الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفكار وآراء للعرض:
المواجهة بين الشريعة والعلمنة
إعداد
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشريعة:
الإسلام ليس دين عبادة فحسب ولكنه عقيدة وشريعة وسلوك، على أساسها جميعًا بنى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الفرد المسلم والجماعة المسلمة. وعلى هذا الاعتبار تميز المؤمنون عن الكافرين والموقنون عن الجاحدين، فأعلن الأولون عن ولائهم وشعار إيمانهم بما ذكره القرآن عنهم في قوله عز وجل:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور: الآية51] .
وقوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65] .
شمولية المنهج الإسلامي لجميع قضايا الحياة الإنسانية:
ولا بدع في أن هذا الموقف يلزمه اتباع شرع الله، فإن الإسلام قد وضع للعالمين منهجًا متميزًا للحياة ونظامًا متكاملًا لها تشمل أصوله ومبادؤه وكلياته وقواعده: العقيدة والعبادات والمعاملات والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشؤون الدولية والقيم والأخلاق: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأنعام: الآية 126] .
وفى تاريخ الأمة شواهد قائمة على ذلك وبراهين لا ينكرها إلا معاند أو مكابر، وقد تجمعت المادة الشرعية الفقهية مما نزل من الوحي والأحكام في أمهات القضايا على رسول الله، ومما قام به صلى الله عليه وسلم من تفصيل وبيان لذلك في أحاديثه وما تبع هذا وذاك من أقوال الصحابة والتابعين وآراء الأئمة المجتهدين الذين شرحوا وعللوا وأبرزوا النظائر والمتشابهات وضبطوا القواعد والفروق من أوائل القرون الوسطى بما لا يرقى إليه أي تشريع أو قانون. فجاءت الشريعة الإسلامية آية مفردة في التدقيق الفقهي وتفريع المسائل واستخلاص الجزئيات ببيان ومنطق أساسه عمق الفهم والتفقه في دين الله بالكتاب والسنة وجودة الاستنباط. وحكمت الشريعة الإسلامية المجتمعات الإسلامية دولًا وشعوبًا، واعتنقها المسلمون مبدأ وطبقوها منهجًا وكانت طوال ثلاثة عشر قرنًا القانون الوحيد بينهم يعتمدونه في كل ما يلم بهم من النزاعات أو يحدث لهم من القضايا في الأحوال الشخصية والمعاملات والمضاربات المالية والجنايات والعقوبات وأحوال السلم والحرب وما يتبعها من معاهدات واتفاقات مع سائر الدول شرقًا وغربًا. كل ذلك مع التقديس لها والتسليم بها تقديسا وتسليمًا يوجبهما الإيمان بالله وبكتابه ورسوله.
بداية التحول:
وعندما بدأت تتداعى أحوال الرجل المريض ودب الوهن في جسم الخلافة العثمانية واستشعر الباب العالي بتأثير سفراء الدول الأوروبية وقناصلها، إما الرغبة في تسهيل التعامل مع أوروبا والقضاء على المشاكل المتنازع فيها بين رعايا دولته والأجانب من الأوروبيين، وإما الحاجة إلى اقتباس قوانين الدول الغربية في المعاملات التجارية والمضاربات المالية التي تقيد حريته فيها الشريعة الإسلامية بسبب الشروط القاسية التي تفرضه الصحة العقود وحصرها أصدرت الخلافة فيما بين 1826م – 1839م قوانين عديدة عرفت بالتنظيمات شملت نظام البحرية وقانون العقوبات، وتبنت في 1850م القانون الفرنسي أقامت على أساسه محكمة تجارية خاصة للفصل في النزاعات القائمة بين رعاياها والأوروبين، وأحدثت محاكم مدنية 1871م غير المحاكم الشرعية ووسعت في نظرها 1880م. وكونت لجانًا عدلية:
الأولى: تتمثل في مجلس الدولة الاستشاري الذي يتولى إعداد النظم والقوانين ومراقبة تنفيذها.
والثانية: اللجنة القانونية التي تحدد القضايا التي يفصل فيها القضاء الأوروبي.
والثالثة: اللجنة الموكل إليها وضع مجلة الأحكام العدلية قصد تقنين الشريعة وذلك من أجل تحقيق صورة من التوازن الظاهري.
وقد هزت هذه التنظيمات البلاد الإسلامية وعصفت ريحها في أطراف بلاد الخلافة، وقام الصراع بين الشريعة والقانون وتنازعت المحاكم الشرعية والمحاكم الجديدة والهيئات التشريعية السلطة وعمَّت البلبلة. وقضي بالإخارة للتنظيمات على الشريعة إلا في الأحوال الشخصية وبعض قضايا الاستحقاق. ولا غرابة في ذلك، فإن القوي مطاع والكلمة الأخيرة لأصحاب النفوذ الدولي والقوى الصناعية ومؤسسات التجارة الدولية بين الأوروبين. فهم الذين رجحوا الكفة لمصالحهم ففرضوا مبادئهم وشروطهم وطرق تعاملهم على هذه السلطنة المنهارة والدولة المستلبة النفوذ والهيبة. وما كانوا ليتوصلوا إلى ذلك لو بقي العمل بالشريعة أساسًا للتقاضي وإقامة العدل بين الناس.
يقول أ. د. أنكلهارد في كتابه تاريخ إصلاحات الدولة العثمانية: "وفي الحقيقة أن الإسلام الذي قد كان مؤسس الحكومة العثمانية بقي حاكمًا مطلقًا فوق الحكومة. فقد كان القانون المدني متحدًا مع القرآن، ولكون تشكيلات الأمة اشتبكت بالعقائد الدينية بحيث لا يمكن تفريق بعضها عن بعض كانت هذه التشكيلات لا تقبل التغيير كالعقائد الدينية. فوجب لتحصيل الائتلاف الذي لا تستطيع تركيا الاستمرار على الاستغناء عنه، إما إزالة الحائل في البين بالمرة، وإما تخفيف وطأته ومعناه إما أن تحول الحكومة من الروحانية إلى الدنيوية بتخليصها من تأثير القوانين الدينية كما وقع في العالم المسيحي، وإما أن تتخلص بالتدرج من الحدود والقيود الدينية عن طريق تفسير العقائد الأساسية تفسيرًا موسعًا. وللاحتراز من الحالات الموجبة لاشمئزاز شعب جاهل متعصب لا يلبث أن ينفعل ويتأثر من كل شيء، كانت الحكومة العثمانية اختارت الشق الثاني"(1) .
وإذا صحت هذه الشهادة من ديبلوماسي غربي معاصر لهذه الأحداث والتطورات وكشفت عن السر منها واتباع القصد الأول القصد الثاني بعلمنة الدولة وإعلان أتاترك بعد حين عن أخذه باللائكية والالتزام بها، فإننا ونحن نتحدث الآن عن خصوص التحرير القضائي وتعويض الشريعة بالقوانين الوضعية في البلاد الإسلامية لا بد أن نشير إلى رأي بعض الأساتذة البارزين في هذا التحول القضائي والتطور التشريعي بالبلاد التركية، يقول رئيس معهد القانون الأستاذ أندرسون بالحرف الواحد:"إن اقتباس تركيا للقانون السويسري وتطبيقه في بلادها أشبه ما يكون بارتداء القزم ثوبًا فضفاضًا"(2)، في حين يلتمس أحد أعضاء المؤسسة العالية المتابعة للتطورات التشريعية في العالم قسم القانون بجامعة لندن الدكتور هنشف: لقد كان اقتباس الدولة العثمانية للقانون الفرنسي بدافع من الرغبة في رفع معنوياتها وهيبتها في عين الدول الغربية التي نظرت إلى قانون العقوبات والقصاص وقطع اليد والرجم بكثير من الدهشة والاشمئزاز (3) .
وهذا الخوف من التغيير غير المبرر ومن الطمع غير المشرف اللذين يصاحبهما الاحتقار والسخرية لم يصرف شيء منها في الأول كثيرًا من المثقفين ممن استولى الغزو الفكري على عقولهم، وسيطر على ألبابهم عن طلب العدول عن هذا الانحراف الذي ضاعت به مقومات الأمة وفقدت به رابطًا من روابط وحدتها وأساسًا ذاتيًّا لشخصيتها الإسلامية. وحين نتساءل عن سبب ذلك نجده متمثلًا في الاتهامات والدعاوى والفتنة التي تنتاب مجتمعاتنا في مدارسنا وجامعاتنا وفي الثقافة التي نقبل عليها في حرص غير شاعرين بخطرها ولا متصورين لأبعادها.
(1) مصطفى صبري: 4 /348.
(2)
د. عبد الوهاب أبو سليمان، التشريع الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري. مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية. مكة المكرمة: 1 /1393 – 1394. العدد الأول: 55.
(3)
القانون التقليدي الإسلامي والقانون الحديث 31.
دحض الحملات المغرضة والاتهامات الباطلة:
لقد حمل رجال الفكر التحرري على الشريعة والفقه الإسلامي حملة شرسة ورموها ادعاء وكيدًا بشتى التهم معلنين ومرددين:
إن هذه الشريعة غير صالحة لزماننا وإنها جاءت لوقت معين وظرف خاص، فمسائلها محدودة وأحكامها معدودة إن في الكتاب وإن في السنة وما وراءهما، وخصوصًا فيما استجد من شؤون الحياة ومشاكل المجتمعات التي لا تكاد تنحصر كثرة وجزئيات ولا أثر لذلك في مصنفات الفقه وكتب الأحكام عامة. في حين عرف القانون الأوروبي والأحكام الوضعية تقدمًا وتطورًا ومجاراة للمجتمعات الإنسانية حيث وضعت التشاريع والقوانين لكل ما يقع فيها. فالشريعة والفقه وقفا عند حدود النصوص المثبتة في المدونات والكتب الفقهية التي جمدت كما يشهد لذلك تاريخ الفقه الإسلامي، أما القوانين الوضعية فهي توضع كل يوم وبحسب الحاجة إليها. وهي بذلك مواكبة للعلم والتقدم ومغطية لكل مشاكل الحياة قديمها وحديثها. ولا يترك المتطور الجديد المناسب لأوضاعنا في هذا العصر من أجل العكوف على القديم الجامد والالتزام به. هذا مع ما في الأحكام الشرعية من شدة وقسوة ووحشية نلمسها في الحدود والقصاص ولا تستطيع معها أن ترقى إلى مرتبة الأحكام الوضعية المتناسقة مع الزمن والمسايرة للرقي والمدنية.
