المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

‌تحديد أرباح التجار

إعداد

الشيخ محمد المختار السلامي

مفتي الجمهورية التونسية

ورئيس المجلس الأعلى الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

(تحديد أرباح التجار)

يدخل تحت هذا العنوان:

أولًا: تحديد أرباح التجار من الشارع على معنى هل قدرت الشريعة الإسلامية للتجار ربحًا لا يتجاوزونه، بحيث لو تعدى التاجر تلك النسبة يكون آثمًا أو ملومًا.

ثانيًا: مقدار الربح الذي للتاجر أن يربحه في بيع الاستئمان.

ثالثًا: تدخل السلطة لتحديد أرباح التجار.

النوع الأول: لم أجد فيما اطلعت عليه من نصوص الكتاب والسنة وما أثر من أقوال الفقهاء ما يفيد أن الشريعة حددت للتجار ربحًا هو السقف الذي ليس لهم تجاوزه بل المأثور عن الصحابة والتابعين أن للتاجر أن يربح الضعف وأكثر منه، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كما يفيده الحديث الذي جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلف أحد أصحابه أن يشتري له شاة أضحيه بدينار. فرجع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار وشاه. وقال له: يا رسول الله اشتريت شاتين بدينار، ثم بعت إحداهما بدينار. فهذه شاتكم وهذا ديناركم. فرضي صلى الله عليه وسلم ما فعله صاحبه.

ص: 2238

النوع الثاني: بيع الاستئمان، وهذا النوع من البيوع هو البيع الذي يكون فيه المشترى جاهلًا بالثمن، ويقول للتاجر بعني بالثمن الذي تبيع به للناس فهذا قد صرح بوثوقه في أمانته فلا يجوز للتاجر أن يزيد على ثمن السوق. ولكن لم تحد له الشريعة حدًّا في الربح لا يجوز له أن يتجاوزه، فلو اشترى السلعة بعشرة وكان ثمنها في السوق مائة وباع للمستأمن بمائة فليس له حق القيام عليه وما تحصل عليه من الربح حلال له.

النوع الثالث: تدخل السلطة لتحديد أرباح التجار. وهذا هو المعبر عنه بالتسعير ورأي أنه المقصود الأعظم من العنوان.

التسعير لغة: الاتفاق على سعر – أسعروا وتسعروا تسعيرًا، بمعنى واحد، اتفقوا على سعر وقال الصاغاني أسعره وسعره بينه. والتسعير تقدير السعر، قاله ابن الأثير (1)

التسعير اصطلاحًا:

(أ) تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا وإجبارهم على التبايع بما قدره.

(ب) أن يأمر الوالي الناس بسعر لا يجاوزونه (2)

(ج) أن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا (3) .

(د) تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرًا للمبيع بدرهم معلوم (4)

(هـ) تحديد حاكم السوق المبيع المأكول فيه قدرًا للجميع بدرهم معلوم (5) .

هذه التعريفات الخمسة تتفق أولًا على أن التسعير المبحوث فيه إنما هو تدخل صاحب السلطة في تحديد الثمن، سواء أكان الحاكم العام، أو صاحب السوق المفوض له من الوالي متابعة ما يجري في الأسواق وإقامة العدل بينهم – وثانيًا على أن هذا التدخل إنما هو في تقدير ثمن المبيع دون غيره من المصالح التي يحتاج إليها الناس كالإجارة والكراء، والحمل والتطيب والتعليم

إلخ.

وتتفاوت في محتواها ذلك أولًا.

إن التعريف الأول والثاني أعم من البقية؛ لأن التعريف الأول لا يجعل التسعير خاصًّا بالسوق، بل يجري التسعير على السوقة وعلى غيرهم لقولهما (للناس) بينما هو على التعريفات الثلاثة الأخرى يختص بالسوق.

ثانيًا: أن حد ابن عرفة وتلميذه ابن ناجي أخص من الثلاثة الأولى إذ يربط التسعير بالمأكول وحده بينما يطلق أصحاب التعريفات الأخرى فيتناول التسعير عندهم المأكول وغيره.

(1) تاج العروس: 12/28

(2)

مطالب أولي النهي: 3/62 أسنى المطالب: 2/38 الموسوعة الفقهية: 11/301.

(3)

زاد المحتاج: 2/38 مغني المحتاج: 2/38

(4)

شرح حدود ابن عرفة: ص 258

(5)

ابن ناجى: ط 120 حاشية الجلاب: 2/168

ص: 2239

حكم التسعير:

لا شك أن التسعير تقييد لحرية البائع وعدم اعتبار لرضاه أو سخطه بالقيمة التي يحددها صاحب السلطة. وعنصر الرضا شرط أساسي لسلامة العقود. والضغط على إرادة البائع لبيع سلعته بثمن محدد من إرادة صاحب السلطة إكراه. وأمر السلطان إكراه بالإجماع. إلا أن هذا الإكراه هل هو إكراه بحق فلا إثم فيه أو هو إكراه بغير حق، فالحاكم المسعر آثم. أو المقام مقام تفصيل.

للإجابة على هذا لا غنى عن الرجوع إلى القرآن والسنة: أولًا القرآن

أما القرآن فلا نجد فيه في التسعير إلا الآية العامة التي هي قاعدة من قواعد التعامل يقول الله تعالى ++ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ (1) .

يروي الطبري بسنده إلى السدي ما يلى: (نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار، والنجش والظلم إلا أن تكون تجارة ليربح في الدرهم ألفًا أن استطاع (2) .

