الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف الشريعة الإسلامية من
ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار
إعداد
عبد الله بن سليمان بن منيع
القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الأمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الأزمات الاقتصادية الناتجة عن المشاكل الاجتماعية والمشاكل السياسية، وما صاحب ذلك من انحسار في الموارد الطبيعية نتيجة الجفاف والقحط في بعض من أرض الله هذه الأزمات هزت الاقتصاد العالمي فتأثرت بذلك قيم الأثمان الورقية بانخفاض أثر على أحجام الثروات تضرر منه الكثير ممن لهم حقوق والتزامات على الآخرين، فسارع أولئك إلى علماء الاقتصاد والقانون يستنجدونهم في تقرير حقوقهم ورأب ما انصدع من التزامات الآخرين لهم، وذلك بالمطالبة بتعويضهم من قبل الملتزمين لهم بما نقص من حقوقهم نتيجة انخفاض قيم الأثمان الورقية في كثير من دول العالم، فجاءت المطالبة بربط الالتزامات بمستوى الأسعار، وعقدت الندوات والحلقات الدراسية بالاشتراك مع المعهد العالي للاقتصاد الإسلامي في إسلام أباد ومع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية وذلك في مدينة جدة لمدة ثلاثة أيام من 27 شعبان عام 1407هـ، وقد دعي للاشتراك في هذه الندوة مجموعة مختارة من علماء الشريعة والاقتصاد وقد تشرفت بالاشتراك في أعمالها. فقدم المنادون بربط الالتزامات بمستوى الأسعار حججهم على الأخذ بذلك وتقرير مشروعية المطالبة به وكان ملخص هذه الحجج ما يلي:
1-
دين الإسلام العادل يقيم بالعدل والإنصاف، والتضخم ينتهك هذه القاعدة، حيث إنه يمكن للناس أن يربحوا على حساب الآخرين، ويمنح الدولة أن تتعدى على أموال الناس بدون إذنهم. كما يمكن هذا النظام الأقوياء من استغلال الضعفاء. وربط التغيرات بمستوى الأسعار يخفض – على الأقل جزئيًّا – إثارة هذه الممارسات الاستغلالية.
2-
" لا ضرر ولا ضرار " و " الضرر يزال " هاتان قاعدتان أساسيتان من القواعد العدلية الإسلامية ويسبب التضخم الضرر في القدر الحقيقي للمبالغ المستلمة، لذا يعد ربط التغيرات بمستوى الأسعار التعويض عن هذا الضرر. ومن المعلوم، أن المدين أو الدائن ليسا مسئولين عن هذا الضرر في القدر الحقيقي لأن الأسباب التي تنجم عن التضخم هي وراء سلطاته.
وربط التغيرات بمستوى الأسعار يصون كليهما من الضرر.
3-
وقال الله تعالى في كتابه العزيز:
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} . (6: 152)
وقد كرر القرآن الكريم هذا الأمر في الآيات العديدة وامتد إلى كل أنواع المعاملات المالية وليس لوزن أو كيل فحسب. والمعلوم أن المبالغ والقروض لن تتسلم قدرها الحقيقي. وربط التغيرات بمستوى الأسعار يزال هذا الضرر وهذا وفقا للشريعة الإسلامية.
4-
كما أمرنا القرآن الكريم أن نوفي بعقودنا ، قد قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . (5: 1)
دفع القرض يعتبر تعاقدًا بين الدائن والمدين. ولابد للمدين أن يدفع للدائن قدرًا حقيقيًّا وليس قدرًا نقيصًا، وربط التغيرات بمستوى الأسعار يمكن له إنجاز هذا الواجب.
5-
وأجاز الفقهاء الأحناف أخذ الفرق بين قيمة النقد والدين وهذا يجعل من إمكانية ربط تغيرات بمستوى الأسعار أن يحدد هذا الفرق.
6-
لا نجد أي نص (من القرآن الكريم أو السنة النبوية) يحرم أو على الأقل يكره هذا النظام.
7-
لا يمنع الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه " مثل بمثل " من المساواة في القدر الحقيقي للأشياء والنقود والقروض، وربط التغيرات بمستوى الأسعار يحقق هذا.
8-
يؤدي إلى إنكار هذا النظام منع القرض الحسن.
9-
يعاون هذا النظام على حصول القروض الأجنبية للبلدان الإسلامية المختلفة.
10-
ربط التغيرات بمستوى الأسعار يشابه الإضافة التي يحصل عليها البائع الذي يبيع بالدين.
11-
يحافظ هذا النظام على قيمة المهر المؤجل.
12-
يسبب التضخم المشاكل المختلفة في معاملات القرض، نفترض أن البنك الإسلامي يساهم بـ 10 ملايين دولار لمساهمة في عقد القراض لمدة 10 سنوات مع المضارب على أساس 50: 50 إسهامًا في الربح الآن، خلال فترة التضخم، ينخفض قدر رأس المال بسرعة، إذ تبقى مدفوعات المضارب تقريبًا، كما كانت. على سبيل المثال، إن كان معدل التضخم 20 % وبعد 5 سنوات ينخفض القدر الحقيقي لرأس المال من 10 ملايين إلى 5 ملايين، حتى الآن، يحصل المضارب على 50 % من الربح. هذا ظلم على المضارب لأنه يحصل على السهم الأقل من الربح على الرغم من نشاطاته كما كانت. يمكن حل هذه المشكلة في صورتين، الصورة الأولى هي التعيين الجديد لأسهم الربح ، الصورة الثانية هي إبقاء على رأس المال الحقيقي. ولا شك أن الصورة الأولى تسبب الجدال في أوساط العمليات الإنتاجية للمشروع وأما الصورة الثانية فيمكن حصولها بفضل ربط التغيرات بمستوى الأسعار.
13-
يعتبر القرض الحسن في رأي الشريعة الإسلامية صدقة، لكن في أيام التضخم فإنه يصير صدقة مضاعفة وربما عبئًا ثقيلا على الشخص الكريم الذي يتقدم به، ولو يربط القرض الحسن التغيرات بمستوى الأسعار فحسن.
14-
ربط التغيرات بمستوى الأسعار يعتبر أسهل الطرق لوجهة نظر الإدارة التي اختيرت لمعاملة قروض البنك تقدم حسب نظام الشركة في الأرباح والخسائر. كما أن هذا أسهل المناهج لإدارة البنوك بوجهة نظر إسلامية.
15-
كما يمكن هذا النظام المعادلة بين أقدار النقود المختلفة، وهكذا دواليك.
16-
وفقًا لمؤيدي هذا النظام، أنه يقوي سوق الرأسمالية ويشجع الادخار كما نرى في الأمريكية اللاتينية. وزيادة المدخرات تعني زيادة في تراكم رأس المال الذي يسبب زيادة في النمو الاقتصادي.
17-
هذا ونرى أيضًا بأن ربط التغيرات بمستوى الأسعار يلعب دورًا هامًا لتسهيل التعامل بالعملة الأجنبية في الأسواق، لأن أسس أسعار التبادل بين العملات لا تتعين إلا بطريق صلاحيتها لشراء البضائع المختلفة التضخم، وتلعب قوة الشراء لعملة ما دورًا عاما إذ تعادلها بالعملات الأخرى حيث إنها تقلل قوة الشراء للمستخدمين بها لولا تساوى هذا التحويلات في سعر التبادل بطريق مناسب فهي تؤثر في تجارة العملة أثرًا سيئًا وبمثل هذا الطريق تصبح العملة أثرًا سيئًا وبمثل هذا الطريق تصبح العملة هدف التخمين في رأي وكلاء العملات ويساعد ربط التغيرات بمستوى الأسعار لتسوية قدر العملة في إطار قوة شرائها، وبهذا الطريق نحن نتمتع بثقة الذين يستثمرون (خاصة من الخارج) .
