الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوفاء بالوعد
إعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بجامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد، فإن موضوع (الوعد) ووجوب الوفاء به ديانة، وجواز الإلزام به قضاء، من الموضوعات الهامة، التي تحتاج إلى تحريرها في عصرنا، لارتباطها بكثير من المعاملات المعاصرة، وبخاصة (بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما تجريه المصارف الإسلامية، الذي أصبح المحور الأساسي لنشاط البنك الإسلامي الآن.
ولابد لمن يكتب عن بيع المرابحة أن يكتب عن الوعد ومدى لزومه والإلزام به، فإن كثيرا من البنوك الإسلامية تجري مرابحاتها على أساس الوعد الملزم، وهو ما أراه وأرجحه.
وهذه الصحائف تلقي شعاعا من ضوء على هذا الموضوع، أرجو أن يكون فيها بيان لما قصدت إليه.
وبالله التوفيق وعليه قصد السبيل
أ. د/ يوسف القرضاوي
تحقيق القول في الإلزام بالوعد:
من الإخوة الذين شاركوا في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت من وافقوا على المواعدة على بيع المرابحة المذكورة، ولكنهم خالفوا بشدة في قضية الإلزام بالوعد.
ومن هؤلاء الإخوة: الدكتور حسن عبد الله الأمين الأستاذ الباحث بالمركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز، والدكتور محمد سليمان الأشقر الأستاذ الباحث بموسوعة الفقه الإسلامي بالكويت، وكلاهما قدم بحثا حول موضوع المرابحة، والزميل: الدكتور علي السالوس الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر، وقد شارك بالمناقشة في المؤتمر.
وحجتهم أن فتوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول اعتمدت على مذهب مالك في الإلزام بالوعد والقضاء به، مع أن مذهب مالك في هذه القضية بالذات يمنع ولا يجيز؛ لأنه يعتبرها من بيوع العينة الممنوعة، فكيف نأخذ بمذهب مالك في الإلزام بالوعد، في الوقت الذي نتركه في القضية الخاصة التي ننفذ فيها الإلزام بالوعد؟
ومن جهة أخرى يقول الدكتور الأمين: إن مسألة لزوم الوفاء بالوعد قضاء أو عدمه لزومه (عند المالكية) إنما تتعلق فقط بمسائل المعروف والإحسان دون عقود المعاوضات، ومنها البيع، وينقل عن فتاوى الشيخ عليش المسماة " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك" الجزء الأول، نقلا عن كتاب " تحرير الكلام في مسائل الالتزام" للعلامة الحطاب ما نصه:(فصل) وأما العدة- (أي الوعد) فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (1) . ومثلوا له بالوعد بقرض، أو عتق، أو هبة، أو صدقة، أو عارية، أي الأمور التي تدخل في باب المعروف والإحسان كما قال ابن عرفة، دون الأمور التي تتعلق بالمعاوضات، كالبيع مثلا.
(1) فتح العلي المالك جـ1 ص (212) طبعة المطبعة التجارية الكبرى
" والوفاء بالعدة (بالتخفيف) مطلوب لا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب: جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد"
(1)
فقيل: يقضى بها مطلقا.
(2)
وقيل: لا يقضى بها مطلقا.
(3)
وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء، كقولك: أريد أن أتزوج أو: أن اشتري كذا، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك
…
فقال: نعم، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر، فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به.
(4)
وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور (1) وهو مذهب ابن القاسم، قال في المدونة:(لو أن رجلا اشترى عبدا من رجل على أن يعينه فلان بألف درهم، فقال له فلان: أنا أعينك بألف درهم فاشتر العبد، أن ذلك لازم لفلان)(2) . وهذا وعد بمعروف.
(1) فتح العلي المالك جـ1 ص (212) طبعة المطبعة التجارية الكبرى، والفروق للقرافي جـ4 ص 24/25 طبعة دار إحياء الكتب العربية
(2)
المدونة الكبرى جـ3 ص 264، دار الفكر بيروت، وانظر الشرح الكبير للدردير جـ3 ص 335
وواضح من تعريف ابن عرفة للعدة – الوعد – ومن الأمثلة عليه، أن القول بلزوم الوفاء بها قضاء، إنما يتعلق بأمور المعروف والإحسان - أي التبرعات - ولا يتعلق بأمور ذات صلة بعقود المعاوضات كالبيع. اهـ كلام د. الأمين.
