الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تناسل المسلمين
بين التحديد والتنظيم
إعداد
الدكتور أحمد محمد جمال
عضو مجلس الشورى وأستاذ الثقافة الإسلامية
بجامعة أم القرى
بسم الله الرحم الرحيم
تناسل المسلمين بين التحديد والتنظيم.
* عقيدة المسلم تمنعه من التحديد.
* الدعوة إلى تحديد النسل: مكيدة استعمارية.
* قلة السكان من أسباب الكساد!!
* متى بدأت فكرة تحديد النسل؟!
* المخاطرة الأخلاقية لعمليات التحديد!
* الغربيون أنفسهم يعارضون دعوتهم.
* تنظيم النسل في حالات فردية لا بأس به.
أحمد محمد جمال
أستاذ التفسير بجامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
تتعالى بين حين وآخر.. الدعوة إلى تحديد النسل بحجة تكاثر السكان وقلة الغذاء أو السكن، وخوفًا من حدوث مجاعة عامة، وتتردد - في الوقت نفسه - تحذيرات من بعض الساسة والزعماء العرب والمسلمين.. تؤكد أن وراء هذه الدعوة أغراضا استعمارية سياسية واقتصادية، هدفها الدول العربية والإسلامية.
وهناك - في بعض المجتمعات - فكرة أخرى تطرح الدعوة إلى تنظيم النسل وبين الفكرتين أو الدعوتين فرق واضح. فالدعوة الأولى عامة شاملة أما الأخرى فهى محدودة وخاصة ببعض الأسر، تنفذها الأسرة من أجل إمكان تربية أطفالها وتعليمهم فترة بعد فترة، أو بسبب اضطرار الأم إلى الانتظار بضع سنين بين حمل وحمل.
وفي الدراسة التالية للموضوعين، محاولة لبيان وجهة النظر الإسلامية حولهما وكشف مكائد الاستعمار الأجنبى اقتصاديا وسياسيا الموجه للعالم العربي والإسلامي من وراء الدعوة إلى تحديد النسل.
وحسبنا في بداية بحثنا عن تحديد النسل - من الوجهة الشرعية - أن نذكر كفالة الله الخالق الرازق في قوله عز وجل تأنيبًا وتثريبا للجاهلين الوائدين لبناتهم.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) .
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (3) .
وإلى جانب هذه الكفالة الإلهية الثابتة الخالدة برزق الخلق - يحث الإسلام في قرآنه وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة خلفائه وأصحابه على البحث والعمل، واكتشاف كنوز الأرض وثرواتها التي لا تنفد واستغلال خيراتها التي لا تغيض.
(1) سورة هود الآية 6
(2)
سورة الذاريات الآية 58
(3)
سورة الحجر الآية 20
(4)
سورة الأعراف الآية 96
ففي التشريع الإسلامي: الكفالة الإلهية برزق الناس.. تأكيدا للقدرة، وتعميمًا للرحمة، وإغراء بالإيمان، وفيه الدعوة المكررة إلى العمل امتحانا للإنسان الذي وهبه الله العقل والسمع والبصر والجوارح، {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فهو عز وجل:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) .
ونستأنس بوجهة نظر العلامة الأستاذ علال الفاسي في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) يقول الأستاذ الفاسي ما خلاصته.
(إن الدولة وذوى السلطة في الأمة الإسلامية ممنوعون من اتخاذ التدابير لقتل الأمة خوفًا من الفقر، وذلك كوأد الأجنة في بطون أمهاتها.. حتى لا تنمو الأمة، فلا تجد بزعمهم ما يسمونه بالمجال الحيوي. إن دعوات جاهلية تنتشر في الشعوب الكثيرة العدد كالصين والهند - ويقلدها في ذلك بعض الدول العربية والإسلامية - تحث على تحديد النسل وإجهاض الأجنة بعد تكوينها بدعوة ضرورة توافق عدد السكان مع مستوى الإنتاج الاقتصادى، وللاحتياط من الفقر والبطالة، لقد خلق الله لنا من عوالم هذه الدنيا وما فوقها وما تحتها، وإلى الآن لم يبلغ الإنسان في استنزاف خيراتها إلا القليل، ولم يبلغ من اكتشاف أسرارها إلا الأقل، فلماذا نضيع الوقت في البحث عن طريق تحديد النسل، وإبادة الخلق، وقطع حبل الإنتاج الإنساني لأوهام لا مبرر لها؟!) .