ويقول الشيخ ابن عاشور: ومعنى أكل الأموال بالباطل أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب (3) .

المرتبة الأولى: ما أجمع عليه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلًا كالغصب والسرقة والحيلة.

المرتبة الثانية: ما ألحقه الشرع بالباطل فبين أنه من الباطل، وقد كان خفيًّا عنهم. وهذا مثل الربا فإنهم قالوا إنما البيع مثل الربا – ومثل رشوة الحكام – ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها – ففي الحديث ((أرايت إن منع الله الثمرة بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه)) . والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي هي خمسون حديثًا.

المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء في ذلك مما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر. وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل. والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتفصيله في الفقه (4)

فالنهي عن أكل المال بالباطل واشتراط الرضا في التعامل من القواعد العامة التي تتتنزل على الوقائع بالاجتهاد.

(1) سورة النساء: الآية 29

(2)

الطبري: 8/30

(3)

الطبري: 8/30

(4)

التحرير والتنوير: 2/190

ص: 2240

ثانيًا: السنة:

1-

الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سعر لنا. فقال: ((أن الله هو المسعر القباض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)) أخرجه أبو عيسى الترمذي وقال حسن صحيح (1)

2-

الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: لو قومت لنا سعرنا قال: ((إن الله هو المقوم أو المسعر، إنى لأرجو أن أفارقكم وليس أحد منكم يطلبنى بمظلمة في مال ولا نفس)) (علَّق عليه أحمد البنا بقوله رجاله رجال الصحيح وحسَّنه الحافظ)(2) .

3-

الحديث الذي رواه أبو هريرة - أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سعِّر لنا، فقال:((إن الله يرفع ويخفض، ولكنى لأرجو أن ألقى الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة)) (3)

فالأحاديث المتصلة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك تتفق كلها (1) على أن الأسعار ارتفعت، (2) أن الصحابة طلبوا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم لتحديد السعر (3) أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من التسعير (4) أنه لم يستجب لطلبهم معللًا رفضه يكون التسعير مظلمة يخشى أن يطلبه أحد بها يوم القيامة، وأن الظلم حرام. فظاهر الأحاديث تقتضي المنع من التسعير أيضًا كما أن ظاهر القرآن يقتضى المنع أيضًا. ولذلك فإنه بالرجوع إلى كلام فقهاء المذاهب الأربعة نجدهم يجمعون على أن الأصل في التسعير هو التحريم.

مذهب الحنفية: في الفتاوى الهندية – ولا يسعر بإجماع (4) ويقول الحصكفي: ولا يسعر حاكم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تسعروا، فإن الله هو المسعر القابض الباسط)) . يقول ابن عابدين: لا يسعر أي يكره (5)

(1) عارضة الأحوذي: 6 /53 وأخرجه أحمد: 3/156 – 286 وابن ماجه كتاب التجارات: 2/741 والدارمي: 2/249

(2)

رواه أحمد: 3/58 ورواه ابن ماجه ونقد سند: 2/741

(3)

رواه أحمد: 2/337-372

(4)

الفتاوى الهندية: 3/214

(5)

رد المحتار: 5/256.

ص: 2241

مذهب المالكية: سُئِلَ ابن القاسم عن قول مالك ينبغي للحاكم إذا غلا السعر واحتاج الناس أن يبيع ما عندهم من فضل الطعام أن يبيعوا! قال: إنما يريد مالك طعام التجار الذين خزنوا للبيع من طعام جميع الناس إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك ولم يقل المالك يباع عليهم ولكن قال: يأمر بإخراجه وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما عندهم مما فضل عن قوت عيالهم كيف شاؤوا ولا يسعر عليهم، قيل: فإن سألوا الناس مالا يحتمل من الثمن؟ هو مالهم يفعلون فيه ما أحبوا ولا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم – هم أحق بأموالهم – ولا أرى أن يسعر عليهم، وما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون أن لا يبيعوا – وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أراد العدل (1) .

وقال ابن وهب سمعت مالكًا وسئل عن صاحب السوق بسعر، فيقول: إما بعتهم بكذا، وإما أخرجتم السوق، فقال: قال مالك: لا خير في هذا (2) .

مذهب الشافعية: يحرم التسعير ولو في وقت الغلاء بأن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا للتضييق على الناس في أموالهم، وقضية كلامهم أن ذلك لا يختص بالأطعمة (3) .

مذهب أحمد: قال ابن حامد ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب الشافعي – وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع به الناس بِعْ كما يبيع الناس أو أخرج عنا – وناقش مالكًا واستدل بحديث أنس - وعلق عليه بقوله إنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام (4) .

وكما استدل أصحاب المذاهب على أن الأصل في التسعير المنع بالقرآن والسنة، كذلك استدلوا على المنع بالمصلحة التي يجب مراعاتها – وبالعدل الذي هو المعيار الذي يجب أن يضبط تدخل صاحب السلطة.

يقول الشوكاني وجه المنع من التسعير أن الناس يسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين. وليس نظره في مصلحة المشتري يرخص الثمن أولى من النظر في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم (5)

(1) المعيار: 6/425

(2)

المعيار: 6/425

(3)

مغني المحتاج: 2/38

(4)

المغني: 4/239 – 240

(5)

نيل الأوطار: 3/335.

