المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

‌العرف (بحث فقهي مقارن)

إعداد

الدكتور محمد جبر الألفي

كلية الحقوق – جامعة الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

1-

شاع في أقوال الفقهاء، من مختلف المذاهب الإسلامية، أن العادة محكمة وأن استعمال الناس حجة يجب العمل بها، وأن الحقيقة تترك بدلالة العادة والعرف، وأن العرف في الشرع له اعتبار، وأن التعيين بالعرف كالتعيين بالنص، وأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، حتى صارت هذه العبارات وما يماثلها أساسًا لقواعد فقهية استقرت في الفقه الإسلامي وفي تشريعات العديد من الدول الإسلامية، وتأكد بمقتضاها ما للعرف من دور متميز في إنشاء الأحكام وتعديلها وتفسيرها.

2-

فلما نهضت حركة " التقنين " في البلاد العربية والإسلامية لزم بيان المصادر الرسمية التي ينبغي على القاضي أن يلجأ إليها ليستمد أحكامه منها. واحتل العرف مكان الصدارة، بعد النص، في بعض هذه التقنينات، ووضعه بعضها الآخر في المرتبة الثالثة من المصادر الرسمية، بحيث لا يحكم القاضي بمقتضاه إلا عند سكون النص القانوني عن تقرير حكم يفصل في النزاع، وعدم استطاعة القاضي استنباط هذا الحكم من مبادئ الشريعة الإسلامية. واعتبر هؤلاء وأولئك أنهم بذلك يتبعون النهج الإسلامي القويم.

3-

من أجل ذلك كانت أهمية هذا البحث لتحديد معنى العرف، وتعيين أركانه، والكشف عن أساس قوته الملزمة، وبيان الوظيفة التي يمكن أن يؤديها في مجال التشريع. وهذا يقتضي أن نتبع في دراسة العرف المنهج التالي:

الفصل الأول: معنى العرف وبيان أركانه.

الفصل الثاني: القوة الملزمة للعرف.

الفصل الثالث: دور العرف في التشريع.

الفصل الرابع: التطور التشريعي للعرف.

ص: 2678

الفصل الأول

معنى العرف وبيان أركانه

4-

اختلف العلماء في تحديد معنى العرف، ونتيجة لهذا الاختلاف تقاربت مع العرف بعض المصطلحات أو تباعدت. واشترط البعض لاعتبار العرف أوصافًا تؤكد قيامه وتعين درجة إلزامه. وهذا ما نعالجه في مبحثين:

نخصص أولهما لبيان معنى العرف، والتفرقة بينه وبين ما قد يشتبه به.

ونستعرض في الآخر أركان العرف وشروط كل ركن.

المبحث الأول

تحديد معنى العرف وتمييزه من الألفاظ ذات الصلة

أولًا – تحديد معنى العرف:

5-

معنى العرف في اللغة:

أورد علماء اللغة للعرف عدة معان (1)، منها: كل مرتفع، كعرف الديك والرمل والجبل. ومنها: ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم. والعرف أيضًا اسم من الاعتراف، يقال: له علي ألف عرفًا. ويطلق العرف كذلك على كل معروف، وهو ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه، كما في قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (2) .

(1) الأزهري، الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، تحقيق محمد الألفي، الكويت 1979 م، 109. ابن منظور، لسان العرب، بيروت 1955 /1956 /، 11 /144 وما بعدها. الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، الطبعة الأولى: 4 /1402 – 1403. الزبيدي، تاج العروس، طبعة بيروت 1966 م: 6 /193. الفيروز آبادي؛ القاموس المحيط، 1373هـ: 3 /178 – 179. الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير المعجم الوسيط، القاهرة، 1950م:2 /53-54 مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة 1961م: 2 /601.

(2)

[سورة الأعراف: الآية 199] .

ص: 2679

ومن معاني العرف: تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، كعرف الفرس، سمي بذلك لتتابع الشعر، ومنه قولهم: طار القطا عرفًا عرفًا، أي متتابعة. ومن هذه المعاني يتضح أن مادة (عرف)" يغلب ورودها فيما ارتفع من المحسات وكرم من المعاني، والمعنى الأخير منها يشعر بمتابعة البعض للبعض "(1) .

6-

معنى العرف في الاصطلاح:

ذكر " الجرجاني " في " التعريفات "، أن:" العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول "(2) ، وما ذكره الفقهاء والأصوليون من تحديد لمعنى العرف يدور حول هذا التعريف، فقد عرفه " النسفي " في " المستصفى " بقوله: "

العرف ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " (3) ، أي أن العرف " هو الأمر الذي اطمأنت إليه النفوس وعرفته، وتحقق في قرارتها وألفته مستندة في ذلك إلى استحسان العقل، ولم ينكره أصحاب الذوق السليم في الجماعة " (4) وعرفه " علي حيدر " في " درر الحكام " بقوله:" الأمر الذي يتقرر في النفوس، ويكون مقبولًا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة "(5) وقريب من هذا التعريف الذي ذكره " مصطفى أحمد الزرقاء " في " شرح القواعد الفقهية "(6) أما عبد الوهاب خلاف فقد عرفه بقوله: " ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك "(7) وهكذا يتحقق الارتباط بين المعنى اللغوي للعرف ومعناه في الاصطلاح.

(1) ابن منظور، لسان العرب، نفس الموضع المتقدم.

(2)

الجرجاني، التعريفات، بيروت 1983 /: ص 149.

(3)

النفسي، المستصفى، مخطوط، أورده: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة في رأي الفقهاء، للأزهر 1947 م، ص:8. وذكره " البيري " في شرحه للأشباه والنظائر، نقلًا عن المستصفى، " عمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي، مجلة الحقوق، الإسكندرية يناير / مارس 1951 م: ص2" وأورده، نقلًا عن المستصفى المخطوط لحافظ الدين النسفي، السيد صالح عوض في: أثر العرف في التشريع الإسلامي، القاهرة 1981م: ص 50 هكذا: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وقد أورد عدد من الباحثين هذا التعريف، وعزوه إلى الإمام الغزالي في المستصفى: 2 /138، انظر على سبيل المثال: عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، عمان 1977 م: ص 23 عجيل النشمي، المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، الكويت 1984م: ص 193 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام، الكويت 1974 م: ص 246.

(4)

أحمد فهمي أبو سنةالنفسي، المستصفى، مخطوط، أورده: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة في رأي الفقهاء، للأزهر 1947 م، ص:8. وذكره " البيري " في شرحه للأشباه والنظائر، نقلًا عن المستصفى، " عمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي، مجلة الحقوق، الإسكندرية يناير / مارس 1951 م: ص2" وأورده، نقلًا عن المستصفى المخطوط لحافظ الدين النسفي، السيد صالح عوض في: أثر العرف في التشريع الإسلامي، القاهرة 1981م: ص 50 هكذا: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وقد أورد عدد من الباحثين هذا التعريف، وعزوه إلى الإمام الغزالي في المستصفى: 2 /138، انظر على سبيل المثال: عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، عمان 1977 م: ص 23 عجيل النشمي، المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، الكويت 1984م: ص 193 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام، الكويت 1974 م:، ص 8.

(5)

علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، بيروت / بغداد، د. ت: 1 /40.

(6)

مصطفى أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية، بيروت 1983م: ص165.

(7)

عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، الكويت 1970 م: ص 89.

ص: 2680

ثانيا – تمييز العرف عما قد يشتبه به:

7-

العرف والعادة:

أقرب المعاني شبهًا بالعرف: العادة.

والعادة في اللغة: الاستمرار على الشيء، سميت بذلك لأن صاحبها يعاودها، أي: يرجع إليها مرة بعد أخرى (1) ووجه الشبه: أن من معاني العرف: تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض.

أما في الاصطلاح، فللعلماء في تعريفها مسلكان: يقضي أولهما بعدم التفريق بين العادة والعرف في المعنى. ويقضي الآخر بانفراد كل منهما بمعنى.

(أ) ففي " المستصفى "، للنسفي: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول (2) وبمثل هذا قال عدد من الباحثين (3) .

(ب) والذين سلكوا المسلك الآخر لم يتفقوا على معيار للتفرقة بين العادة والعرف فبينما يرى بعضهم أن العادة هي العرف العملي، وأن العرف هو القولي (4) ، يرى آخرون أن العادة – عند إطلاقها – لا تشمل إلا بالفعل، وإن العرف – عند إطلاقه – يشمل الفعل والقول (5) ويبدو من كلام " الشاطبي " أنه فرق بين العادة والعرف على أساس أن العادة كلية أبدية " العوائد العامة "، وأن العرف راجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية " وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم "(6) ، ويميل بعض الباحثين إلى التفرقة بين العرف والعادة على أساس أن العادة أمر فردي، وأن العرف عادة جماعية (7) .

(1) الفيومي، المصباح المنير: 2 /88. المعجم الوسيط: 2 /641.

(2)

انظر فيما سبق: فقرة 6، هامش 5.

(3)

علي حيدر، درر الحكام:" والعرف بمعنى العادة " وهو ما يفهم من كلام: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة وأخذ بهذا الاتجاه: عبد الوهاب خلاف " العرف هو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى العادة وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة " وهو ما اختاره: محمد سلام مدكور في المرجع السابق ذكره. وكذلك: عمر عبد الله في المقال المشار إليه ص 3: " فلا تفيد كلمة العادة معنى غير معنى العرف " وهو أيضا ما اختاره السيد صالح عوض في المرجع المتقدم: ص 61.

(4)

الكمال بن الهمام التحرير، وشرحه: تيسير التحرير، لمير بادشاه محمد أمين، طبعة الحلبي 1350هـ: 1 /317 وكذلك: التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، القاهرة 1316هـ: 1 /282 أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 165، " العادة: هي الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى وهي المرادة بالعرف العملي ".

(5)

السيد صالح عوض، الكمال بن الهمام التحرير، وشرحه: تيسير التحرير، لمير بادشاه محمد أمين، طبعة الحلبي 1350هـ: 1 /317 وكذلك: التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، القاهرة 1316هـ: 1 /282 أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 165، " العادة: هي الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى وهي المرادة بالعرف العملي ": ص 61 والمراجع التي أشار إليها.

(6)

الشاطبي، الموافقات، القاهرة 1341هـ: 2 /298.

(7)

محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي، بيروت 1986م: 1 /313 منصور محمد الشيخ أصول الأحكام، طبعة الجامعة الإسلامية / ليبيا: ص 200.

ص: 2681

8-

ويبدو أن من جمع في المعنى بين العادة والعرف، لاحظ أن العادة قبل أن تستقر في العمل وتطمئن إليها النفوس، لا يعول عليها أصولي أو فقيه في مجال الأحكام الشرعية، فإذا ما توافر لها من الشروط ما يضعها موضع الاعتبار فإنها تسمى عرفًا، ولا ضير في استصحاب الإطلاق الأصلي " عادة " ما دام المراد منه قد وضح.