(وليس في إفريقيا الآن إلا قدر ضئيل من السكان بالنسبة إلى مساحتها الكبيرة.. وما عليها الآن بعد أن تخلصت من الاستعمار الأجنبي إلا أن تبدأ كفاحها لإحياء أراضيها واستخراج خيراتها..) .
(إن إجهاض الأجنة، واستعمال الأدوية لمنع النسل وتقليله بصفة جماعية ليس مما يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية - وهو مما يدخل في غاية القرآن مما قصه علينا في وأد البنات عند العرب الجاهليين، والسبب الذي كان يحملهم على ذلك) .
(1) سورة الملك الآية 15
وهنا نحب أن نقف قليلا عند قول الأستاذ الفاسي: إن استعمال الأدوية المانعة للنسل أو تقليله.. بصفة جماعية لا يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية - فنلفت الانتباه والتأمل لقوله (بصفة جماعية) !!
فهذا هو الصواب في تحريم تحديد النسل أو تقليله: أن يكون بصفة جماعية تفضي إلى تناقص الأمة عددًا، وضعفها قوةً، وقلة أبنائها ورجالها الذين يعملون لتقدمها وتطورها علميا واقتصاديًا، ويدافعون عن مصالحها ومنافعها سلمًا، وعن حماها وبيضتها (1) . إذا أريدت بحرب أو عدوان.
ونتأمل هنا زجر الله عز وجل لخلقه من وأد بناتهم كما كانوا يفعلون في الجاهلية مخافة الفقر حاضرًا ومستقبلًا، مع وعده تبارك وتعالى بأنه الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) . {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (3) .
وللعلامة الأستاذ أبي الأعلى المودودي رأى في الدعوة إلى تحديد النسل يقول سماحته:
(إن هؤلاء المتعاقلين - يقصد دعاة تحديد النسل - لا يعرفون أن الله عز وجل قد خلق كل شيء في السماوات والأرض بمقدار كما قال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وأنه لا يصدر شيئًا من خزائنه إلا بقدر معلوم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} فمهما يكن من ظن هؤلاء القوم بالله وبأنفسهم، فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن الله الذي خلق هذا العالم وأبدع نظامه المحكم ليس بجاهل، ولا بطالب مبتدئ لفن الخلق والتنشئة، وصدق الله العظيم إذ يقول:{وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} - كما أن خلق السكان في العالم أو في بلد من بلاده عز وجل، ثم الزيادة والنقصان في عددهم وتهيئة الأسباب لبقائهم - مما يتعلق بحكمته ونظامه وحده:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} - {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} - {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
(1) بيضة كل شيء: حوزته وبيضة القوم: ساحتهم
(2)
سورة الأنعام الآية 151
(3)
سورة الإسراء الآية 31
وعلى هذا الأساس يزجر القرآن الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق - أى الفقر - أيام الجاهلية، وكان زجرهم عن ذلك لارتكابهم جريمتين: الأولى أنهم يقتلون أولادهم، والأخرى أنهم يرون في ولادتهم سببًا لفقرهم وبؤسهم) .
ويضيف الأستاذ المودودي: أن هناك عشرات الكتب التي طبعت في الغرب، ومهمتها أن تبالغ كل المبالغة في عرض مشكلة زيادة السكان في الشرق وتقترح على أساسه اتباع خطة تحديد النسل، ومنع الحمل - كحل ناجح لهذه المشكلة، وإن مكتبات البلاد الغربية مليئة بمثل هذه الكتب وهى تؤثر في حكومات الغرب بصفة مستمرة، كما أن السلوك العملي للقوى الاستعمارية يوثقها توثيقًا.
تآمر استعماري على العالم الإسلامي:
ويثبت الأستاذ المودودي ما يقوله باعتراف لبعض المفكرين الغربيين أمثال فرانك نوتيسين - وأرنولد قرين - وآثر كورماك -: بأن التقدم العلمي والفني قد وصل أيضًا إلى البلاد التي يتزايد عدد سكانها بسرعة فائقة!! وأن سيادة أوروبا تتوجس خطرًا سياسيًا شديدًا من تزايد السكان في العالم الإسلامي، وأن أمريكا تشعر بقلق من تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا على أساس زيادة السكان بحيث يصبحون أغلبية في العالم.