ص: 2242

ونقل صاحب المغني عن بعض الحنابلة أن التسعير سبب الغلاء لأن الجاليين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدًا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون. ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها، ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلًا، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين، جانب الملَّاك في منعهم من بيع أملاكهم وجانب المشترى في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حرامًا (1)

فالشوكاني يثير قاعدة مقطوع بها: إن الحاكم ليس له أن يحابي طرفًا ليستفيد طرف آخر. ولما كانت مصلحة البائع أن يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه دون أن يلزم أحدًا بالشراء منه، وكانت مصلحة المشتري أن يحصل على مرغوبه بأقل ثمن ممكن، ولما تعارضت المصلحتان وجب على الحاكم أن يعتزل عن التدخل، وأن يترك لكل من المتبايعين الاجتهاد لمصلحة نفسه شأن البيع الذي هو باتفاق مبني على المكايسة والمماكسة. فهذه النظرية يدافع عنها الشوكاني هي نظرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، وقبول كل طرف بالنتائج المترتبة على ذلك، فكما يعجز الحاكم عند رخص الأسعار وخسارة التجار أن يفرض على المشترين سعرًا أرفع، فكذلك ليس له إذا غلت الأسعار أن يخفض منها لفائدة المشترين. وهذه النظرية هي نظرية سليمة في بادئ الرأي، لو كانت الحياة تجري على نسق وفرة العرض وقلته، ووفرة الطلب وضآلته. ولكن التجار قد يتدخلون لإعطاء صورة مفتعلة ليوفروا لأنفسهم أرباحًا أكثر كما سنبينه فيما بعد.

وأما صاحب المغني فإنه يبني تعليله في منع التسعير على أن التسعير ضرر محض لا صلاح فيه لا للمشتري ولا للبائع. فهو مفسدة وتصور خاطئ ناتج عن قصر في النظر. ذلك أن التسعير يؤول إلى الضرر بالمشتري (المستهلك) لأن تدخل السلطة يترتب عليه انقطاع العرض، لأن الجالبين إذا عرفوا أن السلطة تتدخل في تحديد الأثمان امتنعوا من جلب السلع للأسواق فيتضرر الباعة بتعطيل نشاطهم ويتضرر المشتري (المستهلك) بانقطاع ما هو في حاجة إليه ويغلو الثمن ولا بد.

(1) المغني 7/340.

ص: 2243

وجه آخر من النظر

إن هذه النصوص التي ذكرناها والأدلة المستندة للقواعد التي حللناها يعارضها من ناحية أخرى أدلة وقواعد يمكن الاستناد إليها.

فمن ذلك الاحتكار فقد ورد في الاحتكار أحاديث كثيرة رويت بطرق متعددة تدل على تحريم الاحتكار، فقد روى مسلم قال: كان سعيد بن المسيب يحدث أن عمر بن عبد الله العدوي قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر فهو خاطئ)) (1) .

ورواه أحمد وأبو داود والترمذي كما روي النهي عن الاحتكار بأسانيد مختلفة يقوي بعضها بعضًا وأصحها هو ما رواه مسلم (2) .

ومعنى خاطئ أي آثم فالاحتكار - حسب ظاهر حديث مسلم - حرام، مع أن المحتكر إنما تصرف في ماله تصرفًا مشروعًا في أوله، إذ أن صاحبه قد اشترى ما يحل له شراؤه بعقد صحيح، لا ظلم فيه. وبين الإنسان ما دخل في ملكه بعقد صحيح لا يكون إلا برضا المالك عملًا بالآية:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}

ونظرًا لهذا التعارض اختلفت أقوال العلماء في الاحتكار:

الحنفية: ذهب أبو حنيفة ومحمد أن الاحتكار المحرم هو في قوت البشر وعن أبي يوسف كل ما أضر بالعامة حبسه. وروى عن محمد أنه في قوت البشر وثيابهم. والمحتكر يأمره القاضي ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله ويزجره، فإذا امتنع أوقف، فإن تمادى حبسه وعززه، وهذا كله إذا كان قد اشترى ذلك من السوق، أما إذا كان من غلة أرضه، أو جلبه من بلد آخر بعيد، فإنه لا يعتبر محتكرًا لعدم تعلق حق العامة (3) .

المالكية: يقول ابن رشد قد اختلف قول المالكية على أربعة أقوال ـ أحدها: إجارة احتكار الأطعمة كلها القمح والشعير وغير ذلك في الأوقات التي لا تضر الحكرة بالناس. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة ـ والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، والرابع: المنع من احتكارها كلها ما عدا الأدم والفواكه والسمن والعسل والتين والزيت.

وتأول ابن أبي زيد ما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من تحريم احتكار شيء من الأطعمة بأن ذلك في المدينة المنورة لقلة الطعام بها.

ثم يقول ابن رشد: فعلى قوله هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار هو تغلية الأسعار. وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها.

(1) إكمال الإكمال: 4/304

(2)

نيل الأوطار: 5/ 335، 336

(3)

رد المحتار: 5/265

ص: 2244

ولا اختلاف بينهم إن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحناء وشبهها من السلع يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس.