18-
ونضيف إلى هذا نحن نقدم الدليل بأن ربط التغيرات بمستوى الأسعار المنتخب في خلا فترة التضخم تعطي الحكومة الجهاز القوي الذي يؤثر على تخصيص النقود في المناطق المختلفة حسب ضرورات اقتصادية.
وخلال فترة أعمال هذه الندوة تتابعت البحوث وجرت المناقشات والمداولات والتعليقات ثم انتهت الندوة إلى إصدار التوصيات التالية:
اجتمع عدد من العلماء الشرعيين والاقتصاديين في حلقة علمية لدراسة موضوع ربط الحقوق والالتزامات بغير الأسعار نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بالتعاون مع المعهد العالمي للاقتصاد الإسلامي بإسلام أباد وذلك في الفترة من السبت 27 شعبان (25 نيسان) إلى الثلاثاء غرة رمضان المبارك عام 1407 هـ (28 نيسان 1987 م) في مبنى البنك الإسلامي للتنمية في جدة، وذلك في جلسات صباحية ومسائية قدمت فيها أوراق بحث اقتصادية وشرعية في موضوع الندوة، ودارت حولها مناقشات مثمرة وتبودلت فيها الآراء المفيدة وقد تمخض عن ذلك ونتج عنه التوصيات التالية.
وإذ يصدر العلماء الحاضرون توصياتهم ليودون قبل كل شيء أن يعبروا عن خالص شكرهم للمعهدين الداعيين إلى هذه الحلقة العلمية وتقديرهم للجهود المكثفة التي قام بها منظموها كما يعبرون عن امتنانهم للحفاوة الكريمة التي تلقوها من البنك الإسلامي للتنمية ورئيسه الدكتور أحمد محمد علي، ويؤكدون أن مثل هذه الحلقات والندوات تسهم إسهامًا عظيمًا في إثراء البحث والنظر العلميين في جوانب الاقتصاد الإسلامي المتعددة وتكوين الفهم المشترك بين علماء الشريعة والاقتصاد لكثير من القضايا المعاصرة مما يساعد في إيجاد التصور الشرعي المناسب لها.
موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة
بمستوى الأسعار
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
لا شك أن الالتزام بالحق – سواء كان التزاما بدين نقدي أم بمال عيني كديون السلم أم بعمل كعقود المقاولات والإجارات الخاصة أو المشتركة أم بتوثيق كعقود الكفالات والضمانات – أن الالتزام بالحق يعني تعلق ذلك الحق بذمة من التزم به سواء كان ذلك الملتزم شخصًا اعتباريًّا أو شخصًا طبيعيًا ولا شك أن الحق اللازم في الذمة قد تحدد بعقد الالتزام به قدره ونوعه وصفته وأجل الوفاء به إن كان له أجل وأن توثيق الالتزام به يعني عقدًا جرى التعهد بالالتزام به والوفاء بمقتضاه وبما نص عليه من شروط وقيود وتعهدات. وهذا يعني أن عقدًا جرى تعيين الالتزام بما فيه بمقدار معين وصفة معينة فإن مقتضى العقد يوجب أن هذا الحق لا يجوز أن يتغير بزيادة ولا نقصان إلا باتفاق طرفيه طبقًا للمقتضيات الشرعية إلا ما اقتضى إعطاؤه حكمًا شرعيًّا استثنائيًّا يتفق مع العدل ودفع الظلم وآثاره.
وهذا هو الأصل في العقود طبقًا للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . (1)
وقال تعالى {ييَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.... وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا
…
وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ.... فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (2)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (3)
وقال تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (4)
(1) سورة المائدة: الآية 1
(2)
سورة البقرة: الآيتان 282 ، 283.
(3)
سورة المؤمنون: الآية 8. وسورة المعارج: الآية 32
(4)
سورة الأنعام: الآية 152
وفي المنتقى عن عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حرامًا)) . قال الترمزي: هذا حديث صحيح. وفي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى الأشعري: المسلمون عن شروطهم إلا شرطًا أحل حر أما أو حرم حلالا، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حراما أو حرم حلالا.
ولا شك أن عقود الالتزام عقود تراض مشتملة على شروط اتفقت إرادتا طرفي العقد على الأخذ بها، وبما اشتملت عليه، من شروط وقيود وتعهدات فلا يجوز تغييرها بزيادة أو نقص من إرادة منفردة إلا بما يضر الطرف الآخر.
بهذا يتضح أن الالتزام بالحق يعني ثباته نوعًا وقدرًا وصفة وأمدًا وأن محاولة التدخل في تغيير الالتزام بدون إرادة طرفيه يعني ترتيب مظالم على الذمم المختصة بهذا الالتزام. فالمنتفع بهذا التغيير ظالم والمتضرر به مظلوم ومحتوى الالتزام متغير إلى ما يمكن أن يعتبر من ضروب الربا أو من أكل المال بالباطل أو من القروض التي تجر نفعًا.
توضيح ذلك أن الحق موضوع الالتزام إذا طرأ عليه من التقلبات الاقتصادية ما يعتبر جنسه مهيأ للزيادة أو النقص في وقت سداده مما يوجب الضرر لأحد طرفيه بذلك فإن هذا الضرر قد يكون أحد طرفي الالتزام سببًا في حصوله على الطرف الآخر كمماطلته في الوفاء بهذا الالتزام حتى تغيرت الأسعار وترتب عليها الضرر، وقد لا يكون لأحد طرفيه سبب في ذلك إلا أن هناك جائحة قضائية من الله، أو يكون الالتزام من طرف واحد لآخر كمن يغصب حقًّا لشخص طبيعي أو اعتباري فيتغير سعر مثل ذلك الحق بما يعتبر نقصًا على المغصوب في وقت تسليم ذلك الحق المغتصب.
هذه الحالات الثلاث للفقه الإسلامي نظر في ربط تغير الأسعار بالالتزام وسيأتي الحديث عن وجهة النظر في ذلك الربط.
أما ما عدا الحالات الثلاث فمنذ زاول الإنسان نشاطه الاقتصادي فإنتاجه عرضة للزيادة والنقصان تزيد قيم السلع باختلال ميزان العرض على الطلب بالنقص وتنقص قيمها بعكس ذلك، ومن عوامل هذه التغيرات الاقتصادية تنشأ الأرباح والخسائر ويتحقق ما وصفه صلى الله عليه وسلم من أن التجارة غارات المؤمنين.
وبالاجتهاد في الأخذ بأسباب الأرباح وتجنب الخسائر تزداد الحركة الاقتصادية وبالتالي تتوفر وسائل أكثر لتحصيل العمل وتقليل البطالة وتوفير وسائل الحياة الأفضل.
ولهذا نجد الإسلام يضيق دائرة التعامل بالأثمان على سبيل المصارفة المتمثلة في بيع وشراء لما في حركتها والتحرك بها من حبس الأثمان التي هي وسيلة التقويم والتقدير عن وظيفتها وجعلها سلعًا تباع وتشترى فينتج من ذلك التقليل من الحركة الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج والتسويق والاستهلاك.