وهناك مخاطر قلة السكان العرب في ديارهم الواسعة ذات الخيرات والبركات الكثيرة، ومساعي إسرائيل إلى مزيد من تهجير اليهود في العالم الشيوعي إليها لتوطينهم واستعمار الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 م
لقد تحدث الدكتور أحمد زكي عن هذه المخاطر والأطماع اليهودية، وعن إسرائيل وانتصارها مع قلتها على العرب وكثرتهم فقال: إن ما حدث لم يكن من قوة الصهاينة ولكن من ضعف العرب، وقال أيضا: هناك أطماع في الوطن العربي تثيرها قلة السكان مع كثرة الخير. ثم قال: إن زيادة السكان لا نقصهم يجب أن تكون سياسة العرب، على شرط ألا ينتجوا الأنسال للعري والجوع ولكن للرزق الحلال، من العمل النافع، بعد التخطيط له، ثم كرر الكاتب: القول: بأن قلة السكان مع كثرة الخير تحرك الأطماع، ذلك أن بعض مناطق الوطن العربي قد تصبح في أي وقت موضعًا لأطماع تغزوها من الخارج لكثرة خيرها، مجتمعًا هذا إلى قلة سكانها، وضعف الدفاع عنها بناء على ذلك. وهو لا يعني (بالخير) الزيت وحده. وإنما يعني: الأرض الطيبة، والماء الوفير (1) .
(1) كان الدتور أحمد زكي رحمه الله رئيسا لتحرير مجلة (العربي) التي تصدر في الكويت
أشار الكاتب إلى أحاديث سبقت له مع بعض اليهود في لندن، صرحوا فيها أنهم لا يهدفون إلى سيناء ولا إلى النقب، ولا إلى الأردن الشرقي، فهي عندهم مناطق صحراء غبراء ولكنهم يهدفون إلى أبعد من ذلك وأخطر من ذلك، وأمرع نباتا وأكبر محصولًا، وأكثر ثمرًا، وأقل رجالًا، بل حيث لا رجال.
وقد نشر إلى جوار كلامه هذا خريطتين وضعتا على قاعة المحاضرات في لندن مع دعوة للناس إلى الاستماع إلى محاضرة عنوانها (معجزة العودة - الإسرائيلية إلى الشرق الأوسط) الخريطة الأولى تصور إسرائيل في وضعها الحاضر - والثانية تصورها وهى تغطي جزيرة العرب كلها!
وأضاف قوله: إنه إذا لم تكن سرعة النسل بمسعفة فما بال الهجرة من مكان فيه كثرة إلى مكان فيه قله؟؟ نعم هجرة عرب إلى أرض عربية ينزلون فيها ليعملوا في حرث وبذرٍ وجمعٍ وحصاد.
قلت: إنه نذير صارخ للزعامات العربية: أن تصحو.. وأن تفكر وأن تعمل وأن تتعاون على الحرث والزرع وتكاثر النسل وبذر الخير للأبناء قبل أن يهجم الأعداء.
ومن عجائب الصدف ومحاسن الاتفاق: أن أقرأ في نفس الوقت في كتاب (وجهة الاقتصاد الإسلامي) لجاك أوستروي - رأيًا للمستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسنيون يقول فيه: (إن الدراسات البشرية تدل أن سكان البلاد الإسلامية هم من الشباب في ذروة النشاط والأمل، ولن يتركوا إلى ما لا نهاية نظام استغلال بلادهم عن طريق الوصاية. إن هؤلاء الشباب سيصلون إذا عملوا إلى استعادة ثرواتهم الطبيعية من أرض زراعية، ومطاط، وقصدير، ومنغانيز وبترول إلخ) .
وقد علقت على هذا الرأى بالعبارة التالية: إذن فالدعاة إلى تحديد النسل في بلادنا العربية والإسلامية، وأصحاب صناعات أدوية منع الحمل: مدسوسون لمنع هذه (اليقظة) الإسلامية ومنع نهوض الشباب الإسلامي لاستراداد حقوقه واستغلال ثروات بلاده الغنية المعطاء!