وهذا الاتهام بالضيق وبالحصر والتخلف والتأخر وإن انطلى على العامة فزعزع عقيدتهم في دين الله وذعر الخاصة فراحوا يطلبون المخرج من ذلك، يعلم الناقدون للشريعة الإسلامية والمتحاملون عليها أنه مردود بما يصدر عن الفقهاء والمفتين فرادى ومجتمعين في أحكام النوازل من بحوث وفتاوى. "وإن للشرع مبنى بديعًا وأساسًا هو منشأ كل تفصيل وتفريع. وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية، وذلك أن أصول الأحكام وقواعد الشريعة العامة متقابلة بين النفي والإثبات والأمر والنهي والإطلاق والحصر والإباحة والحظر. ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وتنتفي النهاية عن مقابلة ومناقضة"(1) . وإن الأحكام الشرعية دين تقوم على حماية حقوق الناس وضمان المصالح والمنافع لهم في أي عصر من العصور، وإنها تجمع الرادع إلى الوازع بما تغرسه في النفس من هداية وتملأ به الروح من استقامة، وتحميه وتنشره من مبادئ وقيم ثابتة، كانت منشأ عزة الإسلام وقوته وتقدمه. وإن عوارض التخلف والتأخر في المجتمعات الإسلامية كانت بالعكس بسبب التفريط في هذه الأحكام ووقوع الناس فريسة للجهل والتواكل والفقر والرضا بالدون وقعود الهمم وخراب الذمم {وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (2) .
(1) إمام الحرمين. الغياثي: ص 433، 645.
(2)
سورة الجن: الآيتان16،17.
أما ما حصل للفقه من استقرار وجمود حمل الشيخ محمد مصطفى المراغي على الإشارة بأصابع الاتهام فيه إلى الفقهاء في مذكرته الشهيرة حول إصلاح الأزهر 1928م حين قال:"إن الأمة المصرية تركت الفقه الإسلامي لأنها وجدته بحالته التي أوصلها إليه الفقهاء غير ملائم
…
ولو أنها وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمان وتبدل العرف والعادة وراعى الضرورات والحرج لما تركته إلى غيره". فإن مرده في الواقع ليس ما ذكره في المحل الأول وإنما السبب في ذلك هو الاستعمار وما حمل الناس عليه بالقوة، أو الحكام ومافرضوه على المسؤولين من اتجاه أو طبيعة التطور وما تحكمت به الظواهر الاجتماعية والفكرية في الناس، أو الشريعة والفقه ذاته الذي لم يستفد من الأصول والقواعد العامة التي من أبرزها في هذا المجال التيسير على الناس ورفع المشقة والحرج ومراعاة المصالح والضرورات وتغير الأحكام بحسب العادات والأعراف في كل زمن مما يخلع على الشريعة الصلاحية الدائمة واستيعاب القضايا والجزئيات ويكسب الفقه المرونة التي تميز بها في صدر النهضة الأولى. (1) .
ولقد وجهت طائفة من المستشرقين في دراساتها تهمة جديدة للشريعة الإسلامية حين اعتبروها أمرًا مثاليًّا يعني أساسًا بالقيم الدينية والأخلاقية المؤمل توفرها في حياة الناس وإنها بذلك لا تنطبق بالضرورة على الواقع وجعلوها في مرتبة القانون الوضعي. ومن بين هؤلاء جولدزيهر وأندرسون وشاخت ولولسون. وازداد هذا الموقف وضوحًا في كتاب نوبل ج كولسون حين قال في "تاريخ الفقه الإسلامي": " إن انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الشريعة الإسلامية بما تحقق لها من كمال التعبير والبيان ثابتة غير قابلة للتغيير.. وأصبح على المجتمع أن يتطلع إلى ما تمثله من معايير مثالية وصحيحة إلى الأبد"(2) . وأكد ذلك في كتابه الثاني "التعارض والقضاء في الفقه الإسلامي" بتخصيصه فصلًا يبحث فيه التنازع القائم في الفقه الإسلامي بين النزعتين المثالية والواقعية (3) . وكان من الطبيعي أن يجد هذا الاتجاه الخطير لفصل الشريعة والفقه عن الحياة إبطالًا ونقضًا فكتبت الدراسات والبحوث لبيان الأمر وتصحيح النظر وكان ممن أسهم في هذا د. محمد مصطفى شلبي بكتابه الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية (4) .
(1) فهمى هويدي. العربي: 338. يناير 1987م: ص82.
(2)
فهمى هويدى.
(3)
فهمي هويدي: ص83.
(4)
فهمي هويدي: ص83.
ومن أبرز الاتهامات التي روجها مؤرخو الغرب عن التشريع الإسلامي، وبحثها الحقوقيون والفقهاء في دراساتهم ومحاضراتهم وكتبهم وناقشوها قديمًا وحديثًا دعوى أن الفقه الإسلامي مستعار من التشريع الذي كان العمل به قائمًا قبل الهجرة وأنه قد استمد أحكامه وخاصة في المعاملات من القانون الروماني. فقد لبث بنو أمية في الشام مدة طويلة يطبقون الأحكام الموجودة به في عهد الرومان وأن الإسلام كان مضطرًا لمواجهة النزاعات والخصومات منذ السنين الأولى من انتشاره شامًا وعراقًا بالاحتكام إلى القانون الروماني تفاديًّا من وقوف سير العدل ومن حصول الخلل في الأحكام وإن التشريعات التي كان يعمل بها الفقهاء أوائل الدولة العباسية كانت عبارة عن مجموعة أحكام تضاهي ما كان العمل جاريًّا به في سورية قبل الفتح الإسلامي. وقد نقض هذه الفرية من البداية الأستاذ صاوا باشا الرومي أحد رجال الحقوق في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وصاحب كتاب "نظرية الحقوق في الإسلام"، حمله على ذلك عدم الأخذ بالظنة والحيطة في الأمر ورجوعه قبل إبداء الرأي إلى كتب الفقه الإسلامي يدرسها ويحللها مفرقًا بذلك بين منابع التشريعين الروماني والإسلامي ومنبهًا إلى أن فقه الإمبراطور تروستينيانوس الذي كان يدرس بأشهر مدرسة للحقوق في ذلك العصر مدرسة بيروت والذي كان من أكبر القائمين عليه فيها بتلك الفترة " دورني مساعد تريبونين" الفقيه المشهور كان العمل فيه مبنيًّا على العقل البشري السليم وإن اصطبغ في تلك الآونة بالصبغة المسيحية. أما الفقه الإسلامي الذي تتبعه صاوا باشا في أقرب المصادر إليه وهي كتب الفقه الحنفي فهو مبني على كتاب الله وسنة رسوله. ولن تجد في الفقه الإسلامي حكمًا واحدًا غير مدعم على هذا أو هذه. وبذلك يتمايز مصدر الفقهين. ويمضي صاحب نظرية الحقوق في الإسلام فيورد خلاصة اجتهاد الإمام أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر، ثم من بعدهم من الأئمة ملخصًا تاريخ التشريع الإسلامي مبينًا مآخذه كلها مثبتًا فلسفة هذا الفقه المتمثلة في علم الأصول قائلًا:"إنه لا يقدر أحد من الناس أن يعلم مأخذ الشرع الإسلامي إن لم يقرأ أصول الفقه، وأدعو من يهمه هذا الموضوع أن لا يحكم فيه قبل أن يطالع هذا التاريخ المتسلسل للفقه الإسلامي مطالعة كافية"(1) .
ومن المفارقات المذكورة بين القانونين والفقهين أن القانون الروماني يقوم أساسًا على اعتبار سلطة رب الأسرة وليس كذلك الشريعة الإسلامية التي جعلت أساسها حرية الفرد، ومنها اختلاف القانون التجاري الإسلامي عن القانون الروماني – الذي كان من قبل قانونًا عامًّا لأوروبا بخلوه من الإجراءات والتعقيدات الشكلية التي تدعو إلى بطء المعاملات وعرقلة التجارة ويؤكد هذا ما ذكره الدكتور زيني المدرس بالجامعة المصرية وعميد كلية التجارة بها سابقًا، في كتابه "أصول القانون التجاري" من أن التهمة باطلة والعكس هو الصحيح وذلك في عرض حديثه عن تأثير الشريعة الإسلامية في تكوين العادات التجارية إذ يقول:"ذكر بعض مشاهير كتاب الغرب أن تجار الجمهوريات الإيطالية في القرون الوسطى استفادوا من عادات العرب والأتراك (المسلمين) واستمدوا منها لتجارتهم ماتخلصوا بواسطته من القيود والتعقيدات التي ألفوها في القانون الروماني"(2) .
(1) صبري: 4 /299؛ محمد حميد الله. (هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي) دراسات لخمسة من العلماء.
(2)
صبري: 4 /299.
وفى المقارنة بين مروجي التهمة والناقضين لها يقول شكيب أرسلان: لقد بنى صاوا باشا حكمه على أدلة وبراهين ووثائق ونصوص وحقائق تاريخية، أما أولئك فقد أقاموا حكمهم على ظنون وتخرصات، وعلى نظر من جهة واحدة، وعلى قولهم لا بد أن يكون كذا، وهناك أسباب تدعو إلى الظن بأنه كذا، ومن يدري فقد يكون كذا، وهذه أشياء لا تصلح أن تكون مدارًا للأحكام، ولا يقال هذا تمحيص وإنما هو تخمين وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا (1) .
مدى تطبيق القوانين الإسلامية على غير المسلمين:
كما يناسب في هذا المقام أن نشير إلى أن الإسلام لم يحكم غير المسلمين قسرًا فيفرض عليهم في مسائل دينهم قوانين كما فعل الغرب، بل جعل للقاضي الشرعي أن يفصل بينهم إذا تراضوا على حكمه، فإن أبوا فصل بينهم إجباريًّا قاضي دينهم. وبهذا يعتبر التشريع الإسلامي مصدرًا فقهيًّا لإحدى القواعد الأساسية للقانون الدولي الخاص وهي قاعدة شخصية قوانين الأحوال الشخصية التي تقررت في مجمع أكسفورد 1883م وفي مؤتمر لاهاي 1904م وجاءت بها أخيرًا اتفاقية مونترو 1931م.