وأما من فرق في المعنى بين العادة والعرف، فقد لاحظ استعمال بعض الفقهاء لكل من اللفظين في معنى يستقل به، ولا يبعد أن تكون هذه التفرقة راجعة إلى اختلاف المعنى تبعًا لاختلاف الزمان أو المكان. ويساعد على هذا التوجيه ما قد يستشف من أقوال المحققين.

ففي " التعريفات " يقول الشريف الجرجاني: " العرف: ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول، وهو حجة أيضًا، لكنه أسرع إلى الفهم وكذا العادة: وهي ما استمر الناس عليه على حكم العقول، وعاودوا إليه مرة بعد أخرى "(1) والذي يلفت الانتباه في هذا التعريف أن " الجرجاني " لم يعول على العادة المجردة التي وردت في كلام بعض الأصوليين (2) ، وإنما اعتمد العادة المستمرة التي بنيت على حكم العقول، ثم فرق بينها وبين العرف من حيث إن العرف عادة مستقرة بشهادة العقول التقت عليها الطباع السليمة من غير نكير.

وفي رسالة " نشر العرف " يقدم ابن عابدين فصل الخطاب في المسألة بهذه العبارة الدقيقة: " العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول، متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة، حتى صارت حقيقة عرفية فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث الماصدق، وإن اختلفا في المفهوم (3) و"الماصدق " عند المناطقة: الأفراد التي يتحقق فيها المعنى الكلي، فكأن العرف عادة توافر لها الاستقرار في النفوس والعقول، وتلقتها الجماعة بالقبول، فلا بأس من أن يطلق الفقهاء على هذه العادة اسم العرف أو أن يبقوا على اللفظ الأصلي " العادة " ما دام مرادهم منها قد بان.

(1) الجرجاني، التعريفات: ص 149.

(2)

ابن أمير حاج، التقرير والتحبير: 1 /282: " العادة: الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية ".

(3)

ابن عابدين، مجموعة رسائل، دار سعادت 1425هـ: 2 /125.

ص: 2682

9-

العرف والعمل:

ذكر " السلجماسي "(1)، في تعليقه على " العمل الفاسي " (2) : أن بعض العلماء وخص منهم ابن فرحون (3) ، ويعتبر العرف والعمل أمرًا واحدًا، ثم انتقد هذا الرأي مبينًا أن العلماء حين يقولون: هذا هو العمل، أو: على هذا جرى العمل، فإنما يعنون أن هذا الحكم قال به الفقهاء، ثم استقرت عليه أحكام القضاء وحين يقولون هذا هو المتعارف، أو: بهذا جرت العادة، فإنما يعنون أن هذا هو ما جرى عليه العمل عند عامة الناس، من غير أن يستند إلى رأي فقهي أو أن يطابق أحكام القضاء (4) .

ويبدو أن الذين لم يفرقوا بين العرف والعمل لاحظوا أن جريان أحكام القضاء، في مسألة معينة، على تحكيم العرف في النزاع، يعتبر بمثابة " العرف العملي " الذي اعتبره الفقهاء، وبنوا عليه كثيرًا من الأحكام فقد نقل عن ابن فرحون قوله:" سئل مالك عن الناكح: هل يلزمه لأهل المرأة هدية العرس، وجل الناس تعمل به عندنا حتى إنه لتكون فيه الخصومة، أترى أن يقضي به؟ قال: إذا كان قد عرف من شأنهم، وهو عملهم، لم أر أن يطرح عنهم إلا أن يتقدم فيه للسلطان، لأني أراه أمرًا قد جروا عليه "(5) .

ومع ذلك فالتفرقة واردة، ذلك أن مصطلح " عمل " الذي شاع في الفقه المالكي وخصه فقهاء الأندلس والمغرب بمؤلفات قيمة (6) ، يرجع في أصله إلى " عمل أهل المدينة " الذي رأى الإمام مالك أنه يحقق الإجماع، فقدمه على أخبار الآحاد وعلى القياس (7) .

(1) السلجماسي، حاشية على: العمل الفاسي، طبع حجر، فاس 1291هـ، ملزمة 17ص1.

(2)

العمل الفاسي: تأليف عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، المتوفى سنة 1096هـ، 1685م قام بشرحه والتعليق عليه عدد من العلماء، منهم: أبو سعيد عثمان العميري، من علماء القرن الثاني عشر الهجري، وكذلك: أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم السلجماسي، المتوفى سنة 1214هـ وترجمه إلى الفرنسية:" L. Milliot " انظر: الحجوى، الفكر السامي، الرباط / فاس 1340هـ: 4 /226 وما بعدها

(3)

برهان الدين إبراهيم، من أشهر علماء الأصول والفقه في المذهب المالكي، توفي سنة 769هـ ومن كتبه: تبصرة الحكام أصول الأقضية ومناهج الأحكام.

(4)

Louis milliot; Introdcution a l’etude du droit musulma، Paris 1953، p. 174 – 175

(5)

ابن فرحون، تبصرة الحكام، القاهرة 1302 هـ: 2 /67.

(6)

أضف إلى كتب " العمل " التي أشرنا إليها في هـ 21: الباجي، فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام، تحقيق: محمد أبو الأجفان، تونس 1985م عبد الصمد كنون، جنى زهر الآس شرح عمل فاس، مصر د. ت.

(7)

علي حسن عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، القاهرة 1956م: ص225.

ص: 2683

فلما استقر المذهب المالكي في " القيروان "، كان جل اعتماد العلماء على ما نقل إليهم من فتاوى الفقهاء وأحكام القضاة وفي " فاس " نظر الفقهاء بعين الاحترام إلى ما كان يصدره قضاة الأندلس من أحكام، ولما استقل المغرب بعد ذلك صار له قضاؤه المستقل الذي يعتبر مصدر " العمل الفاسي " لقد واجه هذا القضاء حالات كثيرة، للفقهاء في حكمها أقوال متضاربة، فكان القاضي يختار من بينها ما يتواءم مع العرف، حتى لو خالف القول المشهور في المذهب، وذلك رعاية للمصلحة بجلب منفعة أو دفع مضرة، والتزم القضاة اللاحقون هذا المنهج العملي، طالما بقيت المصلحة قائمة، فإذا انقضت المصلحة لم يعد هناك مبرر للعمل بالقول المرجوح، وبنى القاضي حكمه على القول المشهور في المذهب، وقد أيد هذا المسلك القضائي عدد من الفقهاء: كابن عتاب، وابن رشد، وابن سهل، وابن زرب، واللخمي (1) .

والخلاصة أن " العمل " يتطلب وجود رأي فقهي يستند إليه، ولو كان مرجوحًا، وهذا ما يفرق بينه وبين العرف، فهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول.

10-

العرف والإجماع:

يرى بعض الباحثين أن العرف إجماع، لأنه اتفاق طائفة من الأمة أو جميعها على أمر (2) وحاول بعض آخر رد العرف إلى الإجماع العملي، بناء على القول بتجزئ الاجتهاد وعدم خلو العصر عن المجتهدين، أو رده إلى دلالة الإجماع متى تحققت علته فيما جرى به تعامل الناس (3) .

ويبدو أن هذه الآراء تجد سندًا فيما نص عليه بعض الفقهاء عند تحرير علة تحريم الربا: "

وما لم ينص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمول على عادات الناس في الأسواق، لأن العادة دالة على الجواز فيما وقعت عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:((وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) ومن ذلك دخول الحمام وشرب ماء السقاء، لأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص " (4) ، وفيما ذكره بعضهم عند تعريف العرف العام وأنه: " ما تعارفه المسلمون من عهد الصحابة إلى زماننا، وأقره المجتهدون وعملوا به بناء على التعارف العام، وإن خالف القياس ولم يرد به النص ولا قام عليه دليل، فهذا أخذ به الفقهاء وأثبتوا به الأحكام الشرعية، وقد قالوا: إن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص " (5) .

(1) ة illiot; Op.cit.، p. 171 –172 et les references citees

(2)

أورده: عبد العزيز الخياط في: نظرية العرف: ص 31.

(3)

أحمد فهمي أبو سنة، أورده: عبد العزيز الخياط في: نظرية العرف: ص 31: ص 32-36.

(4)

ابن الهمام، فتح القدير، بولاق مصر 1315هـ: 6 /282.

(5)

ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /186.

ص: 2684

ومع ذلك فالفرق لا يزال قائما بين العرف والإجماع من عدة وجوه، منها (1) :

(أ) أن الإجماع لا يكون إلا من المجتهدين في عصر من العصور، أما العرف فإنه يصدر عن عامة الناس وخاصتهم، ولا يشترط اجتماعهم عليه.

(ب) وأن الإجماع يتحقق بمجرد اتفاق المجتهدين على أمر دون حاجة إلى تكراره، أما العرف فلا ينشأ إلا إذا تكرر فعله حتى يستقر في النفوس وتطمئن إليه القلوب.

(ج) وأن الإجماع لا بد له من مستند، نص أو قياس، وقد يكون كل منهما خفيًّا (2) ، أما محل العرف فلا نص فيه ولا قياس.

المبحث الثاني

أركان العرف

11-

عرضنا فيما تقدم مختلف التعريفات التي وضعها الأصوليون والفقهاء لتحديد معنى العرف المعتبر في الأحكام الشرعية (3)، ووجدنا أن الجامع لهذه التعريفات أنه: أمر استقرت عليه النفوس، مستندة في ذلك إلى استحسان العقل، وتلقته الطباع السليمة في الجماعة بالقبول لتكراره المرة بعد المرة وانطلاقًا من هذا المعنى يمكن أن نستخلص ركنين لا يقوم العرف بدونهما: أحدهما خارجي (مادي) ، والآخر داخلي (نفسي) .

أولا – الركن المادي:

12-

يتمثل الركن المادي للعرف في مسلك عام تكرر على نمط واحد فترة من الزمن تكفي ليتحقق له معنى الثبات والاطراد (4) ومن هنا وجب في السلوك المكون للركن المادي للعرف ثلاث صفات: العموم، والقدم، والثبات.

13-

(أ) العموم:

تنصرف صفة العموم إلى المسلك الذي تكرر مرة بعد أخرى، بحيث يسود تطبيقه الوسط الذي نشأ فيه، مع مراعاة جميع الأفراد الذين يعنيهم هذا المسلك، وإلى هذا يشير الشاطبي بقوله:" إن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود، لا في جزئياته "(5) ويعبر بعض العلماء عن صفة العموم بـ " الاشتهار "، كما جاء في قول القرافي: "

الاشتهار أن يكون أهل العرف لا يفهمون عند الإطلاق إلا ذلك المعنى، لا من لفظ الفقهاء، بل من استعمالهم لذلك اللفظ في ذلك المعنى، فهذا هو الاشتهار المعتبر لنقل اللفظ من اللغة إلى العرف " (6) .

(1) محمد مصطفى شلبي، ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /186: ص 316-317.

