجئ ذكرها مرة أو مرتين، ثم ينصرف الناس عنه أو ينصرف عنه ذاكرها وإنما هي قضية اتخذ منها عبادة قضية مبدأ واستمر ينافح عنها ويؤكد موقفه منها في مجالسه وكلما سنحت له الفرصة وكانت إلى ذلك قضية الناس عامة يتناقلون حديثها ويتداوله بمناسبة وبغير مناسبة، ليس ذلك لمجرد ما نتج عنها من نزاع بين عبادة ومعاوية وإن كان يكفي لأن يجعلها وحده قضية مجتمع ولأنها أيضًا تمس حاجتهم اليومية كانوا يغزون ويغنمون غنائمهم كثيرًا ما يكون فيها الذهب آنية أو حليًا فضلًا عن التبر والمسكوك، وليس كل الناس يترخص في استعمال آنية الذهب أو اكتسابها بل وليس كل الناس يستغنى عن قيمة إناء الذهب أو الفضة إذا جاء في نصيبه من الغنيمة بل إن الحاجة في قيمته والزهد في استعماله عاملان من شأنهما أن يشغلا المجتمع الدمشقي خاصة وغيره من المجتمعات الإسلامية بقضية عبادة ومعاوية ذلك إذا اعتبرناها منحصرة بينهما على أننا نراها ليست منحصرة بل نقل عن أبي الدرداء أيضًا كان نقله صحيحًا فكانت القضية أيضًا بين أبي الدرداء ومعاوية.
وهذه الحال التي رسمنا ملامحها تجعل من المعقول والطبيعي أن لا ينفرد أبو الأشعث برواية قصتها عن عبادة وأبو أسماء ليس بأدنى من أبي الأشعث مكانًا في التابعين ورواة الحديث بل إن كلا منهما روى عن الآخر وهما بدرجة واحدة لم يرو عنهما البخاري إلا في الأدب المفرد وروي عنهما مسلم والأربعة على أن أبا الأشعث وصموه بالتدليس ولم يصموا به أبا أسماء، وأبو قلابة أخرج له الجماعة ثم إن معتمرًا لم ينفرد برواية هذا الحديث عن أبي قلابة عن أبي أسماء بل رواه أيضًا قتادة عن أبي قلابة كما سبق أن نقلنا عن الدارقطني ولا سبيل إلى الغمز في كل من معتمر وقتادة ولا داعي إلى الإدعاء أن أبا أسماء رواه عن أبي الأشعث إذا يمكن أيضًا الإدعاء بأن بعض روايات أبي الأشعث له كانت عن أبي أسماء فهو لم يصرح في جميع رواياته مما يؤكد سماعه عن عبادة وقد تكون بعض رواياته عن طريق أبي أسماء، والذين رووا عن أبي الأشعث، لم يصرحوا جميعًا بأنهم شهدوه في مجلس، وهو يحدث بالقصة كما جاء في بعض الروايات، وقد ذكرنا آنفاٍ أنهم وصموا الأشعث بالتدليس، ولم يصموا به أبا أسماء.
ثم إن كلمة " في أعطياتهم " أو " إلى أعطياتهم " لا تتغايران فمن المحتمل جدًا أن يكون معاوية قد أمر ببيع تلك الأواني قبل أن يقسم على الناس غنائمهم التي أطلق عليها البعض " أعطيات " وأطلق عليها آخر " عطاء " ليتيسر له أن يقسم بين الناس دون أن يضطر إلى تقويم تلك الأواني أو يجهد حرجًا من رغبة البعض فيها، ولم تكن من قسمتهم ورغبة آخرين عنها، وجاءت في أنصبتهم، وهو الحرص بدهائه السياسي على أن يتجنب مواجد النفوس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وكلمة " في " لا تنافي كلمة " إلى " إذ معناهما معًا أن معاوية أمر ببيع تلك الأواني على أن يدفع المشترون ثمنها من أعطياتهم حين يتقاضونها وجلي أنهم لم يكونوا يصطحبون في الغزو نقدًا أو سكة للبيع والشراء، فهم واثقون بالنصر ونفقاتهم أثناء الغزو على بيت المال، وهم ينتظرون ما يصيبون من غنائم وبها قد يتعاملون عقب الحرب فكان طبيعيًّا أن يعتبر ذلك معاوية وأن يبايعهم على أن يدفعوا ثمن ما اشتروه مما ينالهم من الأعطيات وليست كلمة " العطاء " التي وردت في بعض الروايات تعني ما يصيب الواحد منهم آخر كل شهر أو مرتبه الشهري بالتعبير الحديث من بيت مال المسلمين وإنما تعني ما يعطى له باعتباره نصيبهم من الغنائم، ويصرفها إلى هذا المعنى ظرفها الذي هو القرينة الصالحة لتحديد معناها.
على أن القصة في رأينا لم تكن محصورة في ظرف معين بل أحسبها تكررت فمنها ما كان عقب غزوة كما جاء في بعض الروايات ومنها ما كان بعد ذلك وربما مما كان نصيبًا لبيت مال المسلمين من الخمس وفيه كانت بعض هذه الآنية فكان معاوية يأمر ببيعها.
ولذلك اشتد نكير عبادة رضي الله عنه إذا خشي أن يتخذ الناس اجتهاد معاوية لتكراره قاعدة يقيمون عليها تعاملهم العادي.
وآية ذلك أن حديث أبي الدرداء وقصته مع معاوية يختلفان عن حديث عبادة وقصته، وليس كما التبس على ابن عبد البر، ذلك بأن حديث أبي الدرداء، فيه أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، ذلك لما جاء في حديث مالك الذي رواه في موطأه ورواه عنه الشافعي والنسائي، على حين جاء في رواية أحمد عنه أن معاوية اشترى سقاية من فضة بأقل من ثمنها أو أكثر وكلتا الروايتين تتفقان على أن معاملة كانت في سقاية من ذهب أو ورق غير متعادلة الوزن أو الثمن بين ما كان منها بيعًا وما كان ثمنًا ولا أهمية كبرى للفرق بين كلمة " اشترى " الواردة في رواية أحمد وبين كلمة " باع " الواردة في الموطأ أو في مسند الشافعي وسنن النسائي، فقد يطلق العرب إحداهما على الأخرى وذلك مشهور عنهم وهذا الإطلاق أرجح عندنا من أن تكون القصة أيضًا قد تكررت لكن لا ريب عندنا في أن قصة أبي الدرداء هي غير قصة عبادة، وأن ما قاله عمر لأحدهما قاله للآخر وأن عمر نزع إمارة معاوية عنهما معًا وأن معاوية لم يزدجر بالأولى - ويظهر أنها قصة أبي الدرداء - فمضى في تطبيق اجتهاده، وتجاوز به التصرف فيما هو من خاصة أمره إلى ما هو من شئون عامة المسلمين وذلك عندنا - والله أعلم ما حمل عبادة رضي الله عنه على أن شدد النكير ويواصله ويتخذ منه قضية أمر بمعروف ونهي عن المنكر ووفاء بما بايع به رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة من أن لا يخاف في الله لومة لائم.
وجلى أن مواصلة عبادة لحملته النكيرية هذه بأساليب مختلفة وفي مجالس ومناسبات متغايرة من شأنها أن تجعل الرواة عن عبادة لما يقوله في حملته أكثر من واحد وآية ذلك ما ساقه ابن عبد البر نفسه وساقه غيره ممن نقلنا عنهم من روايات لحديث عبادة، عن غير أبي الأشعث، وأبي أسماء مثل مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد اللذين روي عنهم هذا الحديث محمد بن سيرين
(1)
.
ثم قال:
ذكر وكيع وعبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح الديناري، كلهم عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال: كان معاوية يبيع الآنية من الفضة بأكثر من وزنها، فقال عبادة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر مثلًا بمثل، والشعير بالشعير مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، وبيعوا الذهب بالفضة يدًا بيد كيف شئتم، والبر بالشعير يدًا بيد كيف شئتم، والتمر بالملح يدًا بيد كيف شئتم. هذا لفظ حديث عبد الرزاق. وقال وكيع: إذا اختلفت الأنصاف فبيعوا كيف شئتم)) .
(1) قال ابن عبد البر (التمهيد 4/83) في تعقيبه على حديث زيد بن أسلم وفيه قصة أبي الدرداء وبعد أن ساق حديث عبادة بطرق مختلفة نقلناها عنه، فهذا ما بلغناه في قصة معاوية مع عبادة في بيع الآنية بأكثر من وزنها ذهبًا كانت أو فضة، وذلك عند العلماء معروفة لمعاوية مع عبادة لا مع أبي الدرداء، والله أعلم، وممكن أن يكون له مع أبي الدرداء مثل هذه القصة أو نحوها، ولكن الحديث في الصرف محفوظ لعبادة، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب الربا، ولم يختلفوا أن عمل معاوية غير جائز، وأن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل تبرهما وعينهما ومصوغهما، وعلى أي وجه كانت.
وحدثنا سعيد بن نصر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثهم قال: حدثنا ابن وضاح قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: كنا في غزاة وعلينا معاوية، فأصبنا ذهبًا وفضة، فأمر معاوية رجلا ببيعها للناس في أعطياتهم، فتنازع الناس فيها فقام عبادة فنهاهم فردوها، فأتى الرجل معاوية فشكى إليه، فقام معاوية خطيبًا، فقال: ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث يكذبون فيها ، لم نسمعها فقام عبادة فقال: والله لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعنا وإن كره معاوية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة ، ولا التمر بالتمر، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح إلا مثلا بمثل، سواء بسواء، عينًا بعين)) .
وحدثنا عبد الوارث، حدثنا قاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا عبد الله بن عمر، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كنت في حلقة بالشام فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث: قالوا: أبو الأشعث، فجلس فقلت: حدث أخاك حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان ما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت ذلك، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية أو قال: رغم معاوية ما أبالي أن أصحبه في جنده ليلة سوداء. قال حماد: هذا أو نحوه.
وروى هذا الحديث محمد بن سيرين، عن محمد بن يسار وعبد الله بن عبيد، عن عبادة.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن زهير، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: حدثني مسلم بن يسار وعبيد الله بن عبيد، وقد كان يدعي ابن هرمز، قال: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية إما في بيعة أو في كنيسة، فقام عبادة، فقال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب)) ، فذكر نحو ما تقدم وزاد:((وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر يدًا بيد كيف شئنا)) .
وحدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا محمد بن أبي العوام، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن رجلين - أحدهما مسلم بن يسار -، عن عبادة بن الصامت نحوه.
وحدثنا سعيد بن نصر قراءة مني عليه، أن قاسم بن أصبغ حدثهم، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن جدعان، عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، حتى خص الملح بالملح مثلا بمثل، فمن زاد ازداد فقد أربى)) واللفظ لحديث الحميدي.
وروى هذا الحديث بكر المزني، عن مسلم بن يسار، عن عبادة كما رواه محمد بن سيرين، حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا مبارك بن فضالة، قال: حدثنا بكر بن عبد الله المزني، عن أبي عبد الله مسلم بن يسار، قال: خطب معاوية بالشام، فقال: ما بال أقوام يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصرف وقد شهدنا النبي عليه السلام ولم نسمعه نهى عنه، فقام عبادة بن الصامت، فقال:((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يباع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والورق بالورق إلا مثلا بمثل، وذكر ستة أشياء: البر والتمر والشعير والملح إلا مثلا بمثل)) لنحدثن بما سمعنا، وإن كرهت يا معاوية لندعك ولنلحقن بأمير المؤمنين. فقال: أيها الرجل أنت وما سمعت.
حدثنا أحمد بن القاسم، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة.
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن الجهم السمري.
قالا جميعًا: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرني سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، أنه قام فقال: يا أيها الناس إنكم قد أخذتم بيوعًا لا أدري ما هي، وإن الذهب بالذهب وزنًا بوزن تبره وعينه يدًا بيد، زاد محمد بن الجهم: والفضة بالفضة وزنًا بوزن يدًا بيد تبرها وعينها، ثم اتفقًا ولا باس ببيع الذهب بالفضة ، والفضة أكثرهما يدًا بيد، ولا يصلح نساء، والبر بالبر مدى بمدي يدًا بيد، والشعير بالشعير مدى بمدى يدًا بيد، ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما يدًا بيد، ولا يصلح نسيئة، والتمر بالتمر
…
حتى عد الملح بالملح مثلا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى.
ثم قال ابن عبد البر:
هكذا رواه ابنا أبي عروبة، عن قتادة، عن مسلم بن ياسر موقوفًا، فذكر الحديث وتابع هشام الدستوائي سعيد بن أبي عروبة على هذا الإسناد، عن مسلم بن يسار.
ورواه همام عن قتادة عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله بمعناه وسعيد وهشام عندهم أحفظ من همام.
ثم قال:
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن وضاح، قال: حدثنا موسى بن معاوية، قال: حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) .
ثم قال:
حدثني خلف بن القاسم بن سهل الحافظ، قال: حدثنا أبو الميمون البجلي عبد الرحمن بن عمر بدمشق، قال: حدثنا أبو زرعة، قال: حدثنا محمد بن المبارك، عن يحيى بن حمزة، عن برد بن سنان، عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه، أن عبادة أنكر على معاوية شيئًا، فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها، ورحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال: ارجع إلى مكانك قبح الله أرضًا لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمارة لك عليه.
وعن البراء بن عازب
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/118، ح 14547) :
أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال، قال: باع رجل ذهبًا بورق إلى الموسم، فقيل له: هذا بيع لا يحل، فقال: بعته في سوق المسلمين فذكر له زيد بن أرقم والبراء بن عازب فسألهما، فقال: لا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف وكنا تاجرين، فقال:((إن كان يدًا بيد فلا بأس ولا نسيئة)) .
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/107، 108، ح 2544) .
حدثنا عفان، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، وكلاهما يقول:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا)) .
وقال أحمد (المسند الساعاتي الفتح الرباني: 15/74، 75، ح 245) :
حدثنا عفان، حدثنا شعبة، اخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، فهذا يقول: سل هذا فإنه خير مني وأعلم وهذا يقول سل هذا فهو خير مني وأعلم. قال: فسألتهما فكلاهما يقول: ((نهى سول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا)) .
246-
حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا إبراهيم بن نافع، قال: سمعت عمرو بن دينار يذكر ((عن أبي المنهال أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردوه)) .
وقال البخاري (الصحيح: 3/31) :
حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا المنهال قال: سمعت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم، عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقول:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) .
وقال مسلم (الصحيح: 3/1212، 1213، ح 1589) :
حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي المنهال قال: باع شريك لي وراقًا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إلى فأخبرني، فقلت: هذا أمر لا يصلح. قال: قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك على أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته، فقلت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال:((ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا)) ، وائت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته، فقال مثل ذلك ".
حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا شعبة، عن حبيب أنه سمع أبا المنهال يقول سألت البراء بن عازب، عن الصرف فقال: سل زيد بن أرقم فهو أعلم فسألت زيدًا فقال: سل البراء فهو أعلم، ثم قالا:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) .
وقال النسائي (السنن: 7/280) :
اخبرنا محمد بن منصور، عن سفيان بن عمرو، عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقًا بنسيئة فجاءني فأخبرني فقلت: هذا لا يصلح فقال: قد والله بعته في السوق وما عابه على أحد فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم علينا النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال: ((ما كان يدًا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا)) ثم قال لي: ((ائت زيد بن أرقم)) فأتيته فسأله فقال ذلك.
أخبرني إبراهيم بن الحسن قال: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار وعامر بن مصعب أنهما سمعا أبا المنهال يقول: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال:((إن كان يدًا بيد فلا بأس وإن كان نسيئة فلا يصلح)) .
اخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحكم، عن محمد، قال: حدثنا شعبة، عن حبيب قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب عن الصرف فقال: سل زيد بن أرقم فهو خير مني وأعلم فسألت زيدًا فقال سل البراء فإنه خير مني وأعلم فقالا جميعًا: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الورق بالذهب دينًا)) .
وقال الدارقطني (السنن: 2/16، 17، ح 52) :
حدثنا أبو رَوْقٍ الهمداني- في النسخة المطبوعة الهراني وهو خطأ - بالبصرة حدثنا أحمد بن روح، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمع أبا المنهال عبد الرحمن بن مطعم يقول: باع شريك لي دراهم في السوق بنسيئة فقلت: لا يصلح هذا فقال: لقد بعتها في السوق فما عاب على ذلك أحد قال: فسألت البراء بن عازب فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نتبايع هذا البيع فقال: ما كان نسيئة فلا يصلح والْقَ زيد بن أرقم فسأله فإنه كان أعلمنا تجارة فسألته فقال مثل ذلك.
وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/737، ح 1067) :
حدثني محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي المنهال قال: جاء رجل إلى زيد بن أرقم والبراء بن عازب فسألهما عن بيع الورق بالذهب، فقال كل واحد منهما: سل هذا فإنه خير مني وأعلم مني فقال أحدهما: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا)) وقال الآخر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق نساء)) .
وقال ابن عبد البر (التمهيد: 6/284) :
حدثنا عبد الوارث وسعيد بن نصر قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا ابن وضاح قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) .
وعن أبي هريرة:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/102، ح 2531) :
حدثنا يعلى بن عبيد، عن فضيل بن غزوان، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل والذهب بالذهب وزنا بوزن فما زاد فهو ربا ولا تباع ثمرة حتى يبدو صلاحها)) .
وقال مالك (الموطأ: ص 528، ح 26) :
عن موسى بن أبي تميم، عن أبي الحباب، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) .
وقال الشافعي (المسند تهذيب السندي: 2/157، ح 544) :
أخبرنا مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما))
وقال أحمد (المسند الساعاتي الفتح الرباني: 15/71، 72، ح 237) :
حدثنا يحيى قال: حدثنا فضيل بن غزوان قال: حدثني ابن أبي نعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والورق بالورق مثلا بمثل يدًا بيد من زاد أو ازداد فقد أربى)) .
حدثنا محمد بن إدريس، أنبأنا مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) .
وقال مسلم (الصحيح: 3/1212، ح 1588) :
حدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى قالا: حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا)) .
حدثنا عبد الله بن سلمة القعنبي، حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدينار بالدينار لا فضل بينهما والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) .
حدثنيه أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب قال: سمعت مالكًا بن أنس يقول: حدثني موسى بن أبي تميم بهذا الإسناد مثله.
وقال النسائي (السنن: 7/278) :
أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) .
ثم قال:
أخبرنا واصل بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) .
وقال ابن ماجه (السنن: 2/758، ح 2255) :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا فضيل بن غزوان، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الفضة بالفضة والذهب بالذهب والشعير بالشعير والحنطة بالحنطة مثلا بمثل)) .
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 7/237، ح 4991) :
أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان بمنبج (1) قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك بن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) .
(1) منبج بفتح وسكون وباء موحدة مكسورة وجيم، وهو بلد قديم قال ياقوت في (معجم البلدان: 5/205) : ما أظنه إلا روميًّا إلا أن اشتقاقه في العربية يجوز أن يكون من أشياء يقال: نبج الرجل ينبج إذا قعد في النبجة وهي الأكمة والموضع منبج، ثم قال: وذكر بعضهم أن أول من بناها كسرى لما غلب على الشام وسماها " من بن " أي " أنا أجود " فعربت فقيل له: منبج وجعلها الرشيد عاصمة وأسكنها عبد الملك بن صالح بن على بن عبد الله بن عباس، ثم قال بعد أن ذكر وصف الجغرافيين لها وهي لصاحب حلب في وقتنا ذا ومنها البحتري وله بها أملاك، خرج منها جماعة من الشعراء
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) :
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: حدثنا موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الدينار بالدينار، لا فضل بينهما والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) .
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن أبي تميم فذكر بإسناده مثله.
وعن عبد الله بن مسعود:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/123/124، ح 14568) :
أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن كنانة أن ابن مسعود صرف فضة بورق في بيت المال فلما أتى المدينة سأل، فقيل: إنه لا يصلح إلا مثل بمثل قال أبو إسحاق: فأخبرني أبو عمرو الشيباني أنه رأى ابن مسعود يطوف بها يردها ويمر على الصيارفة ويقول: لا يصلح الورق بالورق إلا مثلا بمثل.
ثم قال (نفس المرجع: ص 127، ح 14582) :
أخبرنا معمر، عن ابن أيوب، عن ابن سيرين قال: أمر ابن مسعود رجلا أن يسلف بني أخيه ذهبًا ثم اقتضى منهم ورقًا فأمرهم برده ويأخذ منهم ذهبًا.
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 7/242، ح 5003) :
أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود أنه قال: لا تحل صفقتان في صفة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه.
وعن عبد الله بن عمر:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/119، ح 14550) :
أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((أشتري الذهب بالفضة؟ فقال: إذا أخذت واحدًا منهما فلا يفارق صاحبك حتى لا يكن بينك وبينه لبس)) .
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/108، ح 2547) .
حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: ((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) .
وقال أحمد في المسند (الساعاتي الفتح الرباني: 15/73، 74، ح 243) :
حدثنا حسين بن محمد، حدثنا خلف يعني ابن خليفة، عن أبي جناب، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل قال: لا بأس إذا كان يدًا بيدًا)) .
ثم قال: (نفس المرجع: ص 75، 76، ح 250) :
حدثنا حسين بن محمد قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أشتري الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب؟ قال: إذا أخذت واحدًا منهما بالآخر فلا يفارق صاحبك وبينك وبينه لبس.
251-
حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يدخل حجرته - في لفظ فوجدته خارجًا من بيت حفصة - فأخذت بثوبه فسألته فقال: إذا أخذت واحدًا بالآخر فلا يفارقنك وبينك وبينه بيع في لفظ: فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء.
وقال أبو داود (السنن: 3/250، ح 3354) :
حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب - المعنى واحد - قالا: حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله أسألك: إني أبيع الإبل ببقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدراهم آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 4/544، ح 1242) :
حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق فأبيع بالورق فآخذ مكانها الدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته خارجًا من بيت حفصة فسألته عن ذلك فقال:((لا بأس به بالقيمة)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر.
وروي داود بن أبي هند هذا الحديث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر موقوفًا والعمل على هذا عند بعض أهل العلم أن لا بأس أن يقتضي الذهب من الورق الورق من الذهب وهو قول أحمد وإسحاق وقد كره بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ذلك.
وقال النسائي (السنن: 7/281، 282) :
أخبرني أحمد بن يحيى، عن أبي نعيم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أريد أن أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم فقال: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الأحوص، عن سماك، عن ابن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) .
ثم قال (نفس المرجع: ص 283) :
أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار قال: حدثنا المعافي عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير وآخذ الدراهم فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
وقال ابن ماجه (السنن: 2/760، ح 2262) :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب وسفيان بن وكيع ومحمد بن عبيد بن ثعلبة الحماني قالوا: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، حدثنا عطاء بن السائب أو سماك (ولا أعلمه إلا سماكًا) عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل فكنت آخذ الذهب من الفضة والفضة من الذهب والدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إذا أخذت أحدهما وأعطيت الآخر فلا تفارق صاحبك وبينك وبينه لبس)) .
حدثنا يحيى بن حكيم، حدثنا يعقوب بن إسحاق، أنبأنا حماد بن سلمة، عن سمالك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 7/208، ح 4899) :
أخبرنا أبو حذيفة قال: حدثنا أبو الوليد، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل في البقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا بأس إن أخذتهما بسعر يومها فافترقتما وليس بينكما شيء)) .
وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/752، ح 1072) :
حدثنا هناد بن السرى، حدثنا أبو الاحوص، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر قال: كنت أبيع الفضة بالذهب أو الذهب بالفضة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: ((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) .
وقال الدرامي (السنن: 2/259) :
أخبرنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير - وربما قال: أقبض - أفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: يا رسول الله ورويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، قال:((لا بأس أن تأخذ بسعر يومك ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
وقال الدارقطني (السنن: 2/23، 24، ح 81) :
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب.
وحدثنا محمد بن يحيى بن مرداس، حدثنا أبو داود السجستاني، حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب - المعنى واحد -.
قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
وقال ابن منيع: فأعطى هذه من هذه. في الموضعين جميعًا والباقي مثله.
وقال ابن الجارود (المنتقى: ص 128، ح 655) :
حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وقال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة رضي الله عنهما، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، قال:((لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكم شيء)) .
وقال ابن عبد البر (التمهيد16/12،15)
حدثنا خلف بن القاسم ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس قال: حدثتي ثابت بن تميم ، قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا حماد بن سلمة ، قال: حدثنا سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فآخذ مكان الدراهم الدنانير ومكان الدنانير دراهم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"لا بأس به إذا افترقتما وليس بينكما شيء"
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن زهير وجعفر بن محمد، قالا: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدًا أسألك: أبيع الإبل بالدنانير، فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم، فآخذ الدنانير وآخذ هذه عن هذه؟ قال:((لا بأس أن تأخذه بسعر يومه)) .
وحدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب - المعنى واحد -، قالا: حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فذكره سواء بمعناه
…
إلخ.
قال أبو داود: وحدثنا الحسين بن الأسود، قال: حدثنا عبيد الله، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بإسناده، ومعناه والأول أتم لم يذكر بسعر يومكما.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر، قالا: حدثنا القاسم بن أصبغ، قال: حدثنا جعفر بن محمد الصائغ، قال: حدثنا محمد السابق، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل ببقيع الغرقد، فكنت أبيع البعير بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يدخل حجرته فأخذت بثوبه، فقلت: يا رسول الله إني أبيع ببقيع الغرقد البعير بالدناير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا أخذت أحدهما بالآخر فلا تفارقه وبينك وبينه بيع)) .
وتعقبه بقوله: لم يرو هذا الحديث أحد غير سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر مسندًا، وسماك ثقة عند قوم مضعف عند آخرين. كان ابن المبارك يقول: سماك بن حرب ضعيف الحديث وكان مذهب علي فيه نحو هذا روي أبو الأحوص هذا الحديث عن سماك فلم يقمه قال فيه: عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: كنت أبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) . وكذلك رواه وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر كما قال أبو الأحوص ولم يقمه، فجوده إلا حماد بن سلمة وإسرائيل في غير رواية وكيع. وهذا الحديث مما فات شعبة عن سماك ولم يسمعه فعز عليه، وجرى بينه وبين حماد بن سلمة في ذلك كلام فيه بعض الخشونة، ثم سمعه منه بعد. ذكر علي بن المديني، قال: قال أبو داود الطيالسي: سمعت خالد بن طليق وأبا الربيع يسألان شعبة، وكان الذي يسأله خالد، قال: يا أبا بسطان حدثني حديث سماك في اقتضاء الذهب من الورق. حديث ابن عمر قال شعبة: أصلحك الله، هذا حديث ليس يرفعه أحد إلى - هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه -: إلا - سماك وقد حدثنيه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر ولم يرفعه، وأخبرنيه أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ولم يرفعه، ورفعه سماك وأنا أفرق منه.
عن فضالة بن عبيد:
قال مسلم (الصحيح: 3/1214، ح 1591) .
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث بن أبي جعفر، عن الجلاح أبي كثير، حدثني حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود، الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن)) .
وحدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، عن قرة بن عبد الرحمن المعافري وعمرو بن الحارث وغيرهما أن عامر بن يحيى المعافري أخبرهم، عن حنش، أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر، فأردت أن أشتريها فسألت فضالة بن عبيد، فقال: انزع ذهبا فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذ إلا مثلا بمثل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذون إلا مثلا بمثل)) .
وقال أبو داود (السنن: 3/249، ح 3353) :
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن أبي جعفر، عن الجلاح أبي كثير، حدثني حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود: الأوقية من الذهب بالدينار - قال غير قتيبة: بالدينارين والثلاثة ثم اتفقا - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن)) .
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) :
حدثنا موسى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عامر بن يحيى وخالد بن عمران عن حنش بن عبد الله، عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود أوقية الذهب بالدينارين والثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن))
وعن هشام بن عامر:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/117، ح 14545)
اخبرنا معمر، عن أيوب عن أبي قلابة، عن هشام بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الورق بالذهب ربًا إلا يدًا بيد)) .
وقال أحمد في المسند (الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15/75، ح 248) :
حدثنا الحسن بن موسى، قال: حدثنا - حماد - يعني ابن زيد -، عن أن أيوب، عن أبي قلابة، قال: قدم هشام بن عامر البصرة، فوجدهم يتبايعون الذهب - يعني بالفضة في أعطياتهم، فقام فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالورق نسيئة، وأخبرنا - أو قال - إن ذلك هو الربا)) .
وقال الطبري (تهذيب الآثار، مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/743، ح 1083) : حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أنبأنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان الناس يشترون الذهب بالورق - قال ابن علية: أحسبه قال: إلى العطاء - فأتى عليهم هشام بن عامر، فنهاهم وقال:((إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نبيع الذهب والورق نسيئة، وأنبأنا - أو قال: أخبرنا - أن ذلك هو الربا)) .
1084 -
حدثني سعيد بن عمر السكوني، حدثنا بقية بن الوليد، عن شعبة قال: حدثنا أيوب بن تيمية، قال: سمعت أبا قلابة قال: كان الناس بالبصرة في زمان زياد يأخذون الدراهم بالدنانير نسيئة، فقام رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: هشام بن عامر الأنصاري، فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع الذهب بالورق نساء، وأنبأنا أن ذلك هو الربا)) .
وعن رويفع بن ثابت:
قال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) :
حدثنا فهد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنا ربيعة بن سليمان مولى عبد الرحمن بن حسان التجيبي أنه سمع حنشًا الصنعاني يحدث عن رويفع بن ثابت في غزوة " أناس "(1) قبل المغرب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: ((بلغني أنكم تتبايعون المثقال بالنصف والثلثين، وأنه لا يصلح إلا المثقال بالمثقال والوزن)) .
وعن أبي بكرة:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/106، 107، ح 2542) :
حدثنا ابن إسحاق، عن وهب، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئنا)) .
وقال أحمد في المسند (الساعاتي، الفتح الرباني: 15/73، ح 242) :
حدثنا إسماعيل، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: قال لنا ابن أبي بكرة، ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبتاع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب إلا سواء، وأمرنا أن نبتاع الفضة في الذهب والذهب في الفضة كيف شئنا)) .
قال له ثابت بن عبيد الله: يدًا بيد، قال: هكذا سمعت عن ابن عمر.
وقال البخاري (الصحيح: 3/30، 31) :
حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا إسماعيل بن علية، قال: حدثني يحيى بن إسحاق قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم))
حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عباد بن العوام، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة، كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا)) .
(1) أناس بضم أوله بلدة بكرمان من نواحي الروذان وهي على رأس الحد بين فارس وكرمان (ياقوت، معجم البلدان: 1/257)
وقال مسلم (الصحيح: 3/1213، ح 1590) :
حدثنا أبو الربيع العتكي، حدثنا عباد بن العوام، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجل، قال: يدًا بيد؟ قال: هكذا سمعت.
حدثني إسحاق بن منصور، أخبرني يحيى بن صالح، حدثني معاوية،عن يحيى، وهو ابن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق، أن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أخبره أن أبا بكرة، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
وقال النسائي (السنن: 7/280، 281) :
وفيما قرأ علينا أحمد بن منيع، قال: حدثنا عباد بن العوام، قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أنه قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا)) .
أخبرنا محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني، قال: حدثنا أبو ثوبة قال: حدثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة، إلا عينًا بعين، سواء بسواء، ولا نبيع الذهب بالذهب إلا عينًا بعين، سواء بسواء)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبايعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، والفضة بالذهب كيف شئتم)) .
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/238، 4993) :
أخبرنا الفضل بن الحباب، قال: حدثنا مسدد، عن إسماعيل، قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: قال أبو بكرة: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمر أن يباع الفضة بالذهب كيف شاء، والذهب بالفضة كيف شاء)) .
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) :
حدثنا علي بن معبد، حدثنا المعلى بن منصور، قال: أخبرنا عبادة وعبد العزيز بن المختار، عن يحيى بن أبي إسحاق،عن عبد الرحمن بن أبي بكرة يعني عن أبيه - هذا " البيان " الذي أريد به تجنب الإرسال، لا ندري أهو من يحيى بن أبي إسحاق، أو من غيره من رجال السند أو من الطحاوي - قال:((نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا مثلًا بمثل، وأمرنا أن نبيع الذهب في الفضة، والفضة في الذهب كيف شئنا)) .
وعن يحيى بن سعيد: قال مالك في (الموطأ: ص 527، ح 25) عن يحيى بن سعيد، أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة، فباعاها كل ثلاثة أربعة عينًا ، وكل أربعة بثلاثة عينًا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أربيتما. فردا)) .
وفي النكاح
قال عبد الرزاق (المصنف: 6 /175، وما بعدها، ح 10399) :
عن معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي العجماء، أن عمر بن الخطاب، قال: لا تغالوا في صُدُق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله، كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدقت امرأة من نسائه، ولا من بناته أكثر من اثنتي عشر أوقية، فإن الرجل يغلي بالمرأة في صداقها، فيكون حسرة في صدره، فيقول: كلفت إليك علق القربة، قال: فكنت غلامًا مولدًا لم أدر ما هذه، قال: وأخرى ويقولن لمن قتل في مغازيكم هذه: قتل فلان شهيدًا أو مات شهيدًا ولعله يكون قد خرج، قد أوقر دف راحلته أو عجزها ورقًا يطلب التجارة، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: من قتل في سبيل الله أو مات فله الجنة)) .
قلت: الحديث أخرجه أحمد والحميدي وسعيد بن منصور، ولكن لسنا بصدد استقصاء طرقه في هذا المجال حسبنا عبد الرزاق.
ثم قال - 10401 -:
عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء، فلو كان تقوى لله، كان أولاكم به بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نكح ولا أنكح إلا على اثنتي عشرة أوقية، قال نافع: فكان عمر يقول: مهور النساء لا يزدن على أربعمائة درهم إلا ما تراضوا عليه فيما دون ذلك، قال نافع: وزوج رجل من ولد [عمر] ابنة له على ستمائة درهم، قال: ولو علم بذلك نكله، قال: وكان إذا نهى عن الشيء، قال لأهله: إني قد نهيت كذا وكذا، والناس ينظرون إليكم كما تنظر الحداء - جمع حدأة طائر معروف - إلى اللحم فإياكم وإياه.
10402 -
أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن صفوان بن سليم، أن عليا أصدق فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة أوقية.
10404 -
عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، قال: ما ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من نسائه، ولا سيق إليه لشيء من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا.
10405 -
عن معمر، عن الزهري، قال: كان صداق كل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة أوقية ذهبًا فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا.
10406 -
عن داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، قال: كان صداقنا إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا عشرة أواق أربعمائة درهم.
10407 -
عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، قال: أصدق النبي صلى الله عليه وسلم كل امرأة من نسائه اثنتا عشرة أوقية ونشًّا والنشُّ نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم.
10408 -
عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: الأوقية أربعون درهمًا، والنش عشرون، والنواة خمسة دارهم.
وقال مسلم (الصحيح: 2/1042، ح 1426)
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، حدثنا يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد.
وحدثني محمد بن أبي عمر المكي (واللفظ له) ، حدثنا عبد العزيز، عن يزيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه قال: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا، وقالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه.
قلت: أخرجه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه. (انظر المزي؛ الأطراف: 12/356) .
وفي الديات
قال عبد الرزاق (المصنف: 9/291، وما بعدها، ح 17255: (
عن معمر عن الزهري، قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير لكل بعير أوقية، فذلك أربعة آلاف لما كان عمر قلت الإبل، ورخصت الورق فجعلها عمر وقية ونصفًا، ثم غلت الإبل، ورخصت الورق أيضًا ، فجعلها عمر أوقيتين، فذلك ثمانية آلاف ثم لم تزل الإبل تغلو وترخص الورق، حتى جعلها اثني عشر ألفًا أو ألف دينار ومن البقر مائة بقرة، ومن الشاة ألف شاه.
17256-
عن ابن جريج، قال عطاء: كانت الدية من الإبل حتى كان عمر بن الخطاب، فجعلها لما قلت الإبل عشرين ومائة لكل بعير، قال: قلت لعطاء: وإن شاء القروي أعطى مائة ناقة أو مائتي بقرة أو ألفي شاة، ولم يعط ذهبًا، قال: إن شاء أعطى إبلا ولم يعط ذهبًا وهو الأمر الأول.
17259 -
عن معمر، عن قتادة، قال: على أهل الإبل الإبل، وعلى أهل الذهب الذهب، وعلى أهل الورق الورق، وعلى أهل الغنم الغنم، وعلى أهل البز الحلل.
17261 -
عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: مائة بعير أو قيمة ذلك من غيره.
17263 -
عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية من الإبل.
17263-
عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، أن عمر قضى على أهل الورق عشرة آلاف، وعلى أهل الدنانير ألف دينار، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل البر مائتي بقرة، قال: وسمعنا أنها سنة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وسمعت أنها سنة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل.
17268 -
أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه، أنه كان يقول على الناس أجمعين أهل القرية أو البادية مائة من الإبل، فمن لم يكن عنده إبل، فعلى أهل الورق الورق، وعلى أهل البقر البقر، وعلى أهل الغنم الغنم، وعلى أهل البز البز، قال: يعطون من أي صنف كان بقيمة الإبل ما كانت إن ارتفعت أو انخفضت قيمتها يومئذ.
17270-
عن ابن جريج، قال: قال عمر وابن شعيب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم الإبل على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقيمها على أثمان الإبل، فإذا غلت رفع ثمنها، وإذا هانت نقص من قيمتها على أهل القرى على نحو الثمن ما كان. قال: وقضى أبو بكر في الدية على أهل القرى حين كثر المال وقلت الإبل فأقام مائة من الإبل ست مائة دينار إلى ثمانمائة، وقضى عمر في الدية على أهل القرى اثنى عشر ألفًا وقال: إني أرى الزمان تختلف فيه الدية تنخفض فيه من قيمة الإبل وترتفع فيه وأرى المال، وقد كثر وأنا أخشى عليكم الحكام بعدي وأن يصاب الرجل المسلم، فتهلك ديته بالباطل وأن ترتفع ديته بغير حق فتحمل على قوم مسلمين فتحتاجهم فليس على أهل القرى زيادة في تغليظ عقل ولا في الشهر الحرام ولا في الحرم، ولا على أهل القرى فيه تغليظ لا يزاد فيه على اثني عشر ألفًا، وعقل أهل البادية على أهل الإبل مائة من الإبل على أسنانها كما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاة ألفا شاة، ولو أقيم - كذا ولعله " ولم أقم " - على أهل القرى إلا عقلهم يكون ذهبًا ورقًا فيقام عليهم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على أهل القرى في الذهب والورق عُقْلا مسمى لا زيادة فيه لاتبعنا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ولكنه كان يقيمه على أثمان الإبل.
وقال ابن أبي شيبة) الكتاب المصنف: 9/126، وما بعدها، ح 6776) :
حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، عن عكرمة، قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار قتله مولى بني عدي أثني عشر ألفًا وفيهم نزلت: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آية 74 من سورة التوبة] .
6777 -
حدثنا وكيع، عن سفيان ، عن أيوب بن موسى، عن مكحول، قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدية ثمان مائة دينار فخشي عمر من بعده، فجعلها اثنى عشر ألفًا وألف دينار.
6778-
حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، عن عبدة السلماني، قال: وضع عمر الديات فوضع على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة مسنة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.
قلت: وليس من شأننا في هذا المجال ما هو من صميم الصداق أو الديات أو ما شاكلهما وإنما سقنا ما سقناه من الأحاديث ومما يتفرع عنها من آثار أبي بكر وعمر لما فيه من تصوير للموقف السائد في العهد النبوي وفي أيام الخلفاء الراشدين من تغير القيم سواء للأشياء أو للنقود نفسها، كما يتضح من تذبذب قيمة الإبل وقيمة الذهب والفضة أيضًا فيما سجلته هذه الآثار ولم ندرج آثار أبي بكر وعمر في فتاوى الصحابة التي أفردنا لها الفصل التالي لأنها أعلق بتطبيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحكمه وليست مجرد استنباط وقد حرص الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز من بعدهم على التزام قاعدة التطبيق المنضبط لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقود والحدود إلا ما كان من اجتهاد عمر اعتبارًا لحالات طارئة أو حماية للمسلمين من تعسف بعض الحكام، على حين أنهم وغيرهم من الصحابة ومن بعدهم من أهل الفتيا والاجتهاد من التابعين وتابعيهم كانت لهم اجتهادات في غير العقول والحدود مما له علاقة بالشؤون المالية قد لا يلتزمون فيها الانضباط الدقيق بالقضاء النبوي أو المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من التشريع اعتبارًا للمناط واحتسابًا لتغير أحوال الناس ومناهج معايشهم، بما تأثرت به من أوضاع الشعوب والأقطار التي افتتحوها وانتشر فيها المسلمون ولها حضارات وأوضاع ومناهج معاشية تختلف عما عليه أهل الجزيرة العربية مهد الإسلام الأول الذي كان التشريع في العهد النبوي متسقًا وموجهًا لما يسود فيه من مناهج ونظم وعادات، وهذا ما يتضح من الآثار التي نسوقها في الفصلين التاليين.
(8)
أحكام اضطراب العملة
في آثار الصحابة قولًا وعملًا
عن أبي بكر الصديق:
قال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/70)
حدثنا بحر بن نصر، عن شعيب بن الليث، عن موسى بن علي، حدثه عن أبيه، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص قال: كتب أبو بكر الصديق إلى أمراء الأجناد حين قدم الشام أما بعد فإنكم قد هبطتم أرض الربا فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن ولا الطعام بالطعام إلا كيلًا بكيل، قال أبو قيس: قرأت كتابه.
وقال ابن عبد البر (التمهيد:4/84) :
وقرأت على عبد الوارث أن قاسمًا حدثهم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا أُمَيٌّ - بالتصغير - الصيرفي فقال: حدثنا أبو صالح سنة مائة.
قال: كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عماله أن لا تشتروا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل ولا الفضة بالفضة إلا مثلًا بمثل ولا الحنطة بالحنطة إلا مثلًا بمثل ولا الشعير بالشعير إلا مثلًا بمثل ولا التمر بالتمر إلا مثلًا بمثل.
وعن عمر بن الخاطب:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/116، ح 14542) :
أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: قال عمر: إذا صرف أحدكم من صاحبه فلا يفارقه حتى يأخذها وإن استنظره حتى يدخل بيته فلا ينظره فإني أخاف عليكم الربا.
ثم قال (ص 121، ح 14562) :
اخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع قال: قال عمر: لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل ولا تفضلوا بعضه على بعض ولا تبيعوا منه غائبًا بناجز فإن استنظرك حتى يدخل بيته فلا تنظره فإني أخاف عليكم الربا.
ثم قال (ص 123، ح 14567) :
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: نهى عمر بن الخطاب عن الورق بالورق إلا مثلًا بمثل فقال له عبد الرحمن بن عوف أو الزبير: إنها تزيف علينا الأوراق (1) فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب فقال: لا تفعلوا ولكن انطلق إلى البقيع فبع ثوبك بورق أو عرض فإذا قبضته وكان لك بيعه فاهضم (2) ما شئت وخذ ورقًا إذا شئت.
ثم قال (ص 125، ح 14572) :
أخبرنا الثوري عن حماد، عن رجل، عن شريح قال عمر: الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا.
14575 -
أخبرنا التيمي عمن سمع يحيى البكاء يحدث عن أبي رافع قال: قلت لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين إني أصوغ الذهب فأبيعه بالذهب بوزنه، وآخذ لعمله أجرًا، فقال: لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، والفضة بالفضة إلا وزنًا بوزن ولا تأخذ فضلًا.
(1) الأوراق جمع ورق بكسر الراء وهي الفضة.
(2)
قال ابن منظور في لسان العرب (11/613) : وهضمه حقه هضمًا نقصه، وهضم له من حقه يهضم هضمًا ترك منه شيئًا عن طيبة نفس. يقال: هضمت له من حظي طائفة، أي تركته. ويقال: هضم له من حظه إذا كسر له منه
ثم قال (ص 127، 128، ح 14581) :
أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه كره الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير قال أبو سلمة: فحدثني ابن عمر أن عمر قال: إذا باع أحدكم. الذهب بالورق فلا يفارق صاحبه وإن ذهب وراء الجدار.
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين أن امرأة ابن مسعود باعت جارية لهذا بذهب فأخذت ورقًا أو باعت بورق فأخذت ذهبًا فسألت عمر بن الخطاب فقال: لا تأخذي إلا الذي بعت به.
14584-
أخبرنا الثوري عن السدي، عن عبد الله الرّي - لعل صوابه عبد الله البهي الذي يروي عنه السدي - عن يسار بن نمير أن عمر بن الخطاب قال في الرجل يسأل الرجل أيأخذ الدراهم؟ قال: إذا قامت على الثمن فأعطها إياه بالقيمة.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/322، 323، الأثر 1250) :
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن البهي، عن يسار بن نمير، عن عمر أنه لم ير بأسًا باقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب.
ثم قال (نفس المرجع: 7/106، ح 2541) :
حدثنا ابن أبي ليلى (1) عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال عمر: لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإن ذلك هو الربا العجلان.
(1) أشكل على المحقق (ابن أبي ليلى عن الحكم) فقال: لا أراه صوابًا وليس في الأمر إشكال، فابن أبي ليلى كما يطلق على عبد الرحمن يطلق على ابنيه محمد وعيسى وابن ابنه عبد الله بن عيسى، والراجح عندنا أن الذي روي عنه ابن أبي شيبة هو عيسى، وقد أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضًا لكن لم يعرف بالفقه وإن ذكر فيمن روي عنهم أبوه عبد الرحمن كما ذكر الحكم بن عتيبة. انظر ابن حجر (تهيب التهذيب: 8/219، ترجمة 405) ، والظاهر أنه الحكم بن عتيبة الكندي مولاهم أبو محمد أو أبو عبد الله أو أبو عمر أخرجه له الجماعة وروي عن طائفة من الصحابة وكبار التابعين وتابعيهم منهم ابن أبي ليلى الأب. وانظر ابن حجر (تهذيب التهذيب: 2/432، 433، ترجمة:756. وإن كان من المحتمل أيضًا أن يكون ابن أبي ليلى الابن هو أخوه محمد وهو أشهر منه بالفقه وأوسع رواية وإن تكلم فيه أحمد وغيره وشهد له أحمد بالفقه. انظر ابن حجر) تهذيب التهذيب: 9/301، 302، ترجمة 501 (. لكن أخرجه له الأربعة ومهما يكن فالذي أشكل على المحقق ليس بمشكل.
ثم قال: (ص 109، 110، ح 2550) :
حدثنا الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة أن طلحة اصطرف دنانير بوزن فنهاه عمر أن يفارقه حتى يستوفي.
2553 -
حدثنا على بن مسهر، عن الشيباني، عن عقبة أبي الأخضر قال: سئل ابن عمر عن الذهب يباع بنسيئة قال: سمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر وسئل عنه فقال: كل ساعة اسْتَنْسَأَهُ فهو ربا.
وقال مالك (الموطأ: ص 520، 530، ح 31) :
عن نافع، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء والرماء هو الربا.
32-
عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئًا منها غائبًا بناجز وإذا استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء والرماء هو الربا.
33-
قال مالك: بلغه عن القاسم بن محمد أنه قال: قال عمر بن الخطاب: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم والصاع بالصاع لا يباع كالئ بناجز.
وقال الشافعي في مسنده (تهذيب السندي: 2/158، ح 549) :
عن نافع، عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض.
وقال النسائي (السنن: 7/28) :
أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد قال: قال عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا.
وقال الطبري في (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/732، 736، ح 1054) :
حدثنا محمد بن موسى الحرشي، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو قال: سمعت ابن عمر يحدث قال: قال عمر: من صرف ذهبًا بورق فلا ينظرنه حلب ناقة.
1055 -
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت عبد الله بن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه قال: لا يباعن الذهب إلا مثلا بمثل ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا منها شيئًا غائبًا بناجز إني أخاف عليكم الرماء - والرماء الربا - وإن استنظركم أحد إلى أن يدخل بيته فلا تنظروه.
1056 -
حدثنا ابن المثنى، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بنحوه.
1057-
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري قال: قال ابن عمر: نهى عمر عن الذهب بالورق نساء بناجز.
1058-
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن صالح بن كيسان قال: رأيت ابن عمر في مسجد الكوفة قال: فسأله رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن ما تقول في الصرف؟ قال عبد الله: قال عمر: إن قال: ألج البيت فلا يلج البيت.
1059 -
حدثنا تميم بن المنتصر، حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مثله.
1060 -
حدثني المثنى، حدثنا أبو عامر، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة أن ابن عمر حدثه أن عمر قال: إذا بايع أحدكم الذهب بالورق فلا ينسئن صاحبه أن يذهب وراء جدار.
1061 -
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب، عن نافع قال: قال عمر: لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئًا غائبًا بناجز إني أخاف عليكم الرماء - والرماء الربا - فحدث رجل ابن عمر مثل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري فحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قلته حتى دخل على أبي سعيد وأنا معه وقال: إن هذا حدثني عنك حديثًا يزعم أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفسمعته؟ فقال: بصر عيني وسمع أذني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئًا غائبًا بناجز)) .
1062 -
حدثنا ابن سيار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة أن طلحة اصطرف دنانير بورق فنهاه عمر بن الخطاب أن يفارقه حتى يستوفي.
1063 -
حدثني يونس، أنبأني ابن وهب، حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب الذهب - لعل صوابه: بالذهب كما في النصوص الأخرى - إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز وإن استنظرك أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء والرماء الربا.
1064 -
حدثني يونس، أنبأني ابن وهب، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: فذكره نحوه.
1065 -
حدثنا يونس، أنبأنا ابن وهب، حدثني مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال: قال عمر بن الخطاب: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم والصاع بالصاع ولا يباع كالئ بناجز.
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69، 70) :
حدثنا ابن مرزوق قال: أخبرنا وهب، قال: حدثنا شعبة، عن جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر يقول: خطب عمر فقال: " لا يشتري " - لعل صوابه " لا يشتر " بحذف الياء للنهي - أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهمًا بدرهمين ولا قفيزًا بقفزين إني أخشى عليكم الرماء وإني لا أوتى فاعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله.
حدثنا ابن مرزوق قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن الأشعث، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال عمر: لا يأخذ أحدكم درهمًا بدرهمين فإن أخشى عليكم الرماء.
حدثنا ابن مرزوق قال: اخبرنا وهب قال: حدثنا أبي، قال: سمعت نافعًا قال: حدثني ابن عمر قال: خطب عمر فقال: لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض إني أخاف عليكم الرماء.
حدثنا ابن مرزوق قال: حدثنا عارم قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما مثله.
ثم قال:
حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن حماد، عن أبي صالح، عن شريح، عن عمر قال: الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا هارون بن إسماعيل قال: حدثنا علي بن المبارك قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر وعبد الله بن عمر ينهيان عن بيع الدرهمين بالدرهم يدًا بيد ويقولان الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار.
حدثنا يحيى بن نصر قال: قرأ علي شعيب، حدثنا موسى بن علي، عن يزيد بن أبي منصور، عن أبي رافع، قال: مر بي عمر بن الخطاب ومعه ورق فقال: اصنع لنا أوضاحًا - نوع من الحلي من فضة - لصبي لنا قلت: يا أمير المؤمنين، عندي أوضاح معمولة فإن شئت أخذت الورق وأخذت الأوضاح، قال عمر، مثلا بمثل؟ فقلت: نعم. فوضع الورق في كفة الميزان والأوضاح في الكفة الأخرى فلما استوى الميزان أخذ بإحدى يديه وأعطى بالأخرى.
وقال ابن حزم (المحلي: 8/504، 506) :
ومن الطريق عبد الرزاق، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم أن عبد الله بن عمر قال له: نهانا أمير المؤمنين - يعني أباه - أن نبيع العين بالدين وهذا في غاية الصحة.
وروينا المنع من ذلك عن طائفة من السلف، روينا من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب بالورق أحدهما غائب والآخر ناجز - راجع الموطأ قلت: ولكن أين هذا من ذاك؟ فالمنع إنما هو بيع غائب يناجز أو ناجز بغائب والإباحة إنما هي في ناجزين –.
وعن عثمان:
قال مالك في (الموطأ: ص 528، 529، ح 29)
أنه بلغه عن جده مالك بن أبي عامر أن عثمان بن عفان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين)) .
وعن علي:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/105، ح 2538) :
حدثنا وكيع قال: حدثنا، عن عباس العامري، عن مسلم بن نذير السعدي قال: سئل علي، عن الدرهم بالدرهمين فقال: الربا العجلان.
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/70) :
حدثنا فهد قال: حدثنا الحسن بن الربيع قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن المغيرة بن مقسم، عن أبيه، عن أبي صالح السمان قال: كنت جالسًا عند علي بن أبي طالب فأتاه رجل فقال: تكون عندي الدراهم فلا تنفق عني في حاجة فأشتري بها دراهم تجوز عني وأخصم فيها قال: فقال علي: اشتر بدراهمك ذهبًا ثم اشتر بذهبك ورقًا ثم أنفقها فيما شئت.
وعن عبد الله بن مسعود:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/127، 128، ح 14585) :
قال الثوري: وأخبر الشيباني، عن المسيب بن رافع أن امرأة ابن مسعود باعت جارية لها بدراهم فأمرها عبد الله أن تأخذ دنانير بالقيمة.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/334، 336، ح 1258) :
حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود قال: كان يكره اقتضاء الذهب من الورق.
حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين قال: قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: لا تأخذ الذهب من الورق يكون لك على الرجل ولا تأخذن الورق من الذهب.
1265-
حدثنا ابن معد أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: بلغني أن ابن مسعود كرهه.
1266 -
حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبد الله مثله.
وقال ابن حزم (المحلي: 8/504، 505) .
ومن طريق سفيان بن عيينة، عن سعد بن كدام قال: حلف لي معن - هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود - أنه وجد في كتاب أبيه بخطه، قال عبد الله بن مسعود: معاذ الله أن آخذ دراهم مكان دنانير أو دنانير مكان دراهم.
ومن طريق حماد بن زيد، حدثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين أن زينب امرأة ابن مسعود باعت جارية لها إما بذهب وإما بفضة فعرض عليها النوع الآخر فسئل عمر قال: لتأخذ النوع الذي باعت به.
وعن عبادة بن الصامت:
قال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب السفر: 2/746، ح 1087) :
حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن أبي الأشعث الصنعاني أن عبادة بن الصامت كان خطيبًا فقال: أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا ندري ما هي؟ ألا وإن الذهب بالذهب مثلًا بمثل تبره وعينه، ألا وإن الفضة بالفضة مثلًا بمثل تبرها وعينها فلا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدًا بيد ولا يصلح نسيئة، ألا وإن البر بالبر يدًا بيد مدًا بمد، ألا وإن الشعير بالشعير يدًا بيد مدًا بمد ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة والشعير أكثرهما يدًا بيد ولا يصلح نسيئة، ألا وإن التمر مديًا بمدي (1) يدًا بيد حتى كَرَّ الملح مثْلا بمثل.
(1) مكيال لأهل الشام يسع خمسة عشر مكوكًا والمكوك صاع ونصف صاع، وقيل أكثر من ذلك، وقيل المدي بضم الميم وسكون الدال مكيال ضخم لأهل الشام وأهل مصر والجمع أمداء، وقال ابن بري: المدي مكيال لأهل الشام يقال له الجريب يسع خمسة وأربعين رطلا وهو غير المد بالميم المضمومة والدال المشددة
وعن أبي هريرة:
قال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/750، ح 1071) :
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية قال: أخبرنا يونس، أنبأني عبيد بن باني - الأظهر أن فيه خطأ صوابه: عبيد بن باب وهو مولى أبو هريرة ترجم له البخاري وابن أبي حاتم وابن ماكولا وغيرهم - أنه باع من رجل ورقًا بذهب أو ذهبًا بورق فقبض سلعته قال: فانطلقت معه أريد منزله فلقينا أبو هريرة في بعض طرق المدينة فقال: أين تريدان أو أين تريدا؟ فقلت: بعت من هذا ورقًا بذهب وذهبًا بورق قال: فأين سلعتك؟ قلت: معه قال: اجلسا. فأخذ سلعته فردها إليه وقال: قولا: ليس بيننا بيع، ليس بيننا بيع، فقاما فقالا: ليس بيننا بيع، ليس بيننا بيع فقال: انطلق معه فإذا حضرت سلعتك فبعه.
وعن عبد الله بن عمر:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/119، ح 14551) :
أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر يقول: إذا استنظرك حلب ناقة فلا تنظره.
ثم قال (نفس المرجع: ص 125، 126، ح 14574) :
قال مالك: اخبرني حميد بن قيس، عن مجاهد أن صائغًا سأل ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ ثم أبيع الشيء بأكثر من وزنه وأستفضل من ذلك قدر عملي أو قال: عملتي، فنهاه عن ذلك فجعل الصائغ يرد عليه المسألة ويأبى ابن عمر حتى انتهى إلى بابه - أو قال: باب المسجد - فقال ابن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وعهدنا إليكم.
14576 -
أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن القاسم بن أبي بزة، عن يعقوب وكان ابن عمر ابتاع منه إلى الميسرة فأتاه بنقد ورقًا أفضل من ورقة فقال يعقوب: هذه أفضل من ورقي فقال ابن عمر: هو نبل من قبلي أتقبله؟ قلت: نعم.
14577 -
عن الثوري، عن داود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يأخذ الدراهم من الدنانير والدنانير من الدراهم، قال داود: وكان سعيد بن جبير يفتي به.
14579 -
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر قال: لا يأخذ الرجل الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير - يريد نسيئة.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/332)
حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود بن هند، عن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر يكون عليه الورق فيعطي بقيمته دنانير إذا قامت على سعر ويكون عليه الدنانير فيعطي الورق بقيمتها.
ثم قال (نفس المرجع: ص 105، 109، ح 2537) :
حدثنا على بن مسهر، عن الشيباني ، عن جبلة بن سحيم، عن عبد الله بن عمر قال: أيها الناس لا تشتروا دينارًا بدينارين ولا درهمًا بدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء قيل: وما الرماء؟ قال: الذي تدعونه الربا.
2540-
حدثنا أبو الأحوص عن زيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عمر عن الذهب والفضة فقال ابن عمر: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنا بوزن.
2546 -
حدثنا معتمر بن سليمان قال: سمعت عبد العزيز بن حكيم يقول: شهدت ابن عمر أتاه رجل من أهل البصرة فقال: جئت من عند قوم يصرفون الدراهم الصغار فيأخذون بها كبارًا قال: أيزدادون؟ قال: نعم، قال: لا إلا وزنًا بوزن.
2548 -
حدثنا معتمر بن سليمان، عن عبد العزيز بن حكيم قال: سمعت ابن عمر يقول: إذا صرفت دينارًا فلا تقم حتى تأخذ ثمنه.
وقال مالك (الموطأ: ص 52، ح 28) :
عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاء صائغ فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل من ذلك قدر عملي بيدي فنهاه عبد الله عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبيئنا إلينا ونبيئنا إليكم.
وقال الشافعي (المسند، تهذيب السندي: 2/158، ح 548) :
مالك عن حامد بن قيس، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم.
وقال النسائي (السنن: 7/283) :
أخبرنا محمد بن بشار قال: أنبأنا مؤمل قال: حدثنا سفيان، عن أبي هشام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسًا يعني في قبض الدراهم من الدنانير والدنانير من الدراهم.
وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/742، 746، ح 1080) :
حدثنا صالح بن مسمار المروزي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن صدقة سأل ابن عمر عن الذهب بالذهب والفضة بالفضة فقال: ضع ذا في كفة وذا في كفة فإذا اعتدلا فخذ وأعطه.
1085-
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا عبد المؤمن أنه سمع ابن عمر، وسأله رجل فقال: الذهب بالذهب فقال: نعم لا يحولن بينهما جدار.
1086 -
حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم بن بشير، حدثنا كليب قال: سألني ابن عمر فقلت: اشترى الذهب؟ فقال: من يدك إلى يده - وصفق بإحدى يديه على الأخرى - وإن قال لك: إلى وراء هذه الاسطوانة فلا.
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/66) :
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني مالك أن حميد بن قيس حدثه عن مجاهد المكي أن صائغًا - هو عامل الحلي - سأل عبد الله بن عمر: إني أصوغ ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل من ذلك قدر عملي؟ فنهاه ابن عمر عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة ويأباه عليه عبد الله بن عمر حتى انتهى إلى دابته أو إلى باب المسجد فقال له عبد الله: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم.
وعن رافع بن خديج:
قال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/66، 67) :
حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا عمر بن يونس قال: حدثنا عاصم بن محمد قال: حدثني زيد بن محمد قال: حدثني ابن نافع قال: مشى ابن عمر إلى رافع بن خديج في حديث بلغه في شأن الصرف فأتاه فدخل عليه فسأله عنه فقال رافع: سمعته أذناي وأبصرته عيناني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تشفوا الدينار على الدينار ولا الدرهم على الدرهم ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز وإن استنظرك حتى يدخل عتبة بابه)) .
حدثنا ابن مرزوق حدثنا عارم قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: انطلقت مع عبد الله بن عمر إلى أبي سعيد فذكر مثله غير قوله: " وإن استنظرك إلى آخر الحديث فإنه لم يذكره.
وعن ابن عباس:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/335، الأثر 1259) :
حدثنا ابن فضيل عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كره أن يعطي الذهب من الورق والورق من الذهب.
وقال الطبراني (المعجم الكبير: 1/176، 178، ح 454) :
حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم وعبد السلام بن حرب عن مغيرة - يعني ابن مقسم - عن عبد الرحمن بن أبي نعم أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلًا بمثل فمن زاد فقد أربى)) ، فقال ابن عباس: أتوب إلى الله عز وجل مما كنت أفتي به ثم رجع.
455-
حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا الحجاج بن النهال، حدثنا الربيع بن صبيح، عن عقبة بن أبي ثابت الراسبي وغالب القطان، عن أبي الجوزاء قال: سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين يدًا بيد فقال: لا أرى بما كان يدًا بيد بأسًا ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه.
456 -
حدثنا موسى بن هارون حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا المثنى بن سعيد، حدثنا أبو الشعثاء قال: سمعت ابن عباس يقول: اللهم إني أثوب إليك من الصرف إنما هذا من رأيي وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
457 -
حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا أبو غيفار المثنى بن سعيد قال: سمعت أبا الشعثاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: استغفر الله وأتوب من الصرف.
459 -
وحدثنا عبدان بن أحمد قال: حدثنا طالوط بن عباد الصيرفي - ولعل صوابها قال: أو أن الطبراني روي عن كل من عبدان وطالوط وإذن فيكون الصواب: وحدثنا طالوط - قالا: حدثنا سالم بن عبد الله أبو غياث العتكي قال: سمعت بكر بن عبد الله المزني يحدث أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه فحمد الله واثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه لا بأس بالصرف ما كان منه يدًا بيد إنما الربا في النسيئة فطارت كلمة في المشرق والمغرب حتى إذا أنقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري فقال: يا ابن عباس أكلت الربا وطعمته قال: أو فعلت؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالذهب وزنًا بوزن تبره وعينه فمن زاد أو استزاد فقد أربى والفضة بالفضة وزنًا بوزن تبرها وعينها فمن زاد أو استزاد فقد أربى والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي وإني استغفر منه وأتوب إليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه فمن زاد أو استزاد فقد أربى وأعاد إليهم هذه الأنواع الستة)) .
وقال ابن حزم في (المحلى: 8/504) :
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا منصور، حدثنا هشيم، أنبأنا الشيباني - هو أبو إسحاق - عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كره اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب.
وتعقبه بقوله: وهذا صحيح.
وعن شرحبيل:
قال أحمد في المسند (الساعاتي الفتح الرباني: 15/74، ح 244) :
حدثنا معتمر، عن عاصم، عن شرحبيل أن ابن عمر وأبا هريرة، وأبا سعيد حدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلًا بمثل عينًا بعين من زاد أو أزداد فقد أربى)) . قال شرحبيل: إن لم أكن سمعته فأدخلني الله النار.
وعن عائشة:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/108، ح 2545) :
حدثنا وكيع قال: حدثنا نضر بن على الجهضمي، عن قيس بن رباح الحداني، عن ملكة ابنة هانئ قالت: دخلت على عائشة وعلى سواران من فضة فقلت: يا أم المؤمنين " أبيعها " - لعل الصواب: أبيعهما -: بدراهم؟ فقالت: الفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل.
وعن مجاهد:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/121، ح 14560) :
عن الثوري، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل قال: يأخذ بفضله ذهبًا.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/38، ح 2299) :
حدثنا سفيان عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في الرجل يصرف عند الرجل الدينار فيفضل القيراط من ذهب قال: لا بأس أن يأخذ به كذا وكذا درهمًا.
ثم قال (ص 106، ح 2539) :
حدثنا ابن فضيل عن ليث، عن مجاهد، قال: أربعة عشر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم (1) قالوا: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربو (2) الفضل منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسعد وطلحة والزبير.
(1) كلمة أن هم موجودة في الأصل، وهي زيادة لا معنى لها
(2)
أي اعتبروه ربا
(9)
أحكام اضطراب العملة
في آثار التابعين وتابعيهم
عن سعيد بن المسيب:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/336، ح 1264) :
حدثنا مروان بن معاوية، عن موسى بن عبيدة قال: أخبرني عطاء مولى عمر بن عبد العزيز قال: ابتعت من برد مولى سعيد بن المسيب ناقة بأربعة دنانير فجاء يلتمس حقه مني فقلت: عندي دراهم ليس عندي دنانير قال: حتى أستأمر سعيد بن المسيب فاستأمره فقال له سعيد: خذ منه دنانير عينًا فإن أبي فدعه موعده الله.
وقال مالك في (الموطأ: ص 532، ح 37) :
عن يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي أنه رأى سعيد بن المسيب يراطل الذهب بالذهب فيفرغ ذهبه في كفة الميزان ويفرغ صاحبه الذي يراطله ذهبه في كفة الميزان الأخرى فإذا اعتدل لسان الميزان أخذ وأعطى.
وقال ابن حزم (المحلى: 8/506) :
وعن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا مروان بن معاوية - هو الفزاري - عن موسى بن عبيدة أخبرني عطاء مولى عمر بن عبد العزيز أنه ابتاع من برد مولى سعيد ناقة بأربعة دنانير فجاء يلتمس حقه فقلت: عندي دراهم ليس عندي دنانير فقال: حتى أستأمر سعيد بن المسيب فاستأمره فقال له سعيد: خذ منه دنانير عينًا فإن أبى فموعده الله دعه.
وعن طاوس:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/126، ح 14580) :
اخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: لا بأس بأن يأخذ الذهب من الورق والورق من الذهب.
ثم قال (ص 128، ح 14588) :
قال سفيان: وأخبرني ليث عن طاوس أنه كرهه في البيع ولا يرى في الفرض بأسًا " يريد دفع الورق من الذهب بسعر يومه ".
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/333، ح 1252) :
حدثنا معتمر، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه لم ير به بأسًا.
ثم قال (7/38، ح 2298) :
حدثنا يزيد، عن موسى بن مسلم قال: سألت طاوسا قلت: دينار ثقيل بدينار أخف منه ودرهم قال: لا بأس به.
وعن سعيد بن جبير:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/333، ح 1251) :
حدثنا وكيع عن موسى بن نافع، قال: سألت سعيد بن جبير عن رجل اقتضى ذهبًا من ورق أو ورقًا من ذهب في القرض قال: لا بأس به.
وقال النسائي (السنن: 7/282، 283) :
أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا وكيع قال: أنبأنا موسى بن نافع عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يأخذ الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير.
ثم قال:
حدثنا سفيان عن موسى بن شهاب، عن سعيد بن جبير أنه كان لا يرى بأسًا وإن كان من قرض.
أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا موسى بن نافع عن سعيد بن جبير بمثله. قال أبو عبد الرحمن: هكذا وجدته في هذا الموضوع.
قلت: لعل ما رواه عن طريق وكيع من كراهة سعيد أخذ الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير كان مما ألزم به نفسه تورعًا، وما رواه عن طريقه بواسطة محمد بن بشار وعن طريق سفيان بواسطته أيضًا من أنه كان لا يرى في ذلك بأسًا إنما هو فتياه للناس عامتهم رفعًا للحرج عنهم وقد يأخذ العالم في نفسه ما لا يلزم به غيره.
وقال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) :
ومن طريق أحمد بن شعيب، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وكيع، حدثنا موسى بن نافع، عن سعيد بن جبير أنه كره أن يأخذ الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير.
وعن الحسن:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/128، ح 14587) :
قال الثوري: وأخبرني يونس، عن الحسن قال: لا بأس به بسعر السوق، وقال سفيان: لا بأس به إذا تراضيا.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/333، 334، ح 1254) :
حدثنا وكيع، عن الحسن قال: لا بأس لاقتضاء الذهب، الورق والورق من الذهب بقيمة السوق.
