الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
أونج حاج عبد الحميد بن باكل
كبير القضاة بإدارة الشئون الإسلامية ببروني
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن
بروني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.
تمهيد:
فإن تحديد النسل أو تنظيم النسل أو ضبط النسل ألفاظ مترادفة مؤداها تقليل النسل كما يقصد الكتاب فيها، أو كما يقصده الذين يقومون بالعمل في تنفيذها بمختلف المستويات.
فالمراد من تحديد النسل هو التحكم فيه والتقليل من عدده بمنع الحمل قبل وقوعه إما لأسباب تتعلق بصحة الزوجة أو عجز الزوج عن الإنفاق على ذرية كثيرة بسبب ضيق ذات يده، أو تتعلق بضيق محصولات البلاد حيث أصبحت لا تتكافأ مع زيادة السكان المستمرة بنسبة عالية، فلابد من وقف ذلك النمو المتزايد وذلك بجعل النسل يكون على قدر ما يجيء من المحصولات على حسب قول أنصار هذه الفكرة بأفواههم، ومقالاتهم بأقلامهم.
أول من نادى بهذه الفكرة
أول من نادى بفكرة تحديد النسل هو الفيلسوف البريطاني "مالتس" وسرعان ما انتشرت هذه الفكرة في أوروبا وأمريكا وآسيا والبلدان الأخرى إسلامية أو غير إسلامية، فاحتضنتها بعض الحكومات ورفضتها الأخرى، وكما تأثر بها بعض الناس ورفضها الآخرون.
فالنقاش حول هذا الموضوع لا يزال مستمرا.
رأي الإسلام
الإسلام يدعو إلى الزواج
الغريزة الجنسية لدى الإنسان حاجة من حاجات الفطرة السوية، جبل الإنسان عليها وأودعت فيه، كما أودعت فطرة الميل إلى الطعام والشراب، رعاها الإسلام واعتنى بها، شأنه في ذلك شأن كل أمر فطر عليه الإنسان، فنظم هذه الغريزة وأقامها وفق عقد مشروع بين الزوجين له شروطه وأركانه ومستلزماته وأجواؤه.
فالزواج في ظل الإسلام - إلى جانب كونه حاجة فسيولوجية، يتوقف عليها بقاء النوع الإنساني - ضرورة اجتماعية تؤدي وظيفتها في تنظيم الغرائز، واستقرار العواطف، واستمرار الحياة الإنسانية مبنية على الود والصفاء. وتنشئة الأطفال على تربية سديدة، وخلق كريم، ليكونوا أعضاء صالحين في تلك المجتمعات، وتنشئة لبنة قوية في بناء هيكل المجتمع، عليها يتوقف صلاح المجتمع وفساده كما قال الله تعالى في سورة الأعراف آية [58] .
ومن هنا دعا الإسلام إلى الزواج الشرعي الذي هو عماد تكوين الأسرة الفاضلة، والأسرة الفاضلة هي عماد تكوين المجتمع القوي.
فهو في العموم مندوب إليه في حال الاعتدال في رأي جمهور الفقهاء، بل عند بعضهم سنة مؤكدة لقوله تعالى في سورة النور آية (32){وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} وفي سورة النساء الآية (3){فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
فإن الخطاب في الآيتين قد جاء بصيغة الأمر والأمر للوجوب، إذا لم تكن هناك قرينة صارفة عن ذلك وقد قامت القرينة على أنه للندب، فقد قال صلى الله عليه وسلم:((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) (متفق عليه) .
حين سمع الرسول عليه الصلاة والسلام أن نفرا من أصحابه قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلى ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر قال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) - متفق عليه.
وقد أمر الله باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول في سورة آل عمران آية [31] : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
وقد نهى الإسلام عن التبتل والانقطاع عن الزواج قال الله تعالى في سورة المائدة آية [87]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
والزواج من جملة الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى ونعى على السابقين تبتلهم فقال في سورة الحديد [27] : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التبتل نهيًا شديدًا (رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بن مالك، ورواه ابن ماجه من حديث سمرة) .
وجعل المنقطعين عن الزواج من القادرين عليه خارجين عن سنته صلى الله عليه وسلم إذ يقول ((من كان موسرا لأن يناكح ثم لا يناكح فليس مني)) سنن ابن ماجه عن عائشة.