ويتفق الأستاذ الأشقر مع الأستاذ الأمين في أن الوعد الذي قال بعض المالكية بلزوم الوفاء به ديانة وقضاء إنما هو الوعد بإنشاء المعروف، أما الوعد التجاري فهو شيء آخر لم يدر بخلدهم.
ويناقش الشيخ الأشقر فتوى فضيلة الشيخ بدر متولي عبد الباسط مستشار بيت التمويل الكويتي التي مال فيها إلى الأخذ برأي ابن شبرمة، الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، يكون وعدا ملزما قضاء وديانة، وإن هذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.. وإن الأخذ بهذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات.
وقال الأشقر: قول ابن شبرمة لا أدري ما مصدره، ولعله منقول بالمعنى لا بالنص. وهو غير محرر ولا مبين، إذ لم يكن له أتباع يحررون مذهبه.
كما ناقش القول بأن ظواهر الآيات والأحاديث تدل على وجوب الوفاء بالوعد، ومال إلى أن الوفاء بالوعد ليس بواجب قضاء، ولا ديانة، وإنما هو مستحب ومن مكارم الأخلاق، كما اختاره القرافي. وأن النصوص في كتب المذاهب على عدم لزوم الوفاء بالوعد ديانة.
وأرى من المهم هنا مناقشة قضية الوعد، ووجوب الوفاء به ديانة، والإلزام به قضاء، وما في ذلك من خلاف. لما يترتب على الموضوع من نتائج تتعلق بمعاملات المسلمين وما يحل وما يحرم منها.
رد على بعض الجزئيات:
وقبل أن أُفَصِّلَ القول في الوفاء بالوعد، أحب أن أرد على بعض الجزئيات من كلام الأخ الأشقر فقد سأل عن مصدر قول ابن شبرمة، وأقول له:
أقرب مصدر له نعرفه هو " المحلى" لابن حزم، فقد قال:
وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد ويجبر (1) .
وأما الادعاء بأن قوله غير محرر ولا مبين، لأنه لم يكن له أتباع يحررون مذهبه، فهو ادعاء مرفوض، ويترتب عليه رفض أقوال جميع فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن لا أتباع لهم يقلدونهم. ومعنى هذا رفض آراء جميع علماء الأمة إلا أربع أشخاص فقط، هم أصحاب المذاهب المتبوعة عن أهل السنة! فهل يلتزم الشيخ الأشقر هذه النتيجة ويقبلها؟ لا أحسب ذلك.
وأما الرد على قول الشيخ بدر بأن الأخذ بالإلزام بالوعد أيسر على الناس ويضبط المعاملات، بأن اختلاف العلماء لا يجيز لنا الأخذ بما هو أيسر من أقوالهم بل بما هو أرجح دليلا، ففي هذا الرد نظر؛ لأن المقصود أنه عند تكافؤ الأدلة أو تقاربها يكون الأخذ بالأيسر من دلائل الترجيح؛ لأن الشريعة مبناها على اليسر ورفع الحرج، وخصوصا في أمور المعاملات، وقد يأخذ الإنسان بالأحوط في خاصة نفسه، أما إذا أفتى للعموم فليراع التيسير، ولهذا أثر عن علمائنا في مثل هذه القضايا هذه العبارة: هذا أرفق بالناس. على أن فتوى الشيخ بدر حفظه الله قرنت بالتيسير معنى آخر لم يذكره المعقب، فقد قالت: هذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات فلا ينبغي أن يفصل المعنى الأخير عن الأول.
(1) المحلى جـ 8 المسألة رقم 1125
أدلة الإلزام بالوعد:
وأكثر ما أثير من كلام كان حول عنصر الوعد والإلزام به، لهذا كان في حاجة إلى مزيد من التجلية والإيضاح لحقيقته، فأقول:
إن الذي أرجحه أن الوفاء بالوعد واجب ديانة، فهذا هو الظاهر من نصوص القرآن والسنة وإن خالف في ذلك المخالفون.
أ- ففي القرآن يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] .
والوعد إذ أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذبًا محرمًا. وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (1) .
بل إن عبارة الآية الكريمة {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} تدل على أنه كبيرة، وليس مجرد حرام.
ب- وقد ذم الله بعض المنافقين بقوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] .
والآية تفيد أن نفاقهم بسبب إخلافهم وعدهم مع الله، ومثل ذلك إخلاف الوعد مع الناس، إذ لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس.