1255 -
حدثنا ابن إدريس عن هشام، عن الحسن قال: لا بأس به.
ثم قال (ص 590، ح 2141) :
حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا هشيم، عن الحسين أنه لم يكن يرى بأساس بالرجلين يشتركان فيجيء هذا بدنانير والآخر بدراهم وقال: الدنانير عين كله فإذا أراد أن يفترقا أخذ صاحب الدنانير دنانير وأخذ صاحب الدراهم دراهم ثم اقتسما الربح. قال هشام: وكان محمد يحب أن يكون دراهم ودراهم ودنانير ودنانير.
ثم قال (7/25، ح 3002) :
حدثنا شريك، عن سماك، عن الحسن قال: إذا قرضت عددًا فخذ عددًا وإذا قرضت وزنًا فخذ وزنًا.
ثم قال (ص 26، ح 2257) :
ثم قال حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسًا بقضاء الدراهم البيض من الدراهم السود ما لم يكن شرطًا.
ثم قال (ص 38، ح 2300) :
حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في الرجل يشتري الذهب بالدراهم فيزن الدينار فيزيد فيأخذ بفضلها قال: لا بأس به، وكره ابن سيرين وقال: خذ به "جمع" ذهبًا وبنصفها فضة.
2301 -
حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد قال: كان ابن سيرين يكره الوازنة.
وعن ابن سيرين:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/14، ح14107) :
أخبرنا الثوري، عن يونس،عن الحسن قال: إذا سلفت سلفًا فلا تصرفه في شيء حتى تقبضه.
14108 -
أخبرنا إبراهيم بن عبد الرحمن، عن عبد الكريم ، عن الحسن وابن سيرين مثله.
14110 -
أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد والحسن أنهما كرها إذا سلفت في وزن أن تأخذ كيلًا أو في كيل أن تأخذ وزنًا. وذكر الثوري عن هشام والحسن ومحمد مثله.
ثم قال (ص 120، 121، ح 14556) :
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين في رجل كانت لي عليه مائة وازنة فأسلفني مائة دينار ناقصة فقال: لا بأس أن يسلف الدنانير النقص إذا كانت التي تسلف وازنة ولكن إذا كنت تسلفه ناقصة فسلفك وازنة كان ذلك مكروهًا.
14558 -
أخبرنا معمر قال: سئل ابن سيرين عن مائة مثقال ذهب في مائة مثقال في أحدهما مثقال فضة هو تمام المائة مثقال يومئذ فكرهه.
ثم قال (ص 129، ح 14590) :
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين أنه كره أن يشتري بدينار " إلا درهم "(1) نسيئة ولم يرد به بأسًا بالنقد.
(1) قال المحقق كذا في المواضع كلها، وهذا يعني أنه أشكل والواقع أنه غير مشكل فهو مجرور على البدلية كما رفعت " قليل " بعد إلا في قوله:{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} . سورة النساء: الآية (176)، أو على الوصفية وإلا بمنزلة غير كما ورد في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . سورة الأنبياء: الآية (22) . ومثل قولهم عندي درهم إلا دانق إذ يجوز إلا دانقًا واضح أن اعتباره صفة هنا يتضمن أيضًا ملاحظته معنى البدلية إذ لو أغفل هذا المعنى لتعطل معنى الجملة، ولذلك قالوا: يمتنع عندي درهم إلا جيد لأن كلمة جيد لا يمكن أن يلحظ فيها معنى البدلية. انظر ابن هشام (المغني: ص 198، 202) ، وهكذا يتضح أنه لا إشكال فيما أشكل على المحقق لا سيما إذا لاحظنا تفسير البصريين لآية سورة النساء المذكورة آنفًا ومعلوم أن ابن سيرين بصري.
14592 -
سألت معمر عن رجل باع ثوبًا بدينار " إلا درهم " - راجع التعليق: (1) في الصفحة ذاتها - إلى أجل فقال: هو مكروه قلت: فباعه بدينار " إلا درهم "
قال: مكروه قال: كان ابن سيرين يكره هذا كله.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/335، 336، ح 1263) :
حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد في رجل كانت له على رجل دراهم فأخذ منها ثم أراد أن يأخذ بقيمتها دنانير فكرهه.
ثم قال (ج 7/ح 2252) :
حدثنا الثقفي، عن أيوب، عن محمد أنه كان يكره أن يسلف عددًا ويأخذ وزنًا:
2254 -
حدثنا عبد الأعلى، عن هشام عن الحسن ومحمد أنهما قالا في رجل اقترض من رجل دراهم عددًا بأرض فجازت وزنها أيقضيه وزنًا؟ فكرها ذلك وقالا: لا يقضيه إلا مثل دراهمه.
ثم قال (ص 37، ح 2296) :
حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان، عن معمر، عن رجل، عن ابن سيرين أنه سئل، عن مائة مثقال بمائة دينار وعشرة دراهم فكرهه.
ثم قال: (ص 39، ح 2303) :
حدثنا أزهر عن ابن عون قال: سألت محمدًا قلت: أشترى الدنانير اليسيرة وأقول: أنت بريء من وزنها قال: لا أعلم به بأسًا.
ثم قال (ص 110، ح 2552) :
حدثنا غندر، عن هشام، عن الحسن وابن سيرين قالا: إذا بعت ذهبًا بفضة فلا تفارقه وبينك وبينه شرط إلا هاء وهاء.
وقال ابن حزم (المحلي: 8/506) :
وعن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين فيمن كانت له على آخر دراهم فأخذ منها ثم أراد أن يأخذ بقيمتها دنانير فكرهه.
وعن أبي سلمة:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/335، ح 1261) :
حدثنا وكيع، عن ابن المبارك، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: سألته عن الرجل يقرض الرجل الدراهم فيأخذ منه الدنانير فكرهه.
1262 -
حدثنا معتمر، عن معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة أنه كرهه.
وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب: السفر: 2/747، 748، ح 1089) :
حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني طلحة بن أبي سعيد والليث بن سعد أن صخر بن أبي غليظ حدثهما أنه كان مع أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف فابتاع أبو سلمة ثوبًا بدينار إلا درهمًا - قال الليث: أو قيراطًا - فأعطاه أبو سلمة الدينار وقال: هلم الدرهم قال: ليس عندي درهم الآن حتى ترجع إلي فألقى إليه أبو سلمة الثوب وقبض الدينار منه وقال: لا بيع بيني وبينك.
1090 -
حدثنا على بن سهل الرملي، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر بن برقان قال: قلت للزهري، الرجل يصرف الدرهم بالفلوس قال: هو صرف لا يفارقه حتى يستوفي.
قال الطبري: وكذلك كان مالك بن أنس والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي يقولون ويرون أن المتصارفين إذا لم يتفارقا إلا عن تقابض إن صرفهما ماض جائز وإن لم يكن ما اصطرف عليه من الذهب والورق حاضرًا عند عقد البيع عليه يريانه.
وقال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) :
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن على بن المبارك، عن يحيى هو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف - أنه كره أن يكون لك عند آخر قرض دراهم فتأخذ منه دنانير.
وعن أبي عبيدة بن عبد الله:
قال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) :
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثني ابن علية، عن يونس - هو ابن عبيد - عن أنس بن سيرين قال: قال لي أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: لا تأخذ الذهب من الورق يكون لك على الرجل ولا تأخذ الورق من الذهب.
وعن الثوري:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/117، ح 14544) :
قال الثوري: إذا صرفت بدينار عشرة دراهم ونصف فلا تأخذ بالنصف طعامًا ولا شيئًا إلا فضة فإن شرطت عشرة دراهم ومُدَّيْنِ فلا بأس به.
ثم قال (ص 120، ح 14557) :
قال الثوري في رجل له على رجل مائة دينار وازنة فقال: أسلفني مائة دينار ناقصة فقال: خذها من المائة الوازنة وأحسابك بالفضل وأقبضه منك قال: لا بأس به.
ثم قال (ص 126، ح 14578) :
قال الثوري في رجل أقرضه رجل دينارًا فأخذ منه دراهم يصرف يومئذ - يعني يأخذها بصرف يومئذ -.
ثم قال (ص 128، ح 14589) :
قال عبد الرزاق: سألت الثوري عن رجل كنت أسلفت له دينارًا فأخذت منه نصف دينارًا قال: " جابر " - خطأ واضح صوابه: جائز - إنما يبقى لك عليه نصف دينار " ذهب " - هكذا في النسخة المطبوعة ولم يعقب عليه المحقق ولعله صفة لنصف - وقال في رجل يبيع طعامًا بنصف دينار إلى أجل قال: " جابر "إنما هو نصف دينار ذهبًا.
وعن قتادة:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8 /117، ح 14543) :
أخبرنا معمر، عن قتادة قال: إذا صرفت دينارًا بورق والصرف ثلاثة عشر ونصف فأعطى أربعة عشر وقال: آتيك بنصف درهم لا بأس بهذا يقول: يأخذ منه النصف درهم إذا شاء قال: ولكن لو كان الصرف ثلاثة عشر ونصف فأعطاه ثلاثة عشر وقال: سوف آتيك بالنصف فإن هذا لا يصلح.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6 /333، ح 1253) :
حدثنا معتمر، عن معمر، عن الزهري وقتادة أنهما قالا: لا بأس بذلك " أي اقتضاء الذهب بالورق أو العكس ".
وعن إبراهيم النخعي:
قال عبد الرزاق (المصنف: 8/121، ح 14559) :
عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم أنه كره الدينار الشامي بالدينار الكوفي وبينهما فضل أن يأخذ فضل الشامي فضة. 14560- عن الثوري، عن عثمان بن الأسود عن مجاهد في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل فقال: يأخذ بفضله ذهبًا. ثم قال (ص 128، 129، ح 14586) :
أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه كره أن يبيع الذهب بالفضة ثم يأخذ دراهم ويقول: إن وجدت فيها عيبًا، قال الثوري: وأما منصور فأخبرني عن الحكم، قال: أمرني إبراهيم أن أعطي امرأته من صداقها دنانير من دراهم.
وتعقبه عبد الرزاق بقوله: عجبًا " في " - هكذا في النسخة المطبوعة ولعله بلغة الكوفيين الذين ينيبون حروف الجر بعضها عن بعض - أهل البصرة والكوفة، أهل الكوفة يروون عن عمر وعبد الله الرخصة وأهل البصرة يروون عنهما التشديد - انظر ما نقلناه عنهما في الفصل السابق -.
14591 -
أخبرنا الثوري، عن خالد بن دينار، عن الحارث، عن يزيد، عن إبراهيم أنه كان يكره البيع بدينار " إلا درهم " - راجع التعليق:(ص 2005) .
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/332، ح 1248) :
حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم قال: كان لامرأة إبراهيم على إبراهيم شيء فأمرني أن أعطيها بقيمة الدراهم دنانير.
وفي مصنف عبد الرزاق (8/128، ح 14586) :
أخبرنا الثوري عن مغيرة، عن إبراهيم أنه كره أن يبيع الذهب بالفضة ثم يأخذ دراهم ويقول: إن وجدت فيها عيبًا قال الثوري: وأما منصور فأخبرني عن الحكم قال: أمرني إبراهيم أن أعطي امرأته من صداقها دنانير من دراهم.
ثم قال ابن أبي شيبة (7/26، ح 2258) :
حدثنا عبدة، عن سعيد، عن أبي سعيد، عن إبراهيم أنه لم يكن يرى بذلك بأسا ما لم يكن شرطًا أو نية.
ثم قال (ص 36، 37، ح 2295) :
حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان، عن منصور قال: سألت إبراهيم عن الدينار الشامي بالدينار الكوفي وفضله فضة فكرهه.
2297 -
حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: يكره دينار شامي بدينار كوفي ودرهم ولا بأس إذا كان لك على رجل دينار كوفي فتعطيه دينارًا شاميًا وتشتري الفضل منه بشيء ولا تفترقا إلا وقد تصرم ما بينهما - هكذا ولعل صوابه: ما بينكما -.
2302 -
حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه كان يكره أن يبيع الرجل الدينار فيأخذ بعضه ذهبًا وبعضه فضة قال: وكان الحكم لا يرى بذلك بأسًا.
وقال النسائي (السنن: 7/282، 283) :
أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهذيل عن إبراهيم في قبض الدنانير من الدراهم أنه كان يكرهها إذا كان من قرض.
قلت: لعل ذلك تحرجًا من تغيير السعر واعتبارًا لكون ذمة المقترض عامرة بسعر ما أخذ يوم أخذه وهو رأي ذهب إليه نفر من التابعين والمجتهدين من الفقهاء كما سنراه بعد قليل.
وقال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) :
ومن طريق محمد بن المثنى، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم النخعي أنه كره اقتضاء الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير.
وعن القاسم:
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/334، ح 1256) :
حدثنا أبو بكر النخعي عن أفلح، عن القاسم قال: لا بأس به.
وعن مغيرة:
قال: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/110، ح 2554) :
حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: لا يفترقا إلا وقد تصرما ما بينهما.
وعن شريح:
قال ابن أبي شيبة 0 (الكتاب المصنف: 7/110، 111، ح 2555) :
حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، عن شريح قال: أحب إلي في الصرف أن يتصادرا وليس بينهما لبس.
من استعراض هذه الآثار ومثيلاتها مما لم نسقه - إذا لم نقصد إلى الاستقراء - تتبين ملامح تصور التابعين وتابعيهم للنقد ومذاهبهم في استنباط الأحكام المتصلة به نتيجة لتصورهم له.
ويمكن إيجاز هذه الملامح فيما يلي:
1-
يرى أغلبهم شكلا " من الوحدة النقدية " بين الذهب والفضة ينعكس أثرها على " اقتضاء " أحدهما بالآخر و" الاقتضاء " - كما نفهمه من مجموع آثارهم - يقصدون به ما سوى الصرف من أنواع إبراء الذمة كالقرض، والقراض والبيع المؤجل.
وقليل منهم من يبدو أنه يرى أن كلًّا من الذهب والفضة نقد مستقل بذاته وإن جمعت بينهما صفة " النقدية " وهذا الفريق أقل تحرجًا من الفريق الآخر في الأحكام التي استنبطها لصور الاقتضاء وإن كان الفريقان معًا يلتزمان في أحكامهما ملاحظة اجتناب شبهة الربا بيد أن التزامهما يتمايز بشدة التحرج عند الفريق الأول والآخذ ببعض السعة عند الفريق الثاني.
2-
يكادون يجمعون على ملاحظة تذبذب أسعار النقدين ملاحظة مهيمنة على أحكامهم فهي على اختلافها ظروفًا وأشكالا تعكس اعتبار " التذبذب " وإن في أشكال بعضها تكون فيه أبرز منها في البعض الآخر وهذه الملاحظة هي التي تعنينا أساسًا، ذلك بأن تذبذب سوق الذهب والفضة ارتفاعًا وانخفاضًا ليس في عينهما فحسب ، بل في النقدين المسكوكين منهما لايختلف في شكله ولا في الآثار المترتبة عنه اختلافا عما نعرف اليوم من تذبذب قيم العملات ارتفاعًا وانخفاضًا في الأسواق المالية، وإن كانت الأسباب تختلف فالعرض والطلب هما العَاملان الأساسيان - فيما يبدو لنا - في اضطراب أسعار الذهب والفضة مسكوكين أو غير مسكوكين في الأسواق أيامئذ، على حين أن عوامل أخرى أساسها المؤثرات في معايير قيم العملات هي أسباب تذبذبها اليوم أو ما نسميه تغيير قيمها وذلك ما سنعرض له بتوقف أطول في موقعه من هذا البحث.
3-
وبما أن اعتبار الوزن في النقدين كان أساسيًا في تقويمها وفي تصورهم لمدلول النقدية فيهما حتى اعتبره البعض - كما سنبين في موقعه - علة تحريم تبادلهما متفاضلين وهو ما عرف بربا الفضل فإن آثاره وضحت في أحكامهم في أحوال متعددة مما يتصل بإبراء الذمة مثل أداء أثمان بيع المؤجل أو تسديد قرض أو إعادة قراض بعد انتهاء أجله أو ما إلى ذلك من الإبراء في حالات غير حالات التقابض والتناجز، ومرد ذلك إلى نمط من اضطراب العملات لم نعد نعرفه الآن وكان يومئذ شائعًا لو كان مما ورثوه من الأمم الأخرى وهو اختلاف الوزن بين الدينار والدينار أو الدرهم والدرهم تبعًا لاختلاف أماكن وظروف سكها بما في ذلك ما يعكس من اختلاف الأحوال الاقتصادية لهذا البلد أو ذاك ولهذه الولاية أو تلك من البلاد والولايات الإسلامية لما كان لكل بلد ولكل ولاية من استقلال مالي نسبي عن عاصمة الخلافة لعوامل ليس هذا مجال تفصيلها، والذي يعنينا من هذا الملمح الثالث هو ما يشاكله في عصرنا هذا من وجود عملات متفقة اسمًا مثل الفرنك الفرنسي والبلجيكي والسويسري والمارك لكل من ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية والدولار الأمريكي والدولار الكندي والدينار من الكويتي إلى الجزائري والدرهم من الإماراتي إلى المغربي والريال من الإيراني إلى السعودي وما إلى هذه من عملات متفقة اسمًا مختلفة قيمة اختلافًا قد تكون الواحدة منها لا تجاوز قيمتها واحدًا من ستة عشر من قيمة مثيلاتها في الاسم مع أن هذه العملات تخضع جميعًا لنظام واحد من الضوابط والمعايير في الإطار الدولي مما سنعرض له في موقعه من هذا البحث.
والذي ألمعنا إليه في هذا التعليق على آثار التابعين وتابعيهم هو جوهر ما سنلاحظه فيما نسوقه في الفصل الآتي من أحكام مجتهدي المذاهب من أئمة وتابعين لهم وإن كان التصور الطبيعي للنقد ولما بين النقدين من علاقة ولما بينهما وما ستحدث بعهدهما من علاقة تتضح ملامحه وتختلف تبعًا لذلك الأحكام المستنبطة نتيجة له مع تطور العصور واختلاف بلدان وظروف المجتهدين بل قد تختلف ما بين إمام وآخر نتيجة لاختلاف ظروفهما وهذا ما سنتبينه مما سنسوقه في الفصل الآتي.
(10)
الأحكام المترتبة على اضطراب النقد وتغييره
واختلافه من آثار أيمة " السنة " ومجتهديها
قال مالك (الموطأ: ص 530، 531) :
لا بأس أن يشتري الرجل الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، جزافًا إذا كان تبرًا أو حليًا قد صيغ وأما الدراهم المعدودة والدنانير المعدودة، فلا ينبغي لأحد أن يشتري شيئًا من ذلك جزافًا حتى يعلم ويعد، فإن اشترى ذلك جزافًا فإنما يراد به الغرر حين يترك عده، ويشتري جزافًا وليس هذا من بيوع المسلمين، فأما ما كان يوزن من التبر والحلي، فلا بأس أن يباع ذلك جزافًا كهيئة الحنطة والتمر ونحوهما من الأطعمة التي تباع جزافًا ومثلها يكال فليس بابتياع ذلك جزافًا بأس.
قال مالك، من اشترى مصحفًا أو سيفًا أو خاتمًا، وفي شيء من ذلك ذهب أو فضة بدنانير أو دراهم، فإن ما اشترى من ذلك وفيه ذهب بدنانير، فإنما ينظر إلى قيمته، فإن كانت قيمة ذلك الثلثين وقيمة ما فيه من الذهب الثلث، فذلك جائز لا بأس به إذا كان ذلك يدًا بيد، ولا يكون فيه تأخير وما اشترى من ذلك بالورق مما فيه نظر إلى قيمته فإن كان قيمة ذلك الثلثين وقيمة ما فيه الثلث، فذلك جائز لا بأس به إذا كان ذلك يدًا بيد، ولم يزل ذلك من أمر الناس عندنا.
ثم قال (ص 531) :
إذا اصطرف الرجل دراهم بدنانير، ثم وجد فيها درهمًا، فأراده رده انتقض صرف الدينار ورد إليه ورقه، وأخذ إليه ديناره وتفسير ما كره من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالورق إلا هاء وهاء)) . وقال عمر بن الخطاب: وإن استنظرك إلى أن يجد بيته فلا تنظره وهو إذا رد عليه درهمًا من صرف بعد أن يصارفه كان بمنزلة الدين أو الشيء المتأخر فلذلك كره ذلك وانتقض الصرف، وإنما أراد عمر بن الخطاب أن لا يباع الذهب بالورق والطعام كله عاجلًا بآجل، فإنه لا ينبغي أن يكون في شيء من ذلك ولا تنظره وإن كان من صنف واحد أو كان مختلفة أصنافه.
وقال سحنون (المدونة الكبرى؛ المجلد: 4، 9/318، 319) :
وسئل مالك عن الرجل يبتاع من الرجل بعشرين درهمًا، فيعطيه إياها لا يعرف لها وزنًا، والدراهم تختلف، فرب درهم عريض يكون عريضًا خفيفًا في الوزن، ورب درهم صغير يكون صغيرًا أثقل في الوزن فيشتري بها على عددها بما كان فيها من الوزن فقال: ما هو بحسن بيع الدراهم جزافًا فكأنه رآه من وجه الجزاف قال ابن القاسم: قال الله جل ذكره: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [آية 35 من سورة الإسراء؛ وآية 282 من سورة الشعراء]، فلا ينبغي لأحد أن يترك الوزن وذلك رأيي وسمعت مالكًا غير مرة يكره ذلك. قال ابن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا يجوز له أن يقتضي من عشرين درهمًا مجموعة موزونة عشرين درهمًا عددًا مجموعة لأنه غرر إذ لا يدري هل أخذ أقل من حقه أو أكثر إذ قد يكون الدرهم العريض خفيفًا والدرهم الصغير ثقيلًا، ولو اقتضى منها عشرين درهمًا عددًا مجموعة لا تجوز بأعيانها لا يشك أنها أكثر في الوزن من التي له أو أقل لجاز ذلك لأنه معروف من أحدهما إلى صاحبه، ولو اقتضى منه عشرين درهمًا عددًا تجوز بأعيانها لجاز إن كانت في الوزن أقل من التي له أنها إن كانت أكثر في الوزن من التي له فقد أخذ أكثر من حقه في الوزن وفي عيون الدراهم وإن كانت أقل في الوزن كان إنما ترك فضل الوزن لفضل عيون الدرهم فلم يجز وهذا كله قائم من قوله في المدونة إن القائمة تقتضي من المجموعة لأنها أكثر في الوزن وأفضل في العين ولا يقتضي منه الفراد لأنها أقل في الوزن، وأفضل في العين - انظر الونشريسي، المعيار: 6/275، 277 -.
ثم قال (نفس المرجع: ص 319، 320) :
وسئل مالك عن جواز الذهب أيشتري بها، ولا يبين لمن يدفعها إليه، قال: أما كل بلد مثل مكة التي يجوز فيها كل شيء فلا بأس وأما غير ذلك فلا أحبه حتى يسمي.
قال ابن رشد: هذا بين على ما قال إن البلد الذي تجوز جميع السكك جوازًا واحدًا، لا فضل لبعضها على بعض ليس على المبتاع فيه شيء أن يبين بأي سكة يبتاع ويجبر البائع أن يأخذ أي سكة أعطاه كما أن البلد إذ كان يجري فيه سكة واحدة فليس عليه أن يبين بأي سكة يبتاع ويجبر على أن يقضيه السكة الجارية وأن البلد الذي يجري فيه جميع السكك ولا تجوز فيه بجواز واحد لا يجوز البيع فيه حتى يبين بأي سكة يبتاع فإن لم يفعل كان البيع فاسدًا.
يبين بأي سكة يبتاع فإن لم يفعل كان البيع فاسدًا.
وقال ابن عبد البر (التمهيد: 2/246) :
وقد روي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة أو دنانير مضروبة، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه، فيقول للضراب، خذ فضتي هذه أو ذهبي، وخذ قدر عمل يدك وادفع إلي دنانير مضروبة في ذهبي أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوظ للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه أن ذلك جائز للضرورة وأنه قد عمل به بعض الناس.
قال ابن عبد البر: هذا مما يرسله العالم من غير تدبر ولا روية وربما حكاه لمعنى قاده إلى حكايته فيتوهم السامع أنه مذهبه فيحمله عنه وهذا عين الربا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من زاد أو ازداد فقد أربى)) . وقال ابن عمر: لا في مثل هذه المسألة سواء بسواء ونهاه عنها، وقال: هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم وهذا قد باع فضة بفضة أكثر منها وأخذ في المضروب زيادة على غير المضروب وهو الربا المجتمع عليه لأنه لا يجوز مضروب الفضة ومصوغها بغيرها، ولا مضروب الذهب ومصوغه بغيره وعينه إلا وزنًا بوزن عند جميع الفقهاء، وعلى ذلك تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم استدل بحديث عبادة بن الصامت.
وقال ابن رشد (البيان والتحصيل: 6/429، 432) :
أخبرني محمد بن عمرو بن لبابة، قال: اخبرني العتبي محمد بن أحمد، عن سحنون بن سعيد، قال: أخبرني ابن القاسم، عن مالك في رجل قال لرجل: ادفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم.
قال ابن القاسم: ليس عليه إلا عدة الدراهم التي دفع يومئذ لأنه نصف دينار وليس عليه أن يخرج دينارًا فيصرفه وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام، قال سحنون: قال ابن القاسم: يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم وأما إن كان إنما دفع إليه دينارًا فصرفه فله نصف دينار بالغًا ما بلغ.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسالة قال ابن القاسم وليس له إلا عدة الدراهم التي دفع وصوابه: قال مالك فإن المسألة في قوله بدليل تفسير ابن القاسم له بقوله: يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم.
وأما قوله: إنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام فأراه قول سحنون لأنه إنما أشار إلى قول ابن القاسم وغيره في ذلك الواقع في كتاب الكفالة والحوالة من المدونة وفي قوله: وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام دليل على خلاف أنه إذا أمره بقضاء دينار تام دليل على خلال أنه إذا أمره بقضاء نصف دينار فقضاه دراهم إنما يرجع عليه بعدة الدراهم التي قضاه وذلك إنما يصح على القول بأن من وجب له على رجل جزء من دينار قائم يراعي في وجه المصارفة فيه ما يوجبه الحكم من أن يقضيه فيه دراهم بصرف يوم القضاء لأنه إذا قال له: أدفع عني إلى فلان نصف دينار، فكأنه إنما أمره أن يدفع إليه صرفه، إذ هو الذي يوجبه الحكم فوجب إذا دفع إليه صرفه أن يرجع بما دفع لأنه إذا أمر إلا أن يكون حابى المدفوع له في الصرف، فلا يرجع بالمحاباة.
وأما على القول بأن من وجب له على رجل جزء من دينار قائم يراعي فيوجه المصارفة فيه ما ترتب في الذمة من الذهب لا ما يوجبه الحكم في القضاء فدخل إذا أمره بقضاء نصف دينار تام، فقضاه دراهم فالأمر مخير بين أن يعطيه نصف دينار أو دراهمه وعلى هذا يأتي قول إصبغ في سماعه من كتاب الحبوب فيمن باع سلعة بنصف دينار فأحال على المشتري غريمًا له بنصف دينار وليس بالدراهم خلاف في قول ابن القاسم فيه، وفي رسم حبل الحبلة من سماع عيسى من كتاب جامع العيون.
وتحصيل القول فيمن أمر رجلًا أن يقضي دينًا عليه لرجل آخر، فقضى عنه خلاف ما أمره به أن ذلك ينقسم على قسمين: أحدهما أن يقضي عنه خلافه مما تختلف فيه الأغراض، والثاني أن يقضي عنه أدنى منه في الصفة أو أقل منه في العدد أو ما يئول إلى ما هو أقل منه في العدد.
فأما إذا قضاه خلافه مما تختلف فيه الأغراض، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك جائز جملة من غير تفصيل، والثاني أن ذلك لا يجوز جملة من غير تفصيل، والثالث لا يجوز فيما لا تجوز فيه المبايعة إلا يدًا بيد مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير، فيقضي عنه دراهم، أو يأمره أن يقضي عنه قمحًا من قرض، أو تمرًا، فيقضي عنه تمرًا وما أشبه ذلك. وأن ذلك لا يجوز فيما تجوز المبايعة فيه إلى أجل مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير أو دراهم، فيقضي تمرًا أو حبًا أو كتانًا أو قطنًا وما أشبه ذلك، مما يكال أو يوزن فإن قلنا إن ذلك لا يجوز فيما لا يجوز من ذلك على القول بأن ذلك لا يجوز فينفسخ القضاء ويرجع المأمور بما دفع ويبقى الدين كما كان عليه، وإن قلنا إن ذلك يجوز فيما يجوز من ذلك، فيختلف بما يرجع به المأمور على الآمر على قولين: أحدهما أن المأمور يرجع على الآمر بما أمره أن يدفع عنه، والثاني يرجع عليه بما دفع عنه إلا أن يشاء الآمر أن يدفع إليه ما كان عليه يكون مخيرًا في ذلك، وهذا معنى قول مالك في كتاب المديان أنه لا يربح في السلف.
وأما إن قضاه ما أمره به في الصفة مثل أن يأمره أن يقضيه عنه دراهم محمدية، فيقضيه يزيدية، أو دنانير هاشمية، فيقضيه دمشقية، أو سمرًا، فيقضيه محمولة، أو أقل في العدد، أو ما يئول إلى ما هو أقل في العدة مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير، فيقضي عنه عرضًا من العروض في بلد يبتاع فيه بالدنانير، أو يأمره أن يقضي عنه دراهم فيقضي عنه عرضًا في بلد يبتاع فيه بالدرهم، فهذا الوجه الثالث لا اختلاف فيه أن القضاء جائز، وأن المأمور يرجع على الآمر بما دفع إن كان الذي دفع أقل في العدد أو أدنى في الصفة أو بالأقل من قيمة العرض الذي دفع أو مما أمره الآمر أن يدفع عنه من الدنانير والدراهم وكذلك الحكم في الكفيل يدفع من عنده الذي تكفل له عن المكفول به خلاف ما تكفل به عنه وقد فرَّق ابن القاسم في أحد أقواله من كتاب الكفالة من المدونة بين المأمور والكفيل يقضيان الغريم خلاف ما له عندهما.
ثم قال (ص 434، 437) :
قال ابن القاسم: سمعت مالكًا قال في رجل ابتاع حنطة بدينار وازن، ثم إنه أعسر بدينار الوازن، فقال للذي باع منه الحنظة: خذ مني دينارًا ناقصًا شعيرة، وأورد عليكم فضل الحنطة، قال مالك: إذا ثبت البيع بالوازن فلا ينبغي ذلك لأنه قد ثبت عليه دينار وازن فأعطى مكانه ناقصًا وزيادة حنطة فذلك دينار بدينار وحنطة وإن ثبت بناقص فلا ينبغي له أن يعطي وازنًا ويأخذ فضل شيء من الأشياء فأما ما لم يثبت البيع إلا مراوضة منهما فلا بأس بذلك.
قال ابن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن ثبت البيع بينهما بالدينار الوازن بإيجاب كل واحد منهما إياه لصاحبه فلا يجوز أن يأخذ منه ناقصًا ويأخذ من الحنطة ما وجب لنقصان الدينار، وقال ابن حبيب: إنه يدخله أربعة أوجه التفاضل بين الفضتين والتفاضل بين الطعامين، وبيع الطعام قبل أن يستوفى والأخذ من ثمن الطعام طعامًا، يريد إن كان الطعام قد قبضه المبتاع وافترقًا، وأما إن قبضه ولم يفترقا فلا يدخله الأخذ من ثمن الطعام طعامًا، ولا بيع الطعام قبل أن يستوفي، فالعلتان الثابتتان إنما هي التفاضل بين الذهبين، والتفاضل بين الطعامين، وأما الاقتضاء من ثمن الطعام طعامًا، والبيع قبل الاستيفاء فلا يجتمعان لأن الطعام إن كان قبض فلا يدخله البيع قبل الاستيفاء وإن كان لم يقبض فلم يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعامًا، وإن كان قد قبض ولم يفترقا لم يدخله واحدة منهما.
وكذلك لا يجوز له أن يأخذه في نقصان بالدينار فلوسًا ولا شيئًا من الأشياء، وقد فرق في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه بعد هذا في آخر السماع بين أن يأخذ منه في النقصان فلوسًا أو يحاسبه به في الطعام، فيأخذ منه لنفسه ما وجب له فمنع من ذلك بالفلوس، وأجازه بالطعام، وقال: إن ذلك بعد الوجوب ويحتمل ذلك وجهين، من التأويل أحدهما أن يكون إنما تكلم فيه على أن المبتاع قد أوجب البيع للبائع ولم يوجبه البائع له، وذلك مثل أن يقول المبتاع للبائع: كم تبيعني من طعامك بدينار وازن؟ فيقول: عشرة أراديب، فيقول المبتاع: قد أخذته بذلك، فيخرج الدينار فيجده ناقصًا قبل أن يقول البائع قد بعتك، والوجه في ذلك أن المبتاع لما أوجب على نفسه الدينار للبائع بعشرة أراديب وجب للبائع إن أراد أن يمضي له البيع به فلا يجوز له أن يبيعه منه بدينار ناقص وفلوس، ولما كان البائع لم يوجب على نفسه الطعام للمبتاع جاز للمبتاع أن يعطيه منه في نقصان الدينار ولم يكن ذلك بيعًا له قبل استيعابه إذا لم يجب له بعد ويكون معنى قوله في الرواية وإنما هو عندي بمنزلة رجل اشترى بدرهمين حنطة ثم قال له بعد ذلك: أعطني بدرهم وأقلني من درهم، أنه بمنزلة في الجواز لا في استواء العلة لأنه في الدرهم من الدرهمين إقالة جائزة بعد تمام البيع، وفي نقصان الدرهم فعل جائز إذا لم يتم البيع بينهما وهذا جائز أن يقال: هذا مثل هذه، وإن لم يكن مثله إلا في وجه من وجوهه. قال الله عز وجل:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [آية 12 من سورة الطلاق] ، يريد مثلهن في العدد لا فيما سواه.
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [آية 38 من سورة الأنعام] ، يريد أمثالها في أنهم أمم لا فيما سوى ذلك.
ويستدل على أنه إنما أراد بقوله فيها بعد الوجوب بعد أن أوجب المبتاع البيع للبائع ولم يوجبه له البائع بقوله: كأنما حمله على وجه المساومة وفيه تفسير من البيع يريد أنه أخذ بشبه من المساومة، إذ لم يتم البيع بينهما وأخذ بشبه من البيع، إذ قد لزم أحدهما والقياس أن يغلب أحد الوجهين أما الوجوب فلا يجوز أن يحاسبه بالنقصان بالطعام كما لا يجوز أن يأخذ به فلوسًا وأما المساومة إذا لم يجب البيع بينهما بإيجاب كل واحد منهما إياه لصاحبه فيجوز أن يحاسبه بالنقصان في الطعام وأن يأخذ به منه فلوسًا وأما إن كان في المراوضة قبل أن يوجب البيع واحد منهما لصاحبه فذلك جائز لا باس به كما قال لأن البيع إنما تم بما عقدا عليه آخرًا فلا إشكال في جواز ذلك فمسألة على هذا التأويل في الدينار الوازن الذي له فضل في عينه على الناقص، تنقسم على هذه الثلاثة أقسام، وهي أن يكون ذلك الفعل بعد أن أوجب كل واحد منهما البيع لصاحبه أو أن يكون قبل أن يوجبه واحد منهما لصاحبه، أو أن يكون قد أوجبه أحدهما ولم يجبه الآخر، وقد مضى تفسير ذلك والحكم فيه.
والتأويل الثاني أن يكون تكلم في هذه المسألة، على أن للدينار الوازن فضلًا في عينه على الناقص، وتكلم في مسألة رسم المحرم على أن الدرهم الكيل الوازن للأفضل له في عينه على الناقص، فأجاز لما لم يكن له في عينه فضل على الناقص، ويحاسبه بقدر النقصان في الطعام وأشبه عنده من المشتري حنطة بدرهمين فأقاله من أحدهما ولم يقوَ عنده قوةَ الدرهمين إذ لا يجوز لمن كان له على رجل درهمان وازانان أن يأخذ نه أحد درهميه، وبالآخر فلوسًا ولا يجوز لمن له على رجل درهم وازن أن يأخذ منه نصف درهم وبالنصف الآخر فلوسًا إلا أنه أجازه مراعاة لقول من يرى الخيار من المتابعين ما لم يتقاضيا أو يتفارقا، وهو معنى قوله كأنه حمله على وجه المساومة وفيه تفسير من البيع.
وهذا التأويل أظهر وأولى وأحسن من التأويل الأول والله أعلم.
ولو اشترى من رجل حنطة بدينار من الذهب التي إنما تجري مجموعة مقطوعة بالميزان كالذهب العبادية، والشرقية لجاز إذا وجد عنده أقل من مثقال أن يأخذ بما نقص فلوسًا، أو بما شاء من العروض، وأن يحاسبه بالنقصان فيما له من الطعام.
فقف على أن الدينار الوازن الذي له فضل في عينه على الناقص لا يجوز له بعد الوجوب أن يأخذ بنقصانه فلوسًا ويجوز أن يحاسبه به في الطعام، وأن الدينار الذي يجري بالميزان مجموعات مقطوعًا إذا لم يشترط أن يأخذه صحيحًا يجوز فيه الوجهان وبالله التوفيق.
ثم قال (ص 439، 440) :
وقال مالك في الشيء من الحلي يكون فيه الذهب والورق قد صيغ.
قال: إن كان ما فيه من الفضة ثلث ذلك، أو أدنى بيع بالفضة، وإن كان الذهب هو الثلث في القيمة بيع بالذهب يدًا بيد، وإن كان على غير ذلك لم يبع إلا بعرض أو فلوس أو شيء غير الذهب والورق. قال ابن القاسم، ورجع مالك عن هذا، وقال: لا يباع كله إلا بعرض أو فلوس، وقوله الذي رجع إليه أحب ما فيه إليَّ.
قال ابن رشد: قول مالك الأول هو قوله في المدونة، في رواية على بن زياد عنه، واختيار أشهب، وقوله الثاني هو قوله في المدونة، في رواية ابن القاسم عنه، واختيار ابن القاسم ها هنا وهو أقيس وأحوط لأن الذهب والورق لما كان كل واحد منهما أصلا في نفسه مضبوط القيمة إذ هما أصول الأشياء وقيم المتلفات لم يكن أحدهما تبعًا لصاحبه وإن كان أقل من الثلث من أجل أن قيمته مضبوطة والفرض فيهما جميعًا سواء إلا أن يكون الذي مع الفضة من الذهب، أو مع الذهب من الفضة الشيء اليسير لا يؤبه له، فحينئذ يكون تبعًا له روي ذلك زياد عن مالك، بخلاف السيف والمصلح وما أشبههما يحليان بالذهب والفضة فتكون حليتهما الثلث فأقل لأن الغرض حينئذ إنما يكون في شراء الأصل المحلي لا في شراء حليته فيجعل جميع الثمن له إذا ليست قيمته مضبوطة كقيمة الذهب والورق، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن القياس أن يكون كل واحد من الذهب أو الفضة، ملغى مع صاحبه إذا كان الثلث فأقل كما يكون ملغى مع العرض وقد بينا الفرق بين ذلك.
وقوله: وإن كان على غير ذلك لم يبع إلا بعرض، أو فلوس أو شيء غير الذهب والورق بين أنه لا يجوز أن يباع بأقلها إذا كان بأقلها أكثر من الثلث على قول مالك الأول ومذهب أشهب.
ثم قال (ص 487) :
وسألته عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه من صرف عشرة دراهم بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك، وأكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه فأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.
فقيل له: أرأيت إن باعه ثوبًا بثلاثة دراهم، ولا يسمي له من صرف كذا وكذا، والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار.
فقال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا، أخذ بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم وإنما قال: ثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار، فذلك جزء من الدينار ارتفع الصرف أو خفض، وقد كان بيعًا من بيوع أهل مصر يبيعون الثياب بكذا وكذا درهمًا من صرف كذا وكذا من دينار فيسألون عن ذلك كثيرًا فذلك كذا.
قال ابن رشد: هذا كما ذكر وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا باع بكذا وكذا درهمًا ، ولم يقل من صرف كذا فله عدد الدراهم التي سمى ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال: بكذا وكذا درهمًا من صرف كذا وكذا، فلا تكون له الدراهم - خطأ صوابه: إلا الدراهم - التي سمى إذا لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار فله ذلك الجزء وكذلك إذا قال: أبيعك بنصف دينار من ضرب عشرين درهمًا بدينار، فإنما له عشرة دراهم إذا لم يسم نصف الدينار إلا ليبين له الدراهم التي أراد البيع بها من الدينار.
ثم قال (نفس المرجع: 7/23) :
قال يحيى بن يحيى: وسئل ابن القاسم عن الذي يقول: أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهمًا بدينار، وهذا الثوب الآخر بنصف دينار من صرف عشرة دراهم بدينار أيجوز هذا؟ وما يلزم المشتري في الثوبين من الثمن؟ قال: أما الذي قال بعشرة دراهم من صرف الدينار بعشرين، فله نصف دينار تحول الصرف كيفما حال، وأما الذي قال بنصف دينار من صرف عشرة دراهم بدينار، فله خمسة دراهم تحول الصرف كيف حال، وذلك أن الذي باع بعشرة دراهم من صرف عشرين درهمًا بدينار، إنما أوجب له ثوبه بنصف دينار إذ جعل العشرة التي باع بها من صرف عشرين درهمًا بدينار، إنما أوجب له ثوبه بنصف دينار إذ جعل العشرة التي باع بها من صرف عشرين دينارًا، وأما الذي باع بنصف دينار من صرف عشرة بدينار، فإنما أوجب ثوبه بنصف العشرة التي جعلها صرف نصف دينار، وإنما يؤخذ في مثل هذا بالذي يقع به إيجاب البيع وإن سمح الكلام.
ثم قال (ص 403، 414) :
وسئل عن رجل باع من رجل سلعة بنصف دينار من صرف العشرين درهما بدينار، فقال: له عشرة دراهم غلا الصرف أو نقص، فإن قال: أبيعكما بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، قال: له نصف الدينار غلا الصرف أو نقص، وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب - يعني كتاب الوَلَه - إذا قال: أبيعك بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار أن له نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إن كانت العشرة من بيع باعه، وأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ إلا مثل ما أعطى.
قال ابن رشد: هذا بين على ما قال وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا باع بنصف دينار من صرف عشرين درهما بدينار أنه ليس له نصف الدينار - هكذا في النسخة المطبوعة وصوابه قطعا: ليس له إلا نصف الدينار، إذ لا يستقيم المعنى بغير أداة الاستثناء - الذي سمى، إذ لم يسمه إلا ليبين له عدد الدراهم من صرف عشرين درهما بدينار أنه ليس له الدراهم - صوابه كالسابق: ليس إلا الدراهم - التي سمى إذ لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي باع به من الدينار.
وقال الباجي (المنتقي: 4/259)، في شرحه لحديث أبي هريرة حول الدينار بالدينارين (بالموطأ) :
(مسألة) : وأما المبادلة بالعدد فإنه يجوز ذلك، وإن كان بعضها أوزن من بعض في الدينار والدينارين على سبيل المعروف والتفضل وليس ذلك من التفاضل لأنهما لم يبنيا على الوزن، ولهذا النوع من المال تقديران: الوزن والعدد، فإن كان الوزن أخص به وأولى فيه إلا أن العدد معروف فإن كان - لعل صوابه: وإن كان، لتستقيم العبارة - لأن العدد معروف فإذا عمل فيه على العدد جوز يسير الوزن زيادة على سبيل المعروف ما لم يكن في ذلك وجه من المكايسة والمغابنة، فيمنع منه وهذا مبنى على مسألة العربة (1) وذلك أن العرية لما كان للتمر تقديران أحدهما الكيل، والآخر الخرص ، والتعري جاز العدول عن أولهما إلى الثاني للضرورة على وجه المعروف، فكذلك الدنانير والدراهم.
(1) قال ابن الأثير (النهاية: 3/224) : اختلف في تفسيرها - أي العرية والعرايا - فقيل له - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن المزابنة وهو بيع التمر في رءوس النخل بالتمر رخص في جملة المزابنة في العرايا وهو أن من لا نخل له من ذوي الحاجة يدرك الرطب ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله ولا نخل له يطعمهم منه ويكون قد فضل له من قوته تمر فيجيء إلى صاحب النخل فيقول له بعني تمر نخلة أو نخلتين بخرصهما من التمر فيعطيه ذلك الفاضل من التمر بتمر تلك النخلات ليصيب من رطبها مع الناس فرخص فيه إذا كان دون خمسة أوسق، والعرية فعيلة بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا قصده ويحتمل أن تكون فعيلة بمعنى فاعلة من عري يعري إذا خلع ثوبه كأنها عريت من جملة التحريم فعريت أي خرجت
وقال الونشريسي في (المعيار: 6/105، 106 |) :
وسئل ابن رشد عن الدنانير والدراهم إذا قطعت وبدلت بغيرها فما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وشبهها؟
فأجاب: المنصوص لأصحابنا وغيرهم من العلماء لا يحكم إلا بما وقعت به المعاملة، فقال السائل: بعض العلماء يقول: لا يحكم إلا بالمتأخرة لإبطال السلطان إياها فصارت كالعدم فأجاب: لا يلتفت لهذا إذا لم يقل عالم به ونقض لحكم الإسلام ومخالف للكتاب والسنة المنهي عن أكل المال بالباطل ويلزم عليه أن يبيع عرضا بعرض لا يجوز وللمبتاع فسخ العقد بعد ثبوته.
ومن كان عليه فلوس فقطعها السلطان وجعل مكانها دنانير أو دراهم أن عليه أحد النوعين وتبطل الفلوس.
وإن السلطان إن أبدل المكيال بأصغر أو أكبر والموازين كذلك وقد تعاملا بها أن يأخذ بالمكيال أو الميزان المحدث وإن كان أكبر أو أصغر وهذا مما لا خفاء ببطلانه.
أبو حفص العطار ملك عليه دراهم فقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم لو وجدت.
وحكى ابن يونس عن بعض القرويين إذا أقرضه دراهم فلم يجدها في الموضع الذي هو به الآن أصلا فعليه قيمتها بموضع إقراضه إياها يوم الحكم لا يوم دفعها إليه.
وفي كتاب ابن سحنون إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت لأن الفلوس لا ثمن لها.
وفرع على هذا الأصل من تسلف دراهم فلوسا أو نقرة بالبلاد المشرقية ثم جاء مع المقرض إلى بلاد المغرب فوقع الحكم بأنه يلزمه قيمتها في بلدها يوم الحكم كما قال ابن يونس وأبو حفص مع ظاهر المدونة في الرهون وعلى القول الآخر تلزمه قيمتها يوم فقدت وقطعت وتكون حينئذ قيمتها يوم خروجه من البلد الذي هي جارية فيه إذ هو وقت فقدها وقطعها وعليه أيضًا إذا حالت السكة أو الفلوس بعد الوصول في تلك البلاد والفتوى فيها أيضًا أنه يعطى قيمة الفلوس أو الدراهم المقطوعة في تلك البلاد يوم الحكم فيها.
ثم قال (ص 163، 164) :
وسئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة في قرطبة أيام نطري فيها في الأحكام ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى فأفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب.
قال: وأرسل إلي ابن عتاب فذهبت إليه فذكر المسألة وقال لي: الصواب فيها فتواي فاحكم بها ولا تخالفها أو نحو هذا الكلام وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض أخبرني به الشيخ أو عبد الله بن فرج عنه وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى دارا أو حماما بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد ثم ضربت لدراهم ذلك البلد إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد.
وقد نزل هنا بـ " بلنسية " حين عيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال - يظهر أن في العبارة خطأ صوابه: ستة دراهم بمثقال - ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة " دنانير " للمثقال فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة وكانت حجته في ذلك أن السلطان منع مع إجرائها وحرم التعامل بها وهو خطأ من الفتوى.
وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد.
ثم قال (ص 312، 313) :
وأما سؤالك عن تصور الربا في هذه السكك المغشوشة فإنه يتصور فيها فأما على القول الذي يمنع من بيع الحلي المركب من ذهب وفضة بأحد النوعين الذي ركب " عنهما " - لعل صوابه: منهما - فلا خفاء في منعه للتفاضل بين السكك التي سميتها في سؤالك وأما المجيز لذلك وهو الذي ظننت به أنه يجيزها ها هنا التفاضل في هذه السكك على معنى إلغاء الأقل الذي هو الثلث فأدنى فإنه قد لا يلزم هذا ها هنا فأما في بعض السكك التي يكون ظاهرها وباطنها ما لا كبير ثمن له ولا منفعة فيه فإنه ها هنا يعتبر الذهب قل أو كثر لكون ما ركب معه لا ثمن له فالمقصود في المعارضة هذا الذهب المشار إليه فيجتنب فيه ما يجتنب في بيع الذهب بالذهب.
وأما غير ذلك من السكك المستعملة على ذهب وفضة خاصة فإنهم يقولون ها هنا بأن المقصود عند الناس منها الذهب قل أو كثر لأنهم إنما يتبايعون على تسميتها ذهبا وأن الذهب هو المراد منها وأن النقش الذي ينقشه فيها ملك المدينة الذي يتبايع بذلك أهلها هو المطلوب والمشتري وبه يقع التعاوض ولو أبصروا تغيرا في ذلك النقش استرابوه ولما تبايعوا به فظهر أن المراد في هذا ما حصل في السكة من الذهب وهو المنقوش وباسمه تعرف السكة فيقال: دنانير بلد كذا وإن كانت الفضة فيها هي الأكثر وهذا المعنى أشير إليه في بعض الروايات عن مبادلة المغشوشة من الدراهم بالخالص وقد تقرر أن المقصود تغير أحكام العقود ولا شك أن القصد ها هنا على ما ذكرنا فلا يقال إن الذهب الذي أشرت إليه يلزم عليه ولا بد من إجازة الربا بين هذه السكة التي أشرت إليها وقد قدمنا لك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذروا الربا والريبة وبالله تعالى التوفيق.
وأجاب أبو الفرج عن هذا أيضًا فقال: فأما الدنانير السفاقسية الربعية والثلثية فهل يجوز بيعها بالوزن لما فيه من الفضة أو بيعها بالذهب مراطلة ومفاضلة ففيها نظر والأمر فيها يحتمل والحكم متردد فيجوز أن يقال: لا تباع بشيء من الذهب والفضة قياسا على الحلي الذي فيه الذهب والفضية على مذهب ابن القاسم ويجوز أن يقال فيها إنها تباع بالأقل منهما فلتبع إذا كان الثلث فأدنى على قول على بن أبي زياد وغيره ويجوز أيضًا على مذهب أشهب في الدراهم المبهرجة أنها تباع مراطلة بالفضة على وجه البدل والصرف إذا أمن أن يغش بها قال: لأن الناس لا يقصدون بذلك التفاضل وإذا كان كذلك وكانت هذه السكة يعملها السلطان وللناس حاجة إلى التصرف بها وضرورة إلى التبايع بها جاز بيعها بالدراهم لأن الفضة فيها في حكم التبع قيمة وكذلك الذهب مراطلة وبهذا كان يفتي من أدركناه من أهل العلم المحققين وخالف في ذلك غيرهم وأما المفاضلة فالأظهر المنع.
ثم قال (ص 461، 462) :
وسئل - يعني أبو الحسن الصغير - عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضي له؟
وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر إلى أن تبدل الثمن فبأيهما يقضي له؟
فأجاب: لا يجب للبائع قِبَلَ المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبا لتعذره.
ومن باع بالدرهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها إلا أن يتطوع المشتري بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلا.
وقال ابن قدامة (المغني: 4، 360) :
وقد ذكرنا أن المستقرض يرد المثلى في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله.
ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير.
وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله.
وإن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرَّمها السلطان وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في ملكه نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه سواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا.
قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها.
وقال مالك والليث بن سعد والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها.
ولنا أن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها أو تلف أجزائها. وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق أو قليلا، لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت.
وقال الشافعي (الأم: 2/42، 43) :
بعد أن أخرج حديث أبي سعيد الذي نقلناه في الفصل السابق.
وبهذا نأخذ فإذا بلغ الورق خمس أواقي وذلك مائتا درهم بدراهم الإسلام وكل عشرة دراهم من دراهم الإسلام وزن سبعة مثاقيل من ذهب بمثقال الإسلام ففي الورق الصدقة. وسواء كان الورق دراهم جيادا مصفاة غاية سعرها عشرة بدينار أو ورقا تبرا ثمن عشرين منه دينار.
ولا أنظر إلى قيمته من غيره لأن الزكاة فيه لنفسه.
ثم قال:
وإن كانت لرجل مائتا درهم تنقص حبة أو أقل وتجوز جواز الوازنة أو لها فضل على الوازنة غيرها فلا زكاة فيها.
ثم قال: وإذا كانت لرجل ورق رديئة وورق جيدة أخذ من كل واحد منهما بقدر الزكاة التي وجبت عليه من الجيد بقدره ومن الرديء بقدره وإن كانت له ورق محمول عليها نحاس أو غش أمرت بتصفيتها وأخذت زكاتها إذا صفت إذا بلغت ما تجب فيه الزكاة وإذا تطوع فأدى عنها ورقا غير محمول عليه الغش دونها قبل منه وأكره له الورق المغشوش لئلا يغر به أحدا أو يموت فيغر به وارثه أحدا.
ويضم الورق التبر إلى الدراهم المضروبة.
وإذا كانت لرجل فضة قد خلطها ذهبا كان عليه أن يدخلها النار حتى يميز بينهما فيخرج الصدقة من كل واحد مهما وإن أخرج الصدقة من كل واحد منهما على قدر ما أحاط به فلا بأس وكذلك إن لم يحط علمه فاحتاط حتى يستيقن أن قد أخرج من كل واحد منهما ما فيه أكثر فلا بأس.
ثم قال: ولا أعلم اختلافا في أن ليس في الذهب صدقة حتى يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغت عشرين مثقالا ففيها الزكاة.
والقول في أنها لم تؤخذ منها الزكاة بوزن كان الذهب جيدا أو رديئا أو دنانير أو إناء أو تبرًا كهو في الورق وإن الدنانير إذا نقصت عن عشرين مثقالا حبة أو أقل من حبة وإن كانت تجوز كما تجوز الوازنة أو كان لها فضل على الوازنة لم تؤخذ منها الزكاة لأن الزكاة بوزن.
وفيما خلط به الذهب وغاب منها وحضر كالقول في الورق لا يختلف في شيء منه.
وإذا كانت لرجل عشرون مثقالا من ذهب إلا قيراطا أو خمس أواقي فضة إلا قيراطا لم يكن في واحد منهما زكاة ولا يجمع الذهب إلى الورق ولا الورق إلى الذهب ولا صنف مما فيه الصدقة إلى صنف.
ثم قال: وكذلك الذهب ليس من جنس الفضة.
ثم قال (نفس المرجع: ص 50، 51) :
ولو اشترى عرضا للتجارة بدنانير أو بدراهم أو شيء تجب فيه الصدقة من الماشية وكان أفاد ما أشترى به ذلك العرض من يومه لم يقوم العرض حتى يحول الحول يوم أفاد ثمن العرض ثم يزكيه بعد الحول.
ولو أقام هذا العرض في يده ستة أشهر ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يده ستة أشهر زكاة وكانت كدنانير أو دراهم أقامت في يده ستة أشهر لأنه لا يجب في العرض زكاة إلا بشرائه على نية التجارة فكان حكمه حكم الذهب والورق التي حال عليها الحول في يده.
ولو كانت في يده مائة درهم ستة أشهر ثم اشترى بها عرضا فأقام في يده حتى يحول عليه الحول من يوم ملك مائتي درهم التي حولها فيه لتجارة عرضا أو باعه بعرض لتجارة فحال عليه الحول يوم ملك مائتي درهم أو من يوم زكى المائتي درهم قومه بدراهم ثم زكاة ولا يقومه بدنانير إذا اشتراه بدراهم وإن كانت الدنانير الأغلب من نقد البلد وإنما يقومه بالأغلب إذا اشتراه بعرض للتجارة.
ولو اشتراه بدراهم ثم باعه بدنانير قبل أن يحول الحول عليه من يوم ملك الدراهم التي صرفها فيه أو من يوم زكاة فعليه الزكاة من يوم ملك الدراهم التي اشتراه بها إذا كان مما يجب فيه الزكاة وذلك أن الزكاة تجوز في العرض بعينه فبأي شيء بيع العرض ففيه الزكاة وقوم الدنانير التي باعه بها دراهم ثم أخذ زكاة الدراهم ألا ترى أنه يباع بعرض فيقوم فتؤخذ منه الزكاة ويبقى عرضا فيقوم فتؤخذ منه الزكاة فإذا بيع بدنانير زكيت الدنانير بقيمة الدراهم.
قال الربيع: وفيه قول آخر أن البائع إذا اشترى السلعة بدراهم فباعها بدنانير فالبيع جائز ولا يقومها بدراهم ولا يخرج لها زكاة من قبل أن في الدنانير بأعيانها زكاة فقد تحولت الدراهم دنانير فلا زكاة فيها وأصل قول الشافعي أنه لو باع بدراهم قد حال عليها الحول إلا يوم بدنانير لم يكن عليه في الدنانير زكاة حتى يبتدئ لها حولا كاملا كما لو باع بقرا أو غنما بإبل قد حال الحول على ما باع إلا يوم استقبل حولا بما اشترى إذا كانت سائمة.
ثم قال: ولو اشترى دراهم بدنانير أو بعرض أو دنانير بدراهم أو بعرض يريد بها التجارة فلا زكاة فيما اشترى منها إلا بعد ما يحول عليه الحول من يوم ملكه كأنه ملك مائة دينار أحد عشر شهرا ثم اشترى بها مائة دينار أو ألف درهم فلا زكاة في الدنانير الأخيرة ولا الدراهم حتى يحول عليها الحول من يوم ملكها لأن الزكاة فيها بنفسها.
ثم قال (نفس المرجع: 8/ 173، 174) :
وإنما يكون الربا من وجهين أحدهما في النقد بالزيادة وفي الوزن والكيل والآخر يكون في الدين وزيادة الأجل.
وإنما حرمنا غير ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المأكول المكيل والموزون لأنه من معنى ما سمى ولم يجز أن نقيس الوزن على الوزن من الذهب والورق لأنهما غير مأكولين ومتباينان لما سواهما وهكذا قال ابن المسيب: لا ربا إلا في ذهب أو ورق أو ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب (1)، قال - يعني الشافعي -: ولو قسنا عليهما الوزن لزمنا أن لم نسلم دينارا في موزون من ورق ولا أعلم بين المسلمين اختلافا أن الدينار ولا درهم - هكذا في النسخة المطبوعة صوابه: والدرهم - يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر.
غير أن من الناس من كره أن يسلم دينارا أو درهما في فلوس وهو عندنا جائز لأنه لا زكاة " فيه " - كذا في النسخة المطبوعة والصواب: فيها - ولا في غيرها وأنها ليست بثمن الأشياء المتلفة وإنما انظر - كذلك في النسخة المطبوعة صوابه: نظر - في التبر إلى أصله والنحاس مما لا ربا فيه.
(1) قال عبد الرزاق (المصنف: 8 /35، ح 14199) : قال معمر والثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن ابن المسيب في قبطية بقبطيتين نسيئة كان لا يرى به بأسا وقال: إنما الربا فيما يكال أو يوزن
وقد أجاز عدد منهم إبراهيم النخعي السلف في الفلوس وكيف يكون مضروب الذهب دنانير ومضروب الورق دراهم في معنى الذهب والورق غير مضروبين ولا يكون مضروب النحاس فلوسا في معنى النحاس غير مضروب.
قلت: ذلك لأن النحاس المضروب فلوسا لا يتعامل به لعينه وإنما يتعامل به بيعا أو شراء أو سلفا أو قراضا أو غير ذلك - مما هو من مجالات الأثمان والقيم - لأنه أصبح ثمنا للأشياء وقيمة للمتلفات وهذان هما علة الربا في الذهب والورق عند الشافعي وهو الحق، لكن يظهر أنهما لم يكونا كذلك في تصوره وإن كانا كذلك في عهد وقبل عهد وسنزيد هذه النكته بيانا في الفصل المخصص للفلوس وحكمها.
وقال الشيرازي في (المهذب، المجموع، التكملة الثانية: 13/ 174) :
(فصل) ويجب على المستقرض رد المثل فيما له لأن مقتضى القرض رد المثل ولهذا يقال: الدنيا قروض ومكأفاة فوجب أن يرد المثل، وفيما لا مثل له وجهان: أحدهما يجب عليه القيمة لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن له بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات والثاني يجب عليه مثله في الخلقة والصورة لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر. (1) ، ولأن ما ثبت في الذمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياسا على ما له مثل ويخالف كالمتلفات فإن المتلف متعدٍّ4 فلم يقبل منه إلا القيمة لأنها أحصر وهذا عقد أجيز لصاحبه فقبل فيه مثل ما قبض كما قبل في السلم مثل ما وصف.
(1) انظر التعليق رقم (3) من الصفحة 1925
وقال السيمري (المجموع، التكملة الثانية: 13/ 168) :
لا يجوز قرض الدراهم المزيفة ولا الزرنيخية ولا المحمول عليها ولو تعامل به الناس فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له إلا ما أقرض وقيل قيمتها يوم حرمت.
وقال النووي (المجموع: 9/ 329) :
(فرع) إذا كان في البلد نقدان أو نقود لا غالب فيها لم يصح البيع هنالك حتى يعين نقدا منها وهذا لا خلاف فيه لأنه ليس بعضها أولى من بعض.
(فرع) قال أصحابنا: وتقويم التلف يكون لغالب نقد البلد، فإن كان فيه نقدان فصاعدا ولا غالب فيها عين القاضي واحدا للتقويم بلا خلاف.
ثم قال (ص 330) :
(فرع) قال أصحابنا: كما ينصرف العقد عند الإطلاق للنقد الغالب من حيث النوع ينصرف إليه من حيث الصفة فإن باع بدينار أو دنانير والمعهود في البلد الدراهم الصحاح انصرف إليها وإن كان المعهود المكسورة انصرف إليها. كذا نقله السيمري وصاحب البيان قالا: إلا أن تتفاوت قيمة الكسر، قال الرافعي: وعلى هذا القياس لو كان المعهود أن يؤخذ نصف الثمن من هذا أو نصفه من ذاك أو أن يؤخذ على نسبة أخرى فالبيع صحيح محمول على ذلك المعهود وإن كان المعهود التعامل بهذه مرة وبهذه مرة لم يكن بينهما تفاوت صح البيع وسلم ما شاء منهما وإن كان بينهما تفاوت لم يصح البيع كما لو كان في البلد نقدان غالبان وأطلق ولو قال: بعتك بألف صحاح ومكسورة فوجهان أحدهما بطلان البيع لعدم بيان قدر الصحيح والمكسورة والثاني صحته ويحمل على النصف.
قال الرافعي: ويشبه أن يجيء هذا الوجه فيما إذا قال: بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة.
قلت - القائل النووي -: لا جريان له هناك والفرق كثرة التفاوت بين الذهب والفضة فيعظم الغرر وإن قال: بعتك بألف درهم مسلمة أو منقية لم يصح لأنه ليس لها عادة مضبوطة، قاله السيمري وصاحب البيان.
ثم قال (ص 331، 332) :
(فرع) لو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس فالعقد باطل لعلم القدرة على التسليم فإن كان لا يوجد في ذلك البلد ويوجد في غيره فإن كان الثمن حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن نقله فيه فالعقد باطل أيضًا وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها صح البيع ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذلك وإلا فينبني على أن الاستبدال على الثمن هل يجوز إن قلنا لا فهو كانقطاع المسلم فيه وإن قلنا نعم استبدل ولا ينفسخ العقد على المذهب (أي الشافعي) وفيه وجه ضعيف أنه ينفسخ أما إذا كان وجد في البلد ولكنه عزيز فإن جوزنا الاستبدال صح العقد فإن وجد فذاك وإلا فيستبدل وإن لم نجوزه لم يصح، أما إذا كان النقد الذي جري به التعامل موجودا ثم انقطع فإن جوزنا الاستبدال استبدل وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه.
(فرع) لو باع بنقد معين أو مطلق وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان المعاملة بذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد.
(فرع) قال صاحب البيان: قال السيمري: إذا باعه بنقد في بلد، ثم لقيه في بلد آخر، لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد، فدفع إليه النقد المعقود عليه فامتنع فهل له الامتناع؟ فيه ثلاثة أوجه: الصحيح ليس له الامتناع بل يجبر على أخذه لأنه المعقود عليه كما لو باعه بحنطة لم يقبضها حتى رخصت. والثاني لا يجبر على أخذها وله الامتناع منه كما لو سلم إليه في موضع مخوف، والثالث: إن كان البلد الذي يدفعه فيه لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد أيضًا لم يجبر عليه، وإن كانوا يتعاملون به بوكس لزمه أخذه وأجبره عليه.
ثم قال (نفس المرجع: 10/ 141، 142) :
فرعان لهما تعلق بالاستبدال عن الثمن أحدهما قال القاضي حسين: إذا باع شيئا بدراهم برمكية، لا يجوز العقد لأنه عزيز الوجود، وقل ما يوجد في بلادنا هذه، ولو باعه بدراهم فتحية ينظر فيه فإن كان في بلد يعز وجوده هذا يبنى على أن الاستبدال عنه جائز أم لا إن قلنا جائز صح وإلا فلا يصح العقد، قال صاحب التهذيب إنه إذا باع بما يعز وجوده في البلد يبنى على الاستبدال عن الثمن هل يجوز؟ إن قلنا يجوز صح ثم إن وجد ذلك النقد وإلا لا يستبدل، وإن قلنا لم يصح كما لو أسلم فيما يعز وجوده وهذا الإطلاق الذي قاله صاحب التهذيب أولى من التفصيل الذي ذكره القاضي.
الثاني: إذا باع بنقد البلد ثم انقطع من أيدي الناس، قال القاضي حسين: إذا قلنا يجوز الاستبدال، فلا يفسد العقد وإن قلنا لا يجوز الاستبدال، فقولان: أحدهما ينفسخ، والثاني يثبت له حق الفسخ، وهما كالقولين في المسلم فيه إذا انقطع.
فأما إذا باع بنقد البلد ثم أن السلطان رفع ذلك لا غير سواء باعه بثمن معين أو بثمن مطلق، قال الرياني: وهكذا لو باع بفلوس ففسخها السلطان، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: ينفسخ العقد هذا كلام القاضي حسين وقاسه البغوي على ما لو أسلم في صبطة (1) ، فرخصت ليس له إلا صبطه، وحكى مع ذلك وجها أن البائع يخير بين أن يجيز العقد فيأخذ النقد الأول وبين أن يفسخ فيسترد ما أعطى كما لو تعيب المبيع قبل القبض، قال الرياني: وهكذا لو باع بفلوس فنسخها السلطان.
(1) لم نعثر على معنى كلمة " صبطة " في أي معجم من المعاجم التي بين أيدينا ولعل فيها خطأ من الناسخ أو من الطابع أو أنها لشيء معروف في قطر ولم يشع ذكره بهذا الاسم فلم يتعرض له المعجميون
قال الرياني: لو جاء بالنقد الثاني المحدث لا يلزمه قبوله فإن أراد قبوله كان على سبيل الاعتياض، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يلزمه قبوله. قال الرياني: لو حصل له على غير مائة درهم من نقد معروف فلفيه ببلد آخر لا يتعامل فيه به فقال: خذه لزمه أخذه ، كما لو حرمه السلطان في بلده وقيل: لا يلزمه أخذه، وقيل: لا يتعامل به البتة لا يلزمه أخذه، وإن كان يتعامل به لكن ليس برائج يلزمه أخذه ، وأصل هذه المسألة رجل يثبت له على آخر عشرة دراهم يلزمه أخذه أو يبرئه.
(فصل) في مذاهب العلماء في هذه المسألة فقد تقدم في ذكر الأصح من مذهبنا أن له الإبدال فيما إذا خرج المقبوض عن الموصوف في القيمة معيبا بعد التفرق، وبذلك قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، والأوزاعي والليث بن سعد والحسين بن حسين، حكاهم عنهم العبدري، وقال صاحب المحيط من الحنفية، في كتاب الصرف، في باب خيار الرد بالربا فيه، والاستحقاق ولو وجد أحد المتصارفين الدراهم المغشوشة زيوفا أو كاسدة، أو رائجة في بعض التجارات دون بعض وذلك عيب عندهم فله أن يردها ويستبدل غيرها أن العقد يقتضي سلامة البدل كما في بيع العين والكلام في صحة الاستبدال في مجلس الرد من باب السلم.
وقال السرخسي (المبسوط: 14/2،3) :
الصرف اسم لنوع بيع، وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض.
والأموال أنواع ثلاثة: نوع منها في العقد ثمن على كل حال، وهو الدراهم والدنانير صحبها حرف الباء، أو لم يصحبها سواء كان ما يقابلها من جنسها أو من غير جنسها ونوع منها ما هو مبيع على كل حال وهو ما ليس من ذوات الأمثال من العروض كالثياب والدواب والمماليك، ونوع هو ثمن من وجه مبيع من وجه كالمكيل والموزون، فإنها إذا كانت معينة في العقد تكون مبيعة، وإن لم تكن معينة فإن صحبها حرف الباء وقابلها مبيع فهي ثمن وإن لم يصحبها حرف الباء وقابلها ثمن فهي مبيعة، وهذا لأن الثمن ما يثبت عينا في الذمة. قال الله تعالى:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [آيه 20 من سورة يوسف] . قال الفراء في معناه: الثمن عند العرب ما يثبت دينا في الذمة والنقود لا تستحق بالعقد إلا دينا في الذمة، ولهذا قلنا إنها لا تعين بالتعيين وكان ثمنها على كل حال.