قال طاووس ((لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج)) سنن سعيد بن منصور وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم ((: من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي)) .
الإسلام يأمر بتكثير النسل:
لقد جاءت أحاديث كثيرة تأمر بتكثير النسل وتحث على زيادة الإنجاب واختيار المرأة الودود الولود لتحقيق ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) .
وفي حديث آخر أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: " لا ". ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ")) ، وفي حديث آخر قال ((انكحوا فإني مكاثر بكم)) .
والتكاثر المقصود هو التكاثر الذي يستحق أن يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم الأمم وهو التكاثر القائم على الصلاح والإيمان والقوة والحيوية والخير بلا شك، فإن التكاثر القائم على الفساد والعصيان لا يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم ولتحقيق زيادة الإنجاب وتكثير النسل حبب الرسول صلى الله عليه وسلم الزواج من الأبكار؛ لأنهن أكثر قابلية على الإنجاب قال:((عليكم بالجواري الشباب فإنهن أطيب أفواها وأعز أخلاقًا وأفتح أرحامًا ألم تعلموا أني مكاثر......)) وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير)) والنتق الرمي والنفض والحركة.
وإنما تكون المرأة أنتق رحمًا إذا كانت أكثر استعدادًا للحمل والإخصاب، وهي الشابة التي لم تلد، وهي بلا شك تكون أكثر استعدادًا من تلك التي تقدمت في السن.
تحريم قتل الأولاد:
وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختصاء.
وقد ورد في حديث عثمان بن مظعون أنه قال: يا رسول الله إنه ليشق علينا العزبة في المغازي أفتأذن لي يا رسول الله في الخصاء فأختصي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه محفرة)) أي: قاطع النكاح. والحكمة في تحريم الاختصاء إرادة تكثير النسل كما يقول ابن حجر.
وكما يشمل النهي عن الاختصاء الذكور يشمل أيضًا قطع بيت الرحم في المرأة أو مبيضها لغير علة أو عذر، فإن العلة واحدة في الحالتين، وفي تحريم قتل الأولاد.
قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} الأنعام [151] .
وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} الإسراء (31) .
وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الأنعام [151] والإسراء [33] .
فهذه الآيات تدعو إلى الاعتماد على الله في رزق الأولاد بعد أخذ كل طريقة في الكسب الحلال، وإن التعاون الذي فرضه تعالى على المؤمنين، والتكافل الإجتماعي الذي أوجبه عليهم يوجبان أن يعين الغني الفقير، وذو اليسرة ذا الحاجة، فإذا كان هناك ذو عيال لا يجد ما يكفيهم بالمعروف كان على من يجد أن يمدهم بالعون، والدولة تأخذ من القادر لتكفل غير القادر، فالنسل قوة للأمة، وبدل أن نقول لكثرة العيال أقتل أسباب النسل في أصلاب الآباء أو أرحام الأمهات نقول للدولة: خذي من ذوي الفضل من المال وأعطي من يحتاج، والجميع بكثرتهم قوة للأمة.
هذه هي النظرة العامة للشريعة بالنسبة للنسل وهي تدعو إلى الإكثار لا التحديد، فالأحاديث تحث عليه والقرآن يشير إليه وهو الفطرة، وتحديده يناقضها ولكن وردت أحاديث في العزل، وهو إلقاء النطفة في غير مقرها من الأرحام لكيلا يكون إنتاج، وفي بعضها صحة وقوة، فما مدى دلالتها وقوتها في الوقوف أمام الدعوة إلى الإكثار من النسل؟ فلننظر في هذا فإن كثيرين من الذين يتكلمون في هذا يتخذون منه دليلًا للدعاية العامة لتحديد النسل، لقد وردت أحاديث في العزل بعضها متفق عليه في الصحاح، وبعضها سنده ضعيف، ولنذكر ما عثرنا عليه منبهين إلى الضعف، وموفقين بين ما ظاهره التعارض.
1 -
روي عن جابر: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) . وهو حديث متفق عليه، وفى رواية مسلم زيادة:(فبلغه فلم ينهنا) .
2 -
وروي عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا، وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل. فقال: " اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم وأحمد وأبو داود.