وهذا الذي ذكره ابن رشد زاده عياض تحديدًا، فقال: والممنوع هو فيما اشترى من السوق، وأما من جلب شيئًا من بلد فله ادخاره إلا أن ينزل بالناس حاجة ولا يوجد عند غيره فيؤمر ببيعه لدفع الضرر عن الناس. وكذلك ما اشتراه لقوت عياله، لادخاره صلى الله عليه وسلم قوت عياله سنة، (وزاد القرطبي فقال: وكذلك له ادِّخار ما تحل من كسبه. فإذا باعه الناس لحاجتهم فإنما يبيعه بسعر الوقت. بل إنه رجح أن احتكار ما لا يضر مصلحة وترك احتكاره مفسدة، لأن ذلك الشيء قد يقل أو ينعدم من المستقبل فيوجد عنده. مستدلًا بكلام ابن العربي إذا كثر الجالب ولم يشترِ منهم وردوا. فالاحتكار حينئذ جائز بل مستحب (1) .

الشافعية: قال النووي: قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصةً. وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ـ ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه. فأما إذا كان من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إي أكله أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا يحرم فيه. وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال هذا تفصيل مذهبنا.

قال العلماء والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس ـ كما أجمع العلماء على أن لو كان عند إنسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه دفعًا للضرر على الناس ـ وما روي أن سعيد بن المسيب ومعمرًا كانا يحتكران، قال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء. (2)

الحنابلة: قالوا الاحتكار حرام والاحتكار المحرم هو ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:

أحدها: أن يشتري، فلو جلب شيئًا أو أدخل من غلته شيئًا فادخره لم يكن محتكرًا لأن الجالب لم يضيق على أحد ولا يضربه، بل ينفع.

الثاني: أن يكون المشتري قوتًا. فأما الإدام، والحلواء، والعسل، والزيت، وأعلاف البهائم، فليس فيه احتكار محرم.

(1) إكمال الإكمال: 4/305

(2)

شرح مسلم: 11/43

ص: 2245

الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين:

أحدهما: يكون في بلد يشق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور فالبلاد الواسعة الكبيرة المرافق والجلب كبغداد والبصرة ومصر لا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالبًا.

ثانيهما: أن يكون في حال الضيق كأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس، فأما إذا اشتروه في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم. (1)

أن تتبع المذاهب في الاحتكار يدل على اتفاق المذاهب في الحقيقة وإن ظهر اختلاف بينها في بادئ الرأي، ذلك أن المذاهب الأربعة تتفق على أن الاحتكار المحرم هو ما كان طريق التحصيل عليه الشراء من السوق ـ وإن المنتج والجالب للسلعة من مكان بعيد حر التصرف في سلعته له بيعها وادخارها، ثانيًا: إن الادخار في الوقت الذي يكثر فيه العرض كثرة تفوق الطلب لا حرمة فيه، بل هو مستحب حتى لا تهبط الأسعار هبوطًا يعزف معه المنتج عن الإنتاج، ثالثًا: إن العلة التي تظهر بين الحين والآخر مؤثرة في التحريم (تعلق حق العامة)(إذا لم يضر ذلك بالناس)، والضرر كما صرح به ابن العربي:(هو غلاء الأسعار) ، ومن هذه النقطة يظهر وجه ربط الاحتكار بالتسعير، فالمذاهب الأربعة تحرم الاحتكار وتعطي المحتسب الحق في التدخل حفاظًا على استقرار الأسعار ـ فهم جميعًا يعتبرون أن استقرار الأسعار مصلحة عامة. وأن الحرية مصلحة خاصة تهدر في مقابل المصلحة العامة ـ وأما التفرقة بين الطعام وغيره واختلافهم في تحديد الأطعمة وإدخال اللباس وعدم إدخاله، إنما هو اختلاف في التدقيق في النظر. فمن تعمَّق في تقدير الحاجات الإنسانية التي لا بد منها لم يقصر تحريم الاحتكار على القمح والشعير، ومن رأيي أن ذلك هو الضروري لبقاء الحياة قصر التحريم. والذي يظهر أن الاحتكار على مستويين، المستوى الأول: ما تستطيع المجموعة مقاومته بالامتناع عن الشراء حتى يضطر المحتكرون إلى النزول بسلعهم للسوق وهو مستوى من التوكل عند المؤمن والرضا بالمقدور، وعند غير المؤمن مستوى مدني ـ وعلى كلٍّ فإن تهافت البشر على ما ليس ضروريًّا لحياتهم يتحملون بتهافتهم قسطًا من اندفاع المحتكرين للاحتكار فالمسؤولية موزعة ولذا رأى أكثر الفقهاء أنه لا حرمة فيه. والمستوى الثاني: أن لا تستطيع المجموعة التأثير على المحتكرين لكون الاحتكار في عيش البشر وما لا يبصرون على اقتنائه. وهنا فالاحتكار طلبًا للغلاء حرام. إذ ترضخ الجماعة للأسعار التي يفرضها المحتكرون. فمن راعى هذه الدقة قصر التحريم على الضروري ومن راعى أن المستوى العام للمجموعات البشرية أنها لا تصبر على المفقود في تحريم الاحتكار.

(1) المغني: 4/244، 245

ص: 2246

وعلى كل، فإن التأثير في غلاء الأسعار هو الذي أباح للمحتسب التدخل وحرم الاحتكار على المحتكر.

وبجانب الاحتكاك أيضًا، فقد ورد في الشريعة ما يبيح انتقال الملك بقيمة المثل إلى غير صاحبه وبدون رضاه.

فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن عبد الله بن عمر من أعتق شركًا له في عبد، فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عيه العبد، وإلا فقد عتق عنه ما عتق (1) .

فالحديث نص على أن المعتق لنصيبه من العبد المشترك يجب عليه أن كان واجدًا أن يدفع إلى شركائه قيمة حصصهم بعد أن يقوم العبد بقيمة المثل.

