المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

‌تغير قيمة العملة

إعداد

أ0 د يوسف محمود قاسم

أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية

كلية الحقوق – جامعة القاهرة

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك ومسك بشرعه إلى يوم الدين.

اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واجعلنا ممن اهتدى بك فهدى.

ثم إن " تغير قيمة العملة " موضوع خطير جدا والكتابة فيه تحتاج إلى حذر كبير فالموضوع حديث معاصر (1) ليس فيه بخصوصه نص من كتاب أو سنة ولا أثر عن صحابي بل ولا رواية عن تابعي أو قول لأحد الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين.

وهو أيضًا وثيق الصلة بالمعاملات المصرفية المعاصرة والتي ترتبط بحياة الناس في عقودهم وسائر معاملاتهم وما أكثر الشبهات التي تحوم حول كثير من المعاملات ذات الأثر الممتد أو بتعبير آخر حول عقود المدة أو بيوع الآجال.

وأخطر من ذلك كله أن الكتابة في هذا الموضوع قد تفتح بابا كبيرا للشر فقد يبدو للبعض أن تغير قيمة العملة أو ما نلمسه في الوقت الحاضر من انهيار لقيمة النقود ربما يدعوهم إلى التوقف كثيرا أمام تحريم الربا.

وهذا اخطر ما تتعرض له الأمة في دينها فالحق الذي لا مراء فيه أن الشريعة الإسلامية هي المتبوعة وليست التابعة.

وعلى ذلك فلا يصح لمسلم أن يقول فلنطور فقهنا حسب أحوالنا وإنما الإيمان الصادق يوجب علينا أن نغير أحوالنا وأعمالنا إلى ما يرضي الله تعالى بتطبيق شريعته الغراء (2) نظرا لهذه المحاذير فإني أوجز القول في هذا الموضوع مركزا على أمرين هما: ثبات النقود، ولماذا تتغير قيمتها في العصر الحديث؟ والأثر الناتج عن تغير قيمة النقود.

(1) بالنسبة لمشكلة النقود الورقية التي تعانى المجتمعات المعاصرة من تدهور قيمتها.

(2)

فالمسلمون تابعون للشريعة الإسلامية وحاشا لله أن تكون الشريعة تابعة لأهواء الناس ورغباتهم وعندما كان المسلمون يطبقون شريعة الله كانوا هم سادة الدنيا وأصحاب الكلمة النافذة فيها ولكن لما غيروا ما كانوا عليه من طاعة الله ورسوله وحكموا بغير ما أنزل الله تغيرت أحوالهم وانقلبت أوضاعهم سنة الله التي قد خلت في عباده وصدق الله العظيم إذ يقول {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة الأنفال: الآية رقم 53) إنه عدل الله في معاملة العباد فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ويبدلوا سلوكهم ويقلبوا أوضاعهم ويستحقون أن يغير ما بهم مما عطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدرها ولم يشكروها ومن جانب آخر فإنه يُكرِّم المخلوق الإنساني أكبر تحريم حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله، ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم. ومن الجانب الثالث فإن النص الكريم يلقى تبعة عظيمة تقابل التكريم العظيم على هذا الكائن – الإنسان – فهو يملك أن يستبقى نعمة الله عليه ويملك أن يزاد عليها إذا هو عرف فشكر. كما يملك أن يزيل هذه النعمة إذا هو أنكر وبطر وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه، (في ظلال القرآن: 3/1535-1536) .

ص: 1285

الفصل الأول

ثبات قيمة النقود وما يؤثر فيه

-

الأصل أن تكون النقود ثابتة القيمة بحكم وظيفتها وبحكم التاريخ والواقع ولكنا نشاهد في زماننا تغيرا في قيمة النقود بل انهيارا في هذه القيمة فما السبب في ذلك؟

الأصل ثبات قيمة النقود:

النقود هي التي تحكم معاملات الناس وتضبطها بحيث يأخذ كل ذي حق حقه فالعلاقة بين البائع والمشتري وبين المؤجر والمستأجر وكل علاقة بين متعاقدين إنما تحكمها القيمة النقدية لما يملكه كل طرف من أطراف هذه العلاقة.

ولذلك فقد استقرت البشرية من قديم الزمن على اتخاذ النقود من أنفس المعادن التي يمكن تداولها بين الناس حتى تظل قيمتها ثابتة لا تغيير إذ لا يعقل أن يكون المقياس أو الضابط للتعامل شيئا غير ثابت.

وبالنظر إلى ثبات قيمة الذهب والفضة فإن الناس قد اتخذوهما نقودًا من قديم الزمن وقد استقرت البشرية على ذلك القرون الطوال حتى أن كثيرا من الفقهاء يقولون: أن الذهب والفضة هما أثمان بحكم الخلقة. أي أن الله تعالى خلقهما ليكونا أثمانا وهذا هو الإمام الغزالى يقرر هذا المعنى فيقول رحمه الله:

(من نعم الله تعالى (1) خلق الدراهم والدنانير وهما حجران لا منفعة في أعيانهم ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلابد بينهما من معاوضة ولابد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الجمل والزعفران حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلابد أي أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال: هذا الجمل يسوى مائه دينار وهذا القدر من الزعفران يسوى مائة فهما من حيث انهما متساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل (2) بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يتقض في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر.

(1) يتكلم الإمام الغزالي رحمه الله عن هذا الموضوع في مقام استدلاله على أن من يستعمل شيئا من نعم الله تعالى في غير طاعته فقد كفر بهذه النعمة.

(2)

إحياء علوم الدين: 12/2219-2220 طبعة الشعب. ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الحكمة) : ص 2221.

