الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنظيم النسل وتحديده في
الإسلام
إعداد
الدكتور دوكوري أبو بكر
مدير المعهد العلمي والمشرف العام على المراكز الإسلامية
ومستشار الدولة للشئون الإسلامية
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن جمهورية
بوركينافاسو
بسم الله الرحم الرحيم
ليس لتحديد النسل وتنظيمه حكم واحد مستقر، وإنما يختلف حكمه باختلاف الدوافع والبواعث على هذا التحديد؛ لذلك اختلف العلماء في هذه المسألة كما هو الحال في شأن كل مسألة يكتنفها اعتبارات مختلفة، فيترك الحكم فيها لما يترجح في نظر الباحث من هذه الاعتبارات وما تقضي به المصلحة. فهذه هي طريقة الإسلام في تشريع الأحكام لذلك كانت شريعته صالحة لكل زمان ومكان ولكل حادثة.
وسنتناول في هذا البحث عدة جوانب.
الجانب الأول: تحديد النسل من حيث الدافع إليه.
الجانب الثاني: مسوغات تحديد النسل.
الجانب الثالث: شروط تحديد النسل.
الجانب الرابع: وسائل تحديد النسل.
ونقول بالنسبة إلى الجانب الأول: إن تحديد النسل إذا كان بسبب ما يروجه الغربيون وعملاؤهم من أن تزايد سكان العالم إذا استمر بالمعدل الحالي لدى جميع الدول فإن العالم سيقع في مجاعة خطيرة في المستقبل نتيجة لكثرة سكانه بحيث لا يمكن تأمين المواد الغذائية الكافية لهم جميعا ففيه نظر.
لذلك نرى الدول الغربية المتقدمة، تسعى جاهدة إلى إقناع دول العالم الثالث بضرورة الحد من نسبة المواليد، وقد استجاب كثير من الحكومات إلى هذه النداءات، وذهب بعضها إلى أبعد الحدود في ذلك حيث عقمت الرجال. ونرى كثيرا من الناس في الدول النامية وخاصة المثقفين منهم يقللون عدد أولادهم فيقتصرون على ولد واحد أو ولدين وذلك خوفا من الفقر والعجز عن القيام بأعباء تربية الأولاد ورعايتهم وهذا خطأ فاضح من الناحية الدينية والعقلية ومن حيث الواقع كذلك.
يقول المرحوم الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر السابق في الجزء الأول من كتابه (فتاوى شرعية وبحوث إسلامية) : (تحديد النسل أو كما يسمونه تنظيم النسل ودعوة الأمة إليه بصفة عامة مشروع خطير تجاذبته الأفكار والأقلام منذ سنين ولم يثره بأدنى الأمر عندنا إلا الاستعماريون حين أفزعهم تزايد السكان وأقلقهم نمو الأمة ويقظة الشعور العام فيها إلى أساليب الاستعمار والتنبه العام إلى ماله من فادح الأخطار على البلاد ومناداة الشعوب في كل الأقطار العربية بضرورة تحريرها وتخليصها من شروره ومفاسده فنادوا في طول البلاد وعرضها بالخوف من المجاعة والفقر إذا استمر تزايد السكان وما لم يحدد النسل بطريقة حاسمة. . . إلخ) .
وقد رأى غير واحد من المفكرين المسلمين أن الدعوة إلى تحديد النسل بالطريقة التي ينادون بها في العالم الثالث بوجه عام وفي العالم الإسلامي بوجه خاص مؤامرة استعمارية ضد هذه الشعوب يقصد منها إضعاف هذه الشعوب وإذلالها وإخضاعها دائما وأبدا لسيطرة الدول الكبرى المتقدمة ومما يؤيد وجهة نظرهم هذه أن الدول الغربية تشجع زيادة نسبة المواليد داخلها وتكافئ من يأتي بأكبر عدد ممكن من الأولاد.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن سكان العالم كانوا أقل عددا بكثير مما نحن عليه الآن ومع ذلك فإنهم كانوا يعانون من البؤس والفاقة أكثر مما نعانيه اليوم ولا يخالف أحد في أننا أكثر منهم تقدما ورفاعية وتنعما فعلمنا أن لا علاقة بين وفرة المعيشة ورغد العيش وبين قلة سكان العالم وكثرتهم، وأيضا مما لا يخفى على أحد أن ما تنفقه إحدى الدول الكبرى في برامج الفضاء وفى سبيل تطوير أسلحتها النووية لقادر على توفير الغذاء والعلاج اللازمين لجميع سكان العالم فكيف إذا صرفت هذه الدول مجتمعة كل طاقاتها وإمكانياتها المادية في مجالات التنمية المختلفة الصناعية والزراعية والتجارية أتظنون أنه سيبقى على وجه الأرض جائع واحد؟ كلا!.