استقلالية القوانين الإسلامية:
هذا وقد أبطل الدعوى من أساسها قرار مؤتمر القانون المقارن الذي عقد في مدينة لاهاي 1938م والذي قضى صراحة بأن للشريعة الإسلامية نظامًا قانونيًّا مستقلًا غير مأخوذ من التشريع الروماني. وعلى أساس هذا القرار طالب رئيس وفد مصر حافظ رمضان باشا لدى لجنة المشرعين في واشنطن المنعقدة بشأن وضع مشروع قانون محكمة العدل الدولية بوجوب تمثيل الشريعة الإسلامية في محكمة العدل الدولية.
تفنيد وإبطال الدعاوى التي قامت ضد الفقه الإسلامي:
وبسبب ما اقتضاه النظر الفقهي الاجتهادي في تحديد الأحكام من الاختلاف واعتماد كل إمام على ما صح عنده من الأدلة وأخذ به من الضوابط والمرجحات وهو ما زكاه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن به فقال: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) (2) . جاء يزكيه أيضًا ما أقره الأشياخ من اعتبار لتلك المذاهب الفقهية بقولهم اتفاقهم بحجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، فإن الناكبين عن الشريعة والمشككين في صحة الفقه ووجوب الالتزام به حملوا مرة على هذه الثروة القانونية التي تنطوي على كل ما يحتاج إليه المسلمون فرادى وأمة ودولة والتي هي على مقربة منا تقع تحت أيدينا وفي خزائن دور الكتب التي ورثناها عن أسلافنا، والتي تمثل أثرى كنز للمسلمين وعملت بها الدول الإسلامية المتعاقبة إلى أقرب عهد منا، فقالوا إنها ليست من الدين، ونادوا مرة أخرى بإبطال المذاهب ونبذها، وذهبوا ثالثة إلى الاعتصام بالقوانين الوضعية المضبوطة وترك ما قد تحمل عليه تلك الآراء المختلفة من الفوضى والاضطراب. وقد يكون من المناسب أن نقف قليلًا إزاء كل دعوى كاشفين عن الباطل فيه موجهين إلى وجه الصواب في معالجتها.
(1) صبري: 4 /299.
(2)
خ اعتصام: 31؛م أقضية: 15؛ د أقضية: 2؛ ن أحكام 2؛ قضاة: 3؛ حـ أحكام: 3؛ حم: 4، 198، 204، 205.
أما الدعوى الأولى التي كان يمثل صداه ويرددها بعض الشيوخ في قوله: "إن الدين في كتاب الله غير الفقه، وإنما الدين هو الشريعة التي أوحى الله بها إلى الأنبياء جميعًا. فقد جاء يقابلها بعد إعلانه هو نفسه: " إن القوانين المنظمة للتعامل والمحققة للعدل والرافعة للحرج هي آراء الفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، وتبعًا لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها وتبعًا لاختلاف البيئات والظروف". وإن مردها إلى ما أعلن عنه البخاري وأسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) . ومعناه يبصره بأحكامه ويفهمه مقاصده وعمل الفقهاء الذي يعترف بأهميته وجدواه الشيخ المراغي مستمد كما ذكر في كلامه من الأصول الشرعية. وإذا كانت الأصول الشرعية التي يفيض بها المصدران الأساسيان الكتاب والسنة من الدين فلا وجه لإنكار أن الفقه من الدين. وهو لا ينحصر في العبادات وتلك مزية التشريع الإسلامي، بل "يعم نظرة المعاملات والعقوبات وكل ما يدخل في اختصاص المحاكم والوزارات ومجالس النواب والشيوخ. فهو عبادة وشريعة وتنفيذ ودفاع
…
وهذه المزية يصعد بها الإسلام إلى سماء الرجحان بالنسبة إلى سائر الأديان" (1) .
وأما الدعوى الثانية القائمة على التنفير من المذاهب الفقهية والاستهانة بها حرصًا من أصحابها على الاجتهاد وترغيبًا فيه وصرفًا عن التقليد وإبعادًا عنه فلا يبررها قول بعض المتنطعين:
الذين قال الله قال رسوله
والنص والإجماع فادأب فيه
وحذار من نصب الخلاف سفاهة
بين الإله وبين قول فقيه
وإن فيها عودًا على الثروة الفقهية والأنظار الشرعية بالنقض. وهو ما لا يقول به عاقل متدبر. وإنما يردد ذلك الغوغائيون من الذين لا يدركون والذين هم عن الحق محجوبون. والتقليد وإن ذمه الأوائل ففي العقائد لا في الفروع. وإن الاجتهاد ليس بالأمر السهل الذي يقدر عليه حتى من لا يعرف لغة القرآن ووجوه التعبير وأنواع الدلالات وأسباب النزول وملابساته والناسخ والمنسوخ وما ورد في السنة من بيان وتفصيل لأحكامه. كما أن في ترك المذاهب وجمع الناس على مذهب واحد تضييقًا على الناس وتشديدًا عليهم والله سبحانه يقول: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
(1) صبري: 4 /295.
(2)
سورة الحج: الآية 78.
والدعوى الثالثة مردودة بإطلاق، فالقوانين الوضعية من صنع الناس للناس والشريعة من صنع الله لعباده، وما كان من الناس لا يخلو من ضعف أو غفلة أو هوى أو تحيز أو مراعاة مصالح بلد دون بلد أو فئة دون أخرى. وهو نتيجة بينة يمليها المجتمع وتتطلبه أوضاعه، والمشرعون منقادون لها متأثرون بها. أما الشريعة فهي عامة شاملة صالحة لكل زمان ومكان خالصة من شوائب النقص مهيمنة على الناس بالحق وهي التي توجه الجماعة. فهي مأمونة ومحررة لإقامة العدل وتحقيق الاستقامة.
وإن الأخذ بهذه الشريعة لهو كما قال علي عبد الرازق: الذي يحفظ على الأمة المسلمة وحدتها الدينية التي كتب الله أن تكون بين المسلمين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (1) .
ولقد كان الفقه الإسلامي من أكبر العوامل في بناء هذه الوحدة الإسلامية، وكان من أمتن الأسس فيها. فإذا لم يبق لهذا الفقه حياة، وإذا ما ضاره أمره إلى أن يصبح رسومًا وأحاديث فقد أوشك المسلمون يومئذٍ أن يعمهم الله بالفرقة وأن يقطع أمرهم بينهم وأن يتناكروا فلا يعرف بعضهم بعضًا ولا يرجع آخرهم لأولهم ولا يهتدي لاحقهم بسابقهم. ويومئذٍ لا تغني عنهم تلك الدعوة الجوفاء التي يتصايح بها من يزعمون أنهم يدعون إلى الوحدة الإسلامية وهم يسكتون عن هذه المعاول الهدامة التي تنقض على أسس هذه الوحدة وتعمل فيها هدمًا وتخريبًا (2) .
وإذا أسلم الأصل الذي به يتمسك المسلمون وينادي بالمحافظة عليه علماؤهم ويدعو إلى تيسير أمره قادتهم ومفكروهم فإن أمر الفوضى والاضطراب الذين ضاق بهما الناس في القرنين الماضيين خاصة بسبب الغزو الفكري وإفساد العقيدة والاتجاه ليس أمرًا صحيحًا على الحقيقة لأن لكل منطقة من مناطق البلاد الإسلامية مذهبًا سائدًا وفقهاء عدولًا يقضون به ويلتزمونه، والآن بحمد الله نرى السعي حثيثًا في وضع القوانين والمجلات المستحدثة التي ظهرت في المملكة العربية السعودية ومصر والكويت والأردن مستمدة من التشريع الإسلامي ودواوين الفقه، وقد تكونت لجان لتقنين الشريعة في عدة دول كما قامت المجالس والمجامع بتهيئة ذلك وتيسيره بفضل الجهود العلمية الخيرة والعلم الفقهي المتواصل.
(1) سورة المؤمنون: الآية 52.
(2)
الأهرام: العدد 20682.
استهداف الحكم الإسلامي والتنكر للتراث الفقهي:
ومن التهجمات الغربية التي لا تصدر عن واعٍ بحقائق الدين ينتسب للإسلام تلك التي تستهدف الحكم الإسلامي في مجاليه القضائي والسياسي. فلقد حرصوا كل الحرص على تركيز دعوى فصل الزمني عن الروحي والدين عن الدولة لدى المسلمين. وهذا يناقض قطعًا القاعدة الأساسية عندنا وهي أن الأحكام الشرعية الإسلامية تقوم على المعنى التعبدي الروحي وعلى المعنى القانوني النافع للإنسانية. وهذا ما يشير إليه الشاطبي بقوله في الموافقات: إن كل حكم شرعي لا يخلو عن حق الله وهو من جهة التعبد
…
كما لا يخلو عن حق العبد لأن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد. فالحقان متلازمان (1) . ولإبطال هذا المعنى وإلغاء هذا التصور يقول أحد المضللين متأثرًا بواقع الغرب: " الاتجاه الحديث يتمثل ببعد روحاني ديني يخص وعي الإنسان وعلاقة هذا الوعي بالله من جهة، ثم بعد الحياة السياسية والاجتماعية الذي يحكم علاقات الناس بعضهم بالبعض الآخر في المجتمع من جهة أخرى
…
وهكذا لا يمكن أن نحشر الدين في كل شيء في الأكل والشرب والنوم والقيام والقعود وتنظيم العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية والخطة الخمسية والسياسة الخارجية للدول
…
إلخ هذا غير ممكن
…
". ويمضي بعد ذلك قائلًا: "إنه من الضروري إعادة التفكير الجذري في الإسلام لكي يكون هناك قضاء ديني مدني واجتماعي يتساوى فيه البشر طبقًا للقوانين المدنية الحديثة. هذا القضاء الاجتماعي المدني غير موجود الآن، وينبغي أن نناضل من أجله لكي يوجد في المستقبل، وهذا لا يعني القضاء على الدين أو محاربته كما يدعي بعضهم، وإنما على العكس يعني احترام الدين والحفاظ على هيبته الروحية وعدم تلويثه بكل شيء" (2) .