جـ – وقد أنكر القرآن شدة استغفار المؤمنين للمشركين مهما تكن قرابتهم، فقال تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
وهنا تلوح للمؤمن قصة استغفار إبراهيم لأبيه {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] كيف يتفق هذا مع هذا الإنكار الشديد؟ هنا يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] .
فكان عذر إبراهيم وعده السابق لأبيه {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] .
فلو كان الوفاء بالوعد مجرد أمر مستحب ما ارتكب من أجله الاستغفار لمشرك ضال من أصحاب الجحيم.
ولا يقال: لعل الوفاء بالوعد كان واجبا في شرع إبراهيم، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا، ونقول: الصحيح أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا، وبخاصة أن الله تعالى قال لرسوله {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] .
د- يؤكد هذا ما ذكره الله عن الشيطان حين يجمعه بمن اتبعه من الغاوين في النار حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] .
وهذا ذكر في معرض الذم للشيطان وحزبه، فلو كان إخلاف الوعد لا يعدو أن يكون مكروها أو خلاف الأولى، لم يكن لذم الشيطان به معنى.
(1) الفروق جـ4: 20
هـ- وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (1) .
وفي بعض روايات مسلم: ((آية المنافق ثلاث
…
وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) .
و وفي الحديث الصحيح الآخر من رواية عبد الله بن عمر: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها
…
إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (2) .
ز- وذكر البخاري في كتاب " الاستقراض " حديث عائشة ((: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيرًا من المأثم " أي الإثم " والمغرم " أي الدَّيْن" فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟! فقال: " إن الرجل إذا غرم - أي استدان - حدث فكذب، ووعد فأخلف ")) (3) ، ومعنى هذا أن – الاستدانة تجره إلى المعصية بالكذب في الحديث، والخلف في الوعد.
ح- وهناك أدلة أخرى سنذكرها فيما ننقله عن الغزالي والبخاري وابن القيم، والظاهر من هذه الأدلة أن الوعد سواء كان بصلة وبر، أم بغير ذلك، واجب الوفاء به، إذ لم تفرق النصوص بين وعد ووعد، وهذا ما روي عن ابن شبرمة فيما نقله عنه ابن حزم حيث قال: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد، ويجبر (4) .
وإذا كان كل هذا التحذير من إخلاف الوعد حتى عد من علامات النفاق، وإحدى خصاله الأساسية، فهذا من أظهر الأدلة على حرمته، ولهذا جعله الإمام الغزالي في " إحيائه" من آفات اللسان، وهي إحدى " المهلكات".
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان. باب علامة المنافق، ومسلم في كتاب الإيمان. باب خصال المنافق
(2)
رواه مسلم في الباب المذكور: ورواه البخاري، أيضًا ولكن وضع مكان " وإذا وعد أخلف " جملة " وإذا اؤتمن خان "
(3)
صحيح البخاري – كتاب الاستقراض – باب من استعاذ من الدَّيْن
(4)
المحلى جـ8 مسألة 1125
رأي الإمام الغزالي في إحيائه:
قال وهو يعدد آفات اللسان: الآفة الثالثة عشر: الوعد الكاذب " فإن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق
…
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] : " وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] .
" ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاةُ قال: إنه كان خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش وكان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق. أشهدكم أني قد زوجته ابنتي.
وكان ابن مسعود لا يعد وعدا إلا ويقول: إن شاء الله، وهو الأولى.
ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد، فلابد من الوفاء، إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد عازما على أن لا يفي، فهذا هو النفاق. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ثلاث من كن فيه هو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم
…
)) الحديث. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أربع من كن فيه كان منافقًا
…
)) .. الحديث (1) .. وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فَعَنَّ له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقًا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضًا، كما يحترز من حقيقته، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذورًا من غير ضرورة حاجزة (2) . اهـ.
(1) ذكر الإمام الغزالي هنا بعض أحاديث مثل: " العدة عطية " والوأي - أي الوعد - مثل الدين أو أفضل " وغيرهما.. تركناها لضعف أسانيدها، واكتفاء بصريح القرآن، وصحيح السنة
(2)
إحياء علوم الدين جـ3: 132، 13 ط. دار المعرفة - بيروت
رأي جماعة من السلف في وجوب الوفاء بالوعد:
وذكر الإمام البخاري في صحيحه رأي جملة من السلف ممن يرى وجوب إنجاز الوعد، فقد ترجم في كتاب " الشهادات" من الصحيح باب من أمر بإنجاز الوعد. قال: وفعله الحسن البصري أي أمر به، وذكر الآية الكريمة:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]
قال: وقضى ابن الأشوع (وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع، قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال أبو عبد الله البخاري: رأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه يحتج بحديث ابن أشوع (أي الذي ذكره عن سمرة)) .