والعروض لا تستحق بالعقد إلا عينا فكانت مبيعة، والسلم في بعضها رخصة شرعية لا تخرج عن أن تكون مبيعة والمكيل والموزون يستحق عينا بالعقد تارة ودينا أخرى فيكون ثمنا في حال مبيعا في حال.
والثمن في العرف ما هو المعقود به وهو ما يصحبه حرف الباء، وكان دينا في الذمة وقابله مبيع عرفنا أنه ثمن وإذا كان عينا قابله ثمن كان مبيعا لأنه يجوز أن يكون مبيعا بحال بخلاف ما هو ثمن بكل حال. ومن حكم الثمن أن وجوده في ملك العاقد عند العقد ليس بشرط لصحة العقد، وإنما يشترط ذلك في البيع وكذلك فوات التسليم فيها هو ثمن لا يبطل العقد بخلاف المبيع والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز بخلاف المبيع. والأصل فيه حديث ابن عمر حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أبيع الإبل بالنقيع فربما أبيعه بالدنانير وآخذ مكانه الدراهم أو على عكس ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل)) (1) .
(1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف "
وإذا ثبت جواز الاستبدال بالثمن قبل القبض ثبت أن فوات التسليم فيه لا يبطل العقد لأن في الاستبدال تفويت التسليم فيما استحق بالعقد وبهذا ثبت أن ملكه عند العقد ليس بشرط لأن اشتراط الملك عند العقد إما لتمليك العين والثمن دين فيه الذمة أو للقدرة على التسليم ولا أثر للعجز عن تسليم الثمن في العقد.
والحكم الذي يختص به الصرف بين سائر البيوع وجوب قبض البدلين في الجنس وأنه لا يكون فيه شرط خيار أو أجل وذلك ثابت بالحديث الذي رويناه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا بأس إن افترقتما وليس بينكما عمل)) - راجع التعليق (1) .- أي مطالبة بالتسليم لوجود القبض قبل الافتراق.
ثم قال (نفس المرجع: 18 /4، 5) :
رجل قال لفلان: على مائة درهم عددا، ثم قال بعد ذلك: هي وزن خمسة أو ستة وكان الإقرار منه بالكوفة فعليه مائة درهم وزن سبعة ولا يصدق في النقصان إلا إن بين الوزن موصولا بكلامه لأن ذكر الدراهم عبارة عن ذكر الوزن فإنه لا طريق لمعرفة الوزن فيه إلا بذكر العدد من الدراهم، ومطلق ذكر الوزن ينصرف إلى المتعارف منه، فإذا كان إقراره بالكوفة، فالمتعارف فيها بالدراهم سبعة وكما ينصرف مطلق البيع والشراء بالدراهم إليه فكذلك مطلق الإقرار ينصرف إليه، فقوله وزن خمسة بيان معتبر لما اقتضاه مطلق إقراره فقد بينا بيانه والتعبير يصح موصولا بالكلام ولا يصح مفصولا، ومعنى قولنا وزن سبعة: أن كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، وكل درهم أربعة عشر قيراطا، وإذا كان الدرهم أربعة عشر قيراطا تبنى عليه أحكام الزكاة ونصاب السرقة وغيرها.
(1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف "
ثم قال: وإن كان في بلد يتبايعون على دراهم معروفة الوزن بينهم ينقص من وزن سبعة صدق في ذلك لأن تعيين وزن سبعة لم يكن نص من لفظه إنما كان بالعرف الظاهر في معاملة الناس به ذلك يختلف باختلاف البلدان والأوقات فيعتبر في كل موضع عرف ذلك الموضع كما في سائر التصرفات سوى الإقرار.
وإن ادعي وزن دون المتعارف كما في تلك البلدة لم يصدق إلا إذا ذكره موصولا بكلامه وإن كان في البلد نقود مختلفة فإن كان الغالب منها نقد بعينه ينصرف الإقرار إليه، وإن لم يكن البعض غالبا على البعض ينصرف إقراره إلى الأقل لأن الأقل متيقن به وعند التعارض لا يقضي إلا بقدر المتيقن وهذا لأن المُقِرَّ بَيَّنَ الأول لا محالة، وهذا بيان التفسير حين استوت النقود في الرواج وبيان التفسير صحيح مفصولا كان أو موصولا كبيان الزوج في كتابات الطلاق.
ولو قال بالكوفة: على مائة درهم بيض عددا، ثم قال: هي تنقص دانقا لم يصدق لأن مطلق لفظه انصرف إلى الإقرار بوزن سبعة فدعواه النقصان بمنزله الاستثناء لبعض ما أقر به والاستثناء لا يصح إلا موصولا ولو قال: علي مائة درهم " أسبهيدية" عددا، ثم قال: عنيت هذه الصغار فعليه مائة درهم وزن سبعة من " الأسبهيدية " لأن قول أسبهيدية يرجع إلى بيان النوع كقوله سود يرجع إلى بيان الصفة فلا يتغير به الوزن.
ثم قال: وقوله: فأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطى معناه فليس له أن يأخذ منه إلا مثل ما أسلفه إلا أنه لا يجوز له أن يأخذ منه دنانير إذا أسلفه دراهم أو دراهم إذا أسلفه دنانير بل ذلك جائز إذا حل الأجل ولم يكن في السلف شرط ذلك والسلف في هذا بخلاف البيع لا يجوز لمن خرجت من يده دنانير على سبيل البيع أن يأخذ بها دراهم ولا لمن خرجت من يده دراهم على سبيل البيع " إن لم يأخذ بها دنانير "، - هذا خلط من الطابع أو المحقق بين التحريف صوابه: أن يأخذ بها دنانير - والفرق بينهما أن السلف معروف لا يتهمان فيه على القصد إلى العمل بالربا والبيع على سبيل المكايسة فإنهما على القصد إلى ما آل إليه أمرها من الربا.
وقال ابن حزم (المحلي: 8/ 503، 504) :
وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأصحابنا - يعني أهل الظاهر - إلى جواز أخذ الذهب من الورق، والورق من الذهب، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن قاسم بن أصبغ، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: قلت يا رسول الله، أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه ، فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها.
وتعقبه بقوله - انتصار لرأيه من أن ذلك من الربا - هذا خبر لا حجة فيه لوجوه، أحدهما أن سماك بن حرب ضعيف يقبل التلقين شهد بذلك عليه شعبة وأنه كان يقول له حدثك فلان عن فلان؟ فيقول: نعم فيما سئل عنه، وثانيها أنه قد جاءه هذا الخبر بهذا السند ببيان ما ذكروا كما روينا من طريق أحمد بن شعيب، أخبرنا قتيبة، أخبرنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال:((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) قال ابن حزم: وهذا معنى صحيح، وهو كله خبر واحد - قلت: هذه دعوى وسنحررها بعد قليل -.
قال ابن حزم: وثالثها أنه لو صح لهم كما يريدون لكانوا مخالفين له، لأن فيه اشتراط أخذها بسعر يومها وهم يجيزون أخذها بسعر يومها.
ثم قال: وأيضًا فإن هذا الخبر إنما جاء في البيع فمن أين أجازوه في القرض؟ وقد فرق بعض القائلين به بين القرض والبيع في ذلك واحتجوا من فعل السلف في ذلك بما روينا عن طريق وكيع، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن سعيد مولي الحسن، وقال: أتيت ابن عمر أتقاضاه، فقال لي: إذا خرج خازننا أعطيناك فلما خرج بعثه معي إلى السوق، وقال: إذا قامت على ثمن فإن شاء أخذها بقيمتها أخذها.
ومن طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة، حدثنا إسماعيل السدي، عن عبد الله البهي، عن يسار بن نمير، كان لي على رجل دراهم، فعرض على دنانير، فقلت: لا آخذها حتى اسأل عمر فسألته، فقال: ائت بها الصيارفة فاعرضها فإذا قامت على سعر فإن شئت فخذها وإن شئت خذ مثل دراهمك.
وصحت إباحة ذلك عن الحسن البصري، والحكم، وحماد، وسعيد بن جبير باختلاف عنه، وطاوس، والزهري، وقتادة، والقاسم بن محمد، واختلف فيه عن إبراهيم وعطاء.
ثم قال (نفس المرجع: ص 504، 506) :
وعن طريق سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله - هو الطحان - عن الشيباني - هو أبو إسحاق - عن محمد بن زيد، عن ابن عمر فيمن باع طعاما بدراهم أيأخذ بالدراهم طعاما؟ قال: لا، حتى تقبض دراهمك.
وتعقبه بقوله: لم يقل ابن عمر بأَخْذٍ لك في غير الطعام.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا على بن مسهر، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن زيد، عن ابن عمر فيمن أقرض دراهم أيأخذ بثمنها طعاما فكرهه.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن حرملة، قال: بعت جزورا بدراهم إلى الحصاد، فلما حل قضوني حنطة وشعيرا وسلتا، فسألت سعيد بن المسيب، فقال، لا يصلح لا تأخذ إلا الدراهم.
وتعقب هذه الروايات بقوله: فهؤلاء عمر وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، والنخعي، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن سيرين، وابن المسيب، وهذا مما تركوا فيه القرآن في تحريمه أكل المال بالباطل لخبر ساقط مضطرب، وهو أحد قولي الشافعي وقول ابن شبرمة.
ثم قال (نفس المرجع: ص 512، 513) :
ومن باع من آخر دراهم بدنانير فلما تم البيع بينهما بالتفرق أو التخيير، اشتري منه أو من غيره بتلك الدراهم دنانيره تلك أو غيرها أقل أو أكثر، فكل ذلك حلال ما لم يكن عن شرط لأن ذلك عقد صحيح وعمل منصوص على جوازه، وأما الشرط فحرام لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل.
ومنع من هذا قوم، وقالوا: إنه باع منه دنانير بدنانير متفاضلة.
ثم ساق في معرض الاحتجاج لرأيه من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا يزيد بن إبراهيم - هو التستري - حدثنا محمد بن سيرين، قال: خطب عمر بن الخطاب، فقال: ألا إن الدرهم بالدرهم، والدينار بالدينار، عينا بعين، سواء بسواء، مثلا بمثل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: تزيف علينا أرزاقنا فنعطي الخبيث، ونأخذ الطيب، فقال عمر: لا ولكن ابتع بها عرضا فإذا قبضته وكان لك فبعه، واهضم ما شئت، وخذ أي نقد شئت.
وتعقبه بقوله: فهذا عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم يأمر ببيع الدراهم أو الدنانير بسلعة، ثم ببيعها بما شاء من ذلك إثر ابتياعه العرض ولم يقل من غير ما تبتاع منه العرض.
وروينا من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، عن سليمان بن بشير، قال: أعطاني الأسود بن يزيد دراهم، فقال لي: اشتر لي بها دنانير ثم اشتر بالدنانير دراهم كذا وكذا، قال: فبعتها من رجل فقبضت الدنانير، وطلبت في السوق حتى عرفت السعر فرجعت إلى بيعتي فبعتها منه بالدراهم التي أردت فذكرت ذلك للأسود بن يزيد، فلم ير به بأسا.
قال ابن حزم: وكرهه ابن سيرين، وروينا عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إنما الربا على من أراد أن يربئ وينسئ، ورويناه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين، عن عمر.
ثم قال (ص 514) :
لا يحل بيع دينار إلا درهما فإن وقع فهو باطل مفسوخ لأنه إخراج لقيمة الدرهم من الدينار، فصار استثناء مجهولا إن باع بدينار إلا قيمة درهم منه، فإن كانت قيمة الدرهم معلومة عندهما فهو باطل أيضًا لأنهما شرطا إخراج الدرهم بعينه من الدينار، وهذا محال لأنه ليس هو بعضا للدينار فيخرج منه فهو باطل لكل حال.
وقولنا هو قول عطاء والنخعي ومحمد بن سيرين وأجازه أبو سلمة بن عبد الرحمن.
من هذه النصوص على اختلاف الوقائع والأحوال التي اقتضت اجتهادات أصحابها يتضح أن الازدواجية النقدية من حيث اعتبار الذهب والفضة كل منهما نقد مستقل بذاته من جهة بحكم اختلال مادته ومرتبط بالآخر أو مشاكل له من جهة أخرى بحكم اعتبار وظيفتهما.
وكذلك الازدواجية " التعاملية " - إن صح هذا التعبير - من حيث اعتبار كل من التعامل بالوزن والتعامل بالعدد بذلا للثمن والقيمة في الأشياء والمتلفات.
نشأ عنه نوع من الالتباس لدى الفقهاء الأُوَل من عهد الصحابة إلى عصور الاجتهاد في تحديد معالم صورة النقد أو العملة تحديدا لو تيسر لهم لأغناهم عن كثير من الجهد الفكري والتحرج الديني في تحديد أحكام مجموعة ضخمة من المعاملات كان الحرج فيها مجرد عدم تصور دقيق جلي لحقيقة النقد وهل هو مزاح من اعتبار العينية المادية والمثلية الوظيفية أم أن لكل تصور دقيق جلي لحقيقة النقد وهل هو مزاج من اعتبار العينية المادية والمثلية الوظيفية أم أن لكل من الاعتبارين حظ من الاستقلال له آثاره وانعكاساته في تقرير الأحكام وتقدير التبعات.
ومثل هذا الالتباس في تصور ماهية النقد ومتعلق الأحكام المتصلة به والمترتبة عنه سنواجهه في الفصل التالي إذ نستعرض طائفة أخرى من الاجتهادات لا تختلف في جوهرها عن مثيلاتها في هذا الفصل، وإن اختلفت في وقائعها ومتعلقها من حيث أنها في هذا الفصل التالي ترتبط أساسا بنقد ليس بالذهب، ولا بالفضة في مادته، وإنما هو من معدن آخر لكن يرتبط بالذهب والفضة من حيث أنهما أساس القيمة التي له والتي هيأته لأن يقوم بنفس الوظيفة الخاصة بهما قبل حدوثه وبعد حدوثه أيضًا.
وهذا النقد هو الفلوس، وكانت تصنع يومئذ - في أغلبها - من النحاس وقد لجأ إلى سكها أولوا الأمر لشحة الذهب والفضة بالقياس إلى حاجة الناس إلى السيولة النقدية في الممارسة العادية لمعاملاتهم.
لكن يضاف عنصر آخر من عناصر الإلباس لتصور ماهية النقد لدى أولئك المجتهدين، وهو انعدام القيمة العينية أو ضآلتها في مادة الفلوس بالقياس إلى القيمة العينية لمادة كل من الذهب والفضة، وهو انعدام العكس على تصرف أولى الأمر في تلك العصور بنمط من التذبذب زاد التباسا لتصور ماهية النقد فهم أحيانا يشرعون التعامل بالفلوس عددا وأخرى يشرعون التعامل بها وزنا كما كان الشأن في الذهب والفضة، وعدم تماثل القيمة العينية لمادة الفلوس مع مادة كل من الذهب والفضة، وعدم استقرار أولى الأمر في تلك العصور أو في بعضها على الأساس العددي أو الوزني في تشريع نقدية الفلوس انعكاسا في اعتبار المجتهدين لحقيقة وظيفة الفلوس ومدى تماثلها مع وظيفة الذهب والفضة في النقدية، وذلك لسبب بسيط هو أنهم لم يفصلوا بين كون الوظيفة نتيجة للقيمة فيكون الذهب والفضة أساسا لتقويم الفلوس ومهيمنين عليها وكون الذهب والفضة لهما قيمة ذاتية أهلتهما لأن يكونا الأساس لكل تقويم.
ونتيجة لذلك لم يتأت لهم التمييز بين وظيفة النقد - أيا كان نوعه - باعتباره أداة للتعامل اليومي المستمر والوظيفة الثانية التي يمتاز بها ما هو أساس لتحديد تلك القيمة، ولتعيين الوظيفة الأولى والتي يمتاز بها الذهب والفضة باعتبارهما قيما لذاتهما وأساسا للتقويم.
وهذه المجموعة من الألباس التي أوضحناها بإيجاز هي مرد التذبذب الماثل في الأحكام - وأحيانا حتى عند المجتهد الواحد - التي نستعرضها في الفصل التالي.
(11)
أحكام تتصل بالفلوس
عند أيمة المذهب وأشهر مجتهديها
قال سحنون في (المدونة الكبرى المجلد 3، 8 /344، 345) :
قلت: أرأيت إن استقرضت فلوسًا ففسدت الفلوس فما الذي أرد على صاحبي؟ قال: قال مالك: ترد عليه مثل تلك الفلوس التي استقرضت منه وإن كانت قد فسدت.
قلت: فإن بعته سلعة بفلوس ففسدت الفلوس قبل أن أقبضها قال: قال مالك: لك مثل فلوسك التي بعت بها السلعة الجائزة بين الناس يومئذ وإن كان الفلوس قد فسدت فليس لك إلا ذلك قال: وقال مالك: في القرض والبيع بالفلوس إذا فسدت فليس له إلا الفلوس التي كانت لك اليوم إن كانت فاسدة.
أرأيت لو أن رجلًا قال لرجل: أقرضني دينارًا دراهم أو نصف دراهم أو ثلث دينار دراهم فأعطاه الدراهم ما الذي يقضيه في قول ما لك؟ قال: يقضيه مثل دراهم التي أخذ منه رخصت أو غلت فليس عليه إلا مثل الذي أخذ.
ابن وهب، عن ابن لهيعة أن بكير بن عبد الله بن الأشج حدثه أن سعيد بن المسيب أسلف عمرو بن عثمان دراهم فلم يقضه حتى ضربت دراهم أخرى غير ضربها فأبى ابن المسيب أن يقبلها حتى مات فقضاها ابنه من بعده.
ابن لهيعة، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن أسلفت رجلًا دراهم ثم دخل فساد دراهم فليس لك عليه إلا مثل الذي أعطيت وإن كان قد أنفقها وجازت عنه.
قال ابن وهب: وقال يحيى بن سعيد وربيعة مثله. قال الليث: كتب إلي يحيى بن سعيد يقول: سألت عن رجل أسلف أخ له نصف دينار فانطلقا جميعًا إلى الصراف بدينار فدفعه إلى الصراف وأخذ منه عشرة دراهم ودفع خمسة إلى الذي استسلفه نصف دينار فحال الصرف برخص أو غلاء قال: فليس للذي دفع خمسة دراهم زيادة عليها ولا نقصان منها ولو أن رجلًا استسلف نصف دينار فدفع إليه الدينار فانطلق به فكسره فيأخذ نصف دينار ودفع إليه النصف الباقي كان عليه يوم يقبضه أن يدفع إليه دينارًا فيكسره فيأخذه نصفه ويرد إليه نصفه، وقال مالك: يرد إليه مثل ما أخذ لأنه لا ينبغي أن يسلف أربعة ويأخذ خمسة وليس الذي أعطاه ذهبًا إنما أعطاه ورقًا ولكن لو أعطاه دينارًا فصرفه المستسلف فأخذ نصف ورد نصفه كان عليه نصف دينار إن غلا الصرف أو رخص.
قلت: أرأيت إن بعت بيعًا بدانق أو دانقين أو ثلاثة دوانق أو أربعة دوانق أو بخمسة دوانيق أو بنصف درهم أو بسدس درهم أو بثلث درهم على أي شيء يقع هذا على الفضة أم الفلوس في قول مالك؟ قال: يقع على الفضة هذا البيع.
قلت: فأي شيء يعطيه بالفضة في قول مالك؟ قال: ما تراضيا عليه. قلت: فإن تشاحَّا فأي شيء يعطيه بذلك؟ قال: الفلوس في قول مالك في الموضع الذي فيه الفلوس.
قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة بدانق فلوس ورخصت الفلوس أو غلت كيف أقضيه أعلى ما كان من سعر الفلوس يوم يقع البيع؟ أم على سعر الفلوس يوم أقضيه في قوله مالك؟ قال: على سعر الفلوس يوم تقضي فيما قال مالك. قلت: فإن كان باع سلعته بدانق فلوسًا نقدًا أيصلح هذا في قول مالك أم لا؟ قال: إذا كان الدانق من الفلوس معروفًا كم هو في عدد الفلوس فلا بأس بذلك وإنما وقع البيع بينهما على الفلوس. قلت: فإن باع سلعة بدانق فلوس إلى أجل؟ قال: فلا بأس بذلك إذا كان الدانق قد سميتما من الفلوس أو كنتما عارفين بعدد الفلوس، وأن البيع إنما وقع بالفلوس إلى أجل وإن كانت مجهولة العدد أولا يعرفان ذلك فلا خير في ذلك لأنه غرر. قلت: فإن قال أبيعك هذا الثوب بنصف دينار على أن آخذ به منك دراهم عددًا يدًا بيد، قال مالك: إذا كان الصرف معروفًا يعرفانه جميعًا فلا بأس بذلك إذا شَرَطَا كم الدراهم من الدينار.
قلت: فإن بعت سلعة بنصف دينار أو ثلث دينار، أو بربع دينار، أو بخمس دينار على أي شيء يقع البيع أعلى الذهب، أم على عدد الدراهم من صرف الدينار؟ قال: قال مالك: إنما يقع على الذهب، ولا يقع على الدراهم من صرف الدينار. قلت: فما يأخذ منه بتلك الذهب التي وقع البيع عليها في قول مالك؟ قال: ما تراضيا عليه قلت: فإن تشاحَّا، قال: قال مالك: إذ تشاحَّا أخذا منه ما سميا من الدينار دراهم إن كان نصفا فنصفًا، وإن كان ثلثًا فثلثًا، قلت: فهل ينظر في صرف الدينار بينهما يوم وقع البيع بينهما أو يوم يزيد أن يأخذ منه حقه، قال: يوم يريد أن يأخذ منه حقه، كذلك قال مالك، وليس يوم وقع البيع، لأن البيع إنما وقع الذهب ولم يزل الذهب على صاحبه حتى يوم يقضيه إياه. قال مالك: وإن باعه بالذهب بسدس أو نصف إلى أجل وشرط أن يأخذ بذلك النصف الدينار، إذا حل الأجل دراهم فلا خير في ذلك، وهما إذ تشاحَّا إذا حل الأجل أنه يأخذ منه الدراهم يوم يطلبه بحقه على صرف يوم يأخذه بحقه، قلت: فلما كره مالك الشرط بينهما وهو إذا طلبه بحقه، وتشاحَّا أخذ الدراهم، قال: لأنه إذا وقع الشرك على أن يأخذ من نصف الدينار دراهم فكأنه إنما وقع البيع على الدراهم، وهو لا يعرف ما هي لأنه البيع إنما يقع على ما يكون من صرف نصف دينار بالدراهم يوم يحل الأجل فهذا لا يعرف ما باع له سلعته.
قال سحنون:قال أشهب: وإن كان إنما وجب له ذهب وشرط أن يأخذ فيه دراهم فذلك أحرم لأنه ذهب بورق إلى أجل وورق أيضًا لا يعرف عددها ولا وزنها وليس ما نزل به القضاء إذا حل الأجل بمنزلة ما يوجبان على أنفسهما، قال أشهب: ولو قال: أبيعك هذا الشيء بنصف دينار إلى شهر آخذ به منك ثمانية دراهم، كان بيعًا جائزًا، وكانت الثمانية لازمة لكما إلى الأجل ولم يكن هذا صرفاُ وكان ذكر النصف لغوًا وكان ثمن السلعة دراهم معدودة إلى أجل معلوم، قال مالك: ومن باع سلعة بنصف دينار إلى أجل أو بثلث دينار إلى أجل لم ينبغِ له أن يأخذ قبل محل الأجل في ذلك دراهم وليأخذ في ذلك عوضًا إن أحب قبل الأجل فإذا حل الأجل فليأخذ بما أحب.
ثم قال (نفس المرجع: ص 395، 396) :
قلت - يعني لعبد الرحمن بن القاسم -: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم فافترقنا قبل أن يقبض كل واحد منا؟ قال: لا يصلح هذا في قول: مالك وهذا فاسد ، قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والوزن نظرة.
قلت: أرأيت إن اشتريت خاتم فضة أو خاتم ذهب، أو غير ذهب بفلوس، فافترقنا قبل أن نتقابض أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا في قول مالك؛ لأن مالكًا قال: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة، ولا بالدنانير نظرة.
ابن وهب، عن يونس بن زيد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال: الفلوس بالفلوس، بينهما فضل فهو لا يصلح في عاجل بآجل ولا عاجل بعاجل، ولا يصلح بعض ذلك ببعض إلا هاء وهات.
ابن وهب، قال الليث بن سعد،عن يحيى بن سعيد، وربيعة، أنهما كرها الفلوس بالفلوس، بينهما فضل أو نظرة، وقالا: إنها صارت سكة الدنانير والدراهم.
ابن وهب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبد الله بن أبي حبيب، وعبيد الله بني أبي جعفر، قال: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم إلا يدًا بيد.
قال ابن وهب: وقال يحي بن أيوب: قال يحيى بن سعيد: إذا صرفت درهمًا فلوسًا فلا تفارقه حتى تأخذها كلها.
ثم قال (نفس المرجع، المجلد: 4، 9/115) :
قال ابن القاسم: قال مالك: لا يصلح الفلوس بالفلوس جزافًا، ولا وزنًا مثلا بمثل، ولا كيلًا مثلًا بمثل، يدًا بيد، ولا إلى أجل، ولا بأس به عددًا فلسًا بفلس، ولا يصلح فلسان بفلس يدًا بيد ، ولا إلى أجل والفلوس هاهنا في العدد بمنزلة الدراهم والدنانير في الورق، وقال مالك: أكره ذلك في الفلوس ولا أراه حرامًا كتحريم الدنانير والدراهم، قلت: أرأيت إن اشتريت فلسًا بفلسين، أيجوز هذا عند مالك؟ قال: لا يجوز فلسا بفلسين. قلت: فمراطلة الفلوس بالنحاس واحدًا باثنين يدًا بيد. قال: لا خير في ذلك ، قال: لأن مالكًا، قال: الفلس بالفلسين لا خير فيه، لأن الفلوس لا تباع إلا عددًا فإذا باعها وزنًا كان من وجه المخاطرة، فلا يجوز بي الفلوس برطلين من النحاس قال: ولو اشترى رجل رطل فلوس بدرهم، لم يجز ذلك. قال: وقال مالك: كل شيء يجوز واحد باثنين من صنفه إذا كايله أو راطله أو عاده، فلا يجوز الجزاف بينهما لا منهما جميعًا ولا من أحدهما لأنه من المزابنة إلا أن يكون الذي يعطي أحدهما متفاوتًا يعلم أنه أكثر من الذي من ذلك الصنف بشيء كثير فلا بأس بذلك ولا يجوز أن يكون أحدهما كيلًا ولا وزنًا ولا عددًا، والآخر جزافًا وإن كان مما يصلح اثنان بواحد إلا أن يتفاوت ما بينهما تفاوتًا بعيدًا، فلا بأس بذلك وهو إذا تقاربا عند مالك ما بينهما كان من المزابنة وإن كان ترابًا.
ثم قال (نفس المرجع، المجلد: 5، 12 /86، 87) :
قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك: لا تصلح المقارضة إلا بالدنانير والدراهم، قلت: فهل تصلح بالفلوس؟ قال: فما سمعت من مالك فيه شيئًا ولا أراه جائزًا لأنها تحول إلى الكساد والفساد فلا تنفق وليست الفلوس عند مالك بالسكة البينة حتى تكون عينًا بمنزلة الدنانير والدراهم، وقد أخبرني عبد الرحمن بن خالد، أن مالكًا كان يجيز شراءها بالدنانير والدراهم نظرة ثم رجع عنه منذ أدركناه، فقال: أكرهه ولا أراه حرامًا كتحريم الدراهم فمن هاهنا كرهت القراض بالفلوس.
قال سحنون: وأخبرني عبد الله بن وهب، أن يونس بن يزيد، أخبره عن ربيعة بن عبد الرحمن، أنه قال: المقارضة التي عليها أصل المقارضة أن تقارض من قارضته مالا على أن رأس مالك الذي يدفع إليه عينًا ما دفعت إليه ووزن ذلك وضربه أن يبتغي فيه صاحبه ما ابتغي ويدير على ما أدار منه على ما يكون فيه من نفقة أو زكاة حتى إذا حضرت المحاسبة ونض القراض فما وجدت بيده أخذت منه رأس مالك وما كان فيه من ربح تقاسمتماه على ما تقارضتما عليه من أجزاء الربح شطرين كان أو غيره.
وقال ابن رشد في (البيان والتحصيل: 6/473) :
وسئل عن الرجل يشتري بدرهم كيل الشيء فيخرج درهمًا، فيدفعه إليه فيجده ينقص حبتين أو ثلاثًا، فيعطيه في نقصانه فلوسًا بقدر ما نقص. قال: لا خير في ذلك، قلت له: إنه يقول: أعطني ما فيه من وزنه وحاسبني بقدر ذلك، قال: لا بأس به عندي إنما هو عندي بمنزلة رجل اشترى بدرهمين حنطة ثم قال له بعد ذلك: أعطني بدرهم، وأقلني من درهم، فقلت له: بعد الوجوب؟ قال: نعم كأنه حمله على وجه المساومة وفيه تفسير من البيع.
ثم قال (نفس المرجع: 7/18، 19) :
وسائل عن الفلوس مراطلة، وفي العدد اختلاف، فقال: هذا حرام لا يحل ولا يُجَوِّزُ أحد هذا من أهل العلم لأن جواز الفلوس بعيونها وإن كان بعضها أثقل من بعض، فأحدهما يخاطر صاحبه ولو جاز أن يباع الفلوس بالفلوس مراطلة لجاز أن تباع الفلوس مراطلة بالدراهم والدنانير، ولا يدري ما يدخل في عددها فهو غرر وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)) . وسئل عن الرجل يشتري رطل الفلوس بدرهم أو رطل دراهم بدينار لما لا يجيزه مالك بَيِّنْ لي؟ قال ابن القاسم: أما الفلوس فلا خير فيه، وأما الورق فإن كان الرطل وزنًا معرفًا بمنزلة هذه الحديدة التي قد ضربت وجعلت للناس معيارًا في وزنهم، فلا بأس به وإن كانوا يعرفون ما يدخل فيه من دراهم، ولم تجر معرفته بين الناس حتى تكون مثل هذه الحديدة فلا خير فيه فقاله أصبغ أيضًا.
قال ابن رشد: هذه مسألة بينة في المعنى، مثل ما في المدونة، أما الفلوس فإنما تجوز عددًا وهو الصرف، فالانتقال عن المعروف فيها من العدد إلى الوزن لا يجوز لأنه غرر، كما أن ما العرف فيه أن يباع وزنًا من جميع الأشياء، فلا يجوز أن يباع كيلًا وما العرف فيه أن يباع كيلًا، فلا يجوز أن يباع وزنًا وهذا منصوص عليه في المدونة وغيرها، فلا تجوز المراطلة فيها ولا يسعها بالوزن، وأما بيع الدراهم بالرطل، فكما قال: إن كان الرطل يعلم كم فيه من درهم فهو جائز وإلا لم يجز.
ثم قال (ص 23، من كتاب الأقضية) :
وسئل ابن نافع، عن صرف الفلوس بالتأخير، يعجل الدينار والدرهم، ويقبض الفلوس إلى أجل، فقال: كان مالك يكره ذلك إذا صارت سكة تجري ثمنًا للأشياء ولست آخذ به ولا أراه وأنا أرى الفلوس عرضًا من العروض كالنحاس الذي لم يضرب فلوسًا، ولا أرى بأسًا بما تأخذ منه ولا عده صرفًا.
قال ابن رشد: قول ابن نافع هذا مثل رواية عبد الرحيم، عن مالك، في كتاب القراض من المدونة، وإنما كره مالك رحمه الله في المشهور عنه التأخير في صرف الفلوس، لأن العلة عندهم في الربا في العين من الذهب والورق، هو أنه ثمن للأشياء وقيم للمتلفات، فرأى على هذا القول هذه العلة علة متعدية إلى الفلوس لما كانت موجودة فيها، إذا صارت سكة تجري بين الناس يتبايعون بها، ويقوِّمون كثيرًا من المتلفات بها ورآها على رواية عبد الرحمن عنه علة واقعة - لعل صوابها: واقفة - لا تتعدى إلى ما سوى الذهب والورق ولكلا القولين وجه من النظر وبالله التوفيق.
ثم قال (ص 302) :
وسئل مالك، عن الرجل يشتري النحاس المكسورة بالفلوس، فقال: لا خير فيه وأراه من وجه المزابنة، فقيل له: إن الرجل يشتري التور بدرهمين ونصف، لا يريد به وجه النحاس، إنما يريد به أن يتوضأ فيه، فقال: أرأيت لو كانت فلوسًا كلها؟ فقيل له: إنما يتوضأ فيه، وقال هو سواء لا خير فيه، وأراه من وجه المزابنة.
قال ابن رشد: أما شراء النحاس المكسورة بالفلوس، فقوله أنه لا خير فيه، لأنه من وجه المزابنة، هو مثل منا في المدونة من قوله: ولا خير في الفلوس بالنحاس إلا أن يتباعد بينهما، لأن المزابنة إنما تدخله إذا لم يتبين الفضل بينهما، وهذا مما لا اختلاف فيه أعلمه.
وأما شراء التور المصنوع من النحاس بالفلوس، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها أن الصنعة تخرجه إلى صنف آخر وترفع المزابنة عنه، فيجوز ذلك يدًا بيد أو إلى أجل، وهو قول مالك في روايتي ابن وهب عنه. والثاني أن ذلك يجوز نقدًا وإن لم تبين الفضل بينهما، ولا يجوز إلى أجل، وهو قوله في المدونة إلا أنه جعل ذلك فيها كالصوف بثوب الصوف والكتان بثوب الكتان، فقال: لا بأس بذلك نقدًا ولا بأس بالتور النحاس بالنحاس نقدًا، وإلى هذا رجع مالك في رواية ابن وهب عنه. والثالث أن ذلك لا يجوز نقدًا ولا إلى أجل يريد إلا أن يتبين الفضل بينهما في النقد، وعلى هذا حمل أبو إسحاق التويني ما في المدونة لابن القاسم وهو قول مالك في هذه الرواية، لأنه لم يجز فيها أن يشتري التور بدرهمين ونصف، فيعطي في جميعها فلوسًا ولا في النصف درهم منها، وإذا لم يجز ذلك في النقد، فالأحرى ألا يجيزه إلى أجل، وقد تأول بعض الناس من هذه الرواية، أن ذلك لا يجوز وإن تبين الفضل إذ منع فيها أن يعطي في النفس فلوسًا ولا شك في أن التور أكثر نحاسًا من الفلوس التي يعطي في نصف درهم وليس ذلك بصحيح، لأن التور مفضوض على قيمة الدرهمين والنصف درهم من الفلوس وإذا فض ذلك لم يدر أكان ما ينوب الفلوس من أكثر أو أقل فوجب ألا تجوز ولو أخذ في جميع الدرهمين والنصف فلوسا لا يشك أنها أكثر من التور أو أقل لكان ذلك جائزًا، والاختلاف في هذه المسألة موجود أيضًا في الصوف بثوب الصوف والكتان بثوب الكتان، وروى ذلك أشهب، عن مالك، أنه لا يجوز نقدًا ولا إلى أجل أيهما عجل، وروى ذلك أيضًا أصبغ، عن ابن القاسم، ثم رجع إلى أنه يجوز إذا كان الثوب هو المعجل، وأما مصنوع من النحاس أو منسوج بمنسوج من الصوف والكتان أو الكرسف، فلا اختلاف في جواز ذلك نقدًا، وإن لم يتبين الفضل بينهما، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي، فقال: لا فرق في القياس بين مصنوع بمصنوع أو مصنوع بغير مصنوع، لأن الصناعة إذا لم يكن لها تأثير في الجهة الواحدة، وجب أن لا يكون لها تأثير في الجهتين، فانظر في ذلك كله وتدبره.
وقال الشافعي في (الأم: 3/33) :
ولا بأس بالسلف في الفلوس إلى أجل، لأن ذلك مما ليس فيه الربا ومن أسلف رجلًا دراهم على أنها بدينار بنصف دينار، فليس عليه إلا مثل دراهمه، وليس له عليه دينار ولا نصف دينار.
وقال النووي في (المجموع: 9/395) :
(فرع) ذكرنا أن علة الربا في الذهب والفضة عندنا كونها جنس الأثمان غالبًا، قال أصحابنا: وقولنا غالبًا احتراز من الفلوس إذا راجت رواج النقود، كما قدمناه، ويدخل فيه الأواني والتبر وغير ذلك، وهذه العبارة هي الصحيحة عند الأصحاب وهي التي نقلها الماوردي وغيره من نص الشافعي، قال الماوردي: ومن أصحابنا من يقول العلة كونها قيم المتلفات، قال: ومن أصحابنا من جمعهما، قال: وكله قريب، وجزم المصنف في " التنبيه " بأنها قيم الأشياء، وأنكره القاضي أبو الطيب وغيره على من قاله من أصحابنا، قالوا لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا، وليس مما يقوم بها ولنا وجه ضعيف غريب أن تحريم الربا فيهما بعينهما لا لعلة، حكاة المتولي وغيره.
(فرع) إذا راجت الفلوس رواج النقود، لم يحرم الربا فيها هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور وفيه وجه شاذ أنه يحرم. حكاه الخراسانيون.
وأما ما سواها من الموزونات كالحديد والنحاس والرصاص والقطن والكتان والصوف والغزل وغيرها، فلا ربا فيها عندنا، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلًا ومؤجلًا، ولا خلاف في شيء من هذا عندنا إلا وجهًا حكاه المتولي والرافعي، عن أبي بكر الأولي من أصحابنا المتقدمين، أنه قال: لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلًا سواء كان مطعومًا أو نقدًا أو غيرهما، وهذا شاذ ضعيف.
وقال السيوطي في (الحاوي: 1/96، 98، " رسالة قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ") :
نقلت من خط شيخنا قاضي القضاة، شيخ الإسلام علم الدين البلقيني رحمه الله، قال: وفي فرائض الأخ شيخ الإسلام جلال الدين وتحريره، قال: اتفق في سنة إحدى وعشرين وثمان مائة عزة الفلوس بمصر، وعلى الناس ديون في مصر من الفلوس، وكان سعر الفضة قبل عزة الفلوس كل درهم بثمانية دراهم من الفلوس، ثم صار بتسعة، وكان الدينار الأفلوري بمائتين وستين درهمًا من الفلوس والهرجة بمائتين وثمانين، والناصري بمائتين وعشرة، وكان القنطار المصري بست مائة درهم، فعزت الفلوس، ونودي على الدرهم بسبعة دراهم، وعلى الدينار المصري بناقص خمسين، فوقع السؤال عمن لم يجد فلوسًا وقد طلب منه صاحب دينه الفلوس، فلم يجدها، فقال: أعطني عوضًا عنها ذهبًا أو فضة بسعر يوم المطالبة ما الذي يجب عليه؟ وظهر لي في ذلك أن هذه المسألة قريبة الشبه من مسألة إبل الدية، والمنقول في إبل الدية، أنها إذا فقدت فإنه يجب قيمتها بالغة ما بلغت على " الجديد "، قال الرافعي: فتقوم الإبل بغالب نقد البدل وتراعى صفتها في التغليظ فإن غلب نقدان في البلد تخير الجاني وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها، فإن كان له إبل معيبة وجبت قيمة الصحاح من ذلك الصنف، وإن لم يكن هناك إبل فيقوم من صنف أقرب البلاد إليهم.
وحكى صاحب التهذيب وجهين في أنه هل تعتبر قيمة مواضع الوجود أو قيمة بلد الإعواز، لو كانت الإبل موجودة فيها؟ والأشبه الثاني: ووقع في لفظ الشافعي، أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب والمراد على ما يفهمه كلام الأصحاب يوم وجوب التسليم، ألا تراهم أنهم قالوا: إن الدية المؤجلة على العاقلة، تقوم كل نجم منها عند محله، وقال الرياني: إن وجبت الدية والإبل مفقودة، فتعتبر قيمته يوم الوجوب، أما إذا وجبت وهي موجودة فلم يتفق الأداء حتى أعوزت تجب قيمة يوم الإعواز؛ لأن الحق حينئذ تحول إلى القيمة.
قال: فهذه تناظر مسألتنا؛ لأنه واجب عليه متقوم معلوم الوزن، وهو قنظار من الفلوس مثلًا فلم يجده، فإن جرينا على ظاهر النص الذي قاله الرافعي، فلا يلزمه الحاكم إلا بقيمة يوم الإقرار، فينظر في سعر الذهب والفضة يوم الإقرار، ويحكم عليه القاضي بذلك وإن قلنا بما قاله الرياني فتجب قيمتها يوم الإعواز، فإن الأقارير كانت يوم العزة - انتهى ما أجاب به البلقيني -. واعلم أنه نحا في جوابه إلى اعتبار قيمة الفلوس، وذلك لأنها عدمت أو عزت فلم تحصل إلا بزيادة، والمثل إذا عدم أو عز ولم يحصل إلا بزيادة، لم يجب تحصيله كما صححه النووي في الغصب، بل يرجع إلى قيمته.
وإنما نبهت على هذا، لئلا يظن أن الفلوس من المتقومات، وإنما هي من المثليات في الأصح، والذهب والفضة المضروبان مثليان بلا خلاف إلا أن في المغشوش منها وجهًا أنه متقوم.
إذا تقرر هذا، فأقول:
تترتب الفلوس في الذمة بأمور منها القرض، وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقًا إذا اقترض منه رطلًا فلوسًا، فالواجب رد رطل من ذلك الجنس سواء زادت قيمته أم نقصت، أما في صورة الزيادة فلأن القرض كالسلم، وسيأتي النقل فيه، وأما في صورة النقص فقد قال في "الروضة " من زوائده، ولو أقرضهم نقدًا، فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه نص عليه الشافعي رضي الله عنه فإذا كان هذا مع إبطاله فمع نقص قيمته من باب أولى.
ومن صورة الزيادة أن تكون المعاملة بالوزن ثم ينادى عليها بالعدد، ويكون العدد أقل وزنًا.
وقولي: (فالواجب) إشارة إلى ما يحصل الإجبار عليه من الجانبين، هذا على دفعه، وهذا على قبوله، وبه يحكم الحاكم، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص، فلا إشكال فإن رد أكثر من قدر القرض جائز إلى مندوب وأخذ أقل منه إبراء من الباقي.
وقولي: (من ذلك الجنس) احتراز من غيره كأن يأخذ بدله عروضًا أو نقدًا ذهبًا أو فضة، وهذا مرجعه إلى التراضي أيضًا لأنه استبدال، وهو من أنواع البيع ولا يجبر فيه واحد منهما، فإن أراد أخذ بدله فلوسًا من الجدد المتعامل بها عددًا فهل هو من جنسه، لكون الكل نحاسًا أو لاختصاصه بوصف زائد وزيادة قيمة؟ محل نظر والظاهر الأول لكن لا إجبار فيها أيضًا لاختصاصها بما ذكر، فإن تراضيا على قدر فذاك وإلا فلا يجبر المدين على دفع رطل منها؛ لأنه أزيد قيمة، ولا يجبر الدائن على أخذ قدر حقه منها عددًا لأنه أنقص وزنًا.
فإن عدمت الفلوس العتق، فلم توجد أصلًا رجع إلى قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويعتبر ذلك يوم المطالبة، فيأخذ الآن لو قدر انعدامها في كل عشرة أرطال دينارًا، ولو اقترض منه فلوسًا عددًا كستة وثلاثين، ثم أبطل السلطان المعاملة بها عددًا، وجعلها وزنًا كل رطل بستة وثلاثين، كما وقع في بعض السنين، فإن كان الذي قبضه معلوم القدر بالوزن رجع بقدره وزنًا ولا تعتبر زيادة قيمته ولا نقصها، وإن لم يكن وزنه معلومًا فهو قرض فاسد؛ لأن شرط القرض أن يكون القرض معلوم القدر بالوزن أو الكيل، وقرض المجهول فاسد، والعدد لا يعبر به، والمقبوض بالقرض الفاسد يضمن بالمثل أو بالقيمة وهنا قد تعذر الرجوع إلى المثل للجهل بقدره، فيرجع إلى القيمة، وهل يعتبر قيمة ما أخذ يوم القبض أو يوم الصرف، الظاهر الأول، فقد أخذ ما قيمته يوم قبضه ستة وثلاثون، فيرد ما قيمته الآن كذلك وهو رطل أو مثله من الفضة والذهب.
(فرع) فإن وقع مثل ذلك في الفضة فإن اقترض أنصافًا بالوزن، ثم نودي عليها بأنقص أو بأزيد أو بالعدد أو اقترض عددًا ثم نودي عليها بالوزن فلا يخفى قياسه على ما ذكرناه.
(فصل) ومنها السلم والأصح جوازه في الدراهم والدنانير والفلوس بشرطه. ومعلوم أنه لا يتصور فيه قسم العدد لاشتراط الوزن فيه، فإذا حل الأجل لزمه القدر الذي أسلم فيه وزنًا سواء زادت قيمته عما كان وقت تسليمه السلم أم نقصت، ويجب تحصيله بالغًا ما بلغ فإن عدم فليس إلا الفسخ والرجوع برأس المال أو الصبر إلى الموجود ولا يجوز الاستبدال عنه فإن كان رأس المال فلوسًا وهي باقية بعينها أخذها وإن غلت رجع إلى مثلها وزنًا.
(فصل) ومنها ثمن ما بيع به في الذمة، قال في " الروضة ": وأصلها لو باع بنقد معين أو مطلق وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان ذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد.
ثم قال: فأقول: هنا صور إحداها أن يبيع برطل فلوس فهذا ليس له إلا رطل زاد سعره أو نقص سواء كان عند البيع وزنًا، فجعل عددًا أم عكسه وكذا لو باع بأوقية فضة أو عشرة أنصاف، وهي خمسة دراهم أو دنانير ذهب، ثم تغير السعر فليس له إلا الوزن الذي سمى. الثانية: إن بيع بألف أو فضة أو ذهبًا ثم تغير السعر فظاهر عبارة " الروضة " المذكورة أن له ما يسمى ألفا عند البيع ولا عبرة بما ترى ويحتمل أن له ما يسمى ألفًا عند المطالبة وتكون عبارة الروضة محمولة على الجنس لا على القدر، وهذا الاحتمال وإن كان أوجه من حيث المعنى إلا أنه لا يأتي في صورة إبطال، إذا لا قيمة حينئذ إلا عند العقد عند المطالبة.
ثم مضى في تطبيق رأيه هذا في مسائل أخرى من فقه المعاملات، كالأجرة والغصب والوقف والوصية والطلاق والنكاح.
وقال الرافعي (على هامش المجموع؛ شرح المهذب: 12 /5، 6، في معرض كلامه على القراض وأركانه) :
الركن الأول منه رأس المال وله شروط، أحدها أن يكون نقدًا وهو الدراهم والدنانير المضروبة. وفيه معنيان: أحدهما أن القراض معاملة تشتمل على أغرار؛ إذ العمل غير مضبوط والربح غير موثوق به، وإنما جوزت للحاجة فتختص بما شهر التجارة عليه وتروج بكل حال، وأشهرهما، وهو المذكور في الكتاب - يعني الوجيز الذي يشرحه-: أن النقدين ثمنًا لا يختلفان بالأزمنة ولا أمكنة إلا قليلًا ولا يقومان بغيرهما. والعروض تختلف قيمتها، فلو جعل شيء منها رأس مال لزم أحد أمرين: إما أخذ المال في جميع الربح، أو أخذ العامل بعض رأس المال ووضع القراض على أن يشتركا في الربح، وينفرد المالك برأس المال. ووجه لزوم أحد الأمرين أنهما إذا جعلا رأس المال ثوبًا فإما أن يشترطا رد ثوب بتلك الصفات أو رد قيمته إن شرطا الأول فربما كان قيمة الثوب في الحال درهمًا ويبيعه ويتصرف فيه حتى إذا بلغ المال عشرة ثم ترفع قيمة الثياب، فلا يوجد مثل ذلك الثوب إلا بعشرة فيحتاج العامل إلى صرف جميع ما معه إلى تحصيل رأس المال، فيذهب الربح في رأس المال وربما كانت قيمته عشرة فباعه ولم يربح شيئا ثم صار يؤخذ مثله بشيء يسير فيشتريه ويطلب قيمة الباقي فحينئذ يفوز العامل ببعض رأس المال وإن شرطا رد القيمة فإما أن يشترطا قيمة حال المفاصلة أو قيمة حال الدفع الأول غير جائز؛ لأنها مجهولة، ولأنه قد تكون قيمته في الحال درهمًا وعند المفاصلة عشرة فيلزم المحذور الأول، والثاني غير جائز لأنه قد تكون قيمته في الحال عشرة. وتعود عند المفاصلة إلى درهم فيلزم المحذور الثاني.
وفي النفس حسيكة من هذا الكلام؛ لأن لزوم أحد الأمرين مبني على أن رأس المال قيمة يوم العقد أو يوم المفاصلة، وبتقدير جواز القراض على العرض يجوز أن يكون رأس المال ذلك العرض بصفاته من غير نظر إلى القيمة، كما أنه المستحق في السلم، وحينئذ إن ارتفعت القيمة فهو كخسران حصل في أموال القراض، وإن انخفضت فهو كزيادة قيمة فيها.
وعن الشيخ أبي محمد، أنه كان يعول في اختصاص القراض بالنقدين على الإجماع، ولا يبعد أن يكون العدول إليه بهذا الإشكال ويترتب على اعتبار النقدية امتناع القراض على الحلي والتبر، وكل ما ليس بمضروب لأنها مختلفة القيمة كالعروض.
وكذلك لا يجوز القراض على الفلوس، ولا على الدراهم والدنانير المغشوشة، لأنها نقد وعرض. وحكى الإمام وجهًا أنه يجوز القراض على المغشوش اعتبارًا برواجه، وادعى الوفاق على امتناع القراض في الفلوس. لكن صاحب التتمة ذكر فيها أيضًا الخلاف. وعن أبي حنيفة يجوز القراض عن المغشوش إذا لم يكن الغش أكثر.
قال الرافعي في (المجموع - التكملة الثانية -: 14/357، 358 في معرض كلامه عن القراض) :
ولا يصح إلا على الأثمان، وهي: الدراهم والدنانير. وأما ما سواها من العروض والنقار والسبائك والفلوس فلا يصح القراض عليها؛ لأن المقصود بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح، ومتى عقد على غير الأثمان لم يحصل المقصود، ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه في رد مثله إن كان له مثل، وفي قيمته إن لم يكن له مثل وفي هذا إضرار بالعمل وربما نقصت قيمته فيصرف جزءًا يسيرًا من الكسب في رد مثله أو رد قيمته ثم يشارك رب المال في الباقي، وفي إضرار برب المال لأن العامل يشاركه في أكثر رأس المال. وهذا لا يوجد في الأثمان؛ لأنها لا تقوم بغيرها ولا يجوز على المغشوش من الأثمان؛ لأنه تزيد قيمته وتنقص كالعروض.
وقال الونشريسي (المعيار: 6/461، 462) :
وسئل - يعني: أبو الحسن الصغير - عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول، فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف، وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضي له؟
وعن رجل آخر باع بالدرهم المفلسة، فتأخر الثمن إلى أن تبدل فبأيهما يقضي له؟
فأجاب: لا يجب للبائع قبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه من عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه، وإن لم يوجد إلى القيمة ذهبًا لعذره، ومن باع بالدراهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها إلا أن يتطوع المشتري بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلًا منه.
وقال خليل والدردير في (أقرب المسالك: 3/69، 70) :
(وإن بطلت معاملة) من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع أو تغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة (وإن عدمت) في بلد المعاملة - وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضًا أو يقوم العرض بعين متجددة.
وتعقب الصاوي في حاشية قول الدردير (من قرض أو بيع) بقوله: ومثل ذلك ما كانت وديعة وتصرف فيها أو دفعها لمن يعمل فيها قراضًا.
قوله - أي الشارح -: (أي فالواجب قضاء المثل) أي لو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفا بدرهم أو بالعكس، وكذا لو كان (الريال) حين العقد بتسعين، ثم صار بمائة وسبعين وبالعكس وكذا إذا كان المحبوب بمائة وعشرين، ثم صار بمائة أو العكس وهكذا.
قوله - أي الخليل -: (فالقيمة يوم الحكم) وهو متأخر عن يوم انعدامها، وعن يوم الاستحقاق، والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم وحينئذ تعتبر القيمة يوم طلبها وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس وبه قال بعضهم، وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها " الأحظ " - معنى الكلمة غير واضح- من أخذ القيمة أو مما آل إليه من السكة الجديدة الزائدة على القديمة وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله.
وقال السرخسي (المبسوط 11/152، 153) : في معرض ذكره لاختلافهم حول وجوب اختلاط المالين وعدم وجوبه لقيام شركة العقد وبيان مذهب الحنفية في (أن موجب شركة العقد الوكالة على أن معنى كل واحد منهما يكون وكيل صاحبه في الشراء بالمال الذي عينه ولهذا شرطنا تعيين المال عند العقد أو عند الشراء)
…
إلخ.
(وعلى هذا الأصل لو كان رأس مال أحدهما دراهم والآخر دنانير تنعقد الشركة بينهما صحيحة عندنا خلافًا لزفر - وهو ثالث أصحاب أبي حنيفة لكن يرى الخلط كالشافعي - والشافعي رحمهما الله - وكذلك إن كان رأس مال أحدهما بيضًا - أي دراهم بيضًا - والآخر سودًا؛ لأن الشركة في الملك لا تثبت هنا حين كانا لا يختلطان وعلى الرواية التي شرط زفر الخلط جواب هذا الفصل ظاهر في مذهبه، وأما على الرواية التي لا يشترط ذلك نقول في هذين الفصلين ربما يظهر الربح لأحدهما دون الآخر بتغير سعر أحد النقدين وذلك تقتضيه الشركة وعندنا موجب هذا العقد للوكالة وذلك صحيح مع اختلاف النقدين فإنهما لو صرحا للوكالة بأن يشتري أحدهما بهذه الدراهم على أن يكون المشتري بينهما ويشتري الآخر بهذه الدنانير، على أن يكون المشترى بينهما كان صحيحًا فكذلك تصح الشركة بهذه الصفة) .
ثم قال (ص 154، في معرض كلامه عن شركة المقارضة واختلافهم بشأنها) :
وقد روى الحسن (1) ،عن أبي حنيفة رحمه الله أن هذه الشركة لا تجوز بمالين يختلطان؛ لأن المساواة شرط في هذا العقد والمساواة بين الدراهم والدنانير في المالية، إنما تكون بالتقويم وطريق ذلك الحزر والمساواة شرعًا لا تثبت بهذا الطريق كالمساواة التي تشترط في مبادلة الأموال الربوية بجنسها وإن كان رأس مال أحدهما بيضًا ورأس مال الآخر سودًا وبينهما تفاوت في الصرف لا يجوز هذا العقد في ظاهر الرواية لعدم المساواة، وذكر إسماعيل بن حماد (2) ، عن أبي يوسف رحمهم الله أنه يجوز لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها وإنما تعتبر المساواة في الوزن.
ثم قال (ص 159، 160) :
(واعلم أن الشركة بالنقود من الدراهم والدنانير جائزة ولا تجوز الشركة بالتبر في ظاهر المذهب وقد ذكر –يعني محمد بن الحسن صاحب الأصل - في كتاب الصرف أن من اشترى بتبر بعينه شيئًا فهلك قبل القبض لا يبطل العقد فقد جعل التبر كالنقود حتى قال: لا يتعين بالتعيين.
(1) لعله الحسن بن زياد اللؤلؤي المتوفى سنة أربعين مائتين وهو أحد أصحاب أبي حنيفة. قال عنه يحيى بن آدم: ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد ولي القضاء ثم استعفى عنه. انظر الشيرازي (طبقات الفقهاء: ص 76، 77)
(2)
حفيد أبي حنيفة كان فقيهًا ولي القضاء بالبصرة ثم عزل عنها يحيى بن أكتم.
فالحاصل أن هذا يختلف باختلاف العرف في كل موضع فإن كانت المبايعات بين الناس في بلدة بالتبر فهو كالنقود لا يتعين بالتعيين، ويجوز الشركة به وإن لم يكن في ذلك عرف ظاهر فهو كالعروض لا تجوز الشركة به فإن كان التعيين مفيدًا فيه، فهو معتبر وإن لم يكن مفيدًا لا يعتبر كتعيين الصنجان والقيمات.
وأما الشركة بالفلوس إن كانت نافقة لا تجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله وتجوز في قول محمد وذكر الكرخي في كتابه أن قول أبي يوسف كقول محمد والأصح ما قلناه، وهو بناء على مسألة كتاب البيوع إذا باع قلنا تعيينه بفسلين بأعيانهما يجوز عند أبي حنيف وأبي يوسف وتعيين الفلوس بالتعيين بمنزلة الجوز والبيض. وعند محمد لا يجوز ولا تعين الفلوس الرائجة بالتعيين كالنقود فكذلك في حكم الشركة محمد، يقول: هي بمنزلة النقود ما دامت رائجة وهما يقولان الرواج في الفلوس عارض في اصطلاح الناس وذلك يتبدل ساعة فساعة، فلو جوزنا الشركة بها أدى إلى جهالة رأس المال عند قسمة الربح إذا كسدت الفلوس وأخذ الناس غيرها؛ لأن رأس المال عند قسمة الربح يحصل باعتبار المالية لا باعتبار العدد ومالية الفلوس تختلف بالرواج والكساد.
وروى الحسن، عن أبي حنيفة، أن المضاربة بالفلوس الرائجة تصح. وقال أبو يوسف: لا تصح الشركة بها ولا تصح المضاربة وفرق بينهما، فقال في المضاربة يحصل رأس المال أو لا يظهر الربح والفلوس ربما تكسد فلا تعرف ماليتها بعد الكساد إلا بالحزر والظن ولا وجه لاعتبار العدد لما فيه من الإضرار لصاحب المال وأما في الشركة إذا كسدت الفلوس يمكن تحصيل رأس المال كل واحد منهما باعتبار العدد؛ لأن حلهما فيه سواء فلا يختص أحدهما بالضرر دون الآخر.
ثم قال (نفس المرجع: 12/113، 114) ، في معرض كلامه عن حديث الربا، وهل تنحصر دلالته على الأصناف الستة أم هي أصول يقاس عليها) :
وفائدة تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن عامة المعاملات يومئذ كان بها على ما جاء في الحديث " كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق (1) والمراد به ما يدخل تحت الوسق مما يكثر الحاجة إليه وهي الأشياء المذكورة.
ثم اختلفوا بعد ذلك في المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال قال علماؤنا رحمهم الله جميعًا -: الجنسية والقدر. عرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة)) ، والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم ((مثل بمثل)) ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، وظن بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - أن العلة مع الجنس الفضل على القدر وذلك محكي عن الكرخي، ولكنه ليس بقوي فإنه لا يجوز إسلام قفيز حنطة في قفيز شعير، ولا تثبت حرمة النساء إلا بوجود أحد الوصفين ولو كانت العلة هي الفضل لما حرمه النساء هنا لانعدام الفضل فعرفنا أن العلة نفس القدر.
(1) لفظه عند أحمد المسند: 4/6، و 280: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرزة قال: كنا نبتاع الأوساق بالمدينة، وكنا نسمي به أنفسنا السماسرة. قال: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن مما كنا نسمي به أنفسنا؛ فقال: يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة. حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرزة قال: كنا نبتاع الأوساق بالمدينة، وكنا نسمي أنفسنا به فقال: يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة.
وقال مالك رضي الله عنه: العلة الاقتيات، والادخار مع الجنس (1) وقال ابن سرين: تفاوت المنفعة مع الجنس (2) وقال الشافعي في القديم: العلة في الأشياء الأربعة الكيل والطعم وقال في الجديد: العلة هي التطعم، وفي الذهب العلة الثمنية وهي أنها جوهر الأثمان والجنسية عنده شرط لا تعمل العلة إلا عند وجودها ولهذا لا يجعل الجنسية أثرًا في تحريم النساء (3) .
فحاصل المسألة أن بيع كل مكيل أو موزون بجنسه لا يجوز عندنا إلا بعد وجود المخلص وهو المماثلة في القدر أن يكون عينًا بعين وعنده بيع كل مطعوم بجنسه وكل ثمن بجنسه حرام إلا عند وجود المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي أن يكون قبضًا بقبض في المجلس.
والحاصل أن حرمة البيع في هذه الأموال أصل عنده والجواز يعارض المساواة في المعيار مع القبض في المجلس وعندنا إباحة البيع في هذه الأموال أصل كما في سائر هذه الأموال والفساد يعارض انعدام المماثلة بوجود الفضل الخالي من العوض متيقنًا به أو موهومًا احتياطًا والمقصود من التعليل عنده منع قياس المطعومات على المطعومات وغير الثمن على الثمن بناء على أصله أن التعليل صحيح لإثبات حكم الأصل والمنع من إلحاق غيره به وعندنا التعليل لتعدية حكم النص إلى غيره المنصوص فالحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة؛ لأن الثابت بالنص مقطوع به والمنع بظاهر النص ثابت فالاشتغال بالتعليل يكون لغوًا عندنا.
(1) انظر تفصيلًا وافيًا لأقوال التابعين وأيمة المذاهب في علة الربا في (ج 7) من التمهيد لابن عبد البر (ص 292) وما بعدها.
(2)
انظر تفصيلًا وافيًا لأقوال التابعين وأيمة المذاهب في علة الربا في (ج 7) من التمهيد لابن عبد البر (ص 292) وما بعدها.
(3)
انظر تفصيلًا وافيًا لأقوال التابعين وأيمة المذاهب في علة الربا في (ج 7) من التمهيد لابن عبد البر (ص 292) وما بعدها.
وبعد أن أفاض في الاحتجاج لمذهبه ومناقشة آراء المذاهب الأخرى في تعيين علة أو علل الربا إفاضة بديعة لا نعرفها عند غيره رحمه الله قال:
فالدليل على إثبات هذه القاعدة، أن الأموال، أنواع ثلاثة متفاوتة في نفسها كالثياب والدواب، فلا تجب المماثلة فيه للمبايعة وأمثال متقاربة كالسهام ولا تجب المماثلة فيها أيضًا لمبايعة وأمثال متساوية كالفلوس الرائجة وتجب المماثلة فيها حتى إذا باع فلسًا بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز (للرسنة) - الكلمة لم نستطع فهمها - فإن بيع فلس بفلس جائز بل لوجوب المماثلة فإن أحد الفلسين يبقى بغير شيء لما كانت أمثالًا متساوية بصفة الرواج، فيكون ذلك ربا وإذا كان كل واحد منهما بعينه فكأن المتعاقدين أعرضا عن الاصطلاح على كونها أمثالًا متساوية ولهذا يتعين بالتعيين فتصير أمثالًا متقاربة كالجوز والبيض.
إذا عرفنا هذا فنقول: الشرع هنا نص على اشتراط المماثلة في هذه الأموال - يعنى أموال الربا– فعرفنا أنها أمثال متساوية، وإنما تكون أمثالًا متساوية بالجنس والقدر؛ لأن كل حادث في الدنيا موجود بصورته ومعناه فإذا بطلت المماثلة من هذين الوجهين والمماثلة صورة باعتبار القدر؛ لأن المعيار في هذا المقدار كالطول والعرض، والمماثلة معنى باعتبار الجنسية ولكن هذه المماثلة لا تكون قطعًا إلا بشرط قيمة الجودة منها الجواز أن يكون أحدهما أجود من الآخر وإذا سقطت قيمة الجودة منها صارت أمثالًا متساوية قطعًا
…
إلخ.
ثم قال (نفس المرجع: 14/24) :
وإذا اشترى الرجل فلوسًا بدراهم وعقد الثمن ولم تكن الفلوس عند البائع، فالبيع جائز؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقود، وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معًا ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد كما لا يشترط ذك في الدراهم والدنانير.
وإن استقرض الفلوس من رجل ودفع إليه قبل الافتراق أو بعده فهو جائز إذا كانا قد قبضا الدراهم في المجلس؛ لأنهما قد اقترقا عن عين بدين وذلك جائز في عين الصرف وإنما يجب التقابض في الصرف بمقتضى اسم العقد وبيع الفلوس بالدراهم ليس بصرف وكذلك لو افترقا بعد قبض الفلوس، قبل قبض الدراهم.
وعلى ما ذكر ابن شجاع، عن زفر - رحمهما الله - لا يجوز هذا العقد أصلًا؛ لأن من أصل زفر، أن الفلوس الرائجة بمنزلة المكيل والموزون تتعين في العقد إذا عينت وإذا كان بغير عينها فإن لم يصحبها حرف الباء لا يجوز العقد؛ لأنه بيع ما ليس عند الإنسان،وإن صحبه حرف الباء وبمقابلها عوض يجوز العقد لأنها ثمن، وإن كان بمقابلها النقد لا يجوز العقد؛ لأنها تكون مبيعة إذا قابلها ما لا يكون إلا ثمنًا عندنا.
فالفلوس الرائجة بمنزلة الأثمان لاصطلاح الناس على كونها ثمنًا للأشياء فإنما يتعلق العقد بالقدر المسمى منها في الذمة ويكون ثمنًا عين أو لم يعين كما أن الدراهم والدنانير إن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد؛ لأنه دين بدين، والدين لا يكون عقدًا بعد الافتراق.
وذكر في الإملاء، عن محمد لو اشترى مائة فلس بدرهم على أنهما بالخيار وتفرقا بعد القبض فالبيع باطل؛ لأن العقد لا يتم مع اشتراط الخيار فكأنها تفرقا قبل التقابض وإذا كان الخيار مشروطًا لأحدهما فافترقا بعد التقابض، فالبيع جائز لأن التسليم يتم ممن لم يشترط الخيار في البدل الذي من جانبه وقبض أحد البدلين هنا يكفي بخلاف الصرف.
لكن هذا التفريع إنما يستقيم على قول من يقول: المشروط له الخيار يملك عرض صاحبه، أما عند أبي حنيفة فالمشروط له الخيار كما لا يملك عليه البدل الذي من جانبه لا يملك البدل الذي من جانب صاحبه فاشتراط الخيار لأحدهما يمنع تمام القبض فيهما جميعًا.
وإن اشترى خاتم فضة أو خاتم ذهب فيه فص، أو ليس فيه فص بكذا فلوسًا وليست الفلوس عنده فهو جائز إن تقابضا قبل التفرق أو لم يتقابضا؛ لأن هذا بيع وليس بصرف فإنما افترقا عن عين بدين، لأن الخاتم يتعين بالتعيين، بخلاف ما سبق فإن الدراهم والدنانير لا تعين بالتعيين فلذلك شرط هناك قبض أحد البدلين في المجلس ولم يشرط هنا.
وكذلك ما اشترى من العروض بالفلوس لو اشترى بها فاكهة أو لحمًا أو غير ذلك بعد أن يكون المبيع بعينه؛ لأن الفلوس ثمن كالدراهم ولو اشترى عينًا بدرهم جاز العقد وإن تفرقا قبل القبض فهذا مثله.
وسواء قال: اشتريت مثل كذا فلسًا بدرهم أو درهما بكذا فلسًا؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقد عندنا صحبها حرف الباء أو لو لم يصحبها، وقيام الملك في الثمن عند العقد ليس بشرط.
وإن اشترى متاعًا بعشرة أفلس بعينها فله أن يعطي غيرها مما يجوز بين الناس وإن أعطاها بعينها فوجد فيها فلسًا لا ينفق استبدله كما يستبدل الزيف في الدراهم؛ لأنه ما دام ثمنًا قائمًا يثبت في الذمة فلا يتعين بالتعين.
ثم قال (ص 26) :
وإذا اشترى مائة فلس بدرهم فنقد الدرهم وقبض من الفلوس خمسين، وكسدت الفلوس بطل البيع في الخمسين النافقة؛ لأنها لو كسدت قبل أن يقبض منها شيئًا بطل العقد في الكل، فكذلك إذا كسدت قبل أن يقبض بعضها اعتبارًا للبعض في الكل، وعلى قول زفر إذا كانت معينة حتى جاز العقد لا يبطل العقد بالكساد؛ لأن العقد يتناول عينها والعين باقية بعد الكساد وهو مقدور التسليم ولكنا نقول: العقد تناولها بصفة الثمنية لما بينا أنها ما دامت رائجة فهي تثبت في الذمة ثمنًا وبالكساد تنعدم منها صفة الثمنية ففي حصة ما لم يقبض انعدم أحد العوضين، وذلك مفسد للعقد قبل القبض، وكان صفة الثمنية في الفلوس كصفة المالية في الأعيان، ولو انعدمت المالية لهلاك المبيع قبل القبض أو بتخمر العصير فسد العقد، ثم يرد البائع النصف درهم الذي قبضه ففساد العقد فيه وللمشتري أن يشتري منه بذلك نصف درهم ما أحب؛ لأنه دين له في ذمته وجب بسبب القبض فكان مثل بدل القرض.
ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت لم يفسد البيع؛ لأن صفة الثمنية قائمة في الفلوس وإنما تعتبر رغائب الناس فيها بذلك لا يفوت البدل ولا يتعيب وللمشتري ما بقي من الفلوس ولا خيار له في ذلك.