كما أن الإسلام يحرم المكاسب المضمونة والمبيعات غير المملوكة وتعين قدر معين من المضاربة في التجارة أو المغارسة أو المخابرة كما أنه يحرم الاحتكار وتلقي الركبان ويقف من قضايا الغش والتدليس والغرر والجهالة والغبن مواقف حازمة كمواقفه الحكيمة في إنكار المكاسب عن طريق الرهان والقمار والميسر، ويدعو الإسلام إلى السعي في الأرض والضرب في الأسواق.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (1)
وقال تعالى: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (2)
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (3)
(1) سورة الملك: الآية 15
(2)
سورة المزمل: الآية 20
(3)
سورة الجمعة الآية 10
فالإسلام يعتبر المخاطرة في التجارة عنصرًا ذا أثر فعال في إنعاش الحركة الاقتصادية لما تستلزمه من المخاطرة من الحيطة والحذر والحرص والتدبر والمراقبة المستمرة للتقلبات الاقتصادية وبالتالي الأخذ بنتائج ذلك من بيع وشراء وإنتاج وتسويق، فإذا قلنا بربط الحقوق المؤجلة بمستوى الأسعار ولم يكن لمن ترتبت عليه هذه الالتزامات سبب في تغير الأسعار فإن هذا يعني معالجة الضرر بضرر ودفع خسارة طرف من أطراف الالتزمات بظلم طرفه الملتزم فضلا عما في ذلك من تشجيع الاستثمارات البنكية والتقليل من عنصر المخاطرة في التجارة، وحينما يعلم طرفا الالتزام أن العبرة بقيمة الحق موضوع الالتزام هو سعر يوم سداده، وما يترتب على ذلك من الجهالة في مقدار الحق، وبالرغم من تقديره وقت الالتزام بقدر معين، فملتزم بمليون دولار مثلا لزيد من الناس بعد عام، يحل أجل السداد في وقت تكون القيمة الشرائية للدولار قد انخفضت بمقدار 40 % في المائة مثلا، فربط الحق بسعر يوم سداده يعنى أم مليون الدولار تتحول إلى مليون وأربعمائة ألف دولار، فالملتزم بالحق يعرف أن التزامه بمليون دولار، ولكنه لا يعرف وقت سدادها ومقدار ما يسدده فقد يزيد مبلغ الالتزام وقد ينقص وهكذا في أموال عقود السلم ومضاربات البورصات وأجور العمال والالتزامات التوثيقية.
وبهذا يتضح لنا أن الأخذ بمبدأ ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار مصادم للمقتضيات الشرعية في الشريعة الإسلامية وللتوجيهات الإسلامية للاقتصاد الإسلامي الحر وللطمأنينة الموجبة للثقة في أن الحق الملتزم به هو الحق قدرًا ونوعًا وصفةً وأجلا، فلا يخشى صاحب الحق نقص حقه ولا يخشى الملتزم بعد تغيره عليه بزيادة. كما أن الأخذ بذلك موجب لظلم أحد طرفي العقد وأكل الظلم منهما مالا بدون حق فضلا عما في ذلك من الجهالة وتشجيع البنوك على مضاعفة نشاطاتها الربوية وتثبيط التجارة بما يسوق بضائعه عن ربحه أو خسارته بالرغم من معرفته مقدار قيمة شراء بضاعته ومقدار قيمة بيعها لأنه لا يعرف الزيادة المحتملة على ما التزم به طبقًا لربط هذا الالتزام بسعر يوم سداده فقد تأتي هذه الزيادة على ربح محسوس حققته صفقته التجارية.
وقبل دخولي في نقاش القائلين بوجاهة ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار أرغب في إبداء ما عندي في وجود حالات استثنائية توجب ربط الالتزام بمستوى الأسعار حتى تكتمل الصورة ويتضح الاتجاه ويتحرر موضوع النقاش.
أولى هذه الحالات: ما إذا كان الالتزام بالحق حال الأداء وكان الملتزم مليئًا غنيًّا إلا أنه صار يماطل صاحب الحق حتى تغيرت الأسعار سواء انخفضت القيمة الشرائية للنقد موضوع الالتزام انخفض سعر العين المالية موضوعة الالتزام كديون السلم فمماطلة من عليه الحق لمن له الحق ظلم وعدوان موجبة لحل عرضه وعقوبته كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم)) رواه الشيخان في صحيحهما، قال صلى الله عليه وسلم ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) . رواه أهل السنن. ومن العقوبة أن يربط الحق بسعر يوم سداده إذا كان فيه نقص على صاحبه فالزيادة على المماطل بأداء الحق عقوبة يستحقها بسبب ليه ومطله، وإعطاء صاحب الحق هذه الزيادة يعتبر من العدل والإنصاف لأن مماطلة خصمه أضرت به بمقدار هذه الزيادة.
ولقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في تقدير الحق المغتصب المماطل في أدائه بسعر يوم سداده، قال في منتهى الإرادات: ولا يضمن نقص سعر. اهـ (1) كما اختلفوا في تعيين العقوبة التي يستحقا فذهب جمهورهم إلى عدم الزيادة على الحق بشيء مطلقًا كما مر النقل من المنتهى وأن العقوبة المقصودة في الحديث: ((لي الواجد يحل عقوبته
…
)) ما يوقعها ولي أو نائبه على المماطل بأداء الحق من عقوبة تعزيزية بحبس أو جلد أو بهما معًا. وذهب بعضهم إلى أن العقوبة هي تكليف المماطل بضمان ما خسره صاحب الحق في سبيل المطالبة بتحصيل حقه. قال شيخ الإسلام. ابن تيمية: " ومن مطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد (2)
وذهب بعض المحققين من أهل العلم إلى القول بضمان نقص السعر قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: قال الأصحاب: وما نقص بسعر لم يضمن أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أنه يضمن نقص السعر وكيف يغصب شيئًا ويساوي ألفًا وكان مالكه يستطيع بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصًا فاحشًا فصار يساوي خمسمائة أنه لا يضمن النقص فيرده كما هو؟ اهـ (3) .
وهذا القول هو ما يقتضيه العدل الذي أمر الله به وهو في نفس الأمر عقوبة للظالم أقرها صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لي الواجد يحل عقوبته)) . ولا شك أن المماطل في حكم الغاصب بمماطلته أداء الحق الواجب عليه إلا أن تقدير الزيادة عليه يجب أن يراعى في تعيينها العدل، فلا يجوز دفع ظلم بظلم ولا ضرر بضرر، فمثلا زيد من الناس قد التزم لعمرو بمبلغ مائة ألف دولار مثلا يحل أجلها في غرة شهر محرم عام 1407 هـ وكان سعر الدولار بالين الياباني وقت الالتزام مائتين وأربعين ينًّا وفي أول يوم من شهر المحرم عام 1408هـ انخفض سعره إلى مائتين وعشرين ينًّا فطلب صاحب الحق حقه من الملتزم زيد فماطله إلى وقت انخفض سعر الدولار إلى مائة وخمسين ينًّا فما بين سعر الدولار وقت الالتزام بالحق وبين سعره وقت الاستعداد بالسداد نقص تسعون ينًّا في الدولار الواحد فإذا قلنا بضمان النقص للماطلة فإن الفرق بين سعره وقت الحلول ثم المماطلة وبين سعره وقت الاستعداد بالوفاء هو سبعون ينًّا فالعدل أن يقتصر الضمان على هذا المقدار سبعين ينًّا عن كل دولار.