وذكر البخاري في الباب أربعة أحايث للدلالة على وجوب الإنجاز، منها: حديث آية المنافق ثلاث
…
وحديث جابر: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا.
ونقل الحافظ في الفتح قول المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ.
قال الحافظ: ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل.
وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به، وإلا فلا، ومن قال لآخر: تزوج، ولك كذا، فتزوج بذلك، وجب الوفاء به.
وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة: هل تملك بالقبض أو قبله؟
قال الحافظ: وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي: ولم يذكر جوابا عن الآية: يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وحديث " آية المنافق " قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد (1) اهـ.
(1) انظر: صحيح البخاري – كتاب الشهادات – باب من أمر بإنجاز الوعد. وفتح الباري. جـ6:217 – 219 ط مصطفى الحلبى.
وصنيع المحقق ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين "(1) يدل على أنه ممن يرى وجوب الوفاء بالوعد، فقد نظم العقود والعهود والشروط والوعود الواجب الوفاء بها كلها في سلك واحد، وسرد النصوص الدالة على لزوم الوفاء بالوعد، مع النصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقد وبالعهد وبالشرط، كلها سواء.
فذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) .
وذكر صحاح الأحاديث في علامات المنافق وخصاله.. وأحاديث أخرى.
وزاد على ذلك أحاديث أخرى تتعلق بالوعد خاصة مثل ما في سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: ((دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها، فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت أن تعطيه؟ " فقالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة)) . وقال ابن وهب: ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وَأْيُ المؤمن واجب)) (3) قال ابن وهب: وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:((ولا تعد أخاك عدة وتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) .
قال ابن وهب: وأخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من قال لصبي: تعال هذا لك، ثم لم يعطه شيئا، فهي كذبة)) .
وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: ((المؤمنون عند شروطهم)) وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه: ((الناس على شروطهم ما وافق الحق)) وليست العمدة على هذين الحديثين بل على ما تقدم.
وأجاب ابن القيم عما في بعض هذه الأحاديث من جهة السند، فقال: أما ضعف بعضها من جهة السند، فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف إن لم يكن عمدة (4) .
(1) جـ 1 ص386 - 388
(2)
الصف [2]
(3)
الوَأْي: الوعد، أو التعويض بالعدة من غير تصريح، وقيل: العدة المضمونة. والحديث مرسل
(4)
إعلام الموقعين جـ1: 386 - 388
نقل العلامة الزبيدي:
وقال العلامة " الزبيدي" في شرح القاموس في مادة " وعد ": " اختلف في حكم الوفاء بالوعد: هل هو واجب أو سنة؟ أقوال.
قال شيخنا: وأكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الخلف فيه، وكانت العرب تستعيبه وتستقبحه، وقالوا: إخلاف الوعد من أخلاق الوغد. وقيل: الوفاء سنة، والإخلاف مكروه، واستشكله بعض العلماء.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي بعد سرد كلام: وخلف الوعد كذب ونفاق وإن قل فهو معصية.
(وقد ألف الحافظ السخاوي في ذلك رسالة مستقلة سماها " التماس السعد في الوفاء بالوعد" جمع فيها فأوعى)(1) اهـ كلام الزبيدي.
وإذا كان وجوب الوعد والأمر بإنجازه، قال به مثل عبد الله بن عمر (الذي زوج ابنته لمن صدر منه شبه وعد له، حتى لا يلقى الله بثلث النفاق!) ومثل سمرة بن جندب من الصحابة، ومثل عمر بن عبد العزيز من التابعين، وهو معدود من الخلفاء الراشدين المهديين الذين يعض على سنتهم بالنواجذ، والحسن البصري الإمام المشهور، ومن بعدهم: ابن الأشوع الذي اعتد البخاري بذكره في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن معين: مشهور يعرفه الناس، كما في عمدة القاري (2) .. وابن شبرمة الفقيه الثقة العابد، وإسحاق بن راهويه شيخ البخاري، وأحد أئمة الحديث والفقه، وأمير المؤمنين في الحديث: محمد بن إسماعيل البخاري، كما يبدو من ترجمته للباب وعدم ذكره الرأي الآخر.... بالإضافة إلى ما نقلناه عن العلامة ابن القيم، وما هو معروف من مذهب الإمام مالك وبعض أصحابه، وخصوصا فيما كان له سبب ودخل الموعود من أجله في نفقة وكلفة.. فليس القائل به إذن قليلا، كما قال الحافظ رحمه الله، بل لعل الصحيح ما نقله الزبيدي عن شيخه: إن أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الخلف فيه.