ثم قال (ص 28، 30) :
وإن اشترى بدرهم فلوسًا وقبضها ولم ينقد الدرهم حتى كسدت الفلوس فالبيع جائز والدرهم دين عليه؛ لأن العقد في الفلوس: قد انتهى بالقبض وصفة الدرهم لم تتغير بكساد الفلوس فبقي دينًا على حاله وإن نقد الدرهم ولم يقبض الفلوس حتى كسدت في القياس هو جائز أيضًا؛ لأن بالكساد لا تتغير عينها ولا يتعذر تسليمها إلا بالعقد وفي الاستحسان بطل العقد لفوات صفة الثمنية في الفلوس قبل القبض وعليه أن يرد الدرهم؛ لأنه مقبوض في يده بسبب فاسد.
ولو اشترى فاكهة بالفلوس وقبض ما اشترى ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها فالبيع ينتقض استحسانًا؛ لأنها تبدلت معنى حين خرجت عن أن تكون ثمنًا وماليتها كانت بصفة الثمنية ما دامت رائجة فبفوتها تفوت المالية فلهذا يبطل العقد ويرد ما قبضه إن كان قائمًا أو قيمته إن كان هالكًا. وبعض المتأخرين رحمهم الله يقول: معنى قوله البيع ينتقض أنه يخرج من أن يكون لازمًا ويتخير البائع في نقضه لما عليه من الضرر عند كساد الفلوس وقد حصل ذلك قبل قبضه فيتخير. أما أصل المالية فلا ينعدم بالكساد فيبقى العقد كذلك والأول أصح؛ لأن انعقاد هذا العقد لم يكن باعتبار مالية قائمة بعين الفلوس وإنما كان باعتبار مالية قائمة بصفة الثمنية فيها وقد انعدم ذلك، وعن أبي يوسف أن هنا البيع لا ينتقض بخلاف ما إذا اشترى بدرهم فلوسًا؛ لأن هنالك بعد الكساد لا يجوز ابتداء ذلك العقد؛ لأنها بالكساد تصير " مبيعة " - كذا في النسخة المطبوعة التي بين أيدينا ولعل صوابه:" معيبة " - وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز وهنا ابتداء البيع بعد الكساد يجوز؛ لأن ما يقابلها من الفاكهة مبيع بالفلوس الكاسدة بمقابلة البيع يجوز أن تجعل ثمنًا باعتبار أنه عددي متقارب كالجوز وغيره.
وإن اشترى فاكهة بدانق فلس، والدانق عشرون فلسًا، فلم يرد الفلوس حتى غلت أو رخصت فعليه عشرون فلسًا لأن بالغلاء والرخص لا تنعدم صفة الثمنية وصار هو عند العقد بتسمية الدوانق مسميًا ما يوجد به من الفلوس وذلك عشرون ولو قد صرح بذلك القدر لم يتغير العدد بعد ذلك بغلاء السعر ورخصه وهذا مثله.
وإن اشترى فلوسًا بدرهم فوجد فيها فلسًا لا ينفق وقد نقد الدرهم فإنه يستبدله؛ لأنه بمقتضى العقد استحق فلوسًا نافقة، وإن لم يستبدله حتى افترقا لم يبطل العقد فيه؛ لأن ما بإزائه من الدرهم مقبوض في الصرف لأنه لو اشترى دينارًا بعشرة دراهم، ثم وجد بعض الدراهم زيوفًا قبل الاقتراض كان له أن يستبدله وإن لم يستبدله حتى تفرق لم يبطل العقد فهذا قياسه وإن لم يكن نقد الدراهم استبدله أيضًا ما لم يتفرقا؛ لأن الدينية إلى آخر المجلس في البدلين عفو وإن كانا قد تفرقا، وهو فلس لا يجوز مع الفلوس رجع بحصته من الدراهم كما في الصرف وإن وجد بعض البدل ستوقًا بعد الافتراق ينتقض القبض فيه من الأصل وما بإزائه غير مقبوض فكان دينًا بدين بعد المجلس وإن كان يجوز معها في حال ولا يجوز في حال استبدله في المجلس قبل أن يتفرق؛ لأنه بمنزلة الزيوف في الدراهم، وقد بينا في الصرف والسلم أنه إذا وجد القليل زيوفًا فاستبدل به في مجلس الرد جاز العقد فجعل اجتماعهما في مجلس الرد كاجتماعهما في مجلس العقد فهذا قياسه وإن استحق منها شيء رجع بحصته من الدرهم بمعنى إذا كان نقد الدرهم بعد الافتراق؛ لأنه بالاستحقاق ينتقض القبض فيه من الأصل فتبين أن الافتراق في ذلك القدر كان عن دين بدين.
وإن استقرض عشرة أفلس ثم كسدت تلك الفلوس لم يكن عليه إلا مثلها في قول أبي حنيفة قياسًا. وقال أبو يوسف ومحمد: قيمتها من الفضة استحسانًا؛ لأن الواجب عليه بالاستقراض مثل المقبوض والمقبوض فلوسًا هي ثمن وبعد الكساد يفوت صفة الثمنية بدليل البيع فيتحقق عجزه عن رد مثل ما التزم فيلزمه قيمته كما لو استقرض شيئًا من ذوات الأمثال فانقطع المثل من أيدي الناس بخلاف ما إذا غلت أو رخصت؛ لأن صفة الثمنية لا تنعدم بذلك ولكن تتغير رغائب الناس فيها وذلك غير معتبر كما في البيع، وأبو حنيفة يقول: الواجب في ذمته مثل ما قبض من الفلوس وهو قادر على تسليمه، فلا يلزمه رد شيء كما إذا غلت أو رخصت وهذا لأن جواز الاستقراض في الفلوس لم يكن باعتبار صفة الثمنية بل لكونها من ذوات الأمثال، ألا ترى أن الاستقراض جائز في كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب كالجوز والبيض وبالكساد لم يخرج بأن يكون من ذوات الأمثال بخلاف البيع فقد بينا أن دخولها في العقد هناك باعتبار صفة الثمنية فقد فات ذلك بالكساد يوضحه أن بدل القرض في الحكم كأنه غير المقبوض، إذا لو لم يجعل كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وبذلك لا يجوز فيصير من هذا الوجه كأنه غصب منه فلوسًا فكسدت وهنالك برئ برد عينها فهنا أيضًا يبرأ برد مثلها.
ثم عند أبي يوسف إذا وجبت القيمة فإنما تعتبر قيمتها من الفضة من وقت القبض، وعند محمد إذا وجبت القيمة فإنما تعتبر قيمتها بآخر يوم كانت فيه رائجة فكسدت وهذا بناء على ما إذا أتلف شيئًا من ذوات الأمثال فانقطع المثل على أيدي الناس، فهناك عن أبي يوسف يعتبر قيمته عند الإتلاف، وعند محمد بآخر يوم كان موجودًا فيه فانقطع فقد بينا هذا في كتاب الغصب.
وإن استقرض دانقًا فلوسًا ورخصت أو غلت، لم يكن عليه إلا مثل عدد الذي أخذ؛ لأن الضمان يلزمه بالقبض والمقبوض على وجه القرض مضمون بمثله، وكذلك لو قال: أقرضني عشرة دراهم بدينار، فأعطاه عشرة دراهم عليه مثلها ولا ينظر إلى غلاء الدراهم ولا إلى رخصها.
وقال ابن عابدين في رسائله:2/59، (رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود) بعد أن ساق أقوالًا عدة للحنفية في حكم البيع إذا انقطع النقد المشترى به أو تغير.
والحاصل أنها إما أن لا تروج، وإما أن تنقطع، وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص، فإن كان كاسدة لا تروج يفسد البيع وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع وإن زادت فالبيع على حالة ولا يتخير المشتري كما سيأتي وكما إن انتقصت لا يفسد البيع وليس للبائع غيرها، وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه. وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشاي، في رسالة سماها " بذل المجهود في مسألة تغير النقود "، اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس، وكان كل منهما نافقًا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع والانقطاع عن أيدي الناس بالكساد وحكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائما ومثله إن كان هالكًا وكان مثليًّا وإلا فقيمته وإن لم يكن مقبوضًا، فلا حكم لهذا البيع أصلًا، وهذا عند الإمام الأعظم - يعني أبا حنيفة - وقالا - يعين أبا يوسف ومحمد بن الحسن -: لا يبطل البيع لأن المتعذر إما هو التسليم بعد الكساد وذلك لايوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئا بالرطبة- هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: بالرطب - ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه، وجبت قيمته لكن أبي يوسف عند البيع وعند محمد يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها وفي " ذخيرة الفتوى " على قول أبي يوسف وفي " المحيط " و" التتمة " و " الحقائق " بقول محمد يفتي رفقًا بالناس ولأبي حنيفة الثمنية بالاصطلاح فيبطل الزوال الموجب فيبقى البيع بلا ثمن والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت بخلاف الرطب فإنه يعود غالبًا في العالم القابل بخلاف النحاس - يشير إلى الفلوس المسكوكة منه - فإنه بالكساد رجع إلى أصله وكان الغالب عدم العود.
ثم قال (ص 60) :
وفي (الذخيرة البرهانية)
…
بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يخير المشتري ، وإذا انقضت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع. وفي (المنتفى) : إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها.. ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع. انتهى. وقوله: يوم وقع البيع، أي في صورة البيع. وقوله: يوم وقع القبض، أي في صورة القبض كما نبه عليه في (النهر) .
ثم قال: وقال العلامة الغزي عقب ما قدمناه عنه، هذا إذا كسدت أو انقطعت أما إذا غلت قيمتها أو " انقطعت " - الظاهر أن في هذا خطأ صوابه:" انتقضت " - فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع. كذا في (فتح القدير) .
وبعد أن ساق نقولًا أخرى حول اختلاف فتوى أبي حنيفة وصاحبيه في هذا الشأن قال: (ص 61، 62) :
ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها كما يظهر بالتأمل، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس، وفي بعضها ذكر العدالي معها، فإن العدالي كما في البحر عن البناية بفتح العين المهمة وتخفيف الدال وكسر اللام، الدراهم المنسوبة إلى العدل وكأنه اسم ملك ينسب إليه درهم فيه غش، وكذا رأيت التقييد بالغالبة الغش في غالبة البيان.
ثم قال: ويدل عليه تعليلهم قول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكساد؛ لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمنًا بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح فلم تبق ثمنًا فبقي البيع بلا ثمن فبطل. ويدل عليه أيضًا تعبيرهم بالغلاء والرخص تقوم بغيرها، وكذا اختلافهم في الواجب رد المثل أو الثمنية، فإنه حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف معنى بل كان الواجب رد مثل بلا نزاع أصلًا.
ثم نقل عن " الهداية " قول صاحبها: وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة خلافًا لهما- يعني أبا يوسف 3 ومحمد 3 -، وهو نظير الاختلاف الذي بيناه، ولو استقرض فلوسًا فكسدت عليه مثلها. قال في (غاية البيان) : قيد بالكساد احتزازًا عن الرخص والغلاء لأن الإمام الأسبيجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. وقال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها.قال أبو يوسف: على قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها - يعني النجارية والطبرية واليزيدية - وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها. قال القدري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا، فالدراهم النجارية فلوس على صفة مخصوصة، والنجارية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها فتجري مجرى الفلوس فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس. انتهى ما في (غاية البيان) ملخصًا.
وبعد إن ساق نقولًا حول الدراهم الخالصة والمغلوبة الغش قال: والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعًا ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرضا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها.
وبهذا يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى.
ثم قال: (ص 65) :
بقي شيء ينبغي التنبيه عليه: وهو أنهم اعتبروا العرف هنا حين أطلقت الدراهم وبعضها أروج فصرفوه إلى المتعارف ولم يفسدوا البيع، وهو تخصيص بالعرف القولي، وهو من أفراد ترك الحقيقة. قال المحقق ابن الهمام في (تحرير الأصول) : العرف العملي مخصص عند الحنفية خلافًا للشافعية كحرمت الطعام وعادتهم أكل البر انصرف إليه وهو - أي قول الحنفية - أوجه. أما التخصيص بالعرف القولي فاتفاق كالدابة على الحمار والدرهم على النقد الغالب. انتهى. قال شارحه ابن أمير حاج: العرف القولي هو أن يتعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذلك المعنى. انتهى. وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقروش وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة ومنها كبار كل واحد باثنين ومنها أنصاف وأرباع، والقرض الواحد عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلبت - الظاهر أنه خطأ صوابه: غلت - تلك القطع وزادت قيمتها فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكبير بمائة مصرية، وبقي عرفهم على إطلاق القرش الواحد ويريدون به أربعين مصرية كما كان في الأصل، ولكن لا يريدون عين المصاري بل يطلقون القروش وقت العقد ويدفعون بمقدار ما سموه في العقد تارة من المصاري وتارة من غيرها ذهبا أو فضة فصار القرش عندهم بيانا لمقدار الثمن من النقود الرائجة المختلفة المالية لا لبيان نوعه ولا لبيان جنسه، فيشتري أحدهم بمائة قرش ثوبا مثلا فيدفع مصاري كل قرش بأربعين، أو يدفع من القروش الصحاح أو من الريال، أو من الذهب على اختلاف أنواعه بقيمته المعلومة من المصاري. هذا شاع في عرفهم فلا يفهم أحد منهم أنه إذا اشترى بالقروش فالواجب عليه دفع عينها، فقد صار ذلك عندهم عرفًا قوليًّا فيخصص كما نقلناه من التحرير.
وقال ابن قدامة (المغني: 4/13) :
وإذا باع شيئًا من مال الربا بغير جنسه وعلة ربا الفضل فيهما واحدة لم يجز التفرق قبل القبض، فإن فعلا بطل العقد وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا وكبيع ذلك بأحد النقدين.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد)) . رواه مسلم. وقال عليه السلام: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كما شئتم يدًا بيد)) .
وروى مالك بن أوس بن الحدثان، أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ يقلبها في يديه، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر يسمع ذلك، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء)) قال: متفق عليه (1) ،والمراد به القرض بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة، ولهذا فسره عمر به؛ ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب والفضة.
(1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف ".
ثم قال (ص 21، 22) :
والمرجع في ذلك - أي في معرض المكيل والموزون - إلى العرف بالحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا قال الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة، أن الاعتبار في كل بلد بعادته.
ولنا ما روى عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة)) . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يحمل كلامه على بيان الأحكام؛ لأن ما كان مكيلًا بالحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم في تفاضل الكيل إليه، ولا يجوز أن يتغير بعد ذلك وهكذا الموزون وما لا عرف له بالحجاز يحتمل وجهين، أحدهما: يرد على أقرب الأشياء شبهًا به بالحجاز كما أن الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها وهو القياس. والثاني: يصير عرفه في موضعه، فإن لم يكن له في الشرع حد كان المرجع فيه إلى العرف كالقبض والإحراز والتفرق، وهذا قول أبي حنيفة. وعلى هذا إن اختلفت البلاد فالاعتبار بالغالب فإن لمن يكن غالب بطل هذا الوجه وتعين الأول، ومذهب الشافعي على هذين الوجهين، فالبر والشعير مكيلان منصوص عليهما، بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((البر بالبر، وكيلًا بكيل، والشعير بالشعير، كيلًا بالكيل)) ، وكذلك سائر الحبوب والأبازيز والأشنان والجص والنورة وما أشبهها، والتمر مكيل هو من المنصوص عليه وكذلك سائر النخل من الرطب والبسر وغيرهما، وسائر ما تجب فيه الزكاة من الثمار مثل الزبيب والفستق والبندق والعناب والمشمش والبطم - أي الحبة الحمراء - والزيتون واللوز والملح مكيل، وهو من المنصوص عليه بقوله عليه السلام:((الملح بالملح مدي بمدي، والذهب والفضة موزونان)) ،ثبت ذك بقوله عليه السلام:((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن)) ، وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد والنحاس والصفر - وهو نوع من النحاس والصفر - والرصاص والزئبق والزجاج، ومنه الإبريسم والقطن والكتان والصوف وغير ذلك، وما أشبهه، ومنه الخبز واللحم والشحم والجبن والزبد والشمع، وما أشبهه، وكذلك الزعفران والمعصفر والورس، وما أشبه ذلك.
ثم قال (ص 23) :
وأما غير المكيل والموزون فما لم يكن أصل في الحجاز في كيل ولا وزن ، ولا يشبه ما جرى فيه العرف بذلك، كالثياب والحيوان والمعدودات من الجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار، وسائر الخضروات والبقول والسفرجل والتفاح والكمثرى ونحوها فهذه المعدودات أن اعتبرنا التماثل فيها، فإنه يعتبر التماثل في الوزن " أخسر " - لعل صوابه: أحسر بمهملة - ذكره القاضي في الفواكه الرطبة، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر قالوا: يعتبر ما أمكن كيله بالكيل؛ لأن الأصل الأعيان الأربعة، وهي مكيلة ومن شأن الفرع أن يرد إلى أصله بحكمه، والأصل حكمه تحرير التفاضل بالكيل فكذلك يكون حكم فروعها.
ولنا أن الوزن "أخسر" فوجب اعتباره في غير المكيل والموزون كالذي اعتبر كيله وإنما اعتبر الكيل في المنصوص عليه، فإنه يقدر به في العادة وهذا بخلافه.
ثم قال (ص 57، 59) :
وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان، أظهرهما الجواز نقل صالح عنه - أي عن أحمد - في دراهم، يقال لها المسيبية عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة، فقال: إذا كان شيئًا اصطلحوا عليه مثل الفلوس، واصطلحوا عليها فأرجو أن لا يكون بها بأس، والثانية التحريم، قال حنبل: في دراهم يخلط فيها مس ونحاس يشترى بها ويباع، فلا يجوز أن يبتاع بها أحد كلما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام.
وقال أصحاب الشافعي: إن كان الغش مما لا قيمة له، جاز الشراء بها وإن كان مما له قيمة ففي جواز إنفاقها وجهان.
واحتج من منع إنفاق المغشوشة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) (1) وأن عمر رضي الله عنه نهى عن بيع نفاية بيت المال؛ ولأن المقصود فيه مجهول أشبه تراب الصاغة.
والأولى أن يحمل كلام أحمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر غشه واصطلح عليه، فإن المعاملة به جائزة؛ إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما، فلا يمنع من بيعهما كما لو كان متميزين؛ ولأن هذا االمستفيض في " الأعصار " - لعل صوابه في الأمصار بميم بدل العين - جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر، وليس شراؤه بها غشًّا للمسلمين ولا غررًا لهم، والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة.
(1) الحديث بهذا اللفظ أخرجه مسلم (الصحيح 1/99، 1001) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القارئ، حدثنا أبو الأحوص محمد بن حيان، حدثنا ابن أبي حازم، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا) .
ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس به، فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين، وقد أشار أحمد إلى هذا في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف ما يصنع بها؟ قال: يسبكها، قيل له: فيبيعها بدنانير؟ قال: لا قيل: يبيعها بفلوس؟ قال: لا قيل: فبسلعة؟ قال: لا، إني أخاف أن يغر به مسلمًا، قيل لأبي عبد الله: إني أخاف أن يغر بها مسلمًا، وقال: ما ينبغي له لأنه يغر به مسلمًا، ولا أقول: إنه حرام على تأويل وذلك إنما كرهته لأنه يغر بها مسلمًا فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين فإن مشتريها خلطها بدراهم جيدة واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانت مما اصطلح على إنفاقه لم يكن نفاية.
فإن قيل: فقد روي عن عمر، أنه قال: من زافت عليه دراهمه، فليخرج بها إلى البقيع فليشتر بها سحق الثياب (1)، وهذا دليل على جواز إنفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها قلنا: قد قال أحمد معنى زافت عليه دراهمه - أي نفيت - ليس أنها زيوف فيتعين حمله على هذا جمعًا بين الروايتين ويحتمل أنه أراد ما ظهر غشه وبان زيفه بحيث لا يخفى على أحد، لا يحصل بها تغير.
وإن تعذر تأويلها تعارضت الروايتان عنه ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى.
(1) قال عبد الرازق (المصنف: 8/225، ح 14983) : عن طريق ابن أبي ليلى
…
أيما رجل زافت عليه ورقة فلا يخرج يحالف الناس عليها أنها طيوب ولكن ليقل: من يبعني بهذا الزيوف سحق ثوب. ورواه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (7/216، ح 2945) : بمثل سند عبد الرازق ولفظه عنده: من زافت عليه ورقة فلا يحالف الناس أنها طيبة، ولكن ليخرج بها إلى السوق فليقل: من يبيعني هذه الدراهم الزيوف بنحو ثوب أو حاجة من حاجته.
ولا فرق بين ما كان غشه ذا بقاء وثبات كالرصاص والنحاس؛ وما لا ثبات فيه كالزرنيخية والأندرانية، وهو زرنيخ ونورة يطلى عليه فضة فإذا أدخل النار استهلك الغش وذهب.
ثم قال (ص 59) :
الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنهم من أهل العلم على إن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا إن الصرف فاسد، والأصيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) ، وقوله عليه السلام ((: بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد)) . ((ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا، ونهى أن يباع غائب منها بناجز)) كلها أحاديث صحاح.
ثم قال (217) :
فإن اختلفت في صفة الثمن، رجع إلى نقد البلد نص عليه - أي أحمد - في رواية الأثرم لأن الظاهر أنهما لا يعقدان إلا به.
وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها نص عليه في رواية جماعة فيحتمل أنه أراد إذا كان هو الأغلب والمعاملة به أكثر - لأن الظاهر وقوع المعاملة به، فهو كما لو كان في البلد نقد واحد، ويحتمل أنه ردهما إليه مع " التسوي " - لعل الأصح التساوي - لأن فيه توسطًا بينهما وتسوية بين حقيهما وفي العدول إلى غيره سبيل على أحدهما فكان التوسط أولى وعلى مدعي ذلك اليمين أن ما قاله خصمه محتمل فتجب اليمين لنفي ذلك الاحتمال كوجوبها على المنكر، وإذا لم يكن في البلد إلا النقدان متساويان، فينبغي أن يتحالفا؛ لأنهما اختلفا في الثمن على وجه، لم يترجح قول أحدهما فيتحالفان كما لو اختلفا في قدره.
ثم قال (ص 351) :
وإذا اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن، لم يجز؛ لأن القرض فيها يوجب رد المثل فإذا لم يعرف المثل لم يكن القضاء، وكذلك لو اقترض مكيلًا أو موزونًا جزافًا لم يجز كذلك ولو قدره بمكيال بعينه أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز؛ لأنه لا يأمن تلف ذلك فيتعذر رد المثل.
ثم قال (ص 354) :
وكل قرض شرط فيه أن يزيده، فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أم هدية، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة قال عبد الرزاق (المصنف: 8/145، ح 14658) : أخبرنا معمر وابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: استقرض رجل خمسمائة دينار على أن يفقره ظهر فرسه، فقال ابن مسعود: ما أصبت من ظهر فرسه فهو ربا.
وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى: 5/531)، وتعقبه بقوله: ابن سيرين عن عبد الله منقطع.
وقال أيضًا (نفس المرجع: ص 349، 350) : أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، حدثنا تمام بن غالب، حدثنا عباد بن موسى الأزرق، حدثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، حدثني كلثوم بن الأقر، عن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب، يا أبا المنذر إني أريد الجهاد فآتي العراق فأقرض، قال: إنك بأرض الربا فيها كثير فاش فإذا أقرضت رجلًا فأهدى إليك هدية فخذ قرضك واردد إليه هديته.
ثم قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن الوليد، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال في رجل كان له على رجل عشرون درهمًا فجعل يهدي إليه وجعل كلما أهدى إليه هدية باعها حتى بلغ ثمنها ثلاثة عشر درهمًا، قال ابن عباس: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا يحيى بن محمد، حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، قال: كان لنا جار سماك عليه لرجل خمسون درهمًا، فكان يهدي إليه السمك، فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك، فقال: قاصه بما أهدى إليك؛ ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا أو نقدًا - جاء في النسخة المطبوعة: أو بقدًا وهو خطأ - ليعطيه خيرًا منه وإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، وكان يحمله مؤونة لم يجز لأنه زيادة، وإن لم يكن لحمله مؤونة جاز، وحكاه ابن المنذر، عن علي وابن عباس والحسن بن على وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والأوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز ومعناها: اشتراط القضاء في بلد آخر وروى عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعًا. وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه. فسئل عن ذلك ابن عباس؟ فلم ير به بأسًا. وروى عن علي رضي الله عنه: أنه سئل عن مثل هذا؟ فلم ير به بأسًا. وممن لم ير به بأسًا: ابن سيرن والنخعي، رواه كله سعيد.
وقال علاء الدين المرداوي (الإنصاف: 5/127، 128. في معرض كلامه على رد المقترض ما اقترضه بالمثل أو بالقيمة) :
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن له رده سواء رخص السعر أو غلا، وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب.
وقيل: يلزمه القيمة إن رخص السعر.
قوله: (ما لم يتعيب أو يكون فلوسًا أو مكسرة وحرمها السلطان) ، فالصحيح من المذهب أن له القيمة أيضًا سواء اتفق الناس على تركها أو لا، وعليه أكثر الأصحاب وجزم به كثير منهم وقدمه في "المغني"، و "الشرح "، و "الفروع"، و " الرعايتين "، و "الحاويين".
وقال القاضي: إن اتفق الناس على تركها فله القيمة، وإن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها.
قوله: (فيكون له القيمة وقت القرض) ، هذا المذهب نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب وجزم به في "الإرشاد "، و " الهداية"، و "المذهب"، و " الخلاصة"، و " الكافي "، و" المحرر "، و "الوجيز "، و " شرح ابن رزين "، و " المنور "، و " تذكرة ابن عبدوس"، وغيرهم. وقدمه في " التلخيص "، و " الفروع "، و " الرعايتين " و " الحاويين "، و "المغني "، و " الشرح "، و " الفائق " وغيرهم. واختاره القاضي وغيره، وقيل له القيمة وقت تحريمها، قاله أبو بكر في " التنبيه "، وقال في " المستوعب "، وهو الصحيح عندي، قال في " الفروع " وغيره: والخلاف فيما إذا كانت ثمنًا، وقيل له القيمة وقت الخصومة.
فائدتان: إحداهما، قوله:(فيكون له القيمة) ، اعلم أنه إذا كان مما يجري فيه ربا الفضل، فإنه يعطي مما لا يجري فيه الربا، فلو أقرضه دراهم مكسرة فحرمها السلطان أعطى قيمتها ذهبًا، وعكسه بعكسه صرح به في " الإرشاد " و "المبهج"، وهو واضح، قال في " الفروع ": فله القيمة من غير جنسه.
والثانية ذكر ناظم المفردات هنا مسائل تشبه مسألة القرض، فأحببت أن أذكرها هنا لعظم نفعها وحاجة الناس إليها:
والنقد في المبيع حيث عين وبعد ذا كساده تبين
نحو الفلوس ثم لا يعامل بها فمنه عندنا لا يقبل
بل قيمة الفلوس يوم العقد والقرض أيضًا هكذا في الرد
ومثله من رمى عود الثمن برده المبيع خذ بالأحسن
قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور والنص في القرض عيانًا قد ظهر
والنص في القيمة في بطلانها لا في ازدياد القدر أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أدرى كدانق صار عشرة
والشيخ في زيادة أو نقص مثلًا كالقرض في الغلا والرخص
وشيخ الإسلام فتى تيمية قال: قياس القرض من جلية
الطرد في الديون كالصداق وعوض في الخلع والأعتاق
والغصب والصلح عن القصاص ونحو ذا طرا بلا اختصاص
قال: وفيه جاء نص المطلق حرره الأثرم إذ يحقق
وقولهم إن الكساد نقصًا فذا كف نقص النوع عابت رخصا
قال: ونقص النوع ليس يعقل فيما سوى القيمة ذا لا يجهل
وخرج القيمة في المثلي بنقص نوع ليس بالخفي
واختاره وقال عدل ماضي خوف انتظار العسر بالتقاضي
لحاجة الناس إلى ذي المسألة نظمتها مبسوطة مطولة
لعل هذه النماذج المختلفة من الاجتهادات والأحكام في عصور وبيئات، وللمجتهدين من مذاهب واتجاهات مختلفة، توضح ما ألمعنا إليه في الفصل السابق من التباس معالم ماهية النقد وعدم التمايز بين الماهية النقدية وعينية النقد، أو المادة التي تصنع منها النقود على اختلافها في مدارك الفقهاء التباسًا ترتبت عنه تلقائيًّا وطبيعيًّا اضطراب عجيب في فتواهم وأحكامهم المتصلة، بألوان من المعاملات، لا سيما ما كان منها تعاملًا بغير الذهب والفضة من النقود التي كانت حديثة نسبيًّا لدى العرب خاصة ولدى المسلمين المتأثرين عامة بالتصورات العربية عامة.
ويتضح هذا الالتباس بأجلى مظاهره في تأثرهم وهم يصدرون أحكامهم تلك تأثرًا واضحًا بصيغة لفظية كان ينبغي أن لا يكون لها أي تأثير هي صيغة " اشترى" و " باع". ذلك بأن هذه الصيغة عرفها العرب واستعملها القرآن الكريم نفسه، وكذلك السنة النبوية في معناها اللغوي الأصيل، وهي التبادل أي مبادلة الشيء بالشيء، لذلك جاءت النصوص المتصلة بـ "الصرف"، في الحديث النبوي الشريف، وفي آثار الصحابة معبرًا فيها بـ " الشراء " و " البيع "، ولسنا بحاجة إلى أن نسوق أمثلة منها بحسبنا أن نحيل على الفصل " أحاديث في الصرف"(1) ، والفصل التالي له " أحكام اضطراب العملة في آثار الصحابة قولًا وعملًا "، بيد أننا نضيف هنا إلى ما في الفصلين المذكورين آنفًا أثرًا نحسبه يعكس طبيعة الالتباس الذي نحن بصدده، والذي حمل الكثير من الفقهاء والمتفقهة على الخلط بين ماهية النقد وعينية النقود، وعلى الاضطراب في إصدار الأحكام المتعلقة بالفلوس ذلكم هو أثر عبد الله بن الصامت الذي أخرجه كل من أحمد وابن سعد، ولفظه من أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: لو ادخرته لحاجة تنوبك أو لضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلى أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله (2)
(1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف ".
(2)
انظر طرق هذا البحث في بحثنا " الإسلام وانتزاع الملك للمصلحة العامة " في فصل (في المال حق سوى الزكاة) .
والظاهر أن الفلوس في العهد الأول، لم تكن تستعمل إلا في العملة الصغيرة التي لا تبلغ نصاب الزكاة، ولا أن تكون ذات أهمية في تقويم المال، ونتيجة لذلك استقر الوهم لدى كثير من الفقهاء والمتفقهة بأنها وسيلة للتبادل، لا تبلغ أن كون لها حكم " النقد " في الصرف، ولا في غيره من المعاملات على حين أن يسيرًا من التدبر في الأوضاع المالية للعهد الأول والثاني والثالث من عهود الدولة الإسلامية حري بأن ينتهي إلى حقيقة حاسمة في هذا المجال هي أن القوة الاقتصادية ووفرة الموارد المالية للدولة، كانا عاملين أساسين في تحقيق وفرة الذهب والفضة بين أيدي الناس على اختلاف طبقاتهم، وفرة تغنيهم عن اعتبار الفلوس إلا أداة صغيرة لا تبلغ أن تكون لها قيمة مالية فعالة.
بيد أن انعدام التدبر جعل بعض الفقهاء والمتفقهة يسقطون الزكاة عن الفلوس حتى وإن بلغت قيمتها نصاب الزكاة في النقدين الذهب والفضة، ويضطربون في اعتبار الصرف بها وفيها خاضعًا وغير خاضع لأحكام المثلية والتنجز وما إليها من الأحكام الحاجزة له عن المعاملات الربوية.
وقد ارتأينا أن نقف هذه الوقفة القصيرة في نهاية هذا الفصل؛ لأنها في تقديرنا تمهيد ضروري لما سيأتي عند بحثنا لأحكام تغيير العملة.
ولعل مما يزيد إيضاحًا لطبيعة تصورهم للنقد واضطرابهم في الأحكام التي يصدرونها نتيجة لهذا التصور ما سنسوقه في الفصل التالي من نماذج لأحكامهم في تزييف العملة، ففي هذه الأحكام صور أخرى لعدم التمييز بين الماهية النقدية وعينية النقود أو مادتها.
(12)
سك النقد ملك للمجتمع الإسلامي
وحق السلطان في عقوبة التزييف
قال البلاذري (فتوح البلدان: ص 657، 659) :
حدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك بن مروان أول من ضرب الذهب والورق بعد عام المجاعة، قال: قلت لأبي: أرأيت أن ابن مسعود كان يأمر بكسر الزيوف، قال: تلك الزيوف أنضربها الأعاجم فغشوا فيها.
ثم قال: حدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن قدامة بن موسى أن عمر وعثمان، كانا إذا وجدا الزيوف في بيت المال جعلاها فضة.
حدثني الوليد بن صالح، عن الواقدي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عمر بن عبد العزيز أوتي برجل يضرب على غير سكة السلطان فعاقبه وسجنه، وأخذ حديده فطرحه بالنار.
حدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن عبد الملك بن مروان، أخذ رجلًا يضرب على غير سكة المسلمين، فأراد قطع يده، ثم ترك ذلك فعاقبه، قال المطلب: فرأيت من بالمدينة من شيوخنا، حسنوا ذلك من فعله وحملوه، قال الواقدي: وأصحابنا يرون فيمن نقش على خاتم الخلافة في الأدب والشهرة، ولا يرون عليه قطعًا وذلك رأي أبي حنيفة، والثوري، وقال مالك وابن أبي ذئب وأصحابهما: نكره قطع الدراهم إذا كانت على الوفاء وننهى عنه لأنه من الفساد، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بقطعها إذا لم يضر ذلك للإسلام وأهله.
حدثني عمرو الناقد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين، أن مروان بن الحكم أخذ رجلًا يقطع الدراهم، فقطع يده فبلغ ذلك زيد بن ثابت، فقال: لقد عاقبه، قال إسماعيل: يعني دراهم فارس.
قال محمد بن سعد: وقال الواقدي: عاقب أبان بن عثمان، وهو على المدينة من يقطع الدراهم ضربه ثلاثين، وطاف به، وهذا عندنا فيمن قطعها ودس فيها المفرغة والزيوف.
وحدثني محمد عن الواقدي، عن صالح بن جعفر، عن ابن كعب في قوله:{أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [آية 87 من سورة هود] . قال: قطع الدراهم.
حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: ذكر لابن المسيب رجل يقطع الدراهم، فقال سعيد: هذا من الفساد في الأرض.
حدثنا عمرو الناقد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: كان الناس وهم أهل كفر قد عرفوا موضع هذا الدرهم من الناس فجردوه، وأخلصوه، فلما صار إليكم غششتموه وأفسدتموه، ولقد كان عمر بن الخطاب، قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: إذن لا بعير فأمسك.
وقال الماوردي (الأحكام السلطانية: ص 155، 156) :
وإذا خلص العين والورق من غش، كان هو المعتبر في النقود المستحقة والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعه المأمون من تبديله وتلبيسه هو المستحق دون نقار الفضة وسبائك الذهب؛ لأنه لا يوثق بهما إلا بالسك والتصفية والمطبوع موثوق به، ولذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات، ولو كانت المطبوعة مختلفة القيمة مع اتفاقها في الجودة، فطلب عامل الخارج بأغلاها قيمة نظر فإن كانت من ضرب سلطان الوقت أجيب إليه لأن في العدول عن ضربه مباينة له في الطاعة، وإن كان من ضرب غيره نظر فإن كان هو المأخوذ في خراج من تقدمه أجيب إليه استصحابًا لما تقدم، وإن لم يكن مأخوذًا فيما تقدم كانت المطالبة به غبنًا وحيفًا.
وأما مكسور الدراهم والدنانير، فلا يلزم أخذه للالتباس وجواز اختلاطه، ولذلك نقصت قيمتها عن المضروب الصحيح، واختلف الفقهاء في كراهية كسرها فذهب مالك وأكثر فقهاء المدينة إلى أنه مكروه؛ لأنه من جملة الفساد في الأرض وينكر على فاعله.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجارية بينهم (1) .
والسكة هي الحديدة التي يطبع عليها الدراهم ولذلك سميت الدراهم المضروبة سكة، وقد كان ينكر ذلك ولاة بني أمية حتى أسرفوا فيه، فحكي أن مروان بن الحكم أخذ رجلًا طبع درهمًا من دراهم الفرس فقطع يده، وهذا عدوان محض، وليس له في التأويل مساغ.
وحكى الواقدي أن أبان بن عثمان كان على المدينة، فعاقب من قطع الدراهم وضربه ثلاثين سوطًا وطاف به، قال الواقدي: وهذا عندنا فيمن قطعها ودس فيها المفرغة والزيوف.
فإن كان الأمر على ما قاله الواقدي، فما فعله أبان بن عثمان ليس بعدوان؛ لأنه ما خرج به عن حد التعزير، والتعزير على التدليس مستحق، وأما فعل مروان فظلم وعدوان، وذهب أبو حنيفة وفقهاء العراق إلى أن كسرها غير مكروه، وقد حكى صالح بن حفص - وفي نسخة صالح بن جعفر (2) - عن أبي بن كعب في قوله تعالى:{أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [آية 87 من سورة هود] . قال: كسر الدراهم.
(1) لفظ الحديث كما أخرجه كل من أبي داود (السنن: 3/71، ح 449)، وابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/215، ح 2943) ، وابن ماجه (السنن: 2/761، ح 2363) ، عن طريق معتمر بن سليمان قال: سمعت محمد بن فضاء يحدث عن أبيه، عن علقمة، عن عبد الله، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، وعند ابن أبي شيبة، وابن ماجه عن " كسر" بدل " أن تكسر " عند أبي داود.
(2)
لم أقف على ترجمة لراوٍ أو مفسر لمن يسمى صالح بن حفص أو صالح بن جعفر.
ومذهب الشافعي رحمه الله قال: إن كسرها لحاجة لم يكره له، وإن كسرها لغير حاجة كره له؛ لأن إدخال النقص على المال من غير حاجة سفه، وقال أحمد بن حنبل: إذا كان عليه اسم الله عز وجل كره كسرها وإن لم يكن عليها اسمه لم يكره.
وأما الخبر المروي عن كسر السكة فكان محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة يحمله على النهي عن كسرها، لتعاد تبرًا فتكون على حالها مرصدة للنفقة، وحمله آخرون على النهي عن أخذ أطرافها قرضًا بالمقاريض؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام يتعاملون بها عددًا، فصار أخذ أطرافها بخسًا وتطفيفًا.
وقال الفراء (الأحكام السلطانية: ص 179، 184) :
وأما النقد فمن خالص الفضة، وليس لمغشوشه مدخل في حكمه، وقد كان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورق غير خالصة، إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفوًا لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوشة من الخالص.
وقد قال أحمد، في رواية حنبل: ولو أن رجلًا له على رجل ألف درهم أعطاه من هذه الدراهم، كان قد قضاه؛ لأنها ليست على ما يعرف الناس من صحة السكة بينهم ونقاء الفضة، ثم هل رأيت لو اختلفا؟ فقال: هذا لم يقضني وقال هذا: قد قضيتك فرجع إلى اليمين، أكان يحلف أنه قد أوفاه؛ لأنها ليست بوافية إلا بالفضة التي يتعامل بها المسلمون بينهم، فينظر فإن كان غشها يخفى لم يجز إنفاقها رواية واحدة وإن كان عينًا ظاهرًا فعلى روايتين: إحداهما المنع أيضًا، قال في رواية محمد بن إبراهيم - وقد سأله عن المزيفة فقال - لا يحل وقيل له: إنه يراها ويدري أي شيء هي. قال: الغش حرام، وإن بين وكذلك قال في رواية أبي الحارث ويوسف بن موسى، وقد سأله عن إنفاق المزيفة فقال: لا، وكذلك قال في رواية جعفر بن محمد: لا تنفق المكحلة حتى يستلمها،
ولا المزيفة والزيوف حتى يسبكها.
والرواية الثانية الجواز، قال في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث - في الرجل يبيع الدراهم فيها رديئة بدينار؟ قال - ما ينبغي له لأنه يغر بها المسلمين، فقال له الأثرم: ولا تقول: إنها حرام وإنما أكرهها لأنه يغر بها مسلمًا.
وقال أيضًا في رواية صالح في دراهم بحاري يقال لها " المسيبية" عامتها نحاس إلا شيئًا يسيرًا منها فضة، فقال: وإن كان شيئًا قد اصطلحوا عليه فيما بينهم مثل الفلوس التي قد اصطلح الناس عليها أرجو أن لا يكون به بأس.
فوجه المنع ما رواه أحمد بن حنبل، أن ابن مسعود باع نفاية بيت المال، فنهاه عمر فسبكها (1) ، ووجه الإباحة ما رواه أبو بكر بإسناده عن عمر، قال: ومن زافت عليه دراهم فليدخل السوق فليشتر سحق ثوب (2) .
وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث في رواية حنبل فقال: يقول عمر: من زافت عليه دراهم - يعني نفيت - ولم يكن عمر يأمر بإنفاق الرديئة، وهذا لم يكن في عهد عمر وإنما حدث بعده.
(1) قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/216، ح 2947) : حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: باع ابن مسعود نفاية بيت المال مرة ثم لقي عمر فلم يعد لذلك. وقد أخرجه أبو عبيد وابن زنجويه والبيهقي، والخبر عند بعضهم أطول من بعض لكن لا تتفاوت في المعنى.
(2)
انظر التعليق رقم: (1) في الصفحة 2063.
قلت: يغفر الله للإمام أحمد، فقد كانت في عهد عمر دراهم زيوف، مما صار إليهم من غنائم الفرس ودنانير زيوف مما صار إليهم من غنائم الروم، ولم يكن قد شاع التعامل بالسكة الإسلامية التي شرع عمر في ضربها، لكان طبيعيًّا أن تجيء في أنصبة الغنائم أو فيما يتداوله الغانمون أو في أرزاق بيت المال دراهم ودنانير زيوف، ولست أدري كيف غفل أحمد عن هذا إن صحت عنه الرواية المذكورة آنفًا.
ثم ساق الفراء ما نقلناه من قبل عن الماوردي من آثار فيما يتصل بالدراهم المكسورة، وكسرها والعقوبة على كسرها وتزييفها.
ثم قال: وروى ابن منصور أنه قال لأحمد: أن ابن الزبير قدم مكة فوجد بها رجلًا يقرض الدراهم فقطع يده، وكانت الدراهم تؤخذ برؤوسها بغير وزن فعده سارقًا، قال - يعني أحمد -: هذا إفراط في التعزير.
قلت: هذا تعليل صحيح - ورحم الله - أحمد فلسنا نراه إفراطًا في التعزيز كما رآه هو، وإنما هو العقاب الواجب على جناية التزييف، إما بقطع الدرهم إذا كان يتداول عدًّا، وإما بغشه إذا كان يتداول عينًا، ورحم الله الحسن فقد كان أبصر بشؤون المال وأقرب إلى تصور الحقيقة النقدية ووظيفتها فيما نلقناه عنه آنفًا عن طريق يونس بن عبيد من قوله:(غششتموه وأفسدتموه)
…
إلخ. ذلك بأن التزييف القطع أو بالغش يتضمن معنى السرقة، وإن لم تتمثل فيه مواصفاتها وقد يبلغ التعزير القتل وما هو أشد من القتل كما فعل أبو بكر رضي الله عنه بمن سيقا إليه متلبسين بجريمة " الشذوذ الجنسي "، فالتعزيز عقوبة يرجع إلى الإمام تقديرها ويعتمد الإمام في تقديرها ليس على طبيعة الجريمة وحلها، ولكن أيضًا على مدى تأثيرها في حياة المجتمع الإسلامي أو في المصالح العامة للمسلمين وأي فساد بشؤون المسلمين وذممهم أشنع من تزييف النقد وتزويره وأبعد أثرًا.
وقال ابن رشد (البيان والتحصيل: 9/396، من سماعه محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم) :
سألت محمد بن القاسم عن الوالي يلي بعد وال آخر كان قبله، فيزيد في المكاييل، فقال: فإن كان في ذلك للمسلمين نظر بموافقة حق لا يكره الناس على البيع به، فلا أرى به بأسًا.
قال ابن رشد معقبًا: هذا " بين " - لعل صوابه: يبنى - على ما قاله، أنه إذا كان في ذلك نظر للمسلمين بموافقة حق كان له أن يفعله.
وأما قوله: لا يكره الناس على البيع به، ففيه نظر لأن له أن يحمل الناس على التبايع به إذا رأى ذلك نظرًا للمسلمين، فمعنى قوله: لا يكره الناس على البيع به، أي لا يحجره جملة حتى لا يجوز لأحد بيعًا به.
وقال ابن تيمية (مجموع الفتاوى: 29/469، 470) :
ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسًا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلًا بأن يشتري نحاسًا، فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضًا وضرب له فلوسًا أخرى أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
وأيضًا فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارًا فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس.
وفي السنن ((عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)) (1) ، فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة لضربها فلوسًا، ويتجر بذلك حصل بها المقصود من الثمنية.
(1) انظر التعليق رقم: (1) من الصفحة 2071.
وقال الونشريسي (المعيار المعرب: 6 /407، 208) :
ولا يغفل - أي السلطان - النظر إن ظهر في سوقهم - يعني المسلمين - دراهم مبهرجة أو مخلوطة بالنحاس بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله، ويشرد به من خلفه لعلهم يتقون عظيم ما نزل به من العقوبة ويحبسه بعد على قدر ما يرى ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم، ويرتجي لهم الزلفى عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله.
على أن أجلى مظهر لتصورهم للشؤون الاقتصادية عامة والنقدية خاصة، وعدم وضوح معالمها عندهم وضوحًا شاملًا دقيقًا، يمكن الاقتصار على اعتماده في هذا العصر إذ وضحت المعالم الاقتصادية عامة والنقدية خاصة، بحيث لا يمكن الاشتباه فيها أو التباسها بغيرها أو الالتباس بينها اختلافهم في تعليل تعيين الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة، والأصناف الخمسة المذكورة في حديث عمرو، هي نفس الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وغيره على اختلاف طرق هذه الأحاديث، وما شاكلها مما سبق أن سقنا طائفة صالحة منه في فصل " أحاديث في الصرف ".
وقد رأينا أن نفيض فصلًا خاصًّا من هذا البحث نسوق فيه نصوصًا مختلفة من حيث صياغتها لآرائهم ومفاهمهم واحتاجها لها دفاعها عنها وتفريعها أحكامًا منها.
وقصدنا في انتقائها، أن تمثل طوائفهم المتمايزة من مفسرين ومعنيين بالحديث، وفقهاء من مذاهب السنة المختلفة ومن عصور وبيئات مختلفة، وارتأينا أن نثبت هذه النصوص كاملة دون أن نقتصر على ما يتصل منها بالذهب والورق؛ لأن نظراتهم في تعليل الربا والتفريع عنه كانت أميل إلى التكامل وأعلق به مما يلمع إلى أن نمطًا من التصور الاقتصادي بالمعنى الحديث كان لهم في طور المخاض أو التكوين، ولو اقتصرنا في انتقائنا على مقولاتهم في الذهب والورق لجاءت تصوراتهم - وهي المبهمة في وضعها - ناقصة مبتورة يصعب استكناه مصادرها ومواردها ومضاعفاتها عند محاولة الاستئناس باجتهاداتهم فيما نحن بصدده من بحث لا يمكن فصله موضوعيًّا عن مجموع التصور الدقيق للاقتصاد العام.
(13)
علة تحريم الربا وحكمته
عند المفسرين:
قال الرازي رحمه الله في (تفسير مفاتيح الغيب: ج 7، المجلد الرابع: ص 63، 6)
وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد - أي الحاضر - غير مقصورة على هذه الأشياء الستة - أي التي وردت في حديث أبي سعيد وغيره- بل هي ثابتة في غيرها، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص، فبهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب.
فالقول الأول وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس، وفي الذهب والفضة النقدية.
والقول الثاني قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كل ما كان مقدرًا ففيه الربا فالعلة في الدراهم والدنانير الوزن وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس.
والقول الثالث قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت وهو الملح.
القول الرابع وهو قول عبد المالك بن الماجشون (1) : إن كل ما ينتفع به ففيه الربا، فهذا ضبط مذهب الناس في حكم الربا.
(1) ترجم له ابن حجر كغيره من رجال الجرح والتعديل، فقال ما موجزه (تهذيب التهذيب: 6/407، 409، ترجمة 857) : عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون التيمي مولاهم أبو مروان المدني الفقيه، روى عن أبيه وخاله ومالك وآخرين، وعنه أبو الربيع المهري، وعمار بن طالوت، وعمرو بن علي الصيرفي، وعبد الملك بن حبيب الفقيه وغيرهم. قال مصعب الزبيري: كان مفتي أهل المدينة في زمنه، وقال الأجوري عن أبي داود: كان يعقل الحديث، وقال ابن البرقي مثل ذلك، ووثقه ابن حبان، وقال ابن عبد البر: كان فقيهًا فصيحًا دارت عليه الفتيا، وعلى أبيه قبله، وهو فقيه ابن فقيه، وكان ضرير البصر وكان مولعًا بسماع الغناء. وقال أحمد بن حنبل: قدم علينا ومعه من يغنيه، وضعفه الساجي ووصفه بأن صاحب رأي وبأنه حدث عن مالك بمناكير، وأنكر أحمد بأن يكون ممن يأخذ الحديث عنه أهل العلم، وزعم بعضهم أن مالكًا طرده لأنه كان يتهم برأي الجهم، وقال عنه يحيى بن أكثم: كان بحرًا لا تكد له الدلا، وقال أحمد بن معدل: كلما تذكرت بأن التراب يأكل لسان عبد الملك صغرت الدنيا في عيني، فقيل له: أين لسانك من لسانه؟ فقال: كان لسانه إذا تعايا أفصح من لساني إذا تحيا. اختلفوا في وفاته بين سنتين 213، 214 للهجرة. رحمه الله رحمة واسعة وقد توسعنا شيئًا في ترجمته؛ لأن له قولًا في علة تحريم الربا في الأنواع الستة الواردة في الحديث سبق عصره ولم يلحقه فيه غيره ممن جاء بعده، وهو أن العلة فيها هي " المالية "، وهي عبارة عما نسميه اليوم المؤشرات الاقتصادية أو مكونات الاقتصاد الوطني أو ما شاكل ذلك وهو قول بديع لا سبيل إلى الغمز فيه، وإن حاول ذلك بعض المتفقهة.
ثم قال: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهًا، أحدها: الربا يقتضي أخذ مال الناس من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقدًا أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان متعلق حاجته، وله حرمة عظيمة. قال صلى الله عليه وسلم:((حرمة مال الإنسان كحرمة دمه)) (1) ، فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عضو حرامًا.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون البقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضًا عن الدرهم الزائد؛ وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن للمالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحًا، فلما تركه في يد المدينون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع لرب المال ذلك الدرهم الزائد عوضًا عن انتفاعه بماله.
قلنا: إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدراهم الزائد أم متيقن، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع الضرر.
وثانيها قال بعضهم: الله تعالى إنما حرم الربا من أجل أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارات والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق. ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تستقيم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات.
وثالثها قيل: إن السبب في تحريم عقد الربا أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بالدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان.
(1) لم أقف على حديث بهذا اللفظ، لكن قد يكون الرازي رواه بالمعنى. والأحاديث في هذا المجال مستفيضة بعضها يبلغ حد التواتر، وأشهرها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة في حجة الوداع.
ورابعها هو أن الغالب أن المقرض يكون غنيًّا والمستقرض يكون فقيرًا، فالقول بتجويز عقد الربا تمكن للغني من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالًا زائدًا، وذلك غير جائز برحمة الرحيم.
وخامسًا: أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق فوجب القطع بحرمة عقد الربا وإن كنا لا نعلم الوجه فيه.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن: 3/352، 353 (في شرحه لآية الربا من سورة البقرة واستنباطه الأحكام منها:
اعلم - رحمك الله - أن مسائل هذا الباب - يعني باب الربا - كثيرة وفروعه منتشرة، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الربا، فقال أبو حنيفة: علة ذلك كونه مكيلًا أو موزونًا جنسًا فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده جنس واحد، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلًا أو نسيئًا لا يجوز فمنع بيع التراب بعضه ببعض متفاضلًا؛ لأنه يدخله الكيل، وأجاز الخبز قرصًا بقرصين لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصل فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه.
وقال الشافعي: العلة كونه مطعومًا جنسًا (هذا قوله في الجديد) فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز متفاضلا ولا نسيئًا، وسواء أكان الخبز خميرا أو فطيرا ولا يجوز عنده بيضة لبيضتين، ولا رمانة برمانتين، ولا بطيخة ببطيختين لا يدًا بيد ولا نسيئة؛ لأن ذلك كله طعام مأكول، وقال في القديم كونه موزونًا.
واختلف عبارات أصحابنا المالكية في ذلك، وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتًا مدخرًا للعيش غالبًا جنسًا، كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليه، وما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم، والقطاني كالفول والعدس واللوبياء والحمص وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون. واختلف في التين ويلحق بها العسل والسكر، فهذا كله يدخله الربا من جهة النساء وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام:(إذا اختلف هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد) ، ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغيرهم من الخضروات.
قال مالك: " لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلًا؛ لأنه مما يدخر ويجوز عنده مثلًا بمثل، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: جائز بيضة ببيضتين وأكثر؛ لأنه مما يدخر وهو قول الأوزاعي.
وقال محمد الطاهر بن عاشور (في التحريم والتنوير: 3/84، 85) : بعد أن ساق أقوال طائفة من المفسرين في الحكمة في تحريم الربا والتفرقة بينه وبين البيع، ومنها ما سبق نقله هنا:
والوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أن مرجعهما إلى التعليل بالمظنة مراعاة للفرق بين مالي المقترض والمشتري، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله؛ لأنهم كانوا يعدون التداين همًّا وكربًا وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحال التاجر حال المتفضل، وكذلك اختلاف حال المسلف والبائع فحال باذل ماله للمحتاجين ينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقًا؛ لأن المتسلف مظنة الحاجة ألا تراه ليس بيده مال، ومال بائع السلعة تجارة حال من تجشم مشقة لجلب ما يحتاجه المتفضلون وإعداده لهم عند إعداد حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال، فالتجارة مبادلة بين غنيين ألا ترى أن كلاهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه فالمتسلف مظنة الفقر والمشتري مظنة الغناء، فلذلك حرم الربا؛ لأنه استغلال لحاجة الفقير، وأحل البيع؛ لأنه إعانة لطالب الحاجات فتبين أن الإقراض من نوع المواساة والمعروف، أنها التعين على المواسي وجوبًا أو ندبًا وأيًّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرًا على عمل معروف، فأما الذي يستقرض مالًا يتجر به أو ليوسع تجارة فليس مظنة الحاجة فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال، فإذا أقرضه فقد تطوع بمعروف وكفى بهذا تفرقة بين الحالين.
ثم قال (ص 86، 87) :
ثم اختلف علماء الإسلام - في أن لفظ - الربا في الآية باق على معناه الباقي في اللغة أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع فذهب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية أعني الزيادة لأجل التأخير وتمسك ابن عباس بحديث أسامة: ((إنما الربا في النسيئة)) (1)
قلت: رحم الله أستاذنا شيخ الإسلام والمسلمين في القرن العشرين بلا منازع فما أحسبه إلا واهمًا في ذكر ابن عمر مع ابن عباس ومعاوية كما لو كان ذاهبًا مذهبهما في ربا النسيئة أو مذهب معاوية في ربا الفضل كما بينته قصته مع كل من أبي الدرداء وعبادة، في حين أن ما سبق أن سقناه من أحاديث رواها ابن عمر عن أبيه وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم وعن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ومن فتاوى تنوقلت عنه يبين أنه لم يكن على مذهبهما ولا كان قريبًا منه ولسنا ندري من أين تطرق الوهم إلى شيخ الإسلام والمسلمين ولكنه بشر يصيب ويخطئ أجزل الله له الأجر على ما أصاب فيه وهو كثير وعلى ما أخطأ فيه أيضًا وقد اجتهد ولم يأل جهدًا.
(1) عرضنا له في أكثر من موضع في هذا البحث لا سيما في فصل " دحض شبه تعلقوا بها " الآتي.
ثم قال: وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أن الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلت عليه أحاديث كثيرة وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أن لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبين جميع المراد منه فكأنه عنده مما يشبه المجمل فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنه كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها وإنكم لتزعمون أننا نعلم أبواب الربا ولأن أكون أعلمها أحب إلى من أن يكون لي مثل مصر وكورها (1)
قال ابن رشد: ولم يرد عمر بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا، وإنما أراد - والله أعلم - أنه لم يعم وجوه الربا بالنص عليها، وقال ابن العربي: بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثًا والوجه عندي أنه ليس مراد عمر أن لفظ الربا مجمل؛ لأنه قابله بالبيان وبالتفسير بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يعمه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات بيان تغيير وذكر ابن العربي في العواصم أن أهل الحديث يتوسعون في معنى البيان وفي تفسير الفخر عند الشافعي أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة]، ومن المجملات التي لا يجوز التمسك بها أي بعموميها: عموم البيع وعموم الربا؛ لأنه إن كان للمراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم أي بيع وأي زيادة، وإن كان المراد أي بيع وأي زيادة فما من بيع إلا وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام، والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملًا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام.
ثم قال (نفس المرجع: 4/86، 87) :
وحكمة تحريم الربا هي قصد الشريعة حمل الأمة على مواساة غنيها محتاجها احتياجًا عارضًا مؤقتًا بالقرض فهو مرتبة دون الصدقة وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصدقة والسلف فإن انتدب لها المكلف حرم عليه طلب عوض عنها وكذلك المعروف كله، وذلك أن العادة الماضية في الأمم وخاصة العرب أن المرء لا يتداين إلا لضرورة حياته، فلذلك كان حق الأمة مواساته، والمواساة يظهر أنها فرض كفاية على القادرين عليها فهو غير الذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتصارفين. الفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلا أن الشرع ميز هاته النواحي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية لا باختلاف أحوال التعاقدين فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الربا في السلف ولو كان المستسلف غير محتاج بل كان سعة وإثراء بتحريك المال الذي يتسلفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتجارة ودين السلم ولو كان الربح في ذلك أكثر من مقدار الربا تفرقة بين المواهي الشرعية.
(1) رجح محمد ضياء الدين الريس في كتابه - الخراج والنظم المالية (ص 149) : ما ذكره البلاذري وابن قدامة من أن خراج مصر في عهد عمر بلغ ألفي ألف دينار، أي نحو تسعمائة بليون " مليار " درهم مغربي بالسعر الحاضر للذهب.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الربا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال وإلجاءهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا فيكون تحريم الربا ولو كان قليلًا مع تجويز الربح في التجارة والشركات ولو كان كثيرًا تحقيقًا لهذه المقاصد.
وقد قضى المسلمون قرونًا طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالربا ولم تكن ثروتهم أيامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم أزمان كانت سيادة العالم بيدهم أو أزمان كانوا مستقلين بإدارة شؤونهم، فلما صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية وارتبط المسلمون بغيرهم في التجارة والمعاملات وانتظمت سوق الثروة العالمية على قواعد القوانين التي لا تتحاشى المراباة في المعاملات ولا تعرف أساليب مواساة المسلمين دهش المسلمون وهم اليوم يتساءلون، وتحريم الربا في الآية صريح وليس لما حرمه الله مبيح ولا مناص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تبنى على أصول الشريعة في المصارف والبيوع وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمال وحوالات الديون ومقاصتها وبيعها وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كل فرقة كما أمر الله تعالى.
ثم قال (نفس المرجع: 6/28) في تفسير قوله تعالى في سورة النساء تنديدًا بمخالفة اليهود لما أمروا به: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [الآية 162] .
وأخذهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصة ويسوغ لهم أخذه من غير الإسرائيليين كما في الإصحاح (23) من سفر التثنية: (لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا) .
والربا محرم عليهم بنص التوراة بنص التوراة في سفر الخروج في الإصحاح (22) : (إن أقرضت فضة لشعبي الفقير عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا) .
وعند المعنيين بالحديث والفقهاء:
قال النووي في (المجموع: 10/20، 21) :
(قاعدة) الأصل عندنا وعند المالكية في بيع الربويات بجنسها أو ما يشاركها في علة الربا التحريم إلا ما قام الدليل على إباحته وهذا الأصل مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن مثلًا بمثل سواء بسواء)) ، لفظ مسلم رحمه الله في حديث أبي سعيد (1) وفي حديث عبادة:((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) لفظ مسلم أيضًا. ومن قوله صلى الله عليه وسلم حديث الذي رواه عمر رضي الله عنه: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) . الحديث متفق على صحته: لفظ البخاري (الذهب بالورق)، ولفظ مسلم (الورق بالذهب) (2) . ومن قوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلف هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) لفظ مسلم في حديث عبادة.
وجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول صدره بالنهي ثم استثنى منه، وفي حديث عمر رضي الله عنه صدر بالحكم على ذلك في الربا ثم استثنى. وفي الحديث الآخر وهو بقية حديث عبادة علقه على شرط والمشروط عام عند الشرط والأصل عدمه وهذه قاعدة شريفة نافعة في باب الربا كمسألة بيع الحفنة بالحفنتين والجهل بالمماثلة وغير ذلك كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى.
وفي مطاف الاشتباه وتعارض المأخذ إذا تساوت يجب الحكم بالتحريم عملًا بالأصل وقد صرح الشافعي - رحمه الله تعالى - في "الأم: بأن الأصل ذلك ويخالفنا في ذلك الحنفية؛ لأن الأصل عندهم في ذلك الجواز لاندراجه في جملة البيع ويجعلون عقود الربا وسائر ما نهى عنه مخرجًا من ذلك الأصل ويئول تحقيق بحثهم إلى أن عقد الربا اشتمل على وصف مفسد فهو كسائر البيوع التي اقترن بها ما يفسدها وممن صرح بهذين الأصلين عند المذهبين من أصحابنا الخلافيين الشريفي الراغي وأبو المظفر السمعاني ومحمد بن يحيى وغيرهم قالوا: واللفظي المراعي الأصل عندنا في الأموال الربوية التحريم والجواز ثبت على خلافه رخصة مقيدة بشروط، وعندهم الأصل الجواز والتحريم ثبت على خلافه عند المفاضلة. ونقل ابن العربي المالكي عن أبي المطهر خطيب أصفهان قال لنا المنذري: الأصل في الأموال الربوية حظر البيع حتى يتجمع تحقيق التماثل وعند أبي حنيفة رحمه الله الأصل إباحة البيع حتى يمنعه حقيقة التفاضل وما قلناه أصح وممن صرح بهذا الأصل من المالكية الطرطوشي رأيته في كلامه وقد رأيت ما هو منسوب إلى الحنفية في كتبهم وتحقيقه عندهم ما قدمته.
(1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(2)
انظر فصل من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
وقال ابن عبد البر (التمهيد: 6/292، 295) عند تعقيبه على رواية مالك في الموطأ لحديث مالك بن أوس بن الحديثان مع طلحة بن عبيد الله وعمر. (انظر فصل " أحاديث في الصرف ") :
واختلف الفقهاء في اعتبار المذكورات في هذا الحديث - يعني الأصناف الخمسة - وفي المعنى المقصود إليه بذكرها، فقال العراقيون: الذهب والورق المذكوران في هذا الحديث موزونان وهما أصل لكل موزون وكل موزون من جنس واحد لا يجوز فيه التفاضل ولا النساء بوجه من الوجوه قياسًا لما اجتمعت الأمة عليه من أن الذهب والورق لا يجوز التفاضل في الجنس الواحد منهما ولا النساء بعضه ببعض فإذا كان الموزون جنسين مختلفين فجائز التفاضل بينهما، ولا يجوز النساء بوجه من الوجوه قياسًا على الذهب بالورق المجتمع على إجازة التفاضل فيهما وتحريم النساء؛ لأنها جنسان مختلفان، قالوا: والعملة في البر والشعير والتمر الكيل فكل مكيل من جنس واحد فغير فيه التفاضل ولا النساء قياسًا على ما أجمعت الأمة عليه في أن البر بالبر بعضه ببعض والشعير والتمر لا يجوز في واحد منها بعضه ببعض التفاضل ولا النساء بحال، فإذا اختلف الجنسان جاز فيهما التفاضل ولم يجز النساء على حال وسواء كان المكيل أو الموزون مأكولًا أو غير مأكول كما لا يجوز ذلك في الذهب والورق.
وقال الشافعي: أما الذهب والورق فلا يقاس عليهما غيرهما؛ لأن العلة التي فيهما ليست موجودة في شيء من الموزونات غيرهما فكيف ترد قياسًا عليهما، وذلك أن العلة في الذهب والورق أنهما أثمان للمبيعات وقيم للمتلفات وليس كذلك شيء من الموزونات؛ لأنه جائز أن تسلم ما شئت من الذهب والورق فيما عداها من سائر الموزونات ولا يسلم بعضها في بعض فبطل قياسها عليهما وردها إليهما.
قال: وأما البر والتمر والشعير فالعلة عندي فيهما الأكل لا الكيل فكل مأكول أخضر كان أو يابسًا مما يدخر كان أو مما لا يدخر فغير جائز بيع الجنس منه بعضه ببعض متفاضلًا ولا نساء وحرام فيه التفاضل ولا النساء قياسًا على البر بعضه ببعض وعلى التمر بعضه ببعض لا يجوز ذلك في واحد منهما بالإجماع والسنة الثابتة.
قال: وأما إذا اختلف الجنسان من المأكول فجائز حينئذ فيهما التفاضل وحرم فيهما النساء وحجته في ذلك نهي رسول الله عليه وسلم عن الطعام بالطعام إلا يدًا بيد.
وما أصحابنا من عصر إسماعيل بن إسحاق إلى هلم جرّا ومن قبلهم من أصحاب مالك وأصحاب أصحابه، فالذي حصل عندي من تعليلهم لهذه المذكورات بعد اختلافهم في شيء من العبارات عن ذلك أن الذهب والورق القول فيهما عندهم كالقول عند الشافعي لا يرد إليهما شيء من الموزونات لأنهما قيم المتلفات وأثمان المبيعات ولا شيء غيرهما كذلك فارتفع القياس عنهما لارتفاع العلة إذ القياس لا يكون - عند جماعة القياسيين - إلا على العلل لا على الأسماء وعللوا البر والتمر والشعير بأنها مأكولات مدخرات أقوات، فكل ما كان قوتًا مدهرًا حرم التفاضل والنساء في الجنس الواحد منه وحرم النساء في الجنسين المختلفين دون التفاضل وما لم يكن مدخرًا قوتًا من المأكولات لم يحرم فيه التفاضل وحرم فيه النساء سواء كان جنسًا أو جنسين.
قال أبو عمر وهذا مجتمع عليه عند العلماء أن الطعام بالطعام لا يجوز إلا يدًا بيد مدخرًا كان أو غير مدخر إلا إسماعيل ابن علية (1) فإنه شذ وأجاز التفاضل في النساء في النساء في الجنسين إذا اختلفا من المكيل أو من الموزون قياسًا على إجماعهم في إجازة بيع الذهب أو الفضة بالرصاص والنحاس والحديد والزعفران والمسك وسائر الموزونات، وأجاز على هذا القياس نصًّا في "كتبه" - كذا في النسخة المطبوعة ونحسب فيه خطأ أو كلمة ساقطة ولم نهتد إلى تقويمه - بيع البر بالشعير والشعير بالتمر والتمر بالأرز وسائر ما اختلف اسمه ونوعه بما يخالفه من الكيل والموزون متفاضلًا نقدًا ونسيئة سواء كان مأكولًا أو غير مأكول ولم يجعل الوزن والكيل علة ولا الأكل والاقتيات وقاس ما احتلفوا على ما اجتمعوا عليه مما ذكرنا.
وذكر عن ابن جريج، عن إسماعيل ابن علية وأيوب بن موسى - عن نافع، عن ابن عمر أنه باع صاعي تمر بالغابة بصاع حنطة بالمدينة.
(1) إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ابن علية البصري أخرج له الجماعة، روى عن عبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي وعاصم الأحول وأيوب بن عون وغيرهم، وعنه شعبة وابن جريج وهما من شيوخه وبقية وحماد وهما من أقرانه وإبراهيم بن طهمان وهو أسن منه وابن وهب والشافعي وأحمد ويحيى وعلى وإسحاق وآخرون، وكان يحدث من حفظه حتى قال بعض الآخذين عنه أنهم لم يروا كتابًا عنده قط وكان قوامًا لليل. قيل: إنه لم ير ضاحكًا قط، وكان ممن يصل ابن المبارك، فلما ولي القضاء قطع عنه صلته فركب إليه فأعرض عنه فكتب إليه في ذلك فأجابه بأبيات يؤنبه فيها على ولاية القضاء فقام من مجلس القضاء فوطئ بساط الرشيد، فقال: الله الله ارحم شيبتي، فإني لا أصبر على القضاء، فقال الرشيد: لعل هذا المجنون - يعني عبد الله بن المبارك - أغراك ثم أعفاه فوجه إليه ابن المبارك صلته، وكانوا شنعوا عليه بأن يقول: القرآن مخلوق من ذلة لسان افتتت منه غلطًا، ومع أنه أعلن توبته منها بقي أحمد رحمه الله واجدًا عليه، ومات ابن علية من مرض أصيب به حين بلغه رأي أحمد فيه. رحمهم الله جميعًا وأجزل لأحمد الأجر فليس كل أحد في قوة إيمان أحمد وصلابته في الحق إنه من حجج الله في الأرض.