قلة السكان سبب للكساد:
ولعلماء الاقتصاد الحديث وجهة نظر مضادة لفكرة تحديد النسل، فإنهم يرون أن قلة السكان أقوى أسباب الكساد الاقتصادى لأنه بانخفاض عدد المواليد يقل عدد السكان المستهلكين للسلع المنتجة، مما تفشو به البطالة بين السكان المنتجين، بقلة الطلب على المواد المنتجة، الأمر الذي يضطر أصحاب المصانع لتسريح عدد كبير من العمال، ومن هنا يطالب علماء الاقتصاد المعارضون لفكرة تحديد النسل بزيادة السكان، لضمان استهلاك الإنتاج واستبقاء العمال في مصانعهم.
ويؤكد فريق آخر من علماء الاقتصاد الحديث: بأن زيادة السكان في العالم أو في منطقة خاصة منه، ليس معناها زيادة الأفواه الآكلة فقط، بل تعني زيادة الأيدي العاملة أيضًا: وذلك أن للإنتاج ثلاثة أسس: الأرض - والمال - والإنسان هو أهم هذه الأسس وأخطرها ومن المؤسف: أن دعاة تحديد النسل يرون في زيادة السكان عاملًا استهلاكيًا ويصرفون نظرهم جهلًا وعنادًا عن كون هذه الزيادة عاملًا مهما للإنتاج!
ولا أدل على صدق وجهة نظر هؤلاء الاقتصاديين - من اهتمام فرنسا بانخفاض نسبة تزايد سكانها - في عام 1967 وتكوينها فرق عمل لدراسة ما يمكن القيام به لحث الأزواج على إقامة أسر متعددة الأفراد أكثر مما هو موجود الآن.
كذلك ليس أدل على كذب الدعوى بأن الإنتاج الغذائي في العالم أقل من كفاية سكانه المزايدين عامًا بعد عام - مما أثبته تقرير منظمة الزراعة والأغذية التابعة لهيئة الأمم المتحدة - لسنة 1967 - من أن إنتاج المواد الغذائية في العالم ارتفع بنسبة 3 % وفى البلدان النامية ارتفع الإنتاج إلى 6 % ولم يرتفع عدد السكان في السنة ذاتها إلا بنسبة 2 % - وكانت المحصولات الزراعية غزيرة في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى وأمريكا وأمريكا الشمالية والشرق الأدنى.
وهناك واقع مرير للسياسة الأمريكية والأوروبية الاقتصادية.. وهى قذف آلاف الأطنان من الحبوب والبيض والفواكه في المحيطات والبحار، لأنها زائدة عن حاجة الأسواق العالمية التي تصدر إليها أمريكا وأوروبا إنتاجها الغذائي، ولو كان لهؤلاء الناس المستعمرين كما يزعمون بعض المشاعر الإنسانية لتصدقوا بهذا الفائض من إنتاجهم على الجياع في أفريقيا من شيوخ ونساء وأطفال.
وهكذا تبطل حجة المنادين بتحديد النسل، وتسقط دعواهم بأن الإنتاج الغذائي لا يكفي سكان العالم.
ومن العجيب المريب: أنه في الوقت الذي ينادي فيه بعض الخبراء الاقتصاديين الغربيين الذين تبعثهم بعض الدول الكبرى - تحت ستار المساعدات الاقتصادية لبعض دول أفريقيا - بضرورة التشجيع على زيادة السكان الأفريقيين لأن بلادهم حديثة عهد بالاستقلال السياسى والتنمية الصناعية ولأن الإنتاج الاقتصادى يحتاج إلى أيد عاملة وفيرة - في هذا الوقت بالذات يكرر المستر (مكنمار) مدير البنك العربي الدولي الذي يتولى إعطاء القروض الربوية لتلك الدول الأفريقية المتطلعة إلى الازدهار الاقتصادي - يكرر الدعوة في تقرير له - عام 1969 - إلى المسارعة لحل مشكلة زيادة السكان في هذه الدول، ويصفها بأنها أكبر عائق للتقدم الاقتصادى والاجتماعى لأغلبية شعوب العالم غير المتطور!