وبهذا نرى أن نسبة القول بالإلزام بالوعد إلى بعض المالكية أو إلى ابن شبرمة فقط، فيه تقصير كبير في الاستقصاء.
(1) تاج العروس، شرح القاموس: مادة " وعد "
(2)
عمدة القاري للعيني جـ13، ص 258
وقفات ثلاث:
بعد البيان السابق ينبغي لنا أن نقف وقفات ثلاثا:
الأولى: في شبهات النافين للإلزام بالوعد، وما اعتمدوا عليه من نصوص مع وضوح الأدلة المصرحة بالوجوب والإلزام.
الثانية: فيما قيل من التفرقة بين العدة بالمعروف والصلة، والوعد في أمور المعاملات والمعاوضات، وأن الوعد في الأولى هو الذي قيل بوجوبه، أما في الثانية فلا.
الثالثة: في التفرقة بين ما هو واجب ديانة، أي بين المرء وربه، وما هو واجب قضاء، بمعنى أن من حق ولي الأمر أو القاضي أن يتدخل فيه ويلزم به.
فقد قال من قال: إنما نسلم أن الوفاء بالوعد والالتزام به واجب من الناحية الدينية والأخلاقية، ولكن لا حق للسلطة القضائية أو التقنينية أو التنفيذية في التدخل للإلزام به، أو المعاقبة على الإخلال به. وإن نشأ عن ذلك من الأضرار والخسائر ما لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون.
ولنناقش هذه النقاط الثلاث بغير تطويل.
شبهات النافين لوجوب الوفاء بالوعد:
لم أجد دليلا مقنعا يقاوم الأدلة الكثيرة المؤيدة للقول بوجوب الوفاء بالوعد، ولكن هناك بعض شبهات ذكرها بعض الفقهاء، أكتفي منها بما ذكره العلامة " القرافي " من أحاديث عارض بها النصوص الدالة على تحريم خلف الوعد، وهي أحاديث لا تقوى على معارضة هذه النصوص، لا من ناحية ثبوتها، ولا من ناحية دلالتها.
فقد ذكر هنا حديثين:
أولهما: حديث الموطأ: ((قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في الكذب ". فقال: يا رسول الله أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: " لا جناح عليك ".))
قال: فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل، فإن رضا النساء إنما يحصل به ونفى الجناح على الوعد، وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب. وثانيهما: أن إخلاف الوعد لا حرج فيه (1) . اهـ.
والحديث من ناحية سنده غير ثابت، قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من رواية صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلا.
وهو في " الموطأ" عن صفوان بن سليم معضلًا من غير ذكر عطاء (2) اهـ.
وأما من ناحية الدلالة، فقد ناقش العلامة ابن الشاط القرافي (في حاشيته على الفروق) . مناقشة جيدة في " الأمر الأول " يحسن الرجوع إليها. ولم أذكرها خشية الإطالة (3) .
(1) الفروق جـ 4: 21
(2)
انظر: تخريج العراقي في حاشية الإحياء، جـ3 ص 137، ط دار المعرفة، بيروت.
(3)
انظر: الفروق وحواشيه، جـ 4، ص 21، 22
أما الأمر الثاني، وهو أن إخلاف الوعد لا حرج فيه مطلقا، فهو غير مسلم؛ لأن الحديث جاء في علاقة الرجل بامرأته، ومن حرص الشارع على دوام المودة بين الزوجين أن رخص لهما ما لم يرخص لغيرهما، فأجاز شيئا من الكذب كما أجاز في الحرب والإصلاح بين الناس، وقد روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن أم كلثوم بنت عقبة:((أنها لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس: كذب، إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)) (1)
قال النووي في شرح الحديث:
قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذا الصور.
واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها: ما هو؟
فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة.
وقال آخرون: ما جاء من الإباحة في هذا، المراد به: التورية واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا، وينوي: إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه (2) اهـ.