(2)

ابن السبكي، جمع الجوامع، وشرحه لجلال الدين المحلى، وحاشية البناني، وتقرير الشربيني، القاهرة 1356هـ: 2 /195.

(3)

فيما سبق، فقرة 6.

(4)

اطرد الشيء اطرادًا: تبع بعضه بعضًا وجرى تقول: اطرد الأمر، أي استقام، والأنهار تطرد، أي تجري (مختار الصحاح، للرازي) .

(5)

الشاطبي، الموافقات: 2 /282.

(6)

القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، الطبعة الأولى: ص 71.

ص: 2685

ويقابل صفة العموم ما يطلق عليه الفقهاء وصف " الاشتراط "، فالمسلك المشترك: هو الذي لا يسود الوسط الذي نشأ به، وإنما تساوى العمل به وتركه، فهذا المسلك المشترك " لا يبنى عليه الحكم للتردد في أن المتكلم قصد هذا المعنى أو المعنى الآخر، فلا يتقيد أحد المعنيين لتعارضهما بتحقيق الاشتراك "(1) ونفس الحكم ينطبق على المسلك الذي انفرد به بعض أفراد الجماعة التي يعينها هذا العرف، فقد ذكر ابن عابدين، في معرض تعليقه على الخلاف بين الفقهاء في اعتبار بعض العادات، ".... أن هذا العرف لم يشتهر في بلدة، بل تعارفه بعض أهل بخارى دون عامتهم، ولا يثبت التعارف بذلك "(2) .

14-

ولا تعني صفة العموم ضرورة تكرار المسلك أو اعتياد القيام به من كل أفراد الجماعة، فهذا أمر لا يتحقق إلا في الجماعات قليلة العدد، أما الجماعات التي اتسعت وتنوعت عناصرها فيندر أن يتكون فيها عرف عام، ولهذا يكفي أن يقتصر الاعتياد على أبناء بلدة معينة أو أفراد طائفة محدودة، ما دام الاعتياد قد وقع من عدد غير محدود من أشخاص غير معينين بذواتهم، وهذا ما يعرف بالعرف المحلي، أو العرف المهني، أو العرف الإداري، أو العرف الدولي.

15-

وبناء على ذلك قسم العلماء العرف إلى عام وخاص.

- فالعرف العام: هو " ما غلب على الناس من قول أو فعل أو ترك "(3) ومثلوا لذلك بعقد الاستصناع "، فإنه عقد على شيء مستقبل، وإنه لا يجوز بناء على القياس، غير أن التعامل العام به من غير جعله مقدمًا على القياس (4) .

- والعرف الخاص: هو ما غلب على أهل إقليم معين أو طائفة محددة أو على علاقات من نوع خاص (5) ، متعارف التجار على ما يعد عيبًا وما لا يعد كذلك (6) .

وقد أشار القرافي إلى هذا التقسيم بقوله: "

وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم، كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض الفرق، كالأذان للإسلام والناقوس للنصارى، فهذه يقضى بها عندنا " (7) .

(1) ابن عابدين، المرجع المتقدم: 2 /132.

(2)

ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /116.

(3)

محمد الطاهر بن عاشور، حاشية على شرح تنقيح الفصول: 1 /248، مشار إليه في: أثر العرف، للسيد صالح عوض: ص 139.

(4)

ابن عابدين، محمد الطاهر بن عاشور، حاشية على شرح تنقيح الفصول: 1 /248، مشار إليه في: أثر العرف، للسيد صالح عوض: ص 139: 2 /114.

(5)

محمد مصطفى شلبي، نفس المرجع المتقدم: ص 315.

(6)

عبد العزيز الخياط، نظرية العرف: ص33.

(7)

القرافي، شرح التنقيح، طبعة الخيرية: ص 200.

ص: 2686

16-

(ب) القدم:

لكي يتكون الاعتياد، يلزم أن تكون العادة قد نشأت منذ زمن بعيد، يدل على أنها تأصلت في نفوس الأفراد، وليست مجرد تجربة قد تبقى أو تزول وقدم العرف مسألة تقديرية تختلف باختلاف الأحوال، سواء في ذلك العرف العام أو الخاص، " وهذا هو ما عليه جمهور الفقهاء "(1) ، وخالف بعضهم، فاعتبر أن العرف لا يكون حجة شرعية إلا إذا جرى العمل به من عهد الصحابة حتى زماننا دون أن ينكره المجتهدون (2) ، وقد تعقب العلماء هذا الرأي بالنقد أو بالتأويل (3) .

17-

(ج) الثبات أو الاطراد:

يجب أن يكون التكرار في المسلك موحدًا، بمعنى أن يجري على نمط واحد لا يتخلله، مع بقاء الظروف عينها، اتباع مسلك مختلف (4) ولعل هذا هو المراد من قول الفقهاء: قاعدة الأيمان، البناء فيها على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة (5) على أن هذا الشرط لا يعني أن يكون اتحاد المسلك مطلقًا، فشذوذ بعض أفراد الجماعة لا ينفي وحدة النمط، ولهذا شاع في أقوال الفقهاء: العبرة للغالب الشائع، لا للقليل النادر (6) .

ثانيا – الركن النفسي:

18-

لا يرقى الركن المادي إلى مرتبة العرف إلا إذا صاحبه شعور داخلي يؤدي بأفراد الجماعة إلى الاعتقاد بان هذا المسلك أصبح واجب الاتباع، سواء أكان مرد هذا الاعتقاد إلى أنهم يعتبرون هذا المسلك يطابق العدل ويلائم حاجات الجماعة (7)، أم كان مرده إلى اعتقادهم بأنه يمثل قاعدة ملزمة ينبغي إطاعتها (8) وهذا واضح من تعريف العرف الذي تبنى عليه الأحكام بأنه:" ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، وهو حجة "(9) فاستقرار العرف في النفوس يدل على أنه أصبح مسلكًا واجب الاتباع، قد قبلت الطباع السليمة لأفراد المجتمع الالتزام به شرعًا.

لم ينص العلماء صراحة على هذا الركن النفسي، ولكنا استنبطناه من تعريفهم للعرف والعادة الملزمة. وقد اشترط بعض الباحثين أن يكون العرف ملزمًا، بمعنى أنه يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس، لأن قواعد الفقه المحكمة لا تأبى اشتراطه، وفيه من النصوص ما يشير إليه " لكن ليس ذلك في كل عرف، بل يمكن ضبطه على وجه التقريب في العرف الذي يتضمن الحق على وجه الإلزام أما غيره فلا يشترط فيه، كالعرف الذي يتضمن الإذن، والعرف الذي يفيد وجوب السؤال عن حال الشيء عند شرائه، لغلبة التعامل بالمحرم "(10) .

* * *

(1) السيد صالح عوض، نفس المرجع: ص 138 وانظر: رسائل ابن عابدين: 2 /51.

(2)

علي حيدر، درر الحكام، تعليقًا على المادة 36 من المجلة.

(3)

ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /122-123.

(4)

عبد الحي حجازى، المدخل لدراسة العلوم القانونية – 1- القانون، الكويت 1972 م: ص 28.

(5)

العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2 /126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93.

(6)

ابن نجيم والسيوطي، الموضعين السابقين. الشاطبي، الموافقات 2 /282، " إذا كانت العوائد معتبرة شرعا، فلا يقدح في اعتبارها انحرافها ما بقيت عادة على الجملة " وانظر: أحمد الزرقاء، العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2 /126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93: ص 181-182.

(7)

عبد الحي حجازي، ابن نجيم والسيوطي، الموضعين السابقين. الشاطبي، الموافقات 2/282، " إذا كانت العوائد معتبرة شرعا، فلا يقدح في اعتبارها انحرافها ما بقيت عادة على الجملة " وانظر: أحمد الزرقاء، العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2/126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93: ص 181-182: ص 449، والمراجع المشار إليها في هـ 3.

(8)

عبد الحي حجازي، نفس المرجع، مع هامش 4.

(9)

انظر فيما سبق: فقرة 8.

(10)

أحمد فهمي أبو سنة، المرجع السابق: ص 66-67 وقارن: السيد صالح عوض، أثر العرف: ص 228-231.

ص: 2687

الفصل الثاني

القوة الملزمة للعرف

19-

تقتضي دراسة القوة الملزمة للعرف أن نبحث أولًا حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع، ثم نستعرض بعد ذلك الآراء المختلفة التي قيل بها لتحديد الأساس الذي قامت عليه هذه القوة الملزمة، وهذا نعالجه في مبحثين:

المبحث الأول: حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع.

المبحث الثاني: أساس القوة الملزمة للعرف.

المبحث الأول

حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع

أولا – حجية العرف:

20-

كلما يجري الحديث عن حجية العرف، يرد إلى الذهن قول العلامة ابن عابدين في منظومة "عقود رسم المفتي ":

والعرف في الشرع له اعتبار

لذا عليه الحكم قد يدار (1) .

فعلى الرغم من أن ابن عابدين من فقهاء المذهب الحنفي، إلا أنه يعبر بقوله هذا عن حجية العرف واعتباره في كافة المذاهب، وهذا ما أشار إليه القرافي بقوله: أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (2) وعندما ذكر القرطبي: أن الشافعية أنكروا العمل بالعرف لفظًا وعملوا به معنى، رد عليه ابن حجر بقوله: إن الشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إليه (3) وهو ما أكده السيوطي بقوله: اعلم أن اعتبار العادة والعرف في الشرع رجع إليه في الفقه مسائل لا تعد كثرة (4) وعند الحنابلة: لا يجوز للحاكم ولا لغيره أن يساعد من ادعى حقا يشهد الحس والعادة والعرف أنه ليس له (5) وبناء على ذلك تقرر في التشريع والفتوى والقضاء أن " العادة محكمة "(6) ، وأن " استعمال الناس حجة يجب العمل بها "(7) وأن " الممتنع عادة كالممتنع حقيقة "(8) ، وأن " الحقيقة تترك بدلالة العادة "(9) ، وأن " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا "(10) ، وأن " المعروف بين التجار كالمشروط بينهم "(11) ، وأن " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص "(12) .

(1) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /44.

(2)

القرافي، شرح تنقيح الفصول: ص 194.

(3)

ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة الحلبي: 9 /420.

(4)

السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 90.

(5)

ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان، القاهرة 1939م: 2 /55.

(6)

المادة 36 من المجلة، وانظر في شرحها: أحمد الزرقا، المرجع السابق: ص 165- 168.

(7)

المادة 37 من المجلة، وانظر في شرحها: أحمد الزرقاء، المرجع السابق: ص 169.

(8)

م 38 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء، نفس المرجع: ص 171-172.

(9)

م 40 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء: ص 177.

(10)

م 43 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء: ص 183-184.

(11)

م 44 مجلة، الزرقاء: ص 185 – 186.

(12)

م 45 مجلة، الزرقاء: ص 178.