(1) شرح منتهى الإرادات: 2/408
(2)
انظر الاختيارات: ص 136
(3)
الفتاوى السعدية: 429
الحالة الثانية: أن لا يكون الملتزم بالحق سببًا في خسارة صاحب الحق بنقص حقه وإنما يرجع ذلك إلى أسباب قهرية لا دخل لأي من طرفي العقد بها، فهذه الحال إن كانت الخسارة على أحد أطراف العقد تزيد عن الثلث، فقد تقاس على قاعدة وضع الحوائج، وإن كان القائلون بها يرون قصرها على الثمار على أصولها، مما تم بيعها ولم تقبض فأصابتها جائحة سماوية قضت عليها أو على بعضها، إلا أن المسألة محل نظر في اجتماع القضيتين في حصول خسارة فاحشة ليس لأحد طرفي العقد سبب في حصولها وتنفرد إحداهما عن الأخرى بأن قضيتنا حق تم الالتزام به وجرى تعيين موجبة في غالب ماله.
وعلى أي حال فهذه المسألة تحتاج إلى إفرادها ببحث تستقصى فيه مبررات الحكم فيها.
الحالة الثالثة: إذا كان الالتزام بدين نقدي من عملة ورقية معينة ثم انخفضت قيمة هذه العملة الورقية انخفاضًا فاحشًا ولم يحل أجل سدادها وتمثل بالليرة اللبنانية ونضرب مثلا لهذه الحال: خالد من الناس التزم لمحمد بمائة ألف ليرة قيمة بضاعة جرى قبضها في مجلس العقد وتم الاتفاق على تأجيل دفعها إلى عام، وكانت قيمة الليرة وقت الالتزام تعادل ريالا سعوديًّا وبعد حلول أجل الدفع انخفضت قيمة الليرة حيث صارت قيمة مائة ليرة ثلاثة ريالات سعودية، فهل يسلم خالد لمحمد مائة ليرة لبنانية بغض النظر عن انخفاض قيمتها وفي هذا خسارة بالغة على محمد أم يلزم خالد بقيمتها وقت الالتزام لأن الليرة الآن في حكم السكة المنقطعة؟ يمكننا أن نرجع في حكم هذه المسألة إلى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله.
فقد ذكر الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله عن الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر أن الدائن يرجع على مدينه بقيمة ما عليه من دين نقدي إذا أبطل السلطان التعامل به أما إذا زادت قيمته أو نقصت فليس له إلا ما في ذمة مدينه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال الأثرم:" سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة فسقطت المكسرة أو الفلوس قال: يكون عليه قيمتها من الذهب. "
وقد نص في القرض على أن الدراهم المكسرة إذا منع التعامل بها فالواجب القيمة فيخرج من سائر المتلفات، وكذلك في الغصب والقرض فإنه معلوم أنه ليس المراد عيب الشيء المعين فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عين النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا بنقصان قيمتها فإذا أقرضته أو غصبته طعامًا فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصًا فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل فإن المالين يتماثلان إذا تساوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل فعيب الدين إفلاس المدين وعيب العين المعينة خروجها عن الكمال بالنقص. اهـ (1)
وقال ابن مفلح في الفروع: " وقيل إن رخصت فله القيمة كالمكان"(2) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: " قوله وكذلك المغشوشة وعندهم أنها مثلية فيكفي ردها لكن فيما إذا وجد نقصًا فإنه يلزمه المثل عندهم، وعلى أصل الشيخ الظاهر أنه يلزمه القيمة ثم هذا في القرض، ونص عليه أحمد واختار الشيخ أن هذا يجري في سائر الديون – قال الشيخ – وهذا هو الذي ينبغي لما على كل من النقص. اهـ (3)2.
(1) الدرر السنية: 5/110-111
(2)
الفرع: 4/203
(3)
فتاوى ووسائل، للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: 7/205.
وقال الرهوني: ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين يفهم أن الخلاف السابق محل إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة. أما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا. وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب، قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف. اهـ. (1) .
وقال الشوكاني في كتابه نيل الأوطار:
فائدة: قال في البحر: مسألة الإمام يحيى لو باع بنقد ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان يلزم ذلك النقد إذا عقد عليه. الثاني يلزم قيمته إذا صار لكساده كالعرض. انتهى. قال في المنار: وكذلك ولو صار كذلك يعني النقد لعارض آخر وكثيرًا ما وقع هذا في زماننا لإفساد الضربة لإهمال الولاة النظر في المصالح، والأظهر أن اللازم القيمة لما ذكره المصنف. اهـ (2)
قوله: وكذلك لو صار لعارض آخر يفهم منه أن النقص الفاحش أو الزيادة الفاحشة موجبة للأخذ بالقيمة قياسًا على منع السلطان التعامل بالسكة موضوعة الالتزام.
(1) حاشية الرهوني: 5/121
(2)
2 نيل الأوطار: 5/236
بقي علينا أن نعرف ما مقدار الفحش في الزيادة أو النقص.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد ما يوجب اعتبار الجائحة ما نصه:
…
فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها في أشهر الروايتين
…
والثانية أن الجائحة الثالث فما زاد كقول مالك لأنه لا بد من تلف بعض الثمر في العادة فيحتاج إلى تقدير الجائحة فتقدر بالثلث كما قدرت به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((الثلث والثلث كثير)) . اهـ (1) .
وخلاصة القول في هذه المسألة أن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى وجوب قيمة عملة جرى الالتزام بها ثم أبطل السلطان التعامل بها قبل قبضها وأن جمهورهم ذهبوا إلى عدم اعتبار نقص العملة أو زيادتها وأن من التزم لآخر بنقد جرى فيه النقص أو الزيادة أنه لا يلزم غير مثله، وأن بعضهم ذهب إلى اعتبار النقص والزيادة كاعتبار منع السلطان التعامل بها في وجوب القيمة فيها، وبعضهم توسط فاعتبر النقص الفاحش والزيادة الفاحشة موجبة لأخذ القيمة ثم اختلفوا في تقدير الفحش في الزيادة والنقص فقال بعضهم إن ذلك يرجع إلى العرف والعادة وبعضهم قال إن ذلك مقدار بالثلث فما فوقه.
(1) مجموع الفتاوى الكبرى: 30/279
وما جرى استعرضه في الحالات الثلاث وما في أحكامها من أقوال لأهل العلم تدور بين الاعتبار وعدمه يعطي تصورًا واضحًا إلى أن القول بربط الحقوق والالتزامات الآجلة بالأسعار موضع تحفظ بالغ في الشريعة الإسلامية. فحتى إذا ظهرت المبررات للأخذ به فإن هناك من يرفضه أخذًا بمبدأ الالتزام والاحتفاظ بقدره ونوعه وأمده طالما أن لموضوع الالتزام قيمة معتبرة وإن نقصت عن قيمتها الحقيقية وقت الالتزام.