يقول ابن القيم صار هذا الحديث أصلًا أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا بما يزيد عن الثمن (2)

ومن ذلك أيضًا الحديث الذي رواه البخاري وأحمد، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم)) . فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. (3) أجمع العلماء على جواز الأخذ بالشفعة وهي في حقيقتها إجبار المشتري على تمكين الشريك من الحصة التي اشتراها بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهي تتضمن خروج الملك عن مالكه بغير رضاه، وأن القيمة المحددة، هي ثمن الشراء ليس له أي أدنى حظ من الربح.

فإذا كان الشارع قد أباح انتزاع ملكية العبد من سيده جبرًا وبسعر محدد هو سعر المثل ليتحقق العتق الذي يتسوفِ له الشارع، وإذا كان الشارع قد أجبر المشتري للشقص على بيع شقصه بالثمن الذي اشتراه به دفع الضرر عن الشريك، وهي مصلحة جزئية لا أفضلية للشريك إلا بالسبق الزمني في التملك، فالتسعير أولى بالقبول.

ولذا فإن العلماء بعد اتفاقهم على منع التسعير أخذوا ينظرون في القضية نظرة جديدة. ومن ذلك ما ذكره ابن العربي في العارضة وقال سائر العلماء بظاهر الحديث أي بمنع التسعير والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومقادير الأحوال. وحال الرجال والله الموفق للصواب وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم، وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضي (4)

(1) إرواء الغليل: 5/357

(2)

الطرق الحكمية: ص 304

(3)

نيل الأوطار: 6/20

(4)

العارضة: 6/54

ص: 2247

فابن العربي نظر إلى القواعد الشرعية فرأى أنها جاءت بالعدل، وأن لا يمكن المهرة من الإثراء بوساطة التلاعب في الأسواق وإغلاء الأسعار، وأن الحاكم قد نصب لإقامة العدل ين الناس ـ وأن سياسة البشر الذين يغلب عليهم تقوى الله والإيثار تخالف سياسة البشر الذين همهم ملء خزائنهم والاستئثار، وطغيان حب الذات والأنانية، ولو بالتضييق على الناس، فما حكم به صلى الله عليه وسلم حق في الوقت الذي حكم به.

معنى ذلك أن هذه قضية عين لا عموم لها هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن نص الحديث لا يدل عي أن الغلاء كان نتيجة عبث بالسوق، وإنما ارتفع الثمن في سوق المدينة تبعًا لعوامل موضوعية لا دخل للتجار فيها. ولذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالكشف عن الفاعل في الغلاء بقوله ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)) ، فارتفاع الأسعار في عهده كانت متسببة عن تصرف إلهي حكيم في الكون تعرف آثاره، ولله الحجة البالغة وهو ما يفهم عنه الرواية الأخرى بل ادعو الله.

إذن هما اتجاهان: الأول لأصحاب المذاهب لا يتدخل السلطان ولا نائبه في التسعير أصلًا. الاتجاه الثاني أن للسلطان أو نائبه حق التدخل في التسعير، إلا أن هذا التدخل في التسعير للمصلحة قد اختلف فيه الفقهاء تبعًا لتحديدهم للمصلحة المسوغة لذلك، كما أن ميادين التدخل قد تكون في السلع المعروضة في السوق عند التجار، وقد تكون في السلع المجلوبة، وقد تكون في الخدمات البشرية، وقد تكون في الانتفاع بالمباني والآلات.

القسم الأول ـ تدخل السلطة في أثمان المبيعات:

الحنفية: يقول الطوري: إن الثمن حق البائع وإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون تعديًّا فاحشًا، وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير والتعدي الفاحش هو تضعيف القيمة.

يقول في الدر المختار وأفاد أن التسعير في القوتين (أي قوت البشر والأنعام) ثم قال: لكن إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا العامة فيسعر عليهم الحاكم بناء على قول أبي يوسف فالحصكفي جعل القول بتسعير الحاكم في غير القوتين إذا أضر بالعامة غير منصوص لأئمة المذهب، ولكنه مخرج على قول أبي يوسف أن كل ما أضر حبسه بالناس فهو احتكاره (1)

(1) رد المختار: 5/257

ص: 2248

فحاصل مذهب الحنفية أن الإمام أو نائبه لا يتدخل في تسعير قيم المبيعات إلا في القوت إذا تلاعب التجار بالسوق حتى بلغ الضعف نصًّا في المذهب، وفي غير القوت قياسًا على القوت.

المالكية: سئل القاضي أبو عمر بن منظور عن التسعير فكان مما أجاب به: (أهل الأسواق والحوانيت الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملًا ويبيعون ذلك على أيديهم) . قيل هم كالجلاب الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق، قاله عبد الله بن محمد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وقيل إنهم بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس، وإن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه وينهي عن الزيادة، ويتفقد السوق، فيمنع من الزيادة على ما حد. ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق أن كان البائع معتادًا لذلك مشتهرًا به، وهو قول مالك في سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به من السلف جماعة. ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من غير نظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما، مما يكون نتيجته ما فيه ضرر (1)

فابن منظور يرى أن على صاحب السوق أن يتدخل بتحديد الثمن كلما تعسف أهل السوق من التجار في مقتضى الحرية، وظلموا الناس دون أن يربط مجال التسعير بقوت أو غيره، والذي ذهب إليه ابن عرفة أن التسعير إنما يكون في القوت خاصةً لقوله في تعريفه (تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه) علق الرصاع على هذا بقوله: أخرج به غير المأكول، لأنه لا يسعر (2)