وبهذا نتبين أن العلاقة بين الزوجين هنا موسع فيها، ولا يقول القرافي وغيره هنا بأن الترخيص في بعض الكذب هنا يعني أن الكذب لا حرج فيه بإطلاق.
وثاني ما استدل به القرافي هنا هو حديث أبي داود ((إذا وعد أحدكم أخاه، ومن نيته أن يفي فلم يف، فلا شيء عليه)) (3) .
(1) انظر: صحيح مسلم – كتاب البر والصلة: باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، حديث 2605
(2)
شرح النووي على مسلم جـ5، 464، 465، ط. الشعب
(3)
الفروق ج 4 ص 22
والحديث في سنن أبي داود بلفظ: ((إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)) (1) .
والحديث سكت عليه أبو داود، ولكن ذكر المنذري في مختصره عن أبي حاتم الرازي أن في سنده راويين مجهولين (أبو النعمان وأبو وقاص) وكذا رواه الترمذي وقال: حديث غريب وليس إسناده بالقوي. قال: ولا يعرف أبو النعمان وأبو وقاص وهما مجهولان (2) .
وكذا ضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث " الإحياء " فالحديث متفق على ضعفه.
ومثل هذا لا يحتج به في مقابلة الأدلة الأخرى الدالة على تحريم الخُلْف.
ومع هذا يمكن حمل هذا الحديث – كما قال ابن الشاط المالكي - على أنه لم يف مضطرا، جمعا بين الأدلة، مع بعد تأويل تلك الأدلة وقرب تأويل هذا (3) .
والحق أن العلامة القرافي في هذا الموضوع لم يكن على العهد به من التحقيق والتدقيق، ولهذا نجد العلامة ابن الشاط في حاشيته على " الفروق" المسماة " أدرار الشروق" يعقب على ما ذكره القرافي من اختلاف الفقهاء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟.. إلخ. بقوله: الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا، فيتعين تأويل ما يناقض ذلك، ويجمع بين الأدلة. على خلاف الوجه الذي اختاره المؤلف، والله أعلم (4) . اهـ.
(1) الحديث في السنن برقم 4995
(2)
انظر الحديث رقم 2635 من الترمذي
(3)
انظر: حاشية ابن الشاط على الفروق جـ4 ص 22
(4)
حاشية الفروق جـ4 ص 24، 25
الوعد بالمعروف والوعد في المعاوضات:
وأما النقطة الثانية، وهي ما قيل من التفرقة بين الوعد بالصلة والمعروف وأنه هو الذي قيل بوجوبه، وبين الوعد في شئون المعاملات والمبادلات المالية، وأن هذا لم يقولوا بوجوبه.
فيهمني أن أؤكد في هذا أمرين:
الأول: أن النصوص التي أوجبت الوفاء وحرمت الإخلاف، جاءت عامة مطلقة ولم تفرق بين وعد ووعد، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ولا دليل عند المعارض يخصص عمومها، أو يقيد إطلاقها. ولهذا قال ابن شبرمة بصريح العبارة: الوعد كله لازم.
الثاني: أنه إن كان لا بد من تفرقة بين النوعين- فالأمر يبدو لي على خلاف ما قيل تماما.
والذي أراه أن الخلاف المنقول في الوعد ولزوم الوفاء به عند المالكية وغيرهم قد يقبل فيما كان من باب البر والمعروف والإرفاق، على معنى أن من وعد إنسانًا بصلة أو خدمة يقدمها له قد يجري فيه الخلاف السابق؛ لأن أصله تبرع محض، ويستقبح منه على كل حال إخلافه، وهذا ما تعارف الناس عليه وعبروا عنه في نثرهم بمثل قولهم: وعد الحر دين عليه، وفي شعرهم بمثل قول من قال:
إذا قلت في شيء: " نَعَمْ " فأتمه
فإن " نَعَمْ " دين على الحر واجب!
وإلا فقل: " لا " فتسترح وترح بها
لئلا يقول الناس: إنك كاذب!
وهذا ما لم يدخل بسبب الوعد في ارتباط مالي، فإنه يشبه أن يكون تعاقدا ضمنيا..
ومن هذا ما تَعِدُ به الحكومات موظفيها من علاوات وترقيات وإعانات اجتماعية في حالة الزواج والإنجاب وغيرها.