3 -
عن أبي سعيد: ((كنا في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لا عليكم ألا تفعلوا فإن الله قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ")) متفق عليه. واللفظ للبخاري، وظاهره أن المراد النهي عن العزل كما قرر ابن سيرين؛ لأن حرف لا للنهي، وقد تأكد النهي منه بعد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:" عليكم ألا تفعلوا " وببيان أن الله كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة.
4 -
عن أبي سعيد الخدري قال: قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((كذبت اليهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئًا لم يستطع أحد أن يصرفه)) ، وقد ضعف بعض رواته، ويعارضه حديث أقوى منه سندًا.
5 -
عن جذامة بنت وهب الأسدية: ((حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس سألوه عن العزل فقال عليه السلام: ((ذلك الوأد الخفي)) {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} )) - رواه أحمد ومسلم، وهذا حديث صحيح، كل رجاله ثقات، ولذا لا يقف أمامه عند التعارض حديث أبي سعيد الخدري الخاص بموءودة اليهود؛ لأنه في حديث أبي سعيد ضعف، وهذا لا ضعف فيه، وبأنه يعاضده حديث غزوة بني المصطلق، والنهي عن العزل فيه صريح، ومن العلماء من رجح حديث أبي سعيد؛ لأن له طرقًا مختلفة، ولكن في كلها ضعف، والقوي لا يعارض بأحاديث قد كثرت طرق ضعفها، وقد قال الحافظ ابن كثير ذلك، هذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه.
والذي نراه أن هناك حديثين - متعارضين - متفق عليهما هما حديث جابر وحديث: وكنا نعزل - مع حديث بني المصطلق، ومثلهما، حديث الوأد الخفي مع حديث تكذيب اليهود متعارضان.
ولذلك اختلف العلماء في جواز العزل، ففريق جوزه، وفريق منعه، من هؤلاء ابن حزم وبعض الحنابلة، والذين أجازوه على أنه رخصة فردية، وإن اختلفوا في أسباب هذه الرخصة ما بين موسع ومضيق، ومن أشد من وسعوا الغزالي في الإحياء، فقد وسع في أسباب الرخصة.
ومع ذلك فقد قرر الغزالي مع غيره أن العزل ترك الأفضل، بل إنه مكروه، لقد علق على حديث جذامة بنت وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن قلت فقد قال: ((قوله عليه السلام: الوأد الخفي، كقوله: الشرك الخفي، وذلك يوجب كراهة لا تحريمًا)) .
وننتهي من هذا إلى أن بعض الفقهاء يقرر أنه ممنوع، وبعضهم يقرر أنه غير ممنوع، ولكنه ترك للأفضل، ومنهم من يقول: إنه مكروه.
وفي الجملة أن الإباحة لا تكون إلا برخصة باعثة وفي غيرها لا يكون جائزا، هذا ما ينتهي إليه التفكير السليم.
ويجب أن نقرر أن العزل أو المنع الشخصي للنسل يتعارض مع الفطرة، وفيه معارضة للأحاديث المتفق عليها الداعية إلى تكثير النسل ويعارضه أيضًا الأحاديث الصريحة المانعة له، حتى قال بعض العلماء إنها ناسخة لأحاديث الإباحة على سبيل الرخصة وخصوصًا الحديث الصحيح الذي قال:((إنه الوأد الخفي)) . ثم تعارضه قاعدة أجمع عليها المسلمون، وهي المحافظة على النسل، وقد أجمع العلماء على أن الضرورات التي يجب المحافظة عليها خمس: النفس والدين والعقل والنسل والمال. فنظرية منع النسل معارضة صريحة لكون المحافظة على النسل من الأمور الضرورية في الإسلام لإجماع العلماء.
تبين من البحث السابق أن المنع الفردي للنسل ترك للأفضل أو مكروه وإذا وجد موجبه عند الفرد كان مباحًا على مقدار هذه الرخصة الفردية، ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة الفردية جماعية لأمة من الأمم، أو لإقليم من الأقاليم، فالرخص دائمًا فردية.
الخلاصة:
1 -
تحديد النسل بالنسبة للفرد مكروه أو ترك للأفضل. وبعض العلماء يقول: إنه حرام.
2 -
إذا وجد موجب تحديد النسل عند الفرد كان مباحًا على مقدار هذه الرخصة الفردية.
3 -
تحديد النسل بالنسبة لجماعة الأمة حرام.
والله أعلم.
الحاج عبد الحميد بن باكل