ص: 2688

21-

ولئن كان الفقه الإسلامي في جملته، قد اعتبر العرف حجة وبنى عليه كثيرًا من الأحكام، إلا أن البعض لا يثبت هذه الحجية لكافة أنواع العرف، بل يقصرها على العرف العام دون العرف الخاص (1) ولقد قدمنا أن جمهور الشافعية لا يعتبرون العرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إليه (2) ، بينما يرى غيرهم أن العرف أصل قائم بذاته إذا لم يثبت نهي عنه ولا إرشاد إليه (3) ، ويكاد الفقهاء يتفقون على اعتبار العرف القولي حجة، إلا من شذ في بعض الفروع (4) ، ويمكن أن يقال مثل ذلك في العرف العملي (5) .

ثانيا – منزلة العرف بين أدلة التشريع:

22-

جمهور الأصوليين على أن الدليل:

ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عمل على سبيل القطع، أو الظن، وبعضهم قصره على ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع، وأما ما يستفاد منه حكم شرعي على سبيل الظن، فهو أمارة لا دليل " وأدلة الحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة، معناها واحد "(6) .

(1) انظر في هذا الرأي والرد عليه: ابن عابدين، المرجع السابق: 2 /114 وما بعدها وكذلك: أحمد فهمي أبو سنة، نفس المرجع، ص 58-61.

(2)

ابن حجر، فتح الباري: 9 /420.

(3)

محمد أبو زهرة، مالك، القاهرة 1946 م: ص449.

(4)

أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص54.

(5)

ابن نجيم، الأشابه والنظائر: ص 50 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 90 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص248.

(6)

عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه: ص 20.

ص: 2689

ولقد اتفقت كلمة جمهور العلماء، من مختلف المذاهب، على أن أدلة الأحكام أربعة: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس على هذا الترتيب وهناك أدلة أخرى، اختلف في الاستدلال بها على الحكم الشرعي، أشهرها: الاستحسان، والاستصحاب، والاستصلاح، والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا (1) .

ومهما يكن من أمر، فللعلماء في تحديد طبيعة العرف مسلكان: يعتبر أولهما العرف دليلًا مستقلا يمكن أن تستفاد منه أحكام شرعية، أما الآخر فلا يعترف بهذا الاستقلال، وإنما يرد الأحكام التي بنيت على العرف إلى دليل آخر ثبت لديه.

23-

المسلك الأول: العرف دليل مستقل.

يرى أصحاب هذا المسلك أن العرف، إذا استوفى شروطه، دليل قائم بذاته إلى جانب الأدلة الشرعية فقد قال القرافي: إن أدلة الأحكام تسعة عشر، وعد منها العوائد (2) . وجاء في أحكام القرآن لابن العربي: أن العادة دليل أصولي بنى الله تعالى عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام (3) وفي المبسوط:" وهذا الأصل معروف: أما تعارفه الناس، وليس في عينه نص يبطله، فهو جائز "(4)، وفي موضع آخر منه:" وتعامل الناس من غير نكير، أصل من الأصول كبير "(5) وأورد ابن عابدين ما جاء في البحر، نقلا عن الكافي:" والأحكام تبتنى على العرف، فيعتبر في كل إقليم وفي كل عصر عرف أهله "(6) ولقد صرح بعض أصحاب هذا المسلك بأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص (7)، ونتيجة لذلك نصوا على أن: التعامل حجة، يترك به القياس، ويخص به الأثر (8) .

24-

المسلك الثاني: رد العرف إلى دليل شرعي:

سلك هذا المسلك أغلب الأصوليين والفقهاء، فلم يجعلوا العرف – مع اعتباره في التشريع – دليلًا مستقلًّا، وإنما ردوه إلى دليل شرعي آخر، كالإجماع، أو الاستحسان أو الاستصلاح.

(1) عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه: ص 21- 22.

(2)

القرافي، تنقيح الفصول: ص 189.

(3)

ابن العربي، أحكام القرآن، طبعة الحلبي: 2 /270.

(4)

السرخسي، المبسوط، طبعة السعادة 1324 هـ: 12 /45.

(5)

السرخسي، نفس المرجع: 12 /138.

(6)

ابن عابدين مجموعة رسائل: 2 /130.

(7)

الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /282.

(8)

ابن عابدين، نفس المرجع: 1 /47 و2 /114 وممن اعتبر العرف مصدرًا يستقل بالتشريع: محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد: ص 249 هـ 1 وعبد العزيز الخياط، نظرية العرف: ص 43 وعمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي: ص 14-15.

ص: 2690

25-

رد العرف إلى الإجماع (1) :

ذكر المحقق " ابن الهمام ": أن جواز الاستصناع جاء استحسانا بالتعامل الراجع إلى الإجماع العلمي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (2) فقد رد العرف إلى الإجماع، وبناه على الحديث الذي اعتبره الأصوليون دليلًا على حجيته (3) ومثله ما أورده ابن السبكي من أن العادة إذا ثبتت في عهده صلى الله عليه وسلم أو بعده بلا نكير، فقد ثبتت بالسنة أو بالإجماع، وإلا فهي مردودة قطعًا (4) ومعروف أن الإمام مالكًا اتخذ عمل أهل المدينة أصلا تبنى عليه الأحكام، لأنه كان يعتبره إجماعًا يقدمه على خبر الواحد وعلى القياس (5) وقد روي أنه، لما اجتمع بأبي يوسف ومحمد بن الحسن في المدينة، وقد سئل عن مقدار الصاع والمد، طلب إلى الحاضرين مجلسه أن يعرضوا ما عندهم من هذه المكاييل التي توارثوا العمل بها من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أترى هؤلاء يجمعون على باطل؟ (6) .

26-

رد العرف إلى الاستحسان (7) :

من التعريفات التي وضعها الأحناف للاستحسان أنه: ترك القياس إلى ما هو أولى منه، وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون فرع يتجاذبه أصلان، يأخذ الشبه من كل واحد منهما، فيجب إلحاقه بأحدهما دون الآخر، لدلالة توجبه والوجه الآخر: تخصيص الحكم مع وجود العلة، وذلك قد يكون بالنص أو الأثر أو الإجماع أو بقياس آخر أو بعمل الناس (8) مثال ذلك: جواز وقف المنقول كالكتب وغيرها، فالقياس أن يقتصر في الموقف على ما يكون مؤبدًا والاستحسان جواز وقف المنقول، مع أنه عرضه للهلاك، للعرف.

ومن تعريفات المالكية للاستحسان أنه: تخصيص الدليل العام بالعرف لمصلحة الناس مثال ذلك: استحسان دخول الحمام من غير تقرير زمان المكث وقدر الماء، مع أن الدليل يمنعه، لأنه يحتمل الغرر المنهي عنه في الحديث (9) .

27-

رد العرف إلى المصلحة (10) :

أكثر العلماء يردون العرف إلى المصالح المرسلة، أي تلك التي لم يقم دليل اعتبارها أو إلغائها، وإنما بني الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة، توجب تحقيق المصالح ودرء المفاسد (11) فقد جاء في التنقيح: أن دفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو أدت إلى خلاف القواعد (12) ويقول الشاطبي: لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح، لزم القطع بأنه لا بد من اعتبار العوائد، لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد، دل على جريان المصالح على ذلك، لأن أصل التشريع سبب المصالح، والتشريع دائم، فالمصالح كذلك، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع (13) ويشيع في أقوال الأحناف: أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا (14) ، وإن في الخروج عن العادة حرجا بينا (15) وكثير من الباحثين المعاصرين يردون الأحكام التي بنيت على العرف إلى دليل الاستصلاح (16) .

(1) الغزالي، المستصفى، القاهرة 1294 هـ، 1 /173 وما بعدها.

(2)

ابن عابدين، مجموعة الرسائل، 1 /186.

(3)

الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة 1347هـ، 1 /376.

(4)

ابن السبكي، جمع الجوامع: 2 /360.

(5)

على حسن عبد القادر، المرجع السابق: ص 255.

(6)

انظر: السيد صالح عوض، أثر العرف: ص 188 والمراجع التي أشار إليها.

(7)

الغزالي، المستصفى: 1 /274.

(8)

محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي: ص 263 والمراجع التي اعتمد عليه، وانظر: ابن الحاجب، منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، القاهرة 1293هـ: 2 /282: " العدول إلى خلاف النظير بدليل أقوى منه، كدخول الحمام من غير تقييد بزمان مكث ولا مقدار ماء، لدليل العرف ".

(9)

الشاطبي، الاعتصام: 2 /324، العطار، حاشية على جمع الجوامع: 2 /295.

(10)

الغزالي، المستصفي: 1 /286- 287، 2 /306.

(11)

محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه، دمشق 1955 م: ص 274 وما بعدها.

(12)

القرافي، تنقيح الفصول: ص 169 وما بعدها

(13)

الشاطبي، الموافقات: 2 /286 وما بعدها.

(14)

ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /138.

(15)

ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /139.

(16)

انظر على سبيل المثال: أحمد فهمي أبو سنة، المرجع السابق: ص 36-38 السيد صالح عوض، المرجع المتقدم، ص 239 عبد الوهاب خلاف، نفس المرجع: ص 91 عجيل النشمي، نفس المرجع: ص 197 محمد أبو زهرة، مالك: ص 454 محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه، ص 323 منصور الشيخ، أصول الأحكام، ص 203.

ص: 2691

المبحث الثاني

أساس القوة الملزمة للعرف

28-

جرت عادة الأصوليين والفقهاء، عندما يلاحظون أمرًا يمكن اعتباره حكمًا أو يستفاد منه الحكم، أن يتلمسوا له الأدلة النقلية والعقلية التي تطمئن قلوبهم إلى الاعتماد عليه في التشريع، وبناء على ذلك أوردوا لإثبات حجية العرف، أدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع، غير أن تحليل هذه الأدلة قد يجعلها لا تصلح لإثبات الدعوى من أجل ذلك ينبغي عرض المسألة بطريقة مختلفة، فنقول: مال الدليل على حجية العرف؟ أو بعبارة أخرى: ما أساس القوة الملزمة للعرف؟ أهو العقل الذي شهد بصلاحية الأحكام التي بنيت عليه، حتى استقرت عليها الجماعة، أم أن الشرع وحده هو أساس إلزامية العرف؟

قبل الإجابة عن هذا التساؤل، ينبغي أن نلفت النظر إلى أنه لا خلاف بين علماء المسلمين في أن مصدر الأحكام الشرعية هو الله تعالى، وإنما يدور الخلاف بينهم فيما يعرف به حكم الله، هل يمكن للعقل أن يستقل بهذه المعرفة؟ أو أن طريقها إلينا الوحي وحده؟ للعلماء في ذلك اتجاهات ثلاثة: اتجاه الأشاعرة، اتجاه المعتزلة، واتجاه الماتريدية.

29-

أولًا – اتجاه الأشاعرة:

يرى أبو الحسن الأشعري وأتباعه: أن العقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الأحكام الشرعية، لاختلاف العقول في الحكم على الفعل بالتحسين والتقبيح، وإذن يكون معيار حسن الأفعال وقبحها هو الشرع المنقول إلينا بواسطة رسل الله (1) .