(1) المعيار: 5/84ـ85

(2)

شرح حدود ابن عرفة: ص 295

ص: 2249

وما ذهب إليه ابن منظور من أن الحاكم يسعر على أهل السوق بعد أن ينظر في شرائهم ويترك لهم من الربح ما لا ضرر فيه على العامة، وأنه لا يحل له أن يحدد ثمنًا دون نظر إلى معطيات موضوعية للتسعير، وأن هذا أمر متفق عليه، يؤكد ذلك ما في سماع أشهب لصاحب السوق: بيعوا على ثلث رطل من الضأن ونصف رطل من الإبل (يعني أن الدرهم يشتري به ثلث رطل أو نصف رطل)، قال مالك: ما أرى به بأسًا إذا سعر عليهم شيئًا يكون فيه ربح يقوم لهم من غير اشتطاط (1)

الشافعية: اقتصر صاحب تكملة المجموع على نقل كلام ابن القيم (2)

الحنابلة الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. يقول ابن القيم: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز.

فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعتهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب.

وابن القيم يلتقي مع ابن العربي في أن التسعير لا يحكم عليه حكم مطلق، ولكن ينطبق في الظروف التي أدت إليه، فما كان منه ظلمًا للناس فهو حرام، وما كان منه حماية للناس من الظلم، فهو واجب. وبهذا يصبح الخلاف هو في تحقيق المناط أي في بيان الأحوال التي تحقق فيها الظلم لصاحب السلعة، فيكون تصرف صاحب السوق حرامًا. وفي الأحوال التي ظلم فيها أرباب السلع غيرهم فيكون رفع ظلمهم واجبًا.

(1) المعيار 6/409، الطرق الحكمية ص: 302

(2)

المجموع: 13/29

ص: 2250

أنواع صاحب السلعة:

الجالب: قد يكون صاحب السلعة جالبًا للسلعة، والرأي الغالب أن الجالب لا يسعر عليه، أصله ما رواه مالك في موطئه أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا.. لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله (1) . فهذا الحديث يدل على حرية الجالب في التسعير لا يتسلط عليه. وكذا المنتج يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه لا يتسلط عليه الحاكم فيحدد له الثمن، إلا أنه إذا كان أهل السوق قد جرى بينهم سعر فجاء الجالب ليرفع في الثمن أو ليخفض فيه فإنه لا يتعرض له في تحديد الثمن، ولكن هل يرفع من السوق أو لا؟ خلاف، فمالك اعتمد على ما رواه من حديث عمر رضي الله عنه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ فعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع له زبيبًا بالسوق فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا (2) ، فهم بعضهم أن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أقل مما يبيع غيره فنهاه عمر عن ذلك ليحط من الثمن ويسير مع ثمن أهل السوق، وقيل بل إن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أكثر مما يبيع غيره. وهذا مفضٍ للخصام بين من يخفض في الثمن وأهل السوق. ولذا لم يفرق كثير من العلماء في الخروج عن الثمن بين الزيادة والنقص، قال ابن القصار: اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حطَّ سعرًا، فقال البغداديون: أراد أن يباع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية بدرهم، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة، فيفسد على أهل السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة. قال ابن القصار، وعنه أن الأمرين جميعًا ممنوعان (3) ، ورأي ابن رشد هذا غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس ويؤجر إن فعله لوجه الله (4) .

(1) الزرقاني: 3/126

(2)

الزرقاني على الموطأ: 3/127

(3)

الطرق الحكمية: ص301

(4)

الطرق الحكمية: ص301

ص: 2251

تدخل صاحب السلطة في الشراء:

إذا تمالأ التجار على الزيادة في ثمن الشراء طلبًا لإغلاء الأسعار فإن صاحب السلطة يتدخل لرفع الظلم، يقول ابن القيم: فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطؤوا على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل ويبيعوا ما يبعدونه بأكثر من ثمن المثل ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان، وقد قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، [الآية 12 من سورة المائدة] ، ولا ريب أن هذا عظم إثمًا وعدوانًا من تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي ومن النجش (1)

طريقةُ تدخُّلِ صاحبِ السُّلْطَةِ:

إن الزيادة في السعر أو التنقيص منه قد تكون من جملة التجار في السوق وقد تكون من عدد محدود.

فإذا كانت من عدد محدود فإن لم تتحدد صفة المبيع واختلفت جودة ورداءة، فلا يتدخل صاحب السلطة (2) وإن اتحدَّ المبيع صفة فكما تبين من النصوص السابقة يؤمر من زاد في الثمن إما بمتابعة أهل السوق وإما أن يتحول عنه ولا يبقى يبيع ويشتري به. وإن نقص فقد رأينا الخلاف في ذلك، غير أن ابن رشد يرى أنه لا فرق بين رفع الأثمان وخفضها، ويرى ابن رشد أن من خفض في الثمن لأوجه لمنعه من ذلك، لأن خفض الثمن من المسامحة التي يستحق صاحبها الشكر في الدنيا، والمثوبة عند الله إذا قصد به وجه الله وما قاله ابن رشد فيه نظر ذلك أن التخفيض يكون من الجلابين فلا يتعرض لهم، أما من أرباب السوق فإنها من الطرق التي يعمد لها بعض التجار ليفسد على أهل السوق بيعتهم ويستأثر هو بالحرقاء، حتى إذا ما ألفه الناس استطاع أن يرفع في الأثمان فهو من الطرق الماكرة للاستئثار.