وتكرار (مكنمار) لدعوته إلى مقاومة زيادة السكان في الدول الشرقية النامية برهان جديد على أهداف الغرب الاستعمارية من وراء فكرة تحديد النسل، وقد بدأ التخطيط لتحقيق الفكرة منذ رحل الاستعمار الغربي العسكري والسياسي عن بلدان الشرق في آسيا وأفريقيا، حيث لاحظ الغرب المستعمر زيادة عدد السكان المستمرة بين الشرقيين، وتعذر بقائهم محكومين أبدًا للغربيين، وبخاصة بعد تدرب الشرقيين على الآلات الميكانيكية وإلمامهم بالعلوم الفنية.
بدء الدعوة إلى تحديد النسل:
واستتمامًا للحديث عن فكرة تحديد النسل نرى أن نذكر منشأها أو ابتداءها التاريخي، لقد بدأت فكرة تحديد النسل في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان أول الدعاة إليها الاقتصادي الإنكليزي المعروف مالتوس فقد رأى أن سكان بريطانيا في عهده يتزايدون بصورة غير عادية، وأنه لابد لكى يحافظ الشعب البريطاني على سعة عيشة ورخائه المادي، ورفاهه الاقتصادي: أن يكون ازدياد عدد سكانه متمشيًا مع ازدياد موارد الرزق ووسائل المعيشة في بريطانيا.
والطريق التي اقترحها (مالتوس) لتحديد النسل هي أن لا يتزوج الأفراد إلا بعد أن تتقدم بهم السن، وأن يحاولوا التغلب على أهواء النفس وكبت نزواتها في الحياة الزوجية إذا تزوجوا.
وبعد مالتس الأنكليزي ظهر فرانسيس بالاس الفرنسي، ودعا في فرنسا بضرورة الحد من تزايد السكان، وكان رأيه الذي تقدم به لتحقيق هذا الغرض هو استخدام الآلات والعقاقير.
ثم قام في أمريكا الطبيب الشهير تشارلس نورتون وأصدر كتابه (ثمرات الفلسفة) الذي شرح فيه التدابير الطبية لمنع الحمل، وأشاد فيه بذكر المنافع الاقتصادية لتحديد النسل.
وقد تأسست في بريطانيا - على إثر ذلك جمعية برئاسة الطبيب دريسديل، وأصدرت كتبًا ورسائل للحث على تحديد النسل، وبعد ذلك بسنين ظهر كتاب (قانون عدد السكان) للسيدة بيسانت وفى سنة 1881 م وصلت حركة تحديد النسل إلى هولندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا، وانتشرت شيئا فشيئًا في سائر البلاد المتحضرة في أوروبا وأمريكا.
ويرى الأستاذ المودودي: أن انتشار هذه الحركة في أوروبا وأمريكا كان لأسباب غير الذي دعا من أجله مالتوس وإنما جاء نجاحها نتيجة للنهضة الصناعية الجديدة والنظام الرأسمالي والحضارة المادية السائدة اليوم في الغرب، فقد هجر سكان القرى والأرياف مزارعهم إلى المدن للعمل في مصانعها ومعاملها، واتسعت حاجات الحياة، وغلت تكاليفها غلاء فاحشا ضاق به أصحاب الدخل المحدود، حتى عجز الآباء عن تربية أولادهم، والأزواج عن رعاية زوجاتهم والشباب عن كفالة آبائهم وأمهاتهم الشيوخ، واضطرت النساء أن يكفلن أنفسهن بعملهن فخرجن من بيوتهن لكسب المعيشة.
بذلك بطلت القسمة الفطرية القديمة في باب الاقتصاد التي كان بموجبها: أن يكدح الرجال لكسب المعيشة، وأن يتولى النساء تربية الأولاد، وإدارة شؤون المنزل الداخلية، وإذا كان على المرأة أن تعمل كالرجل لتؤدي نصيبها من نفقات الأسرة المشتركة فأنى لها أن تستعد لإنجاب الأولاد، وأن تقوم برعايتهم كما ينبغي!
وإن نعجب من نجاح فكرة تحديد النسل لسبب غير السبب الذي من أجله دعا الدعاة إلى تحقيقها وهو تقليل عدد السكان ليتفق مع مقدار الموارد والوسائل الاقتصادية الممكنة.