ص: 1286

فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب المطعم في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا. فاحتيج إلى شيء هو صورته كأنه ليس بشيء، وهو معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكى كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره فهذه هي الحكمة الثانية) ولذلك فلا يتصور أن تثور أدنى مشكلة بل ولم تكن البشرية في معظم عصورها تعرف عما يسمى تغير قيمة النقود لأن النقود بذاتها ثابتة كما خلقها الله لذلك واتخذها الناس بحكم الخلقة هكذا.

ص: 1287

ظهور النقود الورقية:

وبمرور الزمن توسعت العلاقات التجارية وأخذت تتجاوز نطاق الأفراد إلى مجال المعاملات الدولية ذات الصفات التجارية الكبرى ونظرا لصعوبة نقل الذهب والفضة بكميات كبيرة من دولة إلى أخرى أو من مكان بعيد إلى آخر فكر التجار في إصدار أوراق تحمل تعهدا بالوفاء بالتزاماتهم النقدية مع المتعاملين معهم في الوقت الذي يؤيدون فكانت هذه الأوراق النقدية ضمانا ماليا لحقوق المتعاملين، فظهرت بذلك النقود الورقية وأصدرت البنوك أوراق البنكنوت تسهيلا للمعاملات بل أن النقود الورقية منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي أصبحت منافسا قويا للمسكوكات السلعية النقود المعدنية وإن بقى النوع الأخير من النقد متداولا في معظم البلدان حتى الحرب العالمية الأولى وبعد إعلان هذه الحرب سنة 1914فرضت معظم الدول السعر الإلزامي للنقود الورقية أخذة في سحب الذهب من التداول إما لاستعماله في شراء عتاد الحرب وإما للاحتفاظ به رصيدا للنظام النقدي لا يستعمل إلا لضرورة تثبيت قيمة النقد في الخارج وهكذا اختفى الذهب المسكوك من التداول النقدي منذ ذلك التاريخ (1)

وصارت الأوراق النقدية المصدرة من الدولة في صورة نقود وهي ليست في الواقع ذات قيمة في حد ذاتها لكن قيمتها في اعتماد الدولة لها فصارت ملزمة للناس بديلة عن الذهب والفضة فهي بمنزلتهما وتحل محلهما بحكم القوانين السارية في كل دولة (2)

(1) الأستاذ الدكتور محمد زكى الشافعي: مقدمة في النقود والبنوك: ص 49 طبعة 1982.

(2)

وذلك على الرغم من أن الذهب والفضة أثمان بحكم الخلقة أما لنقود الورقية فهي أثمان بحكم القانون

ص: 1288

وهذا الحكم الشرعي الذي لا يصح غيره إن شاء الله أما القول بأن النقود الورقية سندات ديون على الجهة التي أصدرتها للتعهد المسجل بقيمتها لحاملها عند الطلب فإنه قول مخالف للواقع لأن كثيرا من الدول ألغت هذا التعهد وحتى بالنسبة للدول التي لم تصدر قرارا بإلغائه لم يعد لهذا التعهد أدنى أثر من الناحية العملية فهو مجرد " نقش على ورق " وندعوا أصحاب هذا القول أن يتقدم أحدهم بورقية نقدية إلى الجهة صاحبة التعهد: بنك مركزي أو مؤسسة نقد مثلا " طالبا الوفاء بقيمتها ذهبا فإن وجد من يرد عليه فليخبرنا وإن وجد من يضحك عليه فلا يخبرنا وأما القول بأن النقود الورقية عرض من عروض التجارة فالرد عليه من وجهين: الأول أن عروض التجارة تقوم بالنقود الورقية فكيف إذن يقوم الشيء بنفسه؟ هذا غير متصور. الثاني: أنه يؤدي إلى نتائج في غاية الخطورة منها هدم القاعدة الشرعية في أحكام الربا ومنها هدم الركن الثالث من أركان الإسلام وهي فريضة الزكاة ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا يصح القول بأن النقود الورقية تأخذ حكم الفلوس لأننا نرى والله أعلم أن دور الفلوس بجانب الذهب والفضة كان دورا جانبيا إلى أبعد الحدود أما النقود الورقية فلم تظهر إلا لكي تحل محل الذهب والفضة فمحلها إذن الدور الرئيسي الفعال بل يكاد يكون هو الدور الوحيد في هذا الزمن فقد أصبحت كل دولة تعطى نقدها قوة إلزامية واحدة حتى أن النقود المعدنية المتداولة الآن والتي تتمثل في وحدات صغيرة من النقد تراها مقدرة قانونا بالقيمة الثابتة أصلا للنقود الورقية فقروش الجنيه المصري تابعة له ومرتبطة به وقروش الريال السعودي تابعة له ومرتبطة به وفلسات الدينار الكويتي تابعة له ومرتبطة به وهكذا القول في سنتات الدولار الأمريكي وغيره من العملات الأخرى وأخيرا هناك من قال: إن النقود الورقية بدل عن الذهب والفضة وللبدل حكم البدل منه مطلقا وهذا أقرب الأقوال إلى الصواب دون شك ولعل كلمة مطلقا هي الملحوظة الوحيدة على هذا القول إذ لا ريب أن النقود الذهبية ذهب وأن النقود الفضية فضة وأن النقود الورقية ورق " بفتح الراء " فالنقود الذهبية والفضية أثمان بحكم الخلقة كما سبق لنا البيان أما النقود الورقية فهي نقود بحكم القانون وقد أشار فضيلة الدكتور عبد الله بن سليمان بن مينع إلى هذا القول مبينا أن أصحابه بنوه على أن النقود الورقية إن كان له غطاء كامل من الذهب فلها حكم الذهب وإن كان غطاء كامل من الفضة فلها حكم الفضة وحيث إن الوقع خلاف ذلك وإن غالب الأوراق النقدية مجرد أوراق وثيقية قيمتها مستمدة من سن الدولة التعامل بها وتلقى الناس إياها بالقبول وإن القليل المغطى لا يلزم أن يغطى بالذهب والفضة بل قد يغطى بغيرهما من عقار أو أوراق مالية فقد ظهر لنا أن هذه النظرية تفتقر إلى ما يسندها من دنيا الواقع. يراجع في عرض هذه الأقوال ومناقشتها والرد عليها: فضيلة الدكتور عبد الله بن سليمان بن منيع: الورق النقدي: ص 45 – 81 طبعة سنة 1404 هـ. فقد جاء في المدونة الكبرى في باب التأخير في صرف الفلوس:

ص: 1289

قلت: أرايت إن اشتريت فلوسا بدراهم فافترقنا قبل أن نتقايض قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد قال لي مالك في الفلوس لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون له سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة (1) وجاء في مجموع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت (2) وقد سبق أن أشرنا إلى عبارات الغزالي وابن خلدون (3) رحمهما الله تعالى ولذلك فلا نستغرب إذا وجدنا هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية تبحث هذا الموضوع وتؤكد أن الورق المتداول الآن يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة (4) وقد استعرض مجمع الفقه الإسلامي هذا الموضوع واصدر القرار رقم (6) بالدورة الخامسة المنعقدة في مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فيما بين 8-16 ربيع الثاني 1402هـ وقد جاء في هذا القرار.

(1) المدونة الكبرى – المجلد الثالث: ص 90-91 طبعة سنة 1398 هـ

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " 19/251 طبعة مطابع الرياض الورق النقدي: ص 20-21

(3)

عند الكلام عن ثبات قيمة النقود

(4)

قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (10) بدورتها الثالثة المنعقدة بتاريخ 1/4/1393 هـ 17/4/1393 هـ

ص: 1290

أولا: إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هو مطلق الثمنية في اصح الأقوال عند فقهاء الشريعة وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة وإن كان معدنهما هو الأصل وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنا وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها وبها تقوّم الأشياء في هذا العصر لاختفاء التعامل بالذهب والفضة وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها ويحصل الوفاء والإبراء العام بها رغم أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما في أمر خارج عنها وهو حصول الثقة بها باعتبارها وسطا في التداول وذلك هو سر مناطها بالثمنية وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وهي متحققة في العملة الورقية ولذلك كله فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة فتجب الزكاة فيها ويجري الربا عليها بنوعيه فضلا ونساءً كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماما باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها (1)

(1) ومن تمام هذا القرار: ثانيا: يعتبر الورق النقدي نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان كما يعتبر الورق النقدي أجناسا مختلفة تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس وأن الورق الأمريكي جنس وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته وبذلك يجري فيها الربا بنوعية فضلا ونساء كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان وهذا كله يقتضي ما يلى: أ- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقا فلا يجوز مثلا بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلا نسيئة بدون تقايض. ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد فلا يجوز مثلا بيع عشرة ريالات سعودية ورقا بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا نسيئة يدا بيد. ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد بيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ذهبا كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر إذا كان يدا بيد ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاث ريالات سعودية ورق أو أقل من ذلك أو أكثر يدا بيد لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. ثالثا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. رابعا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم والشركات والله أعلم.

ص: 1291

ما يؤثر في ثبات القيمة:

عندما ظهرت أوراق البنكنوت ذات التعهد عند الطلب لم تكن هنالك مشكلة حول قيمة العملة لأن هذه الأوراق توجب على البنك الذي أصدرها تعهدا بأن يدفع عند الطلب القيمة الذهبية التي تمثلها تلك الورقة فهي إذن تحل محل الذهب في سهولة نقلها وقيمة الذهب محفوظة لكن عندما فصلت كثير من الدول بين غطائها من الذهب وبين أوراقها النقدية وأخذت البنوك المركزية أو مؤسسات النقد تصدر أوراقها النقدية خالية من التعهد عند الطلب صارت الورقة النقدية مجردة من غطائها الذهبي ولا تستمد قوتها إلا من قوة الدولة التي أصدرتها ولذلك فإنه إذا ما اهتز اقتصاد دولة ما فإن عملتها تهتز تبعا لذلك ولما كانت الحروب ذات اثر سيئ جدا على الاقتصاد فإنه بقيام الحرب العالمية الثانية بذات القوة الشرائية للنقود تتناقص شيا فشيئا إلى أن أصبحت في كثر من الدول النامية متدنية غاية التدني بل هي في الواقع متدهور أو منهارة.