وأما إذا كان التنقيص من جملة التجار فلا يتدخل صاحب السلطة، وأما إذا كانت الزيادة من جملة التجار فهنا يتدخل صاحب السلطة ويجب أن يكون تدخله بالعدل فلا يظلم الباعة، ولا يظلم المشتري، وصفة ذلك يقول ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق في ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارًا على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا به، ولا يجبرهم على التسعير، ولكن عن رضا (3) .

(1) الطرق الحكمية: ص289

(2)

التيسير في أحكام التسعير: ص6.

(3)

التيسير في أحكام التسعير: ص 49

ص: 2252

قال أبو الوليد بن رشد: ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا ما لا ربح لهم فيه، أدى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال الناس (1) وهو نص ما جاء في جواب ابن منظور.

يتبين مما سبق أن التسعير لا يعطي لصاحب السلطة الحق في التعسف في الحكم وفرض التسعير حسب تقديره الخاص، ولا يمكنه التسعير بالاعتماد على رأي المشترين وإنما يجمع هيئة تتآلف من التجار والخبراء، ويعتمد المعطيات الحقيقية من ثمن الشراء، وما يرغب التجار في الاستمرار على القيام بدورهم من إيصال السلع إلى الراغبين فيها، وعلى هذا فالسعر غير ثابت وإنما هو تابع لتقلب السوق واختلاف القيم ـ يقول أحمد سعيد المجيلدي: يجب على صاحب السوق الموكل لمصلحته أن يجعل لهم من الربح ما يشبه ويمنعهم من الزيادة عليه ويتفقدهم في ذلك ويلزمهم إياه كيفما يتقل بالسعر زيادة أو نقصانًا (2) .

تدخل صاحب السلطة في قيمة الانتفاع بالمباني والآلات:

يقول ابن القيم إذا قدر أن قومًا اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك، وجب على صاحبه بذله بلا نزاع لكن هل له أن يأخذ أجرًا؟ فيه قولان للعلماء. ومن جوز له الأجرة حرم عليه الزيادة على أجر المثل (3) .

فالتسعير بقيمة المثل في هذه إنما تكون عند الاضطرار بتوفر ركني الحاجة وعدم وجود سواه.

تدخل صاحب السلطة في قيمة الانتفاع بالخدمات:

يقول ابن تمية: أن ولي الأمر أن أجبر أهل الصناعات على ما يحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك، فيستعمل بأجرة المثل ولا يمكن المستعملون من ظلمهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم، مع الحاجة إليها فهذا تسعير العمال (4) .

(1) الطرق الحكمية: ص 303، والفتاوى: 28/92

(2)

التيسير في أحكام التسعير: ص: 49

(3)

الطرق الحكمية: 305 ـ 308

(4)

الفتاوى 28/86

ص: 2253

هذا وجه من التدخل فصله شيخ الإسلام أن ولي الأمر يقدر قيمة العمل المحتاج إليه ويلزم صاحب المال بدفع أجر العمل كاملًا حسبما قدره مراعاة للظروف العامة ويلزم العامل بالعمل بتلك القيمة إذا تعينت فيه ولم يجد صاحب العمل عاملًا آخر.

ونوع آخر من التدخل فصله ابن القيم: وهو اشتراك أهل صناعة أو حرفة فيما بينهم اشتراكًا يوقع الناس في حرج، بإلزامهم الرضا بما يسعرون به فقال: منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسامين الذين يسقمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة.

قلت: وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كالشهود والدلالين وغيرهم. (1)

ونقل المجيلدي عن المالقي: لا احتساب على جالب الطعام ولا لمن يبيع بغير دكان ولا حانوت يعرض للخاص والعام، ولا على الفواكه والخضر، إلا لغلاء مفرط ولا على السكري ولا على الدباغ والسمسار والخراز والبناء والكاتب والصاغة والشراط والنكاز والحواز والخياط والبرام ـ والصفار ـ والقواس ـ والخراط ـ والفخار ـ والحائك والنجار والرماح والحداد وجميع أهل الحرف والصنائع والمنتسبين من حمال أو سواه ودلال وسمسار وغيرهم (2) فالمالقي يخرج كل الصناعات من دائرة التسعير وإنما يفرض على المحتسب أن يقيم لكل صناعة أمينًا يتفقد الإنتاج والخدمات هل راعى أصحابها الأصول الفنية أو لا؟ وله أن يؤدب من لم يحترم الأصول بإفساده من أنتج (3) .

إنه بالموازنة بين رأي ابن القيم والمجيلدي يتبين بوضوح أن ابن القيم أبعد نظرًا بتقسيمه أرباب الصناعات إلى قسمين: قسم تعسف في استعمال حقه ومكر للإضرار بغيره، وهذا تنطبق عليه القاعدة لا ضرر ولا ضرار. وما وضع الحاكم إلا ليقيم العدل ويمنع الظلم الظاهر والمقنع. وقسم جرى على سنة التفاضل حسب القدرة على التجويد بدون حيلة ولا مكر، وهذا لا يتدخل فيه الحاكم ولا يسعر عليه.

مخالفة التسعير:

إذا تدخل صاحب السلطة وسعر على الناس فإنه يجب أن يطاع لأن القضية محل خلاف وحكم الحاكم برفع الخلاف، ويلزم كل الناس احترام حكمه ما دام غير مناقض لأصل يقيني.