وبعد هذا يمكن أن ننتقل إلى نقاش مبررات القول بربط الحقوق الآجلة بالأسعار فنقول وبالله التوفيق وعليه الاعتماد:
* أولى هذه المبررات: القول بأن الإسلام دين العدل والإنصاف، والتضخم الاقتصادي يأتي على هذه القاعدة حيث إن التضخم سبب في تكدس الثروات بأيدي قلة من الناس وتبقى الكثرة الكاثرة وهم يعانون قلة ذات اليد، وربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يحقق العدل ويقضي على التضخم.
والإجابة على هذا هو التسليم بأن الإسلام دين العدل والإنصاف وأنه ضد التضخم وتجمع الثروات في أيدي قلة من الناس قال تعالى في تبرير الإنفاق على المحتاجين دون الأغنياء: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1)
وهو يهدف من تشريعاته الصائبة إلى إشاعة المال بطرق مشروعة ومختلفة وتفتيت الثروات وإعادة توزيعها على أكبر عدد ممكن. فهو يحض على الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله غير محصورة في جهة معينة فكل طريق من طرق الخير يعتبر سبيلا لله. ويجب في الأموال حقوقًا معينة كالزكوات وحقوقًا غير معينة كالنفقات الواجبة، وفي الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في المال حقًّا سوى الزكاة.
(1) سورة الحشر: الآية رقم 7
والإسلام حينما يحارب التضخم الاقتصادي فهو يحاربه بتحريمه جملة من المعاملات التجارية كبيوع الغرر والغبن والجهالة والاسترسال وبيع ما لا يملك أو لم يقبض وبيوع الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة وينهى عن تلقي الركبان وعن الاحتكار كما أنه ينهى عن التسعير ما لم توجد له أسباب تضبطه عن الظلم وينهى عن التصرف في سكة المسلمين بما يعود عليهم بالضرر فقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، ومما يعود على المجتمعات والدول بالتضخم المتاجرة بالأثمان – العملات النقدية – اتجه كثير من علماء الإسلام ومحققيهم إلى التحذير من ذلك فقد قال الإمام الغزالي في كتابه الإحياء ما نصه:
من نعم الله تعالى خلف الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما – إلى أن قال – فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكون حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى
…
هي التوسل بهما إلى سائر الأشياء – إلى أن قال – فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضًا حكم يطول ذكرها، فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود للحكم فقد كفر بنعمة الله تعالى فيهما فإن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم لسببه وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما إذا لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم. اهـ (1)
(1) انظر الورق النقدي، تأليف عبد الله بن منيع: ص 105 – 107
ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين ما نصه:
فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن لنعتبر به المبيعات بل الجميع سلع – ثم ذكر أسباب فساد المعاملات ومنها اتخاذ الأثمان سلعًا فقال: " كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم – إلى أن قال – فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل تقتصد للتوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. اهـ (1)
وجاءت المقتضيات الشرعية بتضييق دائرة التعامل بالأثمان متاجرة ومصارفة فحرمت الزيادة في الجنس الواحد وضرورة التقابض في مجلس العقد سواء اتفق الجنس أو اختلف.
ولا يخفى أن في المتاجرة في النقود جملة سلبيات منها انصراف رجال الأعمال عن الإسهام في المشروعات التنموية وتجميد مدخراتهم النقدية في البنوك للمتاجرة بها فينتج عن ذلك ظهور بطالة سببها انكماش السوق الصناعية بانكماش الإنفاق عليها للمتاجرة بالنقد نفسه وصرفه عن وظيفته الأساسية: تقويم السلع وواسطة التبادل.
(1) الورق النقدي: ص 104 – 105
وبهذا يتضح موقف الإسلام من التضخم وأسباب التضخم ، وأنه يحارب التضخم بتشريعات في الأخذ بها حماية للمجتمع من التضخم وصيانة للأسواق التجارية عن التضخم وليس من تشريعاته تغيير الالتزامات الآجلة بنقص أو بزيادة وذلك بربطها بمؤشرات الأسعار إذ لا شك أن في هذا أثرًا عكسيًّا في اعتباره أحد عوامل الكساد الاقتصادي فإن من يلتزم بحق ففي حال الأخذ بربط الالتزام بمؤشرات الأسعار فإنه لا يدري عن ميزان التزامه ولا عن مردود حركته الاقتصادية فقد يخطط لمشروع تنموي يظهر له من مخططه توفر الثقة لديه في نجاح مشروعه إلا أن الأخذ بربط الالتزام بالأسعار قد يأتي على ما يراه ربحًا محققًا في مشروعه وهذا في حد ذاته عامل قوي في إحجامه عن القيام بذلك المشروع الذي يرى ربحه محققًا فيه إلا أنه غير مطمئن إلى تغير التزامه بما يأتي على ذلك الربح.
وأما وجه اعتباره عاملا من عوامل التضخم فإن التضخم معناه ظهور سوق نقدي لا يتناسب حجمه العام مع المثمنات المتاحة من سلع وخدمات، وتغير الالتزامات الآجلة وربطها بسعر أجل سدادها وفي ظروف تقلبات اقتصادية لا تحكمها قواعد واضحة ولا تصورات جلية يعطي المزيد من مضاعفة الالتزامات وبالتالي تتيح المجال لهروب النقد إلى ما فيه ضمان نمائه وهذا يعني ظهور فئات تتكدس في أيديها الثروات وقد تكون البنوك أوضح مثال لهذه الفئات يستوي في ذلك ما تملكه أو تستودع إياه للحفظ – أو الاستثمار. وبهذا يتضح أن ربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يعتبر من عوامل التضخم المالي والانكماش الاقتصادي لا أنه عامل من عوامل محاربة التضخم.
* المبرر الثاني: لا ضرر ولا ضرار، الضرر يزال، قاعدتان شرعيتان والتضخم يوجب الضرر والإضرار، وليس للدائن أو المدين سبب في هذا الضرر إلى آخر التوجيه.
والإجابة عن هذا أن الضرر لا يزال بالضرر وأن الظلم لا يزال بظلم، فطالما أن المدين لم يكن له سبب في انخفاض قيمة ما التزم به والمسعر هو الله سبحانه وتعالى. والالتزام بالحق طالما أن الحق مثلي وفي الذمة وهو معلوم القدر والصفة وأجل الوفاء به، فإن الزيادة في قدره وطبقًا لتغير الأسعار ظلم محقق في حق من التزم به، وضرر بالغ عليه، لم يكن السبب في حصول موجبة. وإن كان موجب تغير الأسعار النقص فإن الدائن مظلوم ومتضرر من تخفيض حقه الملتزم له به قدرًا وصفة وأمدًا. ولا يخفى أن الآثار الشرعية المعتبرة والمترتبة على تغير الالتزامات بزيادة أو نقص لا تتجاوز أسبابها أطراف الالتزام فإن كانت الأسباب خارجة عن مقدورهم فلا اعتبار لها في زيادة الالتزام أو نقصه إلا بما ذكرناه من الحالات الاستثنائية.
والقول بأن ربط الالتزام بتغير الأسعار يصون طرفي الالتزام من الضرر غير صحيح فالضرر على أحدهما محقق والظلم من أحدهما على الآخر واقع.
* المبرر الثالث: الاستدلال على ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (1) ، وإن من إيفاء الكيل والوزن بالقسط ربط الالتزامات بمؤشرات الأسعار.