وهذه المواقف ليس غريبًا ولا عجبًا حصولها ممن يخلط في تصوره بين أصول الدين الذي هو أصل بناء العقيدة، وأصول الفقه الذي هو من عمل رجال الاستنباط للأحكام الشرعية من مصادرها المتنوعة. فيحمله الغموض والوهم على إنكار أن تكون الشريعة ذات أصل إلهي ويصف رسالة الشافعي التي أقامت أسس وقواعد القانون الإسلامي على أربعة مبادئ: -القرآن، الحديث، الإجماع، القياس بأنها الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم (3) ، ولا يحتاج عاقل ولا عالم إلى دفع هذه التهمة، ولكننا من أجل التعريف برسالة الشافعي هذه نذكر بأن الإمام كان قد عرف أئمة المذاهب عن قرب ووقف على ثروة فقهية من أحكام الفروع يشير إلى ما يسلكه أئمة الفقه في المدن المختلفة عند استنباطهم الأحكام. فنظر في الفروع وتعرف على الموازين، وساعده هذا على وضع قواعد الأصول، وقد اتجه بهذه القواعد اتجاهًا علميا ونظريًّا، وجعل الفقه بهذا مبنيا على أصول مقررة منضبطة، وليس مجموعة من الحلول الجزئية لمسائل واقعة أو مفترضة (4) . وقد نوه الرازي بمنزلة الإمام الشافعي ووضعه لعلم أصول الفقه بقوله: "استنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.
(1) الشاطبي الموافقات.
(2)
حوار هاشم صالح مع أركون: من أجل مقاربة نقدية للواقع؛ المستقبل العربي: 101- 7 /1987: 9.
(3)
أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص297.
(4)
محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص655. أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 2/ 272 – 273.
فهذا الاتجاه من الشافعي هو اتجاه العقل العلمي الذي يعنى بالجزئيات والفروع. فكان تفكيره تفكير من لا يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع بل يعني بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها. وذلك هو النظر الفلسفي (1) .
ويمضي صاحب هذه المقالة بعد ذلك متنكرًا للتراث الإسلامي الفقهي أغنى التشاريع وأشملها وأدقها وأضبطها على الإطلاق، فلا يذكر أصوله ولا قواعده، ولا نظائره، ولا فروقه ولا أحكامه، ولا مسائله، ولا فلسفته، ولا نظرياته، ولا أسراره، ولا مقاصده. وفي كلمة مرتجلة إن أحسنا به الظن يدعو إلى إلغاء ذلك على نحو ما فعلت المسيحية من جعل اللاهوت مقصورًا على العبادة وعلى ما يتصل بعلاقة المرء بربه. واعتبار الناسوت الشامل لكل أحوال الإنسان في الأرض من معاملات وعلاقات وتصرفات وقضايا وأحكام سياسية مفصولًا عن الأول وغير وارد به الدين. وهو ينسى أو يتناسى في مرة واحدة ما شرع الله في كتابه للناس وما فصله رسوله من أحكام:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) .
ولا أظن أن حملته على الأحكام الشرعية مدنيها وجزائيها تقف بصاحبها المتظاهر بالإسلام مع المسلمين عند الحد الذي وصفنا فيقال إنها فهم وتأويل ونظرة جديدة يجوز مخالفة السابقين بها وتوجيه المسلمين فيها وجهة أخرى لأن من كان هذا شأنه دل على فساد عقيدته وضلاله وكشف عن حقيقة أمره حين حاول سخاء وتفضلًا أن يبطل الحدود ويلغي الجهاد ويغير أحكام الإرث ويرفع عن الناس الصوم وغيره من التكاليف حرصًا منه في زعمه على تحقيق العدل ومسايرة التطور والتقدم كما يوحي بذلك حديثه لنوفال أبسرفاتور (3) .
(1) مصطفى عبد الرازق، تاريخ الفلسفة الإسلامية: ص330.
(2)
سورة المطففين: الآية 14.
(3)
نوفال أبسرفاتور، الإسلام بفرنسا عدد: 7- 18 / 2/ 1986.
الخلافة الإسلامية وتطبيق الأحكام الشرعية:
وقد عد الناس من إنكار الشريعة والفصل بين الدين والسياسة ما هو دون ذلك، وهو ليس أقل منه خطرًا – ما كان من علي عبد الرازق حين زلت به القدم في كتابه "الإسلام وأصول الحكم " فقال:" رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن له حكومة حتى يكون أبو بكر خليفته فيها، وإنما كانت له نبوة لا تقبل الخلافة. وإنما هي رسالة لا حكم ودين لا دولة"(1) . ونسي أن معنى الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذلك الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي ممن يتولى الحكم على المسلمين. وقد تصدى له الفقهاء والمؤرخون والمفكرون جميعًا فردوا عليه أبلغ رد في مشارق الأرض ومغاربها (2) ، وقد صرَّحَ الماوردي من قَبْلُ في الأحكام السلطانية بأن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم (3) . وبهذا قال غير واحد من الأشياخ السابقين مثل أبي يعلى وابن حزم وابن تيمية والكمال بن الهمام وابن خلدون وغيرهم (4) . وقد لاحظنا أن عليًّا عبد الرازق وإن اجتهد بما يخالف آراء عامة المسلمين في قضية الخلافة قد وقف موقفًا مخالفًا في قضية تحكيم الشريعة؛ فحين همت الحكومة المصرية بإعداد مشروعين لتعديل أحكام الأحوال الشخصية في مادتي المواريث والوصية وهما يتجهان إلى خلاف حكم الشرع الإسلامي المعمول به ظهر مشروع علي عبد الرازق ينقضهما على صفحات جريدة الأهرام (5) . بقوله: " إن هذا الاتجاه دون غيره هو الذي يتفق مع ما تقضي به أصول التشريع العامة من أن القوانين لا ينبغي أن تكون موضعًا للتغيير والتبديل في عجلة وسفه ولا في طفرة ثائرة
…
وإنه لم يكد يبقى من الفقه الإسلامي في عامة بلاد المسلمين إلا هذا الجزء الذي يمس الأحوال الشخصية، فأما الأجزاء الأخرى فقد أضاعها أهل الفقه الإسلامي وباعوها طمعًا في جاه أو خوفًا من غير الله وأسلموها لجيش التشريع الحديث والتمدن الحديث فدمرها ذلك الجيش وعفرها في التراب".
(1) صبري: ص40، 360. يقول عبد الرازق أيضًا: زعامة النبي عليه السلام كانت كما قلنا زعامة دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير، وقد انتهت الرسالة بموته، فانتهت الزعامة أيضًا، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته كما أنه لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته. الإسلام وأصول الحكم: ص181.
(2)
محمد سلام مدكور، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء: ص318 – 319؛ مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص465.
(3)
الماوردي: ص3.
(4)
انظر الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، والعقل في الحكم: ص135؛ والأهواء والعمل: ص4، 87؛ والسياسة الشرعية: ص 60 –77؛ والمساير: ص2، 141؛ والمقدمة: ص179.
(5)
الأهرام: العدد 20682.
ومثل هذا الصوت الذي دوى معلنًا حرصه على التمسك بالفقه بعد التفريط في قسم كبير منه تحت تأثير النظم والضغوط الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في هذا العصر لم يمر بدون رد أو معارضة من العلمانيين بل أثار سخطهم ونقمتهم على الفقهاء وعلى الدولة التي من وراء هذا الاتجاه الديني العلني تحميه وتنصره بتمسكها بالشريعة والتزامها بتطبيقها وراح أحدهم يقول: بالرغم من كل هذه الاعتبارات والمراجعات النقدية فإننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود قوة هائلة للظاهرة القرآنية، استمرت هذه القوة في الوجود بفضل بعض الشخصيات الدينية الكبرى والشخصيات المثقفة، وبفضل قوة الدولة أيضًا التي قامت بعملها حسب الظروف والمنعطفات التاريخية
…
نعم هناك قوة ما تعبر التاريخ والقرون، إنها هنا موجودة، موجودة في القرآن كانت قد اتخذت لها شكلًا في القرن السابع الميلادي وفي اللغة العربية. كيف أمكن لهذه القوة أن تنتج هذه الظاهرة المدهشة التي انفجرت هنا وليس في مكان آخر: هنا في الجزيرة العربية وباللغة العربية (1) .
إن الخطة التي يرسمها هذا الفكر التجديدي والتي تستهدف القرآن والتفسير والحديث والشريعة واللغة والدولة الإسلامية لتضع صورة واضحة لمقاصدها وتعلن في غير وجل أو تردد اتجاهها الهدام متسترة بالمنهجية الجديدة للبحث التي تدعو لها في مجال الإسلاميات التطبيقية.
العلمنة أخطر أساليب الهجوم لمنع تطبيق الشريعة:
إن مجموعة التهجمات والتهم التي قدمنا أمثلة منها، وألوان التحديات التي تظهر في الساحة بقصد الإجهاز على الدين كعقيدة وشريعة ودولة لهي الجانب التطبيقى والعملي للتحرك العلماني في عصرنا الحاضر الذي تشهد له مقالات فلول من المتحررين من الدين في المشرق والمغرب في البلاد العربية والإسلامية. وإنهم ليزعمون أن ما يقومون به في هذه السبيل ليس صادرًا عنهم إلا بقصد تطهير المجتمع من رواسب الماضي المتخلف بشتى الطرق وإنهم يدعون المسلمين عامة إلى منهج فكري راق يخرج بهم من الظلمات وينير لهم المسالك لتحقيق التقدم بل للمنافسة في مجالاته وكسب السبق في الميادين الحضارية الجديدة التي صرفوا عنها طويلًا بسبب الأوهام والتقاليد. ومن الطبيعي أمام هذه الظاهرة المتفشية في أطراف العالم العربي والإسلامي والتي تنطلق بها الممارسات من جهة (تركيا، لبنان) والكتب والمقالات من جهة أخرى متحدثة عن اللائكية واللادينية والعقلانية والعلمانية والعلموية، أن نقف متسائلين عنها متعرفين عليها مقومين أعمالها ونتائج الدعوة إليها، فاللائكية كما صرحوا بذلك مأخوذة من لايكوس اليونانية والتي كان يراد بها الشعب ككل بمنأى ومنجى من رجال الدين، أو من كلمة لايكوس التي كانت في القرن الثالث عشر تطلق على الحياة المدنية أو النظامية أي على الشعب أن يعيش حياته الخاصة بكل معطياتها من غير تدخل رجال الدين في هذه الحياة قصد ضبطها وتوجيهها بطريقة ما. ومن المعلوم أن الشعب الوسط الإغريقي أو اللاتيني في القرون الوسطى كانت تنتشر فيه الأمية، وكان يتكون في جملته من الزراع وأوساط الحرفيين والعاديين من الناس في المدن، وإن رجال الدين (كلاركس) الذين كانوا أحسن حظًّا لمعرفتهم القراءة والكتابة كانوا يستخدمون الشعب الجاهل الساذج ويخضعونه لسلطتهم السياسية والاقتصادية والدينية. فكان هناك تقابل بين العنصرين الجهل والعلم، والخضوع والحكم، والحرية والدين.
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص299.