ص: 1292

أسباب تدهور قيمة النقود في العصر الحالي:

يعبر الاقتصاديون المعاصرون عن انخفاض القوة الشرائية للنقود بتعبير التضخم وهو في صورته الغالبة: (ارتفاع متواصل في الأسعار إنما يتولد عن زيادة حجم تيار الإنفاق النقدي بنسبة أكبر من الزيادة في عرض السلع والخدمات)(1) وبنظرة موضوعية إلى واقع الدول المسماة بالنامية نجدها غرقى إلى أذنيها في براثن التضخم وذلك للأسباب الآتية:

1-

التعامل الربوي (2) الذي هو عبارة عن زيادة في النقود بدون عمل مثمر فالنقود في ظل النظام الربوي تلد نقودا بغض النظر عن الإنتاج وهذه الزيادة في حجم النقود هي بذاتها زيادة في تيار الإنفاق النقدي تفوق كثيرا الزيادة في عرض السلع والخدمات (3)

2-

قلة الإنتاج وضعف الاقتصاد وكلا التعبيرين يغنى عن الآخر فإذا تواكل الناس وقصروا في أعمالهم أدى ذلك لا محالة إلى انهيار اقتصادي في هذا الإقليم الذي يقيم فيه هؤلاء الناس وحيث لا إنتاج فلا تقدم في الاقتصاد فيزيد الإنفاق النقدي من غير مقابل في الخدمات فترتفع الأسعار وتتناقص القوة الشرائية للنقود، وواقع الدول النامية يؤكد ارتباط كل من السببين بالآخر فالدول ضعيفة الإنتاج تغطى احتياجاتها بالقروض الربوية هكذا تتضاعف عوامل التضخم من الوجهين المذكورين.

3-

أضف إلى ذلك وفي كل عام تقريبا عند النظر في الموازنة العامة تجد الدولة النامية نفسها في مأزق لا مخلص لها منه إلا بأن تطبع ملايين وربما مليارات من النقود الورقية بدون غطاء ذهبي هي تحدث زيادة رهيبة في حجم الإنفاق النقدي دون أي مقابل في السلع والخدمات فقط لمجرد أن تخفف الدولة من بعض مواقفها الحرجة بجانب التزاماتها المدينة التي تفوق كل حد.

وهكذا صح ما قلنا أولا من أن القوة الشرائية للنقود في كثير من الدول وعلى الأخص الدول النامية لم تنخفض فقط ولكنها تدنت غاية التدني بل وتدهورت إلى أبعد الحدود.

(1) شافعي – المرجع السابق: ص 135 وجاء في هذا الموضع: فلا الزيادة في كمية النقود وحدها ولا الزيادة في تيار الإنفاق النقدي من حيث هي بمؤدية بالنظام الاقتصادي لا محالة إلى التضخم فقد يعوض انخفاض سرعة تداول النقود عن الزيادة في كمية النقود بحيث يبقى الحجم الكلى لتيار الإنفاق النقدي على حاله وبعبارة أخرى قد تأتى الزيادة في كمية النقود مصحوبة بعزوف من جانب الأفراد والمشروعات عن الإنفاق بما يترتب على ذلك من عدم حدوث تغيير يعتد به في حجم الإنفاق النقدي. ويفسر هذا ما منيت به السلطات النقدية في الولايات المتحدة من فشل عندما حاولت رفع الأسعار وإنعاش الأحوال الاقتصادية عن طريق زيادة كمية النقود خلال الأزمة المالية الأخيرة.

(2)

وهذا ملحوظ بصورة ظاهرة في الدول المسماة بالنامية حيث تثقل الديون كاهل هذه الدول فضلا عن الربا الفاحش الذي أصبح عبئا رهيبا لا طاقة لهذه الدول به

(3)

وهذا ملحوظ بصورة ظاهرة في الدول المسماة بالنامية حيث تثقل الديون كاهل هذه الدول فضلا عن الربا الفاحش الذي أصبح عبئا رهيبا لا طاقة لهذه الدول به

ص: 1293

الفصل الثاني

أثر تغير قيمة العملة

تبدو الأهمية العملية لأثر تغير العملة في العقود الآجلة وأظهر هذه العقود بالنسبة لتلك الأهمية القرض والبيع الذي تأجل دفع ثمنه.

والمرجع الوحيد الذي أمكننا الاطلاع عليه في هذا الموضوع: هو رسالة العلامة ابن عابدين الفقيه الحنفي المعروف حيث كتب رحمه الله رسالة أسماها: " تنبيه الرقود على مسائل النقود "(1) وقد جمع في هذه الرسالة ما وصل إليه من كلام الأئمة رضوان الله عليهم.

وقد بدا كلامه عن البيع المؤجل وتعرض من خلاله إلى أثر تغير العملة في حالة الاستقراض أيضًا.

ثم ختم رسالته ببحث الأوامر السلطانية التي تصدر بتغيير قيمة بعض العملات.

وفي هذا الفصل نحاول بحث أثر تغير العملة في الظروف العادية ثم نتكلم عن التغير بناء على قرار تصدره الدولة وذلك في مبحثين على التوالي:

المبحث الأول

أثر تغير العملة في الظروف العادية

مقصودنا بالظروف العادية تلك الظروف التي تتغير فيها قيمة العملة دون صدور قرار رسمي من الدولة في هذا الشأن.

فهو إذن تغير تلقائي حسب قوة العملة مرتبط باقتصاد الدولة ومدى ما تملك من ثروات وهذه الحالة هي التي بدأ ابن عابدين كلامه عنها في رسالته المشار إليها وهو لم يتكلم عن تغير قيمة النقود عموما وإنما تكلم عن الفلوس والدراهم الغالبة الغش.

فإذا أبرم عقد البيع بنقد بلد من هذه الفلوس أو هذه الدراهم ولم يدفع الثمن حتى بطل التعامل بهذه الفلوس وأصبحت غير رائجة في هذا البلد فإن البيع يفسد لأن الثمن قد هلك أما إذا كانت الفلوس رائجة لكن انتقصت فيمتها فإن البيع لا يفسد لأن الثمن لم يهلك والحكم عند أبي حنيفة أن المشتري يدفع الثمن المتفق عليه وعند أبي يوسف أنه يدفع قيمته يوم القبض وكذلك الحال عند الانقطاع (2)

(1) مجموعة رسائل ابن عابدين "2/57-67

(2)

المراد بالانقطاع: انقطاع الفلوس بأن أصبحت غير موجودة في أيدي الناس بحيث لا يستطيع المشتري أو المستقرض الحصول عليها.