والإجابة على هذا أن الاستدلال بذلك ظاهر التعسف فيه، فليس في الآية دليل على ذلك ولو صح الاستدلال بها لكان الاستدلال بها على رفض هذا المبدأ أولى وأوضح لأن الحق إذا تعين مقداره كان من القيام بالقسط الوفاء به قدرًا ونوعًا وصفة وأجلا.
قال تعالى في معرض مدح المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2)
وليس من الوفاء بالعهد والميثاق القول بتغير الالتزام طبقًا لغير الأسعار فإن الأسعار بيد الله وتغير الأسعار بالزيادة أو النقص من أسباب رزق الله الناس بعضهم ببعض، وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) .
وليس من التقسيط ولا من العدل أن يكون لي على إنسان مائة ألف ريال وعند حلول أجل سدادهما أطلب منه مائة وعشرين ألفًا لتغير القيمة الشرائية، بل إن هذه الزيادة قد لا نجد أحدًا من علماء الإسلام يعتبرها مشروعة وقد لا نجد أحدًا من علماء الإسلام لا يعتبر هذه الزيادة من الربا الصريح الجلي.
(1) سورة الأنعام: الآية 152
(2)
سورة المؤمنون: الآية 8
* المبرر الرابع: الاستدلال على القول بمبدأ ربط الالتزام بتغير الأسعار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وهذا الاستدلال أكثر تطرفًا وبعدًا من الاستدلال السابق على ذلك بقوله تعالى:
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} .
فعقد جرى بين زيد وعمرو استلزم ذلك العقد حقًّا لأحدهما على الآخر هل يكون من الوفاء بهذا العقد أن يرتب على الملتزم بالحق للملتزم له به زيادة عليه أو العكس؟ لا شك أن الوفاء بالعقد يعني تأدية ما يقتضيه العقد دون زيادة أو نقص إلا فيما تراضيا عليه مما لا محذور في اعتباره شرعًا.
* المبرر الخامس: إن الحنفية أجازوا أخذ الفرق بين قيمة النقد والدين وهذا هو ربط تغيرات الأسعار بالالتزامات.
وكم يكون ناقل هذا القول مؤكدًا لقوله لو أورد نصوصًا عن الحنفية تؤيد قوله عنهم، فإن المنقول عنهم يخالف ذلك فلقد وجد الاختلاف بينهم فيما إذا كانت الفلوس ثمنًا في الذمة ثم كسدت بانقطاع التعامل بها.
قال الكاساني:
" لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائمًا وقيمته أو مثله إن كان هالكًا، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس كما إذا كان الثمن ربطًا فانقطع قبل القبض، ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنًا لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس فإذا ترك الناس التعامل بها عددًا فقد زال عنها صفة الثمن ولا بيع بلا ثمن فينفسخ العقد ضرورة. " اهـ (1)
(1) بدائع الصنائع: 5/242، الطبعة الثانية، دار الكتاب العربي، بيروت، 1394 هـ
المبرر السادس: نفي وجود نص من الكتاب أو السنة يحرم هذا النظام، لا شك أن الدائن حينما يكون دينه مؤجلا بزمن ومعينًا بقدر فإن الزيادة على هذا المقدار بعد أن تعين تعتبر زيادة على الملتزم به بمعنى أن زيدًا من الناس له عند بكر مائة ألف ريال مدة عام وفي نهاية العام تغيرت القيمة الشرائية لمائة ألف إلى مائة وعشرين ألفًا وربط الالتزام بالأسعار يعني أن على بكر تسليم مئة وعشرين ألف ريال والله سبحانه وتعالى يقول:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1)
ثم إن حقًّا مقداره في الذمة فإن الزيادة عليه تعتبر ظلمًا وعدوانًا على المدين، ولا شك أن النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تحريم الظلم أكثر من أن تحصر والمطالبة بوجود نص من كتاب أو سنة على تحريم هذا النظام كالمطالبة بوجود نص على تحريم الظلم والعدوان.
(1) سورة البقرة: الآية 279
* المبرر السابع: القول بأن هذا النظام لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((مثلا بمثل)) فإن القيمة الحقيقية للالتزام وقت السداد هي القيمة الحقيقية وقت الالتزام.
والجواب على هذا أن العبرة بما تعين مقداره لا بما اختلفت قيمته فطالما أن ما تم الالتزام به موجود مثله فلا يجوز تغييره بنقص أو بزيادة إذا كان مالا ربويًّا وإن لم يكن مالا ربويًّا فلا يجوز إلا بتوافق الطرفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن رب العالمين شرعه لعباده وله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والقدرة على البيان ما لا يعجزه البيان للأمة فيما يرونه عدلا وإنصافًا ومع ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل يدًا بيد سواء بسواء)) فجملة مثلا بمثل المؤكدة بكلمتي سواء بسواء تعني إرادة النص وإرادة مدلوله ولو كان من العدل والإنصاف الأخذ بطريقة الالتزام بقيمته وقت السداد لبينه صلى الله عليه وسلم ولكن أعطى نصًا صريحًا عاما شاملا في وجوب التماثل في الجنس ونصوصًا أخرى في تحريم مال المسلم وتحريم الظلم بين المسلمين.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والأمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بي فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) . رواه أحمد والبخاري. ووجه الاستدلال بهذا أن كلا من طرفي عقد الالتزام قد وقعا في الربا. وجه ذلك أن المستقر في الذمة مثلا مائة ريال فإذا دفع الطرف الملتزم للطرف الملتزم له مائة وعشرين ريالا فقد خالف المماثلة والمساواة في المعين قدرًا وجنسًا، فالملتزم زاد الملتزم له استزاد وبالتالي وقعا في الربا كما قال صلى الله عليه وسلم ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) .
* المبرر الثامن: إن إنكار هذا النظام منع للقرض الحسن.
والإجابة على هذا: إن الزيادة على القرض، قرض جر نفعًا وفي الأثر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جر منفعة. وروي موقوفًا على ابن مسعود وأبي بكر بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم. وفي صحيح البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى، قال " قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قش فلا تأخذه فإنه ربا. ومن هذا يتضح أن الذي يقرض ألف ريال مثلا ثم يأخذ بطريق الالتزام ممن أقرض ألفًا ومائتين سدادًا للألف التي أقرضه إياها فهو أولى بالإنكار واعتبار الزيادة ربا. وإن القول بأن المقرض قرضًا حسنا يتضرر من نقص القيمة الشرائية لما أقرضه عما كانت عليه وقت الإقراض فالإجابة عن هذا أن الغرض من القروض الحسنة التقرب إلى الله تعالى بتيسير أمور عباده وفي الإقراض من الأجر عند الله ما يهون هذا النقص. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من مسلم يقرض مسلمًا قرضا مرتين إلا كان كصدقتهما مرة)) . رواه ابن ماجه.
أما إذا قضى المقترض من أقرضه بما هو أكثر مما اقترضه من غير طلب من المقرض ولا تشوف فلا بأس بذلك. ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه دين فقضاني وزادني. وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فقال: ((أعطوه)) )) فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنًا فوقه فقال أعطوه. فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن خيركم أحسنكم قضاء
…
)) .
وبهذا يتضح أن إلزام الملتزم بزيادة على التزامه سواء كان قرضًا أو غيره من الربا، وأن الانتفاع من المقترض قبل سداد القرض من ذلك، وأن الوفاء بالقرض زيادة عنه من غير طلب من المقرض أو تلميح بذلك لا بأس به وأن القرض عمل إرفاقي تدعوا إليه مكارم الأخلاق واحتساب ما عند الله وبهذا يندفع القول بأن منع هذا النظام منع للقرض الحسن.