ومن ثم عرفت اللائكة باللادينية وتسمت بالعقلانية "أراسيوناليسم" بمقابلة العقل للإيمان كما جنحوا إلى تسميتها في الغرب بالعلمانية والعلموية "سيانتسيم" بمقابلة العلم بالدين.
فالعلمانية في النهاية منهج في الحياة لا يخضع للدين ولكنه يحتكم حرًّا للعقل والعلم. وهي في نظرهم بعد فكري وطريقة محددة لتشكيل مفهوم جديد عن السيادة والمشروعية وممارسة جديدة لهما (1) كما أنهم لديهم ثورة عظمى في تاريخ الفكر الإنساني، والتفاته للذهن للوصول إلى المعرفة، وأمر ثمين ودرس قويم بعيد عن الصراع السياسي البذيء بين اللادينية والأيدولوجيات الدينية (2) ، وبذلك فهي ترقى بالإنسان إلى قدرة التمييز بين القضاء السياسي والقضاء الديني وهي تستلزم الأخذ بعين الاعتبار فتوحات الفكر العلمي وكذلك تناقل هذا الفكر، فهي ترد الإسلام لا فقط إلى ما قطع عنه من جذوره الفلسفية القديمة بل ترده أيضًا وهو المهم إلى الإنتاج العقلي الذي نشأ في الغرب في العصور الحديثة (3) ، فتربطه بأصوله الحكمية القديمة وتبعثه نشيطًا قويا مواكبًا للحياة. وهل يعقل أن يحيا الإنسان في هذا العصر العلمي المتطور متأثرًا دائمًا بأسطورة الأديان فيكون في نهاية القرن العشرين راضيا بامتداد سلطان الدين الذي يريد أن يشمل كل مجالات الوجود والمجتمع لضبطها والسيطرة عليها، قابلًا غياب المشروع البديل الذي سيحقق بدون شك وكما هو مشاهد إشباع الحاجات الأساسية للجماهير.
وبهذا يكشفون عن منهجهم ويفسرون خطتهم بقولهم:
لقد غير الفلاسفة فرويد ونيتشه وكارل ماركس في هذا القرن مناهج النظر والتفكير وتقدموا بالعقل البشري مراحل كثيرة وأعطوا للفكر الإنساني استقلاليته الكاملة بالقياس إلى العقل المطلق المتعالي. ومن أجل ذلك فقد آن للفكر العربي المعاصر والفكر الإسلامي بشكل عام أن يعيدا النظر في مفهوم الوعي الميتي مع مقارنته بالوعي التاريخي الواقعي والمستقل. ومن الملاحظ أن مطلبًا كهذا لن يتحقق إلا بالدخول في طفرة أيستيمولوجية وحيوية هائلة وعنيفة سوف تؤدي حتمًا إلى زلزلة الوعي والقيم السائدة بأكملها (4) ، وربما هون ذلك علينا اعتقادنا أن المحتويات العلمانية التقديرية للفكر الإسلامي ستبقى في غير متناولنا ما دمنا نريد البقاء متشبثين بإسلام لا يعدو أن يكون دينًا يأمر ويسجن كليًّا العالم أجمع (5) .
(1) محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 16، 17 /1987م:24.
(2)
أركون. محاضرة بالرباط من أجل تحليل للعقل العربي. انظر: محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986: 51-54.
(3)
أركون. نوفال أبسرفاتور: 7 / 2 /1986؛ محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986/ 59، 15 /69.
(4)
هاشم صالح. ترجمة مشكلة الأصول، لمحمد أركون. الفكر العربي المعاصر: 13 /1986: 20.
(5)
أركون. الأمة الإسلامية: ص120؛ محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986:45.
وهكذا يتأكد القيام بثورة شاملة تهز فكر العالم العربي والإسلامي رأسًا على عقب مطالبين بعدم ترك الإسلام للكليات التقليدية تدعو له ولا بأيدي الشيوخ وعلماء الدين يلقنونه. إن مثل هذا الأمر سيزيد في القطيعة والتطرف بين الطرفين المتقابلين الإسلاميين الملتزمين والعلمانيين الحريصين على أن تخلوا الساحة العامة من كل ما هو ديني. وهنا يعرض بعض الدعاة حلًّا يتمثل في النظر إلى الدين نظرة تاريخية تراثية مصرحًا بأن العلمنة تقتضي في واقع الأمر إيجاد مجابهة خصبة بين الرؤيا العلمانية للعالم والرؤيا الدينية له، ويصرح بقوله: أنا مع العلمانية بقوة ولكني أرفض أن يمنع المتطرفون العلمانيون دراسة الأديان بصفتها ظواهر ثقافية كبرى عاشتها البشرية خلال قرون
…
(1) .
ومن جهة أخرى يرى أصحاب البرامج الفكرية النهضوية أن المنهج لإعادة تشكيل العقل العربي وبالتالى إعادة تاريخ الفكر العربي الإسلامي يمكن أن يتم بأخذ طريقين:
أولهما: تبني الأفكار المادية واقتباس المناهج الاشتراكية الماركسية للخروج بالفكر العربي من أوضاعه المتردية الراهنة ثم إعادة كتابة التاريخ على ضوء مناهج المادية الجدلية.
ثانيهما: تبني الأفكار المادية أو غيرها من أفكار المذاهب السياسية المعاصرة بالمرور من مرحلة تاريخية فكرية تتم فيها علمنة الشعوب العربية الإسلامية وجعل إيمانها بعقيدتها الإسلامية وعلمها بشريعتها المحمدية ينقلب إلى تقديس لتلك العقيدة كإرث حضاري وثقافي إنساني وتعظيم من طرفها لتلك الشريعة كعطاءات فكرية بشرية تحمل في كيانها عناصر ثورية إذا ما قورنت بزمانها وفترة تاريخها (2) .
(1) من الموقف الميثولوجي إلى الموقف العرفي. حوار أركون مع هاشم صالح. مجلة الوحدة: 3 ديسمبر 1984. محمد بريش. الهدى: 14، 5- 7 /1986: 27؛ أركون: 14 /27.
(2)
محمد بريش. الهدى: 130، 1 – 2 /1986:31.
وفي بحث أعدة (أركون) الداعي إلى العلمنة الإسلامية وصانعها بعنوان "الإسلام والعلمنة" ونشره في مجلة الفكر العربي المعاصر، نجده يتناول بالعرض والتحليل والنقد وجوه هذه القضية فيتعرض لإحدى مشاكل الإسلاميات التطبيقية التي ما يزال يدعو إليها ويهيئ لها الشباب المقتنع بمنهجيته والسائر على طريقه. ويتحدث عن مثال مزدوج للعلمنة في البلاد الإسلامية العربية هي تركيا ولبنان، ثم يتناول القضايا الساخنة التي عرضنا لبعض أقواله فيها مثل النص القرآني والحديث عن جمعه وقراءاته وتفسيره وقوة الظاهرة القرآنية، ومثل قضية السلطة بالحديث عن الخلافة عند السنة والشيعة وعرض الأصل التاريخي وبيان عملية التسويغ والتبرير، وبالطبع بدون شك التعرض لانبثاق العلمنة وإلحاحها في هذا العصر مع بيان المنهج والطريق الذي ينبغي لأهل الفكر أن يسيروا فيه من أجل ممارسة علمنة إسلامية. وليكشف طريق ذلك تفضل فأعد مع الأستاذ حسن حنفي مشروعًا متكاملًا بينهما للتخطيط الشامل للفكر الإسلامي المستقبلي قدمه للجنة المكلفة ببحث هذا الموضوع بالكويت بدعوة من المنظمة العربية للتربية الأليكسو. وأهم ما ورد في هذا المشروع إذا تركنا أدبياته ومناقشته وآراءه وتاويلاته يتمثل في ثماني نقاط هي كالآتي:
1-
العلمنة موجودة في القرآن وفي تجربة النبي صلى الله عليه وسلم.
2-
الدولتان الأموية والعباسية علمانيتان وليستا دينيتين، والتطور الأيدولوجي الذي قام به الفقهاء يعبتر إنتاجًا عرضيًّا محكومًا بظروف وقتية.
3-
للقوة العسكرية في نظام الخلافة والسلطنة دور أساسي في تحديده وتحديد كل أشكال الحكم اللاحقة المدعوة الإسلامية.
4-
محاولات عقلنة العلمنة الممارسة في واقع المجتمعات الإسلامية حصلت في تلك الظروف من قبل ظهور الفلاسفة المسملين.
5 – أشكال الإسلام الأرتودكسي كالسني والشيعي والخارجي عبارة عن انتقاءات اعتباطية واستخدامات إيديولوجية لمجموعة من العقائد والأفكار والممارسات التي يدعي وهما أنها تقوم على أساس ديني محض.
6-
إعادة بحث وفحص مكانة العامل الديني والتقديس والوحي على ضوء النظرية الحديثة للمعرفة.
7-
كل الأنظمة السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية بعد تحررها من الاستعمار علمانية واقعيًّا.
8-
العلمنة إذ تؤخذ كمصدر للحرية وبقضاء تنتشر فيه هذه الحرية من أجل افتتاح نظرية جديدة في ممارسة السيادة العليا والمشروعية هي عبارة عن أمر ينبغي الشروع به داخل المجتمعات الغربية الأوروبية المعاصرة أيضًا (1) .
(1) محمد أركون القدسي والثقافي والتغيير. مفهوم السيادة العليا في الفكر الإسلامي. مجلة الفكر العربي المعاصر. 39 جوان 1986، ص 30-31؛ محمد بريش. الهدى: 16-17 / 1987: ص24.