.. فعجب آخر: أن يكون رواج هذه الفكرة بين الأغنياء والطبقات المتوسطة.. التي لا تشكو فقرًا ولا نقصًا في مواردها الاقتصادية، فالعمال الفنيون من ذوي الرواتب الضخمة، وأرباب التجارة والصناعة، والمثقفون ثقافة عليا، ورجال الرفاهية الاقتصادية من الطبقة الوسطى والأغنياء والمترفون من الطبقة العليا - هم المؤيدون لهذه الحركة والعاملون على تحديد نسلهم كما جاء في تقرير اللجنة الملكية لإحصاء السكان في بريطانيا، وظلت طبقة العمال والفلاحين يتزايد عدد أفرادها في مقابل انخفاض عدد الأغنياء والمثقفين.
وقد أكد ذلك الفيلسوف البريطاني برترا ثدراسل - في كتابه (مبادئ الإنشاء الاجتماعي) فقال: إن الطبقات التي يقل أفرادها هم المثقفون والأغنياء والأذكياء.. بينما يتزايد عدد أفراد طبقات العمال والأغبياء والجبناء، وحذر راسل من انحطاط مستوى الذكاء والقوة والنشاط والثقافة وطالب بتغيير النظام الاقتصادي والمستوى الأخلاقي.
المخاطر الأخلاقية للتحديد:
ومن عجائب آثار حملة تحديد النسل - غير ما تقدم - أن أدوية ووسائل منع الحمل يسرت طرق الفواحش الخلقية. ولم تعد المرأة تخشى فضيحة بسبب حملها إذا ما رغبت في تلبية نزعاتها الجنسية بغير وسيلة الزواج. وبخاصة حين تقوم العقبات الاقتصادية الكثيرة في طريق تأسيس بيت الزوجية، وتتبع الفواحش الخلقية الميسرة - عادة - الأمراض التناسلية الخبيثة المعروفة..
وللأستاذ المودودي تعليق لطيف حكيم، على هذه الناحية الخلقية من نتائج تحديد النسل، يقول سماحته:(إن هناك أمرين لا ثالث لهما يثبتان النساء - بعد خشيتهن لله - على جادة الأخلاق.. وهما حياؤهن الفطري، وخوفهن من أن ولد الزنا يفضحهن في البيئة، أما الحاجز الأول فقد أزاحته المدنية الجديدة إلى حد كبير، فأنى للحياء أن تبقى منه باقية بعد الاختلاط العلني بين الرجال والنساء في محافل الرقص والغناء والخمر وسواحل البحار والمسابح والملاهي، وأما الخوف من ولادة ولد الزنا فإن رواج وسائل تحديد النسل قد جعله أيضا أثرًا بعد عين، وشيئا يمت إلى الماضي لذلك أصبح النساء والرجال جميعا كأنهم قد نالوا إجازة عامة باقتراف الزنا) !!
ومن ثمرات تحديد النسل كثرة حوادث الطلاق، وقد أسلفنا أن الفكرة راجت في أوروبا بين طبقات الأغنياء والمثقفين أكثر من رواجها بين الفقراء.
والحقيقة أن هناك علاقة واضحة بين الطلاق والحياة الزوجية الخالية من الذرية التي من شأنها أن تشد من رباط الزوجين، كما يقول بارنيس وريودي في كتابهما:(الأسلوب الأمريكى للحياة) ويقرران أن الأزواج والزوجات الذين يطالبون بالطلاق ثلثاهم ممن لم يرزقوا أطفالا. وهنا نقف مليا لنتأمل هذه الحقيقة الإنسانية واضحة بينة في كتاب الله المجيد: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
وهكذا أوهنت بدعة تحديد النسل العلاقات الزوجية بين سكان البلاد الغربية - كما يقول الأستاذ المودودي - وقد أثبت سماحته في كتابه: (حركة تحديد النسل) آراء ونظريات أعلنها مفكرون غربيون حذرا من مخاطر التحديد، وقلة الذرية، وفشو الطلاق بين الأزواج وزيادة عدد الوفيات من الكبار.