ص: 1294

ثم لخص ابن عابدين حكم انقطاع الفلوس ورخصها وغلائها في العبارة الآتية حيث يقول (واعلم أن في الانقطاع قولين: فساد البيع كما في صورة الكساد. والثاني أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار وكذا في الرخص والغلاء قولان: الأول / ليس له غيرها والثاني: له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى)(1) فيجب أن يعول عليه إفتاءً وقضاءً لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله لأنه مرجوح بالنسبة إليه (2) .

وقد أكد ابن عابدين أن الخلاف المشار إليه لا يجري في الذهب والفضة وهو في هذا ينقل عن علماء الحنفية قولهم: (وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشريفي والبندقي والمحمدي والريال فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص بأن باع ثوبا بعشرين ريالا أو استقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص (3) .

ومن هذا يظهر لنا الفارق الكبير بين الذهب والفضة من ناحية وبين الفلوس والدراهم المغشوشة (أو الغالبة الغش) من ناحية أخرى ذلك أن الذهب والفضة أثمان بحكم الخلقة فلا مجال للتغير بشأنهما (4) وهذا بخلاف الفلوس ونحوها فإنها ليست كذلك وعلى حد عبارة ابن عابدين رحمه الله: (لأن الفلوس والدراهم الغالبة الغش أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة فإذا انتفى الاصطلاح انتفت المالية)(5) .

(1) ابن عابدين المرجع السابق " ص 60.

(2)

ابن عابدين المرجع السابق " ص 60.

(3)

ابن عابدين المرجع السابق: ص 64

(4)

فعلى مدى أربعة عشر قرنا من الزمان لا تكاد تجد تغيراً يذكر بالنسبة للدينار الذهبي

(5)

المرجع السابق: 2/64

ص: 1295

تغير قيمة العملة:

لم يكن في عهد ابن عابدين عملة ورقية كما هو معروف ولا شك أن العملة الورقية تتغير قيمتها بالانخفاض غالبًا وكثيرًا ما تتدهور هذه القيمة إلى أبعد الحدود كما سبق أن بينا.

ونحاول هنا أن نبحث عن حكم تغير العملة الورقية في الظروف العادية كما هو موضوع المبحث. وإذا ما أردنا تطبيق هذه القواعد على تغير العملة الورقية فإننا نفصل القول على النحو الآتي:

أولا: بالنسبة لعدم رواج العملة أو انقطاعها: فهذا غير وارد بالمرة في هذا العصر (1) إذا لا بد في كل دولة من عملة نقدية معتمدة فيها يلتزم رعاياها بالتعامل بها.

وحتى في الظروف الخاصة لبعض الدول التي تجد فيها الدولة نفسها في حاجة إلى إلغاء ورقة نقدية معينة فإنه توجد بالضرورة أوراق نقدية أخرى يتعامل بها الناس أو تصدر الدولة ورقة نقدية أخرى بديلة وكذلك عندما يرى البنك المركزي أو مؤسس النقد أن ورقة نقدية تكاد تختفي من أيدي الناس أما لاستهلاكها أو لاختفائها فإن البنك أو المؤسسة تسارع بإصدار مزيد من هذه الورقة تبعًا لحاجة التعامل التي تقدرها.

ثانيا: أما بالنسبة لتغير قيمة الورقة النقدية فهذا ما تعاني منه المجتمعات المعاصرة وعلى الأخص في الدول النامية.

وما نقله ابن عابدين رحمه الله عن أئمة الحنفية من أن في رخص الفلوس قولين: ليس له غيرهما. أولهما قيمتها من الذهب عند العقد وعليه الفتوى هذان القولان هما في الفلوس أو الدراهم الغالبة التي ولا تزال عبارة ابن عابدين أمامنا حيث قال: (وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف يجرى في الذهب والفضة)

وقد يقال: أنك قد انتهيت في الفصل السابق إلى أن النقود لورقية تحل بالضرورة محل الذهب والفضة وتأخذ نفس الحكم وعليه فلا يجوز الأخذ بمذهب أبي يوسف في انخفاض العملة الورقية لأنها بديلة عن الذهب والفضة.

والذي يظهر لي - والله أعلم - أن النقود الورقية وإن كانت بديلا عن الذهب والفضة، ولكن ليس ذلك على إطلاقه.

وإذا كان الحنفية يقولون إن الذهب والفضة أثمان بحكم الخلقة والفلوس أثمان بالاصطلاح فإننا نقول إن النقود الورقية أثمان بحكم القانون الملزم فهي إذن تأخذ حكم الذهب والفضة في الثمنية وسائر الالتزامات الشرعية ولكن نظرا لأنها ليست كذلك بحكم الخلقة فإن ذلك يدعونا إلى الاستعانة بالله تعالى والتفكير مليا لعله سبحانه يوفقنا إلى الحكم الشرعي الذي يرضيه.

وبناء على ما تقدم وأخذا في الاحتياط فإنى أرى - والله أعلم - التفرقة بين حالتين:

(1) القرن الخامس عشر الهجري

ص: 1296

الحالة الأولى – الوفاء في الموعد المتفق عليه:

إذا أبرم عقد بيع بثمن مؤجل (1) وحدد الطرفان موعدا لدفع الثمن أو إذا اقترض شخص من آخر مبلغا معينا وتحدد للوفاء به موعد معين ثم قام المدين (بالثمن أو بالقرض) بوفاء ما عليه في الموعد المحدد فإنني أرى - والله أعلم - أنه لا ينبغي أن تثار مشكلة تغير قيمة العملة في هذه الحالة لأن الوفاء تم حسب الاتفاق فانتهى الالتزام.