إذن فلا ينبغي لمسلم عاقل أن يغتر بكل بريق ويعتبره ذهبا، وأن يستجيب لكل نداء وأن ينجرف وراء كل تيار، بل عليه أن يكون ناقدا بارعا يحلل الأشياء ويمعن النظر فيها ويعمل فكره في التفريق بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل.
فلا ينبغي لأي مسلم أن يحدد نسله بحجة أنه قد يعجز عن الإنفاق على عياله إذا هم كثروا؛ لأنه أولا لا يعلم الغيب، فمن الذي أطلعه على مغيبات الأمور؟ فلئن كان فقيرا اليوم فإنه قد يغنى غدا، فكم من فقير معدم أصبح من كبار الأغنياء وكم من غني موسر أصبح من أفقر الناس ولم يعد يملك حتى قوت يومه وفي ذلك يقول تعالى {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (1) . أي في تقلب الأحوال من حال إلى حال أمر يخالفه.
وثانيا: أن هذا الإنسان المسكين ليس ضامنا لرزق نفسه فضلا عن رزق غيره فالله سبحانه وتعالى هو الذي يدير الأرزاق ويقدر لكل إنسان نصيبه منها قبل ولادته وخروجه إلى هذه الدنيا وما قدر له منها فإنه سيناله حتما فليس على وجه الأرض قوة قادرة على منعه من هذا الحق المقدر.
قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (2) . وقال جل من قائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) . وقال في آية أخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (4) .
أما إذا كان الدافع في تحديد النسل ليس لمجرد الخوف من كثرة العيال والفقر وإنما دعت إليه حاجة ملحة وضرورة معتبرة في نظر الشرع جاز ذلك.
(1) سورة آل عمران الآية 140
(2)
سورة العنكبوت الآية 60
(3)
سورة هود الآية 6
(4)
سورة الأنعام الآية 151
مسوغات لتحديد النسل:
أولا: أن يكون الزوجان في الجهاد مثلا فيحتاط على ألا تحمل المرأة لأن من شأن حملها تعريضها للضعف وللخطر نتيجة لمشقة السفر والجهاد أو أن يمنعا الحمل خوفا من أن يولد مولود وهما في دار الحرب وليس عندهما من وسائل الراحة والصحة ما يطمئنان به.
ثانيًا: إذا أخبر طبيب ثقة أو أثبت بالتجربة أن الحمل أو الوضع يعرض حياة الأم أو صحتها للخطر فيجوز لها منعه لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) . وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) .
ثالثًا: إذا خفنا على حياة الرضيع أو صحته من حمل جديد أو مولود جديد فيجوز منع الحمل في هذه الحالة حتى يزول هذا الخوف وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الوطء في حالة الرضاع وطء الغيلة (3) . لأنه إن قدر فيه حمل فإنه سيؤدي إلى إفساد اللبن وبالتالي إضعاف الولد، وإنما سماه غيلة لكونه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرا.
رابعًا: إذا خشينا على الأولاد أن تسوء صحتهم أو تضطرب تربيتهم لأنهم إن كثروا ولم تكن إمكانيات الوالدين كبيرة فيصعب توفير التربية الضرورية المناسبة لهم من الناحية المعيشية والصحية والتعليمية.
شروط تحديد النسل:
إذا عرفنا أن هناك مسوغات لتحديد بقي أن نعلم الشروط التي يجب توافرها لمشروعية ذلك.
ذكر بعض العلماء أن تنظيم النسل ومنعه لا يجوز إلا إذا أذنت به الزوجة؛ لأن لها حقا في الولد وحقا في الاستمتاع وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن العزل إلا بإذن الزوجة (4) . وفى هذا دليل على أن الإسلام قد أعطى المرأة حقها في عصر لم يكن يعترف لها بحقوق فعلى الذين يصرخون وينادون بحقوق المرأة في هذه العصور أن يكونوا منصفين ويشيدوا بعظمة الإسلام.
(1) سورة البقرة الآية 2/195
(2)
سورة النساء الآية 29
(3)
راجع سنن الترمذي
(4)
هذا الحديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق عمر بن الخطاب وقد أخرجه كل من الإمام أحمد وابن ماجه - راجع مسند الإمام أحمد 1/31 ونيل الأوطار 6/221
واشتراط إذن الزوجة في منع الحمل هو مذهب الحنفية قال صاحب الهداية "ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها لأن تحصيل الولد من حقها" وورد مثله عن الكمال بن الهمام (1) . غير أن المتأخرين من الحنفية أفتوا في زمانهم بجواز منع الولد لأحد الزوجين بغير رضا صاحبه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان وهذا مبني على قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان (2) .