وما تعد به الوزارات والمؤسسات العاملين فيها من مكافآت وحوافز لمن يقوم بجهد معين كعمل إضافي أو خدمة معينة، أو تحسين لمستوى العمل، أو نحو ذلك فيجب أن توفي به.
ومن ذلك عقد (الجعالة) فإنما هو وعد من (الجاعل) كأن يقول: من رد علي مالي المفقود، فله كذا.. فرده عليه، فيلزمه إعطاؤه ما وعد به.
ومن ذلك ما تعد به المؤسسات الثقافية من جوائز تمنحها لمن يستوفي شروط السبق في مسابقات علمية تعلن عنها، ومثلها المسابقات الرياضية ونحوها.
أما الذي ينبغي ألا يقبل الخلاف فيه، فهو: الوعد في شئون المعاوضات والمعاملات، التي يترتب عليها التزامات وتصرفات مالية واقتصادية، قد تبلغ الملايين، ويترتب على جواز الإخلاف فيها إضرار بمصالح الناس وتغرير به.
فالوفاء بالوعد هناك كالوفاء بالعهد. لهذا وضعت بعض الأحاديث: ((إذا عاهد غدر)) مكان ((إذا وعد أخلف)) فالمعنيان متلازمان أو متقاربان. وقد ذكر الغزالي في الاستدلال على وجوب الوفاء بالوعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . دلالة على أن الوعد داخل في " مسمى العقود ".
كما أدخل ابن القيم الوعود مع العقود والعهود والشروط جميعا في باب واحد، فكما أن المسلمين عند شروطهم، فهم كذلك عند وعودهم؛ لأنهم لا يقولون ما لا يفعلون.
ومن هنا أستغرب اتجاه د. الأمين، ود. الأشقر إلى عكس ذلك تماما، على حين رأينا المالكية الذين اعتمدا مذهبهم، يرجحون الإلزام بالوعد ديانة وقضاء إذا ترتب عليه شيء من الالتزام المالي، فكيف لا نتجه إلى القول بلزوم الوفاء إذا كانت المعاملة كلها قائمة من الأساس على التزام مالي متبادل؟
أما أن المالكية لا يقولون بالإلزام بالوعد في هذه الصورة بالذات، فلما عارضه- في نظرهم – من أدلة أخرى أوجبت منع هذه الصورة.
وقد بينا ضعف هذه الأدلة في موضع آخر، ولهذا لا يلزمنا تقليدهم هنا، ولا مانع أبدا من الأخذ برأيهم في الإلزام بالوعد، وعدم الأخذ برأيهم في بيوع الآجال، أو بيوع العينة.
على أننا قد وجدنا بحمد الله من غير المالكية من فقهاء الأمة من قال بالإلزام، فمن كان يرى أن رأي المالكية إما أن يؤخذ كله، وإما أن يترك كله، تركنا له رأيهم كله، ووسعنا أن نأخذ برأي الآخرين من القائلين بالإلزام، وهم عدد غير قليل.
التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء:
وأما النقطة الثالثة وهي التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، لاتخاذ ذلك ذريعة إلى أن وجوب الوفاء بالوعد من الناحية الدينية، لا يترتب عليه تدخل السلطات الشرعية للقضاء به، والإلزام بتنفيذه، فالواقع أن الأصل هو الإلزام بكل ما أوجبه الله ورسوله، وما مهمة السلطات إلا تنفيذ ما أمر الله به، ومعاقبة من خرج عليه بحكم مسئوليتهم الشاملة.
والذي يتضح لي أن الأعلام الذين نقلنا رأيهم في وجوب الوفاء بالوعد، لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، بل الظاهر من سيرهم وأحوالهم وطريقة تفكيرهم أن كل ما يلزم المسلم دينا وشرعا، يقضى به عليه ويجبر على فعله في حالة الأمر والوجوب، وعلى تركه في حالة النهي والتحريم.
يؤكد هذا أن بعضهم كان بيده سلطة الإلزام والقضاء بالفعل مثل عمر بن العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة، وإنما فرق الفقهاء بين الديانة والقضاء فيما له ظاهر وباطن، فيحكم القضاء بالظاهر، ويكل إلى الله السرائر، كما في حكم القاضي لمن هو ألحن بحجته، ومن شهدت له البينة ولو كاذبة، أو شهد له ظاهر الحال، وإن كان الواقع غير ذلك، فيجوز له أن يأخذ ما حكم له به قضاء لا ديانة.