ولا يقال إن المدة قد تكون طويلة وانخفاض العملة في هذه الحالة قد يكون ضارا بالدائن لأننا نقول: أن الدائن نفسه هو الذي حدد الموعد (2) ورضي الطرفان بذلك سلفا ومعروف لدى الناس في هذا الزمان الارتفاع الجنوني في الأسعار الذي هو في حقيقته تغير قيمة العملة فالدائن يعرف ذلك تماما وإذن فلا داعي لأن تثير مشاكل حيث لا إشكال.

(1) حسب القواعد الشرعية

(2)

تبعا للغالب من الأمور فالطرف القوى هو الذي يتحكم في تحديد الموعد

ص: 1297

الحالة الثانية – عدم الوفاء في الموعد المحدد:

أما إذا تخلف المدين عن الوفاء في الميعاد المحدد فإن ذلك يستدعي أن نفرق بين صورتين:

(أ) إذا كان عدم الوفاء تعذرا قهريا فإن الحكم هنا واضح بنص القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) .

فالدائن مأمور بأنظار المدين المعسر إلى حين اليسار بل ومدعو إلى التنازل عن أصل الدين صدقة لوجه الله تعالى لقوله جل شأنه {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .

(1) سورة البقرة: الآية 280

(2)

سورة البقرة: الآية 280

ص: 1298

(ب) أما إذا كان المدين قادرا على الوفاء ولكنه يماطل فهو ظالم بنص الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغنى ظلم)) (1) وهو مسئول عن هذا الظلم في الدنيا والآخرة ولاشك أن مسئوليته في الآخرة موكولة إلى الله تعالى وحده. وأما المسئولية الدنيوية فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) (2) . والمراد من ((ليّ الواجد)) التواؤه ومماطلته بالرغم من أنه يجد ما يسدد به ويدفع منه لصاحبه فهذا الموقف منه يحل عرضه وعقوبته وقد فسر البخاري رحمه الله العرض بأن يقول: أنه مطلني، أو لم يعطني حقي أو أكل مالي إلى غير ذلك بمعنى أن يذكر الظلم الذي وقع منه والتعنت في الوفاء والطرق الملتوية التي سلكها أو حاول سلوكها معه في خصوص ما عليه من دين إذ المظلوم لا يجوز أن يذكر ظالمه إلا بالنوع الذي ظلمه دون غيره (3) .

وأما عن عقوبته فالمراد منها أن القاضي له أن يعزره لامتناعه عن الوفاء مع قدرته عليه وهذا التعزير قد يصل إلى حبسه (4) .

وعلى ذلك فأرجو ألا يكون هنالك مانع من الحكم عليه بتعويض الدائن عن الأضرار التي لحقت به وعلى الأخص في هذه الصورة التي معنا حيث تسبب المدين المماطل في إلحاق الضرر بالدائن حيث انخفضت قيمة العملة وانتقص دون شك حق الدائن.

(1) أخرجه الشيخان والأربعة

(2)

أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وصححه الحاكم

(3)

لقوله سبحانه {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}

(4)

سبل السلام للصنعاني 3/55 طبعة سنة 1369 هـ وهو دليل تمسك به القائلون بإباحة حبس المدين المماطل بلا عذر حتى يقضي ما عليه من دين وأجاز جمهور الفقهاء للحاكم أن يحجر عليه وأن يبيع ماله رغما عنه لسداد ما عليه من ديون غير أن الفقهاء اختلفوا حول القدر الذي يصير به المماطل فاسقا فذهب الجمهور إلى أنه لا يفسق إلا إذا ماطل بما قيمته عشرة دراهم قياسا على نصاب السرقة وذهب الهادوية وبعض المالكية والشافعية إلى أنه يصير فاسقا بمماطلته في أداء ما يقل عن ذلك إلا أن فريقا من هؤلاء اشترط تكرار المماطلة حتى يصير فاسقا (المرجع السابق نفس الموضع)

ص: 1299

المبحث الثاني

تغير قيمة العملة بقرار من الدولة

وهذه الحالة أيضًا تناولها ابن عابدين رحمه الله تعالى فقال: (ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائجة بالنقص واختلف الإفتاء فيه والذي استقر عليه الحال الآن (1) : دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق) (2) .

(أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعا والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد)(3) .

وهو رحمه الله يفرق في هذا النص بين أمرين:

الأمر الأول: إذا اتفق الطرفان المتبايعان أو المقرض والمقترض على الوفاء بعملة معينة فإنه يجب دفع النوع الذي وقع عليه العقد.

فلو كان الثمن مائة جنيه مصري أو ثلاثمائة ريال سعودي فإنه يجب الالتزام بما اتفق عليه الطرفان بغض النظر عما صدر من أوامر أو قرارات بتخفيض قيمة الجنيه أو الريال.

الأمر الثاني: إذا لم يحدد المتعاقدان عملة معينة فإن الخيار هنا للدافع (المشتري أو المقترض) حيث يجوز له الوفاء بأي عملة شاء.

والواقع الآن (4) أن هذه الحالة التي تكلم عنها ابن عابدين لا وجود لها في زماننا – أوائل القرن الخامس عشر الهجري –.وإذا كان ابن عابدين قد تلكم عنها فما ذلك إلا إنها سائدة ومنتشرة في عهده رحمه الله (5) .