وإسماعيل ابن علية هذا له شذوذ كثير ومذاهب عند أهل السنة مهجورة وليس قوله عندهم مما يعد خلافًا ولا يعرج عليه لثبوت السنة بخلافه من حديث عبادة وغيره على ما قدمنا في هذا الباب ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم ((فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدًا بيد وبيعوا التمر كيف شئتم يدًا بيد)) (1)
ثم أورد طريقًا لحديث عبادة هذا ثم قال: فهذه الأحاديث كلها ترد قول ابن علية في إجازته بيع الطعام بعضه ببعض نسيئة.
وكان مالك رحمه الله يجعل البر والشعير والسلت صنفًا واحدًا فلا يجوز شيء من هذه الثلاثة بعضها ببعض عنده إلا مثلًا بمثل يدًا بيد كالجنس الواحد وحجته في ذلك حديث زيد بن عياش، عن سعد في البيضاء بالسلت أيها أكثر؟ فنهاه وحديثه عن سعد أنه فني علف حماره فأمر غلامه أن يأخذ من حنطة أهله فيبتاع بها شعيرًا ولا يأخذه إلا مثلًا بمثل ذكر ذلك كله في موطأه (2)
وذكر عن معيقيب الدوسي (3) عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث (4) وسليمان بن يسار (5) مثل ذلك. وخالفه جمهور فقهاء الأمصار فجعل البر صنفًا والشعير صنفًا وأجازوا فيهما التفاضل يدًا بيد للأحاديث المذكورة في هذا الباب عن عبادة، وممن قال بذلك أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور.
(1) انظر أحاديث عبادة في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
(2)
رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46. أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسودين بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه.
(3)
رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46.) أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه.
(4)
رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46) . أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه.
(5)
رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46) . أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه.
وكان داود بن على لا يجعل للمسميات علة ولا يتعد المذكورات إلى غيرها، فقوله: إن الربا والتحريم غير جائز في شيء من المبيعات لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] إلا في الستة أشياء المنصوصات وهي الذهب والورق والبر والشعير والتمر المذكورات في حديث عمر هذا والملح المذكور معها في حديث عبادة بن الصامت وهي زيادة يجب قبولها قال: فهذه الستة أشياء لا يجوز بيع الواحد منها بعضه ببعض متفاضلًا ولا نساء للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وهو حديث عمر وحديث عبادة ولإجماع الأمة أيضًا على ذلك إلا من شذ ممن لا يعد خلافه ولا يجوز النساء في الجنسين المختلفين منها لحديث عمر في الذهب ولحديث عبادة؛ لأن الأمة لا خلاف بينها في ذلك ويجوز فيهما الفاضل وما عدا هذه الأصناف الستة فجائز فيها الزيادة عنده والنسيئة وكيف شاء المتبايعان في الجنس وفي الجنسين.
فهذا اختلاف العلماء في أصل الربا الجاري في المأكول والمشروب والمكيل والموزون مختصرًا وبالله التوفيق.
قال الباجي في (المنقى: 4/258) :
وعلة الربا في الذهب والفضة أنهما أصول الآثمان وقيم المتلفات، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: علتهما الوزن.
والدليل على إبطال مذهبه في أن الحديد والكحل فيه الربا أن ما لا يثبت الربا في مصوغه لا يثبت في غير مصوغه كالتراب، والدليل على إبطال علتهم أنه لو كانت علة الربا في الورق والذهب الوزن لما جاز أن يسلم في موزون؛ لأن كل عينين جمعتهما علة واحدة في الربا لم تسلم إحداهما في الأخرى: كالذهب والفضة. ولما أجمعنا على أنه يجوز تسليم الذهب والفضة في الموزون علمنا أنه لم يجمعها علة الربا.
قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى: 19/283، 284) في معرض الرد على من يقول: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، وبيان أنها تفي بجمهورها أو بها جميعًا:
ومن هذا الباب لفظ الربا فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأحيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك. وهذا الذي يسمى تحقيق المناط.
ثم قال (نفس المرجع: 20/167، 169) :
النزاع وإن كان مشهورًا في ذلك - يعني في تعليل الحكم الواحد بعلتين - فأكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم " يجوز " - كذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: يجوزون - تعليل الحكم بعلتين، وكثير من الفقهاء والمتكلمين "يمنع ذلك، فالنزاع في ذلك يعود إلى نزاع تنوعي ونزاع في العبارة وليس بنزاع تناقضي، ونظير ذلك النزاع في تخصيص العلة، فإن هذا فيه خلاف مشهور بين الطوائف كلها من أصحابنا وغيرهم حتى يذكر ذلك " روايتان " - لعل صوابه: روايتين - عن أحمد.
وأصل ذلك أن مسمى العلة قد يعنى به العلة الموجبة، وهي التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها فهذه لا يتصور تخصيصها ومتى انتقضت فسدت ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة وشرط الحكم وعدم المانع، فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها.
وقد يعني بالعلة ما كان مقتضيًا للحكم يعني أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه، وإن لم يكن موجبًا فيمتنع تخلف الحكم عنه، فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع، فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقبح فيها. وعلى هذا فينجبر النقص بالفرق، وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولا وجود مانع كان ذلك دليلًا على أنها ليست بعلة إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكمًا. والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة.
والمقصود من التنظير أن سؤال النقض الوارد على العلة مبني على تخصيص العلة، وهو ثبوت الوصف بدون الحكم وسؤال عدم التأثير عكسه، وهو ثبوت الحكم بدون الوصف، وهو ينافي عكس العلة كما أن الأول ينافي طردها والعكس مبني على تعليل الحكم بعلتين.
وجمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإن كانوا لا يشترطون الانعكاس في العلل الشرعية، ويجوزون تعليل الحكم الواحد بعلتين، فهم مع ذلك يقولون: العلة تفسد بعدم التأثير؛ لأن ثبوت الحكم بدون هذا الوصف يبين أن هذا الوصف ليس علة، فإذا لم يخلف هذا الوصف وصفًا آخر يكون علة له فهم يوردون هذا السؤال في المواضع الذي ليست العلة فيه إلا علة واحدة: إما لقيام الدليل على ذلك وإما لتسليم المستدل لذلك.
ثم قال (ص 170) :
ولا يتنازع العقلاء أن العلتين إذا اجتمعتا لم يجز أن يقال: إن الحكم الواحد ثبت بكل منهما حال الاجتماع على سبيل الاستقلال، فإن استقلال العلة بالحكم هو ثبوته بها دون غيرها، فإذا قيل: ثبت بهذه دون غيرها وثبت بهذه دون غيرها كان ذلك جمعًا بين الناقضين، وكان التقدير بهذه ولم يثبت بها وثبت بها، فكان ذلك جمعًا بين إثبات التعليل بكل منها وبين نفي التعليل عن كل منهما. وهذا معنى ما يقال: إن التعليل بكل منهما على سبيل الاستقلال ينفي ثبوته بواحدة منهما وما أفضى إثباته إلى نفيه كان باطلًا.
ثم قال: (ص 171، 172) :
ومن يقول بتعليل الحكم الواحد بعلتين لا ينازع في أنه إذا اجتمع علتان كان الحكم أقوى وأوكد مما إذا انفردت إحداهما. ولهذا إذا جاء تعليل الحكم الواحد بعلتين في كلام الشارع أو الأيمة كان ذلك مذكورًا لبيان توكيد ثبوت الحكم وقوته.
ثم قال: (ص 341) في معرض بيانه للحكمة من تحريم بعض المحرمات:
وحرم الربا؛ لأنه متضمن للظلم، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلًا محققًا من محتاج. وأما المقامر فقد يحصل له فضل وقد لا يحصل له، وقد يقمر هذا هذا وقد يكون بالعكس.
ثم قال: (ص346، 347) :
وهذا يتبين بذكر الربا، فإن تحريم الربا أشد من تحريم القمار؛ لأنه ظلم محقق، والله سبحانه وتعالى لما جعل خلقه نوعين: غنيًّا وفقيرًا، أوجب على الأغنياء الزكاة حقًّا للفقراء، ومنع الأغنياء عن الربا الذي يضر الفقراء. وقال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [الآية 276 من سورة البقرة] .
وقال تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الآية 39 من سورة الروم] . فالظالمون يمنعون الزكاة ويأكلون الربا.
ثم قال:
ومعلوم أن أهل المدينة حرموا الربا ومنعوا التحليل على استحلاله، وسدوا الذريعة المفضية إليه، فأين هذا ممن يسوغ الاحتيال على أخذه بل يدل الناس على ذلك.
ثم قال (ص 349) :
وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له لم يبع ولم يتجر، والمربي آكل مال بالباطل بظلمه، ولن ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له ولا للناس.
فإذا كان هذا مقصودهما فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم.
ثم قال (نفس مرجع: 29/470، 474) :
وقد اختلفوا في كثير من مسائل الربا قديمًا وحديثًا، واختلفوا في تحريم التفاضل في الأصناف الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح، هل هو التماثل أو هو الكيل والوزن، أو هو الثمنية والطعم، أو هو الثمنية والتماثل مع الطعم والقوت وما يصلحه، أو النهي غير معلل والحكم مقصور على مورد النص، على أقوال مشهورة.
والأول: مذهب أبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايات عنه، والثاني قول الشافعي، وأحمد في رواية ثالثة اختارها أبو محمد، وقول مالك قريب من هذا، وهذا القول أرجح من غيره، والرابع: قول داود وأصحابه، وروي عن قتادة، ورجح ابن عقيل هذا القول في مفرداته، وضعف الأقوال المتقدمة وفيها قول شاذ، أن العلة المالية وهو مخالف للنصوص ولإجماع السلف والاتحاد في الجنس شرط على كل قول من ربا الفضل، والمقصود هنا الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم، والأظهر أَن العلة في ذلك، هو الثمنية لا الوزن كما قال جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات كالرصاص والحديد والحرير والقطن والكتان، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا، والمنازع يقول: جواز استحسان وهو نقيض العلة، ويقول: أنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه فليزمه أن يجعل العلة الربا بما ذكره - هكذا في النسخة المطبوعة وهو غير واضح - وذلك خلاف قوله، وتخصيص العلة الذي قد سمي استحسانًا إن لم يبين " دليل شرعي " - هكذا في النسخة ولعل صوابه: بدليل شرعي - يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة واختصاص صورة التخصيص بمعنى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث وإلا كانت العلة فاسدة.
والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود بالأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطلب فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة مع أنها ثمن من طرفين فنهى الشارع أن يباع ثمن إلى أجل، فإذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعنى فلا تباع بثمن إلى أجل.
كما ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) وهو المؤخر بالمؤخر، ولم ينه عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط فإن هذا القاضي يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين ولهذا كان هذا جائزًا في أظهر قولي العلماء مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما بخلاف ما إذا باع دينًا يجب في الذمة ويشغلها بدين يجب في الذمة، كالمسلم إذا أسلم في سلعة ولم يقبضه رأس المال، فإنه يثبت في ذمة المستسلف دين السلم، وفي ذمة المسلف رأس مال ولم ينتفع واحد منهما بشيء ففيه شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد، كما أن السلع هي المقصودة بالأثمان، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل، كما لا يباع كالئ بكالئ، لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية ومقصود العقود بخلاف كون المال موزونًا ومكيلًا فإن هذا صفة لما به يقدر ويعلم قدره؛ ولأن في ذلك معنى يناسب تحري التفاضل فيه.
فإن قيل: المكيلات والموزونات متماثلة وعلة التحريم نفي التماثل قيل: العاقل لا يبيع شيئًا بمثله إلى أجل ولكن يقرض الشيء ليأخذ مثله بعد حين، والقرض هو تبرع من جنس العارية كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، منيحة ذهب (2)
(1) هذا الحديث أخرجه البيهقي والدارقطني، ومحص البيهقي طرقه تمحيصًا جيدًا. قال في (السنن الكبرى: 5/290، 291) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا الربيع بن سليمان، حدثنا الخصيب بن ناصح. وأخبرنا الحسين بن بشران ببغداد، أخبرنا أبو الحسن بن على المصري، حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، حدثنا الخصيب، حدثنا محمد بن عبد العزيز الدراوردي، عن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) . قال البيهقي " موسى هذا هو ابن عبيدة الربذي وشيخنا أبو عبد الله قال لي في روايته عن موسى بن عقبة وهو خطأ، والعجيب من أبي الحسين الدارقطني شيخ عصره روى هذا الحديث في كتاب السنن عن أبي الحسن بن على المصري هذا، فقال عن موسى بن عقبة: وشيخنا أبو الحسن رواه لنا عن أبي الحسن المصري في الجزء الثالث من سنن المصري، فقال موسى: غير منسوب ثم أردفه المصري بما أخبرنا أبو الحسين، أخبرنا أبو الحسن، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي عدب العزيز الربذي، عن نافع، عن ابن عمر، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) . أبو عبد العزيز الربذي هو موسى بن عبيدة. أخبرنا أبو سعيد الماليني، أخبرنا أحمد بن عدي، حدثنا القاسم بن مهدي، حدثنا أبو مصعب بن عبد العزيز الدراوردي، عن موسى بن عبيدة فذكره بمثله. قال موسى: قال نافع: وذلك بيع الدين بالدين. قال أبو أحمد: وهذا معروف بموسى بن عبيدة عن نافع. قال الشيخ رحمه الله وقد رواه عبيد الله بن موسى وزيد بن الحباب وغيرهما عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ثم ساق هذه الرواية من عدة طرق.
(2)
لم نقف على حديث بهذا اللفظ، لكن قال أحمد في (مسنده: 1/463) : حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن إبراهيم الهجري قال: سمعت أبا الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أتدرون أي الصدقة أفضل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: المنيحة أن يمنح أحدكم أخاه الدرهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة أو لبن البقرة) . ولعل ابن تيمية رحمه الله أشار إليه بالمعنى
فالمال إذا دفع إلى من يستوفي منفعته مدة ثم يعيده إلى صاحبه كان هذا تبرعًا من صاحبه بنفعه تلك المدة، وإن كان لكل نوع اسم خاص به فيقال في النخلة عارية، ويقال فيما يشرب لبنه منيحة، ثم قد يعيد إليه عين المال إن كان مقصودًا وإلا أعاد إليه مثله والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال، ولهذا سمي قرضًا ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته، كما يستحق مثله في الغصب والإتلاف ومثل هذا لا يبيعه عاقل، وإنما يباع الشيء بمثله فيما إذا اختلفت الصفة.
والشارع طلب إلغاء الصفة في الأثمان، فأراد أن تباع الدراهم بمثل وزنها ولا ينظر إلى اختلاف الصفات مع خفة وزن كل درهم كما يفعله من يطلب دراهم خفافًا، إما ليعطيها للظلمة، وإما ليقضي بها، وإما لغير ذلك فيبدل أقل منها عدداً وهو مثلها وزنًا فيريد المربي أن لا يعطيه ذلك إلا بزيادة في الوزن، فهذا إخراج الأثمان عن مقصودها وهذا مما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب بخلاف مواضع تنازع العلماء فيها ليس هذا موضوع تفصيلها والله أعلم.
وقال ابن القيم (أعلام الموقعين: 2/135) :
الربا نوعان: جلي وخفي. الجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة للجلي، فتحريم الأول قصدًا وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاده في المال حتى تصير المائة آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يزيدها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظيم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أنه حرم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر.
وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: هو أن يكون له دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة، فالمرابي ضد المتصدق فقال الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [الآية 276 من سورة البقرة] . وقال {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الآية 39 من سورة الروم] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [الآيتان 129 و 130 من سورة آل عمران] . ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وهؤلاء ضد المرابين فنهى سبحانه عن الربا، الذي هو ظلم الناس وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليه.
ثم قال (ص 136) :
وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صرح به حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكن الرماء، والرماء هو الربا)) (1) فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين - ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة وغير ذلك –تدرجوا بالربح المعجل فيها من الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة وهذه ذريعة قريبة جدًّا، فمن حكمة التشريع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا أو نسيئة فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول وهي تسد عليهم باب المفسدة.
فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس وتنازعوا فيما عداها فطائفة قصرت التحريم عليها وأقدم من يروي هذا عنه قتادة، وهو مذهب أهل الظاهر واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر علة امتنع القياس، وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة، وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلًا أو موزونًا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد، وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلًا أو موزونًا، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول الشافعي، وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه.
وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة وطائفة، قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب، فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان الحديد والنحاس ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها.
وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان للمبيعات والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقوم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره إذا يصير سلعة يرتفع وينخفض ثمنه، فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس.
فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحًا ويأخذ مكسرة أو خفافًا ويأخذ ثقالًا أكثر منها لصارت متجرًا أو جر ذلك إلى ربا النسئة فيها ولا بد، فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل " يقصد التوصل بها إلى السلع " - هكذا في النسخة المطبوعة وهو خطأ صوابه: بل تقصد للتوصل بها إلى السلع - فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات.
(1) الحديث بطريقه وألفاظه المختلفة في فصل: " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف
وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها، فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالًا متفاضلًا، فإن اختلفت صفاتها جوز لهم التفاضل مع اختلاف أجناسها.
ثم أفاض في تبيان هذا المعنى وتعليله، والتوضيح له، ثم قال:
وإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفًا واحدًا أو صنفين، مقصودهما واحد أو تقارب كالدراهم والدنانير والبر والشعير والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحليب والزيت.
ثم قال:
وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات وهذا معنى بعينه موجود في بيع التبر والعين، لأن التبر ليس فيه صفة يقصد لأجلها فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع أن لا يفاضل بينهما ولهذا قال:" تبرها وعينها سواء "، فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأن تحرم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة.
ولابن رشد الحفيد تلخيص جيد لهذه الآراء المتواجهة مع إضافة سبق الإلماع إليها لكنه أوضحها بما يجلو مصادرها ومقاصدها، قال رحمه الله في (بداية المجتهد: 2/130، 133) :
إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع أعني استباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه وذلك أن جميع من ألحق المسكوت ههنا بالمنطوق به فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك " المالية " وقال: علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال يريد منع العين.
وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفًا، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة؛ لأنه زعم أنه في معنى التمر.
ثم قال: - بعد أن استعرض أقوال أهل السنة وختم بالمالكية - ولكن إذا تؤمل الأمر من طريق المعنى - والله أعلم - أن علتهم- يعني المالكية - أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود من تحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدرهم والدينار لتقويمها أعني تقديرها ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات أعني غير الموزونة والمكيلة العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن لا تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرسًا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون، فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلًا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذن اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل وأما الأشياء المكيلة والموزونة فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف وكانت منافعها متقاربة، ولكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن، إذ كانت لا تتفاوت في المنافع وأيضًا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب ألا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء أعني المكيلة والموزونة علتان: إحداهما وجود العدل فيها، والثاني منع المعاملة إذ كانت المعاملة بها من باب السرف.
وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيهما أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية.
ويروي مالك، عن سعيد بن المسيب، أنه كان يعتبر علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم (1) ، وهو معنى جيد لكون الطعم ضروري في أقوات الناس فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتًا.
وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الانتفاع مطلقًا أعني المالية وهو مذهب ابن الماجشون.
قلت: وهذا الاختلاف في تعيين علة تحريم الربا في الأصناف الستة، نتج عنه أمران: أحدهما سبقت الإسارة إليه فيما نقلناه من كلام ابن رشد الحفيد وغيره، وهو: هل يقاس على هذه الأصناف ما يشبهها أو لا يقاس؟ وليس هذا مجال مناقشته.
أما الثاني، فهو ما ذهب إليه البعض من التمييز بين ربا النسيئة وربا الفضل في درجة التحريم وتقسيم الربا إلى الربا الجلي والربا الخفي، وأما في معنى ذلك من الأسماء مما اعتمده نفر من المعاصرين - وفيهم من وثق به الناس فقلدوه، أو احتجوا باجتهاداته وفتاويه - فقالوا في ربا الفضل وخاصة معاملات البنوك، أو بعضها كلامًا خلطوا ما شاء لهم عدم التقيد بالمناط في تمييز علل أحكام الشريعة وتحديدها وفي القياس على المنصوص عليه منها غير المنصوص.
وهذا ما نسوق في الفصل التالي النماذج التي رأيناها منه خليقة بالاعتبار والمناقشة
*
(1) انظر ابن عبد البر (التمهيد: 6/292 وما بعدها)
(14)
من مقولات بعض المعاصرين
قال ابن القيم في (أعلام الموقعين: 2/140، 143)
وأما ربا الفضل فأبيح لما تدعو إليه الحاجة كالعرايا فإن ما حرم سدًا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد.
وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيعه هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية فأنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان وهذا لا يجوز كالآت الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها البتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع.
وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع فلو لم يجز بيعه بالدراهم لفسدت مصالح الناس.
والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع وغايتها أن تكون عامة ومطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما في أن لفظ النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة في لفظ الدراهم والدنانير كقوله: " الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير "(1)، وفي الزكاة قوله:" في الرقة ربه العشر "(2) ، والرقة هي الورق وهي الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداها بل فيه تفصيل، فيجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها وفي هذا توفية الأدلة حقها وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها.
وبعد أن أفاض في الاحتجاج لإباحة بيع الحلي بالنقدين وهو أمر لا يعرف جدلًا جديًّا فيه فهو تقرير لمقرر.
(1) انظر فصل النقد كما يتمثل في الحديث الشريف
(2)
انظر فصل النقد كما يتمثل في الحديث الشريف
قال: يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والعامل من جملة النظر المحرم وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد الذريعة على التشبه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل والحيل باطلة في الشرع وغاية ما في ذلك جعل الزيادة مقابلة للصياغة المباحة المتقدمة بالأثمان في الغصوب وغيرها.
ثم راح ينكر على متنفقهة زمانه ومن على شاكلتهم أحكامًا في بيوعات أقحموها في ربا الفضل وما هي منه وكأن ذلك هو الذي حمله على مقولته هذه.
ونقل محمد رشيد رضا في (تفسير المنار: 3/107، 113) عن محمد عبده في تفسير الآية الكريمة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] ما مثاله:
مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضًا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنًا طويلًا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار، وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة " المسبحة " المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مائة إلى سنة بمائة وعشرة مثلًا فيعطيه المائة نقدًا ويبيعه " مسبحة " بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه.
على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدًّا، لكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدًّا حتى لا تكاد تجد متمولًا في هذه البلاد سالمًا من الاستدانة بالربا إلا قليلًا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرًا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزامًا لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات.
ومن هنا ترى أن الأحيان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها، ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن بيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدًا بعشرين درهمًا نسيئة يجوز أن يعطي المحتاج العشرة الدراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهمًا؛ لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها.
والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بالجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله " أحل البيع وحرم الربا ".
وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص أي أنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن ذلك القول، إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآية ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه.
والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، لكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونًا للآخر لا سيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواجد مال الفقير الفاقد فهذا وجه التباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس، وهنالك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقًّا على آخر بغير عمل؛ لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع؛ لأن فيه عوضًا بقابل عوضًا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها، والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه ذلك بأن البيع يلاحظ فيه دائمًا انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعًا حقيقيًّا؛ لأن من يشتري قمحًا مثلًا فإنما يشتريه ليتأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعًا حقيقيًّا (وأقول: والثمن في هذا مقابل للبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما) ، - يظهر أن هذه المقولة لرشيد رضا - وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل (أقول: وهي لا تعطى بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار) .
وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما ليكون ميزانًا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم، فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودًا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء.
ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها (أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بإقناع أو بالإلزام) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة. وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت في قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعًا فلا يجد من يجود عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصابهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع؛ لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقون وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابًا كبيرًا في العالم، ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي هذه المسألة، وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين.
وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابًا سماه (ما العمل؟) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ، وقد قال آخره: إن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار (الجنيه) من أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يومًا ما.
قال الأستاذ - رحمه الله تعالى -: وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا، وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضًا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه من طلب بعد أن يستوثق منه باليمين أنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه؛ لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلًا عليه قال: رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعدد ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض على المطالبة بله المحاكمة ثم بعد خمسة وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده رضًا طلبه إلا بسند وشهود، فسألته: أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا وذلك؟ قال: نعم قلت: فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما عملت عليه من سوء؟ قال: لا أعرف سبب ذلك إنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي.
ثم قال رشيد رضا: من تدبر ما قاله الإمامان - يعني محمد عبده والغزالي الذي استمد منه محمد عبده آراءه تلك كما ذكر رشيد رضا - علم أن تحريم الربا هو عين الحكمة والرحمة الموافق لمصلحة البشر المنطبق على قواعد الفلسفة وأن إباحته مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشؤون الاجتماع زادت في أطماع الناس وجعلتهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من المال وكادت تحصر ثروة البشر في أفراد منهم وتجعل بقية الناس عالة عليهم.
فإذا كان المفتونون من المسلمين بهذه المدينة ينكرون من دينهم تحريم الربا بغير فهم ولا عقل، فسيجيء يوم يقر فيه المفترون بأن ما جاء به الإسلام هو النظام الذي لا تتم سعادة البشر في دنياهم فضلًا عن آخرتهم إلا به يوم يفوز الاشتراكيون في المماليك الأوروبية ويهدمون أكثر دعائم هذه الأثرة المادية ويرغمون أنوف المحتكرين إلى الأموال ويلزمونهم برعاية حقوق المساكين والعمال.
قلت: هذا ما نقله محمد رشيد رضا عن محمد عبده أستاذه وإمامه وما تعقب به كلامه لكنه ما لبث أن أخذ ينقضه كما لو لم يكن هونًا عليه بما عقب وسبحان من بيده مقاليد القلوب والعقول.
ثم قال (نفس المرجع: 4/128، 130) :
قال في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [الآية 130 من سورة آل عمران] ، وبعد أن نقل كلام محمد عبده وساق كلام ابن القيم في الربا الجلي والربا الخفي وفي ربا الفضل من " أعلام الموقعين " وقد سقناه منفصلًا.
وإنما تعرضت هنا لربا الفضل وهو ليس مما تناولته الآية الكريمة للتفرقة؛ ولأن مسألة الربا قد قامت لها البلاد المصرية وقعدت في هذه الأيام واقترح كثيرون إنشاء بنك إسلامي وألقيت فيها خطب كثيرة في نادي دار العلوم بالقاهرة خالف فيها بعض الخطباء بعضًا، فمال بعضهم إلى منع كل ما عده الفقهاء من الربا وأنحى بعضهم على الفقهاء ولم يعتد بقولهم، ومال آخرون إلى عدم منع ربا الفضل أو ما دون المضاعف فغلا بعضهم وتوسط بعض ولم يأت أحد بتحرير البحث وإقناع الناس بشيء يستقر عليه الرأي - قلت: عجبًا كأن المسألة لا تعدو أن تكون مسألة رأي يستقر عليه الناس ومن هم هؤلاء الناس؟! - وفي الليلة التي ختم فيها هذا البحث ألقى كاتب هذا - يعني رشيد رضا نفسه - خطابًا وجيزًا في المسألة، قال رئيس النادي حنفي بك ناصف في خطبته الختامية: إنه فصل الخطاب ورغب إلينا هو (رئيس النادي) وغيره أن ندونه - وعجبًا مرة أخرى فمحمد رشيد رضا الذي حمل مع أستاذه لواء الإنكار للتقليد على المقلدين يستظهر أو يعتز أو يستأنس في موضوع خطير هو موضوع الربا بشهادة من؟ شهادة حنفي ناصف ومن حنفي؟ أما في الفقه والعلوم الشرعية فلا نعرف له ركزًا ولكنه رئيس نادي دار العلوم، ولعل هذا في نظر رشيد رضا مؤهلًا كافيًا للاستظهار والاعتزاز أو الاستئناس بشهادته: وهذا هو بالمعنى.
إن الله حرم ربا النسيئة الذي كانت عليه الجاهلية تحريمًا صريحًا ونهى عنه نهيًا مؤكدًا، وورد في الأحاديث الصحيحة تحريم ربا الفضل والنهي عنه، فالبحث في هذه المسألة من وجهين: الوجه الأول النظر فيها من الوجهة النظرية المعقولة فنقول:
إن كل ما جاء به الإسلام من الأحكام الثابتة المحكمة فهو خير وإصلاح للبشر وموافق لمصالحهم ما تمسكوا به ولكن من الناس من يظن اليوم أن إباحة الربا ركن من أركان المدينة لا تقوم بدونه، فالأمة التي لا تتعامل بالربا لا تلتقي مدنيتها ولا يحفظ كيانها وهذا باطل في نفسه إذ لو فرضنا أن تركت جميع الأمم أكل الربا فصار الواجدون فيها يقرضون العادمين قرضًا حسنًا ويتصدقون على البائسين والمعوزين ويكتفون بالكسب من مواردهم الطبيعية كالزراعة والتجارة والصناعة والشركات ومنها المضاربة، لما زادت مدنيهم إلا ارتقاء ببنائها على أساس الفضيلة والرحمة والتعاون الذي يحبب الغني إلى الفقير ولما وجد فيها الاشتراكيون الغالون والفوضويون المغتالون. وقد قامت للعرب مدينة إسلامية لم يكن الربا من أركانها فكانت خير مدين في زمنها كما شرعه الإسلام من منع الربا هو عبارة عن الجمع بين المدينة والفضيلة وهو أفضل هداية للبشر في حياتهم الدنيا.
الوجه الثاني: النظر فيها من الجهة العملية بحسب حال المسلمين الآن في هذه البلاد فإننا نرى كثيرين يوافقوننا على أنه لو وجد للإسلام دول قوية وأمم عزيزة تقيم الشرع وتهتدي بهدى القرآن لأمكنها الاستغناء عن الربا ولكانت مدنيتها بذلك أفضل فلا اعترض على الإسلام في تحريم الربا؛ لأن شرعه لا يمكن أن يبيح الربا وهو دين غرضه تهذيب النفوس وإصلاح حال المجتمع لا توفير بعض الأفراد من أهل الأثرة.
ولكنهم يقولون: إننا نعيش في زمن ليس فيه أمم إسلامية ذات دول قوية تقيم الإسلام وتستغني عمن يخالفها في أحكامها وإنما زمام العالم في أيدي أمم مادية قد قبضت على أزمة الثروة في العالم حتى صارت سائر الأم والشعوب عيالًا عليها فمن جاراها منهم في طرق كسبها والربا من أركانه فهو الذي يمكن أن يحفظ وجوده معها، ومن لم يجارها في ذلك انتهى أمره بأن يكون مستعبدًا لها فعل يبيح الإسلام لشعب مسلم هذه حاله من الأوروبيين كالشعب المصري أن يتعامل بالربا ليحفظ ثروته وينميها فيكون أهلًا للاستقلال أم يحرم عليه ذلك - والحالة حالة ضرورة - ويوجب عليه أن يرضى باستنزاف الأجنبي لثروته وهي مادة حياته؟
هذا ما يقوله من مسلمي مصر الآن.
فالجواب عنه - بعد تقرير قاعدة أن الإسلام يوافق مصالح الآخذين به في كل زمان ومكان - من وجهين يوجه كل واحد منهما إلى فريق من المسلمين.
أما الأول فيوجه إلى فريق المقلدين وهم أكثر المسلمين في هذا العصر فيقال لهم: إن في مذاهبكم التي تقلدونها مخرجًا من هذه الضرورة التي تدعونها وذلك بالحيلة التي أجازها الإمام الشافعي الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر أهل هذا القطر والإمام أبو حنيفة الذي يتحاكمون على مذهبه كافة، ومثلهم في ذلك مثل أهل المملكة العثمانية التي أنشأت فيها مصاريف (بنوك) للزراعة بأمر السلطان وهي تقرض بالربا المعتدل مع إجراء حيلة التي يسمونها المبايعة الشرعية.
وأما الثاني فيوجه إلى أهل البصيرة في الدين الذي يتبعون الدليل ويتحرون مقاصد الشرع، فلا يبيحون لأنفسهم الخروج عنها بحيلة ولا تأويل فيقال لهم: إن الإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ودفع الحرج والعسر، الثابتة بنص قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الآية 185 من سورة البقرة] ، وقوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 6 من سورة المائدة]، وإن المحرمات قسمان: الأول: ما هو محرم لذاته لما فيه من الضرر وهو لا يباح إلا لضرورة ومنه ربا النسيئة المتفق على تحريمه وهو مما لا تظهر الضرورة إلى أكله ماله أضعافًا مضاعفة كما تظهر في أكل الميتة وشرب الخمر أحيانًا، والثاني ما هو محرم لغيره كربا الفضل المحرم لئلا يكون ذريعة وسببًا لربا النسيئة وهو يباح للضرورة بل وللمصلحة كما قال الإمام ابن القيم وأورد له الأمثلة من الشرع فقسم الربا إلى جلي وخفي (وقد أورد ذكرنا عبارته آنفًا)
فأما الأفراد من أهل البصيرة فيعرف كل من نفسه هل هو مضطر أو محتاج إلى أكل الربا وإيكاله غيره، فلا كلام لنا في الأفراد وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجاتها فهو الذي فيه التنازع.
وعندي - الكلام لرشيد رضا - أنه ليس الفرد من الأفراد أن يستقل بذلك
وإنما يرد مثل هذا الأمر إلى أولي الأمر من الأمة إلى أصحاب الرأي والشأن فيها والعلم بمصالحها عملًا بقوله تعالى في مثله من الأمور العامة: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [الآية 83 من سورة النساء] ، فالرأي عندي أن يجتمع أولو الأمر من مسلمي هذه البلاد وهم كبار العلماء المدرسين والقضاة ورجال الشورى والمهندسين والأطباء وكبار المزارعين والتجار ويتشاوروا بينهم في المسألة ثم يكون العمل بما يقررون أنه قد مست إليه الضرورة أو ألجأت إليه حاجة الأمة.
قلت: وعلى هذا النهج من التفكير وضع محمد رشيد رضا رسالته (الربا والمعاملات في الإسلام) التي كفانا التعقيب عنها عبد الرزاق أحمد السنهوري كما كفانا التعقيب عن غيرها من مقولات آخرين قلدوه أو ذهبوا مذهبه مما سننقله بنصه لنفاسته بعد قليل، لكن قبل ذلك نسوق كلام ابن القيم الذي اعتمد عليه محمد رشيد رضا ومن واكبه في دربه.
وتقسيم ابن القيم - ومن سار على نهجه أو سار هو على نهجهم مثل ابن رشد الحفيد - الربا إلى خفي وجلي وما إلى ذلك من التقسيمات التي يزعمونها يغفر الله لهم هي الأساس الذي ارتكز عليه من يحاولون اليوم تقويض تحريم الربا في الإسلام بمختلف الذرائع والتعلات وقد انتبه إلى ذلك السنهوري كما لم ينتبه إليه غيره من المعاصرين فحاج ابن القيم وغيره كما حاج من ارتكز على قوله من المعاصرين بهذا الحجاج الرائع الذي نورده كاملًا على طوله إذ لا نجد له مثيلًا ولا بديلًا، ونرى أن كل إيجاز له إخلال بما تضمنه من محاجة دامغة ما كان أحوجنا إليها في مواجهة من يحاولون باسم الصحوة الإسلامية والعمل على إعادة العزة للأمة الإسلامية تقويض الأسس الأولى للتشريع الإسلامي في المعاملات.
قال رحمه الله في (مصادر الحق في الفقه الإسلامي: 3/218، 249) بعد أن ناقش مختلف أقوال الفقهاء في تعليل حكم الربا وتفصيله، وساق كلام ابن القيم وابن رشد (وجله قد نقلناه آنفًا) في تقسيم الربا إلى جلي وخفي:
وابن القيم فيما رأينا قد ميز بين الربا الجلي والربا الخفي، فالربا الجلي هو كما يقول في (أعلام الموقعين: 2/99) ، (2/135 من النسخة التي بين أيدينا) :(ربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية على أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا مؤلفة) ، فواضح إذن أن الربا الجلي عند ابن القيم هو ربا النسيئة الذي تعودوا عليه في الجاهلية وهو الربا الذي يقول فيه الدائن للمدين إما أن تقضي وإما أن تربي. أما الربا الخفي فهو ما حرم؛ لأنه ذريعة إلى الجلي، ولما كان ربا الفضل هو الربا الذي تحرمه من باب سد الذرائع (ص 100)(ص 136 من نسختنا) فالربا الخفي إذن هو ربا الفضل وحده.
فإذا كان الربا الجلي عند ابن القيم هو ربا الجاهلية، وهو النوع الأول، والربا الخفي هو ربا الفضل، وهو النوع الثالث، فأين يقع النوع الثاني من الربا وهو ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف، أهو ربا جلي يلحق بربا الجاهلية أم هو ربا خفي فيلحق بربا الفضل؟ الظاهر أن ابن القيم قد ألحقه دون أن يصرح بذلك - بربا الجاهلية - فجعله ربا جليًّا مثله، فهو عندما يتكلم عن ربا النسيئة باعتبار أنه هو الربا الجلي يقصد كلًّا من ربا الجاهلية وربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف.
ولا يسعنا إلا أن نقف عند ما ينطوي عليه التمييز الذي يقول به ابن القيم من التحكم فهو قد ألحق ربا النسيئة بربا الجاهلية وجعل للنوعين حكمًا واحدًا مع أن مصدر التحريم مختلف في ربا الجاهلية مصدر التحريم القرآن الكريم وفي ربا النسيئة مصدر التحريم الحديث الشريف.
قلت: لكن السنهوري غفل عن حقيقة لا مراء فيها وهي أن الحديث الشريف - وإن كان آحاديًّا إلا عند ما لا يعمل بالآحادي، وهو شاذ لا يلتفت إليه - إذا جاء في حكم ورد في القرآن الكريم مجملًا أو بحاجة إلى مزيد من التفصيل فهو بيان لما تضمنه من قوة الحكم نفس ما للنص القرآني وهنا كان مزلق الكثير ممن لا يفرقون بين ما هو من السنة المجردة غير متصل بحكم منصوص عليه في القرآن وما هو بيان أو تفصيل أو تخصيص أو تقييد، أو ما إلى ذلك ورد فيه نص للقرآن الكريم، فالأول يمكن اعتباره أدنى درجة في قوة الحكم. أما الثاني فلا سبيل إلى التمييز بين درجته ودرجة النص المبين أو المفصل به من حيث قوة الحكم.
أما الثاني فلا سبيل إلى التمييز بين درجة النص المبين أو المفصل به من حيث قوة الحكم وإن اعتبر اللفظ الحديثي من حيث العلم ظنيًّا لا يرقى إلى درجة النص القرآني من حيث القطعية بل وحتى إن كان اللفظ الحديثي متواترًا، والعلم به قطعي يقيني فإنه مع ذلك لا يسامت من حيث درجة العلم به النص القرآني وهذا التمايز يكاد يكون نظريًّا صرفًا وإن شئت فعقيديًّا صرفًا وليس له أثر يذكر في تقييم الأحكام وتصنيفها وهذا ملحظ دقيق قل أن ينتبه إليه الناظرون في شؤون التشريع الإسلامي مع أنه واجب الملاحظة والانتباه.
ثم قال السنهوري رحمه الله:
ثم هو في الوقت ذاته قد فصل ما بين ربا النسيئة وربا الفضل، فجعل الأول جليًّا، والثاني خفيًّا مع أن مصدر التحريم فيهما واحد وهو الحديث الشريف.
ولا شك أن هذا الحكم لا مبرر له فإما أن يجعل للأنواع الثلاثة حكمًا واحدًا، ويعتبر أن درجة التحريم المستمدة من الحديث الشريف معادلة لدرجة التحريم المستمدة من القرآن الكريم، كما فعل فقهاء المذاهب كما قدمنا، وإما أن يميز بين درجة التحريم المستمدة من القرآن الكريم فيجعل ربا الجاهلية وحده هو الربا الجلي وبين درجة التحريم المستمدة من الحديث الشريف، فيجعل كلا من ربا النسيئة وربا الفضل ربًا خفيًّا ولا يقصر الربا الخفي على ربا الفضل وحده.
قلت: ليت شعري ما الذي يميز بين ألوان الربا ويعطي لبعضها حكمًا يختلف عن بعض في حين أن ربا الفضل وردت فيه نصوص من الحديث النبوي لا سبيل إلى اعتبارها أدنى درجة في قوة الحكم من ربا النسيئة الذي اعتبره البعض غير معادل في درجة الحكم لربا الجاهلية.
ذلك أن النصوص المستفيضة لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤكد بقوله مشيرًا بيده إلى أذنه وعينيه (أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وفيه ((ولا تشفوا بعضها ببعض)) وفي بعضها من طرق صحيحة، ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، وفيه " ((ولا تشفوا بعضها ببعض)) وفي بعضها من طرق صحيحة، ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه من طريق أبي سلمة ((الزائد والمستزيد في النار)) ، وقد سقنا هذين الحديثين بطريقهما المختلفة في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف "، ومن تتبعهما يتضح أن حديث أبي سعيد - على الأقل - أكثر من مجرد آحادي بل هو مستفيض وأحسبه حسب تحديد بعض الأصوليين للمتواتر يبلغ درجة الحديث المتواتر وهذا يعني أن منع الزيادة في التعامل بالجنس الواحد من الربويات وإن كان التعامل ناجزًا حرام بنص في مثل درجة منع النسيئة من حيث قوة الحكم، فماذا إذن ادعاء عدم التعامل في الحكم بينهما ادعاء جعل بعض " المتفقهة " من المحدثين يرتكز عليه في محاولة تقويض القواعد الأولى التشريع الإسلامي في المعاملات؟ !.
ثم قال السنهوري رحمه الله:
هذا الرأي الذي يقضي بفصل ربا الجاهلية الوارد في القرآن الكريم عن كل من ربا النسيئة وربا الفضل الواردين في الحديث الشريف هو الرأي الذي يقول به طائفة من الفقهاء المحدثين وعلى رأسهم الأستاذ السيد رشيد رضا.
ذهب السيد رشيد رضا في رسالته في الربا - وقد أشرنا إليها آنفًا - إلى أن الربا المحرم هو ربا الجاهلية وحده فهو الربا الوارد في القرآن الكريم، وهو الربا الذي أدى إلى خراب المدين إذ المدين بين أن يقضي وأن يربي، ويعجز عن القضاء عادة فليس أمامه إلا أن يربي ولا يزال الدين يتضاعف حتى يؤوده، ثم يؤدي إلى إفلاسه فهذا النوع من الربا هو الربا الخبيث ويكون معقولًا ما ورد في القرآن الكريم في شأنه من وعيد شديد وهو الربا الجلي الذي حرم تحريم مقاصد لا تحريم وسائل فلا يجوز التعامل به إلا للضرورة الملحة، وهي الضرورة التي تصل في الإلحاح إلى إباحة الميتة والدم.
قلت: لكن هذه الضرورة لا يخلو إما أن تكون فردية أو جماعية، فإن كانت فردية حالة خاصة بفرد أو أفراد وهي لا تكون إلا مسغبة قاتلة أو تشردًا يعرض صاحبه أو أصحابه للفناء بالحر، أو القر أو عريًا، كذلك وإذن فليس للفرد أو الأفراد في هذه الحال وقت للمساومة ولا جهد له بحيث يتم الاتفاق على نوع من الربا بل إن ربا الجاهلية هذا بزعمهم إنما يكون بعد حلول الأجل الأول وعجز المدين عن الوفاء، ولسنا ندري كيف يستقيم هذا الوضع مع وضع الضرورة التي أبيح فيها أكل الميتة ولحم الخنزير على أن الشرع في هذه الحال أباح للمضطر أن يقاتل من منعه الوقوع عليها حتى وإن أدى الأمر إلى قتله فكيف بأن ينتزعها منه، وإن بحيلة الربا بادي الأمر ثم لا يؤدي له إلا بحقه بغير زيادة.
وإن كانت جماعية وهي في عصرنا تتمثل في حال الدولة تضطر إلى الاستدانة من دولة أخرى، أو من مؤسسات مالية متخصصة وإذن فما هي درجة هذا الاضطرار، وما الذي أدى إليه، وما هي المبالغ التي تدفعها؟ أسئلة لا يجوز إصدار حكم دون الإجابة عنها؛ لأن بدون الإجابة عنها لا يقوم دليل الاضطرار.
ولا نستطيع أن نتصور دولة - مهما تبلغ من الفقر - تكون من الاضطرار للحفاظ على وجودها في درجة لا تجد مناصًا من الالتجاء إلى الربا ذلك بأن قيام الدولة لا يتأتى إلا بشعب وأرض والعوامل التي تدفع الدولة إلى الفقر، إما أن تكون طبيعية كالقحط المتصل في الدولة الفلاحية، وإما أن تكون مصطنعة كسوء الإدارة المالية والتبذير في النفقات ومحاولة التشبه بالدول الغنية ذاتيًّا أو بواسطة الربا.
وهذه الحالة الثانية لا يعتبرها الشرع ضرورة تبيح المحظور بل يأمر الشرع فيها بعقوبة المسؤولين عنها والعودة بالتسيير المالي والإداري إلى النهج الذي يضمن اكتفاء الدولة بمواردها الذاتية أو بموارد أخرى غير ربوية كالمساعدات الأجنبية والقروض على أساس شرعي كالمضاربة والسلم وما إليهما.
أما الحالة الأولى فلا نتصور وقوعها بيسر اعتبارًا للعرف الدولي الراهن فمشارع الإغاثة الدولية وطرقها ترفع حالة الاضطرار الذي يلجئ الدولة المنكوبة إلى محاولة دفع المسغبة عن شعبها بابتغاء القوت الضروري وما إليه بالوسائل الربوية.
فوضح من كلتا الحالتين أن دعوى الضرورة في إباحة الوسائل الربوية باطلة يدمغها الواقع الدولي، كما تدمغها الأحكام الشرعية الثابتة لمواجهة أحوال الاضطرار.
ثم قال السنهوري رحمه الله:
بقي إذن ربا النسيئة وربا الفضل الواردان في الحديث الشريف فما هو حكمهما؟ يذهب السيد رشيد رضا إلى أن النهي عنهما في الحديث إنما جاء سدًّا للذريعة للربا المحرم القطعي، وهو ربا الجاهلية وهي ذريعة مظنونة لا قطعية فهو يرى أن بيع الأصناف الستة بمثلها مع التناقض فضلًا أو نسيئة فضلًا عن تثمير الأموال بالشركات التجارية التي لا تلتزم شروط الفقهاء فيها كل هذا لا يدخل في الربا المحرم، وإنما يظهر - كما يقول - من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة الربا المحرم القطعي وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية ومن المنهيات في الأحاديث ما هو محرم وما هو مكروه، وما هو خلاف الأولى وما هو لمحض الإرشاد لا للتشريع الديني وإنما يكون التمييز بين هذه الأنواع بالأدلة الخاصة أو القواعد العامة أو التعارض بين النصوص وترجيح الأقوى، كالنهي عن أكل لحوم سباع الوحش والطير مع حصر نصوص القرآن لمحرمات الطعام في الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله له، وقد حققنا أن النهي فيه للكراهة وفاقًا لمذهب مالك جمعًا بينه وبين نصوص القرآن القطعية الرواية والدلالة بصيغتي الحصر وبينا فيه أن في التعبير في بعض الروايات بالتحريم قد يكون رواية بالمعنى بفهم الراوي أن المراد من النهي التحريم وكذلك يقال في النهي عن بيع النقدين وأصول الأغذية المذكورة في حديث عبادة إلا يدًا بيد أو مثلًا بمثل إذا اتحد الجنس والاكتفاء بالتقابض إذا اختلف ومما يدل على أن هذا المعنى غير مقصود بالذات ما صح في بيع العرايا وفي بيع الكثير من التمر الرديء بقليل من التمر الجيد بأنه يجعل العقد على بيع كل منهما بالثمن.
قلت: وأين ترك رشيد رضا - وهو يتحمل أمام الله والمسلمين تبعات هذا الزعم العجيب - حديث أبي سعيد وحديث أبي بكر، وفي الأول " ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، وفي الثاني:((الزائد والمستزيد في النار)) ، أيكون في النار من لم يقترف محرمًا؟! أليس هذان الحديثان حاسمين لكل ادعاء مانعين من كل وهم أو ظن.
وحديث " الجنيب "(1) ، الذي حاول أن يستدل به دون أن يذكره، أليس دليلًا عليه لا له؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أمَر عامله على خيبر أن يبيع التمر الرديء ويشتري به التمر الجيد وليس في لفظ الحديث ولا في قصته ما يدل على أن القضية قضية شكلية بأن يقدر هذا بالثمن والآخر بالثمن لمجرد عملية "تحليل" وحتى لو ثبت ذلك فإنه لا يتأتى إلا مع تاجر يتجر في أنواع مختلفة من التمر فالتاجر بدلًا من أن يعيد إلى العامل تمره ويستعيد من بائعه التمر الذي باعه، له أن يشتري التمر الذي بثمن السوق ويبيعه التمر الجيد بثمن السوق، وكل واحدة منهما صفقة منفصلة عن الأخرى، والقضية ليست قضية عقد قائم على حيلة كما توهم البعض ممن يحاولون العثور على أساس شرعي لتشريع " الحيلة " في نواحي شتى من العبادات والمعاملات الشرعية، ومنها الربا أنه قضية إبطال معاملة رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ربوية وتشريع أساس يمكن لمن وقع في مثل ما وقع فيه عامله على خبير أن يبلغ به مأربه دون أن يتجاوز الضوابط الشرعية فيمكن لأي أحد أن يدخل متجرًا يتجر في أصناف متفاوتة من جنس واحد ومعه صنف منها، ويريد غيره منها أن يبيع المتجر في أصناف متفاوتة من جنس واحد ومعه صنف منها، ويريد غيره منها أن يبيع المتجر الصنف الذي يريده سواء بالنقد الذي يأخذه ثمنًا لصنفه أو بنقد آخر قد يكون معه، فالعمليتان منفصلتان متغايرتان ليس بينهما أي ارتباط إلا في زعم رشيد رضا ومن نحا نحوه.
(1) الحديث رواه مالك في (الموطأ ص 520، 521، ح 18) من طريقين، فقال عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التمر بالتمر مثلًا بمثل)، فقيل له: إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ادعوه لي) فدعي له، فقال له رسول الله صلى الله عليه (أتأخذ الصاع بالصاعين؟) فقال: يا رسول الله، لا يبيعونني الجنبيب بالجمع - هما نوعان من التمر جيد ورديء - صاعًا بصاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) . عن عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إننا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) . وحدثني أبو سعيد هذا أخرجه كل من البخاري ومسلم والنسائي. انظر المزي (تحفة الأشراف: 3/357، ح 4044)
ثم قال السنهوري رحمه الله:
وواضح من هذه العبارات الأخيرة أن السيد رشيد رضا بعد أن اعتبر ربا الجاهلية هو الربا الجلي، وهو الربا المحرم لذاته تحريم المقاصد، ولا يجوز إلا للضرورة الملحة التي تبيح الميتة والدم ينزل بعد ذلك بالنوعين الآخرين من الربا ربا النسيئة وربا الفضل الواردين في الحديث الشريف - إلى منزلة دنيا من الحظر؛ إذ إن الظاهر من عباراته أنه يعتبر أن النهي عنهما الوارد في الحديث الشريف إنما هو الكراهة لا للتحريم، كالنهي عن أكل سباع الوحش والطير وهذا ما يقرب كثيرًا من مذهب ابن عباس الذي سنبينه فيما يلي.
قلت: وقد خالط رشيد رضا بين أمرين لا سبيل إلى دعوى المماثلة بينهما فيما يستدل لمذهبه فقضية لحوم سباع الوحش والطير أشبه ما تكون بقضية الحمر الأهلية، لكل منهما ظروفها وملابساتها، وليس هذا مجال بيانها ولذلك كان القول بأن النهي نهي كراهة فيهما أو في إحداهما قول وجيه له ما يسنده.
أما قضية العرايا التي تعلق بها هو ومن على شاكلته، فهي رخصة جاءت من الشارع صلوات الله وسلامه عليه، لحكمة رآها ليس هذا مجال تفصيلها ولو أنها جاءت منه نصًّا لما أمكن لأي مجتهد أن يجرؤ على تشريعها لما فيها من تماثل يكاد يكون كاملًا مع غيرها من صيغ ربا الفضل لولا ما يميزها من الحكمة التي من أجلها رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال السنهوري رحمه الله:-
وغني عن البيان أن القول بأن ربا النسيئة، وربا الفضل إنما نهي عنهما في الحديث الشريف،
نهي كراهة لا نهي تحريم، لا يتفق مع ما أجمعت عليه المذاهب الفقهية منذ القديم، وقد اعترض الأستاذ زكي الدين البدوي بحق على هذا الرأي في مقاله المشهور في (مجلة القانون والاقتصاد، السنة الخامسة: ص 187) ، وما بعدها، فقال: فخلاصة رأي السيد رشيد المتقدم حصر الربا المحرم في ربا الجاهلية الذي لا يدخل في مفهومه لا القرض بفائدة تشترط عند العقد، ولا بيع الأصناف الستة الواردة في السنة، ولا المعاملات الأخرى التي ألحقها فقهاء المذاهب الأربعة بالأصناف الستة في التحريم.
وإنا نلاحظ على هذا الرأي أنه مع صحته فيما يتعلق بالقرض بفائدة وغيره من المعاملات التي عدى إليها الفقهاء حكم التحريم في بيع الأصناف الستة بجامع علل اختلفوا فيها اختلافًا كبيرًا مما يؤيد رأيه في أن تحديد الوسائل ودرجة إفضائها إلى المقاصد من أشق الأمور التي تختلف فيها الأفهام، فلا تطمئن النفس إلى أن يكون شيء كهذا مناطًا للقول بالتحريم الديني - أقول: مع التسليم بصحة رأيه في هذه الجزئية فإنه يتعذر التسليم به في جزئية أخرى وهي قوله بعدم دخول بيع الأصناف الستة في الربا المحرم؛ لأن بيع الأصناف وإن كان وسائل وذرائع إلى الربا، إلا أنها وسائل وذرائع منصوصة ودلالة الأحاديث عليها لا تختلف فيها الأفهام، أما قوله: إن النهي عن بيع هذه الأصناف كان تورعًا لإفادة أن بيعها خلاف الأولى أو كان للكراهية فقط لا للتحريم، فدعوى تتعارض مع ظواهر نصوص الأحاديث والمأثور عن الصحابة فظاهر الأحاديث يفيد التحريم إذ أطلق على هذه البيوع لفظ الربا ومعلوم إثمه وما خص به من شديد الوعيد، وإذا سلمنا أن إطلاق لفظ الربا هنا من قبيل المجاز؛ لأن هذه البيوع ذرائع إلى الربا فلا أقل من أن تكون للشارع حكمة في إلحاقها بالربا، وهي أن يكون لها حكمه وهو الحرمة، وإن كانت حرمتها أخف من حرمة الربا الحقيقي بحيث يتجاوز عنها فيما تدعو إليه الحاجة كما هو رأي ابن القيم.
قلت: يغفر الله لزكي بدوي كان أولى به، وهو رجل القانون الضليع أن يجادل رشيد رضا في دعوى " الذرائعية "، في تحريم الربا في الأصناف الستة وأن يدمغه بأن المناط الجامع لتشريع التحريم هو أن التعامل بالمفاضلة فيها ظلم في حد ذاته آية ذلك أن كلمة الربا في القرآن الكريم لم يأت معها أو في سياقها ما يحدد دلالتها فكان الحديث النبوي الشريف هو الذي حدد مدلولها تمامًا كما حدد مدلول الصلاة والزكاة والحج وغيرها من شرائع العبادات والمعاملات التي لم يأت نص بيان جزئياتها أو مدلولات أسمائها والسنة النبوية مبينة بالإجماع ولو لم تكن مبينة لانبهم على المكلفين الكثير بل الأغلب من شرائع الله في العبادات والمعاملات، وإذن فالربا الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث وعين مجاله أو أمثلة لو في الأصناف الستة هو الربا الذي جاء في قوله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [الآية 279 من سورة البقرة] . بعد أن توعد آكل الربا بذلك الوعيد الشديد الذي لم يتوعد به فاعل أية فاحشة مهما عظم وزرها وليس في الشرع الإسلامي قرآنًا أو حديثًا، ما يدعو إلى التماس الفرق بين نوع وآخر من الأنواع الربوية التي كانت معروفة في العهد النبوي ولا مجال إلى الدعوى بأن بيع الأصناف الستة بالتفاضل في الجنس الواحد لم يكن معروفًا في العهد النبوي، فلو كان كذلك لما ورد في الحديث الشريف في صيغ مختلفة وحول وقائع مختلفة واستفاض لدى الصحابة حتى اشتد عمر في بعض صوره أو الصور القريبة منه تلك الشدة المستفيضة في حديث مالك بن أوس بن الحدثان.
وهذا النوع من الربا من المرجح أنه أيضًا كان معروفًا لدى اليهود الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الآية: (161) ] . وفي كلتا الآيتين آيتي البقرة، وهي من آخر ما نزل في الأحكام أو آخرها، وآية النساء، وهي مدنية أيضًا ذكر للظلم مقرونًا بالربا أو باعتبار الربا من مشمولاته، ذلك بأن الظلم في آية النساء ورد في صدرها، ثم جاءت المعطوفات عليه تبيانًا لأنواعه لا ذكرًا لأشياء أخرى خارجة عنه، واختتام الآية بقوله تعالى:{وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} ، تأكيد - والله أعلم - لمعنى الظلم في الصد عن سبيل الله وأخذ الربا المنهي عنه، فالظلم إذن هو المناط لتحريم الربا وجميع أنواع الربا محرمة لذاتها وليس منها ما هو محرم باعتباره وسيلة وما هو محرم باعتباره من المقاصد، وكما أن الإجحاف بالمدين العاجز بزيادة الفوائد الربوية عليه نفاد تأخير الأداء ظلم وتحريمه مقصود لذاته، فكذلك الإجحاف بمن تكون له الحاجة إلى نوع من جنس واحد إذا لم يتيسر له ويريد استبداله.
وقد لا يتجلى هذا التماثل في الإجحاف لو حصرناه في الأصناف الأربعة، إذ يدعى اعتبار التفاضل بين أنواع الصنف الواحد - وهي دعوى لها وجاهتها لولا أن الشارع دفع هذا الاعتبار بقضية " الجنيب "، فبين أن بيع النوع غير المرغوب فيه هو الحل الذي يرفع الظلم عن الطرفين. وبذلك ينتفي كل غبن لأن الاحتكام إلى سعر السوق لا يتيح الفرصة لأي من الطرفين استغلال حاجة الآخر.
لكن يتجلى الإجحاف بأجلى صوره في النقد فبيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة أو أي نقد حل محلها بجنسه متفاضلًا لا يخلو إما أن يكون نسيئة أم لا، والنسيئة ليس هذا مجال بحثها، أما المناجزة فلا بد من حافز إلى هذا النوع من التعامل والحافز، إما أن يكون الاختلاف في الجودة وهذا لا يتأتي إلا في النقد الذهبي أو في الفضي إذا أريد لعينه، وإذن فإضافة التفاضل إلى التباين في الجودة غبن مجحف بالذي تضطره حاجة ما إلى ابتغاء الأقل جودة أو الأحق وزنًا بأفضل منه أو أثقل، وإما أن يكون اضطراب السعر هذا يعني أن أحد الطرفين أدق ملاحقة لأسعار النقد من الطرف الآخر، والصورة التي يمكن تصورها لهذا النوع من المعاملة المستغلة تتأتى في حالة اختلاف النقدين سكًّا أو وزنًا بأن تكون لأحد المتبايعين عملة معينة من الذهب أو الفضة وتكون لدى الآخر عملة من نفس الجنس لكن ليست من نفس النوع، أعني أنها مسكوكة في مكان آخر وهو يعلم أن هذه التي لديه تباع في السوق بالنقد الفضي مثلًا أو بالنقد الذهبي، إن تلك العملة بالذات متفاضلة مع العملة التي لديه من نفس الجنس مراعيًا في سريرته ازدياد سعر عملته على عملة صاحبه في السوق بالنقد المختلف وبذلك يجحف بصاحبه؛ لأن الشرع الإسلامي لا يقوم على مراعاة السعر في الجنس الواحد، وإنما على مراعاة المماثلة في حين يفسح المجال لاعتبار السعر إذا اختلف الجنسان كما في حديث ابن عمر الذي أوردناه بطرقه في فصل " أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف "، إذا كان يسعر يومه وذلك ما سنزيده إيضاحًا في موقعه من هذا البحث.
وبهذا يتضح أن دعوى الذرائعية في ربا الفضل لا أساس لها، وأنه محرم لذاته وليس باعتباره وسيلة إلى الربا المحرم، وهو ربا الجاهلية بزعمهم بجامع وقوع الظلم به في كل منها وأن العلة الأساسية في تحريم الربا على اختلاف أنواعه هي منع الظلم لا سيما فيما هو أساسي معاش الناس أو لحياتهم الاقتصادية حسب التعبير الحديث وهذا ما غفل عنه الأستاذ زكي بدوي على ضلاعته دراية وفقهًا في التشريع.
ثم قال السنهوري رحمه الله:
ويبدو أنه يجب الذهاب إلى مدى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ زكي الدين، والقول بأن ربا النسيئة وربا الفضل يقتصران على الأصناف الستة المذكورة في الحديث الشريف بل يتجاوزان إلى ما عداها مما أشار إليه المذاهب الفقهية من الأصناف الأخرى، وهذا هو الذي انعقد عليه الإجماع وأن كل ذلك محرم لا مكروه فحسب ولكنه محرم تحريم وسائل لا تحريم مقاصد فربا الفضل وسيلة إلى ربا النسيئة ما في ذلك شك وربا النسيئة وسيلة إلى رب الجاهلية؛ إذ يكفي أن ربا النسيئة عند حلول أجل الدين أن يزيد الدائن في الأجل مشترطًا أن يزداد في الفائدة ليصل من هذا الطريق إلى ربا الجاهلية فكل من ربا الفضل وربا النسيئة وسائل إلى ربا الجاهلية، وقد حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يتذرع بهما إلى هذا الربا الممقوت فتحريمهما إذن هو من تحريم الوسائل لا من تحريم المقاصد.
قلت: كلا ليس كذلك بل تحريمها من ربا المقاصد تمامًا كتحريم ربا الجاهلية للمناط الذي أوضحناه آنفًا؛ ولأن ما التمس على كثير من الفقهاء والمتفقهة من تصور استبدال نوعين من الجنس الواحد متفاضلين ناجزًا قد أوضحه الحكم النبوي في قضية " الجنيب " بأنه يسير الاحتمال إذا تصورنا رغبة أحد الطرفين لديه نوع رديء أو أدنى منزلة من ذلك الجنس في نوع لدى الطرف الآخر واستغلال هذا الطرف تلك الرغبة من ذلك بأن يبيعه النوع الجيد أو المرغوب فيه بالنوع الرديء أو الأدنى منزلة المتيسرة له متفاضلًا تفاضلا لا تراعى فيه مماثلة الثمن لو أن كلًّا منهما وقع المبايعة فيه بالنقد على أساس سعر السوق وبذلك تنتفي شبهة استبعاد المبايعة في نوعين من جنس واحد بالتفاضل والمناط في تحريم ذلك المنع من استغلال حاجة المشتري بالفضل، ومن جشع البائع على أساس المفاضلة وإجحافه بالمشتري، وبما أن المناط هو منع الظلم فالتحريم إذن لهذا النوع مقصود لذاته وليس لمنع التوسل به إلى ربا النسيئة وتحريم ربا النسيئة مقصود لذاته وليس لمنع التوسل به إلى ربا الجاهلية.
والذي ألبس عليهم الأمر هو آية آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [الآية: (130) ] . إذ إنهم حاولوا أن يجعلوا الآيتين: آية البقرة، وآية آل عمران، تفسر إحداهما الأخرى واعتبروا آية آل عمران مع أنها أسبق نزولًا مفسرة لآية البقرة، وهذا خطأ فاحش، فالآية التي يمكن أن تكون مفسرة هي الآخر نزولًا ولو أننا مضينا معهم في منطقهم هذا لاعتبرنا آية البقرة في الخمر:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الآية: (219) ]، مفسرة لآية المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [الآية:90] . وما من أحد يقول بذلك إنما آية آل عمران مرحلة سابقة ممهدة للحكم الحازم والوعيد الشديد واللذين نصت عليهما آية البقرة وبدون ذلك لا يستقيم التأويل؛ إذ لا يمكن أن يكون البيان سابقًا للإجمال.
ثم قال - يغفر الله له -:
ثالثًا الاتجاه الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية الوارد في القرآن الكريم: " ولا ربا إلا في النسيئة " - لا يعني أن هذا آية وإنما هو حديث يبنى عليه قوله الآتي - يستدل أصحاب هذا الاتجاه- وعلى رأسهم ابن عباس - بحديث رواه ابن عباس نفسه، عن أسامة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا ربا إلا في النسيئة)) . فهم لا يحرمون ربا الفضل، ولا يحرمون إلا ربا النسيئة.
وقد قيل: إن ابن عباس لم يكن بلغه حديث الربا الذي رواه " أبو سعيد الخدري " - كذا وليس خطأ مطبعيًّا على ما يظهر وإنما هو من المؤلف نفسه إذ ستراه مكررًا مرات فيما سيأتي، وواضح أن صوابه " أن أبا سعيد الخدري " - نفسه، ذهب إلى ابن عباس وجرى بينها جدال عنيف في مسألة ربا الفضل " سعيد " يحرمه للحديث الذي رواه، وابن عباس يحلله لحديث أسامة " لا ربا إلا في النسيئة "، وينتهي هذا الحوار بأن يقول " سعيد ": لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول.
الظاهر هو ما قاله السبكي في " تكملة المجموع في شرح المذهب "، عن الشافعي أن رأي ابن عباس في عدم تحريم ربا الفضل هو رأي أهل مكة، ولعلهم كانوا يمارسون التجارة على نحو يضيق بربا الفضل وأن المكيين قد بلغهم دون شك، حديث ربا الفضل، ولكنهم كانوا يؤولونه على الكراهية لا على التحريم (تكملة المجموع: 10/38)
قلت: لم أعثر على هذا الذي نقله السنهوري عن السبكي بهذا اللفظ وفي الصفحة التي حددها ولا في قريب منها وقد أفاض السبكي رحمه الله في قصة ابن عباس وأبي سعيد وما حولها من آثار وروايات عن بعض الصحابة والتابعين في حوالي عشرين صفحة من " المجموع: ج 10"، وعقد فصلًا خاصًّا فيما نقل عن رجوع من قال بذلك من الصدر الأول، يعني من قال: لا ربا إلا في النسيئة وذكر فيه اختلافهم في رجوعه وعدم رجوعه عن مقولته تلك وساق روايات مختلفة عن أبي سعيد وقصته معه فضلًا عن تلك التي ساقها في الفصل السابق ومن الروايات التي أضافها في هذا الفصل ما رواه عن حيان - بالحاء المهملة والحياء المثناة - بن عبيد الله - بالتصغير - العدوي، قال:((سألت أبا مجلز عن الصرف، فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره ما كان منه عينًا يعني يدًا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة فلقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس، ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا، أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم، وهو عند زوجته أم سلمة: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة، فقالت: فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه أعجبه فتناول تمرة ثم أمسك، فقال: ((من أين لكم هذا؟)) )) فقالت أم سلمة: بعثت بصاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فأتى بدل صاعين هذا الصاع الواحد وها هو كل، فألقى التمرة بين يديه، وقال:((ردوه لا حاجة لي فيه التمر بالتمر الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدًا بيد، عينًا بعين، مثلًا بمثل، فمن زاد فهو ربا)) . ثم قال: (( ((كذا ما يكال أو يوزن أيضًا)) . قال ابن عباس: جزاك الله يا أبا سعيد الجنة، فإنك ذكرتني أمرًا كنت نسيته أستغفر الله وأتوب إليه فكان ينهى عنه أشد النهي)) . رواه الحاكم في المستدرك حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة وفي الحكم عليه بالصحة نظر؛ فإن حيان بن عبيد الله المذكور، قال ابن عدي: عامة ما يرويه إفرادات ينفرد بها، وذكر ابن عدي في ترجمته حديثه في الصرف هذا بسياقه، ثم قال: وهذا الحديث من حديث أبي مجلز، عن ابن عباس تفرد به حيان. قال البيهقي: وحيان تكلموا فيه.
واعلم أن هذا الحديث ينبغي الاعتناء بأمره وتبين صحته من سقمه لأمر غير ما نحن فيه، وهو قوله: وكذلك ما يوكل ويوزن.
وبعد أن أفاض في نفي ما ادعاه ابن حزم لإعلال هذا الحديث، وفي توثيق حيان بن عبيد الله، قال: وعن سليمان بن على الربعي، عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي، قال:"سمعت" - لعل صوابه: سمعته - يأمر بالصرف يعني ابن عباس، و"تحدثت" ذلك - لعل صوابه بذلك - عنه ثم بلغني أنك رجعت، قال: نعم، إنما كان ذلك رأيًا مني وهذا أبو سعيد حديث عن رسول الله صلى الله عليه أنه نهى عن الصرف. رويناه في سنن ابن ماجه ومسند ابن ماجه ومسند الإمام أحمد بإسناد رجاله على " شرطه " - لعل صوابه: على شرط بدون هاء - الصحيحين إلى سليمان بن علي، وسليمان بن على روى له مسلم، وقال ابن حزم: إنه مجهول لا يدري من هو، وهو غير مقبول منه لما تبين.