وإذا خالف البائع وباع أكثر من القيمة فالمبيع صحيح. ففي الفتاوى الهندية فإن سعر فباع الخباز بأكثر مما سعر جاز بيعه (4)، ويقول الشربيني: فلو سعر الإمام عزر مخالفة بأن باع بأزيد مما سعر لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخافة وصح البيع. إذ لم يعهد الحجر على المختص في ملكه أن يبيع بثمن معين (5) .

والتعزيز عند الحنفية لا يكون إلا إذا تكرر من التاجر المخالفة. يقول الطوري وينبغي للقاضي والسلطان أن لا يعجل بعقوبة من باع فوق ما سعر بل يعظه ويزجره وإن رفع إليه ثانيًا فعل به كذلك وهدده وإن رفع إليه ثالثًا حبسه وعزره حتى يمتنع عنه ويمتنع الضرر عن الناس (6) .

حكم الشراء بالسعر المحدد:

يقول الطوري: ومن باع منهم بما قدَّره الإمام صح لأنه غير مكره على البيع. كذا في الهداية، وفي المحيط: أن كان البائع يخاف إذا زاد في الثمن على ما قدره أنقص في البيع يضربه الإمام أو من يقوم مقامه ولا يحل للمشتري ذلك؛ لأنه في معنى المكره، والحيلة في ذلك أن يقول له تبيعني بما تحب (7) . وعند الحنابلة يبطل البيع إن هدد المشتري البائع (ويكره الشراء بالتسعير، وإن هدد من خالفه حرم البيع بطل لأن الوعيد إكراه)(8) .

وفيما قاله الحنابلة نظر ذلك أن الإكراه المؤثر في العقد هو الإكراه التعسف الذي يتسلط فيه القوي على الضعيف فيخضعه لإرادته، أما إذا كان الإكراه تطبيقًا لمقتضيات الشرع فلا حرمة فيه ولا بطلان ـ كما يكره الشفيع المشتري للشخص على تحويل له بثمنه، وكما يكره الشريك شريكه على البيع فيما لا يقبل القسمة، وكما تكره الزوجة زوجها على تنفيذ قضاء القاضي بالنفقة عليها حسبما قدره.

(1) الطرق الحكمية: ص 287

(2)

التيسير في أحكام التسعير: ص 55

(3)

التيسير في أحكام التسعير: ص 55

(4)

كذا في فتاوى قاضيان: 3/214

(5)

مغنى المحتاج: 2/38

(6)

تكملة البحر: 8/230

(7)

تكملة البحر: 8/230

(8)

شرح منتهى الإرادات: 2 /159

ص: 2254

التسعير في عصرنا الحاضر:

إن التسعير في عصرنا الحاضر يختلف عن التسعير في العصور السابقة كما أنه يختلف أمره من بلد إلى بلد ومن بضاعة إلى بضاعة أخرى، ويتبين ذلك مما يأتي:

أولًا: جرت بعض البلدان التي لها قوة مالية تغطي احتياجاتها أو تفوقها أنها لا تتدخل في التوريد، ذلك أن عملتها لها من الغطاء ما يضمن رواجها بقيمتها، وهذه الدول تبني اقتصادها على قاعدة العرض والطلب، فترتفع الأثمان أو تنخفض تبعًا لهذه القاعدة ولا يرى الحاكم أنه في حاجة إلى التدخل، وإن عدم تدخله يضمن تدفق السلع للأسواق والمزاحمة، خاصةً وقد غدت وسائل النقل وإيصال السلع تشمل البر والبحر والجو وأصبح التجار في هذه البلدان يعتمدون لتحقيق الأرباح دوران رأس المال. وقلما يلجأون إلى الاحتكار.

ثانيًا: جرت بعض البلدان ذات الاقتصاد الضعيف أن تتدخل في الحركة الاقتصادية من عدة نواح:

(أ) لما كانت عملتها لا قيمة لها خارج حدودها وهي غير ملزمة بمقايضتها، كان التوريد خاضعًا لتمكين المورد من العملة التي يقبلها البائع خارج الحدود الوطنية، وهذه العملة ليست من مجهود المورد ولكنها مجهود الأمة. وبهذا الاعتبار فالمورد يملك رأس مال ناقص تكمله له الدولة من ثروة الأمة، وتنظيم شؤون الدولة حصر قائمة الموردين حسب شروط وتنظيمات، وبهذا فإنه يحق للدولة أن تحدد سعر البيع كما تراقب سعر الشراء وهو ما نص عليه ابن القيم أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون وهؤلاء يجب التسعير عليهم والا يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا كان ذلك ظلمًا للناس.

(ب) إن الدولة تجد نفسها ملزمة لظروفها الاقتصادية والاجتماعية أن توقف غلاء المعيشة وتيسر على ذوي الدخل المحدود اقتناء بعض الضروريات بثمن أخفض من قيمتها الحقيقية وتعوض من صندوق الخزينة الفارق بين القيمتين، وهنا لا بد لها من أن تحدد ثمن البيع، لأنها في حقيقة الأمر أسهمت في رأس المال ـ فهي شريكة ومن يشاركها قد دخل على أنه لا يزيد على الثمن الذي حددته.

فيظهر أن تدخل الدولة في التسعير هو نتيجة ضعف في الاقتصاد الوطني وأنه كلما كان الاقتصاد قويًّا كانت الدولة في غنى عن ذلك.

والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الشيخ محمد المختار السلامي.

ص: 2255