وكذلك في بعض أحوال الطلاق ونحوه، قد يختلف القضاء عن الديانة، لاختلاف النية المكنونة عن الظاهر المشهود.. وهلم جرا.
وما قرره مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في " دبي " من " أن ما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه". يتفق مع اتجاه الشريعة الإسلامية في الإلزام بالواجبات الدينية المحضة وإشراك ولي الأمر في رعايتها، مثل الصلاة والصيام ونحوها مما شدد الشرع في فعله، وأوجب العقوبة على تركه، وإذا كان هذا في العبادات التي لها صفتها الدينية البارزة، فأولى من ذلك ما يتعلق بالعلاقات والمعاملات.
ومن المعروف أن عقوبة " التعزير " المفوضة إلى رأي الإمام، (ولي الأمر الشرعي) أو القاضي إنما محلها كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهذا باب واسع يستطيع القانون أو القضاء أن يدخل منه ليحاكم أو يعاقب على كل إهمال متعمد لواجب ديني، ومن ذلك ترك من يتعرض للهلاك بالجوع أو العطش أو الغرق أو الحريق أو غير ذلك دون أن يسعفه، فإن المذهب المالكي وغيره يحمله مسئولية جنائية بتركه لواجبه الديني.
ومثل ذلك النفقة على البهيمة والرفق بها، مما هو واجب ديني في الأصل، ولكن عند إهماله يمكن أن يلزم القضاء، كما يدخل في سلطة المحتسب.
وقانون " الوصية الواجبة " الذي أخذت به بعض البلاد الإسلامية إنما أرادت به إلزام الأجداد قانونا، بما كان يجب أن يراعوه ديانة، نحو أحفادهم الذين ليس لهم نصيب من الميراث في تَرِكَتِهِم لموت آبائهم في حياتهم، فجمعوا بين اليتم والحرمان فألزموا بالوصية لهم وفقا للآية الكريمة في صورة البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .
عقد الاستصناع عند الحنفية:
والخلاف في موضوع الوعد ومدى إلزامه، يشبه الخلاف الذي جاء في الفقه الحنفي حول " الاستصناع" الذي اتفق أئمة المذهب على جوازه، واعتباره بيعا صحيحا، برغم أنه بيع لمعدوم وقت العقد، ولكنهم أجازوه استحسانا، لتعامل الناس به الراجع إلى الإجماع العملي الممتد من عهد النبوة إلى اليوم بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة- كما قال ابن الهمام - أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (1) اهـ.
ثم اختلف مشايخ المذهب في تكييفه: أهو مواعدة أم معاقدة؟
فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة، وصاحب المنثور اعتبروه مواعدة، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه.
قال ابن الهمام: والصحيح من المذهب جوازه بيعا.. إلخ..
وإذا أتم صنع الشيء المطلوب فالمستصنع (بكسر النون) بالخيار إذا رآه: إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى ما لم يره ولا خيار للصانع؛ لأنه بائع باع ما لم يره، ومن هو كذلك فلا خيار له، وهو الأصح بناء على جعله بيعا لا عِدَة في رواية عن أبي حنيفة: أن له الخيار أيضا دفعا للضرر عنه؛ لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر.
وعن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما، أما الصانع فلما ذكرنا (أنه بائع باع ما لم يره) ، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله (أي بتحويله من مادة خام إلى مصنوعات) ليصل إلى بدله، فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع؛ لأن غيره لا يشتري بمثله. ألا ترى أن الواعظ إذا استصنع منبرا فالعامي لا يشتريه أصلًا (2) ؟
وهذا التعليل والتمثيل يرينا بوضوح كيف كان فقهنا يعيش في قلب الحياة العملية.
وقد عدلت " مجلة الأحكام العدلية" الشهيرة في مسألة " الاستصناع " عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع، وإن جاء مستوفيا كل المواصفات المتفق عليها، وتبنت قول أبي يوسف في عدم الخيار وإلزامه بأخذ المستصنع. وهذا ما نصت عليه المادة 292 من المجلة. وقد جاء في التقرير الذي قدمت به ما يأتي: -
" وعند الإمام الأعظم (أبي حنيفة) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع، وعند الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وجد المصنوع موافقا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة.. لزوم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا، مراعاة لمصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة ".
هذا وبالله التوفيق
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور / يوسف القرضاوي
(1) شرح فتح القدير على الهداية لابن الهمام جـ5 ص 355
(2)
شرح العناية على الهداية للبابرتي جـ5 ص 256