وعن أبي الجوزاء، قال: كنت أخدم ابن عباس رضي الله عنهما تسع سنين، إذ جاءه رجل فسأله عن درهم بدرهمين فصاح ابن عباس، فقال: إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا قال ناس حوله: إنا كنا لنعمل بفتياك، فقال ابن عباس: قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فإني أنهاكم عنه. رواه البيهقي في السنن الكبير بإسناده وفيه أبو المبارك وهو مجهول.
وروينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم - بضم النون وإسكان العين – أن أبا سعيد الخدري أتي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل، فمن زاد فقد أربى)) . فقال ابن عباس: أتوب إلى مما كنت أفتي به ثم رجع. رواه الطبراني بإسناد صحيح وعبد الرحمن بن أبي نعم تابعي ثقة متفق عليه معروف بالرواية عن أبي سعيد وابن عمر وغيرهما من الصحابة.
وعن أبي الجوزاء، قال: سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين يدًا بيد، فقال: لا أدري ما كان يدًا بيد بأسًا - لعل صوابه: لا أرى فيما كان. الحديث -ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه. رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن أبي الشعثاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: اللهم إني أتوب إليك من الصرف إنما هذا من رأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وراه الطبراني ورجاله ثقات مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم.
وعن عطية وهو الصوفي - بإسكان الواو وكسر الفاء - قال: قال أبو سعيد لابن عباس: تب إلى الله تعالى، ثم قال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة؟ وقال:((إني أخاف عليكم الربا)) قال فضيل بن مرزوق: فقلت لعطية: ما الربا؟ قال: الزيادة والفضل بينهما. رواه الطبراني بسند صحيح إلا عطية وعطية من رجال السنن، قال يحيى بن معين: صالح، وضعفه غيره فالإسناد بسببه ليس بالقوى.
وعن بكر بن عبد الله المزني، أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إنه لا بأس بالصرف ما كان منه يدًا بيد، إنما الربا في النسيئة فطارت كلمته في أهل الشرق والغرب حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس أكلت الربا وأطعمته، قال: أو فعلت؟ قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي، وإني أستغفر الله وأتوب إليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه، فمن زاد واستزاد فقد أربى وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة)) . رواه الطبراني بسند فيه مجهول وإنما ذكرناه متابعة لما تقدم وهكذا وقع في روايتنا، فمن زاد واستزاد بالواو لا بـ" أو". والله أعلم.
وروى أبو جابر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب معاني الآثار بإسناد حسن إلى أبي سعيد، قال: قلت لابن عابس: أرأيت الذي ((يقول: الدينار بالدينار)) - خطأ ظاهر صوابه من (معاني الآثار: 4/94) -:- أرأيت الذي تقول: الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين - وذكر الحديث.
ثم قال: قال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس.
وروى الطحاوي أيضًا عن نصر بن مرزوق، بإسناد لا بأس به، عن أبي الصهباء، أن ابن عباس نزل عن الصرف.
ثم قال: رواه الطحاوي عن أبي أمية بإسناد حسن إلى عبد الله بن حسين أن رجلًا من أهل العراق، قال لعبد الله بن عمر، إن ابن عباس، قال وهو علينا أمير: من أعطي بالدرهم مائة درهم فليأخذها وذكر حديثًا إلى أن قال: فقيل لابن عباس ما قال ابن عمر، قال: فاستغفر الله، وقال: إنما هو رأي مني.
وبعد أن ساق آثارًا نقلًا عن ابن عبد البر في هذا الشأن، قال: فهذا ما بلغني مما يدل على رجوعه عن ذلك، وإذا تأملت الروايات المذكورة وجدتها أصلح إسنادًا قول أبي الصهباء الذي رواه مسلم، أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه، لكن لفظ الكراهة ليس بصريح فجاز أن يكون كرهه لما وقع فيه من المناظرة الكبيرة شبهة تقتضي التوقف عنه أو التورع فإن ثبت عدم رجوع ابن عباس تعين حمل هذا اللفظ على ذلك فهو ظاهر في الرجوع، وقد روي عن طاوس، عن ابن عباس ما يدل على التوقف إلا أني قدمت من رواية الطحاوي عن أبي الصهباء ما ينفي هذا الاحتمال، ويبين أنه نزل عن الصرف صريحًا وإسناده جيد كما تقدم.
والحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك صريح، لكن سنده تقدم الكلام عليه ولا يقصر عن رتبة الحسن ويكفي في الاستدلال على ذلك أنه لم يعارضه ما هو أقوى منه.
ثم ساق شواهد أخرى على رجوع ابن عباس. ثم قال: روى ابن حزم عن الإمام أحمد، قال: حدثنا هاشم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن ابن عباس أنه قال: ما كان الربا قط في ها وهات وحلف سعيد بن جبير بالله ما رجع عنه حتى مات وهذا إسناد متفق على صحته لكنها شهادة على نفي.
ثم نقل عن ابن عبد البر، عن ابن عيينة، عن فرات القزاز، قال: دخلنا على سعيد بن جبير نعوده، فقال له عبد الملك بن ميسرة الزراد: كان ابن عباس نزل عن الصرف، فقال سعيد: عهدي به قبل أن يموت بستة وثلاثين يومًا وهو يقوله وما رجع عنه. ذكره هكذا بغير إسناد إلى ابن عيينة، قال ابن عبد البر: رجع ابن عباس أو لم يرجع في السنة كفاية عن قول كل واحد ومن خالفها رد إليها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا الجهالات إلى السنة.
ثم قال: اعلم أن دعوى الإجماع في ذلك منحصرة في ثلاثة أوجه: إما أن يدعى إجماع العصر الأول من غير سبق خلاف استنادًا إلى أن ندرة المخالف لا تدور، وإما أن يسلم بسبق
الخلاف المعتد به ويدعى رجوع المخالف وصيرورة المسألة إجماعية قبل إقراض ذلك العصر وإما أن يقال: انعقد إجماع متأخر بعد انقراض الماضين المختلفين.
أما الأول فقد اقتضى كلام بعضهم دعواه وزعموا أن الصحابة أنكرت عن ابن عباس في ذلك لمخالفته الجماعة، وقد اختلف علماء الأصول في انعقاد الإجماع مع ندرة الخلاف، فالجماهير من جميع الطوائف على أنه لا ينعقد الإجماع مع مخالفة الواحد؛ لأن المجتمعين حينئذ ليسوا كل الأمة والعصمة في الإجماع إنما ثبتت لكل الأمة لا لبعضهم؛ ولأن أبا بكر رضي الله عنه خالف الصحابة وحده في قتال ما نعي الزكاة وكان الحق معه ورجعوا إليه وخالف ابن مسعود وابن عباس في عدة من مسائل الفرائض جميع الصحابة امتد خلافهم إلى خلافهم إلى اليوم.
وهذا ظاهر على طريقة من يرى إسناد الإجماع إلى النصوص وهي طريقة الشافعي وكثير من أصحابه.
وأما على طريقة من يرى إسناد الإجماع إلى جهة قضاء العادة باستحالة إجماع الخلق العظيم على الحكم الواحد إلا لدلالة أو أمارة وهو الذي عول عليه إمام الحرمين وابن الحاجب، فيصعب على هذا المسلك تقرير أن مخالفة الواحد للجم الغفير والخلق العظيم تقدح في إجماعهم فإنهم بالنظر إليهم دونه تقضي العادة باستحالة إجماعهم على ما لا دليل عليهم ولا أمارة فأي فائدة لوفاقه أو خلافه؟ وكذلك إذا فرضنا أن مجموع علماء الأمة لا يبلغون مبلغ تقضي العادة باستحالة اجتماعهم على ذلك ينبغي على هذا المسلك أن لا يكون قول كلهم حجة ولهذا قال إمام الحرمين إن إجماع المنحطين عن رتبة التواتر ليس بحجة بناء على أن مأخذ الإجماع يستند على اضطراد العادة ومع ذلك وافق على أن مخالفة الواحدة والاثنين يقدح في الإجماع.
والطريقة الصحيحة هي التي عول عليها الشافعي وأكثر الأصحاب وهي التمسك بدليل السمع فلذلك خلاف الواحد والاثنين قادح في الإجماع.
وقد اشتهر الخلاف في ذلك عن ابن جرير الطبري، فقال: إنه يكون إجماع يجب على ذلك المخالف الرجوع إليه ووافقه أبو بكر أحمد على الرازي من الحنفية وأبو الحسن الخياط من المعتزلة وابن جرير بن منداد من المالكية.
ثم قال: وأمام هذه المسألة فإن النصوص فيها صريحة غير قابلة للتأويل بوجه قريب ولا بعيد ولا للنسخ لما سيأتي إن شاء الله تعالى وهي مع ذلك المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعني ما يدل على النهي عن ربا الفضل ولا تستعبدون دعوى التواتر فيها فمن تتبع الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له العلم بذلك أو كاد.
قال الطحاوي - بعد ما ذكر ما رواه من الأحاديث - فثبت بهذه الآيات المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب متفاضلًا.
ثم قال: وإذا كان في المسألة نصوص قطعية المتن قطعية الدلالة لم يكن مظان للاجتهاد بل الحق فيها واحد قطعًا.
غاية الأمر أن المجتهد المخالف لم يطلع عليها والتواتر قد يحصل في حق شخص ولا يحصل في حق آخر، فإذا خالف مجتهد لعدم اطلاعه على مثل هذه النصوص يكون معذورًا في مخالفته إلى حيث يطلع على النص ولا يحل العمل بقوله ذلك ولا "يقلده" - خطأ ولعل صوابه: ولا يقلد بالمفعول - فيه وينقض الحكم به ولو لم تصل إلى حد التواتر مع صراحة دلالتها كان الحكم كذلك. والله أعلم.
ثم مضى في بحث شيق في هذا الشأن لا يتسع له المجال فليراجع لنفاسته.
قلت: لا أحسب حديث أبي سعيد وابن عباس ينزل عن درجة التواتر عند استقصاء طرقه، ولا أجد سبيلًا للتمسك من بعضهم بروايات تشكك في عدم رجوع ابن عباس عن فتواه، ذلك بأن الأمة أجمعت على توثيق وتصحيح أحاديث البخاري ومسلم وعند كليهما ما يثبت بلا مراء رجوع ابن عباس عن فتواه، وقد سبق أن سقنا رواية البخاري حديث أبي سعيد في فصل " أحاديث في الصرف " ونسوق الآن روايات مسلم معتمدين على روايتي الشيخين إذ فيها الغناء عن روايات غيرهما.
قال مسلم في (صحيحه: 3/1216، ح 1594) :
حدثني عمرو الناقد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سعيد الجرير، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عباس عن الصرف، فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم قال: فلا بأس به. فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف، فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس به. قال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتكموه، قال: فو الله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأنكره، فقال: كأن هذا ليس من تمر أرضنا، قال: كان في تمر أرضنا أو في تمرنا العام بعض الشيء فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة، فقال: أضعفت أربيت لا تقربن هذا، إذا رابك من تمرك شيء فبعه ثم اشتر الذي تريد من التمر.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الأعلى، أخبرنا داود، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف، فلم يريا به بأسًا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، فسألته عن الصرف، فقال: ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جاء صاحب نخلة بصاع من تمر طيب، وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أنى لك هذا؟)) قال: انطلقت بصاعين، فاشتريت به هذا الصاع فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ويلك أربيت! إذا أردت هذا فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت)) .
قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه.
وبعد أن استعرض السنهوري حجج القائلين بحصر الربا المحرم في ربا الجاهلية أو ربا النسيئة، والداحضين لدعواهم هذه وقد أوردنا طائفة صالحة منها فيما نقلناه آنفًا عن السبكي من التكملة الثانية للمجموع، قال:
أما ما ينبغي أن يكون عليه موقف الفقه الإسلامي من الربا في العصر الحاضر فقد تباينت الآراء في ذلك، وتعارضت الاتجاهات وبحسبنا أن نسجل هنا اتجاهين عصريين متعارضين في الربا أحدهما يستبقيه واسعًا، كما هو في المذاهب الفقهية، والآخر يضيق فيه حتى يكاد يغلقه، ثم ننتقل بعد ذلك إلى ما نعتقد أن يكون هو الموقف المعقول للفقه الإسلامي من الربا في العصر، ونختم البحث لبيان الموقف الفعلى الذي وقفته من الربا التقنيات المدنية الغربية.
انعقد مؤتمر الفقه الإسلامي في باريس سنة 1951 م، وكان الربا من بين المسائل العامة التي تناولها بحث المؤتمر وقد ظهر أن هناك اتجاهين متعارضين في مسألة الربا في العصر الحاضر.
اتجاه يستبقيه كما هو في المذاهب الفقهية لا يميز بين ربا وربًا، فجميع أنواع الربا محرمة تحريمًا قطعيًّا، وقد مثل هذا الاتجاه الأستاذ محمد عبد الله دراز في المحاضرة التي ألقاها في المؤتمر ومثل الاتجاه الآخر - وهو الاتجاه الذي يذهب إلى أن الظروف الاقتصادية التي حرم فيها الربا قد تحولت عما كان عليه من قبل تحولًا جوهريًّا وأن حكم الربا في العصر الحاضر ينبغي أن يختلف عما كانت عليه في العصور السابقة - الأستاذ معروف الدواليبي في محاضرة أخرى ألقاها في المؤتمر.
يروي الأستاذ دراز حديث الربا المعروف ويشير إلى أن المذاهب الفقهية اعتبرت الأصناف الستة الواردة في الحديث - أحسبه يقصد حديث أبي سعيد الخدري - أمثلة من قاعدة عامة تنطبق على سائر الموارد التي تقوم عليها الحياة والتي مردها في الرأي الراجح عند الفقهاء إلى نوعين: الأثمان والمطعومات.
ثم يقول: (ص 14، 15) من المحاضرة - والعهدة على السنهوري فالمحاضرة ليست بين أيدينا -:
ومهما يكن من أمر في شأن هذا اختلاف الفرعي فإن هذه القاعدة تقضي بتقسيم الأشياء التي يراد تبادلها إلى ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يكون البدلان من نوع واحد كالذهب بالذهب، فهاهنا يخضع التبادل لشرطين اثنين التساوي في الكم والفورية في التبادل أعني عدم تأجيل شيء من البدلين. الضرب الثاني: أن يكونا من نوعين مختلفين من جنس واحد كالذهب بالفضة وكالقمح بالشعير فهذا يشترط شرطًا واحدًا وهو الفورية فلا يضر احتلاف الكم.
الضرب الثالث: أن يكون من جنسين مختلفين كالفضة والطعام، فلا يشترط في هذا شيء من القيدين المذكورين بل يكون التقايض فيهما حرًّا هكذا كلما كان البدلان من طبيعتين مختلفتين تمام الاختلاف بحيث لا توجد شبهة القصد إلى القرض بفائدة فإن الشريعة لا تضع أمام حرية التبادل حدًّا من الحدود، وهو تحري الصدق والأمانة فإذا ما أخذت طبيعة البدلين تتقارب بدون أن تتحد نرى عند الشرع شيئًا من الحذر المعقول المبني على احتمال أن يكون المتعاملان يقصدان إلى معاملات ربوية مع ترخيصه لهما بتفاوت البدلين في الكم يحظر عليهما تأجيل أحد العوضين سدًّا للطريق، أما فكرة القرض المحرم تحت ستار البيع، أما إذا اتحدت طبيعة البدلين - مع التفاوت في الأوصاف والقيم طبعًا وإلا لما كان هناك معنى التبادل - فإنه من السهل أن نفهم الحكمة التي من أجلها منع تأجيل البدل وذلك أن من شأن هذا التأجيل أن يحمل في طيه فكرة محظورة وإن يكون القصد هو القرض باسم البيع.
ويذهب الأستاذ دراز إلى أن هناك دعائم قوية يقوم عليها تحريم الربا في جميع صوره، فهناك الدعامة الأخلاقية التي إذا جوزت الربح من طريق المعاملة (أي البيع) فإنها لا تجوزه من طريق المجاملة (أي القرض) وهناك الدعامة الاجتماعية وهذه تقضي بأن مجرد تقرير ربح مضمون لرب المال بدون أن يكون في مقابل ذلك ضمان ربح للمقترض هذا الوضع فيه محاباة للمال وإيثار له على العمل وهذه الوسيلة تزيد في توسيع المسافة وتعميق الهوة بين طبقات الشعب بتحويل مجرى الثروة وتوجيهها إلى جهة واحدة معينة بدلًا من أن تشجع المساواة في الفرص بين الجميع وأن تقارب بين مستوى الأمة حتى يكون أميل إلى التجانس وأقرب إلى الوحدة، وأن اللمحة البارزة في التشريع القرآني وكذلك في كل تشريع اجتماعي جدير بهذا الاسم هي الحيلولة دون هذه المحاباة لرأس المال على حساب الجمهور الكادح والسعي لتحقيق نوع من التجانس والمساواة بين أفراد الأمة إنها لكلمات قصيرة ولكنها ذات مدى بعيد تلك التي يرسم فيها القرآن دستور هذه السياسة حيث يقول:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الآية 7 من سورة الحشر](ص 20) .
وهنالك أخيرًا الدعامة الاقتصادية فإنه بمجرد عقد القرض أصبح العمل ورأس المال في يد شخص واحد ولم يبق للمقرض علاقة ما بذلك المال، بل صار المقترض هو الذي يتولى تدبيره تحت مسؤوليته التامة لربحه أو لخسره حتى إن المال إذا هلك أو تلف فإنه يهلك أو يتلف على ملكه، فإذا أصررنا على إشراك المقرض في الربح الناشئ وجب علينا في الوقت نفسه أن نشركه في الخسارة النازلة إذ كل حق بقابله واجب أو كما تقول الحكمة النبوية:(الخراج بالضمان)(1) أما أن نجعل الميزان يتحرك من جانب واحد فذلك هو معاندة الطبيعة
…
ومتى قبلنا اشتراك رب المال في الربح والخسر معًا، انتقلت المسألة من موضوع القرض إلى صورة معاملة أخرى وهي الشركة التضامنية الحقيقية بين رأس المال والعمل وهذه الشركة لم يغفلها القانون الإسلامي بل أساغها ونظمها تحت عنوان: المضاربة " أو " القراض " غير أنه لكي يقبل رب العمل - خطأ صوابه: رب المال - الخضوع لهذا النوع من التعامل يجب أن يكون لديه من الشجاعة الأدبية ما يواجه به المستقبل في كل احتمالاته وهذه فضيلة لا يملكها المرابون لأنهم يريدون ربحًا بغير مخاطرة وذلك ما يسمى تحريف قواعد الحياة ومحاولة تبديد نظمها هكذا إذا سرنا وفقًا للأصول والمبادئ الاقتصادية في أدق حدودها كانت لنا الخيرة بين نظامين اثنين لا ثالث لهما، فإما نظام يتضامن فيه رب المال والعامل في الربح والخسر، وإما نظام لا يشترك فيه معه في ربح ولا خسر ولا ثالث لهما إلا أن يكون تلفيقًا من الجور والمحاباة.
(1) أخرجه البيهقي من عدة طرق، وفيه قصة اختلف فيها. انظر (السنن الكبرى: 5/321، 322)
ثم ينتقل الأستاذ دراز إلى المسألة العملية الهامة في محاضرته فيقول: وأما المسألة الثانية وهي حكم الربا في وقتنا هذا، فإنها ليست قضية مبدأ وإنما هي قضية تطبيق
…
وهي فوق ذلك ليست فيما أرى من الشؤون التي يقضي فيها فرد أو بضعة أفراد بل ينبغي أن يتداعى لها طوائف من الخبراء في القانون والسياسة والاقتصاد من كل جانب وأن يدرسوها دراسة دقيقة مستفيضة من جميع نواحيها الحاضرة والمستقبلية وكل ما أريد أن أقول الآن يتلخص في جملتين أرجو أن يتخذا أساسًا للبحث في التفاصيل الأولى، هي أن الإسلام قد وضع إلى جانب كل قانون بل قانون قانونًا أعلى يقوم على الضرورة التي تبيح كل محظور {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الآية 119 من سورة الأنعام] . الثانية هي أنه لأجل أن يكون تطبيق قانون الضرورة على مسألة ما تطبيقًا مشروعًا لا يكفي أن يكون المرء عالمًا بقواعد الشريعة، بل يجب أن يكون المرء عالمًا بقواعد الشريعة، بل يجب أن يكون له من الورع والتقوى ما يحجزه عن التوسع أو عن التسرع في تطبيق الرخصة على غير موضعها، بل يجب أن يبدأ باستنفاد كل الحلول الممكنة المشروعة في الإسلام، فإنه إن فعل ذلك عسى ألا يجد حاجة للترخص ولا للاستثناء، كما هو سنة الله في أهل العزائم من المؤمنين {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الآيتان 2 و 3 من سورة الطلاق](ص 21، 22) .
ويبدو أن الأستاذ دراز يقرر كمبدأ عام تحريم الربا في جميع صوره وأشكاله دون تدرج في مرتبة التحريم بأن يكون من صور الربا ما هو محرم تحريم المقاصد وما هو محرم تحريم الوسائل وإذا تكلم عن الضرورة التي تبيح الربا، فإنما هي الضرورة الملحة التي يكون من شأنها أن تبيح أكل الميتة والدم، وذلك في جميع صور الربا دون استثناء وليست الضرورة عنده هي مجرد الحاجة، بل إنه أوصى في آخر عبارته بالهوادة والتأني قبل القول بقيام الضرورة ويتطلب ممن يقول بذلك فوق العلم لقواعد الشريعة الإسلامية ورعًا وتقوى يحجزانه عن التوسع أو عن التسوغ في تطبيق الرخصة على غير موضعها كما يجب أن يبدأ باستنفاد كل الحلول الممكنة المشروعة في الإسلام فإنه إن فعل عسى ألا يجد حاجة للترخص والاستثناء.
على أننا نلاحظ أن الأستاذ دراز من جهة أخرى يسلم بأن هناك صورًا من الربا إنما حرمت سدًّا للذرائع، فتحريمها تحريم للوسائل لا للمقاصد فهو يقول (ص 15) :" ولذلك نجده (أي المشرع) مع ترخيصه لهما بتفاوت البدلين في الكم يحظر عليهما تأجيل أحد العوضين سدًّا للطريق أمام فكرة القرض المحرم تحت ستار البيع ".
ثم يقول (ص 17) : " وواضح أن تسمية الربح المجتلب من طريق هذا التبادل الذي تنقصه الصراحة والأمانة باسم الربا إنما هي تسمية مجازية قصد منها إلى إبراز ما فيه من مخالفة قانون الأخلاق ومجافاة لقواعد الرحمة الإنسانية وذلك بتشبيه بالربا الحقيقي الذي هو مثل من السحت وأكل المال بالباطل" إذن هنالك ربا حقيقي هو مقل في السحت وأكل المال بالباطل وهنالك ربًا مجازي سمي ربا لإبراز ما فيه من مخالفة لقانون الأخلاق ومجافاة لقواعد الرحمة الإنسانية وذلك بتشبيه بالبربا الحقيقي أليس الربا الحقيقي والربا المجازي في لغة الأستاذ دراز هو الربا الجلي والربا الخفي في لغة ابن القيم، بل إننا نرى الأستاذ دراز يساير ابن القيم فيما ذهب إليه من جواز بيع المصوغات الذهبية بأكثر من وزنها ذهبا فهو يقول (ص 61) :" فإذا صح ما ذهبنا إليه في تفهم مقاصد الشريعة من هذا الحكم لم يبق حرج قط - كما أوضحه ابن القيم في " أعلام الموقعين " - في أن تباع المصوغات الذهبية بأكثر من وزنها ذهبًا أو المصوغات الفضية بأكثر من وزنها فضة ذلك لأن قيمة الصنعة قد قدرت هنا بمعيارها الواضح الذي لا يدع مجالا لتزييف تراضي المتابعين " فهل يميز الأستاذ دراز في الحكم بين الربا الحقيقة والربا المجازي كما ميز ابن القيم في الحكم بين الربا الجلي والربا الخفي وهل هو يقر ابن القيم على أن الربا الحقيقي لا يجوز إلا للضرورة الملحة وأما الربا المجازي فيجوز لمجرد الحاجة؟ وهل أباح الأستاذ دراز كما أباح ابن القيم أن تباع المصوغات الذهبية بأكثر من وزنها ذهبًا لقيام الحاجة دون أن تقوم الضرورة؟ لا نظن ذلك فإن الأستاذ دراز يعلل الأمر في المصوغات الذهبية بأن للصنعة قيمة يقابلها شيء من الثمن فهو لا يتكلم هنا لا عن الضرورة ولا عن الحاجة ثم إن تمييزه بين الربا الحقيقي والربا المجازي لا يريد من ورائه تمييزا في الحكم بل مجرد البيان والإيضاح وإلا فهو قد جمع بين صور الربا كلها في حكم واحد وهو التحريم القطعي ولم يجز الربا في أية صورة إلا للضرورة الملحة ثم هو يريد من الناس أن تترفق قبل القول بقيام هذه الضرورة.
ويستند الأستاذ دراز في تقرير رأيه إلى الاعتبار الاقتصادي ويشير إلى ضرورة أن يتقاسم رأس المال والعمل الربح والخسارة كما هو في المضاربة أو القرض ولكن في نظام اقتصادي يقوم على رأس المال أي في نظام رأس مالي كالنظم القائمة في كثير من البلاد، يصح أن يكون لرأس المال أجرة مكفولة كأجرة الأعيان والأمر يتعلق بالنظام الاقتصادي القائم، فإذا أريد إيثار العمل على رأس المال وتوحيد طبقات الشعب دون محاباة لرأس المال على حساب الجمهور الكادح - كما يقول الأستاذ دراز في الاعتبار الاجتماعي الذي أخذ به - فإن هذا يقتضي في نظرنا تحرير النظام الاقتصادي القائم من نظام رأس مالي إلى نظام اشتراكي وللنظام الاشتراكي مبررات لا تقل عن مبررات النظام الرأس مالي.
يذهب الأستاذ معروف الدواليبي في المحاضرة التي ألقاها في مؤتمر الفقه الإسلامي بباريس إلى أن الربا المحرم إنما يكون في القروض التي يقصد بها الاستهلاك لا إلى الإنتاج، ففي هذه المنطقة - منطقة الاستهلاك - يستغل المرابون حاجة المعوزين والفقراء ويرهقونهم بما يفرضون عليهم من ربا فاحش أما اليوم وقد تطورت النظم الاقتصادية وانتشرت الشركات وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا قروض استهلاك، فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الحضارة من تطور في الأحكام ويتضح ذلك بوجه خاص عندما تقترض الشركات الكبيرة والحكومات من جماهير وصغار المدخرين فإن الآية تنعكس والوضع ينقلب ويصبح المقترض - أي الشركات والحكومات - هو الجانب القوي المستغل ويصبح المقرض - أي صغار المدخرين - هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية.
فيجب إذن أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في الفقه الإسلامي ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض الاستهلاك ولا تعدو الحال أحد أمرين إما أن تقوم الدولة بالإقراض للمنتجين وإما أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة والحل الثاني هو الحل الصحيح، ويرى الأستاذ الدواليبي إمكان تخريجه على فكرة الضرورة وعلى فكرة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة كما لو تذرع العدو بمسلم فلا مناص من قتل المسلم حتى يمكن الوصول إلى العدو.
ويؤخذ على هذا الرأي أمران:
1-
يصعب كثيرا من الناحية العملية التمييز بين قروض الإنتاج وقروض الاستهلاك حتى تباح الفائدة المعقولة في الأولى وتحرم إطلاقا في الثانية قد يكون واضحا في بعض الحالات أن القروض قروض إنتاج يصح أن تباح فيها الفائدة المعقولة كما هو الأمر في القروض التي تعقدها الحكومات والشركات ولكن هنالك صورا أخرى من القروض أكثرها وقوعا القروض التي تعقدها الأفراد مع المصارف والمنظمات المالية هل هي قروض إنتاج تباح فيها الفائدة المعقولة أو هي قروض استهلاك لا تجوز فيها الفائدة أصلًا؟ وهل نستطيع التمييز في كل حالة على حدة فنبيح هنا ونحرم هناك؟ ظاهر أن هذا التمييز متعذر، فلا بد إذن من أحد أمرين ما أن تباح الفائدة المعقولة في جميع القروض وإما أن تحرم في جميعها، وإذا فرضنا جدلا أنه يمكن تمييز قروض الإنتاج فإن تخريج الفائدة المعقولة في هذه القروض على فكرة الضرورة لا يستقيم، فالضرورة بالمعنى الشرعي ليست قائمة وإنما هي الحاجة لا الضرورة وينبغي التمييز بين الأمرين.
قلت: ثم إن هذه الشبهة الدواليبية أغفلت أمرين أحدهما أن قروض الإنتاج تؤدي آخر الأمر إلى قروض استهلاك؛ إذ السلع المنتجة إنما أنتجت لتستهلك فمصيرها آخر الأمر إلى الاستهلاك داخل الدولة أو خارجها ولو أبيحت الفائدة عليها كان المستهلك هو الذي يؤديها؛ لأنها تضاف إلى سعر التكلفة باعتبارها جزءا منها، ثم تضاف الأرباح إلى المجموع المستهلك إذن يؤدي هذه الفائدة وربحًا عليها للمقترض المنتج. أما الثاني فما سمي بقروض الإنتاج لا يختلف كثيرا عن ربا الجاهلية الذي لم يجادل أحد في تحريمه فمعظمه كان ديونًا يستدينها التجار من المدخرين على أن يردوها بفائدة عند عودتهم من الرحلة التجارية وقد لا يربح التاجر المستدين فيؤجل ويزيد تماما كما تفعل المصارف والمؤسسات المالية وبعض الدول أيضا بالمقترض المنتج إذا عجز عن الأداء في الأجل لكن الشبهة الدواليبية أغفلت ذلك لسنا ندري أعن غفلة أم عن عمد وسبق إصرار.
ثم قال السنهوري رحمه الله:
لا نشك في أن الواجب في كل العصور وفي جميع الحضارات أن يحرم الربا كمبدأ عام، وقد تضافر القرآن الكريم والحديث الشريف على تقرير تحريم الربا كأصل عام من أصول التشريع الإسلامي. والفقه الإسلامي يحرم الربا ويرمي من وراء تطبيقه إلى تحقيق أغراض سامية جليلة ثم نقل نصوصًا عن ابن القيم وابن رشد كنا نقلناها سابقًا.
ثم قال:
يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك أغراضا ثلاثة يقصد إلى تحقيقها من وراء تحريم الربا: (أولا) منع احتكار أقوات الناس، (ثانيا) منع التلاعب في العملة حتى لا تتقلب أسعارها وحتى لا تصبح هي ذاتها سلعة من السلع، (ثالثا) منع الغبن والاستغلال عند التعامل في الجنس الواحد؛ لأن التفاضل في الكم لا يمكن حسابه بدقة تواجه التفاضل في الكيف، فلا بد من وقوع الغبن على أحد المتبايعين، ومن ثم قال: النبي صلى الله عليه وسلم لمن باع التمر صاعين بصاع ذلك من الربا ثم بيعوا تمرنا ثم اشتروا لنا من هذا (1) فأضبط معيار للتعادل ما بين مقدارين من جنس واحد هو النقود يباع أحد المقدارين بنقود ثم يشتري بالنقود المقدار الآخر، فإذا تعادل المقداران كمًّا وكيفًا فإن التبادل فيهما يكون من باب الصرف.
ويعلق على هذا بقوله: ويقول الأستاذ محمد عبد الله دراز في محاضرته المشار إليها (ص 17) في الأغراض المقصود تحقيقها من طريق تحريم الربا ما يأتي: " ولكي نلخص فكرتنا عن القواعد التي وضعها التشريع النبوي في باب التبادل والتقايض، نقول: إن هذه القواعد تهدف إلى غرض مزدوج فهي من إحدى الجهتين تريد أن تحمي النقود والأطعمة وهي أهم حاجات الجماعة وأعظم مقومات حياتها وذلك بمنع وسائل احتكارها أو إخفائها من الأسواق أو تعريضها للتقلبات الثمينة المفاجئة وهي من الجهة الأخرى تحرص على حماية الفقراء والأغرار من طرق الغبن والاستغلال التي يتبعها بعض التجار الجشعين.
(1) يشير إلى حديثي العجوة والجنيب.
ثم يضيف السنهوري قائلا:
على أننا إذا استبقينا الحرمة كأصل عام للربا في جميع صوره فلا بد لنا مع ذلك من استبقاء التمييز بين ربا الجاهلية من جهة وكل من ربا النسيئة وربا الفضل من جهة أخرى فإن هذا التمييز من الوضوح والخطر بحيث لا وجه للمنازعة.
فربا الجاهلية محرم لذاته تحريم المقاصد وكل من ربا النسيئة وربا الفضل محرم لا لذاته، بل باعتباره ذريعة إلى ربا الجاهلية فهو محرم تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد وذلك سدًّا للذرائع.
قلت: لكن إذا نظرنا بعمق إلى الحكم التي أشار إليها السنهوري نفسه ونقلها موجزة على تعليقة الأستاذ عبد الله دراز رحمه الله نتبين أن هذا التمييز الذي أراد السنهوري أن يستبقيه لا حاجة إلى استبقائه، بل لا حاجة وله ولا وجود له في حقيقة الأمر والواقع، ذلك بأن ثبوت حكمة واحدة فضلا عن حكم متعددة في تشريع شريعة ما، أمرًا أو نهيا، يدل على أن تشريعها مقصود لذاته وليس وسيلة تسد بها ذريعة أو يتذرع بها إلى هدف أن ثبوت المناط ما لم يكن - إثباته وإثبات التوسل - ثبوت لكون التشريع تشريع مقاصد.
ثم قال السنهوري:
ولا نزال نستبقي النتيجة الهامة التي تترتب على هذا التمييز فربا الجاهلية لا تجيزه إلا ضرورة ملحة من شأنها أن تبيح أكل الميتة والدم، أما كل من ربا النسيئة وربا الفضل فيكفي لإجازته أن تقوم الحاجة إلى ذلك.
قلت: هذا إذا سلمنا بوجود التمييز، أما عند انتفائه، كما أوضحنا آنفا، فإن النتيجة التي أراد أن يصل إليها السنهوري تنتفي تلقائيًّا.
ثم قال السنهوري:
وقد يكون غريبا أننا لم نعالج في صور الربا حتى الآن الصورة المألوفة التي تتكرر كل يوم، وهي صورة القرض بفائدة، فإن جميع أنواع الربا التي عرضنا لها - لاسيما الربا الوارد في الحديث الشريف - إنما هو بيوع لا قروض، فهل القرض يدخل في البيوع الربوية؟
يبدو أن هذا السؤال غريب فإن القرض هو أول عقد ربوي في الشرائع الحديثة، ولكن الواقع أن القرض في الفقه الإسلامي ليس أصلا من العقود الربوية إذ البيع هو الأصل كما رأينا ويقاس على البيع الربوي القرض الذي يجر منفعة.
قلت: ذلك لو صح أن ربا الجاهلية لم يكن كله أو جانب منه قائما على القرض وهذا غير صحيح، بل قد يكون القرض هو أغلب ما عرفه الجاهليون من أنواع الربا، كان التجار يقترضون من أرباب الأموال أثمانا أو سلعا وهم يستعدون لرحلة تجارية على أن يعيدوا ما اقترضوه إلى المقرض بفائدة معلومة، فمن عجز منهم طلب التأجيل والتزم بالزيادة، وهل قرض المصارف اليوم إلا هكذا سواء كان لمؤسسات الإنتاج أو للأفراد المستهلكين.
ثم قال:
وهذا بعض ما جاء في كتب الفقه الإسلامي من النصوص في القرض الذي يجر منفعة جاء في (البدائع: 7/395، 396) : وأما الذي يرجع إلى نفس القرض فهو ألا يكون فيه جر منفعة، فإن كان لم يجز نحو ما إذا أقرض دراهم غلة على أن يرد عليه صحاحًا، أو أقرضه وشرط شرطًا له فيه منفعة لما روي ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جر منفعة)) (1) ولأن الزيادة المشروطة تشبه الربا لأنها فضل لا يقابله عوض، والتحرز من حقيقة الربا ومن شبهة الربا واجب هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في القرض، فأما إذا كانت غير مشروطة فيه ولكن المستقرض أعطاه أجودهما فلا بأس بذلك؛ لأن الربا اسم لزيادة مشروطة في العقد ولم توجد، بل هذا من باب حسن القضاء، ولأنه أمر مندوب إليه قال النبي صلى الله عليه وسلم:((خيار الناس أحسنهم قضاء)) (2) وقال النبي عليه الصلاة والسلام عند قضاء دين لزمه للوازن: زن وأرجح (3) ، وعلى هذا تخرج مسألة السفاتج التي يتعامل بها التجار ينتفع بها بإسقاط خطر الطريق فتشبه قرضا جر نفعًا، فإن قيل: أليس أنه روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه كان يستقرض بالمدينة على أن يرد بالكوفة، وهذا انتفاع بالقرض لإسقاط خطر الطريق فالجواب أن ذلك محمول على أن السفتجة لم تكن مشروطة في القرض مطلقًا ثم تكون السفتجة وذلك مما لا بأس به على ما بينا والله أعلم.
وجاء في (الفتاوي الهندية: 3/202، 203) : وقال محمد رحمه الله في كتاب الصرف أن أبا حنيفة رحمه الله كان يكره كل قرض جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة بأن يقرض غلة ليرد عليه صحاحًا أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به، كذلك إذا أقرض رجل دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض من المقرض متاعا بثمن غال فهو مكروه، هذا إذا تقدم القرض على البيع، وأما إذا تقدم البيع على القرض وصورة ذلك رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب منه المعاملة من الطالب ثوبا قيمته عشرون دينار بأربعين دينارا، ثم أقرض ستين دينار حتى صار للمقرض على المستقرض مائة دينار وحصل للمستقرض ثمانون دينارًا، فذاك الخصاف أن هذا جائز، وإذا جعل في بذل القرض لم يكن الرجحان مشروطًا به في القرض فلا بأس به، كذا في المحيط.
(1) انظر التعليق رقم: (1) في الصفحة: 2065
(2)
و (3) انظر التعليم رقم: (3) في الصفة: 1925
(3)
في الصفة: 1925
قلت: حكاية هذه المعاملة بيع ثوب بضعف ثمنه لمستقرض لا تخرج من نطاق الحيل التي منعها المحققون وعقد لها ابن القيم في " أعلام الموقعين " فصولا طوالًا والصفقة عندنا ربا وهى حرام مرتين: الأولى لأنها ربا، والثانية صيغت بصيغة يراد بها الاحتيال على الله.
وجاء في الشرح الكبير للدردير (حاشية الدسوقي: 3/226، 227) - والعهدة على السنهوري.
ولو جر منفعة كشروط قضاء عفن بسالم أو شرط دفع دقيق أو كعك ببلد غير بلد القرض ولو لحاج لما فيه من تخفيف مؤونة حمله ومفهومه الجواز مع عدم الشرط وهو كذلك ثم شبه في المنع قوله كسفتجة.. الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقرض نظير ما أخذه منه ببلده، ويحتمل أنه مثال لما جر منفعة، إلا أن يعم الخوف، أي يغلب سائر الطرق فلا حرمة، بل يندب للأمن على النفس أو المال، بل قد يجب.
قلت: هذا كلام مزيج من كلام الشارح وصاحب الأصل (خليل) وكان الأولى أن يفصل بين كلامهما، ولبيان المعنى بأوضح وتمييز كلام خليل من غيره ننقل من (الشرح الصغير للدردير: 3/295) ما يأتي واضعين كلام خليل بين قوسين جاء فيه: (وفسد) القرض (إن جر منفعة) للمقرض (كعين) أي ذات - ذهبا وفضة أو غيرهما - (كرهت إقامتها) عنده لأمر من الأمور، إما لثقل حملها في سفر أو خوف سوسها أو قدمها أو عفنها أو تغير ذاتها بقامتها عنده، فيسلفها ليأخذ بدلها في بلد آخر أو جديدًا أو سالمًا، فيحرم ويرد على صاحبه ما لم يفت، فالقيمة كما هو مقتضى الفساد (إلا لضرورة) ، فيجوز (كعموم الخوف) على المال في الطرق، فيجوز أن يسلفه لمن علم أنه يسلم معه، وكذلك إن قام دليل على نفع المقترض فقط كمجاعة أو كان بيع المسوس الآن أحظ للمسلف لغلائه ورخص الجديد في إبانه فيجوز.
ثم قال السنهوري:
وجاء في (المهذب: 1/304) - والعهدة عليه -:
ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه على أن يبيعه داره على أن يرد عيه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له بها - لعل صوابه: به - سفتجة يربح فيها خطر الطريق، والدليل عليه ما روى عمر وابن شعيب عن أبيه، عن جده ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع)) (1)
(1) رواه البيهقي في (السنن الكبرى: 5/348) فقال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، وأبو عبد الله الحافظ وأبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمر، وقالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف) . الحديث. ورواه البغوي بلفظ مختلف شيئا قال في (شرح السنة: 8/147) : وقد روي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط..) وقال محقق الكتاب شعيب الأرناؤوط: أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " نصب الراية - للزيعلى - (4/17) من حديث عبد الله بن أيوب المقري، عن محمد بن سليمان الذهلي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط) . قلت: لم أجد في المسانيد المطبوعة لأبي حنيفة ولا وجدت فيه رواية مباشرة لأبي حنيفة عن عمرو بن شعيب على أنه أدركه في سن الرواية والتحمل فما في ذلك شك فقد توفي عمرو بن شعيب عام ثمانية عشر ومائة وأبو حنيفة يومئذ في الثلاثين من عمره أو تجاوزها لكن مضرب أبي حنيفة هو الكوفة وما وراءها من أرض العراق إلى بغداد على حين مضرب عمرو بن شعيب هو المدينة وما وراءها إلى الطائف فكان يسمى أحيانا المدني وأحيانا الطائفي وربما التقيا في مكة أو في المدينة في أحد المواسم. ثم إن عمرو بن شعيب أبدؤوا في القول فيه وأعادوا وجل مقولاتهم مردها إلى بعض الارتياب في أن أباه لقي جده الثاني " عبد الله بن عمرو " وسمع منه وهو ارتياب ينفيه ما نرجح من أن جده الأول توفي صغير فتربي أبوه " شعيب " في حجر جده " عبد الله ". ثم أنهم ارتابوا في أن جل ما رواه عن جده إنما رواه عن كتاب وليس عن سماع وكان للمحدثين الأول موقف من الرواية من الكتاب أو الصحيفة أساسه شدة التحرج منها وهو موقف لا يمكن قبوله على علته لكن ليس هذا مجال مناقشته على أن عمرو بن شعيب روى عنه أيمة موثقون واعتمده جلهم ولا نرى ما يحمل على اعتبار حرج من تحرجوا منه ما نظر في ترجمته (تهذيب التهذيب لابن حجر: 8/48، 55، ترجمة 80) ، وقد جمع الحافظ فيها ما تفرق عند غيره من أقاويلهم في عمرو بن شعيب..
والسلف هو القرض في لغة أهل الحجاز، وروي عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم نهوا عن قرض جر مففعة (1) ولأنه عقد إرفاق، فذا شرط فيه منفعة خرج من موضوعه، فإن " بدأ المستقرض " - لعل الصواب: بدا للمستقرض، وأن كانت المبادأة محتملة ها هنا أيضا - فزاده أورد عليه ما هو أجود منه أو كتب له سفتجه أو باع منه داره، جاز لما روي أبو رافع رضي الله عنه قال: استلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكرًا، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا خيارا رباعيًّا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعطه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) . (2) وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فقضاني وزادني (3) فإن عرف لرجل عادة أنه إذا استقرض زاد في القرض، ففي إقراضه وجهان أحدهما لا يجوز إقراضه إلا أن يشترط رد المثل، لن المتعارف كالمشروط ولو شرط الزيادة لم يجز، فكذلك إذا عرف بالعادة، والثاني أنه يجوز وهو المذهب؛ لأن الزيادة مندوب إليها، فلا يجوز أن يمنع ذلك صحة العقد.
وجاء في (المغنى: 4/360، 361) : وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بلا خلاف.. وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة، لم يجز، ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعًا، وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه، فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسا (4) .
(1) انظر التعليق رقم: (1) في الصفحة 2065
(2)
انظر التعليق رقم: (2) في الصفحة 1920
(3)
هذا طرف من حديث البعير المشهور وهو حديث طويل ومنهم من اختصره. روي من عدة طرق منها طريق سالم بن أبي الجعد والشعبي وعطاء ويزيد بن أسلم وغيرهم وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. انظر المزي في (تحفة الأشراف: 2/175، ح 2243، ص 203 ح 2341)
(4)
هذا هو المشهور، وإن روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين شيء من الحرج منه على أنه لم يعد اليوم مما ينبغي التحرج منه؛ لأن عمليات التحويل في النقود مختلفة أم من جنس واحد أصبحت مجرد إجراء شكلي لا يكلف أحد الطرفين مؤونة فدخل الخلاف الذي أشرنا إليه آنفا في نطاق تاريخ الفقه
، وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن مثل هذا فلم يرد به بأسًا (1) ، وممن لم ير به بأسا ابن سيرين والنخعي (2) فإن أقرضه مطلقا من غير شرط فقضاه خيرًا منه جاز في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما جاز.
قلت: لكن السنهوري - غفر الله له - لم ينقل عبارة المغني كاملة، ولعل النقطتين اللتين وضعهما بين فقرة وأخرى أراد بهما الإشارة إلى عملية " التلفيق " التي عمد إليها والعبارة كاملة (4/354، 355) :
وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة " أم " - لعل صوابه: أو - هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه من موضعه ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا أو " بقدًا " - لعل صوابه نقدًا - ليعطيه خيرا منه وإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، وكان لحمله مؤونة لم يجز، لأنه زيادة وإن لم يكن لحملة مؤونة جاز وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن بن على وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والأوزاعي والشافعي؛ لأنه قد يكون في ذلك زيادة، وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر، وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذها منه، فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسا، وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن مثل هذا فلم ير به بأسا، وممن لم ير به بأسا ابن سيرين والنخعي، رواه كله سعيد. وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد أخرى ليربح خطر الطريق، والصحيح جوازه لأنه مصلحة من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها؛ لأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاءه على الإباحة
…
إلخ.
(1) هذا هو المشهور، وإن روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين شيء من الحرج منه على أنه لم يعد اليوم مما ينبغي التحرج منه؛ لأن عمليات التحويل في النقود مختلفة أم من جنس واحد أصبحت مجرد إجراء شكلي لا يكلف أحد الطرفين مؤونة فدخل الخلاف الذي أشرنا إليه آنفا في نطاق تاريخ الفقه.
(2)
هذا هو المشهور، وإن روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين شيء من الحرج منه على أنه لم يعد اليوم مما ينبغي التحرج منه؛ لأن عمليات التحويل في النقود مختلفة أم من جنس واحد أصبحت مجرد إجراء شكلي لا يكلف أحد الطرفين مؤونة فدخل الخلاف الذي أشرنا إليه آنفا في نطاق تاريخ الفقه.
ثم قال السنهوري:
ويتعين مما قدمناه من النصوص أن القرض الذمي يتضمن فائدة ليس أصيلًا في العقود الربوية، بل هو يقاس عليها يجوز أولا أن يتضمن العقد فائدة غير مشروطة، فإذا رجح المستقرض في بدل القرض ولم يكن الرجحان مشروطًا فلا بأس به ويجوز ثانيا أن يستر القرض فائدة كمن يبيع الشيء غاليًا للمستقرض ثم يقرضه مبلغا من المال؛ إذ لا شك في أن الفرق بين الثمن الغالي والقيمة الحقيقية إنما هو فائدة القرض.
قلت: القول بهذا مرجوح عند من يمنع الحيلة ولا يراها وسيلة مشروعة بحال من الأحوال مثل ابن القيم رحمه الله وهو الصحيح، بل الذي لا يجوز القول بغيره عند التحقيق، وقد ألمحنا آنفا إلى ما قاله ابن القيم في " أعلام الموقعين ".
ثم قال:
وأخيرا إذا تضمن العقد زيادة مشروطة ظاهرة - وهذه هي الفائدة بعينها - فإن هذا لا يجوز، ولكن لا؛ لأن الزيادة المشروطة ربا، بل لأنها تشبه الربا والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب.
قلت: ومن أين للسنهوري هذه الدعوى، فالفائدة المشروطة ربا ما في ذلك شك ولعل دعواه هذه التي أراد أن ينسبها إلى الفقهاء الأول هي التي حملته على أن يحذف، وهو ينقل من المغني كلام ابن المنذر الذي جاء فيه " أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة " أم " هدية، فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا " انتهى كلام ابن قدامة نقلا عن ابن المنذر، ومن عجب أن يجرؤ السنهوري على نسبة دعوى إلى الفقهاء الذين نقل عنهم وهى مخالفة لإجماعهم ولا نعرف جرأة على الله وعلى شريعته أوضح من هذه لولا أننا نريد أن نقنع أنفسنا بحسن الظن في السنهوري فنحتمل له أنه لم يفهم كلام الفقهاء، مع أن ذلك يتأتى لو لم يحذف كلام ابن المنذر مما نقله عن المغني حذفا لا شك فيه أنه عن عمد وسبق إصرار، إذ هو لا يكتفي بدعواه هذه، إذ يمضي في تدعيمها.
فيقول:
وإذا كانت الفائدة في القرض لا تعتبر ربا حقيقيًّا، بل يقتصر الأمر على أن فيها شبهة ربا فلا مناص من القول بأن ربا القرض يلحق بربا النسيئة وبربا الفضل ويجمع بين كل هذه الأنواع من الربا أنها جميعها محرمة ولكن التحريم فيها تحريم للوسائل لا تحريم للمقاصد ومن ثم يرتفع التحريم إذا قامت الحاجة.
ثم يعلق على " مقولته " هذه يقول:
على أن الصورة التي يرسمها الفقهاء عادة للقرض في العصور السالفة تجعله أقرب إلى الصدقة فتغاير ما بين طبيعته في تلك العصور وطبيعته اليوم حيث هو في أكثر صوره وسيلة مألوفة من وسائل تزويد المنتج بعنصر ضروري من عناصر الإنتاج هو رأس المال - جاء في (المغني: 4/353)(ص 347 في نسختنا) : والقرض مندوب إليه في حق المقرض مباح للمقترض لما روينا من الأحاديث ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) . (1) .
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدرامي في أكثر من موضع. انظر (أ. ي. ونسنك و. ي. ب منسنج) . (المعجم المفرس: 4/110)، والمزي (تحفة الأشراف: 9/378 ح 12510) وهو طرف من حديث طويل ولفظه عند مسلم (الصحيح: 4/2074، ح 2699) : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شبية ومحمد بن العلاء الهمداني واللفظ ليحيى، قال يحيى: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على مسلم يسر عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره في الدنيا والآخرة والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ورواه بسند آخر أيضا
وعن أبي الدرداء أنه قال: لأن أقرض دينارين ثم يردان ثم أقرضهما أحب إلى من أن أتصدق بهما (1) ؛ لأن فيه تفريجا عن أخيه المسلم وقضاء لحاجته وعونا له فكان مندوبا إليه كالصدقة عليه.
قلت: وهذا زعم آخر من السنهوري تدحضه الوقائع فليس تيسير رأس المال للمنتج هو الجانب الغالب من القرض الممارس في العصر الحاضر، بل قد يكون الجانب الأغلب منه ما يغرى به المستهلك كالقرض العقاري لبناء المساكن والقرض لشراء السيارات والقرض لشراء الأثاث وما إلى ذلك، وأغلبه لا ييسر الحاجات فضلا عن الضرورات وإنما ييسر الكماليات، ثم إن التشريع الإسلامي يسر للمنتج العامل أسباب الحصول على رأس المال الذي يحتاج إليه في عمله الإنتاجي بما أباح له من أنواع الشركات، كالقراض والسلم وما شاكلهما، فليست الحاجة متعينة فضلا عن الضرورة لدى المنتج إلى ابتغاء قرض بفائدة ربوية محرمة اعتمادا على مقولة المصلحة التي ترجح المفسدة أو العرف الذي تؤول به بعد الأحكام.
ثم إن المصلحة والعرف وما شاكلهما من المصادر التشريعية المختلف فيها، إنما أصلت عند من يقول بها لتيسير الاجتهاد فيما لا نص فيه، أما ما فيه نص قطعي لا سبيل إلى تأويله تأويلًا سليمًا لا تمحل فيه ولا افتعال كآيات الربا في القرآن والأحاديث القولية والفعلية المبينة لها في السنة، فلا سبيل إلى تحكيم العرف أو المصلحة فيه اجتهادا أو تمحلًا للتأويل؛ إذ ليس للبشر أن يغيروا حكم الله إذا ورد بنص قطعي، وإن لجئوا إلى التمحل في التأويل فضلا عن أن يلجئوا إلى تأصيل قواعد، إنما وضعها من وضعها للاهتداء بها فيما لا نص فيه لكن السنهوري يمضي في تأكيد مقولاته هذه العجيبة فيقول:
(1) قال البيهقي (السنن الكبرى: 5/353) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هارون بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان بن منصور، عن سالم، عن أبي الدرداء قال: لأن أقرض دينارين مرتين أحب إلى من أن أتصدق بهما لأني أقرضهما فيرجعان إلى فأتصدق بهما فيكون لي أجرهما مرتين. وروي بأسانيد مثل هذا القول عن ابن عباس وابن مسعود.
وقد آن أن نلخص ما وصلنا إليه من نتائج في هذا البحث:
1-
الأصل في الربا التحريم، الربا في جميع صوره سواء كان ربا الجاهلية أو ربا النسيئة أو ربا الفضل أو ربا القرض، والاعتبارات التي تدعو إلى تحريمه هي التي قدمناها: وقاية الناس من احتكار أقواتهم وحمايتهم من التلاعب في أسعار العملة التي يستخدمونها ودفع الغبن والاستغلال عنهم.
2-
على أن هناك صورة من الربا هي أشنع هذه الصور وأشدها استغلالا للمعوز والفقير، وهي الصورة التي نزل به القرآن منذرا متوعدًا صورة الربا الذي تعودته العرب في الجاهلية فيأتي الدائن مدينه عند حلول أجل الدين ويقول: إما أن تقضي وإما أن تربي، والإرباء معناه أن يزيد الدين على المستحق في مقابل إطالة الأجل وهذا أشبه بما نسميه اليوم بالفوائد على الفوائد أو الربح المركب وصورته أن يتقاضى الدائن فوائد مستقلة على ما تجمد من الفوائد فيقول للمدين، إما أن تقضي رأس المال وما تجمد عليه من الفوائد، وإما أن تربي بأن تضم المتجمد من الفوائد إلى رأس المال فيصبح المجموع رأس مال جديد بما ينتج من الفوائد عن المدة التي أطيل فيها أجل الدين.
هذه الصورة من الربا في العصر الحاضر هي التي تقابل ربا الجاهلية، وهي محرمة تحريمًا قاطعًا لذاتها تحريم مقاصد لا تحريم وسائل فهي التي تجر الويل والخراب على المدين وتضاعف راس المال في سنوات قليلة فيأكل الدائن الربا أضعافا مضاعفة وهي الصور التي محقها الله تعالى في قرآنه الكريم، ومن ثم لا يجوز الربا في هذه الصورة أصلا، بل إن نظرية الضرورة ذاتها لا تتسع بهذا الجواز فإن الضرورة الملحة التي تلجئ كلًّا من المدين والدائن " على " - لعل صوابه: إلى - التعامل بالربا على هذا النحو - الضرورة التي يكون من شأنها أن تبيح الميتة والدم - لا يمكن تصورها وحتى إذا أمكن تصورها في حق المدين بأن كان في حاجة إلى المال لحفظ حياته، ولم يجد من يقرضه إياه إلا على هذا الشرط فإنه لا يمكن تصورها في حق الدائن، وإلا فما هذه الضرورة الملحقة التي تدفع الدائن إلى هذا الاستغلال إن لم يكن الطمع والجشع.
قلت: لقد أكثر المختبطون في مسألة الربا من الالتجاء إلى مسألة الاضطرار إلى أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير وإنقاذًا للحياة والقياس عليها التجاء وقياسا لا مسوغ لهما ولا أساس فالذي يضطر لإنقاذ حياته إلى أكل إحدى المحرمات الثلاث يجوز له قبل أن يلجأ إليها أن يقاتل، وحتى أن يقتل من يكون لديه ما ينقذ به حياته فيمنعه منه وإن بالثمن العادي. فكيف تتصور الضرورة إذن بحيث تبيح الالتجاء إلى أخذ المال بالربا؟ ! واضح أن القياس فاسد من أساسه فعلة الإباحة للمحرمات الثلاث عند الاضطرار لا يمكن تطبيقها على أية حال يراد فيها استباحة أخذ المال بالربا.
ثم قال السنهوري:
3-
أما الصور الأخرى من الربا - الفائدة البسيطة للقرض وربا النسيئة وربا الفضل - هذه أيضا محرمة، ولكن التحريم هنا تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد بعض هذه الصور وهي الخاصة بالأصناف الستة وبفائدة القرض وردت بنصوص صريحة في الأحاديث الشريفة، وبعضها وهي الخاصة بالأصناف الأخرى التي ألحقها الفقهاء بالأصناف الستة كان من عمل الفقهاء وهي تقوم على صناعة فقهية لا شك في سلامتها وكلها وسائل لا مقاصد وقد حرمت سدًّا للذرائع، ومن ثم يكون الأصل فيها التحريم وتجوز استثناء إذا قامت الحاجة إليها، والحاجة هنا معناها كما يقول ابن القيم: مصلحة راجحة في صورة معينة من صور الربا تفوت إذا بقي التحريم على أصله، عند ذلك تجوز هذه الصورة استثناء من أصل التحريم وتجوز بقدر الحاجة القائمة فإذا ارتفعت الحاجة عاد التحريم.
قلت: ليت شعري ما الذي حفز السنهوري إلى تحميل كلام ابن القيم أكثر من معناه، " فكلمة المصلحة الراجحة " وردت في سياق دفاع ابن القيم على جواز بيع المصوغ من الذهب بالنقد من جنسه، وقد أطنب في ذلك في عدة صفحات من " أعلام الموقعين " ابتداء من (ص 140، من الجزء 2) وساق له أدلة أجهد نفسه في ابتغائها وتجميعها وبنى فيه على أصله من أن ربا الفضل محرم تحريم وسائل وليس تحريم مقاصد، ومع ذلك فإن من يقرأ كلامه الطويل لا يجد فيه متعلقًا - وإن على أساس من التحمل - لما يريد مثل السنهوري أن يستند إليه في دعوى قياس ربا الفوائد البسيطة على بيع المصوغ استنادًا على دعوى المصلحة الراجحة، إلا أن يكون مثل هذا الاستناد يراد به مجرد التمويه على من لم يطلع على كلام ابن القيم من المقلدين و " الاستخفاء " أو التقنع فيما يهدفون إليه من مقولة إباحة عمليات المصارف التي تمارس في العصر الحاضر وهي محاولة ضالة قائمة على التضليل الذي لا ندري كيف يلقى أصحابه ربهم به يوم القيامة؟ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الآية 109 من سورة النساء] .
ثم قال السنهوري:
4-
وتبدأ الحاجة أن تكون حاجة شخصية ذاتية تقوم بفرد بالذات، ففي بيع العرايا تقوم الحاجة ببيع المشتري فهو يبتاع بتمره الجاف ما على رؤوس النخل من الرطب إذا كان هو بالذات في حاجة إلى الرطب، وهذا ما ورد النص الصريح بجوازه وأجمعت الفقهاء على صحته ويقاس عليه بيع الدنانير والدراهم المسكوكة بأكثر من وزنها ذهبًا أو فضة إذا احتاج التاجر أو غير التاجر خوفا من فوات السوق أو من فوات الرفقة، أي أن الحاجة هنا أيضا شخصية ذاتية وهذا ما قال به مالك على النحو الذي بيناه فيما تقدم.
قلت: سبق أن نقلنا قول مالك هذا في فصل " الأحكام المترتبة على اضطراب النقد وتغييره واختلافه من آثار أيمة السنة ومجتهديها" ونقلنا ارتياب أيمة الفقه المالكي مثل ابن عبد البر في نسبة هذا القول إلى مالك وإنكاره عليه إن ثبت على أننا لا ننكره على مالك، لكن ليس قبولنا على الأساس الذي يريده السنهوري وهو إباحة، بيع الذهب أو الفضة أو أي نوع من النقد بجنسه ونوعه متفاضلا للحاجة، بل لأننا نعلل القول المنسوب إلى مالك رحمه الله بأنه اعتبار الأجر الصناعة فهو أباح للمحتاج أن يدفع إلى الصائغ ذهبا غير مسكوك ويأخذ منه ذهبا مسكوكا بدل أن ينتظر سك ذهبه مخافة أن تفوته القافلة أو ما شكل ذلك، والقضية التي تبرز هنا هي هل يجوز دفع أجرة السك من نفس المادة التي يراد سكها، والجمهور حرم ذلك لحديث أبي سعيد وعبادة وغيرهم، ويفهم من كلام ابن القيم ومن نحا نحوه في اعتبار أجر الصناعة في المصوغ أنهم يقولون بجوازه وقد يكون لقولهم هذا وجه من الاعتبار لولا تضافر نصوص الحديث الصريحة بوجوب المراعاة الدقيقة للمثلية والعينية والوزن في النقدين، اللهم إلا إذا اعتبرنا ورود كلمة " مثل بمثل " مع " وزنًا بوزن وعينا بعين " يمكن أن تؤول المثلية فيها اعتبارًا للعطف الذي لا يعني التكرار بالمماثلة الشكلية، فيكون السك اعتبارًا لذلك مميزا للدينار أو الدرهم المسكوك عن غيره وتكون صنعة السك ملحوظة في المثلية، وهذا كل ما يمكن أن يتعلق به عند الأخذ برأي ابن القيم ومن نحا نحوه في مسألة بيع المصوغ بجنسه مع اعتبار أجرة الصنعة ونحن نكره ولا نحرمه.
ثم قال السنهوري:
ثم تنتهي الحاجة إلى تكون عامة شاملة لا تقوم بفرد بالذات دون غيره، بل تكون في طبيعة المعاملة نفسها فبيع المصوغ بأكثر من وزنه ذهبًا أو فضة دعت إليه حاجة العامة على أن تكون لصنعة الصياغة قيمة يقابلها شيء من الثمن، وإلا اندثرت هذه الصناعة مع قيام الحاجة إليها فما دامت هناك صياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها والناس في حاجة إليها، فالحاجة تقوم عامة شاملة إلى شراء المصوغ بأكثر من وزنه.
قلت: هذه الحاجة ليست قائمة في الواقعة ذلك بأن التعامل في العهد النبوي كان قائمًا على ازدواجية النقد، فإذا قلنا بمنع شراء المصوغ بنوعه متفاضلا، فإننا لا نقول بمنع شرائه بنوع آخر من جنس النقد نفسه، بل يباح إجماعًا شراء مصوغ الذهب بالفضة وشراء مصوغ الفضة بالذهب متفاضلا وزنا وعددا وثمنا اعتبار للصناعة واختلاف النوع، وإن اتفق الجنس باعتبار النقدية هي الجنس وقد نقلنا عن أبي بكر وعمر من عملهما ما يدل على ذلك.
ثم قال السنهوري:
وفي نظام اقتصادي رأسمالي كالنظام القائم في الوقت الحاضر في كثير من البلاد - ويتميز بأن رؤوس الأموال تكون مملوكة للأفراد والهيئات والمصارف وليست مملوكة للدولة - تدعو الحاجة العامة الشاملة إلى حصول العامل على رأس المال حتى يستغله بعمله وقد أصبحت شركات المضاربة والقراض - قلت: وهما واحد - ونحوها غير كافية للحصول على رأس المال اللازم.
حقًّا أن شركات المساهمة وشركات التوصية تسمح في كثير من الأحوال بأن يستثمر صاحب رأس المال ماله في شراء أسهم هذه الشركات، فيشترك في الربح والخسارة ولكن القروض هي الوسيلة الأولى في النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم للحصول على رؤوس الأموال، وحتى في الشركات المتقدم ذكرها توجد إلى جانب الأسهم - وهي حصص الشركاء الذين يساهمون في الربح والخسارة - السندات وهي القروض التي تقدم لهذه الشركات والمقترض هنا كما سبق القول هو الجانب القوي والمقرض هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية فما دامت الحاجة قائمة للحصول على رؤوس الأموال من طريق القرض أو غيره، وما دام رأس المال ليس ملك الدولة، بل هو ملك الفرد ادخره بعمله وجهده فمن حقه أن لا يظلم فيه ولا يظلم ما دامت الحاجة قائمة، إلى كل ذلك فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة تكون جائزة استنثاء من أصل التحريم.
نقول في الحدود المذكورة ونقصد بذلك: (أولا) ألا يجوز بحال مهما كانت الحاجة قائمة أن تتقاضى فوائد على متجمد الفوائد فهذه هو ربا الجاهلية الممقوت، (ثانيا) وحتى بالنسبة للفائدة البسيطة يجب أن يرسم لها " المشروع " - لعل صوابه: المشرع حدودا لا تتعداها من حيث سعرها ومن حيث طريقة تقاضيها ومن حيث مجموع ما يتقاضى منها، ومن وجوه أخرى كثيرة ينبغي على المشرع أن يتحراها وذلك حتى تقدر الحاجة بقدرها.
5-
وحتى بعد كل هذا، فإن الحاجة إلى الفائدة لا تقوم - كما قدمنا - إلا في نظام رأسمالي كالنظام القائم، فإذا تغير هذا النظام - ويبدو أنه في سبيله إلى التغير - وأصبح نظامًا اشتراكيًّا رؤوس الأموال فيه بيد الدولة لا بيد الأفراد، عند ذلك يعاد النظر في تقدير الحاجة فقد لا تقوم الحاجة في ظل النظام الاشتراكي فيعود الربا إلى أصله من التحريم.
قلت: هذه الفتوى الحذرة بادية التحرج من السنهوري قائمة على أساس لا يمكن التسليم به، ويظهر أن تسليم السنهوري به مرده إلى أن علاقته بالفقه ليست أصيلة كعلاقته بالتشريع الوضعي.
ومدار الأساس الذي بنى عليه فتواه هذه المتحرجة هو:
1-
التسليم بعدم جدوى نظام القراض، وما شاكله من النظم الإسلامية في مواجهة حاجات من يعمل في الإنتاج - تجارة أو صناعة أو فلاحة - إلى رأس المال الذي ييسر له ما يبتغيه.
وهذا التسليم خطأ؛ لأن ما تراءى له من عجز هذه الأنظمة عن تلبية تلك الحاجات ليس مرده إلى عجز ذاتي فيها، وإنما مرده إلى انصراف الناس عن التعامل بها إما للجهل بمناهجها جهلا أدى بهم إلى الشك في جدواها، وإما لانعدام الثقة بين صاحب المال والراغب في العمل انعداما نتج عن افتقار الطرفين إلى الأخلاق الإسلامية السليمة التي تهيمن على مواجد المسلمين وتصرفاتهم هيمنة تجعل منها قوة متكاملة بحيث تطمئن المواجد إلى التصرفات وتكفل التصرفات أسباب الطمأنينة للمواجد، فليس النقص إذن في أنظمة الاستثمار في الإسلام وإنما النقص في التكوين النفسي للمنتسبين إلى الإسلام وهذا النقص لا يسوغ ما يريد السنهوري وأمثاله تسويغه من تحليل ما حرم الله بحجة الحاجة.
2-
قضية الظرفية التي اعتمدها السنهوري إذ علل فتواه بقيام نظام رآه لا يستجيب لمقتضيات تطبيق الأنظمة الإسلامية، وهي قضية غير مسلمة له أيضا فمن حيث جوهرها لا يجوز استعمال الظرفية التي يضعها الإنسان اختيارا كوسيلة لوقف العمل بنص قرآني أو سني أو للتمحل في تأويله، ونقول التي يضعها الإنسان اختيارا تحرزًا من التي تحدث له اضطرارًا بقضاء وقدر مثل عام المجاعة (الرمادة) الذي أوقف فيه عمر قطع يد السارق، فهذه ليست من صنع البشر وإنما كانت قدرًا أحسن عمر تقدير ملابساتها ونتائجها فتبين أن موجبات القطع، بل مواصفات السرقة غير متوفرة فيما حدث يومئذ فهو في واقع الأمر لم يوقف العمل بنص قرآني، وإنما أحسن فهمه وتصرف طبقا لما وقر في نفسه أنه الحدود الضابطة لأحكام النص وغير المتوفرة فيما حدث يومئذ.