فقد كان الاتفاق يتم على بيع سلعة بمائة جنيه مثلا دون بيان نوع هذا الجنيه هل هو شريفي أو محمدي أو بندقي (6)

(1) منتصف القرن الهجري الثالث عشر فقد توفي ابن عابدين رحمه الله عام 1252 هـ

(2)

ابن عابدين المرجع السابق: ص 66

(3)

ابن عابدين المرجع السابق: ص 66

(4)

وهذا (الآن) يختلف عن (آن) ابن عابدين رحمه الله فنحن نتكلم عن زماننا وهو أوائل القرن الهجري الخامس عشر.

(5)

فقد كانت النقود في عهده كثيرة ومتعددة ومختلفة الأشكال والمقادير ولعل التعامل في بعض صوره قد يكون محددا بحيث يتفق الطرفان على تحديد نوع العملة التي يتم الدفع بها مستقبلا بالنسبة للعقود الآجلة مثل البيع المؤجل الثمن ومثل القرض أيضًا. لكن قد يأخذ التعامل صورة أخرى يتفق البائع والمشتري على عقد البيع ويذكران ثمنا محددا مائة ريال دون تحديد نوع هذا الريال أو مائة جنيه من غير بيان نوع هذا الجنيه.

(6)

فقد كان القرن التاسع عشر ومن باب أولى القرون السابقة له يشهد فوضى ضاربة أطنابها في النظام النقدي بالنسبة لكثير من دول الشرق ومنها مصر بطبيعة الحال نظرا لانتشار التعامل بخليط غير متجانس من المسكوكات الفضية والذهبية وهو ما كان منتشرا في مصر بصورة واضحة حيث كان بعض هذه المسكوكات مصريا وأغلبها نقود أجنبيه تتفاوت فيما بينها تفاوتا ملحوظا فيما تعلق بالوزن والعيار. أ0د محمد زكي شافعي: مقدمة في النقود والبنوك ص 177 طبعة سنة 1982.

ص: 1300

.. وقد يصدر بعد إبرام عقد البيع (هذا – المؤجل الثمن) أمر سلطانى بخفض نوع معين قرشين ونوع آخر ثلاثة قروش ونوع ثالث خمسة قروش.

وفي هذه الحالة يلجأ الدافع إلى السداد بالنوع الذي انخفض خمسة قروش مبالغة في الإضرار.

والذي انتهى إليه العمل في عهد ابن عابدين بالنسبة لهذه الحالة هو الصلح على الأوسط.

ولذلك فقد - ساق بعد العبارة التي نقلناها عنه فيما تقدم قوله: (ولكن الأول (1) ظاهر سواء كان بيعا أو قرضا بناء على ما قدمنا، وأما الثاني (2) فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض فيختار المشتري ما هو أكثر رخصا وأضر للبائع فقد ينقص نوع من النقود قرشا ونوع آخر قرشين فلا يدفع إلا ما نقص قرشين

وهذا مما لا شك في عدم جوازه (3) .

(1) أي الأمر الأول الذي أوضحناه في أول هذا المبحث وهو الخاص باتفاق الطرفين على تحديد نوع العملة التي يجب الوفاء بها مستقبلا

(2)

وهو الأمر الثاني الذي يتعلق بحالة إبرام عقد البيع وتأجيل الثمن دون تحديد نوع العملة التي يتم بها الوفاء

(3)

ثم يقول ابن عابدين بعد ذلك: (وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر وأنه يفتى بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد. فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته أما في هذه الصورة فلا لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو مال وقف فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له فالصلح حينئذ أحوط خصوصا والمسالة غير منصوص عليها بخصوصها فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمناه مما قدمناه فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل وإلا الأكثر كي لا يتناهي الضرر على البائع أو على المشتري)، المرجع السابق: ص 66

ص: 1301

ثم بين ابن عابدين السبب الذي من أجله اختار الحل الوسط فقال: (وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الإضرار كما قلنا وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد كأن صار ما قيمته مائة قرش من الريال يساوى تسعين وكذا سائر الأنواع. أما إذا صار ما قيمته مائة من نوع يساوي تسعين، ومن نوع آخر خمسة وتسعين، ومن آخر ثمانية وتسعين فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به وإن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به فينبغي الصلح على الأوسط) (1) .

(1) مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/66-67

ص: 1302

صدور قرار من الدولة بتخفيض عملتها:

قد تجد الدولة نفسها في حاجة إلى تغيير قيمة عملتها (1) ، فإذا ما أصدرت قرارا بتخفيض قيمة عملتها الورقية، فما أثر هذا القرار على عقود المدة، وبعبارة أخص على عقدي القرض والبيع بثمن مؤجل؟

ما ذكره ابن عابدين (2) عن فقهاء المذهب الحنفي يوجب القول بضرورة الالتزام بنفس المقدار المتفق عليه في العقد بغض النظر عن القرار الصادر بتخفيض قيمة العملة. ونعيد الإشارة إلى عبارة ابن عابدين التي تقول: (والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا)(3) .

وكل عقد يبرمه الناس في هذا الزمان - أوائل القرن الخامس عشر الهجري- لا يتصور أن يكون صحيحا إلا ببيان نوع العملة التي يكون بها الوفاء ومقدارها.

وحتى إذا تم الاتفاق بين الطرفين على الثمن المؤجل وقدره عشرة آلاف جنيه فالمفروض أنها جنيهات مصرية مادام المتعاملان مصريين وأبرما العقد في مصر. وإذا ما اتفق سعوديان على إبرام صفقة بثلاثين ألف ريال فالمفروض أنها ريالات سعودية.