الغربيون أنفسهم يعارضون التحديد:
وحين تجلت الآثار السيئة لبدعة تحديد النسل من:
- رواج الفكرة بين الأغبياء والمثقفين، عكس ما كان يراد لها.
- وزيادة نسل الفقراء والأغبياء.
- وتفشي الزنا وما يصحبه من الأمراض الخبيثة.
- وكثرة حوادث الطلاق بسبب فقدان الذرية.
- وزيادة عدد الوفيات من الشيوخ على عدد المواليد من الأطفال..
قام عدد من المفكرين ونادوا بخطأ الفكرة وخطرها وأثرها السيء في مستقبل الأسرة والمجتمع في أوروبا وأمريكا.
من هؤلاء (ليندليس بال) الذي قال في كتابه (المشاكل الاجتماعية) : إن مالتوس لو كان حيا لما وسعه إلا الشعور بأن الإنسان في الغرب قد رمي إلى أبعد من اللازم بسبب تحديده للنسل، بل الحقيقة أنه أثبت أن نظرة قصير جدًا.. بشأن التفكير في حفظ مستقبل حضارته.
ويضيف ليندليس بال: أن عدد سكان فرنسا وبليجكا قد قل من وقت لآخر؛ لأن الوفيات فيهما تزيد على المواليد، ولكن البقية الباقية من الأمم الصناعية المتحضرة في الغرب يواجهها أيضا هذا الخطر، وفى أمريكا نفسها قال علماء الإحصاء إن خطر قلة السكان سيتحول إلى حقيقة ثابتة بعد جيل واحد فقط.
ويقول الأستاذ (كول) مؤلف كتاب (توجيه الرجل الذكي بعد الحرب)(ليست قلة السكان حلًا لمشكلة البطالة في بلادنا كما أنه من المحال أن يرتفع بها مستوى معيشة بقية السكان وستكون مؤثراتها الاقتصادية سيئة للغاية.. إذ لابد بسببها أن ترتفع نسبة العجائز فيضطر المنتجون إلى تشغيل المتقاعدين لكل ذلك علينا أن نستعين بكل طريق ممكن لمواجهة خطر قلة السكان) .
ويقول سوروكون في كتابه (الثروة الجنسية في أمريكا) من قانون الفطرة أن أية أمة إذا لبت نداء شهواتها النفسية، وانقطعت إلى التشرد الجنسي غفلت عن إنجاب الذرية وتخليد النسل، وحسبت الأطفال عائقا في سبيل حريتها ولذاتها ورخائها الاقتصادى - وهو سلوك معاد لقانون الفطرة وبه يقل عدد أفرادها ثم ينحط ويتردى حتى لا تستطيع قضاء حاجاتها اللازمة، ولا تقدر على الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة، ولا أن تدافع عن نفسها.. وهذا هو الانتحار!
وقد قامت لجان في بريطانيا وفرنسا وأمريكا لدراسة النتائج التي ترتبت على فكرة تحديد النسل، وما لوحظ من نقص المواليد وزيادة الوفيات، ووضعت هذه اللجان تقاريرها المدعمة بالأرقام والحقائق الإحصائية، ودعت بمنتهى الصراحة إلى العمل على زيادة عدد أفراد كل أسرة بنسبة 25 % على الأقل وحذرت من خطر النقص المتزايد في هبوط نسبة الولادة القومية، وأوصت هذه اللجان بمنح الأسر مكافأة مالية على قدر ما يكون لديها من أطفال، وأن تخف وطأة قانون الضريبة على المتزوجين الآباء وتشتد على غير المتزوجين، وأن تبنى على نطاق واسع بيوت تشتمل على أكثر من ثلاث حجرات للنوم.. كل ذلك تشجيعا على الزواج والولادة ومقاومة لخطر قلة التناسل التي نشأت من فكرة التحديد.
وكذلك كانت الحال بالنسبة لألمانيا، وإيطاليا، والسويد، فقد شجعت هذه الدول جماهير شعبها على التناسل بعد أن سبق لها تطبيق فكرة التحديد ورأت من أخطاره ما رأت - فقد أصدرت ألمانيا قانونا لتحريم منع الحمل، وترويج طرقه وأخرجت النساء من المعامل والمصانع، وبذلت القروض لتشجيع الزواج والنسل، وكذلك أصدرت إيطاليا والسويد قوانين مماثلة أو شبيهة.