وقد كتب لي حضور هذه الاجتماعات التي احتد فيها النقاش وقوبلت العروض فيها بالإنكار والنقض. ونحن لم نذكرها هنا إلا كصورة مخططة وبإصرار لتحدي المسلمين ومهاجمتهم في قرآنهم وسنتهم وعقيدتهم وتشريعهم ونظام الحكم عندهم، ولا أعود إلى ما سبق عرضه ومناقشته في محله من تهم وتهجمات تتصل بالقرآن أو السنة أو العقيدة أو اللغة ولكني أقف ثانية عند قضية السلطة السياسية العامة " الدولة "، وعند قضية الشريعة وتطبيق أحكامها لنرى مواقف أخرى للعلمانية منها:
أما القضية الأولى فالمسيحية فصل فيها بين الدين والدولة ولا كذلك الإسلام، واعتبر ماكسيم رودنسون أن الإسلام ارتبط بالسلطة الزمنية من الأول وظهور ذلك واضح في عمل النبي الذي كان رسولًا وإمامًا. ويجنح أركون بحكم دعوته إلى علمنة الإسلام إلى أنه من الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي حاسم أم هو دون ذلك في تشكيل نوعي السلوك بين المسيحيين والمسلمين؟ ويقرر بعد ذلك معلنًا أن النبي لم يكن قائدًا عسكريًّا أو سياسيًّا فقط، وأن للخطاب الديني الذي جاء به أهمية بالغة كما أنه يتميز بتجربة دينية غنية جدًّا وبقصاء رمزي جديد. وبناء على ذلك – وهنا تكمن حقيقة العلمنة التي يدعو إليها – يمكن التعلق بهذا الدين دون أن نستنتج بالضرورة قواعد سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، وأنه لا يلزم بالضرورة أن تكون علاقة الأديان بأصولها مبنية بناء النتائج على أسبابها في كل الظروف وفي كل المنعطفات التاريخية. فهناك إذن دين وأهم ما يتمثل فيه الرسالة وهناك بإزائه مجتمع وتاريخ (1) . وبعد تقرير وجهة النظر هذه القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة أو السلطة يذكر أن الخلافة والدولة في الأساس كانت علمانية وأنها كانت تبحث في الطور الأول عن تبرير أو تسويغ ديني. ونسي أو هو لم يقف على كتاب تخريج الدلالات السمعية للخزاعي ولا على كتاب التراتيب الإداية للكتاني ولكنه اعتمد فقط للاستدلال على رأيه على كتاب ابن المقفع الكاتب والأديب الباطني "رسالة الصحابة" الذي صنعه للدولة العباسية سنة 750 ليجعلها حسب زعمه نسخة طبق الأصل من الدولة الساسانية الإيرانية. وإن بنى الدولة العباسية ومؤسساتها وأسلوب الحكم في سوريا العراق وطريق إعادة الأمن لها والقرارات التي كانت تصدر عن الجيش والشرطة والقضاة. كانت كلها مستوحاة من النظم الفارسية دون أي استعانة بالفكرة الوهمية " القانون الديني والإسلامي". وهكذا يصبح جليًّا أنه لا خشية في الفصل بين الدين والدنيا، بين الروحي والزمني. وأنها تجربة واقعة من صدر الإسلام فلا يضير الدين الحنيف أبدًا أن يكون متهجًا لإشباع الجانب الأساسي الروحاني في الناس من غير أن يدخل في متاهات الحكم وصراعاته والسلطة وأشكالها وممارستها.
(1) حوار مع الأكون أجراه هاشم صالح. من أجل مقاربة نقدية للواقع. المستقبل العربي: 1010، 7 /1987: 7-8.
وأما القضية الثانية وهي الشريعة فقد أضاف إلى ما عرضنا له بشأنها قبل جوانب جديدة تتمثل في كونها (أتيمولوجيا) بمعنى الطريق المستقيم المؤدي إلى الله، وإن ما قامت عليه في تصور الناس في بعض البلاد كالجزيرة العربية لا يعدو أن يكون فهمًا تقليديا ممارسًا، وهي وإن كانت في الواقع مجموعة من المبادئ تشمل كل نواحي القانون من مدني ومؤسساتي وجنائي تلقاها المسلمون وكأنها ذات أصل إلهي قد ترسخ في الوعي الإيماني فترة من الزمن في الأوساط القروية والمدنية على سواء، إنها ناتجة عن الوسائل الاستنباطية المطبقة بصرامة على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لكنها في الواقع لم تكن مطبقة على كل المجتمعات الإسلامية، فالعالم الرعوي والزراعي نجا منها باستمرار، كما أنها كانت في الغالب مرتبطة بمركزية الدولة أو السلطنة أو الخلافة. فالسلطان أو الخليفة وهو الإمام وقاضي القضاة والقاضي الأكبر كان يعين قضاة الأمصار الذين يتولون تطبيق أحكام الشريعة حيثما امتدت السلطة المركزية جغرافيًّا. وهذا بالطبع لم تكن تاريخيا كلية ولا شاملة وهكذا فإن قسمًا كبيرًا من البلاد كما كان الأمر في الجزائر قبل الاستقلال سنة 1962 – 1974 كان لا يخضع للتشريع الإسلامي ولكن تطبق فيه الأحكام العرفية المتوارثة (1) .
وللتمكين من هذا التصور يقابل هذا المؤرخ الفرنكو مسلم بين تاريخ التشريع في نظر المسلمين والفقهاء خاصة وبين ما كانت عليه قصة التشريع في الواقع من الناحية التاريخية التي قدمها لنا محررة عن طريق سنده ونظرته النقدية لها. وإذا كان جمهور المسلمين سابقًا وحاضرًا يعتقد أن الشريعة تشكلت تدريجيًّا بفضل ممارسة القضاة الذين كان عليهم مواجهة حل مسائل المسلمين المتفرقة والعديدة، وأن تلك الحلول كانت نتيجة دائمة لاستجواب القرآن ثم السنة ولاعتماد الفهم فيهما وروح الشريعة منهما، وأن هذه الممارسة القضائية والاجتهادات الفقهية كانت أساس مجموعة كبيرة من الأحكام التي اعتمدت خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي ومن بعدها، وأن مدارس اجتهادية سنية وشيعية قد ظهرت هنا وهناك في أقطار العالم الإسلامي وكانت وما تزال مهيمنة على الأقل فكريًّا إلى الآن، فإن الصورة الثانية لتاريخ التشريع الإسلامي حسب رئيس قسم الدراسات الإسلامية بالسربون هي التي يوحي بها جولدزهير وشاخت في كتاباتهما والتي ينزعان عنها الأصل الإلهي بانتهائهم إلى القول بأن الشريعة عبارة عن هذا القانون الذي أنجز داخل المجتمعات الإسلامية وبشكل وضعي كامل.
(1) محمد أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص296.
ولتفصيل القول في هذا يعمد إلى قضية تأثر الشريعة الإسلامية بالأعراف المحلية التي وجدتها قائمة في البلاد المفتوحة ويؤكد أن الرجوع في آخر الأمر لم يكن إلى قواعد ثابتة ولكن إلى الرأي الشخصي للقاضي. ويدل على هذا أن ما حصل من اضطراب وتقطع في تطبيق الشريعة هو الذي حمل الشافعي على وضع رسالته والدعوة إلى الأخذ بالأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وقد عرضنا من قبل رأينا في القرآن والحديث، أما الإجماع فأمره غمض لأنه لم يحدد كما أنه نادرًا ما يتحقق وإن اعتمد في بعض المسائل الكبرى، والقياس كما رأينا حيلة جلب بها القانون الوضعي المخترع بالتعظيم والتقديس (1) .
ويمضي بعد هذه المقارنة يقول: ومن العجب أن تظل ملايين من البشر مقتنعة بأن الشريعة ذات الخطر الكبير على حياة الناس والتي يراد تحكيمها في كل شؤون المسلمين في عامة تصرفاتهم وحتى في تفكيرهم هي من الله. ولا نجد مبررًا لهذا الوهم المستولي على عقولهم إلا من حيث أن موقفهم هذا يمثل نوعًا من التقليد التعبدي السكولاستيكي الذي رسخ في الأذهان عن طريق التعليم والتلقين، والذي سبب الخلط فيه بين الزمني والروحي يرجع إلى خلطهم بين القانوني والشرعي حيث استعملت الكلمة الثانية بقدر مشترك بين الموضوعين. وإنَّ السبيل الوحيد لتصحيح ذلك وتغيير الوهم السائد يكون باعتماد المنهج التاريخي النقدي المنهج التفكيكي التحليلي العلمي المحرر الذي ما يزال لسوء الحظ يلاقي صعوبات أكثر من هائلة.
وهنا يأتي الإمعان في الدعوة إلى ضرورة علمنة الإسلام والإخافة من مظاهر الصحوة في العالم بقوله: "مقابل المتمسكين بالدين والمنغمسين فيه والعائدين إليه بأعداد كبيرة طائفة من المثقفين كانوا بالأمس يدعون للعلمانية ويحثون على اختيار المادية التاريخية كمنهج فكري ثوري يتيح للشعوب العربية التخلص من ظلمات الجهل التي ساهمت في صنعها العقائد الدينية"(2)، ويقاسمه بعض العلمانيين تخوفه حين يحذر أصحاب المسار اليساري بقوله:"إن الإسلام كان ولا يزال مركز الشرعية الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية التي تتعامل معها، ويدعو هذا بدون شك إلى مضاعفة الجهود تخطيطًا وتطبيقًا لنشر العلمنة وإقناع الناس بها"(3) .
(1) محمد أركون. تاريخية الفكر الإسلامي: ص297، 298.
(2)
محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 63-1-2 /1986: 29.
(3)
محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 63-1-2 /1986: 29.
الصحوة الإسلامية:
مما قدمنا يتجلى التقابل بين الاتجاه الإلحادي والتجديدي واليساري وبين الاتجاه الإسلامي الشامل بجميع صنوفه وأشكاله ومراتبه في ساحة واسعة غير مقصورة على البلاد العربية، ولكنها تتسع لتمتد فتشمل البلاد الإسلامية ومن ورائها وكور ومراكز الدعوات المناوئة للمسلمين كأمه وللإسلام كدين ولحركات المعارضة لها والقائمة في وجهها في كل مكان من أجل حماية العقيدة ورد العدوان. إنها مسابقة ومناظرة بل نقائض وملاحم وحرب مقنعة وجهاد.
تلك ترفض الإسلام كدين أو تقبله، ولكن كفكر حضاري تتمسك به إلى حين ما دام يحقق لها مصلحة، فإذا وجدت المصلحة في غيره نبذته وولت وجهها عنه، وهذه تؤمن به كعقيدة مقدسة جاء بها الرسول الخاتم وبيَّنها لها بالقول والعمل والدعوة إلى الحق والهداية إلى الخير فهي تتمسك به كمنهج وتؤثره على كل شيء ولا تبحث عن شيء وراءه.
تلك لا ترتبط بقومية ولا تلتزم بدين ولا عقيدة. وهي حين تصرح بأن ظروفًا قضت عليها بالتحرك في دائرة الانتماء العربي الإسلامي تعلن عن وجوب تجاوز النرجسية والمركزية العريقة والقومية من جهة، وأنها لا تعتبر العروبة غاية قصوى لمصيرها ولا قيمة في حد ذاتها، ومن جهة أخرى ترفض أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع والمحرك الأساسي الفعلي للعبة الاجتماعية فارضًا قواعده المدنية ومايرتبط بها من فروض في العادات والتقاليد (1) .