* المبرر التاسع: إن هذا النظام يساعد على حصول القروض الأجنبية للبلدان الإسلامية المختلفة.
والإجابة عن هذا أن روح هذا النظام هو المحافظة على القيمة الشرائية بحق الملتزم به وقت سداده، بمعنى أن صاحب الحق لا يستفيد إلا ضمان حقه عن النقص عند سداده فكيف يكون في هذا النظام إغراء للمؤسسات المالية الأجنبية بإقراض الدول الإسلامية المتخلفة؟ بل إننا نستطيع القول بأن الأخذ بهذا النظام سيضاعف الالتزام على هذه الدول المقترضة من المؤسسات المالية الأجنبية بفوائد حينما تراعى القيمة الشرائية وقت السداد فيكون على الملتزم للبنوك الأجنبية الفوائد الربوية وفرق القيمة عند ربط الالتزام بمؤشرات الأسعار. وبهذا يتضح أن هذا التبرير غير ظاهر وأن التبرير به لرد هذا النظام متجه.
* المبرر العاشر: ربط تغيرات الأسعار يشبه الإضافة التي يضيفها البائع على ما يبيعه بالدين.
والإجابة عن هذا تتضح بمزيد من التأمل، فإن الفرق بين الصورتين واضح فالزيادة التي يحصل عليها من يبيع بالدين يحصل عليها قبل الالتزام، فإذا تم الالتزام بمائة ألف ريال مثلا فإن الدائن لا يستطيع الحصول على هللة واحدة زيادة عن حجم الالتزام الذي التزم به وما حصل عليه من زيادة هي في الواقع مع رأس ماله فيما باعه قيمة ما جرى عليه الاتفاق بين طرفي الالتزام قيمة للبضاعة، أما الزيادة في الالتزام بعد تمامه واستقراره في الذمة فإنها أبشع من الزيادة الربوية (أتقضي أم تربي) يوضح ذلك أن المعاملة الربوية (أتقضي أم تربي) تكمن الزيادة فيها في حال الاتفاق على تأجيل الدفع بعد حلوله وأما في صورة ربط الالتزام بتغير الأسعار فإن الزيادة على الملتزم حتمية في حال الاستعداد لسداد مقدار الالتزام، وبهذا يتضح أن الصورتين مختلفتان وأن الجمع بينهما جمع بين متباينين.
وبقية المبررات تكاد تكون مكررة للمبررات التي جرى التعليق عليها.
وإذا كان لنا عمل في معالجة التضخم الاقتصادي ولنا قدرة في الإسهام في ذلك فينبغي تشخيص أسباب التضخم والتعرف على تلك الأسباب بما في ذلك زيادة الطلب على العرض والتساهل في التقيد بمؤشرات الاعتدال في إصدار النقود وإحجام رءوس الأموال عن الدخول في مشروعات تنموية وتقويم العملات النقدية وجعلها سلعًا تباع وتشترى وانكماش الإنفاق الحكومي على المرافق الحيوية في البلاد، ولو قلنا بربط الالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار لكان الأخذ بذلك أحد أسباب التضخم في البلاد وقد مر فيما سبق ذكر توجهه.
وحيث إنه يمكن أن يكون الملتزم بالحق سببًا في تضرر الملتزم له بالحق عند تغير أسعار الأثمان بالنقص وذلك بمطله وليه صاحب الحق وهو قادر على أداء الحق فإن هذه المسألة محل نظر واجتهاد وقد كتب فيها بحثًا هذا نصه:
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: لا شك أن مماطلة المدين دائنه في تسليمه ما وجب عليه أداؤه سواء كان ذلك ثمنًا من أي جنس من أجناس الأثمان أو كان عينًا من أي جنس من الأعيان أو السلع فإن ذلك ظلم وعدوان إن كان مستطيعًا السبيل في الأداء، أما إن كان ذو عسرة فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (سورة البقرة: الآية 280) .
يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه: ((ألا وإني حرمت الظلم وجعلته بينكم محرمًا ألا فلا تظالموا)) . ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (سورة الفرقان: الآية 19)
ولا شك أن الظلم باعتباره عدوانًا وبغيًا محرم وأن انتهاك المحرم موجب للعقوبة الزاجرة والرادعة.
كما لا شك أن المسلم حرام ماله ودمه وعرضه إلا بحقه ومطل المدين القادر دائنه عن أداء حقه نوع من الاستيلاء على ماله بدون حق أشبه الغصب إن لم يكن من صوره. ويبنى على ذلك في الغالب بأن تعطيل الدائن من ماله مستلزم فوات منافع لهذا المال في حال تقليبه وإدارته وحيث إن هذا التعطيل مستلزم ذلك الفوات في الغالب فإن القول بضمانه وتغريمه المدين قول يتفق مع الأصول العامة والقواعد الشرعية في الحفاظ على حقوق المسلم وطغيان ما ينقصه بسبب الظلم والعدوان. ولهذا جاء النص الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقوبة المماطل إذا كان غنيًّا.
ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((مطل الغني ظلم)) وفي السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) .
فمن حل عرضه التشهير به في المجامع التجارية وغيرها بسوء معاملته والتحذير من الدخول معه في تعامل أو تداول لتحذير الناس ظلمه وعدوانه وليكون نفور الناس عنه سببًا في إلحاق الضرر بتجارته فيكون ذلك عقوبة له لاستحلاله مال أخيه بدون حق على سبيل الظلم والعدوان.
ومن حل عقوبته التقدم لولاة الأمر بشكايته على مسلكه الذميم في اللي والمماطلة لإلزامه بدفع الحق الذي عليه وتقرير ما يستحقه من عقوبة رادعة وزاجرة بالحبس والجلد والغرامة المالية أو بواحدة منها على ما يقتضيه النظر المصلحي.
ومن عقوبته التقدم للقضاء بطلب التعويض عن النقص الذي سببته المماطلة في أدائه الحق وضمان منفعة يغلب على الظن حصولها للدائن في حال استلامه حقه في وقته.
وقد بحث العلماء رحمهم الله حكم التعويض عن المنافع الفائتة وعن المنافع المتوقع فواتها فقالوا بضمان كل منفعة محقق ضياعها كمنافع الأعضاء في حال الجناية عليها كما قالوا بضمان ما غرمه محق يطالب بحقه الثابت ممن كان منه المماطلة في أدائه حتى أحرجه إلى الشكاية والتقاضي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات: ومن مطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. اهـ، وقال في كتاب الإنصاف للمرداوي في باب الحجر " ولو مطل غريمه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك يلزم المماطل وقال شيخ الإسلام بن تيمية لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر رجع به على الكاذب. اهـ.
وفي هذا فتوى لسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله هذا نصها:
موضوع الفتوى: هل نفقات المنتدبين للنظر في القضية على المفلوج مطلقًا؟
من محمد إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فعطفًا على المخابرة الجارية حول نفقات المنتدبين للنظر في قضية من القضايا هل تكون على المحكوم عليه تبذلها الجهة التي منها الانتداب وتكون سلفة حتى تقتص من المحكوم عليه؟ ولقد ذكرنا في كتاب سابق منا لسموكم أن في المسألة بحثًا من حيث الوجهة الشرعية، وذلك أن العلماء رحمهم الله نصوا على أن كل من غرم غرامة بسبب عدوان شخص آخر، أن ذلك الشخص هو الذي يحمل تلك الغرامة.