وانطلاقا من هذا المبدأ استند بعض الأصوليين والفقهاء، لبيان أساس القوة الملزمة للعرف، إلى قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2) ويقول القرافي: "

كل ما شهدت به العادة قضي به، لظاهر هذه الآية، إلا أن يكون هناك بينة " (3) ونقل السيوطي في الإكليل عن ابن الفرس أن معنى قوله تعالى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ": اقضِ بكل ما عرفته النفوس، ولا يرده الشرع، وهذا أصل القاعدة الشرعية في اعتبار العرف (4)، واستدل بعضهم على إلزامية العرف بقوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (5) .

(1) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار شرح المنار، للتنسفي، القاهرة 1316هـ: 1 /66 وما بعدها الكمال بن أبي شريف، المسامرة في شرح المسايرة، للكمال بن الهمام، القاهرة 1347هـ: 2 /42 وما بعدها.

(2)

[سورة الأعراف: الآية 199] .

(3)

القرافي، الفروق، القاهرة 1344 هـ: 3 /194.

(4)

السيد صالح عوض، أثر العرف في التشريع الإسلامي: ص 171.

(5)

[سورة النساء: الآية 115] .

ص: 2692

وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوعد بالعقاب والعذاب من يتبع غير طريق المؤمنين، وهذا دليل على أن اتباع سبيل المؤمنين واجب، فالعادة التي استحسنوها معتبرة شرعًا، ويجب العمل بها (1) وقد شاع في كتب الأصول والفقه، عند ذكر أدلة اعتبار العرف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (2) ، غير أن المحققين اعترضوا على نسبة هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه من قول عبد الله بن مسعود، موقوفًا عليه، رواه أحمد والبزار والطبراني والطيالسي وغيرهم (3) ونحن نعتقد أن هذا القول من عبد الله بن مسعود مما لا يدرك بالرأي والعقل، ولم يعرف له مخالف من الصحابة، وقد شاع لدى العلماء من مختلف المذاهب، وهو يؤدي معنى الآية السابقة: " ومن يشاقق الرسول

" إلخ، ووردت أحاديث أخرى تعضده مثل:((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) و ((اتبعوا السواد الأعظم)) وغير ذلك (4) ، فالظاهر من حال ابن مسعود أنه قال ذلك سماعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

30-

ثانيا – اتجاه المعتزلة:

يرى واصل بن عطاء وأتباعه أن العقل يمكن أن يستقل بمعرفة الأحكام الشرعية، لأن أفعال المكلفين إن كانت تحمل نفعًا حكم العقل بحسنها، وإن كانت تؤدي إلى ضرر حكم العقل بقبحها، والله سبحانه يكلف الناس بفعل ما فيه نفعهم، وبترك ما فيه ضررهم فالعقل السليم إذا رأى حسن فعل، علم أنه مأمور به، فيكون الطلب الشرعي ثابتًا له ثبوتًا ملازمًا لصفة الحسن وإذا رأى قبح فعل، علم أنه منهي عنه، ويستحق فاعله العقاب ولو لم يرد الشارع به (5) .

وانطلاقًا من هذا المبدأ، جاء في المعتمد:" وأما التوصل إلى الأحكام الشرعية، فهو أن المجتهد، إذا أراد معرفة حكم الحادثة، فيجب أن ينظر ما حكمها في العقل، ثم ينظر: هل يجوز أن يتغير حكم الله فيها؟ وهل في أدلة الشرع ما يقتضي تقدم ذلك الحكم أم لا؟ فإن لم يجد ما ينقله عن العقل، قضى به والشرط في ذلك: هو علمه بأنه لو كانت المصلحة قد تغيرت مما يقتضيه العقل، لما جاز ألا يدلنا الله تعالى على ذلك فإن وجد في الشرع ما يدل على نقله، قضى بانتقاله، لأن العقول إنما دلت على تلك الأحكام بشرط ألا ينقلنا عنها دليل شرعي (6) ومقتضى هذا النص أن العقل كاف في اعتبار الأعراف والعادات الحسنة، وأنها تنتج أحكامًا شرعية ملزمة ومثل ذلك ما قاله " المظفر " من أنه: إذا حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، بأن تطابقت آراء العقلاء جميعًا على حسن شيء، لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه، لما فيه من الإخلال بذلك، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم (7) .

(1) السيد صالح عوض، نفس المرجع: ص 175 والمراجع التي أشار إليها.

(2)

انظر على سبيل المثال: ابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 46 السرخسي، المبسوط: 12 /45 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 88 الكاساني، بدائع الصنائع: 5 /223 الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /281.

(3)

ابن نجيم، نفس الموضع السابق الزيلعي، نصب الراية لأحاديث الهداية، القاهرة 1357هـ: 4 /133 السخاوي، المقاصد الحسنة، القاهرة 1375هـ: ص 367 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 88.

(4)

انظر في هذه الأحاديث ورواتها ودرجتها: السخاوي، المقاصد الحسنة: ص 460.

(5)

البخاري، كشف الأسرار: 1 /66 وما بعدها.

(6)

أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، دمشق 1965 م: 2 /908.

(7)

محمد رضا المظفر، أصول الفقه، النجف د. ت: 2 /237.

ص: 2693

31-

ثالثًا- اتجاه الماتريدية:

توسط أبو منصور الماتريدي وأتباعه بين اتجاه الأشاعرة واتجاه المعتزلة فاتفقوا مع الأشاعرة في أن حكم الله لا يعرف إلا بواسطة رسله، وخالفوهم فيما رأوه من أن حسن الأفعال وقبحها شرعيان لا عقليان واتفقوا مع المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، وخالفوهم فيما رأوه من أن حكم الله لا بد أن يكون على وفق حكم العقل (1) وفي هذا المعنى يقول صاحب التوضيح:" عند المعتزلة: العقل حاكم بالحسن والقبح موجب للعلم بهما وعندنا: الحاكم بهما هو الله تعالى، والعقل آلة للعلم بهما، فيخلق الله العلم عقيب نظر العقل نظرًا صحيحا "(2) وبناء على هذا المبدأ توسع الأحناف في القول بالاستحسان وتنوعت صوره عندهم، وقد سبق أن ذكرنا أن كثيرًا منهم ردوا أحكام العرف والعادة إلى " الاستحسان " فيكون أساس القوة الملزمة للعرف عندهم: العقل والشرع معا (3) .

(1) الكمال ابن أبي شريف، المسامرة: 2 /42 وما بعدها.

(2)

التفتازاني، التلويح على التوضيح، القاهرة 1367 هـ: 1 /190.

(3)

انظر فيما سبق: فقرة 26 ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /138 – 139.

ص: 2694

الفصل الثالث

دور العرف في التشريع

32-

بعد استقراء عدد لا بأس به من الحالات التي بنى الفقهاء أحكامها على العادات والأعراف، تبين لنا أن العرف يؤدي وظائف متنوعة في مجال التشريع، فقد يستقل بإنشاء بعض الأحكام الفقهية، وقد يقوم بدور مساعد للتشريع بأن يخصص العام أو يفصل المجمل أو يبين المراد وقد يخالف العرف نصا شرعيًّا أو حكمًا اجتهاديا، فيقبل العلماء ما جاء به بعد تأويل النص الشرعي أو تغيير الحكم الاجتهادي، إذا دعت الضرورة.

وقد استقر في الفقه أنه: " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " فلما تتبعنا الكثير من هذه الأحكام التي تغيرت، وجدنا أنها لم تتغير لحجة أو برهان، وإنما لأنها كانت مبنية على أعراف تغيرت بتغير الزمان أو المكان.

وبسط هذه المسائل يقتضي تقسيم الفصل إلى مبحثين:

نخصص أولهما لبيان وظائف العرف.

ونحدد في الآخر معنى تغير الأحكام بتغير الأزمان.

ص: 2695

المبحث الأول

وظائف العرف

33-

يقوم العرف بأداء عدة وظائف تشريعية، فهناك العرف المكمل المساعد للتشريع والعرف المخالف للتشريع.

34-

أولًا – العرف المكمل للتشريع:

هو العرف الذي يلجأ إليه القاضي أو المفتي لتنظيم حالة لم يرد بشأنها حكم شرعي، وهو على هذا النحو يكون أصلًا أو دليلًا مستقلًا، يمكن الاعتماد عليه في إنشاء حكم جديد.

مثال ذلك: وقف المنقول، فإن القياس يقضي بعدم جوازه عند الأحناف لأنهم يشترطون التأبيد في صحة الوقف، والعقار وحده هو الذي يقبل التأبيد ويدوم الانتفاع به ما دامت رقبته وقد تمسك الإمام أبو حنيفة بهذا الأصل، فلم يجز وقف المنقول مطلقًا، سواء أكان وقفه قصدًا واستقلالًا، أم كان وقفه تبعًا للعقار الموقوف (1) ولكن أبا يوسف أجاز وقف المنقول، خلافًا للقياس، وذلك في حالتين، أولاهما: وقف المنقول تبعا لعقار موقوف، والأخرى: وقف المنقول قصدًا إذا ورد نص بوقفه، كالسلاح والكراع، أو إذا جرى التعامل بوقفه، لإمكان الانتفاع به مع بقاء عينه، كالمصاحف وثياب الجنازة، وفيما سبق سوى ذلك لا يصح الوقف وقال محمد بن الحسن: يصح وقف كل منقول، قصدًا أو تبعًا، يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه أو لا، إذا جرى التعامل بوقفه (2) وفي هذا يقول السرخسي: الجواب الصحيح: أن ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز، باعتبار العرف، كثياب الجنازة وما يحتاج إليه من القدور والأواني في غسل الميت، وهذا الأصل معروف: أن ما تعارفه الناس، وليس في عينه نص يبطله، فهو جائز، وبهذا الطريق جوزنا الاستصناع فيما فيه تعامل، لقوله عليه الصلاة والسلام:((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (3) .

(1) الكمال ابن الهمام، فتح القدير: 5 /429.

(2)

ابن الهمام، نفس المرجع: 5 /430.

(3)

السرخسي، المبسوط: 12 /45.

ص: 2696

35-

ولا يدخل في هذا النوع ما عرف من العادات زمن التشريع ولم يد عنه نهي، فإنه قد يكون مصدرًا تاريخيًا للحكم، أما أصله الشرعي فهو السنة التقريرية التي تقرر بها جواز الفعل مثال ذلك: عقد السلم، وهو: تسليم عوض حاضر في عوض موصوف في الذمة إلى أجل مسمى، ولهذا يطلقون عليه: بيع العاجل بالآجل (1) روى البخاري ومسلم حديث ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال:((من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (2) وقد علق السرخسي على هذا الحديث بقوله: " فقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أصل العقد وبين شرائطه، فذلك دليل جواز العقد وإنما يقبل السلم في العادة بما ليس بموجود في ملكه، والقياس يأبى جوازه، لأنه بيع المعدوم وبيع ما هو موجود مملوك للعاقد باطل، فبيع المعدوم أولى بالبطلان ولكنا تركنا القياس بالكتاب والسنة "(3)، وقد ذكر الفقهاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (4) وفي حديث عائشة: أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم

قالت: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم (5) .