وهذه تصر على أن النظام الإسلامي هو النظام الديني الإلهي الذي يجب على كل مسلم أن يمارس الحياة على أساسه وألا يستبدل به غيره مهما تكن الظروف والمناسبات من حيث إنه النظام العام الدائم الصالح لكل زمان ولكل مكان.
وحين تذكر الأولى بما حققه العلم من إنجازات والتطور الفكري والحضاري القائم على العلمانية من رقي وازدهار وتقدم ومدنية تكشف الثانية عن حقيقة هذه الحضارة العلمية، وهي وإن سلمت بجدواها واعترفت بما قدمته للإنسانية من ثروات هائلة وخدمات عظيمة غير أنها تؤمن بأنها بفقدانها للجانب الروحي الضروري والمهم لم تستطع أن تحقق الأمن والطمأنينة للبشر الذي يمرغ في أوحال المادية ويزداد مع الأيام قلقًا وشقاء وخوفًا ويأسًا مع ما هو ملحوظ للعيان ومشاهد في أطراف العالم وبخاصة في البلاد الإسلامية من ضروب الفشل في مختلف المجالات الروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية.
(1) هشام جعيط. الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي: ص102، 103؛ محمد بريش. الهدى: 13، 1-2 /1986:30.
ومن ثم جاءت حركة رد الفعل الطبيعية التي حمل عليها استشراء الفساد والجور واختلال التوازن وفقدان الأمل في الغد المرتقب، وقام الدعاة المسلمون بما فرضه عليهم دينهم وناداهم به قرآنهم في قوله:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
وهكذا بدأت الصحوة كما يسميها المسلمون مشرقًا ومغربًا ويسميها خصومها فتنة وثورة وهي في واقع الأمر عنوان على اليقظة بعد السبات وعلى الانتباه بعد الغفلة وعلى الاهتداء إلى الأسس المقومة للأمة والقيم والمبادئ التي يتميز بها الإسلام بعد طول نسيان أو تجاهل بفعل التبعية البغيضة بجميع أشكالها للدول الاستعمارية وسلطان الغزو الفكري المادي على عامة أفراد الأمة.
ولا بدع أن يغيظ انبلاج الصحوة الغرب المتحيز للائكية فيرمي دعاتها والمسلمين عامة بالتخلف والرجعية، فإن الغربيين من مسيحيين وغيرهم لم يفهموا لهذه الحركة معنى ولم يدركوا أبعادها بسبب ما يملأ حسهم الباطني الجماعي من أخيلة وتصورات غير صحيحة عن الدين الإسلامي، وبسبب انزعاجهم أكثر بالتحرر والثقافي الذي يواجهونه في أكثر البلاد التي كانت بالأمس محتلة من طرفهم فكانوا لها سادة وكان أهلوها لهم تبعًا (2) .
وسار الدعاة المجددون لأمر هذا الدين يخوضون غمار معركة الإصلاح ببث الوعي الديني، وظهرت آثار ذلك في مختلف الطبقات الشعبية، ولما استشعر خصومهم تجدد قوتهم واجتماع الناس من حولهم وعمر الشباب المساجد وحلقوا حول المرشدين والأساتذة يفسرون لهم القرآن ويعلمونهم الحكمة ويزكونهم نعتوهم بكل الصفات وضيقوا عليهم وصدوهم كلما استطاعوا عن مباشرة وظيفتهم الدينية الخيرة، ولربما ألحقوا بهم أنواعًا من الأذى والعذاب والتنكيل إخفاتًا لأصواتهم وإرهابًا لهم. وتواصل الحذر وازدادت الخشية من الجماعة الإسلامية وحصل التطرف، فذهب أحد العلمانيين إلى الدعوة إلى إخلاء المساجد لكونها وكر التجمعات الإسلامية ومركز نشر الدعوة، ولكون الدين لا يقتضي بالضرورة التحول إلى المساجد فيقول: إن مسألة الإسلام تستوجب أن يعاد التفكير فيها كليًا خلافًا لما يحاول التاريخ الراهن والمتعصبون الذين تكلمت عنهم إثباته، الإسلام يفترض وجود علاقة شخصية مع الدين، ليس من الضروري دومًا أن يحتشد الناس جماعات في مسجد لإقامة الصلاة، إن الصلاة مسألة شخصية في الإسلام كما في الديانات التوحيدية الأخرى، وكل الداء يأتي من الخلط الذي وقع لأسباب تاريخية بين الاستعمال السياسي للدين والقضاء الشخصي للمتدين (3) .
(1) سورة آل عمران: الآية 104.
(2)
ميشال لالون:17.
(3)
حوار مع أركون لنوفال أبسرفاتور 1109. 7 /2 /1986؛ محمد بريش. الهدى: 15 /58.
وسخرت كل الوسائل لمنع مثل هذه الاجتماعات والدروس، وواصل الطرف الثاني عمله بالإمعان في القيام بتظاهراته والاجتماع بالناس في عدة أماكن أخرى، وحصلت الاصطدامات القمعية والدموية وواجهت الصحوة التطورات بما يناسبها وتعددت واختلفت هيآتها ووسمت كلها، بل الإسلام نفسه بالعنف حتى قال كلود ليفي ستراوس رائد الأنتولوجيا البنيوية المضادة للعنصرية والاستعمار في الستينات أنه خائف من الإسلام (1) . وصرح آخر في حوار أجري معه: أن الأحداث الجارية في البلدان الإسلامية والعربية وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط تفرض فكرة أن الإسلام عنيف ويحاولون تفسير ذلك عن طريق العودة إلى الوراء نحو أصول الإسلام، ويحتجون بأن النبي محمدًا نفسه قاد الحروب، واعتمادًا على ذلك يقولون إن الإسلام دين استخدم العنف منذ البداية، وبالتالي فإن المسلمين يعيدون إنتاج موقف قديم يتخذ شكل المثال والقدوة من موقف النبي نفسه (2) .
ونحن لا يعنينا هنا تقديم المواقف أو نقدها ويكفينا أن نشير إلى أن الحرب المقنعة ضد الإسلام مستمرة على كل حال وفي أي وقت عند ضعف المسلمين وهوانهم وتبعيتهم للدول المتحكمة في مصائرهم أو بعد تحررهم وحصولهم على استقلالهم ومحاولتهم التجديد لكيانهم وتحقيق المناعة لجماعاتهم.
الدعوة من أجل تجديد الذات:
إن ما غال المسلمين من فتن وعرض لهم من نكبات، ولحقهم من هوان على الناس وعلى أنفسهم، وما انتشر بينهم من فساد وسوء وشر، كان كله بسبب بعدهم عن دينهم، وإعراضهم عن هديه، واستهتارهم بمقاصده، وتجنبهم للالتزام بأحكامه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) .
وقد دعت الضرورة المسلمين إلى مراجعة النفس ومحاسبتها ونقدها ومراقبتها وبيان طرق الخلاص والعزة لاستعادة الأمجاد واسترجاع السيادة والريادة والوفاء بأمانة التبليغ للهدي الإسلامي ونشر دين الله في العالمين، فتتم بذلك النعمة على الناس وينتشر الأمن والسلام بينهم وتتحقق لهم السعادة في هذه الدار وفي الدار الآخرة. وإن في هذا ما يغني عن الأخذ بالمذاهب الفكرية والفلسفية والاقتصادية والسياسية من مثل العالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية. فإن تلك الاتجاهات التي جربها الناس وأقاموا عليها أسس أنظمتهم ومعاملاتهم قد صدع القرآن من قبل بأكمل ما فيها من إيجابيات وصرف عما تضمنته من سلبيات ودعا إلى المنهج الأقوم.
(1) حوار مع أركون من أجل مقاربة نقدية للواقع أجراه هاشم صالح. المستقبل العربي. 101 –7 /1987: 10.
(2)
حوار مع أركون من أجل مقاربة نقدية للواقع أجراه هاشم صالح. المستقبل العربي. 101 –7 /1987: 5.
(3)
سورة الأنفال: الآية 53.
ولذلك ترى الثلة المؤمنة الموقنة القائمة بالحق والداعية إليه: "تتخذ القرآن منهجًا لها – كما قال البنا – تتلوه وتتدبره، وتقرؤه وتتفحصه، وتنادي به وتعمل له، وتنزل على حكمه، وتوجه أنظار الغافلين عنه من المسلمين وغير المسلمين". وتردد بين الناس فخورة معتزة معلنة: "نحن مسلمون وكفى ومنهاجنا منهاج رسول الله وكفى، وعقيدتنا مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى"، وقد اعتبر القائمون على هذا الأمر في الشرق الأقصى والشرق الأوسط وفي بلاد المغرب أنهم مهما اختلفت هيآتهم وأشكال عملهم وطرق المعالجة لقضاياهم سواء كانوا من المعتدلين أو من المتطرفين أنهم يحملون أمانة ويبلغون رسالة:
تتمثل في إخلاص الوجه لله والخضوع لإرادته في كل ما أمر به أو نهى عنه.
وفي الممارسة الشاملة للإسلام عبادة وقيادة، دينًا ودولة، روحانية وعملًا، صلاة وجهادًا، مصحفًا وسيفًا، فلا ينفك واحد من الأمرين عن الآخر.
وفي تنبيه الغافلين من الناس إلى ما في الإسلام من قيم وإلى وجوب عودة الإسلام إلى الحياة بعد غيبته الطويلة عنها.
وفي بناء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والشعب المسلم والأمة المسلمة بناء يقوم على الاحتكام إلى شريعة الله لا إلى أي حكم سواها.
وفي تجهيز المؤمنين بقوة في الاعتقاد والتصور، وبقوة الخلق والتكوين النفسي، وبقوة التنظيم والبناء الجماعي، وقوة الصمود والتصدي، وقوة التغلب على جميع المعوقات.
وفي التضحية والبذل والجهاد وفي سبيل الحق، فما الوهن الذي أذل المسلمين إلا حب الدنيا وكراهية الموت.
وفي التناصر والتعاون والتكافل والتضامن وتقوية الروابط وتعزيزها بين الأقطار الإسلامية جميعًا وبخاصة العربية منها تمهيدًا للتفكير الجدي العملي في توحيدها وجمع كلمتها راية واحدة وجعلها وإن اختلفت بها المناطق والآفاق دولة متكاملة متلاحمة تعود بها الخلافة الضائعة.