وليس كذلك قيام وضع صنعه البشر وليس للقدر القاهر أي دخل في إقامته؛ إذ إن البشر الذين صنعوه يستطيعون تغييره، وإذا قيل: أنه من صنع قوة حاكمة متسلطة لا سبيل إلى إجبارها على تغييره، قلنا: كذلك كان استبعاد الشعوب الإسلامية من صنع قوى قاهرة، ومع ذلك استطاعت الشعوب تغييره أو هي بسبيل النجاح في تغييره ومن الوسائل المتاحة للفرد المسلم لتغيير أي نظام مالي أو اقتصادي لا يقوم على الأسس الإسلامية أو لا يستجيب لمقتضياتها أن يمسك عن كل عمل لا تقوم عليه ضرورة الحفاظ على حياته، وما من أحد يستطيع أن يزعم أن الاقتراض بالفائدة مهما تكن بسيطة تدعو إليه ضرورة المحافظة على الحياة كما تدعو الضرورة من أشرف على الموت جوعًا إلى إنقاذ حياته بأكل الميتة ولحم الخنزير.
سيقولون: إن الأمة الإسلامية بحاجة قد تبلغ درجة الضرورة الجماعية إلى النماء الاقتصادي لتدعيم كيانها والتحرر من استعباد القوى الأجنبية التي تتخذ من أسلحتها الهيمنة الاقتصادية المترتب عليها التقدم التقني والصناعي، وهذه شبهة حرية بأن تحرج الكثير من الأغرار لولا أن واقعا نعايشه الآن يدحضها دحضًا فادحًا.
فقد عاش الاتحاد السوفياتي قرابة نصف قرن شبه منعزل تماما عن المعسكر الرأسمالي الغربي وجل عقود هذه الفترة كان فيها يواجه حصارا اقتصاديًّا مطبقًا، ومع ذلك استطاع - لا إنه يحتفظ بوجوده فحسب - بل أن يصبح إحدى القوتين العظميين المسيطرتين على العالم سيقولون: إنه لا يزال متخلفًا تقنيًّا وما يزال مستوى المعيشة فيه متدنيًا جدًّا بالقياس إلى مستوى المعيشة في المعسكر الرأسمالي، بيد أن الذي يدحض هذا القول هو أن الإسلام لا يجعل ارتفاع مستوى المعيشة عنصرًا يجب اعتباره عند ضبط قواعده التشريعية، أما التخلف التقني نسبيًّا فما من شك في أنه لم يتخلف به على أن يكون قوة قاهرة، ويوم أصبح هذه القوة أخذ مالكو التقدم التقني يتحايلون مع أنفسهم وأنظمتهم لامداده بما ينقصه من بعض أطوار التقنية وحتى لو أنهم دأبوا على الحيلولة بينه وبين الحصول على تلك الأطوار فإنه ما من شك سيلتحق بهم وإن بعد فترة طويلة.
مهما يكن، فإن اعتبار الظرفية التي صنعها البشر مسوغًا لتحليل ما حرم الله اعتبار لا تبيحه قواعد التشريع الإسلامي.
على أن الأنظمة الاشتراكية التي يعلق عليها السنهوري آماله في إمكان إعادة النظر في فتواه هذه يوم تهيمن على الأمة الإسلامية ليست في مجموعها بالقابلة للتجاوب الكامل مع ضوابط ومقتضيات التشريع الإسلامي، ذلك بأن الإسلام يضع ضوابط دقيقة منيعة لتدخل الدولة في ملك الأفراد وقد بسطنا هذه الضوابط وما يتصل بها بسطًا نرجو أن يكون وافيًا في بحثنا " الإسلام وانتزاع الملك للمصلحة العامة " لا سيما في الفصول الأخيرة منه ولا سبيل إلى الزعم بأن الإسلام نظام اشتراكي، كما حاول مصطفى السباعي ومن على شاكلته - يغفر الله له - أن يقرر فأجهد نفسه ولم يأت بطائل، وكذلك لا سبيل إلى الزعم بأن الإسلام نظام رأسمالي إنما السبيل هو إلى القول - بتأكيد مطمئن - أن النظام الإسلامي نظام وسط وليس رأسماليًّا بحتًا ولا هو اشتراكي بحت وعلى المسلم في هذه الفترة من انبعاثه أن يكافح لإقرار هذا النظام كفاحه لتحرير الأرض وتحرير الفرد والمجتمع، أما أن يصانع هذا النظام أو ذاك من الأنظمة المنحرفة عن ضوابط الشريعة الإسلامية بحجة هيمنتها على الأوضاع العامة ومقاليد السلطة مصانعة يتذرع إليها بالتمحل في تأويل النصوص الشرعية أو بالجرأة على وقف العمل بها بحجة " الحاجة " أو الضرورة، فذلك انحراف عن طبيعة الشريعة الإسلامية وعن صريح نصوصها مثل قوله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الآيتان 119 و 120 من سورة الأنعام]، وقوله جل جلاله:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الآيتان 116 و 117 من سورة النحل] .
3-
على أن السنهوري أغفل في اعتباره - وهو يجترئ على الإفتاء بما أفتى به - الجانب الخلقي من تحريم الربا، كما أغفل الجانب العملي أيضا من تحريمه ومن تشريع الذين شرعوه، فالقول بإباحة الفائدة البسيطة للحاجة يقضي قضاء مبرمًا على الأساس الخلقي أو المناط الخلقي لتحريم الربا، وهو حمل القادر على مساعدة العاجز وهذا الأساس قد لا ينحصر في دائرة الندب وإنما يتعداه إلى دائرة الوجوب، وقد أوضحنا ذلك في بحثنا " الإسلام وانتزاع الملك للمصلحة العامة " في الفصل الذي بينا فيه معنى الكنز في قوله سبحانه وتعالى:{الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الآية 34 من سورة التوبة] . وكيف أن الإنفاق المراد في هذه الآية ليس بالضرورة الصدقة، بل قد يكون ترويج المال بحيث يستفيد منه المجتمع الإسلامي وعدم ادخاره إذا كان ادخاره ضارًّا بالمصلحة العامة للمسلمين.
وإباحة الفائدة البسيطة كما أراد السنهوري يبطل هذا المدلول من دلالة الآية الكريمة، ثم إن التجربة أثبتت أن ما يسميه السنهوري الفائدة البسيطة تتحول تدريجيًّا إلى كارثة ماحقة ولسنا بسبيل التأريخ لعمليات الربا وتطورها لكنا نشير فحسب إلى أن أسباب التضخم النقدي في كل من الصين واليونان والرومان، وكذلك أسباب نشأة النظام الطبقي مردها إلى شيوع العمليات الربوية التي كثيرا ما تبدأ بمثل ما يسميه السنهوري الفائدة الضعيفة، ثم تتطور حتى تصبح كارثة ماحقة ولعل ذلك بعض ما تشير إليه الآية الكريمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الآيات 130 و 131 و 132 من سورة آل عمران]، فقوله جلاله:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، لا يعني تكرار المعنى باشتقاقين لكلمة واحدة وإنما يعني - والله أعلم بسرائر كتابه ولطائف تشريعه - الإشارة إلى التدرج الطبيعي للعمليات الربوية بحيث قد تبدأ يسيرة بيد أنها لا تلبث أن تتضاعف ثم تتضاعف تلك الأضعاف وجلي فارق الدلالة الزمنية بين الصيغة المصدرية في (أضعافًا) وصيغة المفاعلة في (مضاعفة) واختلاف الصيغ في القرآن لا يجيء لمجرد النظم التعبيري، وإنما يجيء لدلالات مقصودة لذاتها لا يتأتى التعبير عنها بدونه وذلك من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم.
ويتراءى لنا أن من أسباب انزلاق السنهوري وغيره ممن تجرؤوا على الإفتاء بما حرم الله، بدعوى تعين الحاجة أو الضرورة، أنهم لم يستطيعوا إدراك سرائر التعبير القرآني ولا إدراك خفايا مناط التشريع، وأنى لمن عجز عن ذلك أن يستقيم له فهم أو اجتهاد في حكم من أحكام الله.
ثم مضى السنهوري بناء على أساسه الذي ناقشناه آنفا، أن يحاول الاعتذار أو التسويغ لتشريعات الدول العربية المبيحة للربا في الإطار الذي حدده في فتواه، زاعما بأن تلك التشريعات لم يغب عنها الملحظ الذي التزمه في هذه الفتوى غافلًا عن أن الأوضاع التي هيأت للمشرعين العرب - والإسلام هو الغالب في جميع البلاد العربية - أن يكون إليهم أمر التشريع في بلدهم تقطع عنهم كل عذر إذا هم لم يعتبروا الوجود الإسلامي في بلادهم باعتباره دين الأغلبية الغالبة، فيلتزم بضوابطه التشريعية، إن صيرورة أمر التشريع إليهم تحملهم جميع التبعات المترتبة عن عدم الالتزام الدقيق بأحكام الشريعة الإسلامية ولا سبيل إلى التماس الأعذار لهم في ذلك بدعوى ضرورة الاتساق مع الأوضاع السائدة في البلاد غير الإسلامية التي تلجئهم الحاجة إلى التعامل معها؛ لأن اعتبار هذا الاتساق قد يكون له وجه في التشريعات المتعلقة الداخلية الراجع أمرها إلى ما هو من مشمولات السيادة البحتة.
على أن ما له علاقة بالتشريعات الخارجية نفسه يمكن تكييفه مع ضوابط التشريع الإسلامي، وذلك ما سنلمع إليه بعد قليل.
ثم إن العالم قد عرف نوعين من التشريع الوضعي العلماني في المجالين الاقتصادي والمالي مسافة الخلف بينهما أحيانا أوسع من مسافة الخلف بين الواحد منهما وبين ضوابط التشريع الإسلامي، ومع ذلك تعايشا وتعاملا بمنافرة أحيانا ذلك ما لا ننكره وبمسالمة أحيانا أخرى وفي كلتا الحالتين أمكن لهما التعايش والتعامل وهما النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، فلماذا يجفل المشرع المسلم أو المشرع في البلاد الإسلامية من أن يكون صاحب نظام ثالث يفرض نفسه على النظامين الآخرين أن يتعايشا معه وخاصة فيما هو من شؤونه الداخلية ولا علاقة له بغيره، ولا يؤثر بأية حال من الأحوال في تعامله مع الآخرين؟ إلا أن يكون السبب هو مجرد التحرج من أن يقول الآخرون: إنه مسلم ملتزم ومن أن يعاملوه بالجفاء والمناوشة من أجل التزامه بالإسلام وأحكامه. أليس هذا في ذاته مخجل مخز لما يجسمه من الذلة والخضوع.
وكيف كان دعاة الاشتراكية والماركسية أجرأ في دعوتهم - وهم لا يرجون الله وقارًا إنما يرجونه لدنياهم فحسب - من المشرع المسلم أو المشرع للبلاد الإسلامية، فما من أحد ينكر ما أثبته التاريخ من أنهم واجهوا من سدنة النظم الرأسمالية أعنف مما يمكن أن يواجهوا وأقساه من جفاء وحصار ونذر متواصلة مختلفة اللهجات والأشكال، ورغم ذلك ثبتوا بصمود عجيب ليس في دعوتهم فحسب، بل في عملهم على التمكين لها وتركيزها وترسيخها نظامًا ثابت الدعائم ومنهاجا واضح المعالم وإجبار العالم كله على اعتبارها واحتسابها فيما يحتسب من النظم والمناهج وهو يرسم مساره ويعين مصيره ويكيف مسيرته.
وقد وقفنا هذه الوقفة الطويلة مع السنهوري، فيما أحسن فيه وفيما أساء؛ لأن إحسانه أكثر من إساءته ولأن الموضوع يجديه بيان ما أحسن فيه، وما أساء جدوى لا غناء له عنها، ولأن ما أساء فيه كان فيه أفضل من غيره وأحسن عرضا وأوجه حجاجًا بل كان فيه الرائد أو من الرواد لغيره ممن يتبجحون اليوم بالنزوع إلى منزعه ذاك وكأنهم اكتشفوه باجتهادهم وما هم في الواقع غير مجرورين مجترين غاية أمرهم ترجيع ما سبقوا إليه في لهواتهم وادعاء تبعاته على أنهم لم يحسنوا حتى ترجيعه، بل تنزلوا به إلى مستوى من السذاجة والسماجة غير جدير بأي التفات أو اعتبار، ولما كان لا مناص من مناقشة هذا المنزع كانت مناقشة السنهوري هي التصرف السليم.
وقد وقف من هؤلاء " المرجعين " المجترين موقف الداحض الدامغ نفر من " الراجعين إلى الفقه السليم " إذ يعالجون ما يتصل بهذا الموضوع من قريب أو بعيد، ولعل من أجودهم حجاجًا وأجلاهم بصيرة عبد الله عبد الرحيم العبادي في أطروحته " موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة " (ص 130 - 132) وفيما يلى صفوة من كلامه الرشيد:
" إنه مما لا يغيب عن الأذهان أن الذين كانوا يستدينون أموالا نظير زيادة (ربا) تتراكم عليهم في كل عام أو في كل شهر في العهد الجاهلي، لم يكن الدافع إلى ذلك سوى الحاجة وقد تلجئه الضرورة ولم يكن سوى ذلك.
قلت: اقتبس هذا القول مما نقله السنهوري من كلام الدواليبي، ونقلناه عنه فيما مضى، ولسنا ندري كيف لم يقنع الدواليبي نفسه بهذه القاعدة التي أصلها بنفسه فنزع منزعه ذاك؟!.
ثم قال العبادي:
قال الإمام ابن تيمية - حرمه الله - نقله عن القواعد النورانية وأحال على: ص 117، على عهدته:
إن ما يتعامل به (الربا) المحتاج وإلا فالموسر به لا يأخذ ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة بتلك الألف وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلمًا للمحتاج.
وقال الإمام ابن القيم - وأحال على - (أعلام الموقعين: 2/54) ، - ص 135، من نسختنا وقد سبق أن نقلنا كلامه - بعد أن ذكر صفة الربا الجاهلي وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج.
ومع ذلك فإن القرآن الكريم قد حرم الربا تحريما قاطعًا، وحذر نبي الإسلام من تعاطي الربا وسد أبوابه كلها، ولعن آكله ومؤكله وشاهدين وكاتبه، وقال: هم سواء (1) أما بالنسبة إلى المصارف اليوم فلا يمكن أن نتصور الحاجة أو الضرورة ذلك أن الموعد الذي يأخذ الفائدة على وديعته من المصرف ليس في حاجة إلى أن يأخذ على ماله فائدة ولا هناك ضرورة تلجئه إلى مثل ذلك لأنه يملك المال وكذلك لا نتصور الضرورة في المقترض من المصرف لكي يباح له ذلك؛ لأنه لا يقترض ما يسد به رمقه كالحالة التي تلجئه للاضطرار وإنما المقترض من المصرف يأخذ الآلاف بل الملايين وكذلك لا نتصور الحاجة والاضطرار من المصرف المعطي للربا؛ لأنه يملك الملايين.
إن ذلك كلام تافه لأنه لا يستند إلى وقاع ولا إلى دليل ولا عقل وإنما هو خروج عن دائرة الحق.
قلت: الراجح أن هذا الكلام رد من العبادي على السنهوري وهو رد دامغ بلا ريب.
ثم قال العبادي:
وقد أفتى المرحوم الشيخ شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق بأن أخذ الربا من المصارف يجوز للحاجة والضرورة وهذا نص كلامه - نقله من فتاوى شلتوت وأحال على صفحة 251، 252 - على عهدته طبعًا:
لا شك في أن القرآن حرم على المؤمنين التعامل بالربا والربا حدد بالعرف الذي نزل فيه القرآن بالدين يكون لرجل على آخر فيطالبه به عند حلول أجله فيقول له الآخر: أخر دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك وهو الربا أضعافا مضاعفة فنهاهم الله عنه في الإسلام.
قلت: شبهة وقع فيها " المتفقهون " فضلوا وأضلوا، وبيانها أنه لا قرينة تصرف لفظ الربا في القرآن الكريم إلى هذا النوع وحده من المعاملات التي كانت يومئذ جارية بين الناس وورود الآثار بأن هذا النوع هو سبب نزول الآية لا ينهض وحدة قرينة التخصيص بجعل " ال " في لفظ الربا للعهد وليس للجنس وسنوضح ذلك بعد قليل.
(1) الحديث مشهور مستفيضة رواياته في كتب السنن وننقله من عبد الرازق قال في (المصنف: 8/314، ح 15343) : أخبرنا معمر، عن ابن المسيب قال:(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله والشاهد عليه وكاتبه) .
ثم استطرد قائلا عن شلتوت:
وأضاف أن هذا الصنيع لا يجري عادة إلا بين معدم غير واجد وموسر يستغل حاجة الناس غير مكترث بشيء من معاني الرحمة التي يبني مجتمعة عليها والتي لو عدمت في المجتمعات لأصبحت كغابات الحيوانات المفترسة وهذا النوع من التعامل لا تقبل إنسانية فاضلة الحكم بإباحته.
إلى أن قال: وقد صرح بذلك بعض الفقهاء، فقالوا: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح إن كان للأفراد ضرورة أو حاجة تبيح لهم هذه المعاملة وكان تقديرها مما يرجع إليهم وحدهم وهم مؤمنون بصيرون بدينهم فإن للأمة أيضا ضرورة أو حاجة كثيرا ما تدعو للاقتراض بالربح فالمزارعون كما نعلم تشتد حاجتهم في زراعاتهم وإنتاجهم إلى ما يهيؤون به الأرض والزراعة والحكومة كما نعلم تشتد حاجاتها إلى مصالح الأمة العامة وإلى ما تعد به العدة
…
والتجار تشتد حاجاتهم إلى ما يستوردون به البضائع
…
ولا ريب أن الإسلام الذي يبني أحكامه على قاعدة اليسر ودفع الضرر
…
يعطي الأمة في شخص هيآتها وأفرادها في قلة أن تقترض بالربح تحقيقا لتلك المصالح التي بها قوام الأمة وحفظ كيانها.
وبعد ذلك تناول الأرباح التي يعطيها صندوق التوفير فقال: والذي نراه تطبيقا للأحكام الشرعية والقواعد الفقهية السابقة أنه حلال ولا حرمة فيه.
قلت: بعض هذا الذي قاله شلتوت سبق أن رددناه على السنهوري ودمغنا ما جاء من كلامه، لكن دعوى شلتوت أن بعض الفقهاء، قالوا: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح
…
إلخ دعوى لا نعرف لها دليلًا فمن هم هؤلاء الفقهاء؟ ولماذا لم يذكرهم ولم يحل على مصادره عنهم إلا إن كان يقصد رشيد ومن نراه ممن يحتج بقوله بعد أن رضي لنفسه ولفتواه الاستظهار بحفني ناصف وهو لا يعدو أن يكون شاعرًا أديبًا ثم كيف يبيح شلتوت لنفسه تقليد غيره خاصة من كان في مستوى رشيد رضا، وهو الذي يبدو في مجموع مؤلفاته يأنس من نفسه أنه فوق درجة التقليد والمقلدين وله اجتهادات موفقة، إن الذي يبدو لنا هو أن هذه الفتوى كانت لها ظروف خاصة مؤقتة ألجأته إلى ما يشبه " التقية " التي يأخذ بها الشيعة وهي ليست الوحيدة من نوعها في فتاويه ولا نقصد فتاويه المطبوعة فله غيرها مما نشرته الصحف له في أواخر أيامه يغفر الله له، لقد كان عالمًا جليلًا لكن لعله كان ضعيفًا لا يستمسك الامتحان.
وآية ذلك ما يضيفه العبادي بعد أن أوجز فتواه تلك فيما سبق حيث يقول:
وقد ثبت أن الشيخ - رحمه الله تعالى - قد رجع عن هذه الفتوى عندما دخل غرفة العمليات الجراحية وأجريت له العملية ولم يقدر له الشفاء، وقال الشيخ نور الدين عتر - أحال على كتابة " المعاملات المصرفية وعلاجها في الإسلام " ص 65 " تعليق " - لكن وقفت على سند يدل على رجوعه قبل ذلك بزمن أخبرني من يوثق به من أهل العلم - كان ينبغي أن يذكره لتكون الشهادة ثابتة الأركان إن كان من العدول، فالمسألة هنا من الخطر بحيث لا تنزل عن رتبة الشهادة إلى رتبة الرواية أو الخبر - أنه قال له ولبعض الزوار في البيت: لا تأخذوا بفتواي في الربا والتأمين. وذكر نحو هذين أيضا وإخراجه كتاب التفسير بعد الفتوى يدل على ذلك لما فيه من إبطال ما اشتمل عليه كتاب الفتوى في هذه المسألة.
قلت: بحث شلتوت رحمه الله وغفر له (في تفسيره: ص 47، 160) موضوع الربا بدقة وشمول وبيان بحثا لا أعرف له مثيلا لدى نظرائه ممن اضطربت مواقفهم من أمر الربا وبعد أن استعرض تاريخ الربا عند العرب وأقوال الفقهاء في ربا الفضل ومناط التشريع خلقيًّا واقتصاديًّا في تحريم الربا، قال:
تحت عنوان: (شبهات " العصريين " في استباحة الربا) :
يرى بعض الناس، أن الربا أصبح في عصرنا الحاضر معاملة عامة وأساسا من أسس الاقتصاد فإن المصارف المالية والشركات المختلفة التي لا غنى للأمة عنها تعتمد عليه في سائر معاملاتها وليس من الرأي ولا من مصلحة الأمة أن نشير عليها بهدم ذلك كله وأن تنفرد من بين الأمم بمعاملة خالية من الربا وأن نترك البيوت المالية الأجنبية تفيد من ثمرات هذا التعامل المالي دوننا وقد ارتبطت الدول والأمم بعضها ببعض، فلم يعد من الممكن أن تستقل أمة بنوع من المعاملة لا تعرفه غيرها وأن أساليب الإصلاح والعمران تستدعي رصد الأموال وتجميعها من الأفراد لتستغل فيما ينفع الأمة وتستدعي في كثير من الأحيان أن تقترض الحكومات من غيرها أو من الشعوب أموالا تضمنها بسندات ذات ربح مقدر فتمتص بذلك الأموال المدخرة المعطلة وتحولها إلى منافع ومصالح ترقى بها الأمة وتسعد.
يقولون هذا ويرون أن تحريم الإسلام للربا عائق عن بلوغ الأمة شأن أهل المدينة الحديثة مفض بها إلى الضعف المادي فالضعف الأدبي فالاستعمار
ومن الناس من يقول: إن اقتراض المحتاج قدرا من المال بفائدة ربوية " قانونية " - أحسبه يشير إلى السنهوري يمكنه من سد حاجته ويدرأ عنه الإفلاس والضياع، فلا يعقل أن يكون هذا ضررا أو فسادا وإنما هو نفع وصلاح ونحن نجد من المعاملات التي أباحتها الشريعة الإسلامية ما يعتمد على دفع الأقل عاجلا للحصول على الأكثر آجلا كالسلم فحيث أجاز الشرع معاملة السلم فيجر معاملة الربا فإن المعنى واحد.
وهذا موضوع قد أثير كثيرًا، وأشغل الأفكار منذ أنشبت المدنية الحديثة أظفارها في أعناق المسلمين - قلت: ما أبلغ هذا التعبير وأدق دلالته - وعمل أهل التشكيك في صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان عملهم المتواصل في الفتنة وزلزلة القلوب عن دين الله والقضية في الحقيقة ليست قضية الربا أو غيره من المعاملات المالية وإنما هي قضية الشريعة الإسلامية كلها وقد انصرف عنها أهلها وتعلقوا بأهداب غيرها من قوانين الأمم الغالبة المسيطرة عليهم ومن شأن المغلوب أن يولع بتقليد الغالب ويرى أكثر ما يفعله خيرا وصلاحًا ويزين له الشيطان أن نجاحه إنما يرجع إلى عدم تمسكه بما يتمسك به هو من القواعد والأصول والآداب والتقاليد.
لو كان للإسلام دولة وقوة لكان تشريعه هو المتبع، ولكان للأمم والشعوب من الوسائل الاقتصادية العملية ما يغنيهم عن الربا وغير الربا مما حرمه الإسلام، وإن للكسب لموارد طبيعية هي الأساس والفطرة، كالزراعة والصناعة والتجارة والشركات المساهمة والتعاونية ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الشعوب لا تستطيع أن تقيم مدنيتها على أساس التعاون والتراحم ومساعدة الفقير والمحتاج وإقراضه قرضا حسنا على نظام يكفل لأصحاب الحقوق حقوقهم ولا يؤدي إلى إثقال كواهل المدينين واستلاب أموالهم بالباطل.
إن هذه النظم الاقتصادية التي يتشدقون بها، ويأخذون على الإسلام عدم مجاراته لها قد صارت الآن في موضع الشك والتزلزل عند أهليها والمتعاملين بها، وأصبح العالم يميل إلى نظام اشتراكي يحول بين أن يوجد في الشعب طائفة قليلة العدد مستحوذة على المال منتفعة بما يدره عليها من الربح والجاه والنفوذ وطائفة هي الكثرة العاملة الناصبة لا هم لها إلا أن تكدح لهؤلاء وتجد في تنمية ثرواتهم ثم لا ينالها من هذا الكدح والنصب إلا أدنى القوت وأحط الملابس والمساكن وما الربا إلا الاعتراف بحق أصحاب الأموال في الامتياز على العاملين فهو مناقض لروح التيقظ مصادم لها، فإذا كان أهل هذه النظم قد بدءوا يفقدون إيمانهم بها بل فقدوا هذا الإيمان فعلا وأخذوا يلتمسون سبيلا آخر تستقيم به الحياة السعيدة للأمم أفلا يجدر بنا معشر المسلمين أن نخفف من حماستنا لها ومن ثقتنا بها؟
أترى لو كانت الجمهورية العربية المتحدة - جمهورية مصر العربية الآن - مثلا قادرة على أن تعمل بالتشريع الإسلامي فتلزم جميع ساكنيها بمنع الربا وتضع لهم أسلوبًا من التعامل يتفق ودينها أكان ذلك يضرها أو يعطل مرافق إصلاحها؟.
إننا لا نتردد في الإجابة عن هذا السؤال بالنفي، ولسنا في ذلك متجاهلين للحقائق ولا جاهلين سنن الاجتماع فإن الأمم تألف ما يوضع لها من النظم وتطمئن إليه وإذا عرف أفرادها أنه لا سبيل إلى نوع من التعامل لتحريمه التمسوا غيره ووطنوا أنفسهم على الاكتفاء بما أبيح لهم.
بهذا يتبين أن ما يزعمه الزاعمون من عدم إمكان التخلص من الربا ووجوب مجاراة الأمم في التعامل به ليس صحيحًا وأنه يمكنه تدبير الأمر على نحو يتفق مع ما تبيحه الشريعة لو أراد الناس ذلك مخلصين.
أما ما اعترضوا به من إباحة السلم فإن السلم بيع فيه ثمن ومثمن، وليس النقد هو كل شيء فيه وليس المشتري فيه دائما كاسبا فقد ترخص السلعة عند حلول الأجل وقد تغلو فالمخاطرة التي تكون في التجارة موجودة فيه على أن الربح في السلم ليس من شأنه أن يكون أضعافًا مضاعفة كالربح في النسيئة، وإذا فرضنا أن المشتري غبن صاحبه في صفقة السلم استغلالا لحاجته فإن الشريعة تحرم هذا وبعض المذاهب يجعل الغبن الظاهر من مفسدات العقد أيا كان.
وبقى علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير، هو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير يحاولون أن يجدوا تخريجها للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها ويلتمسون السبيل إلى ذلك، فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، فهذا قيد في التحريم لا بد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثا تعالى الله عن ذلك وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ في مفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافا مضاعفة من الربا.
وهذا قول باطل فإن الله سبحانه وتعالى أتى بقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، توبيخًا لهم على ما كانوا يفعلون وإبرازًا لفعلهم السيء وتشهيرا به، وقد جاء مثل هذا الأسلوب في قوله تعالى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الآية 33 منه سورة النور]، فليس الغرض أن يحرم عليهم إكراه الفتيات على البغاء في حالة إرادتهن التحصن وأن يبيحه لهم إذا لم يردن التحصن ولكنه يبشع ما يفعلونه ويشهر به ويقول لهم: لقد بلغ بكم الأمر أنكم تكرهون فتياتكم على البغاء وهن يردن التحصن وهذا أفظع ما يصل إليه مولى مع مولاه، فكذلك الأمر في آية الربا يقول الله لهم: لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا إنكم تأكلونه أضعافًا مضاعفة فلا تفعلوا ذلك. وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا ووعد الله بمحق الربا قل أو كثر، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه كما جاء في الآثار وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله واعتبره من الظلم الممقوت وكل ذلك ذكر فيه الربا على الإطلاق دون تقييد بقليل أو بكثير.
ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضرورات بالنسبة للأمة، ويقول: ما دام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفًا على أن نتعامل بالربا وإلا اضطربت أحوالها بين الأمم فقد دخلت بذلك في قاعدة " الضرورات تبيح المحظورات ".:
وهذا أيضا مغالطة فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل وأن الأمر فيه إنما هو وهم من الأوهام وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء.
وخلاصة القول أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرم الله أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواع التبرير بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية والانخلاع عن الشخصية الإسلامية، إنما هي جرأة على الله وقول عليه بغير علم وضعف في الدين وتزلزل في اليقين وقد سمعنا من يدعو إلى البغاء العلني ويجيزه ويطالب بالعودة إليه ويرى أنه إنقاذ من شر أعظم يصيب الأمة من انتشار البغاء السري وبمثل هذا يتحلل المسلمون من أحكام دينهم حكمًا بعد حكم حتى لا يبقى لديهم ما يحفظ شخصيتهم الإسلامية نعوذ بالله من الخذلان ونسأله العصمة من الفتن.
قلت: قائل هذا القول هو نفس قائل ما ورد في الفتاوى فإن لم تكن ظروف خاصة حملته على ابتغاء " التقية " حيث قال مقولته في الفتاوى، فإنها زلة مجتهد على شاكلة مقولة ابن عباس رضي الله عنهما في ربا الفضل والأعمال بخواتيمها ويرحم الله شلتوت لقد حاج فدحض الباطل ودمغه وأخزى أهله:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [الآية 114 من سورة هود] .
وقد نقل هذا الذي نقلناه عن شلتوت من تفسيره نور الدين عتر بشيء من تصرفه في كتابه القيم (المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام) وتعقبه بقوله: ص 71:
بقيت شبهة لم يتعرض لها مقال الشيخ شلتوت؛ لأنها حدثت بعد كتابته وهي شبهة من يزعم إباحة الربا مع المصرف المتأمم فهذه الشبهة أغرب وأعجب مما سبق لأن صاحبها قد عكس القول وقلب الأمر على غير وجهه، فكأنما الدولة في نظرهم غير مسؤولة عن سد ثغرات المجتمع ولا يفترض عليها الرفق بالأمة ورعايتها وإنما وظيفتها جمع الأموال فقط.
والذى نفهمه في أن حاجة المجتمع للإقراض ثغرة يجب على الدولة أن تساهم - خطأ صوابه: أن تسهم - في سدها يدلنا على ذلك الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الآية 6 من سورة الأحزاب] ، فأيما مؤمن مات فترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينًا أو ضياعًا فليأتني فأنا مولاه)) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم التزم سداد دين المسلمين والأداء عنهم وذلك تقرير منه لمسؤولية الحاكم عن سد هذا الثغر من ثغور المجتمع الإسلامي فإن كان بعض الناس قد ينازعن فيما فهمنا واستلهمنا من هذا الحديث ويدعي أن التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم تطوع شخصي ليس من باب مسؤولية الحاكم؟ فالجواب أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله تشريع باتفاق الحكماء ما لم ينهض الدليل الجازم على تصرف ما بأنه من باب الخصوصية له صلى الله عليه سلم وليس هاهنا دليل أبدًا، بل إن الدليل يثبت أن هذا التشريع عام للأمة بحيث جاء الخلفاء الراشدون وتبعوا هذه الخطة وأصبح من المقرر إثبات مسؤولية الدولة عن سد ثغرات المجتمع.
(15)
دحض شبه تعلقوا بها
الذين يحاولون - عن دخل في الفهم أو في الدين - بألوان مختلفة من التعلات والمزاعم والتمويهات تحليل الربا المصرفي، وما شاكله من أوضاع المعاملات المالية في هذا العصر يتعلقون بشبهات بعضها نقلنا دحضها في الفصل السابق وبعضها لم نقف على دحض دقيق حاسم لها على النهج الذي نؤثره، فارتأينا أن نتتبعها قبل أن ننتهي إلى الغاية من هذا البحث.
وأول هذه الشبهات زعمهم بأن الربا المحرم تحريمًا قطعيًّا هو ربا الجاهلية، أو الذي سموه كذلك تبعًا لظاهر عبارات جمهرة من الفقهاء.
وتلك ضلة انزلقوا فيها، ذلك بأن ألفاظ الشرع العزيز لا يمكن تخصيصها أو تقييدها إلا بقرينة أو دليل إن لم يكن في مستواها من القطع أو الظن، فلا أقل من أن يكون في مستوى أقره المحدثون والأصوليون باعتباره مقبولًا بكيان أو مخصص أو مقيد للفظ المراد بيانه أو تخصيصه أو تقييده، ولا نعرف - وما نظن - أن أحدًا يعرف قرينة أو دليلًا لتخصيص الربا الوارد في القرآن الكريم بما سموه ربا الجاهلية كما لو أنه يختلف جوهريًّا عن الربا الذي يريدون تحليله من معاملات العصر الحاضر.
ذلك بأن الربا الذي ورد تحريمه في آيات سورة البقرة، وسورة آل عمران، وورد التمهيد له في آية سورة الروم - وإن بلفظ منكر فيها - كان في آيات التحريم الصريحة في سورتي البقرة وآل عمران معرفًا بأل ولم يرد قبل هذه الآيات في السورتين، ولا ورد بعدها ما يمكن اعتباره قرينة على أن "ال" التعريفية للعهد الذكري، أو الذهني. وما ورد في الأخبار من أن سبب نزول آيات البقرة ربا ثقيف مثلًا لا ينهض دليلًا على تقييد لفظ الربا فيها أو في سورة آل عمران بنوع معين من أنواع الربا ولا على تخصيصه بذلك الذي قيل: إنه سبب نزول آيات سورة البقرة وبربا أهل مكة الذي قيل: إنه سبب نزول آية آل عمران، فمن المسلم به - ولا سبيل فيه إلى جدل أو مراء - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن المسلم به أيضًا أن رتبة الظن في أخبار أسباب النزول لا تبلغ في أغلبها رتبته في الأحاديث المبينة أو المفصلة لما ورد في الكتاب العزيز من آيات الأحكام، بل إن كثيرًا من أخبار أسباب النزول يتعارض بعضها مع بعض، فقد يدعى لنزول آية واحدة أكثر من سبب، فلا سبيل إذن إلى اعتبار هذه الأخبار من حيث قوة الاستدلال بها في مستوى الآيات أو الأحاديث المتعلقة بأحكام الربا، ولم يزعم أحد أن "أل" التعريفية في الربا ليست لاستغراق الجنس.
وفي ما يلي نصان في تحديد معنى كلمة الربا الأول تنقله عن ابن منظور الذي اعتمد فيه على كل من الزجاج والجوهري وثلاثتهم أيمة في اللغة ليس لأحد أن يغمز في إمامتهم.
قال ابن منظور في (لسان العرب: 14/304، 305) :
ربا الشيء يربو ربوًا ورباءً زاد ونمى وأربيته نميته، وفي التنزيل العزيز:{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [الآية 276 من سورة البقرة]، ومنه أخذ الربا الحرام. قال الله تعالى:{وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الآية 39 من سورة الروم] . قال أبو إسحاق - يعني الزجاج - يعني به دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، وذلك في أكثر التفسير ليس بحرام، لكن لا ثواب لمن زاد على ما أخذ، قال: والربا ربوان: الحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو يجر منفعة، فحرام، والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر أو يهدي الهدية ليهدي له ما أكثر.
ثم قال:
والأصل فيه الزيادة، من ربا المال إذا زاد وارتفع، والاسم الربا مقصور، وهو في الشرع الزيادة على أصل المال من غير عقد تبايع.
ثم قال:
وأربى عن الخمسين ونحوها زاد، وفي حديث الأنصار يوم أحد: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنربين عليهم في التمثيل، أي لنزيدنه ولا نضاعفن. الجوهري الربا في البيع، وقد أربى الرجل. وفي الحديث: من أجبى فقد أربى. وفي حديث الصدقة: وتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل.
وربا السويق ونحوه يربو صب عليه الماء فانتفخ، وقوله عز وجل في صفة الأرض:{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الآية 5 من سورة الحج] . قيل: معناه عظمت وانتفضت، وقرأ فربأت فمن قرأ وربت فهو ربا يربو إذا زاد على أي الجهات زاد ومن قرأ وربأت بالهمزة فمعناه ارتفعت.
وساب فلان فلانًا فأربى عليه في السباب إذا زاد عليه.
أما الثاني فننقله عن إمام اللغة في العصر الحاضر بلا منازع ولا مثيل: محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله وما من أحد يستطيع أن يشتبه في ضلاعته في العربية لغة وأدوات.
قال في (التحرير والتنوير: 3/79، 81) :
والربا اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين لعلهم خففوه من الرباء - بالمد - فصيروه اسم مصدر لفعل ربا الشيء يربو ربوًا - بكسر الباء على القياس كما في الصحاح، وبضم الراء والباء كعلوا - ورباء بكسر الراء وبالمد مثل الرماء إذا زاد، قال تعالى:{فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الآية 39 من سورة الروم] وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الآية 5 من سورة الحج] ، ولكونه من ذوات الواو وثني ربوان.
ثم قال:
والربا يقع على وجهين، أحدهما: السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف. والثاني: بزيادة إلى أجل يعني، فإذا لم يوف المستسلف أداء عند الأجل كان عليه أن يزيد زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل.
ثم إن الحديث الذي تعلقوا به في دعواهم أن الربا المحرم تحريمًا قطعيًّا هو ما سموه ربا الجاهلية، وهو حديث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لربا الجاهلية كله، ومنه ربا عمه العباس رضي الله عنه في خطبته المشهورة في حجة الوداع لا دليل لهم فيه لسببين، الأول: ما جاء في لفظ الحديث على اختلاف طرقه - وسنورد طائفة منها بعد قليل - من التعبير بكلمة "كل" فيما جاء في بعض طرقه ((ألا وإن كل ربا في الجاهلية
…
)) الحديث.
ولا يغمز في هذا ما جاء في رواية مسلم من قوله:" وربا الجاهلية ""الحديث عار عن لفظة "كل" لأن الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم قد قضى على جميع المعاملات الربوية بين المسلمين إن لم يكن منذ نزلت آية سورة الروم، فمنذ نزلت آية سورة آل عمران وزيادة كلمة "كل" زيادة من ثقة وهي مقبولة بلا مراء.
أما الثاني فهو أن ربا العباس الذي نسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وإلى بني هاشم عامة كانت نتيجة إقراض ولم يكن نتيجة مبايعة، وآية ذلك ما قاله جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 7/440، 441) :
وكان العباس بن عبد المطلب من أثرياء قريش كانت له ثروة واسعة من نقود ومن ذهب وفضة وقد استغل ماله بالتجارة وإقراضه بالربا قيل عنه: إنه كان ذا مال كثير متفرق في قومه كان يقرضهم ويسلفهم ويشاركهم في تجارتهم.
ثم قال: وكانت أم العباس غنية على ما يظهر، ذكر أنه ضاع وهو صغير نذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه كذلك، وكان له مال في الطائف، فإذا كان الموسم جيء إليه بالزبيب ينتبذه للحجاج، فقد كان المتولي لأمر السقاية بمكة، وذكر أنه كان يملك (مكوكًا)(1) مصوغًا من فضة مموهًا بالذهب يشرب به.
فالعباس إذن كان أشهر بالإقراض منه بغيره من عمليات الاستثمار وتاريخ أهل مكة التجاري لا يسجل للعباس تنقلات كثيرة على حين يسجل له تاريخ أصحاب المال من أهل مكة أنماطًا من الحياة المترفة التي لا تتأتى إلا مع الاستقرار.
ولا سبيل إلى الاشتباه بأن العباس كان يقرض أموالًا بدون فائدة فإذا عجز المقترض عن الأداء أجل له وزاد؛ لأن عملية الاقراض هي من الأسس الرئيسية لديه لاستثمار أمواله بل لعلها كانت أنشط في تصرفاته من التجارة التي كان يسهم فيها بالاشتراك في القوافل ببضائعه وأمواله وليس بنفسه في أغلب الأحوال كذلك كان يفعل غيره من أغنياء مكة مثل عبد الله بن جدعان.
بل إن أصل مال العباس - على ما يظهر- ليست تجارة، وإنما هو مال واسع كان لوالدته، فهو إذن قد نشأ في بيت دعة ورفاء، ولم يكن بحاجة إلى أن يعنت نفسه بالأسفار لتنمية ثروته، ومثل هذا النوع من الرجال يكون أميل إلى معاملات القرض التي هي أقل خطرًا باعتبار اختيار المقترضين منه إلى الأعمال التجارية، التي كثيرًا ما تكون عرضة للضياع، ليس فحسب لما يعتريها من الخسارة ولكن أيضًا لما يعترضها من سطو الصعاليك وقطاع الطرق.
(1) المكوك اسم لمكيال ويختلف باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد.
وأكبر الظن - والله ورسوله أعلم بأسرار التشريع - أن هذا أحد السببين اللذين من أجلهما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ربا العباس مع رأس ماله على حين وضع ربا غيره بإلغاء الفوائد مع الإبقاء على رؤوس الأموال، أما السبب الثاني فهو أن العباس كان مسلمًا يسر إسلامه إلى أن التحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة قبيل فتح مكة، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل دعواه الإسلام حين أسر في بدر، فألزمه بفداء نفسه اعتمادًا على ظاهر أمره، فإنه اعتبر دعواه الإسلام ملزمة له ولذلك عامله على أساس هذا الاعتبار فوضع عن المقترضين منه جميع ما يدينون له به من فائدة ورأس مال لشبهة أن يكون رأس المال نفسه من الفوائد الربوية التي أخذها في فترة إسلامه وهو بمكة أو عقابًا له على أساس تغليظ العقاب لاستمراره على التعامل بالربا مع إقراره بالإسلام.
ومهما يكن فليس في حديث حجة الوداع ما يدل من قريب أو بعيد على أن ربا الجاهلية، وخاصة ربا العباس الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندئذ يختلف كله - إن ثبت أن بعضه يختلف - عن أنماط الربا التي يريد هؤلاء المشبوهون أو المشتبهون تحليلها وفيما يلي بعض طرق هذا الحديث.
قال أحمد (المسند: 5/72، 73) :
حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة. أخبرنا على بن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس فقال: ((أيها الناس، أتدرون في أي شهر أنتم وفي أي يوم أنتم؟)) قالوا: في يوم حرام وشهر حرام وبلد حرام، وقال:((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه)) ثم قال: ((اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه، ألا وإن كل دم ومال ومؤثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع وأن الله عز وجل قضى أن أول ربا وضع ربا العباس بن عبد المطلب لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون
…
)) الحديث.
قال مسلم في (الصحيح: 2/889، ح1218) :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم، قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن الحسين، فأهوى بيده على رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبًا بكل يا ابن أخي سل عما شئت (1) فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجه متلحفًا بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) هكذا كان السلف رضي الله عنهم يعاملون الأقربين من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من كان من أهل الأهواء الذين ضلوا وأضلوا عصمنا الله منهم وولاهم ما تولوا.
وساق حديث جابر عن حجة الوداع بطوله وفيه:
فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث- كان مسترضعًا في بني أسد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله
…
الحديث.
وقال الطبري في (تاريخ الرسل والملوك: 3/150) :
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح قال - أي في معرض حديث حجة الوداع -: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم، وخطب خطبته التي بين للناس فيها ما بين فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلنى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن كل ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله. ثم ساق الحديث بطوله.
وقال الترمذي في (الجامع الصحيح: 5/279، ح3087) :
حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن شبيب، عن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، حدثنا أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال: أي يوم أحرم عليكم، أي يوم أحرم، أي يوم أحرم؟ قال: فقال الناس: يوم الحج الأكبر يا رسول الله قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا يجنى جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده ولا ولد على والده، ألا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، غير ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله
…
الحديث.
وتعقبه الترمذي بقوله: هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو داود في (السنن: 2/182، ح1905) :
حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسفيان بن عبد الرحمن الدمشقيان، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، وساق شبه حديث مسلم الذي اقتبسنا منه آنفا يزيد عليه وينقص، وفيه فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا دم- قال عثمان: دم ابن ربيعة، وقال سليمان: دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقال بعض هؤلاء: كان مسترضعًا في سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله
…
الحديث.
وقال ابن ماجه في (السنن: 2/1022، 1027، ح3074) :
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله وساق حديث حجة الوداع بقوله وفيه:
إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، ودماء الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث (كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل) ، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله
…
الحديث.
وقال الدرامي في: (السنن: 2/246) :
حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، قال: كنت بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه، فقال: ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، ألا وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
أم الشبهة الثانية فهي زعمهم بأنه لا يوجد نص يحرم الزيادة البسيطة فهي زعمهم؛ إذ إنه لا يوجد اجتهاد أساسه القياس أو المصلحة المرسلة.
ومرد هذا الزعم إلى أنهم قصروا عن إدراك فقه كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلمات الصحابة الذين رووا عنه - إن قال قائلهم: إنه لا دليل على أن الرواية كانت باللفظ فقد تكون بالمعنى - أو قصروا في تفهمها واستقصاء مقاصدها ومعانيها وهذا ما يستوضحه بالحجة الدامغة التي لا تبقي لهم عذرًا ولا تعلة.
ففي حديث أبي سعيد الخدري الذي أوردنا طائفة صالحة من طرقه في فصل "أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف" وردت عبارة "ولا تشفوا بعضها على بعض" أو "ولا يشف بعضها على بعض" وما شاكل ذلك ومهما اختلفت الصيغة، فإن كلمة "شف" أو "أشف" وردت في هذا الحديث الشريف الذي رواه كل من عبد الرازق ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان والطبري وابن الجارود والطحاوي من طريق نافع وبعضهم عنه، عن ابن عمر، عن أبي سعيد مباشرة - وهذا لا تغاير فيه، فقد صحب نافع أباه إلى أبي سعيد حين سمع الحديث منه كما جاء في بعض طرقه في الفصل المذكور آنفًا - وهو عند جلهم بأكثر من سند واحد.
بل إن عمر يستعمل نفس العبارة في خطاب له عن الربا فيما أخرج الشافعي والطبري والطحاوي عن طريق نافع، عن ابن عمر، وجلي أن عمر كان في هذا الخطاب وهو يحذر من الربا متعمدًا أن يستعمل لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يرفعه وذلك على سبيل الاقتباس وأحسبه اكتفى عن رفعه بأن الصحابة الذين كانوا يستمعون إليه - رضوان الله عليهم جميعًا - بلغهم مباشرة أو بواسطة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في اقتباسه تذكيرًا لهم به دون حاجة إلى الرفع أو الإسناد وهم يومئذ أعظم ثقة ببعضهم بعضًا من أن يحتاجوا إلى التصريح بالرفع، لا سيما إذا كان الراوي أو المقتبس أمير المؤمنين عمر.
والتعبير النبوي الشريف واقتباس عمر له بمادة "شف"، ومضارعها ثلاثيًّا أو رباعيًّا كان عن فقه دقيق لمعناها وقصد إليه بالذات، وهو من روائع البلاغة النبوية وآية ذلك ما ننقله الآن عن رجال اللغة من فقهاء وغيرهم مما يتصل بمعاني هذه الكلمة، وهي على تعددها لا تخرج من مدار واحد، وهو القلة والرقة وما إليهما.
قال النووي في (تهذيب الأسماء واللغات: 3/164، 165) :
"شففت" قال أهل اللغة: الشف بفتح الشين ستر رقيق، قال الجوهري: قال أبو نصر: هو ستر أحمر رقيق من صوف يستشف ما وراءه. الشف بكسرها، الفضل والربح تقول منه شف يشف شفًا بكسرها في المضارع والمصدر، قال ابن السكيت: والشف أيضًا نقصان وهو من الأضداد وشف عليه ثوبه يشف شفوفًا وشففًا، أي رق حتى يرى ما خلفه، وثوب شف وشف، أي رقيق وشف جسمه يشف شفوفًا، أي نحل وأشففت بعض ولدي على بعض فضلتهم، والشفيف لذيع البرد.
وقال عياض في (مشارق الأنوار: 2/256) :
(شفف) قوله: ألا يشف فإنه يصف بفتح الياء مشدد، أي بيدي ما وراءه من الجسم ويظهره لرقته - قلت: يشير بذلك الأثر روي عن عمر رضي الله عنه وهو قوله: لا تدرعوا نساءكم القباطي، فإنه إن لم يشف، فإنه يصف ولم أقف لهذا الأثر عن سند ولكن الدكتور محمد رواس قلعه جي فى كتابه "موسوعة فقه عمر"، وهو الثامن من موسوعات فقه السلف أحال به على (تاريخ المدينة المنورة: 3/773) والعهدة عليه - وقد استشهد به ابن منظور أيضًا في لسان العرب.
ثم قال عياض:
والشف الثوب الرقيق بفتح الشين وكسرها معًا وقوله: "ولا تشفوا بعضها على بعض"، بضم التاء، أي ولا تفضلوا ولا تزيدوا والشف بالكسر الزيادة والنقصان أيضًا وهو من الأضداد والشف بالفتح اسم الفعل من ذلك شف هذا على هذا، أي زاد وقوله:"إذا شرب اشتف" - يشير إلى حديث أم زرع- على رواية من رواه استقصى ولم يبق شيئًا.
وقال الفيروز آبادي في (القاموس المحيط: 3/159، 160) :
(الشف) ويكسر: الثوب الرقيق جمعه شفوف وشف الثوب يشف شفوفًا وشفيفًا رق، فحكى ما تحته، والشف ويكسر الربح والفضل والنقصان ضد وشف يشف شفًا زاد ونقص وتحرك، وجسمه شفوفًا نحل، وشفه الهم هزله، وكأمير لذع البرد، ومطر فيه برد أو الريح الباردة كالشفشاف وشدة حر الشمس ضد، والقليل كالشفف محركة وثوب شفشاف لم يحكم عمله، والشفافة ككناسة بقية الماء في الإناء، والشفاشف شدة العطش، وغداة ذات شفان برد، وريح وأشففتهم فضلتهم، واشتف البعير الحزام كله ملأه واستوفاه وما في الإناء كله شربه كله كتشاف، وتشاففته ذهبت بشفه، أي بفضله، والشفشفة الارتعاد والاختلاط والنضح بالبول ونحوه، وتشويط السقيع نبت الأرض فيحرقة وذر الدواء على الجرح وتجفيف الحر والبرد والشيء، والشفشف بالفتح والكسر السخيف السيء الخلق ومن به رعدة واختلاط غيره وإشفاقًا على حرمه، واستشفه نظر ما وراءه.
وقال ابن الأثير في (النهاية: 2/446، 447) :
" شفف" فيه أنه نهى عن شف ما لم يضمن الشف الربح والزيادة وهو كقوله: نهى عن ربح ما لم يضمن وقد تقدم، ومنه الحديث "فمثله كمثل ما لا شف له"، ومنه حديث الربا " لا تشفوا أحدهما على الآخر"، أي لا تفضلوا، والشف النقصان أيضًا فهو من الأضداد ويقال: شف الدرهم يشف إذا زاد أو نقص، وأشفه غيره يشفه، ومنه الحديث "فشف الخلخالان نحوًا من دانق فقربه"، وفي حديث أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه يومًا وقد كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا شف أي شيء قليل. الشف والشفا والشفافة بقية النهار، وفي حديث أم زرع "وإن شرب اشتف"، أي شرب جميع الإناء، والشفافة الفضلة التي تبقى في الإناء".
ثم قال: ومنه حديث رد السلام قال: إنه تشافها أي استقصاها، وهو تفاعل منه وفي حديث عمر لا تلبسوا نساءكم القباطي إلا يشف، فإنه يصف يقال: شف الثوب يشف شفوفًا إذا بدى ما وراءه ولم يستره، أي أن القباطي ثياب رقاق ضعيفة النسج، فإذا لبستها المرأة لصقت بأردافها فوصفتها فنهى عن لبسها وأحب أن يكسين اتحاد الغلاظ، ومنه حديث عائشة وعليها ثوب يكاد يشف، ومنه حديث كعب يؤمر برجلين إلى الجنة، ففتحت الأبواب ورفعت الشفوف هي جمع شف بالكسر والفتح، وهو ضرب من الستور يستشف ما وراءه وقيل: شتر أحمر رقيق الصوف، وفي حديث الطفيل: في ليلة ذات ظلمة وشفاف؛ والشفاف جمع شفيف وهو نوع من البرد ويقال: لا يكون إلا برد ريح مع نداوة ويقال له الشفان أيضًا.
وقد أفاض ابن منظور في معاني كلمة شفف ومشتقاتها والاستشهاد لكل معنى كعادته إفاضة استغرقت قرابة أربع صفحات في (لسان العرب: 9/179ن 183) : وجل ما ساقه وتبسط فيه أوجزه غيره ممن نقلنا عنهم آنفًا.
ويتضح من كل هذا أن مدار كلمة " شفف " - كما ذكرنا آنفًا - التعبير عن الرقة والقلة سواء كانت في مجال الزيادة أو النقص أو غيرهما.
وفيما يتصل بالربا بالذات يوضحه إيضاحًا لا خفاء معه قول ابن الأثير الذي سقناه آنفا " ويقال: شف الدرهم إذا زاد أو نقص " فزيادة الدرهم أو نقصه لا تكون إلا قليلة في كل مرة، ذلك بأن قوله: شف الدرهم هو من تعابير رجال المال في الأسواق ومن على شاكلتهم ممن يعنون بأسعار العملة والشفاف زيادة كان أو نقصًا لا يكون إلا تدريجيًّا، وقد يسرع في التدرج ولكن لا يتجاوز في المرة الواحدة أو في المرحلة الواحدة من تدرجه الانتقال بالقليل من سعر إلى سعر وإلا كان انقلابًا في الأسعار مما لم يكن معروفًا يومئذ ولا هو بالمعتاد الآن.
حاصل هذا كله أن النهي النبوي الشريف عن إشفاف بعض الدرهم أو الدينار ببعض وهو نهي صريح ونص دقيق حاسم في النهي - نهي تحريم لعدم وجود قرينة تصرفه إلى غير التحريم، بل ولأن القرائن كلها تحصره في التحريم - عن مطلق الزيادة ابتداء من البسيطة، لأن استعماله صلى الله عليه وسلم عبارة " شفف " ومشتقاتها كان مقصودًا لذاته لتحريم الزيادة البسيطة، أما ما فوق البسيطة فهو محرم بالطبع نتيجة لتحريم البسيطة، إذ لا يعقل أن تباح الزيادة الكثيرة وتحضر البسيطة، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم نص في حديثه الذي رواه أبو سعيد - وهو وإن كان آحاديًّا يكاد يبلغ من استفاضته ولما يعضده من أحاديث في معناه لحديث عبادة وحديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة وغيرها حد التواتر المعنوي الذي لا يوجب العمل فحسب، وإنما يوجب العلم أيضا - نهى عن كل زيادة مهما تكن ضئيلة وتوضيحًا لهذا المعنى استعمل كلمة " شف ".
وبما أنه لا سبيل إلى الغمز في هذا الحديث وفي أنه نص يجب اعتماده، وبما أن لفظه يمنع كل تأويل محتمل يخرج به عن دلالته اللغوية ولا توجد أية قرينة تسمح بالزعم بأنه تجوز به عن حقيقته اللغوية إلى معنى آخر، وبما أنه ورد في هذا الحديث وغيره ما يعضده من قوله صلى الله عليه وسلم:((فمن زاد أو ازداد)) ، وقوله:((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) وفي هذا الحديث إطلاق الزيادة دون تحديدها بالكثرة أو القلة، فكان حديث:((لا تشفوا بعضها ببعض)) بمثابة البيان لحديث فمن زاد، فإن تحريم الزيادة مهما تكن بسيطة وارد بالنص الذي إن حاول البعض أن ينزل به عن درجة القطع الموجب للعلم فلا سبيل له إلى محاولة النزول به عن درجة الظن الراجح الموجب للعمل وكل زعم أو تأويل محتمل يراد به التشكيك في دلالة النص أو التماس مخرج منه فهو رفض له، وقد يبلغ درجة الكفر به ولا أقل من أنه تجاوز له عن عمد وسبق إصرار.
وأما الشبهة الثالثة فهي تعلق بعضهم بكلمة " الرماء " في قول عمر: " فإني أخاف عليكم الرماء " وبكلمة: " إنى أخاف عليكم " أيضًا، فزعموا أن تحريم التفاضل وهذا الزعم أيضًا ناشئ عن قصور أو تقصير في فهم العبارة التي تعلقوا بها، وعبارة: إني أخاف عليكم الرماء " وردت من كلام ابن عمر وقد سقنا طرقها في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " وفي طريق حديث أبي سعيد: " فإني أخاف عليكم الربا " والحديث عن أحمد والطبراني في الكبير ولفظه عند أحمد (المسند، بتحقيق أحمد شاكر، المجلد 4، 8/141، ح 5885) :
حدثنا حسين بن محمد، حدثنا خلف، يعني ابن خليفة، عن أبي جناب، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء)) والرماء؛ هو الربا، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجبية بالإبل؟ قال:((لا بأس إن كان يدًا بيد)) .
وإذا صرفنا النظر عن تضعيفهم لأبي جنب، وقد أشار إليه شاكر في تعليقه على الحديث وتعقبه وقال عنه الهيثمي في (مجمع الزوائد: 4/1059) : وفيه أبو جنب الكلبي وهو مدلس ثقة، فإن لفظ الحديث نفسه لا يستقيم متعلقًا لهم وذلك أولًا: لأن كلمة الرماء لا نعرفها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث والمعروف من حديث ابن عمر في هذا الشأن - وقد سقناه بطرق عدة في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " أن جملة " فإني أخاف عليكم الرماء " من كلامه هو وأنه لم يسمع حديث الربا مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من حديث أبي سعيد وثانيا: حتى وإن ثبت أن حديث ابن عمر هذا كما رواه أحمد والطبراني سمعه مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: ((فإني أخاف عليكم الرماء)) أو كما ورد في بعض الطرق فإني أخاف عليكم الربا، فإن النهي عن بيع الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين والصاع بالصاعين فهي عن أية معاملة فيها تفاضل أو تؤدي إلى تفاضل وكلمة " فإني أخاف "، لا تعني أنه سد للذريعة، وإنما تعني في فقهها أنه تبيان لا محيص عنه، وهو أن معاملة من هذا القبيل لا يمكن أن تتم بين عقلاء إلا بناء على اعتبار لنوع من المفاضلة بين السلعتين المتبادلتين وفي حالة الدراهم والدنانير، إما أن تكون المفاضلة في الوزن أو في الخلوص أو في مصدر السك، فالمفاضلة إذن ثابتة وأما في حالة الصاع بالصاعين وهي إما في التمر أو في البر أو في الشعير، فلا بد أن تكون لجودة أحدهما ورداءة الآخر أو لجدة أحدهما وقدم الآخر وإن كانا من نوع واحد جودة ورداءة، وفي جميع هذه الأحوال لو بيع كل شيء منها بثمن واشتري مقابله بالثمن لكان أحدهما أغلى من الآخر ما في ذلك شك، ولذلك حرمت هذه المعاملة أما التعبير بـ " فإني أخاف " فإنما هو لدرء احتمال ممكن الوقوع ولكنه نادر ذلك في حالة أن يكون أحد المتبايعين بحاجة إلى النوع الذي يشتريه بأكثر منه من جنسه سبب يخرج عن التفاضل النوعي، كأن يشتري تاجر مسافر إلى الشام عملة رومية بعملة فارسية ولحاجته إلى العملة الرومية يدفع ضعفها مقابلها من العملة الفارسية أو أن يشتري عملة مسكوكة بضعفها من جنسها موزونة لحاجته إلى المسكوكة، ومثل هذه الحالة يحتمل وقوعها في المكيلات لاعتباره مشاكل لهذا الذي تصورناه في النقد، وفي هذه الأحوال لا مجال لاعتبار التفاضل، ولكن جرأة الناس عليه والفهم لها مما قد يحوله إلى عادة حمل ابن عمر على التعبير بالخوف " فإني أخاف " أما كلمة الرماء ودلالتها على الربا فإنها من المترادفات التي تزخر بها اللغة العربية فلا سبيل إلى التعلق بها كما لو كانت عبارة تختلف عن عبارة الربا وإن قربت منها.
يتجلى مما سبق أن قول ابن عمر هذا أو روايته هذه لا متعلق فيها إلا لمن حرم الفقه في الدين لاعتبار أن تحريم ربا الفضل مناجزة، إنما هو سد للذريعة إلى الربا فهو تحريم من درجة أدنى يمكن التحلل منه إذا تعينت المصلحة أو الضرورة.
وأما الشبهة الرابعة فهي حصرهم دلالة كلمة " درهم " وكلمة " دينار " على النقد المتعامل به مسكوكًا أو موزونًا من الذهب والفضة على التوالي.
ألبس عليهم ذلك أن التعامل الأغلب في العهد النبوي وما بعده من أيام الصحابة والتابعين وفترتي الازدهار الاقتصادي من العهدين الأموي والعباسي كان بالذهب والفضة، وما كان منه بالنحاس " الفلوس " كان نادرًا وزهيدًا لا يكون قيمة جديرة بالاعتبار في حياتهم المالية، فخيل إليهم أن كلمتي " درهم " و " دينار " تنحصر دلالتهما على ما كان من النقد ذهبًا أو فضة ولم يصب هذا اللبس متفقهة المقلدين من المشبوهين أو المشتبه عليهم في عصرنا فحسب، وإنما التقطوه من كلام عامة المفسرين والفقهاء الذين غلب عليهم اعتبار المتعارف من لغة التعامل في العصر الإسلامي الأول فاعتمدوه كما لو كان هو المعنى الوحيد لكلمتي " الدرهم: و " الدينار " وساقهم الوهم إلى تفسير الآيتين الكريمتين قوله تعالى في سورة آل عمران، الآية 75:{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية وقوله تعالى في سورة يوسف، الآية 20:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} بأن المقصود بكلمة " دينار " وكلمة " دراهم " العملة الذهبية والعملة الفضية ولو أنهم تأملوا قليلًا لاستبانوا أن المقصود بكلمة دينار في آية سورة آل عمران هو المقدار من الوزن وليس نوع العملة بدليل قوله تعالى في نفس الآية {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فجاءت كلمة " دينار " تعبيرًا عن الحد الأدنى من الوزن مقابل كلمة " قنطار " المعبر عن الحد الأعلى، وليس المراد مقدارًا من الوزن معين في الحدين وإنما المراد بيان أنهم يخونون الأمانة سواء كانت كثيرًا أو قليلًا، أما في آية سورة يوسف فكلمة " دراهم " تعني عملة لكن ليست فضية بالضرورة، بل الظروف التاريخية ترجح أنها ليست فضية وتتبين هذه الظروف من قول محمد الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير: 12/205، 206) .
والتقطته سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يؤمنذ في حكم أمة من الكنديين يعرفون بالعمالقة أو (الهكصوص) ، وذلك في زمن الملك (أبو قيس) أو (أبيبي) ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح عليه السلام فاشتراه (فوطيفار) رئيس شرطة فرعون الملقب في القرآن بالعزيز أو رئيس المدينة.
ثم قال:
وفي مدة حكمه - يعني يوسف - جلب أباه وأقاربه من البرية إلى أرض مصر، وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى عليه السلام –.
وإنما اعتمدنا كلام ابن عاشور هذا؛ لأن من عادته رحمه الله في مثل هذه الشئون الرجوع إلى العهد القديم أو العقد الجديد أو الأسفار الملحقة بهما وعدم اعتماد كلام الأخباريين وذلك ما يجعل ما يقرره فيها أوثق مما قرره غيره من جميع المفسرين بدون استثناء.
ويعضد ما قاله رحمه الله ما ضبطه ديورانت في قصه الحضارة. (المجلد 1، 2/6) ، من أن سيطرة الهكصوص على مصر كانت ما بين 1800-1600 قبل الميلاد ومن أن عهدهم كان عهد تدهور اقتصادي نقدي (انظر نفس المرجع، ص 73 وما بعدها) ، فلم تكن نقودهم فضية خالصة أو ذهبًا خالصًا، وإنما كانت زيوفًا وفيها ما كان من نحاس وغيره، ولعل قوله سبحانه وتعالى في الآية:{بِثَمَنٍ بَخْسٍ} إشارة إلى أنهم لم يشتروه بعملة ذات بال، وأن الدراهم المعدودة هي في ذاتها ليست بذات قيمة، ولذلك جاء التعبير - والله أعلم بأسرار كتابه - {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ولو كان الغرض من تبيان أن الثمن ليس مناسبًا هو قلة الدراهم التي بيع بها فحسب لأمكن الاقتصار على قوله تعالى:{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} فكلمة " بخس " تعني أكثر من قلة الدراهم وباعتبار الظروف التي كانت سائدة في مصر يومئذ فرجح أنها تعني أن العملة التي بيع بها يوسف عليه السلام ليست فضية، وأن كلمة " دراهم " في هذه الآية سيقت لدلالتها على غير النقد الفضي المزيف ما تعورف عليه حتى في اليونان نفسها أيام تدهورها الاقتصادي وهي صاحبة ابتكار عملة الدرهم من اعتبار الدرهم يعني العملة المتداولة أيا كانت مادتها، وليس بالضرورة العملة الفضية وما قلناه في الدرهم نقوله أيضًا في الدينار، فلم يكن الدينار أو الديناريوس عند الرومان خالصًا دائما العملة الذهبية الخالصة، فقد خضع لتقلبات العملة وتدهورها نتيجة لتدهورهم الاقتصادي حتى خلصت عملتهم إلى النحاس وعدم منها الذهب، ثم تدهور حجمها النحاسي تدهورًا مطردًا وإن لم تستمر تسميتها بالديناريوس، وإنما أخذت أسماء أخرى وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك في فصل " نشأة النقد وتطوره " كما سبقت فيه الإشارة إلى تدهور العملة عند غير الروم كفارس، بل والصين التي كانت المبتكرة الأولى للعملة الورقية لا كما وهم بعض متفقهة هذا العصر.
ولبيان أن العرب لم يتعارفوا على اعتبار الدرهم كلمة تعني العملة الفضية فحسب نورد ما قاله ابن منظور في (لسان العرب: 12/199) :
والدِّرهم والدَّرهم لغتان فارسي معرب ملحق ببناء كلامهم، ثم قال: ورجل مدرهم ولا فعل له كثير الدراهم حكاه أبو زيد ولم يقولوا: درهم، قال ابن جني: لكنه إذا وجد اسم مفعول فالفعل حاصل.
وواضح أن العرب لم يكونوا يتصورون تصورًا دقيقًا الماهية النقدية للدرهم أو لغيره من أن ابن منظور وهو الحريص على الإحاطة بكل ما عرف عن العرب في كل كلمة في معجمه لم ينقل عنهم إلا هذا القدر اليسير الذي لا يوضح بقدر ما يلبس.
كما أن الفيروزأبادي لم يقل شيئا مذكورًا في قاموسه عن الدرهم والدينار على تحريه الدقة والتقصي ما استطاع بل إنه مثل ابن منظور التبس عليهما مصدر كلمة " الدينار " فزعما أنها كلمة فارسية وواضح أنهما زعما ذلك اعتمادًا على الرواية المنقولة إليهما وآية ذلك ما قالاه مما لا نرى عناء في نقله حول بنية كلمة " دينار " وطريقة تعريبها (انظر لسان العرب: 4/292) ، واشتقاقها وقد تواطأ الأخباريون العرب على القول بأن الدرهم والدينار من أصل فارسي وهو ما في " لسان العرب " و" القاموس المحيط " ويظهر أن هذا ناشئ من أن الفرس عرفوا العملتين معا عن طريق الإسكندر المقدوني أيام غزوه الأقطار الشرق وهيمنته على بعضها ولا مراء في أن الفرس عرفوا سك الدرهم والدينار وكانت أغلب مسكوكاته زيوفًا بيد أن العملتين لم تظهرًا في فارس إلا في عهد متأخر نسبيًّا كما أنه لا مراء في أن العملتين عرفهما العرب من الروم واليونان كما عرفوهما من الفرس ونرجح أن معرفتهم لهما من الروم واليونان أسبق من معرفتهم لهما من الفرس، كما نرجح أنهم عرفوا الزيوف في نفس الوقت الذي عرفوا فيه النقد الخالص أو بعد ذلك بقليل وهذا هو الذي يعنينا من هذا الاستطراد.
ويعضد ما ذهبنا إليه بحث قيم لجواد في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 7/416- 419)، عالج فيه تطور المالية والمال عند العرب وأطوار تعاملهم بالذهب والفضة وغيرهما نقتبس منه ما يلي:
والذهب والفضة هما مقياس الثراء عند الحضر، ويكون ذلك بحيازتهم سبائك من ذهب أو فضة أو مصوغات أو دنانير ودراهم.
ثم قال:
وكان الذهب والفضة مقياس الثراء عند الإنسان قبل أن تضرب النقود وتسك السكك بل بقي على ذلك حتى بعد ضرب النقود بسبب ندرة الدنانير وقلة الدراهم وتفضيل البعض الذهب على الدينار والفضة على الدرهم، لهذا نجد أهل الجاهلية يتعاملون بالذهب والفضة وزنا في تعيين الأسعار وفي شراء الحاجات وفي المهور مع وجود الدنانير والدراهم، بل بقي التعامل بهما في الإسلام أيضا.