تنظيم النسل في حالات فردية:
أما إذا كانت هناك أسباب صحية تدعو إلى وقف التناسل في حالات فردية خاصة.. كأن تكون الأم لا تقوى على الحمل المتواصل لضعفها أو مرضها، أو أنها تحتاج عند كل وضع إلى شق بطنها لإخراج الجنين منه، وهو ما يفضي بها مع التكرار إلى ضرر شديد أو موت مؤكد، وما يشبه ذلك من أخطار وأضرار فردية.. فإن التشريع الإسلامي - في أصوله وقواعده الحكيمة الرحيمة - يأمر بمنع الضرر من ناحية، ويبيح المحظور للضرورة من ناحية أخرى.
وهناك مسوغ آخر لتنظيم فترات النسل (أو الحمل) وهو رغبة الأبوين في إحسان تربية كل مولود ورعايته حتى يبلغ السادسة من عمره فيدخل المدرسة، وتتفرغ الأم عندئذ لمولود جديد.. ففي هذا الانتظار بين طفل وطفل - لا شك - مصلحة ظاهرة للآباء والأبناء معا.
وقد جاءت بعض الآثار عن الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم أنهم كانوا يعزلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينههم عن (العزل) وإنما وجههم وجهة إيمانية يقينية بأن الله تبارك وتعالى إن يشأ يثبت الحمل مهما عزلوا أو يمنعه مهما اتصلوا فهو القادر على كل شيء وهو الفعال لما يريد.
وهذه (القدرة والمشيئة) اللإلهيتان المطلقتان اللتان لفت الرسول عليه الصلاة والسلام إليهما أصحابه الذين كانوا يعزلون عن نسائهم طلبا لعدم الحمل - ما زالتا تتجليان على مدى الدهر فنحن نرى ونسمع أن امرأة تستعمل الأدوية المانعة للحمل فتحمل رغم أنفها وأنف زوجها، وأن أخرى لا تستعملها ولا تحمل على كره منها ومن زوجها، وصدق الله القدير الحكيم فيما قال عز وجل.
على أنه يجب أن نلاحظ أن العزل الفردي الذي كان يمارسه الصحابة إنما كان لأسباب فردية ومؤقتة منها: خشية أن تحمل الأمة، أو خشية أن تستحق الأمة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد أو خشية أن يتعرض الرضيع للضرر إذا حدث الحمل أثناء الرضاعة.
(1) سورة الشورى الآية 49، 50
وللإمام الغزالي - في كتابه (إحياء علوم الدين - رأي في تنظيم النسل - يقول: قد يكون الفقر من دواعي تأخير الحمل خوفا من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، للاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء، وهذا غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين وإن كان الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) .
كما أن هيئة كبار العلماء في السعودية أصدرت بتاريخ 13/4/1396 ورقم (42) فتوى أباحت فيها تأخير الحمل لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة من جواز العزل وما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين.
ودين الله عز وجل يسر، وما جعل الله على عباده من حرج ورحمته واسعة وفضله كبير.
وبعد.. فخلاصة البحث يتقرر بها أمران:
الأول: أن تحديد النسل، بأية وسيلة من وسائل التعقيم، مخافة الحاجة أو الفاقه حاضرا أو مستقبلا - لا يقره الإسلام؛ لأن الأرزاق والأعمار بيد الله، وهو الوكيل عليها، والكفيل بها ولا يليق بالعبد المؤمن بالله أن يشك في ذلك.
الثاني: أن تنظيم النسل.. أى جعله فترة بعد فترة من أجل إتاحة الفرصة للأم أن تتمكن من تربية طفلها الأول ولترتاح نفسيًّا وجسديًّا من متاعب الحمل والوضع والرضاعة بصورة متتابعة، ومن أجل إتاحة الفرصة للأب أيضًا أن يهيئ أطفاله واحد بعد الآخر للدراسة والتعليم - هذا التنظيم أرى فيما أعتقد أنه جائز لا يمنعه الإسلام.. لأنه يستهدف مصلحة الأبوين وأولادهما معا.. والله أعلم.
أحمد محمد الجمال
(1) سورة هود الآية 6