36-

ثانيًا – العرف المساعد للتشريع:

وهو ما أحال عليه التشريع إما البيان مضمون حكم شرعي ثبت أصله بالنص، وإما للاستعانة به في إرادة المكلف بالحكم.

(أ) فالعرف المبين لمضمون حكم شرعي ثبت أصله بالنص ورد كثيرًا في القرآن الكريم والسنة النبوية، مثال ذلك قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (6) .

فقد ذكر العلماء أن هذا النص أثبت حكمًا شرعيًّا، هو وجوب النفقة على الزوج، ثم أحال إلى العرف لبيان مضمون هذه النفقة وتحديد مقدارها وأسباب سقوطها (7) ومثله ما روي من أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال:((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (8) ، فقد نص الفقهاء على أن هذا الحديث يدل على " اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي "(9) .

(1) ابن الهمام، فتح القدير: 6 /207- 208.

(2)

محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، الكويت 977: ص 392.

(3)

السرخسي، المبسوط: 12 /124.

(4)

ابن حزم، المحلى، القاهرة 1352 هـ: 11 /90 وما بعدها ابن قدامة المغني: 8 /484 وما بعدها.

(5)

انظر الحديث في: الشوكاني، نيل الأوطار، القاهرة د. ت: 6 /156.

(6)

[صورة البقرة: الآية 233] .

(7)

ابن قدامة، المغني: 9 /232 ابن الهمام، فتح القدير: 4 /195 ابن العربي، أحكام القرآن: 2 /270

(8)

محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان: ص 429.

(9)

النووي، شرح صحيح مسلم، القاهرة 1347 هـ: 2 /7-8 ابن حجر، فتح الباري: 4 /321 و 9 /420 وما بعدهما.

ص: 2697

37-

(ب) وأما العرف الذي يستعان به في تفسير إرادة المكلف، فإنه أكثر من أن يحصى، وقد خصه العز بن عبد السلام بفصل كامل في كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحت عنوان:" فصل في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العام وتقييد المطلق وغيرها "، وأورد في ذلك ثلاثة وعشرين مسألة (1) وجاء في المستصفى:".. وعلى الجملة، فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم "(2) ونقل ابن عابدين عن فتاوى العلامة قاسم: " التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والحالف والنادز وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشارع أو لا "(3) وذكر القرافي عند تعليقه على معاني بعض ألفاظ الطلاق: إياك أن تقول: إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث، لأن مالكا رحمه الله قاله أو لأنه مسطور في كتب الفقه، لأن ذلك غلط بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلًا لك من جهة الاستعمال والعادة، كما يحصل لسائر العوام، كما في لفظ الدابة والبحر والراوية فالفقيه والعامة في هذه الألفاظ سواء في الفهم، لا يسبق إلى أفهامهم إلا المعاني المنقولة إليها، فهذا هو الضابط، لا فهم ذلك من كتب الفقه، فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس، لا بتسطير ذلك في الكتب، بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس (4) وأورد ابن القيم مسائل متعددة يمكن الاستعانة فيها بالأعراف والعادات لتفسير الإدارة، ثم ختمها بقوله:" وأضعاف أضعاف هذه المسائل، مما جرى العمل فيه على العرف والعادة، ونزل ذلك منزلة النطق الصريح، اكتفاء بشاهد الحال عن صريح المقال "(5) .

38-

ثالثا – العرف المخالف للتشريع:

قد توجد أعراف وعادات محلية تخالف النصوص الشرعية أو الأحكام الفقهية الاجتهادية، ذلك أن الشرع الإسلامي نظام عالمي خالد، لا يقتصر على بيئة دون أخرى ولا يطبق في زمان دون غيره، ومع مرور الزمن، وما يحيط بكل بيئة من ظروف خاصة، وبعد تطور المعاملات واقتباس بعض أحكامها من قواعد قانونية أجنبية، وبناء على حملات منظمة تساندها جهات معينة تدعو إلى إحياء العادات المحلية القديمة، ظهرت أعراف مختلفة تتعارض في قليل أو كثير مع النصوص الشرعية أو الأحكام المستقرة، وقد واجه الفقه الإسلامي هذه الأعراف، وأصدر حكمه لها أو عليها مبينا " حيثيات " أحكامه بما يدعو إلى الإعجاب برحيب صدره وسعة أفقه ودقته البالغة في تحليل المسائل ومجابهة الحوادث وجملة القول في ذلك أن الفقهاء يفرقون بين حالتين: حالة مخالفة العرف لنص شرعي، وحالة مخالفته لحكم فقهي اجتهادي.

(1) عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام: 2 /126.

(2)

الغزالي، المستصفى: 2 /111.

(3)

ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /48.

(4)

القرافي، الإحكام: ص 70- 71، والفروق: 1 /40.

(5)

ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، القاهرة 1953 م: ص 18-24.

ص: 2698

39-

(أ) مخالفة العرف لنص شرعي:

إذا قام عرف يخالف نصًّا من الكتاب أو السنة، فإما أن تكون هذه المخالفة من كل وجه، بحيث لا يمكن التوفيق بينهما، وإما أن تكون المخالفة ناجمة عن تنظيم العرف لمراكز معينة على نحو يختلف عن التنظيم الذي بنى على النص، بحيث يمكن التوفيق بينهما على نحو أو آخر.

40-

فإذا كانت مخالفة العرف للنص كاملة، ولا يمكن التوفيق بينهما بأي حال، عمل بالنص ولا اعتبار للعرف وفي هذا يقول ابن الهمام:".. النص أقوى من العرف، لأن العرف جاز أن يكون على باطل، كتعارف أهل زماننا في إخراج الشموع والسرج إلى المقابر ليالي العيد، والنص بعد ثبوته لا يحتمل أن يكون على باطل ولأن حجية العرف على الذين تعارفوه والتزموه فقط، والنص حجة على الكل فهو أقوى ولأن العرف صار حجة بالنص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن)) (1) وقد سبق أن أوردنا قول ابن حجر: " إن الشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي.. " (2) وفي رسالة نشر العرف: " إذ خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالفه من كل وجه بأن لزم منه ترك النص، فلا شك في رده، كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصا " (3) .

41-

أما إذا أمكن التوفيق بين النص والعرف، بأن كان النص عامًّا والعرف يخصصه، أو كان النص مطلقًا والعرف يخصصه، أو كان النص مطلقًا والعرف يقيده، فإن أكثر الفقهاء على اعتبار العرف، لأنه لا يلزم من اعتباره ترك النص، بل يعمل بهما جميعًا مثال ذلك: ما روى عن الإمام مالك من تخصيص عموم قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (4) بما قضى به العرف والعادة من أن الشريفة لا يجب عليها رضاع (5) ومثله ما روي من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط)) ، فقد ذكر الفقهاء أن هذا الحديث معلل بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به، وهو قطع المنازعة، والشرط الذي جرى به التعامل يفض النزاع، فيكون موافقًا لمعنى الحديث، وفي هذا تقييد للنص المطلق بالعرف، جاء في المبسوط:".. وإن كان شرطًا لا يقتضيه العقد، وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضًا، كما لو اشترى بغلًا وشراكًا بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا "(6) .

(1) الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /157.

(2)

ابن حجر، فتح الباري: 9 /420.

(3)

ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /114.

(4)

[سورة البقرة: الآية 233] .

(5)

ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، القاهرة د. ت: 2 /46 الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير، القاهرة د. ت 2 /143.

(6)

السرخسي، المبسوط: 13 /14 الشيرازي، المهذب: 1/399، القاهرة 1959 م: 1 /268 الحطاب، مواهب الجليل، القاهرة 1329هـ: 4 /273 ابن قدامة المغني: 4 /290 – 291.

ص: 2699

42-

(ب) مخالفة العرف لحكم اجتهادي:

إذا تكون عرف يخالف بعض الأحكام الفقهية، التي استنبطها المجتهدون من الأدلة الشرعية، فإن الفقهاء يكادون يتفقون على أن يعمل بالعرف؛ لأنه أقوى من القياس، فالعرف قاض عليه (1) لأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص (2) ، وسائر الأدلة تأتي بعد القياس في المرتبة، لاختلاف الأصوليين في اعتبارها.

وقد تعرض العلامة ابن عابدين لهذا الموضوع بالتفصيل، فذكر أن مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا أخذا من قواعد مذهبه ثم أورد في ذلك عدة مسائل، منها: " إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، ولانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجره يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم، وكذا على الإمامة والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه، كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك (3) ونجد مثل ذلك كثيرًا في كتب المذاهب الفقهية الأخرى (4) .

* * *

المبحث الثاني

تغير الأحكام بتغير الأزمان

43-

من القواعد الفقهية التي استقرت في التشريع الإسلامي، قاعدة:" لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان "(5) ذلك أن الأصول المتفق عليها تقضي بأن التشريع لا يكون عادلًا إلا إذا كانت أحكامه تلائم من شرع لهم بمراعاة أعرافهم وظروف بيئتهم، وأن التشريع الذي تلائم أحكامه قومًا قد لا يلائم أحوال قوم آخرين، بل أن أحكام التشريع الواحد قد تلائم الأمة في وقت ولا تلائمها في وقت غيره (6) وتطبيقًا لهذه الأصول فإنه يجوز أن تتغير الأحكام التي روعي فيها العرف والعادة، ليحل محلها أحكام جديدة يراعى فيها ما يستجد من أعراف وعادات (7) ، بما يدفع الحرج ويرفع الضرر ويحقق مصالح العباد.

(1) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /119.

(2)

ابن الهمام، فتح القدير: 6 /282.

(3)

ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /123- 126.

(4)

الدردير، الشرح الكبير: 4 /21 الشيرازي، المهذب: 1 /399 ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين: 3 /4.

(5)

الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، بولاق مصر 1313هـ: 5 /125 القرافي، الفروق: 1 /176 ابن حجر، فتح الباري، 4 /321 ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /1 وما بعدها وانظر: المادة 39 من مجلة الأحكام العدلية وشروحها.

(6)

عبد الوهاب خلاف، الحلقة الأولى من: علم أصول الفقه، القاهرة 1364 هـ: ص 123 محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه، دمشق 1955م: ص 291.

(7)

أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 173 وما بعدها.

ص: 2700

وقد استند بعض من لا حظ لهم من فقه الشريعة الإسلامية على هذه القاعدة للمطالبة بتغيير كثير من الأحكام الشرعية، بدعوى أنها لم تعد تصلح لهذا الزمان (1) وهذا يقتضي أن نبين أولًا: مضمون هذه القاعدة ثم نورد بعض تطبيقاتها بما يناسب هذا البحث، حتى نستطيع تحديد طبيعة هذا التغيير.

