الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث
تحديد أرباح التجار
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
يقصد بتحديد أرباح التجار التسعير وهو تحديد أسعار معينة تباع بها سلع معينة في الأسواق. والهدف من تحديد أرباح التجار أو التسعير لهم هو حماية المشتري حتى لا يظلم في شراء ضرورياته ومستلزماته. والهدف من ذلك أيضًا هو محاربة الاحتكار والسوق السوداء وقد تسببا في معاناة شديدة وحرج كبير لكثير من شعوبنا. ولا شك أن هذه أهدافًا جميلة تتمشى مع ما تهدف إليه الشريعة الغراء من الرحمة بين الناس والعدل والرضا والطمأنينة في البيع.
ولكن قد يثار أن تحديد أرباح التجار أو التسعير لهم فيه مخالفة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وفي تحديد السعر الذي بيبع به التاجر وهو تحديد لربحه قد يكون إجبارًا له على البيع بغير ما يرضى أو يريد من الربح. كما أن هذا التحديد قد يحد من حرية المالك مما تكفله له الشريعة الإسلامية من حرية التصرف فيملكه كيف يشاء من غير إتلاف لماله أو مساس بحقوق الآخرين، كما أن مبدأ حرية التجارة وارتزاق الناس بعضهم من بعض التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) (2) . ولكي نصل إلى الرأي الفقهي في هذه المسألة لا بد من الرجوع إلى أصولها في الفقه ومصادره.
أولًا: الأصل في هذه المسألة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، قال القرطبي في تفسير هذه الآية:(اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله (بالباطل) أخر منها كل عوض لا يجوز شرعًا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضًا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة والهبة. وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها. فهذان طرفان متفق عليهما) (3) .
(1) سورة النساء: الآية29.
(2)
الحديث صحيح وقد رواه كثير من المتحدثين تارة باللفظ وتارة بالمعنى. أخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه، والنسائي في صحيحه. وفي أخرى للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أنس (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه) ، وفي أخرى لأبي داودوالنسائي (وإن كان أخاه أو أباه) إلى غير ذلك.
(3)
الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/152، دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م.
ويقول: " والجمهور على جواز الغبن في التجارة مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وإن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: عرف قدر ذلك أم لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرًا بالغًا. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية: "فليبعها ولو بضفير"، وقوله عليه السلام لعمر ((لا تبتعه – يعني الفرس – ولو أعطاكه بدرهم واحد)) . وقوله عليه السلام ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) . وقوله عليه السلام: ((لا يبع حاضر لباد)) . وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره". (1) .
ثانيًا: ما روي في الحديث من رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر للناس، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: سعر لنا يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((إنما يرفع الله ويخفض، إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) . قال له آخر: سعر، قال:((أدعو الله)) .
قال الإمام البغوي في الجزء الثامن من شرح السنة أن إسناد الحديث أعلاه صحيح، وأخرجه أبو داود في البيوع: باب في التسعير. وأخرجه ابن ماجه في التجارات: باب من كره أن يسعر بلفظ، قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال)) .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب أيضًا عن أبي جحيفة وابن عباس وأبي سعيد الخدري عند الطبراني في معاجمه الثلاثة (2) .
ويأتي هنا أيضًا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور سابقًا ((لا يبع حاضر لباد)) ، ((ودعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضًا)) ، وقد بينا صحة إسناده سابقًا، والمنهي عنه هنا أن يأتى البدوي البلدة ومعه قوت يبغي التسارع إلى بيعه رخيصًا، فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه. فهذا الصنيع محرم لما فيه من الاضرار بالغير. والبيع إذا جرى مع المغالاة متعقد. وسئل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: لا يكون له سمسارًا. (عن ابن الأثير)(3) .
(1) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/152، دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م. ص152، 153.
(2)
انظر شرح السنة للإمام البغوي: 8/177، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1983م.
(3)
انظر الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/153، مطبعة دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م.
وروى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فليبع كيف شاء، وليمسك كيف شاء الله (1) .
ويبدو أن تغير أحوال الناس وظهور عنصر الجشع وفقدان الأمانة والتقوى في معاملاتهم وكذلك اتساع الأوضاع التجارية دفع الفقهاء إلى البحث عن حكم البيع بالزيادة المتفاحشة على الثمن المعتاد. ويبدو أن هناك اتفاقًا ظاهرًا في أنه متى علم البائع والمشتري قيمة السلعة التي تباع بها في الأسواق، وحصل الغبن بزيادة في الثمن غير معتادة، أو نقص فيه كذلك، فالبيع صحيح لا حرمة فيه، ولو كان البيع فوق فائدة الربا بكثير، وما مثل هذا إلا كزارع وضع قليلًا من الحب في أرضه فأنبتت عشرة من الأرادب، فالطريق مشروع، والكسب حلال ورزق ساقه الله إلى التاجر والزارع.