ثم قال:
ونظرًا لوجود أناس كانوا يتلاعبون في نوعية الذهب والفضة بغش المعدنين ومزج معادن خسيسة فيهما فقد ظهر أناس تخصصوا بفحص الذهب والفضة وبتعيين درجتهما من حيث الجودة والنقاوة وبتعيين سعر السبائك وما يباع منها وفقًا لذلك، ثم تخصص هؤلاء بدراسة النقود وتعيين درجة نقاوتها وتثبيت وزنها وذلك بوجود الغش فيها بالنسبة لذلك العهد فإذا اشتروا نقدًا أو باعوه أو صرفوه بنقد آخر فحصوه فحصًا دقيقًا وتأكدوا منه قبل الشراء أو التصرف لكي لا يكون مغشوشًا فصار هؤلاء هم صيارفة النقود وخبراء السكة في ذلك العهد، وقد كان الصيارفة يجلسون في باب (الهيكل) في القدس يبيعون ويشترون ويصرفون النقود وقد أشير إليهم في الإنجيل ووبخهم المسيح وقلب موائد صيرفتهم (أحال على إنجيل متى الإصحاح 21: الآية 12) ، وكانوا يصرفون الدنانير بالدراهم والدراهم بنقود نحاس والعملات الأجنبية بالعملة الرومانية الدارجة في فلسطين تمامًا كما يفعل صيارفة هذا اليوم في بلاد الشرق الأدنى.
ويظهر من الأناجيل أن أولئك الصيارفة كانوا يجلسون عند موائدهم التي يصرفون عليها النقود أما كبارهم أي الأغنياء منهم من أصحاب المال، فقد كانوا يتعاملون بالقروض يقرضون المال للمحتاج إليه في مقابل دفع فوائد عنها هي الربا وفي تشغيل أموالهم في مشاريع تعود عليهم بالأرباح.
وقد تاجر أهل الجاهلية في الصرف وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة أو أحدهما بالآخر.
وبعد أن أشار إلى أقوال اللغويين في مصدر لفظ الصيرفي وما شاكله قال:
وقد جاءت لفظة الصرف والصيرفة في رأيي من الصرف أي الفضة فالصرف الفضة في لغة الجنوبيين.
ثم قال:
وذلك أنه كانوا يتعاملون بالفضة في الغالب كثرتها بالنسبة إلى الذهب حتى غلب اسمها على هذا التعامل، فقيل: الصرف والصيرفة والصراف وهو الذي يتعامل بالصرف فصارت كلمة " الصرف " التي تعني الفضة مرادفة للنقود، كما صارت لفظة " الفلوس " التي هي جمع " فلس " أصغر عملة من العمل وهي من النحاس مرادفة للنقود وهي العبرانية شبه لذلك فالنقود أي العملة هي في العبرانية الفضة وقد استعملها العبرانيون في معنى العملة؛ لأنهم كانوا يتعاملون بها في حياتهم اليومية، فكانت مشترياتهم وأجورهم ومعاملاتهم بالفضة وبالعملة المعمولة منها حتى صارت في معنى النقود.
ومن تعامل الصيارفة شراء الدنانير بالدراهم والدراهم بالدنانير أن يساوم رجل رجلًا على بيع دينار بدراهم فيتراوض الطرفان على ذلك ويتساوما حتى يتفقا على عدد ما يدفع من الدراهم وذلك لاختلاف نوع الدراهم وأوزانها وجودة فضيتها، ويكون العكس بأن يبيع شخص دراهم في مقابل دنانير وقد يتبايعون على بيع الذهب بالذهب مضروبًا كان أو غير مضروب، أو بيع الفضة بالفضة وكانوا يتلاعبون في تصريف النقود ويتحكمون في أسعار صرفها لاحتكارهم الصرافة في الأسواق ويربحون خاصة من تصريف العملة الأجنبية بالعملة الرائجة في السوق.
وقد عرف الصراف بالحيلة والخداع والغش في الصرف، ولهذا السبب لعنوا في الأناجيل وقلب المسيح موائد صيرفتهم والصيرفي المحتال المتصرف في الأمور والمجرب لها كالصيرف.
ثم قال:
ومن مصطلحات الصيارفة المذكورة في كتب اللغة الشوقل يقال: شوقل الدينار إذا عايره وصححه ووزنه واستعملوا الشاقل أيضا في المعايير ويظهر من مراجعة كتب اللغة أن علماء اللغة لم يكونوا على علم واضح بأصل لفظة " شقل " فاكتفوا بقولهم: شقل الدينار ووزنه. وترد هذه اللفظة في " الأرمية " كذلك بمعنى الوزن أو وزن الدنانير والدراهم، وترد بهذا المعنى أيضا في العبرانية وقد أخذ هذا الوزن من الأوزان البابلية وقد كانت الأوزان البابلية أساسًا لجميع الأوزان التي استعملت في الشرق الأدنى، بل وفي أوروبا أيضا و" الشقل " هو جزء من ستين جزءًا من (المن)(Mann) فمن هذا الوزن ورد اصطلاح شقل وشوقل بمعنى وزن العملة بالميزان في لغات أهل الشرق الأدنى لأنهم كانوا يصححون العملة ويعايرونها بوزنها بالميزان لتظهر صحة وزنها فيتبين به الزائف منها من الصحيح.
وقد برع قوم من (الصيارفة) بتنقاد الدراهم أي بتمييز الدراهم وإخراج الزائف منها، وقد برع في ذلك نفر من أهل مكة؛ لأنهم تجار يتعاملون في الأسواق ويتعاطون الربا والصيرفة وتبديل العملة.
وكان اليهود من الصيارفة يتعاملون ببيع الذهب والفضة وتبديل النقود والربا (1) .
وإتمام للفائدة ننقل عن ابن منظور ما قاله في (لسان العرب: 9/190، 191)، عن دلالة كلمة " الصرف " ومشتقاتها على الفضة وعلى أنماط التعامل بالنقدين:
والصرف فضل الدرهم والدينار على الدينار؛ لأن كل واحد منهما يصرف عن قيمة صاحبه والصرف بيع الذهب بالفضة وهو من ذلك؛ لأنه ينصرف به من جوهر إلى جوهر والتصريف في جميع البياعات إنفاق الدراهم والصراف والصيرف والصيرفي النقاد من المصارفة وهو من التصرف والجمع صيارف والهاء للنسبة.
(1) وقد أفاض في بيان الربا وأنواعه في الجاهلية ومن كانوا يتعاملون به إفاضة استغرقت (35) صفحة وقليل نظيرها إن لم يكن غير موجود فلتراجع.
ثم قال:
ويقال: أصرفت الدراهم بالدنانير وبين الدرهمين صرف أي فضل لجودة فضة أحدهما ورجل صيرف متصرف في الأمور. ثم قال أبو الهيثم: الصيرف والصيرفي المحتال المتقلب في الأمور المجرب لها. ثم قال: والصرف التقلب والحيلة يقال: فلان يصرف ويتصرف ويصطرف لعياله أي يكتسب لهم وقولهم: لا يقبل الله صرفًا ولا عدلًا الصرف الحيلة ومنه التصرف في الأمور يقال: إنه يتصرف في الأمور وصرفت الرجل في أمري تصريفًا فتصرف فيه واصطرف في طلب الكسب ثم قال: والعدل الفداء ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} [الآية 70 من سورة الأنعام]، وقيل: الصرف المتطوع والعدل، وقيل: الصرف التوبة والعدل الفدية، وقيل: الصرف الوزن والعدل الكيل، وقيل: الصرف القيمة والعدل المثل وأصله في الفدية، يقال: لم يقبلوا منهم صرفًا ولا عدلًا أي لم يأخذوا منهم دية ولم يقتلوا بقتيلهم رجلًا واحدًا.
ثم قال: وفي حديث أبي إدريس الخولاني أنه قال: من طلب صرف الحديث يبتغي به إقبال وجوه الناس إليه أخذ من صرف الدراهم والصرف الفضل، ويقال: لهذا صرف على هذا أي فضل، قال ابن الأثير: أراد بصرف الحديث ما يتكلف الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة وإنما كره لما يدخله من الرياء والتصنع ولما يخالطه من الكذب والتزيد والحديث مرفوع من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه سلم في سنن أبي داود (1)، ويقال: فلان لا يحسن صرف الكلام أي فضل بعضه على بعض وهو من صرف الدراهم (ابن الأثير، النهاية: 3/24)، وقيل: لمن يميز صيرف وصيرفي وصرف لأهله واصطرف كسب وطلب واحتال، عن اللحياني.
وتحرير كلمات " الدرهم " و " الدينار " و" الصرف " يصير بنا تلقائيًّا إلى لبس آخر أصاب متفقهة التقليد القدماء والتقطه منهم بعض متفقهة العصر من المشبوهين والمشتبه عليهم وهو يمثل الشبهة الخامسة التي تعلقوا بها بعضهم عن قصور وآخرون عن تقصير وهي عدم تحريم لدلالات كلمة " دين " وخلطهم نتيجة لذلك في الاستنباط منها.
(1) أخرجه أبو داود في (السنن: 4/302، ح 5006) : قال حدثنا ابن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عبد الله بن المسيب، عن الضحاك بن شرحبيل، عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال) أو الناس (لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا) .
ومن الطريف الذي يعكس مدى ضلالة المقلدين وانحرافهم في الفهم وتعصبهم في التقليد أن بعضهم جبهته كلمة " عينا بعين " في حديث عبادة وابن عمر وغيرهما في الصرف - انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " - فيما كان ينتصر لرأي إمامه في تعليل حرمة الربا في النقدين، فعز عليه أن يتقبلها بمعناها اللغوي المتعارف عليه في كثير من أبواب الفقه الإسلامي نفسه من إطلاق العين على الذهب والفضة فتأولها إلى أن المراد بها تعيين طريقة التقابض وهو صحة التقابض بالإشارة بالعين إشارة تدل على القبول بتبادلها المتصارفان وهو تأويل يكفي بنفسه للدلالة المضحكة المؤلمة على ما يدفع عليه التعصب المذهبي والإصرار على التقليد ومحاولة تسخير النصوص الشرعية لخدمتها من الغرائب والأعاجيب.
وجاء متفقهة هذا العصر - وأغلبهم لا يكلف نفسه مهمة الرجوع إلى فقه اللغة وهو يتأمل الكلمات في النصوص الشرعية - فلم يفكروا في أن كلمة " عينا بعين " لها دلالة إن خفيت على بعض المتفقهة المقلدين القدماء، فما كان ينبغي أن تخفى على ما ينتسب إلى الفقه من المعاصرين، وذلك بأنها تعني ماهية الشيء من بين ما تعنيه كلمة " عين " من معانيها المختلفة إذ هي كلمة مشتركة والذي يصرفها إلى معنى من معانيها القرينة بمختلف أنواعها وهي في الذهب والفضة وفي الحديث الشريف بالذات لها معنى خاصًّا مقصودًا لذاته كان النقدان في العصر النبوي لهما ماهية مزدوجة هي الذات والاعتبار أو بالأحرى المادة والوظيفة، ولذلك جاء في الحديث الشريف:" مثلًا بمثل وزنًا بوزن عينًا بعين "، فتعني المثلية الوحدة النوعية من حيث درجة الصفاء وشكل المادة بياضًا أو سوادًا أو حمرة أو صفرة وتعني كلمة " الوزن " التماثل في الوزن وعدم رجحان أحد الذهبين أو الفضتين عند المبادلة أما كلمة " العين " فتعني - والله ورسوله أعلم بأسرار التشريع - الطبيعة النقدية للمسكوك من الذهب أو الفضة من حظر بيع الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين وإن مناجزة، فالعينية في حديث عبادة وابن عمر وغيرهما نص صريح على تماثل القطع النقدية المسكوكة عند التبادل.
سيقولون: وما جدوى تبادل قطعتين متماثلتين من نقد واحد وجوابنا أن هذا النوع من التبادل يحدث - حسب ما نتصور - إذا كان تاجر مسافر إلى الشام مثلًا حيث ينحصر أو يفضل التعامل بالدينار البيزنطي ولديه دنانير غير بيزنطية فارسية أو يونانية مثلًا، فأراد أن يستبدلها بالبيزنطية وهنا تتعين العينية أكثر مما يتعين الوزن أو التماثل من حيث النقاوة والخلوص؛ لأن الطرفين يتعاملان في هذه الحال بالنقدين أو أحدهما اعتبارًا للوظيفة النقدية وليس اعتبارًا لمادة السكة المراد تبادلهما.
وإذا أمكن التماس العذر للفقهاء الأقدمين، إذا لم يكونوا قد تصوروا انفصال الماهية أو الوظيفة النقدية عن ذات العملة أو مادتها؛ إذ كانت النقدية في الغالب لعهودهم مزدوجة لم ينفصل فيها النقد الاعتباري عن مادة العملة نتيجة تواضعهم على اعتبار النقد أساسًا هو المسبوك أو الموزون من الذهب أو الفضة فإنا لا نعرف عذرًا لمتفقهة المعاصرين إذا لم يتصوروا هذا الانفصال، وقد اختفى اعتبار مادة العملة في تقدير النقدية وحل محلها اعتبار الوظيفة النقدية وحدها وعدم تصورهم لهذا الواقع المعاش وهم يمارسون ساعة بعد أخرى هو الذي ألبس عليهم معنى كلمة " عينا بعين " في الحديث الشريف وما نراها إلا من اللفظ النبوي الشريف ومن إعجاز السنة النبوية فقد جرت على لسانه صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن دلالاتها واضحة في عهده لتقطع السبيل على من قد يحاولون ابتغاء الذرائع إلى تعطيل أحكام الشريعة في المعاملات المالية فهي تعبير عن استقلال الوظيفة النقدية عن مادة العملة بدليل أنها عطفت على الوزنية والمثلية وما كان عطفها مجرد تكرار بصيغ مترادفة وحاشا أن يكون كلام رسول الله عليه السلام شيئا يشبه اللغو.
ولبيان أصالة معرفة العرب لدلالة كلمة عين على النقدين كما كانوا يتصورونهما في ذلك العهد نسوق ما قاله ابن منظور في (لسان العرب: 13/305ن 306) .
والعين الذهب عامة، قال سيبويه: وقالوا عليه مائة عينًا، ثم قال الأزهري: والعين الدينار، والعين في الميزان الميل هو أن ترجح إحدى كفتيه عن الأخرى وهي أنثى، قال: ما في الميزان عين، والعرب تقول: في هذا الميزان عين أي ميل قليل أو لم يكن مستويا، ويقول: هذا دينار عين إذا كان ميالًا أرجح بمقدار ما يميل به لسان الميزان قال الأزهري: وعين سبعة دنانير نصف دانق والعين عند العرب حقيقة الشيء، ويقال: جاء بالأمر من عين صافية أي من فصه وحقيقته وجاء بالحق بعينه أي خالصًا واضحًا وعين كل شيء خياره وعين المتاع والمال وعينته خياره وقد اعتانه وخرج في عينة ثيابه أي خيارها، قال الجوهري: وعينة المال خياره مثل العينة، وهذا ثوب عينة إذا كان حسنا في مرآة العين واعتان فلان الشيء إذا أخذ عينته وخياره والعينة خيار الشيء جمعها عين. قال الراجز:
فآعتان منها عينة فاختارها
حتى يشتري بعينه خيارها
ثم قال: وعين الشيء نفسه وشخصه وأصله والجمع أعيان وعين كل شيء نفسه وحاضره وشاهده، وفي الحديث: أوه عين الربا أي ذاته ونفسه، ويقال: هو هو عينًا وهو هو بعينه، وهذه أعيان دراهمك ودراهمك بأعيانها.
ثم قال: ويقال: لا أقبل إلا درهمي بعينه.
وهذا الذي نقلنا عن ابن منظور يقطع كل سبيل على كل من يريدون أن يصلوا إلى هدفهم من تحليل بعض أنواع الربا اعتمادًا على أن النقد المتداول الآن في جميع الأقطار لم يعد ذهبًا ولا فضة، وإنما هو ورق أو ما يشبه الورق في كونه غير ذي قيمة لذاته، لحجة أن المنصوص على تحريم فيه هو الذهب والفضة، وأن النقد الورقي وما شاكله لا يشمله النص فهو خاضع للاجتهاد ولاعتبارت المصلحة المرسلة أو مقتضيات رفع الضرورة واجتناب الحرج؛ إذ إن كلمة " عينًا بعين " تعني شيئا غير الطبيعة الذاتية للمسكوكات من الذهب والفضة هو الطبيعة الوظيفية لها وهذه الطبيعة الوظيفية انتقلت منها إلى النقد المتداول في العصر الحاضر وحتى إلى ما كان متداولًا في عصور سالفة من أنواع الفلوس.
واعتبار كلمة " عينًا بعين: في الحديث الشريف نصًّا في تحريم الربا في النقود أيا كانت مادتها يقضي على رغم القائلين كون الذهب والفضة أثمانًا للمبيعات وقيمًا للمتلفات لا يصلح اعتباره علة لتحريم الربا فيهما؛ لأنها علة قاصرة لا تتجاوزهما إلى غيرهما ولذلك فعلة تحريم الربا فيهما هو كونهما من الموزونات.
ذلك بأن اعتبار العينية في الحديث الشريف تعني الطبيعة الوظيفية للنقد يجعل من هذه العلة في الجانب النقدي من الذهب والفضة على الأقل علة غير قاصرة، ويعضد ذلك أن مناط تحريم الربا في جميع الربويات هو منع الظلم؛ إذ جاء في آيات سورة البقرة:{فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} ، وجاء في سورة النساء في معرض التنديد باليهود وبيان أسباب العقاب الذي أنزله الله بهم قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [الآيتان 160، و 161] وفي هذه الآيات مضافا إليها تحريم أكل أموال الناس بالباطل في عدة آيات أخرى دليل على أن لتحريم الربا في الأشياء الربوية ما كان منها منصوصًا عليه، وما كان مقاسًا عليها مناطا جامعا منصوصا عليه نصًّا صريحًا، فهو أقوى من العلة المستنبطة استنباطًا ظنيًّا وهذا يعنى أن انطباق هذا المناط على كل معاملة في شيء من الأشياء يشبه في وظيفته أحد الأجناس الربوية المنصوص عليها ينهض دليلًا على شمول التحريم لها باعتبار أن الأشياء المنصوص عليها لا يعتبر النص عليها حصرًا خاصًّا بها دون غيرها وإنما كان النص عليها؛ لأنها يومئذ هي أساس الحياة العامة والخاصة للإنسان من حيث الاقتيات واقتناء ما يحتاج إليه من الأشياء غير المقتات بها وعلى هذا الاعتبار يتجلى أن تحريم الربا أريد به منع حرمان الناس من جميع أنواع الاستغلال الذي قد يسلطه بعضهم على بعض لما فيها جميعًا من المفسدة الشاملة الراجحة على كل مصلحة قد تتراءى للبعض خاصة كانت أو عامة معارضة لها.
وهنا ينتهي بنا المسار إلى الشبهة السادسة التي تعلق بها تحليل الربا في هذا العصر وهي شبهة المصلحة العامة بزعمهم التي تضطر المسلمين إلى التعامل مع المؤسسات الربوية؛ لأن طبيعة التنمية التي تفتقر إليها الأمة الإسلامية تبرز ضرورة البحث عن المال اللازم لها كما تبرز أن المصلحة العامة للمسلمين استنادًا إلى هذا الضرورة تبيح ما حرمه الشرع من ربا الفضل إذا لم يتأت اعتبار النقد المتداول في العصر الحاضر قد انفصمت علائقه تقريبا مع الذهب والفضة خارجًا عن نطاق التحريم المنصوص عليه في القرآن الكريم والحديث الشريف؛ لأن النقد الورقي لم تعد له أية علاقة بالذهب والفضة.
وهذه الشبهة تتفرع إلى فرعين الأول مسألة الضرورة وتوسعهم فيها حتى شملت ما يعتبره الشرع من الحاجات بل وتجاوزتها إلى ما يعتبره من التحسينات والضرورة التي تبيح المحظورات هي تلك التي يكون بها الإنسان على شفا الهلاك والموت على أنهم اختلفوا في هذه هل ينحصر أثرها في إباحة الحد الأدنى مما ينجيه من الهلاك المحقق أن يتوسعوا شيئا فيرخص له فيما يؤمنه من الوقوع في هلاك مماثل إلى أن يتيسر له الأمن المطلق من الهلاك مثال ذلك المضطر إلى أكل الميتة أو لحم الخنزير لإنقاذ نفسه من الموت جوعًا، هل تنحصر إباحة الأكل له في الحد الأدنى ما ينقذه من الموت جوعًا أو يجوز له أن يشبع أو يجوز له أيضا أن يصحب معه أو يدخر ما يأمن به خطر الوقوع في مثل ذلك الجوع الذي أشرف به على الموت إلى أن يدرك مأمنه بأن يبلغ الأماكن المأهولة وما شاكل ذلك.
وجلي أنه لا سبيل إلى دعوى أن مثل هذه الضرورة هي التي تحمل على الالتجاء إلى الربا، فما من مؤسسة يمكن أن تقرض أحدًا على مثل هذه الحال من الفقر وليس له أي ضمان فضلًا عن أن له الحق في أن يقاتل وأن يقتل من يمنعه البلغة ليحصل على ما ينقذ حياته، وقد سبق أن ألمحنا إلى ذلك.
ثم إنه لا سبيل إلى الدعوى بأن حالة الضعف الاقتصادي التي تسم أغلب الشعوب الإسلامية يمكن اعتبارها هذا النوع من الضرورات إذ إنه ما من شعب من هذه الشعوب اكتفى بالحد الأدنى من أسباب المعيشة ولم يتطلع إلى ما فوق ذلك من ألوان الترف والبذخ والرفاهة، يمكن أن يفقد الوسيلة ليس إلى ضمان استمراره حيًّا فحسب بل إلى تحقيق نوع من النماء قد لا يكون سريعًا، بيد أنه يمكن أن يكون متصلًا مطردًا وآية ذلك أن الاتحاد السوفياتي استطاع أن يصبح قوة عظمى رغم حصار دام أكثر من جيل كامل أطبقه عليه خصوم نظامه فاضطر إلى الاعتماد على نفسه واستطاع أن يضمن لشعوبه الاكتفاء الذاتي، وإن كان مع حرمان بدأ شديد القسوة ثم أخذ ينفرج تدريجيًّا من وسائل الرفاه والنعيم.
ولو أن جميع الشعوب الإسلامية الفقيرة أخذت بمبدأ عدم الالتجاء إلى الغير والاعتماد على النفس والاستفادة من كل ما تيسر لها ذاتيًّا من إمكانات طبيعية وبشرية، ولاستطاعت أن تضمن لنفسها البقاء والنماء والنجاة من هذه الديون المتضخمة مع الأيام والناتجة عن التعامل مع الأمم الأخرى بالطرق الربوية.
أما دعوى المصلحة العامة المتمثلة في وجوب لحاق الأمة الإسلامية بالأمم الأخرى في موكب الحضارة والقوة بإنها قائمة على مغالطة صحيح أن المسلمين مأمورون بأن يبذلوا غاية الجهد في أن لا يكونوا أضعف من غيرهم إن لم يكونوا أقوى وذلك حفظًا لهيبة الأمة الإسلامية وتشخيصًا لعزتها، بيد أن هذا الأمر ينحصر في إيجاب اعتمادها على إمكاناتها الذاتية أو ما تيسر لها من طرق مشروعة غير مفضية إلى مفسدة، ولا يتجاوز ذلك إلى تعطيل حكم شرعي مقطوع به مثل حكم الربا أو التحايل عليه والانحراف في ابتغاء التأويلات المتحملة له؛ لأنه ما من اعتبار - غير الضرورة في النطاق الذي أوضحناه آنفًا وما شاكله - يمكن أن يكون له أي تأثير على النصوص القطعية والظنية وما ورد فيها من أحكام وما جاءت به من تشريع.
على أن المصلحة التي يحاول البعض أن يتشبثوا بها لا تعدو أن تكون كأداة يمكن للمجتهد اللجوء إليها قاعدة ظنية، ومع أن الأيمة الأول لم يتفقوا على اعتماد هذه القاعدة فإن جمهورهم اعتمدها، وإن كان مالك رحمه الله هو الذي أطلق عليها لفظ المصلحة المرسلة ولبيان حدودها والمجالات التي يمكن اللجوء فيها إليها والضوابط التي يجب اعتبارها عند اللجوء إليها ننقل عن الشاطبي رحمه الله وهو أفقه الناس فيها - هذه الفقرات.
قال رحمه الله في (الموافقات: 2/25)، وما بعدها:
المصالح المبتوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي.
فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعمًا على الإطلاق وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون؛ لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها كالأكل والشرب واللبس والسكنى والركوب والنكاح وغير ذلك فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب.
كما أن المفاسد الدنيوية ليست مفاسد محضة من حيث مواقع الوجود إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثيرًا.
ثم قال: فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفًا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبًا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة وإذا غلبت جهة المفسدة فمهرب عنه، ويقال: إنه مفسدة - على ما جرت به العادات في مثله - فإن خرج من مقتضى العادات فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة.
ثم قال: وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب شرعًا، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعًا.
ثم قال: وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد فرفعها هو المقصود شرعًا ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها حسب ما يشهد له كل سليم فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل بل المقصود ما غلب في المحل وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر.
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا والمفاسد المعتبرة شرعًا هي خالصة غير مشوبة بشيء، من المفاسد لا قليلًا ولا كثيرًا، وإن توهم أنها مشوبة فليست في الحقيقة الشرعية كذلك لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة، إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة، وهذا المقدار - يعني الخارج الزائد عن حالة الاعتبار الكسبي - هو الذي قيل: إنه غير مقصود الشارع في شرعية اعتبار الأحكام.
ثم قال: إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات؛ فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعًا لها إذا ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد لكن الشارع قصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وهذا في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال.
ثم قال: المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة، إنما تعبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية.
ثم قال: وإذا ثبت هذا تبنى عليه قواعد منها، أن لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي وإنما عامتها أن تكون إضافية.
ثم قال: ومنها أن بعض الناس، قال: إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرة، قال: ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشارع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج من ذلك إلا التعبديات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها، هذا قوله وفيه بحسب ما تقدم نظر، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع، فكما قال، وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض، وذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام، ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق لم يحتج في الشرع إلا إلى بث المصالح في الدار الآخرة خاصة وذلك لم يكن إنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا، وإن كان قصده إقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة.
ثم قال: مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لا تخص بباب دون باب ولا بمحل دون محل، ولا لمحل وفاق دون محل خلاف. وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقًا في كليات الشريعة وجزئياتها.
ثم قال: كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي، ألا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع.
ثم قال (نفس المرجع: ص 3169) .
…
يقول كثير من العلماء: إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق، علمت مفسدة النهي أم لا، انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا، وقوفًا مع نهي الناهي؛ لأنه حقه والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي، فإذا لم يحصل فالعمل باطل بإطلاق فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو من التعبد وإذا لم يخل فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارة وسائر العبادات.
إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ومنها ما لا يصح إلا بنية وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله، كالزكاة والذبائح والصيد.
وقد أبدع محمد سعيد رمضان البوطي، وأجاد كما لم يجد كثير من المعنيين بأسرار الشريعة الموفقين من السلف فضلًا عن المعاصرين في ضبط مجال المصلحة ومسوغات الالتجاء إليها في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص 61، 62) ومن روائعه قوله:
…
لا يجوز بناء حكم على مصلحة إذا كان في ذلك مخالفة نص كتاب أو سنة أو قياس تم الدليل على صحته أو إجماع إلا إجماعًا تأسس أمره على مصلحة دنيوية غير ثابتة، فيجوز أن يتغير حينئذ ذلك الإجماع بمثله إذا تغيرت المصلحة وقامت مصلحة غيرها مثل ذلك ما لو أجمع المسلمون في وقت ما على ضرورة قتل الأسرى أو استرقاقهم نظرًا تستدعي ذلك كالمعاملة بالمثل، ثم أجمعوا في وقت آخر على خلاف ذلك نظرًا لزوال الحالة السابقة، ومثاله أيضا ما لو أجمع المسلمون في عصر ما على عقد الصلح بينهم وبين الكافرين لمصلحة تستدعي ذلك، ثم رأى من بعدهم وأجمعوا على عدم الصلح لزوال تلك المصلحة غير أن مثل هذه الأحكام قائمة على أساس ما يعبر عنه بحق الإمامة.
ثم حصر ضوابط المصلحة في خمسة ضوابط: ص:118،321. فقال:
الضابط الأول: اندماجها في مقاصد الشارع، الضابط الثاني: عدم معارضتها للكتاب، الضابط الثالث: عدم معارضتها للسنة، الضابط الرابع: عدم معارضتها للقياس، الضابط الخامس: عدم تفويتها مصلحة أهم منها.
ثم انتهى إلى دحض إحدى شبه كثيرًا ما تعلق بها من يحاولون التحلل من أحكام الشريعة الإسلامية وهي شبهة (المشقة تجلب التيسير أو رفع الحرج عن العباد فيما شرع لهم) وهذه هي الشبهة السابعة التي تعلق بها دعاة إباحة الربا فقال - حفظه الله - ص 276، 277:
المشقة تجلب التيسير وهي إحدى القواعد الخمس المعروفة: " الأمور بمقاصدها "، " اليقين لا يزول بالشك "، " المشقة تجلب التيسير "، " الضرر يزال "، " العادة محكمة " التي قال الفقهاء: إن جميع مسائل الفقه راجع إليها ومصدرها في الاعتبار، قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الآية 185 من سورة البقرة]، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 78 من سورة الحج]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((بعثت بالحنيفية السمحة)) (1) ، وأحاديث أخرى كثيرة وردت بهذا المعنى.
ومعناها أن المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب شرعي صحيح للتخفيف منه بوجه ما ولكن لا ينبغي أن نفهم هذه القاعدة على وجه يتناقض مع الضوابط التي ذكرناها للمصلحة المعتبرة فلا بد للتخفيف أن لا يكون مخالفا لكتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا مصلحة راجحة، وبيان ذلك أن جملة المصالح الشرعية تنقسم إلى قسمين: إحداهما مصالح نص على حكمها الكتاب أو السنة كالعبادات والعقود والمعاملات، والثاني مصالح عرفت بالاجتهاد والقياس كتلك المصالح التي تجد بتطور الزمن والأحقاب.
(1) قال أحمد في (مسنده: 5/266) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، حدثني على بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ثم قال: لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل، وأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار وفيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكن بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة) . وقال (نفس المرجع: 6/116) : حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: (لتعلم أن في ديننا فسحة إني أرسلت بالحنيفية السمحة) ورواه بسند آخر (نفس المرجع: ص233)
فالأول لم يقتصر نص الشارع فيه على العزائم فقط بل ما من حكم من أحكام العبادات والمعاملات إلا وشرع إلى جانبه سبل التيسير فيه.
ثم ساق أمثلة لما شرع الله من التيسير، فيما قد يكون فيه بعض المشقة على بعض الناس من العبادات وغيرها.
وفيما يتصل بالمعاملات، قال: وحرم الربا وشرع الترخيص فيما يشق الاحتزاز منه من ذلك كالعرايا وحرم عقود الغرر وأرخص فيما يعسر التخلص منه كالسلم والإجارة والبيع في الذمة وحرم أخذ مال الغير وأرخص للمضطر أخذ قدر ضرورته منه.
قلت: لكن يبدو أن الدكتور البوطي غفل كما غفل كثير غيره عن مدلول كلمة الحرج في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 78 من سورة الحج]، وهي من الآيات التي استدل بها وكذلك في قوله تعالى في آيه الوضوء:[الآية 6 من سورة المائدة]{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، وعن مدلول كلمة اليسر والعسر في قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الآية 185 من سورة البقرة] ، ومن عجب أن جمهرة المفسرين والأصوليين وقفوا عند ظاهر اللفظ من العسر واليسر والحرج في القرآن والحديث وقفة كثيرًا ما أحرجتهم فذهبوا يلتمسون المنافذ من حرجها، ولو أنهم تجاوزوا بتدبرهم لمعاني هذه الكلمات ظواهرها المتبادرة إلى الأفهام إلى ما يدل عليه السياق ويقتضيه المناط لما شعروا بالحاجة إلى منافذ من حرج موقفهم؛ لأنهم ما كانوا ليجدوا حرجًا.
ونبدأ بكلمتي اليسر والعسر، فما من شك ولا سبيل إلى المراء في أن في الصوم مشقة قل من لا يجد من الناس، وقد اعتبرها الشارع الحكيم الخبير فرخص للمريض والمسافر والمطيق.
- أى من تبلغ مشقة الصيام عليه حدًّا يتجاوز الاستطاعة المعتادة - أن يفرطوا على أن يعوض المريض والمسافر عن الأيام التي أفطرها بصيام مثلها عددًا بعد زوال علة الترخيص في الإفطار من المرض أو السفر وأن يعوض المطيق - إذ لا أمل في أن يستطيع الصوم يومًا ما؛ لأن إطاقته من الكبر وليس من المرض أو السفر - بإطعام مسكين عوضًا عن كل يوم يفطر فيه، وفي ما عدا هذه الحالات - والحيض والنفاس في حكمها - فاليسر الذي يريد الله بشرع الصيام - والله أعلم بأسرار كتابه - هو المناط من شرعه المتمثل فيما يعود به الصيام على الصائم من منافع مادية وروحية مثل آثاره في تقويم الصحة وفي تهذيب الأخلاق وفي صقل القلوب والأرواح فضلًا عما يستحقه الصائم في الآخرة من الأجر ورضوان الله، والعسر المرفوع بتشريع الصيام هو في حقيقته الحرمان من هذه العوائد التي يعود بها على الصائمين، فالآية الكريمة التي جاءت في آخر آيات فرض الصيام وقبل آية الندب إلى الدعاء وضعها الله في موضع يضبط سياقها بما قبلها وبما بعدها ما تنطوي عليه من بيان حكمة الله ولطفه بما شرعه وأوجبه على عباده المسلمين فهو بشريعته يريد بهم اليسر الذي يهيء لهم الخير في الدنيا والآخرة ولا يريد بهم العسر، وإن بدا لهم في شيء منه بعض المشقة؛ لأن ذلك الذي بدا لهم فحسبوه عسرًا إنما هو باعتبار ما ينتج عنه يسر؛ لأنه سبيل إلى اليسر ووسيلة للحصول عليه.
أما الحرج الوارد ذكره في آيتي سورتي المائدة والحج، فقد جاء التباس معناه على جمهرة المفسرين والأصوليين والفقهاء من اعتبارهم كلمة "من" صلة زائدة أو ما إلى ذلك على حين أنها لما يسميه ابن هشام في (المغني: ص124) ، "التنصيص على العموم"، و"توكيد العموم"، وهما معنيان من معاني من فصل بينهما ابن هشام ولعل الفصل بينهما لا مسوغ له عند التأمل والتحرير فَـ "من" في هاتين الآيتين تنص مؤكدة على نفي عموم الحرج وما من شك ولا سبيل إلى المرء في أن إيجاب الوضوء على من يريد الصلاة وفي أن الصلاة نفسها بشعائرها وطقوسها، وفي أن الجهاد لما فيه من مخاطرة بالروح والمال فضلًا عما يلبسه من عنت ووهن لا يخلو من بعض المضايقة لمن لم يبلغ من الإيمان درجة الشعور بالابتهاج والسعادة عند أداء الشعائر الدينية وخاصة عند الصلاة التي هي الفرصة المهيأة للمؤمن لأن ينعم بمناجاة الله وهذه درجة قل من يبلغها من صفوة المؤمنين فضلًا عن عامتهم؛ ولذلك جاء تعليل فرض الوضوء بعد قوله سبحانه وتعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، صريحًا بقوله:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، ثم طولب المؤمن ليس بعدم استشعار الحرج من الوضوء فحسب ولكن بإدراك ما فيه من النعمة والتعبير عنه بشكر الله، وذلك بقوله تعالى في آخر الآية:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . أما في آية سورة الحج فكان سر نفي الحرج عن تشريع الصلاة والجهاد فيها أدق وأبعد عن الأفهام العادية إلا تلك التي رزقها الله من قوة الإيمان ما يهيئ استشراف ألطافه الخفية ولذلك جاء نفي الحرج فيها بأسلوب يختلف عنه في آية الوضوء؛ إذ الحرج باعتبار جانبه المادي قائم لا سبيل إلى ادعاء عدم قيامه لا سيما في الجهاد، بيد أن نفيه كان باعتباره مصدره ومآله فالصلاة والجهاد اللذين جاء بهما الإسلام استمرار لملة إبراهيم أبي العرب الذين نزل القرآن بلسانهم لحًّا وأبي المسلمين الذين أمروا بالإيمان به واتباعه روحًا والإنسان مطبوع على حب الاستمرار فيما كان عليه آباؤه وأسلافه، ثم إن هذا الحرج يؤهل المؤمنين لأمرين عظيمين يهون بالمقارنة بهما، الأول: أنهم به يكونون شهداء على الناس، ويكون الرسول عليهم شهيدًا، والثاني: أنه يؤهلهم لولاية الله ونصرته، {هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، وكل واحد من هذين الأمرين عند تدبره بإيمان وبصيرة يهون في سبيل الحصول عليه كل حرج فكيف بهما معًا.
يتبين فيما سبق أن فهم المشبوهين والمشتبه عليهم من متفقهة هذا العصر لمعنى رفع الحرج عن المسلمين فهم منحرف انحرافًا جوهريًّا عن دلالة نفي الحرج الذي جاء في القرآن الكريم وعن دلالة إرادة اليسر، ونفي إرادة العسر اللذين جاءا فيه أيضًا.
وإذا تبين بطلان فهمهم المنحرف هذا تبين بالضرورة بطلان كل ما بنوا على هذا الفهم المنحرف من مقدمات ونتائج يحاولون الوصول بها إلى تحليل ما حرم الله.
ولعلنا بما وقفنا عند شبههم هذه - وليست هي كل شبههم وإنما هي أبرزها في تقديرنا - قد خلصنا إلى إيضاح أن ما استهدفوه بادعائهم أن النقود الورقية وما شاكلها مما يتعامل به في العصر الحاضر محليًّا أو دوليًّا لا تنطبق عليها المواصفات الواجب توفرها لتطبيق شريعة الربا عليها وما فرعوا عن ذلك من التلبيس على العامة والأغرار حول اضطراب العملة ونتائجها على بعض الشعائر والأحكام التي جاء بها الإسلام بنصوص صريحة حاسمة من الكتاب والسنة قائم على غير أساس إلا التعلق العامد بالشبهات ليلبسوا على المسلمين أمر دينهم وهذا ما سنجلوه في الفصل التالي بحول الله وتوفيقه.
(16)
الشريعة وتغيير العملة
في الفصول السابقة مر الكثير من الأحاديث والآثار المتصلة بما يترتب عن تغيير العملة من الأحكام، وقد كان حريًّا بنا أن نرى فيه الغناء كل الغناء، لولا أن تلك الأحكام كانت مبثوثة حيث قد يتعذر على القارئ المسرع" تحصيل" القواعد العامة المبتغاة منها ليستطيع تطبيقها، فيما يواجه من أحداث وأطوار، ثم إن متفقهة هذا العصر تواطئوا على الزعم بأن تغيير العملة من مستحدثات الطور الحضاري الذي نعايشه وغفلوا أو تجاهلوا، أن النقد منذ كان دأب يتعرض للتغير والاضطراب تمامًا كما يتعرض له الآن ولأسباب لا تختلف في جوهرها عن هذه التي تعرضه اليوم لما نشهد من التغير والاضطراب.
وما نزيد أن نتتبع أطوار الاضطراب والتغير التي عرفها النقد منذ كان بالتلخيص والإبراز بعد أن أوضحناها بشيء قد يكون مسرفًا من البسط وما يقرب من الاستقراء، بل إنما نريد أن نقف عند بعض معالم نرى الوقوف عندها ضروريًّا لاجتلاء الأحكام المبتغاة من بحث هذه المسألة في هذه الآوانة.
المعلم الأول هو أن ازدواجية النقد ازدواجية مضاعفة في العهد النبوي والعهود القليلة التالية له، لم تكن "عينية" صرفة أى خالية من الاعتبارية وبيان ذلك أن اعتبار الورق والفضة نقدين بذاتهما كان مصحوبًا بملاحظة القيمة أيضًا، بل إن الازدواجية بين الذهب والفضة ليست بالصورة التي تتبادر إلى الأفهام، فقد كانت الفضة أكثر شيوعًا في شبه الجزيرة العربية وخاصة في الحجاز في العهد النبوي، فكانت هي المعتمدة أساسًا في"النقدية" لكن يهمنا أن العرب ألفوا التعامل أيضًا بالنقد الذهبي، فقد أقر هذا العرف، بيد أنه عندما تبرز الحاجة إلى المقارنة كانت الفضة أساس التقويم.
وقد مضى من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، ومنها حديث عمرو بن شعيب حول تقويم رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاب الزكاة في الذهب على أساس نصابها في الفضة ونضيف إلى هذا وإلى غيره مما سبق أن سقناه في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " حديث أبي بكر بن حزم، عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له حين بعثه إلى اليمن وهذه بعض طرقه ونقتبس منه ما يتصل بموضوعنا فهو حديث طويل.
قال ابن زنجوية في (الأموال: 3/939، ح1638) :
أخبرنا ابن أبي أويس حدثني أبي عن عبد الله ومحمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، عن جدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:((فإذا بلغت قيمة مائتي درهم ففي قيمة كل أربعين درهمًا درهم حتى تبلغ أربعين دينارًا، فإذا بلغت أربعين دينارًا ففيها دينار)) .
وأخرجه ابن حزم في (المحلى: 6/13) في معرض نقاشه للحنفية حول نصاب الزكاة، فقال:
…
كما حدثنا حمام بن أحمد، قال: حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، حدثنا الحكم بن موسى حدثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود الجزري، حدثنا الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم وهذه نسخته فذكر الكتاب وفيه: وفي كل خمسة أواق من الورق خمسة دراهم فما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم وفي كل أربعين دينارًا دينار.
حدثنا حمام، قال: حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أصبغ حدثنا أبو عبد الله الكابلي ببغداد، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أبي عن عبد الله ومحمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، عن جدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين أمره على اليمن وفيه الزكاة: ((ليس فيها صدقة حتى تبلغ مائتى درهم ففيها خمسة دراهم وفي كل أربعين درهمًا درهم، وليس فيما دون الأربعين صدقة، فإذا بلغت الذهب قيمة مائتي درهم، ففي قيمة كل أربعين درهما درهم حتى تبلغ أربعون دينارًا، فإذا بلغت أربعين دينارًا ففيها دينار
…
))
ثم قال (ص37) - ودائمًا في معرض نقاشه لخصومه وخاصة في مسألة التقويم -:
…
وأيضًا فإننا قد أوجدناهم ما حدثناه حمام، قال: حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، أخبرنا أبو عبد الله الكابلي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا أبي عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، عن جدهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين أمره على اليمن وفيه الزكاة، فذكره وفيه: فإذا بلغت الذهب قيمة مائتي درهم ففي قيمة كل أربعين درهما درهم حتى تبلغ أربعين دينارًا وعلى هذا الأساس من اعتبار الفضة أساسًا لتقويم النقد والذهب تبعًا لها كان العمل في عهد الصحابة ليس فيما يتصل في الزكاة فحسب، بل في جميع المجالات ذات العلاقة بالمعاملات النقدية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما جرى عليه عمر من تحديد قيمة الدية لمن ليست له إبل، فقد حددها بادئ الأمر بثماني مئة دينار، ثم رفعها إلى ألف، ثم إلى ألف ومائتي دينار بناء على اعتبارين: أحدهما ارتفاع قيمة الذهب بالنسبة إلى الفضة، والثاني - وهذا أمر هام جدًا- اعتبار قيمة الإبل بالنسبة إلى الذهب والفضة فكان عمر بذلك السابق إلى إشراك غير النقدين في تحديد قيمتهما وهو ما يطلق عليه اليوم بـ "الطاقة الشرائية" المعتبرة مع غيرها في تحديد قيم العملات.
ثم إنه رضي الله عنه لم يقف عند وضع الأساس لهذا المبدأ، وإنما أتبعه بوضع أساس مبدأ آخر وهو عدم إخضاع الأحكام الشرعية لاستمرار الاضطراب في قيمة العملة فعندما جعل قيمة مائة من الإبل في الدية ألفًا ومائتي دينار أو اثني عشر ألف درهم ومنع الزيادة عن ذلك في غير حالات "التغليط" علل هذا التحليل بالخوف من أن يرهق الناس في حالة الارتفاع الفاحش لأسعار الإبل فيكلفوا ما لا يطيقون وهذا أساس لأحكام كثيرة من أبرزها "التسعير" عند الضرورة واعتبار الاحتكام إلى الطاقة الشرائية في سعر العملة ليس مطلقًا وليست لها الهيمنة على تقديره، وإنما هي واحدة من المؤشرات التي يستدل بها عند التقدير.
ومع أن النقد كان في العهود الإسلامية الأولى يتمثل في الازدواجية بين العينية والاعتبار في العملة أي في أن الذهب والفضة في ذاتها قيم وأثمان وأن المسكوك منهما يضيف عند التثمين والتقييم إلى وضعهما الذاتي اعتبار السك يعني الاعتماد الرسمي للقطعة المسكوكة بأنها أداة معتمدة في التثمين والتقييم.
ومع أن الفلوس كانت موجودة في تلك العهود ولكن كرديف للذهب والفضة يتعامل بها في المعاملات الصغيرة التي لا تمثل قيمة مؤثرة في التمول، فإن المجتهدين الأول من التابعين وأئمة المذاهب كانت لهم اجتهادات تبرز في أحيان شتى مرحلة ابتدائية من تصور الاعتبارية في النقد من حيث إنها مؤثرة بذاتها في تكييف الأحكام الشرعية المتصلة بالمعاملات، فكانت اجتهاداتهم في مبادلة الفلس بالفلسين واعتبارها من الربا وتحرج بعضهم منها وإن لم يعتبرها كذلك بداية تطور في فقه النقود إن صح هذا التعبير، وكان اعتبارهم للعرف في تصور حقيقة النقدية مصدر هذه الاجتهادات وهو اعتبار لازم اجتهادات الفقهاء خلال العصور الستة الأولى للهجرة وتلقاه بعد ذلك المقلدة فالتزموا به في تفريعاتهم لاجتهادات أيمتهم، ولعل من أوضح ما يصور اعتبار العرف عندهم قول الباجي رحمه الله في (المنتقى: 2/95) ، في معرض الاستدلال لأن النصاب في زكاة الذهب عشرون دينارًا-:
ودليلنا من جهة المعنى أن المائتي درهم نصاب الورق ولا خلاف في ذلك، والدينار كان صرفه في وقت فرض الزكاة عشرة دراهم فوزان المئتي درهم عشرون مثقالًا فكان ذلك نصاب الذهب.
وأحسب قول الباجي هذا ملحوظًا فيه قول مالك رحمه الله فيما روى عنه ابن القاسم وسبق أن نقلناه عن ابن رشد في فصل "أحكام تتصل بالفلوس عند أيمة المذاهب وأشهر مجتهديها" وحاصلة ما يلي:
ثم قال (نفس المرجع: ص395، 396) :
قلت - يعنى لعبد الرحمن بن القاسم -: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم فافترقنا قبل أن يقبض كل واحد منا؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد، قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكراهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة.
ولا يختلف هذا عما اعتبره أحمد من اصطلاح الناس وأثره في اعتبار النقد، مما سبق أن نقلناه في الفصل المذكور آنفًا عن ابن قدامة، وكذلك ما نقله السرخسي عن محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة من اعتبار العرف في التعيين عند العقد باعتبار ما عين في العقد نقدًا وإن كان تبرًا غير مسكوك.
ونتيجة للاعتراف بالعرف أو الاصطلاح أساسًا لإضفاء الصبغة الشرعية على النقد المتداول جاءت فتاويهم في الأحوال المترتبة عن ابطال العملة المتعاقد بها أو إرتفاع سعرها أو انخفاضه إذا كان العقد ينطوي على التأجيل في المعاملات التي يجوز فيها التأجيل، فقال بعضهم بالمثلية عند الانقطاع إذا وجد المثل وبالقيمة عند انعدامه، وقال آخرون بالقيمة في الحالتين، لأن المثل المتعاقد عليه لم يعد له وجود في الحقيقة وإن كان عينه موجودًا كالسكة من الفلوس النحاسية إذا أبطل التعامل بها أو تغير سعرها ارتفاعًا أو إنخفاضًا، على أنهم اختلفوا في حالة تغير السعر فاعتبر بعضهم القيمة عند التعاقد واعتبر آخرون القيمة عند الأداء، واعتبر فريق ثالث الفرق بين حالة المماطلة وحالة عدمها فألزم عند المماطلة القيمة يوم الأداء، وألزم عند عدم المماطلة القيمة عند التعاقد وكأن هذا الفريق أخذ بمبدأ تغليظ العقوبة في بعض الأحوال واعتبر المماطلة من تلك الأحوال.
وهذا التطور في تصور النقدية في العملة المسكوكة لا يختلف في جوهرة عن تصورنا في العصر الحاضر لها في العملة الورقية.
ومع أن الذهب لم يعد المؤشر الوحيد المعتبر في تعيين قيمة العملة الورقية المتداولة، فإنه لا يزال من بين المؤشرات المعتبرة على أن اعتباره أو عدم اعتباره ليس بذي بال في الحكم الشرعي الذي يعتمد العرف وما شاكله كاعتماد أولي الأمر مثلًا في تحديد الأحكام المتصلة بالمعاملات.
وتبرز أمامنا أحوال مختلفة يتعين بيان الحكم الشرعي في كل واحدة منها على أنها في جوهرها ليست بدعًا مما سبق أن عرفه الأولون من المجتهدين وفقهاء المذاهب.
الحالة الأولى نصاب الزكاة، فكيف يتم تحديده بالعملة الورقية، بل هل العملة الورقية مما تجب فيه الزكاة؟ لقد حاول البعض التشكيك في وجوبها فيها إذ اعتبروا أن الزكاة إنما وجبت في الذهب والفضة لذاتهما فحسب، وهو اعتبار يضطرب بين القصور في الفهم والاشتباه في الوعي الدينى، ذلك بأن الزكاة في الذهب والفضة فرضت فيهما على حالين: حالة العينية وهي ما جاء التعبير في الحديث الشريف عنها بالموازين (الأواق) والحالة النقدية وهو ما جاء فيه التعبير عنها بالعدد (الدراهم) و (الدنانير) ، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد إبراز الملحظ النقدي لكان التعبير بـ "الأواق" كافيًا في الفضة على الأقل وعندئذ يمكن القول بأن " الدنانير" إنما أريد بها تعيين الوزن المقابل للأواق الفضية، لكن تحديده صلى الله عليه وسلم لكلمة الدراهم وكلمة التقويم الواردة في حديث عمرو بن شعيب في كتابه لعمرو بن حزم عند تحديد نصاب الذهب في الزكاة كلاهما دليل صريح على أن اعتبار النقدية له كيان متميز في تشريع الزكاة عن اعتبار العينية في الذهب والفضة.
ينتج عن هذا تلقائيًا أن كل ما وجد فيه اعتبار النقدية تجب فيه الزكاة.
أما أساس تحديد النصاب في أية عملة غير ذهبية أو فضية فهو قيمتها من الذهب والفضة مجتمعين، فإذا تساوت بالقياس إليهما فتلك هي القيمة، وإذا اختلفت عند المقارنة مع كل واحد منهما فالراجح عندنا اعتبار القيمة بالنسبة إلى الذهب على أساس تحكيم الفرق في التقويم والعرف قد أسقط الفضة من التقويم لكن اعتبارها على أساس المقارنة بالفضة له وجاهته من حيث الأساس الذي اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسقطنا أن الاعتبار النبوي لهذا الأساس قائم على ملاحظة العرف السائد يومئذ وملاحظته هو المرجح له عندنا على الدلالة اللفظية لنص الحديث.
أما الحالة الثانية فهي العقوبات المالية مثل الديات والقصاص، وفي هذه نرجح أن تحديدها يتم على أساس قيمة العملة المتداولة من كل من الذهب والإبل عند وقوع ما استحقت من أجله، ذلك بأن الأساس الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقوبات الجنائية والجنحية كالديات والقصاص هو تحديدها بالإبل لكن انحسار دور الإبل في الحياة الاقتصادية المعاصرة وارتفاع سعرها، ثم تحديد عمر لما يقابل قيمتها من الذهب جعلنا نرجح تقويم العملة المتداولة في كل عصر إذا لم تكن من الذهب أو الفضة على أساس اعتبار قيمة الذهب والإبل معًا أى على أساس مزدوج وملحظنا في هذا هو أن العقوبة تقتضي الزجر وأن حقوق المستحق للتعويض يتعذر استيفاؤها استيفاء يطمأن إليه بدون تقويم العملة على الأساسين معًا.
أما في حالة الجنايات غير البدنية كالسرقة والغضب فلا لبس ولا غموض، إذ الواجب رد المثل إن وجد والقيمة عند السرقة أو الغصب إن لم يوجد المثل كأن تكون العملة قد وقع تغييرها، أما في حالة انخفاضها أو ارتفاعها فلا تأثير للانخفاض والارتفاع، بل الواجب رد المثل.
وأما الحالة الثالثة وهي حالات المعاملات التعاقدية، فالراجح فيها عندنا ما ذهب إليه من فرق بين المماطلة وعدم المماطلة، ففي حالة الأداء عند الأجل المحدد يكون بالعملة المتعاقد عليها سواء ارتفعت أو انخفضت، فإن انقطعت فبقيمتها يوم التعاقد من العملة التي حلت محلها، أما في حالة المماطلة فبالعملة المتعاقد عليها إن وجدت عند الأداء سواء ارتفعت أو انخفضت قيمتها أما إن انقطعت فبقيمتها عند الأداء وليس عند التعاقد.
ذلك بأن الثابت في الذمة بالتعاقد هو العملة المعينة في العقد وأداؤها هو الواجب، لكن عند التفريط إلى أن انقطعت فتعيين العوض يعتبر العوض يوم الأداء لأن التفريط حمل المفرط ما ترتب عن التفريط من تبعات.
ولا فرق في هذا بين أن يكون المتعاقدان من بلد أو منطقة يقع التعامل فيها بنقد معين واحد أو من بلدين أو منطقتين التعامل في كل واحدة منهما بنقد يختلف عن الذي يتعامل به في الأخرى ويتجلى ذلك في أحوال الاستيراد أو التصدير بين دولة وأخرى لكل واحدة منهما نقدها الخاص، وفي هذه الصورة لا يخلو إما أن يكون التعاقد منصوصًا فيه على نقد أحد البلدين دون معادلته بإحدى العملات المتداولة دوليًا في تحديد السعر وإن وقعت المعادلة لمجرد تيسير إجراءات الدفع وفي هذه الصورة يكون الأداء بقيمة نقد البلد المؤدى إليه ارتفع سعره أم انخفض بالمقارنة بالعملة المتفق على الأداء بها لأن تعيين عملة التعاقد هو المترتب في الذمة أما تعيين عملة الأداء فلمجرد تيسير الإجراءات.
وإما أن يكون التعاقد مبنيًا على أساس اعتبار العملتين معًا العملة المتداولة في البلد المستحق وعملة الأداء بحيث يعتبر "التعيين" في العقد شاملًا لهما معًا وينص على ذلك، ففي هذه الحال يكون الاعتبار لأعلاهما قيمة إذا تغيرت قيمتهما أو قيمة إحداهما قبل الأداء لأن التعاقد عندئذ يكون على أساس ما يسمى اليوم "سلة العملات" ويكون تعيين النقدين متعلقًا بالقيمة المتمثلة بهما وليس متعلقًا بقيمة إحداهما والقيمة المتمثلة بهما لا تتحقق عند تغير قيمة إحداهما إلا بأعلى القيمتين.
وهذه الحالة تشمل صورًا مختلفة كالبيوع على اختلاف أنواعه والقرض والقراض والسلم وما إلى ذلك من المعاملات المباحة شرعًا.
أما الحالة الرابعة فهي أنواع "التحويلات" إذا تغيرت قيمة العملة المحولة ما بين يوم التحويل ويوم الاستلام على اعتبار أن أنواع التحويل جائزة شرعًا لأن ما كان يخشى من استفادة أحد الطرفين في السفتجة أو في الحوالة بتجنب أخطار الطريق وما شاكل ذلك لم يعد له وجود ولا اعتبار في وسائل التحويل الحديثة.
وفي هذه الحالة إن كان المبلغ المعين في التحويل محددًا بعملة معينة، كأن يكون التحويل بين بلدان دولة واحدة، فإن الأداء يكون بنفس العملة ارتفعت أو انخفضت ولا سبيل إلى الاشتباه بذلك، وإن كان التحويل بين دولتين مختلفتين بعملة دولية غير منصوص عليها في العقد، فإنه يتم طبقًا للعملة المنصوص عليها في العقد سواء ثبتت العملة المحول بها على حالها أم تغيرت ارتفاعًا أو انخفاضًا وإن كانت العملة المنصوص عليها في العقد مزدوجة إذا اعتبرت فيه العملتان معًا العملة المحلية والعملة الدولية وكان ذكرهما ليس لتعيين إحداهما ولكن لتعيين القيمة المتمثلة بهما، فإن على المدين الأداء بأعلى القيمتين بأن يحول الفارق إن انخفضت قيمة النقد المحول به. على أننا نرى للخروج من هذه الشبهات أن يتفق المتعاقدان إن كانا مسلمين معًا على اعتماد قيمة العملة المعينة في العقد إذا كانا من دولتين مختلفتين بما يماثلها من الذهب يوم التعاقد، ذلك بأننا نرى أن اعتبار الذهب والفضة أساسًا للنقد أمرًا أرشد إليه العمل النبوى كأسلم الأسس لاجتناب الحيف بين المتعاملين.
أما إذا كان أحد المتعاقدين غير مسلم ولم يقبل بالالتزام بالأساس الذهبي، فلا مناص من أن يتم التعاقد على أساس التراضي بين المتعاقدين.
مهما يكن من شيء فإن ما حاول البعض أن يتعلل به متذرعا بالحاجة إلى عدم غبن المقرض إذا انخفضت قيمة العملة التي أقرض بها من وجوب تحديد فائدة على القرض تجنبه هذا الغبن لا اعتبار له شرعا لأنه ربا بنص وليس بالاجتهاد كما أوضحنا في النص السابق ولا اعتبار عقلا لأن الغبن محتمل حتى مع إباحة هذا النوع من الربا، فقد يحدث انهيار اقتصادي ومالي يؤدى إلى انخفاض حاد في سعر النقد المعين في عقد الإقراض، بحيث يصبح المبلغ المقترض يوم أدائه مع الفوائد الربوية عليه أقل قيمة في الحقيقة منه يوم القرض بغير فوائد ربوية، فالغبن الذي يزعمون تجنبه بإباحة هذه الفوائد لا يؤمن اجتنابه بإباحتها ويقاس على دحضنا لهذه الشبهة ما يشاكلها من الشبهات الأخرى من تأثر أصحاب العقارات المؤجرة بانخفاض قيمة المبلغ المعين في الإيجار وما شاكل ذلك، وفي هذه الصورة بالذات نسائل من يتخذون منها شبهة فيما إذا ارتفعت قيمة العملة في الإيجار هل ينخفض مبلغ الإيجار تلقائيًّا لإنصاف المستأجر أم يتشبثون عندئذ بمبدأ "التعيين" المترتب في الذمة عند التعاقد.
على أن المخرج في رأينا من هذه المشاكل والشبهات التي يثيرها اضطراب العملات في هذا العصر اضطرابًا يكاد يفقد دلالتها القيمية هو في أن تجتمع الدول الإسلامية على عملة بينها تكون المؤشر المعتمد لعملاتها المحلية وتتخذ الذهب أساسًا لها ومعيارًا، وتبرم جميع التعاقدات بين كل واحدة منهما والأخرى أفرادًا ومؤسسات ودولًا على أساس هذه العملة المقترح إنشاؤها كما تكون المعيار الذي تحدد على أساسه أنصبة الزكاة وقيم العقوبات الجنائية، وما إلى ذلك مما يتصل بالنقد في مختلف المجالات الشرعية، ولعل ذلك لو حدث يكون أساسًا للتوحيد المالي ثم الاقتصادي ثم السياسي بينها، وهو المصير الذي لا مناص من أن تصير إليه لكن ربما تأخر تحقيقه لعدة أجيال.
وإذا تعذر الأخذ بالذهب أساسًا لتقويم العملة الدولية الإسلامية لسبب قد يكون الرغبة في الاتساق مع ما يجري عليه العرف الدولي العام، فلا أقل من أن تنشئ الدولة الإسلامية فيما بينها نمطًا من " حقوق السحب الخاصة "، كما فعل صندوق النقد الدولي، وكما فعلت دول السوق الأوروبية المشتركة ويمكن لهذا الوحدة أن تعتمد مرجعًا لتحديد قيمتها ما يسمى "سلة العملات "، مكونة إما من مجموع عملاتها المحلية وإما من مجموع العملات الدولية المتعامل بها، باعتبارها عملات عالمية، لأن اعتماد هذا النوع من المرجع لتحديد القيمة يجنب الوحدة المقترح إنشاؤها اغلب عوامل الاهتزاز والاضطراب التي تتعرض لها العملات في الأسواق المالية نتيجة لتقلبات الأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية.
بقي أمر آخر لا سبيل إلى إغفاله وهو التعامل بين الدول الإسلامية والدول الأخرى، وقد يشتبه البعض في المعقبات التي تنتج فيه بسبب اضطراب قيم العملات وما يتسبب فيه من خسارة للدول الإسلامية أحيانًا إذا اضطرت إلى دفع ديونها أو المستحقات في ذمتها بعملة ارتفعت قيمتها ارتفاعًا فاحشًا عند الأداء عما كانت عليه عند التعاقد، وقد يتعلل البعض بهذا الاحتمال وبعكسه أيضًا بالدعوة إلى الأخذ بفتوى بعض المذاهب الإسلامية بإباحة الربا من غير المسلمين من أهل الحرب، وهي دعوة نتحرج من الأخذ بها، لأن تحديد أمر دار الحرب قد لا يكون ميسورًا في هذا العصر بالصورة التي يريدونها، فمن هو المحارب للمسلمين الذي ينطبق عليه اعتبار الحر؟ لقد شرع الإسلام احترام المواثقة إلى درجة أنه لم يوجب مناصرة الأقليات الإسلامية المقيمة في غير دار المسلمين ممن بيننا وبينهم ميثاق، قال الله تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الآية 72 من سورة الأنفال] ، وواضح أن المواثقة لا تعني الاستسلام الذي يترتب عنه الدخول في الذمة والخضوع لأحكام خاصة لكن المواثقة تعني التعامل على أساس المماثلة (لا غالب ولا مغلوب) ، بل قد تعني حتى نوعًا من "المداراة" يضطر إليه المسلمون في حالة ضعفهم، كما شأننا الآن مع أغلب الدول غير الإسلامية ولو أننا أغفلنا "مبدأ" المواثقة لكان علينا أن نتحمل كثيرًا من التبعات من اعتبار جميع الدول غير الإسلامية وغير الداخلة في ذمة المسلمين دولا محاربة، وهذا لا يقول به عاقل على أن القول بإباحة الربا مع المحارب خارج دار الإسلام أعرض عنه جمهور الفقهاء المجتهدين وذلك هو الحق، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع ربا الجاهلية في حجة الوداع، وما من أحد يزعم بأن جميع العرب كانوا في وضعه له على أنه وضع ما بين العرب، وإنما وضع ربا الجاهلية عامة، ولم تكن معاملة العرب منحصرة فيما بينهم فقد كانت لهم معاملات مع الشام وهي يومئذ خاضعة للبيزنطيين، ومع فارس ولم تكن قد أسلمت ومع أثيوبيا (الحبشة) ، ولم يكن أهلها جميعًا مسلمين، ولا ثبت أن الأحكام الإسلامية كانت تطبق فيها وإن كان النجاشي قد أسلم على أنه رحمه الله توفي قبل حجة الوداع، فالقول بإباحة الربا مع أهل الحرب خارج دار الإسلام قول لا ينبغى اعتماده إلا في حالات اضطرارية شاذة مثل أن تضطر دولة إسلامية إلى التعامل التجاري مع دولة غير إسلامية أنظمتها في التعامل لا مناص في أن تمر من خلال قنوات ربوية كما هو الوضع السائد الآن، وفي هذه الحال يتعين على الدولة الإسلامية أن تتحرى ما أمكنها التحري أن يكون ما تأخذ لا يربو عما تعطي، وبذلك تتجنب أخذ الربا بموازنتها بين الأخذ والعطاء.
على أن من الصعب التمييز بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية في الأوضاع الراهنة، إذا التزمنا بالضوابط الإسلامية لدار الإسلام عن دار الحرب، فليس دار الإسلام هي تلك التي يحكمها حاكم ينتسب إلى الإسلام، وإنما هي التي تحكم بالشريعة الإسلامية وتطبق فيها أحكامها - أو على الأقل - لا يجوز فيها بمناهضة أحكامها، وإن لم يلتزم بتطبيقها عمليًا، وقليل اليوم هذا النمط بين الدول المحسوبة على الإسلام، فالإسلام ليس هوية نسبية، بل هوية سلوك.
وهذه الأحكام التي قررناها في هذا الفصل لم نأت فيها ببدع من اجتهاد أو فتوى، وإنما سلكنا فيها مسلك من قبلنا من الفقهاء والمجتهدين، غاية عملنا أننا أبرزناها على أساس من التصور الواقعي العميق لحقيقة "النقدية" ولما يميزها وظيفيا عنها ماديًا أى ما يميز "النقدية عن الشيء أو العين المعين لأدائها، فسواء كان هذا الشيء أو العين ذا قيمة في ذاته، كالذهب والفضة أم ليست له قيمة كقصاصة الورق، فإن اعتماده عرفًا أو قانونًا لاداء الوظيفة النقدية (ثمنًا للأشياء وقيمة للمتلفات) ، يجعله الأداة التي تترتب عليها وتتعلق بها جميع الأحكام الشرعية المتصلة بالشئون المالية، سواء كان منها من المعاملات الصرفة وما كان مزاجًا من حقوق العبد وحقوق الله لما فيه من معنى التعبد، كالزكاة والكفارات وبعض العقوبات.
ولذلك دأبنا منذ بداية مراحل هذا البحث وفيها جميعًا نعبر بكلمة "تصور" عما نعرضه من مقولات الفقهاء المتصلة بالنقد اجتهادية كانت أم فتاوى، ونحسب أننا قد أوضحنا إيضاحًا كافيًا تأثير "التصور" في مقولاتهم تلك من حيث تباينه في مداركهم واعتباراتهم تباينًا لولاه لما وجدنا فيها هذا الاضطراب العجيب الذي قد يبدو لمن يعايش السلف وظروفهم المعاشية والحضارية موغلًا في الغرابة، ونعتقد أن هذا هو الذي حمل متفقهة المعاصرين من صادقين ومشبوهين ومؤهلين ومتقحمين على الظن، بل الجهر بأن "تغيير العملة"، وما يترتب عنه لم يكن معروفًا في القديم ولم ترد فيه اجتهادات أو آراء يمكن اعتمادها أو اعتبارها، ذلك بأنهم حسبوا أن كلام السلف عن "الزيوف" و"الفلوس" - وفيه ما فيه من الاضطراب حتى في كلام الواحد منهم أحيانًا - شيء يختلف عما يمكن أن يقال اليوم أو يحكم به في تغيير العملة وما يترتب عنه، وهو وهم منشؤه أنهم حسبوا أن زوال الذهب - مرجعًا للعملات في هذا العصر - أَحْدَثَ حَالَةً ليس لها شبيه في عصور السلف ولو أنهم تدبروا لادركوا أن تحديد مرجع لتقويم العملة لم يكن دقيقًا في العصر النبوي، فقد كان قائمًا يومئذ على اعتبار نمط من الازدواجية وكان مضطربًا بين اعتبار الفضة مرجعًا، واعتبار الذهب إلى جانبها وبين اعتبار الوزن معيارًا، واعتبار العدد إلى جانبه، ومع ذلك فقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه فكر في أن يتخذ عملة من جلود الإبل، ولعل هذه الفكرة هي التي ألهمت مالكًا رحمه الله مقولته - التي نقلناها في الفصل السابق حول اعتماد العملة ولو كانت من جلود الإبل، بل لعل كليهما كانا قد بلغه أن الصينين فكروا في اتخاذها من هذه الجلود قبل أن يتخذوها من الورق.
ويتجلى من هذا أن اتخاذ مرجع لتقويم العملة عمل اجتهادي أيضًا، وليس تابعًا لنص وإن كان اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضة ثم الذهب معًا مرجعًا للتقويم ينبغي اعتباره إرشادًا منه عليه الصلاة والسلام لما يحسن بالأمة الإسلامية أن تفعله كما ألمحنا آنفًا، بل إن ما نلحظه من الإزدواجية في اعتبار مرجع قيمة النقد في العهد النبوي قد يكون إرشادًا للأمة الإسلامية إلى اعتماد مبدأ سلة العملات.
ولكن متفقهة العصر يتناولون النصوص التشريعية الإسلامية والمقولات الاجتهادية بعقول القانونيين وليس بمدارك الفقهاء وشتان بين من يقف عند ظواهر ألفاظ النصوص ومن يستشرف مواقع العلل ومكامن المناطات.
اللهم ألهم الجمع رشدهم وأمدنا بالتوفيق.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الآية 108 من سورة يوسف]
الشيخ محمد الحاج الناصر