44-

أولا: مضمون القاعدة:

لا ينبغي أن يفهم من هذه القاعدة إمكان تبدل الأحكام بصفة مطلقة، ذلك أن الأحكام في الشرع الإسلامي على ضربين:

(أ) حكم قطعي بني على صريح النص من الكتاب أو السنة أو على الإجماع ومثل هذا الحكم لا يجري عليه تغيير، لأن تغييره يعد نسخًا لحكم شرعي ثابت، وإنه لا يجوز بعد انقضاء عصر الوحي، مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة وضروب الاجتهاد " كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه "(2) .

(ب) حكم ظني تقرر بناء على الاجتهاد في فهم النص، أو على مراعاة عرف صحيح قائم، وهذا هو الذي يمكن أن يتطرق إليه التبديل، لاختلاف مناهج المجتهدين، أو لتغير الأعراف تبعًا لتغير الأزمان والأماكن وظروف البيئة وفي هذا يقول ابن عابدين:" اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة، لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه، مما يستخرج به الحق من ظالم أو يدفع دعوى متعنت ونحوه بعدم سماع دعواه أو بحبسه أو نحوه "(3) ومثله ما ذكره القرافي من أن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك.. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه.. وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك.. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين (4) وقد عقب ابن القيم على كلام القرافي هذا بقوله: وهذا محصن الفقه، فمن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب (5) .

(1) أشار إلى ذلك: يوسف القرضاوي في: شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، بيروت 1397هـ: ص 133.

(2)

ابن القيم، إغاثة اللهفان: 1 /346 وما بعدها.

(3)

ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /126.

(4)

القرافي، الفروق: 1 /176- 177.

(5)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /66.

ص: 2701

45-

ثانيا – بعض تطبيقات القاعدة:

(أ) يقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1)، ثم يقول:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) .

وهذا يدل على أن الطلاق يقع مرة فمرة، وللزوج بعد كل من المرتين أن يراجع زوجته فإن طلقها الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فإذا قال الرجل لزوجته:" أنت طالق ثلاثًا " كان مرتكبًا لإثم بلغ مداه أن أغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: ((أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟)) ولكن هذه الصيغة لم يكن يقع بها، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، إلا طلقة واحدة رجعية فلما تتابع الناس (3) بعد ذلك في الطلاق، قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟! فأمضاه عليهم، وألزمهم الثلاث، وقد تابع عمر في هذا كثير من الصحابة، وجمهور التابعين، وأئمة المذاهب الأربعة (4) غير أن بعض الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب الأخرى وعدد من الفقهاء ظلوا على ما كان عليه الأمر من قبل، فلم يوقعوا بلفظ الثلاث إلا طلقة رجعية، وهذا هو السائد اليوم في قوانين الأحول الشخصية (5) وأيا ما كان الأمر، فلا خلاف في أن هنا تغير " تبعا لتبدل العادات، سواء ذهبنا إلى أن الحكم بإيقاع الثلاث مطابقة لعادة الناس في قصودهم وطوايهم أو من باب السياسة الشرعية عقوبة لهم على تعاطي المحرم (6) .

(ب) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البر بالبر كيلًا بكيل مثلًا بمثل)) وكذلك الشعير والتمر والملح، أما الذهب والفضة فقال فيمها:((وزنًا بوزن)) وتأسيسا على هذا الحديث قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، إن كل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلًا فهو مكيل أبدًا، وإن ترك الناس الكيل فيه، مثل الحنطة والشعير والتمر والملح، وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزن أبدًا، وإن ترك الناس الوزن فيه، مثل الذهب والفضة أما أبو يوسف، فقد رأى أن النص على بيع الحنطة كيلًا وبيع الذهب وزنًا، ما جاء إلا بناء على العرف، وبيعت الحنطة وزنًا إن وجب العمل بالعرف الجديد (7)" وعلى هذا فلو تعارف الناس بيع الدراهم بالدراهم أو استقراضها بالعدد – كما في زماننا – لا يكون مخالفًاٍ للنص فالله تعالى يجزي الإمام أبا يوسف عن أهل هذا الزمان خير الجزاء، فلقد سد عنهم بابًا عظيما من الربا "(8) .

(1)[سورة البقرة: الآية 229] .

(2)

[سورة البقرة: الآية 230] .

(3)

تتابع في الشر: تهافت وأسرع إليه.

(4)

يراجع الموضوع بتمامه في: ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /42 وما بعدها.

(5)

أحمد الغندور، الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي، الكويت 1982م: ص 444- 447.

(6)

أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص 85-86.

(7)

ابن الهمام، فتح القدير: 6 /157-158.

(8)

ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /116.

ص: 2702

(ج) كتب الفقه من مختلف المذاهب مليئة بالمسائل التي بنى المجتهدون الأوائل حكمها على الأعراف والعادات التي سادت زمانهم وبيئتهم، فلما تغيرت هذه الأعراف والعادات، أفتى المتأخرون بخلاف المنصوص عليه في المذهب وصرحوا بأن هذا: اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، وبعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة، وبتحقق الإكراه من غير السلطان وبتضمين الأجير المشترك، وبمنع الوصي من المضاربة بمال اليتيم، وبتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف، وبعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي، وبسقوط الشفعة إذا أخر طلب التملك شهرًا، وبعدم سماع الدعوى ممن سكت بعد إطلاعه على بيع جاره أو قريبه دارًا مثلًا، وغير ذلك (1) .

46-

ثالثا: طبيعة هذا التغيير:

سبق أن ذكرنا أن تغير الأحكام بتغير الأزمان لا يعد نسخًا لحكم ثابت، وإنما هو استصحاب قاعدة " اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد (2) ، ومقتضى تلك القاعدة: " أن أمر الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة (3) والواقع " أن للواقعة الواحدة – ذات الأحوال المختلفة – حكمين أو أحكامًا ثابتة، لكل حكم تطبيق في ظرفه الذي يختص به "(4)، ولعل هذا هو ما أشر إليه الشاطبي بقوله: "

وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها " (5) وهو ما دعا ابن القيم لأن يجعل عنوان هذا الموضوع: " فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " (6) .

من أجل ذلك اشترط بعض المحققين في القاضي أن يكون له فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع وكذا المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله، ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام، وأنه مخالف للنص أولا، ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل (7) .

* * *

(1) ابن عابدين، نفس المرجع: ص 124-125.

(2)

القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 67-68.

(3)

القرافي، نفس الموضع المذكور.

(4)

أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص 89 علي الخفيف، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء.

(5)

الشاطبي، الموافقات: 2 /286.

(6)

ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /27.

(7)

ابن عابدين، المرجع السابق: 2 /127.

ص: 2703

الفصل الرابع

التطور التشريعي للعرف

ــ

47-

ظل العرف الصحيح الذي استوفى أركانه يؤدي وظائفه في تكميل التشريع ومعاونته على مدى القرون في جميع بلاد الإسلام، فنهض به المجتهدون في فترة الازدهار الفقهي، وتابعهم في ذلك من أتي بعدهم من الفقهاء والعلماء، وحكم بمقتضاه القضاة، كما أفتى بتغيره المفتون عندما كانوا يلاحظون تغير الظروف وأفسحت له كتب الفقه من متخلف المذاهب وفي جميع العصور مكانًا رحبا في كل باب من أبوابها، حتى أخذ مكانه الرسمي بين نصوص التشريع في مجلة الأحكام العدلية، التي كانت تطبق في كثير من بلدان العالم الإسلامي.

فلما كان القرن الماضي شهد العرف انحرافًا عن مساره الشرعي، يمكن رده إلى عاملين: يتمثل الأول منهما في إحياء العادات والأعراف المحلية بغض النظر عن موافقتها أو مخالفتها للأحكام الشرعية ويرجع الآخر إلى انتشار حركات التقنين في تشريعات الدول الإسلامية، وتأثرها بالفكر القانوني الغربي وإذن ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين.

المبحث الأول: إحياء الأعراف المحلية.

والمبحث الثاني: انتشار حركة التقنين.

* * *

المبحث الأول

إحياء الأعراف المحلية

48-

ساعد على إحياء الأعراف والعادات المحلية في البلاد الإسلامية أمران: خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيمات القضائية، والاستعمار الغربي لمعظم بلاد الإسلام.

49-

أولا: خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيم القضائي:

كان ضعف السلطة المركزية في بعض الأقاليم الإسلامية، وبعد هذه الأقاليم عن مراكز الثقافة والعلوم الشرعية، من العوامل التي مهدت لقيام قضاء قبلي، يتوارثه الأبناء عن آبائهم، فيفصلون فيما يعرض عليهم من نزاع وفق الأعراف السائدة في القبيلة والظروف المحيطة بالبيئة ومع مرور الزمن استقرت هذه الأحكام، وقام بتطبيقها أناس لا حظ لهم من العلم والمعرفة، فكان أكثر الأحكام يتنافى مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

ص: 2704

وقد استمر هذا الوضع إلى عهد قريب، لدى قبائل شمالي إفريقيا، ولدى القبائل المصرية التي تقيم في الصحراء الغربية، ولدى العشائر المختلفة في السودان والصومال وجزر القمر وغيرها، وينطبق نفس الحكم على القبائل التي تسكن الأماكن النائية في شبه الجزيرة العربية والشام والعراق وتركيا وإيران، ولا يختلف الوضع لدى الطوائف الإسلامية في شبه القارة الهندية وجزر الهند الشرقية. ولا يتسع المجال لعرض شيء من هذه العادات وبيان صلتها بالفقه الإسلامى، فقد تناولها بالشرح والتحليل عدد من الباحثين (1) .

50-

ثانيا: الاستعمار الغربي في بلاد الإسلام:

لم يعد خافيًّا على أحد أن استعمار دول الغرب للبلاد الإسلامية صاحبه منهج علمي شامل هدفه تغيير الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكان التشريع الإسلامي يشكل العقبة الكؤود في سبيل هذا التغيير، لذا وجه الاستعمار كل أجهزته لإحياء العادات المحلية، حتى تكون عونًا له على إضعاف الشريعة الإسلامية وإقصائها عن الحياة العملية، ومن ثم يجد الطريق ممهدا لتطبيق ما جاء به من قوانين (2)

51-

(أ) ففي شبه القارة الهندية:

استعان الإنجليز بالعادات القديمة التي كانت مجموعة في قانون مانو، لسن ما احتاجوا إلى سنه من تشريع (3) بعد ما ظلت في طي النسيان قرابة سبعة قرون، كان نظام الحياة كله في هذه البلاد يجري خلالها على أحكام الفقه الإسلامي (4) كتب "Lokhanwalla " في دائرة المعارف الإسلامية:" بقيام الحكم البريطاني للهند، حل النظام القانوني الإنجليزي محل إجراءات التقاضي الإسلامية، كما حل محل أصول الشريعة الإسلامية إلى حد كبير، وكذلك ألبست العادات ثوب الصحة القانونية على أساس من الإنصاف والعدل وسلامة الضمير.. وقد سلم في رأي " كرامت علي " المناهض لـ" سادات على " بأن الشريعة الإسلامية عدلتها العادة المرعية في البلد الذي يأخذ بها..