أما الإمام الغزالي وجمهور الشافعية فيرون أن الولد من حق الوالد وحده فله إن شاء أن يحصله وله إن شاء أن يمنعه؛ لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا أصل يقاس عليه بل ههنا في الإباحة أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج فكل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل فليكن منع الحمل بالعزل وما يشبهه مباحا كما أبيح الزواج وترك المخالطة إلخ.. إلخ (3) .
ويرى جمهور العلماء من فقهاء الأمصار أن منع الولد مكروه نظرا إلى حق الأمة فيه ونسب ذلك إلى عدد من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود؛ لأن فيه تقليل النسل وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج تكثيرًا للنسل فقال: ((تناكحوا تكثروا)) (4) .
ومن العلماء من ذهب إلى تحريم منع الولد مطلقا سواء أذن الزوجان في ذلك أم لا؛ لأنهم غلبوا حق الأمة في الولد على حق الوالدين، وقالوا: إن العزل فيه قطع النسل المطلوب شرعا من الزواج وفيه أيضا صرف السيل عن واديه مع حاجة الطبيعة إليه واستعدادها للإنبات والإثمار لما ينفع الناس ويعمر الكون، وينسب هذا المذهب إلى ابن حزم وابن حبان (5) .
(1) راجع كتاب الإسلام عقيدة وشريعة لشيخ الأزهر محمود شلتوت ص 222 وهذا المذهب أعني عدم جواز العزل بدون إذن الزوجة الحرة نقل غير واحد الإجماع عليه منهم ابن عبد البر ولا يصح راجع نيل الأوطار 6/222
(2)
راجع كتاب شلتوت الإسلام عقيدة وشريعة ص 222
(3)
راجع الإحياء 2/51
(4)
أخرجه البيهقي في المعرفة وغيره مرسلا وأسنده ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر وسند المرسل والمسند مضعف راجع الجامع الصغير 3/269
(5)
راجع نيل الأوطار 6/223. والمحلى 10/70
وسائل تنظيم النسل:
أولًا: العزل: وهو قذف النطفة خارج الرحم عند الإحساس بنزولها (1) . ويعتبر العزل الوسيلة السائغة التي يلجأ إليها الناس لمنع النسل أو تقليله في العصور السابقة وخاصة عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يفعلون ذلك في عهد النبوة والوحي كما ورد في حديث جابر الذي في الصحيحين ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) (2) . ولمسلم ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا)) (3) .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) (4) .
وفي مجلس عمر تذاكروا العزل فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى. فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها الأطوار السبعة حتى تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضعة، ثم عظاما، ثم تكسى لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك. (5) .
ومن الوسائل التي يلجأ إليها بعض الناس لتنظيم النسل وتحديده إسقاط الحمل بعد وجوده فعلا وهذه الوسيلة تعتبر جريمة في نظر الإسلام.
فلا يجوز لمسلم أن يسقط الحمل بعد نفخ الروح فيه فمن فعله فهو آثم وعليه دية إن نزل حيا وغرة إن نزل ميتا.
أما إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه فقد رأى فريق أنه جائز إذ لا حياة فيه فلا جناية ولا حرمة أما الغزالي فقد صرح بتحريمه حيث قال في معرض تفريقه بين منع الحمل وبين إسقاطه: (وليس هذا - رأي منع الحمل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، والوجود له مراتب وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيًّا)(6) . وتحريم إسقاط الحمل حتى قبل نفخ الروح فيه مبني على أن فيه حياة محترمة هي حياة النمو والإعداد وقد قاسه بعض الأحناف ببيض الصيد إذا كسره المحرم فإنه يضمن لكونه أصل الصيد، قالوا: وما دام المحرم يطالب بالجزاء إذا كسر بيض الصيد فلا أقل من أن يلحق من يسقط الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح إثم إذا كان قد أسقطه بدون عذر شرعي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الناس بفضل التقدم العلمي تمكنوا من اكتشاف وسائل علمية لتحديد النسل وتنظيمه بحيث لا يضطرون إلى إسقاط الحمل المفضي إلى ارتكاب محظور شرعي وبحيث لا يضطرون إلى العزل أيضا المفضي إلى الإضرار بالنفس أو بالزوجة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدكتور/ دوكوري أبو بكر
(1) انظر معنى العزل في النهاية في غريب الحديث 3/230
(2)
متفق عليه راجع نيل الأوطار 6/220
(3)
راجع نيل الأوطار 6/220
(4)
رواه أحمد ومسلم وأبو داود راجع نيل الأوطار 6/220
(5)
راجع إحياء علوم الدين 2/52، الحلال والحرام في الإسلام ص 192
(6)
راجع إحياء علوم الدين للغزالي 2/51