وينبني على ما قرره فقهاء المذهب الحنفي من أن تحديد نوع العملة يوجب الالتزام بدفع المقدار المتفق عليه منها بغض النظر عن القرارات الصادرة بتغيير قيمة العملة.

(1) وفي الغالب أن يكون التغير بخفض قيمة هذه العملة ويندر هذه العملة أن يكون برفع هذه القيمة.

(2)

وهو ما بيناه في الفقرات السابقة

(3)

المرجع السابق: ص 66

ص: 1303

لكن لا بد لنا من مراعاة الحالتين الآتيتين:

الحالة الأولى – الوفاء في الموعد المتفق عليه:

ما جاء بالفقرة السابقة ينبغي العمل به - فيما يظهر لي والله أعلم - إذا قام المدين بأداء ما عليه في الوقت المتفق عليه بينهما.

فلو أن المقترض التزم بالسداد بعد شهرين، وفي خلال تلك المدة صدر القرار بتغيير قيمة العملة وقام المقترض بسداد ما عليه في الموعد المحدد فإنه لا يطالب إلا بالمبلغ المنصوص عليه في عقد القرض مهما صدر من قرارات بخصوص قيمة العملة.

الحالة الثانية – عدم الوفاء في الميعاد:

أما في حالة عدم الالتزام بالموعد المحدد بأن حل الموعد ولم يقم المدين بأداء ما عليه فإننا ننظر في سبب عدم الوفاء.

أولا: إن كان السبب الإعسار فإنه لا مجال إلا تطبيق النص القرآني وهو قوله سبحانه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وعلينا أن نتأكد من هذا الإعسار أنه حقيقي فإن كان مجرد ادعاء كما هو حال أكثر المدينين اليوم فالادعاء باطل حتى يقوم الدليل على صحته وفي حالة الإعسار الحقيقي يجب على الدائن إنظار المدين بإعطائه مهلة أخرى في السداد والمدين بطبيعة الحال لا يلتزم إلا بالمبلغ المنصوص عليه في العقد.

ص: 1304

ثانيا: أما أن كان عدم الوفاء مماطلة فهذا ظلم على ما بينا في المبحث الأول من هذا الفصل فقد سبق أن قلنا إن كان عدم الوفاء عن قدرة على الوفاء فإن المدين يعتبر ظالما وإذا أدت المماطلة إلى أضرار الدائن بأن تغيرت قيمة العملة تدريجيا بدون قرار فإن القاضي ينظر في عقاب المدين عملا بالحديث الشريف ولكننا في هذه الحالة أمام واقعة محددة: اقترض شخص من آخر مبلغ ثلاثين ألفا والوفاء بعد ثلاثة أشهر ومضت المدة المتفق عليها وثبت أن المدين قادر على السداد ولكنه التوى وماطل فصدر قرار من السلطة في الشهر الخامس بخفض قيمة العملة 15 % فما هو الحكم الشرعي في هذه الحالة هل يؤخذ بما جاء عن الحنفية من أنه ما دامت العملة محددة نوعا ومقدارا فيجب الالتزام بالعقد؟ هذا ما أكدناه في الظروف العادية وفي صورة الالتزام بالموعد المحدد أو التأخر عن السداد للإعسار لكننا في هذه الحالة أمام مدين راوغ وماطل وهو قادر إلى أن صدر القرار بالتخفيض فهو إذن المتسبب في هذا الضرر تسببا مباشرا فلو أن التزم بكلمته ووفي بعهده لانتهت المشكلة غير أنه بالتوائه ومماطلته وظلمه قد ألحق بالدائن ضررا محققا بل ومعروفا بقرار رسمي فضلا عن الأضرار الأخرى التي يمكن أن تمس الدائن نتيجة التأخير ألا يستحق مثل هذا المراوغ أن يتحمل على أقل تقدير هذا الضرر المحدد؟ لا أستطيع أن أجيب على هذا التساؤل (1) لا إيجابا ولا نفيا انتظارا لما تسفر عنه مناقشة علمائنا الأفاضل لهذا البحث المتواضع حيث لم أعرض فيه إلا رءوس موضوعات يتفضل مشايخنا الأجلاء بمناقشتها وبحثها عسى الله أن يوفقنا إلى الحكم الشرعي الصحيح الذي يرضيه سبحانه ويرضيه عنا أنه جل شأنه ولي ذلك والقادر عليه وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أ. د. يوسف محمود قاسم.

(1) وقد يثور تساؤل آخر: ألا يمكن الأخذ بقاعدة الصلح على الأوسط التي قال بها ابن عابدين رحمه الله؟ ، والجواب أن الصلح على الأوسط كان بخصوص عقد لم يحدد طرفاه العملة التي يتم بها الوفاء وإنما المدين يختار واحدة من العملات التي كانت سائدة في البلاد وقد صدر الأمر السلطاني

والحال كذلك- بتخفيض بعضها قرشا وبعضها قرشين وبعضها خمسة قروش. ولما كان الخيار للمدين فإنه يختار بالعملة التي نقصت خمسة قروش مبالغة في إلحاق الضرر بالدائن. وقد قلنا: إن هذه الحالة لا وجود في عهدنا- أوائل القرن الخامس عشر الهجري- فكل دولة لها عملتها الرسمية. وكل عقد يبرم الآن لا بد أن يتفق أفراده على السداد بمبلغ معين بذكر المبلغ من عملة معينة، وإن لم تحدد العملة، فالقاعدة أنها العملة السائدة في بلد المتعاقدين. ولا مجال الآن لتفصيل بعض الحالات الفردية الأخرى التي يمكن للقاضي أن يطبق بشأنها قواعد الإسناد طبقا للقانون الدولي الخاص.

ص: 1305