ولو أتيح بلوغ هذه الأهداف الغالية بتربية الأمة وتغيير العرف العام وتزكية النفوس وتطهير الأرواح والقضاء على الأفكار والحلول المستوردة التي لا يقرها الإسلام لتغيرت الأرضية التي يمكن للإسلام أن ينطلق منها قويًّا مجددًا ليتبوأ مرة أخرى مكانته التي أرادها الله له في هذا العالم. وإن هذا كما قال الدكتور القرضاوي لرهين قيام مجتمع إسلامي توجهه عقائد الإسلام، وتحكمه شرائع الإسلام، وتقوده مفاهيم الإسلام، وتسوده أخلاق الإسلام، وتسيطر عليه تقاليد الإسلام، وتسري في كل جنباته روح الإسلام، ويصبغ كل شيء فيه بصبغة الإسلام:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} ٍ (1) . مجتمع عقيدة وفكر، مجتمع دعوة ورسالة، لا بد أن تتمثل في جميع نواحي حياته: روحية ومادية، فكرية وسلوكية، تربوية وثقافية، نفسية واجتماعية، اقتصادية وسياسية (2) .
(1) سورة البقرة: الآية 138.
(2)
الحل الإسلامي فريضة وضرورة: ص148.
وهذا الأمر العظيم الجليل الذي هو قوام الأمانة وموضوع الرسالة ليحتاج دون شكل إلى تضافر الجهود وإسهام كل الطاقات الفعالة في المجتمع الإسلامي.
فإن على الحكومة أو الحكومات الإسلامية أن تنهض بجزء كبير من أعبائه لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وعلى الهيئات أن تسهم فيه بفعالية لأنها هي التي تتولى إصدار القوانين للناس فتلتزم فيها مراقبة الله ومراعاة مصالح المسلمين.
وعلى الأغنياء والسراة لما خولهم الله من قدرات على التمويل والإصلاح.
وعلى العلماء والطلبة المسلمين بما يدعون إليه ويلتزمون به فيرفعهم مقامًا عليًا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
السيادة والسلطة:
على أساس شمولية الدين الإسلامي للجانبين الروحي والزمني واقتضاء نظامه الجمع ين الدين والسياسة خلافًا لما لحق المجتمع المسيحي في ظل الثورات والأنظمة اللائكية من تصدع سببه الفلسفات المادية والتوترات الاجتماعية والنزعات الطبقية رفض دعاة الاتجاه الإسلامي وأعلام الصحوة في كل بلد عربي مسلم وفي سائر الأقطار الإسلامية الاستجابة للعلمانيين من قادة ومفكرين وساسة في أي شكل ظهروا وعلى أي وجه انقلبوا لافتضاح أمرهم وانكشاف مؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين. وهل العلمنة إلا قضاء على الإسلام كدين ومنهج حياة وتدخل في شؤون المسلمين بما يفسد عليهم عقيدتهم وحياتهم ويجعلهم في ديارهم غرباء لا يقدرون على ممارسة شعائرهم ولا على القيام بأدنى الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظًا على كيانهم وصيانة لجماعتهم لأن في ذلك عند خصومهم تضييقًا للحريات وتدخلًا في الحياة الشخصية ومشاغبة وتعطيلًا لكل مظهر أو سبب من أسباب التطور والتقدم في نظرهم.
(1) سورة فصلت: الآية33.
هذا، ومن المسلم أن لكل جماعة الحق في اختيار من تؤمر عليها وتوكل إليه تصريف شؤونها وتدبير أحوالها. والأمة الإسلامية أو الشعوب الإسلامية من حقها أن تختار ولا يجوز أبدًا أن يفرض عليها من يحكمها لأن حاكم المسلمين – كما كان الخليفة – من أهم واجباته وأقدسها صيانة الدين والعقيدة والاجتهاد في تحقيق المصلحة العامة للأمة أو الجماعة التي يلي أمرها. ولذلك، فإن السلطة عند المسلمين لا تطلب لذاتها وإنما تطلب من أجل أنها الأداة الفعالة في سبيل الدعوة إلى الله ومن أجل الحفاظ على المجتمع الإسلامي سليمًا معافى متكافلًا ناميا متطورًا متقدمًا. وهل يتحقق ذلك مع القوميات أو الوطنيات؟ وهي مدعاة إلى تقسيم الأمة الواحدة إلى طوائف متباغضة متناحرة تحكمها مناهج وضعية أملتها الأهواء، وتفصل بين وحداتها حدود مصطنعة وأجناس متغايرة مفوتة عليها الأخوة في الله والمواطنة الصادقة النابعة من العقيدة المشتركة.
إن المسلمين لا يفرقون بين ملكية وجمهورية إذا كان الحاكم مسلمًا أمينًا تتوفر فيه شروط الإمامة التي نص عليها الفقهاء في كتب السياسة الشرعية كالماوردي في الأحكام السلطانية واختارته الأمة عن رضا وأسلمته مقاليد أمورها. ولكنهم يخلعون حكمه ويرفضونه إن كان ديكتاتوريًّا لأن النظام الإسلامي يقوم على الشورى والبيعة، وتقييد سلطة الحاكم والحق في عزله، والحكومة الإسلامية لا هي ثيوقراطية دينية، كما كانت تدعي الكنيسة أنها تستمد سلطتها من الله، لأنها تستمدها من الجماعة الإسلامية التي بايعتها ولا هي ديمقراطية لأن هذه وإن اتفقت مع الإسلامية في حرصها على تحقيق العدالة والحرية والمساواة، فإنها تختلف عنها من حيث عدم تقييد الحاكمين والمحكومين في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم بما أنزل الله.
وإنما هي نظام متميز تسوده الشورى لقوله جل وعلا لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) . {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) .
ويحفظه تقييد سلطة الحاكم خلافًا لما كان عليه الحكم المطلق الاستبدادي الذي لا حد له ولا قيد عليه والذي كان مهيمنًا في كثير من البلاد قبل الإسلام.
وهكذا بعد أن كانت علاقة الحاكمين والمحكومين تقوم على القوة البحتة أصبح أساسها في ظل الإسلام تحقيق المصلحة العامة لا قوة الحاكمين ولا ضعف المحكومين، وأعطيت الجماعة حق اختيار راعيها ووضعت لسلطة الحاكم حدود لا يتعداها، فإن تجاوزها كان عمله باطلًا وجاز للجماعة عزله. ومبدأ الحكم في الإسلام: الاستخلاف في الأرض لإقامة حكم الله فيها.
(1) سورة آل عمران: الآية 159.
(2)
سورة الشورى: الآية 38.
(3)
سورة النساء: الآية83.
ومن ثم كان للحكم الإسلامي القائم في أصوله على الاستقامة ومراقبة الذات والمحاسبة وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ما يحقق الأهداف منه وييسر على المجتمع الإسلامي نيل حقوقه وبلوغ عزته في ظل الإسلام وتعاليمه ونهجه ونظامه.
وللشريعة اعتبار مهم في حياة المسلمين لا يثني عنها انحراف المنحرفين ولا جحود الجاهلين وهي دستورهم الذي يحكم الأمة جميعها فيحمي مصالحها ويضع قواعد المعاملة بين أفرادها وهي النظام الإلهي الذي اختاره الله لها وتمت به النعمة عليها وهي وحي منزل من خالق العباد البصير بعباده لإقامة العدل بينهم لا يرقى إليها ما تواضع الناس عليه من الأحكام لثباتها ودوامها وسموها وكمالها ودرئها ما يغلب على أحكام الناس من نزعات وميول وشهوات وأهواء. وهي لكونها من الدين ولبابه قد فرض الشارع الاحتكام إليها. ومن خرج من هذا الحد يكون ظالمًا وفاسقًا وكافرًا بتصريح القرآن لكونها إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادًا لله. وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وقف أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت. وقد قال ربنا سبحانه: {ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ} (1) .
وهي بحكم أصولها العامة وقواعدها الكلية قد هيأت للعلماء المحققين والفقهاء المبرزين الاجتهاد فيما لا نص فيه بحمل المسائل المستجدة والقضايا المحدثة على نظائرها على وفق ما يقتضيه روح التشريع وسماحة الدين ومقاصد الشريعة وأسرارها، تشهد لذلك هذه الحركة العجيبة، التي نلمسها في كل بلد إسلامي بمجالس الفتوى والمجالس العليا الإسلامية ومعاهد البحوث ومجامع الفقه، وإنها لحركة جد مباركة لأنها لا تخدم المسلمين وحدهم، بل تنير الطريق للفقهاء ولرجال القانون في العالم، وقد اعترف بفضلها المنصفون من قضاة الغرب وعلماء القانون مثل كوهلر الذي لم يتردد أن صدع بقوله: إن الشريعة الإسلامية لتحتوي على أحكام لم يصل إليها القانونيون الغربيون إلا بعد عشرة قرون (2) .
واللقاءات الدراسية التي عقدت بلاهاي في السنوات 1932م، 1937م، 1948م، وبباريس في أسبوع الفقه 1951م توصيات من أهمها: أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، وإن اختلاف المذاهب الفقهية لينطوي على ثروة من المفاهيم والأصول الحقيقية هي مناط الإعجاب. وبها يتمكن الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة والتوفيق بين حاجاتها، وإن التشريع الإسلامي يعد في طليعة المصادر الصالحة لسد حاجات التشريع الحديث (3) .
(1) سورة المؤمنون: الآية 71.
(2)
مجلة القضاء العراقية مارس 1926؛ مجلة البعث الإسلامي م18 عدد10 يونيو 1974م.
(3)
أسبوع الفقه بباريس 1951م؛ الزرقا. المدخل الفقهي: 1، 94، 229.
هذه صورة من الحرب المقنعة ضد الإسلام يتهجم فيها المبطلون والجهلة الضالون في القديم والحديث على عقيدة الإسلام ومصادر شريعته وتاريخه. وهي متناسقة بعضها مع بعض، رغم تطور الأزمان واختلاف الظروف، تستهدف أمرًا جللًا هو تغيير العقيدة والتحلل من كل القيود والقيم والمبادئ وإحداث الفوضى وزلزلة الكيان في المجتمع الإسلامي. ولكن المؤمنين لم يعدموا لا ماضيًّا ولا حاضرًا صوتًا مجلجلًا يقوم الله بالحجة ويدفع عن دين الله الباطل ويكشف عن أعمال المفسدين المحاربين:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} (1) .
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة.
(1) سورة الكهف: الآيات 103-106.