أما إذا جهلت قيمة السلعة، فإن استسلم أحدهما لصاحبه بأن أخبره بجهله وائتمنه فيما يخبره به وما يحدده من الثمن، فقال البائع للمشتري: قيمتها في السوق عشرون، فإذا هي عشرة، أو قال المشتري للبائع: قيمتها في السوق عشرة، فإذا هي عشرون، فللمغبون الرد، وعلى صابحه المؤتمن الكذوب الحرمة. فإن لم يستسلم لصاحبه مع جهل القيمة، بل باع أو اشترى على المغالبة والمشاحة فحصل الغبن المتفاحش، فالبيع صحيح لا رد فيه ولا حرمة على المشهور.
وقال بعضهم: إن وصل الغبن الثلث فأكثر من قيمة السلعة، فسخ البيع أن قام المغبون برد السلعة في أثناء السنة من يوم البيع. وقد أفتى به ابن عرفة والماذري والبرزلي. ومشى عليه ابن عاصم في التحفة، لكن رده ابن رشد بقوله: إنه غير صحيح لحديث: ((لا يبع حاضر لباد)) ((ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) .
(1) الموطأ: 2/651.
قال في أقرب المسالك وشرحه: ولا رد بغبن ولو خالف العادة في القلة أو الكثرة، كأن يشتري ما يساوي درهمًا بعشرة أو عكسه، إلا أن يستسلم أحد المتابيعين لصاحبه بأن يخبره بجهله، كأن يقول المشتري: أنا لا أعلم قيمة هذه السلعة فبعني كما تبيع الناس، فقال البائع: هي في العرف بعشرة، فإذا هي بأقل. أو يقول البائع: أنا لا أعلم قيمتها فاشترِ مني كما تشتري من الناس، فقال: هي في عرفهم بعشرة، فإذا هي بأكثر، فللمغبون الرد على المعتمد (بل باتفاق، ولم يخالف فيه أحد) . وإنما الخلاف في الغبن من غير استسلام إذا كان المغبون جاهلًا، فإن كان عارفًا فلا رجوع له اتفاقًا، فإن استسلم الجاهل فالرد متفق عليه" (1) .
والذي يتضح من هذا كله أن الرأي الراجح هو ترك البضائع بغير تحديد سعر أو تحديد أرباح للتجار على أن تقوم الدولة بواجبها في توفير البضائع وأنواعها محاربة للغلاء أو الاحتكار أو السوق السوداء كما عليها إقامة الدين بين الناس وإحياء ضمائرهم بالتقوى والبعد عن إجحاف الناس وظلمهم أو استغلال حاجتهم للشراء وجلهم بالأسعار. فعلى الدولة ترك تحديد الأسعار أو تحديد أرباح التجار مع نشر الوعي الديني وحث الناس على تقوى الله في هذا المجال ومخافته في معاملة عباده ولا سيما قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) (2) .
إلا أنني أرى أن الأمر إذا استشرى جدًا وصارت طبقة من الناس لا تخشى الله ولا ترحم الناس كما يحصل فيما يسمونه اليوم بالسوق السوداء، فعلى الدولة واجب محاربة هذه الطبقة ومحاربة ما يفعلونه، بخلق التنافس الصالح في التجارة وتوفير البضائع وأنواعها وتوعية الناس بكل الوسائل بالأسعار المعقولة للبضائع جملة وتجزئة. ولا شك أن هذا من أهم مهام الدولة الإسلامية والمحتسبين في محاربة أي عامل يؤدي إلى الغلاء في الأسواق وسن اللوائح اللازمة لتحقيق ذلك وعلى الناس طاعتها لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) .
وللحكومة الحق في تعزير من يخالف تلك اللوائح.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.
(1) جاء هذا في فتوى للشيخ يوسف الرجوي المالكي من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف – انظر مجلة الأزهر، مجلد 5، ص244. انظر أيضًا الفقه على المذاهب الأربعة، كتاب البيع: بحث البيع بالغبن الفاحش.
(2)
أخرجه الترمذي: (1209) ؛ والدارمي: 2/247؛ والحاكم: 2/6.
(3)
سورة النساء: الآية 59.