(1) محمد الألفي، توحيد التشريعات المدنية في بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، مجموعة البحوث والدراسات التي قدمت في ندوة: توحيد تشريعات القانون الخاص، الكويت 1988 م: ص 419 وما بعدها. عبد الجليل الطاهر، البدو والعشائر في البلاد العربية القاهرة 1955 م. فريق المزهر آل فرعون، القضاء العشائري، بغداد: 1941م دائرة المعارف الإسلامية: المجلد 15، ص 454 – 470 والمراجع الواردة به: - Meek ; Land law and custom in the colonies، London 1949. - Milliot ; Introduction a I`etude du droit musulman، Paris 1953. pp.156-178. Van Vallenhover ; Le decouverte du droit indonesien، Paris 1933

(2)

أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت 1969 م.

(3)

عبد السلام الترمانيني، الوسيط في تاريخ القانون والنظم القانونية، الكويت 1982 م: ص 75.

(4)

أبو الأعلى المودودي، عبد السلام الترمانيني، الوسيط في تاريخ القانون والنظم القانونية، الكويت 1982 م: ص 75: ص 138 – 139 وص 194 – 195.

ص: 2705

وقد لوحظ اختلاف الوصية بحسب العرف عن الشريعة الإسلامية أيضًا في بعض أجزاء البنجاب.. ولا تعترف الشريعة الإسلامية بالتبني، على أن طغى العرف على هذا التحريم.. ويطبق حكم الشريعة الإسلامية في الشفعة على تفاوت في ضوء ما جرى به العرف وقد رفضت محاكم مدارس الأخذ به لأنه في رأيها مناف للعدل والإنصاف وسلامة الضمير.. وبتقسيم الهند يمكن أن نذهب إلى أن العادات سوف لا يكون لها منذ الآن أية حجة شرعية في الباكستان، ومع ذلك فإن هذا القول لا يصدق بيقين على الهند. وعلى أن العادة، سواء اكتسبت حجة شرعية أو لم تكتسب، فإنه سوف يكون من المستحيل أن نقتلع أثرها الراسخ في النفوس لعدة أجيال قادمة (1)

52 – (ب) شمالي إفريقية:

يعترف "Bousquet" بأن شمالي إفريقيا، الذي كان أهله يتحدثون بلهجات بربرية قبل قدوم العرب، قد اصطبغ منذ قدومهم بصبغة عربية وإسلامية متأصلة (2) فلما أخضع الفرنسيون هذه القبائل، في سنة 1857 هـ، استماتوا في سبيل الوقوف على أعراف وعادات " القبائل الكبرى " و" الريف " و " الأطلس المغربي "، التي لم تكن مقبولة لدى الحكومات الإسلامية في تلك المناطق. وكانت أول عقبة واجهتهم: أن اللغة البربرية لغة حديث وتخاطب، وليست لغة كتابة فاستعاضوا عنها مؤقتًا باللغة العربية. وقد قام علماء فرنسيون بإجراء تحقيقات مع الشيوخ والقرويين، بواسطة بعض الموظفين الرسميين، لمعرفة ما انتقل إليهم من العادات الموروثة، ثم جمعوها في ثلاثة مجلدات، أضفوا عليها صبغة فنية وقانونية، مما جعل المحاكم تلتزم بتطبيقها (3) وإلى جانب ذلك قام فرق من العلماء على رأسه "Hanoteau" و "Letourneux" بترجمة عدة وثائق عرفية، محررة باللغة العربية، لتكون أحد عوامل الانفصال لدى القبائل (4) ، إلى جانب اللغة الفرنسية التي بذلوا جهدًا شاقًا في سبيل تعليمهم إياها، وغرسها في نفوس وعقول أبنائهم.

53-

(ج) جزر الهند الشرقية:

تشمل كلمة " أدت "، التي سادت جميع المناطق في جزر الهند الشرقية، كل ما يدخل في باب العرف والشعائر والمعاملات (5) ولما احتل الهولنديون هذه الجزر، عمدوا إلى إحياء العادات الأندونيسية القديمة وتجميعها في قانون أطلق عليه اسم "Adatrecht"، وأجبروا طلاب كلية الحقوق في "Batavia" على دراسته منذ سنة 1910 م. وإلى جانب ذلك قام "Snouch-Hurgronje" و "Van Vollenhoven" بتجميع محاضر جلسات لجنة التحقيق عن الأعراف والعادات بماليزيا في أربعة وثلاثين مجلدًا (6) وقد قام جدل لم ينقطع حول قيمة " قانون العادات " وصلته بالشريعة، أدى بأتباع الأحزاب القومية المتطرفين إلى رفض الشريعة الإسلامية وقانون العادة جميعًا، والمطالبة بتطبيق القانون الهولندي. فاتخذ المستعمرون من هذا الموقف الجديد ذريعة لصبغ قانون الأحوال الشخصية في أندونيسيا بالصبغة الغربية، ولكن مشروعاته لم توضع موضع التنفيذ ومع ذلك، فإن بعض عناصر القانون الغربي تسللت إلى الحياة الأندونيسية نتيجة للمشروعات الحديثة، تمهيدًا لوضع لائحة موحدة " تجمع جمعًا طريفًا بين عناصر من القانون الغربي والشريعة الإسلامية وقانون العادة " على حد تعبير "Prins"(7)

* * *

(1) دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 461 – 465.

(2)

دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 461 – 465: مجلد 15، ص 458.

(3)

–La Kabylie et les Coutumes Kabyles. Paris 1872.

(4)

– L.Mittiot ; Op. eit. pp. 158-167.

(5)

برنز، مقال بدائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 465.

(6)

– Milliot ; Op. cit، p. 157.

(7)

برنز، المقال السابق: ص 465 – 470 والمراجع التي أشار إليها فيه.

ص: 2706

المبحث الثاني

التقنيات الحديثة والعرف

ــ

54-

التقنين مصطلح يقصد به واحد من أمرين:

1-

العمل التشريعي الرسمي المتعلق بجمع القواعد القانونية الخاصة بفرع متجانس من فروع القانون، في مجموعة واحدة، بعد ترتيبها وترقيمها وإزالة ما قد يعتريها من تعارض.

2-

المجموعة الرسمية ذاتها، التي تضم فرعًا متكاملًا من فروع القانون (1)

ولما انتشرت حركة التقنين في أوروبا، خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بعد نجاح مجموعات " نابليون" أصدرت الدولة العثمانية عدة قوانين تجمع بين الشريعة الإسلامية والعرف المحلي والقانون الفرنسي. وكان أهم هذه القوانين: مجلة الأحكام العدلية، التي تم إنجازها عام 1293 هـ 1876 م على غرار التقنيات الحديثة، مع استمدادها من الفقه الحنفي، والأخذ بعين الاعتبار قبول المسائل المبينة على العرف والعادة (2) وبعد ذلك توالى صدور التقنينات في الدول الإسلامية لتنظيم كافة العلاقات القانونية ومرفق القضاء. ونتيجة لهذه التقنيات، جعل المشرع نصوص القانون المصدر الرسمي الأول، لأنها تضمنت ما أمكن الوقوف عليه وتنظيمه من أحكام، سواء أكان مصدرها التاريخي أحكامًا فقهية، أم كان هذا المصدر أعرافًا وعادات، أم كان غير ذلك.

55-

أما العرف، كمصدر رسمي، فقد وضعته بعض التقنيات في المركز الثاني، بحيث يلجأ إليه القاضي عندما لا يجد نصًّا تشريعيًّا يمكن تطبيقه على النزاع المطروح أمامه (3) وجعله البعض الآخر في المركز الثالث، بعد نصوص ومبادئ الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي (4)

56-

وأيا ما كان مركز العرف من مصادر التشريع، فهناك شرط أساسي لا بد من توافره لاعتبار العرف مصدرًا، وهو: مخالفته للنظام العام المطبق في البلاد، أو لحسن الآداب السائدة فيها وقد نصت بعض القوانين صراحة على هذا الشرط (5) ولكن غالبيتها لا يشير إليه، لأنه أصبح أمرًا معروفًا لا جدال فيه فقد جاء في المذاكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي بمناسبة تعليقها على المادة الأولي: " وغني عن البيان أن العرف المعتبر هنا هو ذاك الذي لا يخالف النظام العام أو حسن الآداب فالعادات التي تتنافى مع الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة لا ترقي أبدًا إلى مرتبة العرف، وإن طال عليها الأمد وفي بلد – كالكويت – يدين بالإسلام بنص الدستور، لا يمكن أن يعتبر عرفًا كل ما يخالف أصلا من أصول الإسلام أو حكمًا من أحكامه الأساسية الثابتة.

(1) إبراهيم أبو الليل ومحمد الألفي، المدخل إلى نظرية القانون ونظرية الحق، الكويت 1986 م: ص 87.

(2)

إبراهيم أبو الليل ومحمد الألفي، المدخل إلى نظرية القانون ونظرية الحق، الكويت 1986 م: ص 87: ص 89.

(3)

انظر على سبيل المثال: القانون المدني المصري المادة:1 /2. والعراقي المادة: 1 /2. والكويتي المادة: 1 /2.

(4)

انظر على سبيل المثال: القانون المدني السوري، المادة 1 /2. والليبي المادة 1 /2. والجزائري المادة 1 /2 والأردني المادة: 2/2.

(5)

المادة الأولى من قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة.

ص: 2707

خاتمة

57-

حاولت في هذا البحث أن ألم بموضوع العرف بطريقة موجزة وأن أبعد عن التفصيل والجدل والخلاف ما أمكن، حرصًا على موضوعية البحث، وتجنبًا لتشعبه والإطالة فيه.

وقد خطر ببالي أن أجعل البحث في قسمين: أخصص أولهما لدراسة العرف في الشرع الإسلامي، وأستعرض في الآخر تطور العرف في الفكر القانوني منذ العصر الروماني حتى الوقت الراهن، غير أني لاحظت أن البحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، وقد يكون فيما أفعل تزيد غير مطلوب.

وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الشرع الإسلامي يحمل في طياته بذور نمائه، فأحكامه يمكن أن تتسع لمواجهة الأوضاع المستجدة دون أن تفقد خصائصها المميزة، مما يؤكد صحة القضية القائلة إن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان.

والآن، وقد عرفنا أن أعداء الإسلام يتخذون من الأعراف القومية والعادات المحلية في البلاد الإسلامية منفذًا يلجؤون منه لهدم الإسلام من الداخل، يجدر أن نكون على حذر في التعامل مع العادات والأعراف التي تسود مجتمعنا الإسلامي، وأن نضعها في حجمها الشرعي الصحيح.

أما أولئك الذين جربوا دهاءهم في بلاد الإسلام، ثم رجعوا بخفي حنين، فإليهم أسوق قول رب العزة:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .

الدكتور محمد جبر الألفي.

(1)[سورة التوبة: الآيتان 32 و 33] .

ص: 2708