قال شيخ الإسلام في كتاب " الاختيارات ": ومن مطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غَرِمَه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. وقال في الإنصاف في باب الحجر قوله: الثانية: لو مطل غريمه حتى أحوجه للشكاية فما غَرِمَه بسبب ذلك يلزم المماطل. وقال شيخ الإسلام: لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر رجع به على الكاذب. " وحيث كان الأمر ما ذكر فإن نفقات المنتدبين على من تبين أنه الظالم وهو العالم أن الحق في جانب خصمه ولكنه أقام الخصومة عليه مضارة لأخيه المسلم أو طمعًا في حقه. وحينئذ يتضح أن المفلوج في المخاصمة لا يلزم بذلك مطلقًا بل له حالتان، إحداهما: أن يتحقق علمه بظلمه وعدوانه فليزم بذلك المخاصمة مع علمه بأنه مبطل، الثانية: ألا يتضح علمه بظلمه في مخاصمته بل إنما خاصم ظانًّا أن الحق معه أو أنه يحتمل أن يكون محقًّا ويحتمل خلافه فهذه الاوجه شرعًا لإلزامه بتلك النفقات وبهذا يرتدع المخاصمون بالباطل عن خصوماتهم ويأمن أرباب الحقوق على حقوقهم غالبًا ويستريح القضاء من كثير من الخصومات. اهـ. الجزء الثالث عشر، ص 55.
ومن كان له حق على آخر مستحق الأداء، فماطل المدين وهو قادر على الوفاء حتى تغير السعر بأن انخفض سعر الثمن أو العين موضوع الحق الواجب الأداء، فمن منطلق العدل وقاعدة ضمان النقص أو المنفعة أو العين على من تسبب في فواتها، القول بتضمين المماطل ما نقص على صاحب الحق من نقص سعر أو فوات منفعة.
وعليه فمن عقوبة المماطل ربط الحق بسعر يوم سداده، إذا كان فيه نقص على صاحب الحق فإذا مطل المدين دائنه بعد استحقاق الوفاء وترتب على هذا المطل نقص فإنه مضمون لصاحب الحق على مدينه المماطل وهذا مقتضى العدل والإنصاف فالمدين يضمن هذا النقص بسبب ليه ومطله وصاحب الحق يستحق الزيادة على حقه لأن مدينه المماطل أضر به بمقدار هذه الزيادة وهي في الحقيقة ليست زيادة وإنما هي ضمان نقص سببه المماطلة. لقد اختلف العلماء رحمهم الله في تقدير حق المغتصب المماطل في أدائه بسعر يوم سداده قال في منتهى إرادات:
ولا يضمن نقص سعر. اهـ كما اختلفوا في العقوبة التي يستحقها المماطل فذهب جمهورهم إلى عدم الزيادة على الحق مطلقًا كما مر النقل من شرح المنتهى وإن العقوبة المقصودة في الحديث: ((لي الواجد يحل عقوبته)) ما يوقعها ولي الأمر أو نائبه على المماطل من عقوبة تعزيزية بحبس وجلد ـ أو بواحدة منهما.
وذهب بعضهم إلى أن العقوبة هي تكليف المماطل بضمان ما خسره صاحب الحق في سبيل المماطلة بتحصيل حقه. ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد سبق ذكر النص عنه.
وذهب بعض المحققين إلى القول بضمان نقص السعر، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله " قال الأصحاب وما نقص بسعر لم يضمن. أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أن يضمن نقص السعر، وكيف يغصب شيئًا يساوي ألفًا وكان مالكه يستطيع بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصًا فاحشًا فصار يساوي خمسمائة، إنه لا يضمن النقص فيرده كما هو؟ اهـ.
وهذا القول هو ما يقتضيه العدل الذي أمر الله به، وهو في نفس الأمر عقوبة للظالم أقرها صلى الله عليه وسلم بقوله:((لي الواجد يحل عقوبته وعرضه)) ، ولا شك أن المماطل في حكم الغاصب بمماطلته أداء الحق الواجب عليه إلا أن تقدير الزيادة عليه يجب أن يراعى في تعيينها العدل فلا يجوز دفع ظلم بظلم ولا ضرر بضرر أفحش منه – ولنضرب مثلًا يتضح فيه طريق التقدير:
زيد من الناس قد التزم لعمرو بمائة ألف دولار أمريكي مثلا يحل أجلها في غرة محرم عام 1407 هـ وكان سعر الدولار بالين الياباني وقت الالتزام مائتين وخمسين ينًا وفي أول يوم من شهر محرم عام 1407 هـ انخفض سعره إلى مائتين وعشرين ينًا فطلب صاحب الحق حقه من مدينه زيد فماطله إلى وقت انخفض سعر الدولار إلى مائة وخمسين ينًا فما بين سعر الدولار وقت الالتزام بالحق وبين سعره وقت حلول السداد ونقص مقداره ثلاثون ينًا في الدولار هذا النقص لا يجوز أحتسابه على المدين لأنه لم يكن سببًا فيه على الدائن وإنما النقص الذي يجب أن يضمنه المدين للدائن هو الفرق بين سعره وقت حلول السداد وبين سعره بعد المماطلة وهو سبعون ينًا لكل دولار وبهذا المثال يتضح وجه التقدير المبني على العدل وعدم مجاوزة الحد في العقوبة والضمان.
ومما يؤكد كما ذكرنا من أن المنفعة مضمونة على من تسبب في ضياعها مسألة العربون ومسألة الشرط الجزائي.
وكلا المسألتين ضمان لمنفعة مظنونة الوجود غير محققة ومع هذا فقد اعتبر الضمان لتلك المنفعة المظنونة.
وإكتمالا للبحث أذكر أن الشرط الجظائي قد صار باعتباره قرار هيئة كبار العلماء بعدد 35 وتاريخ 21/8/1394 هـ أذكر نصه فيما يلي:
(قرار رقم 35 وتاريخ 21/8/1394 هـ)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 28/10 و 14/11 /93 هـ من الرغبة في دراسة موضوع الشرط الجزائي، فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين 5 و 22/8/1394 هـ في مدينة الطائف.
ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد مداولة الرأي والمناقشة، واستعراض المسائل والإيراد عليه، وتأمل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حر أما أو حرم حلالا)) ولقول عمر رضي الله عنه:" مقاطع الحقوق عند الشروط "، والاعتماد على القول الصحيح من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا وقياسًا، واستعرض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع:
أحدهما: شرط يقتضيه العقد كاشتراط التقابض وحلول الثمن.
الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به أو صفة في الثمن ككون الأمة بكرًا.
الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافيًا لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهرًا.
وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع:
أحدهما: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدًا آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك.
الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد كأن يشترط في البيع ألا خسارة عليه أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق.
الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد كقوله: بعتك إن جاء فلان،
وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين: أن رجلًا قال لكريه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه، وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلًا باع طعامه وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيعة. فلم يجئ فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقًا لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (سورة المائدة: الآية 1)
لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعًا فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول.
وإذا كان الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا يراد به التهديد المالي ويكون بعيدًا عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من ضرر ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملًا بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (سورة النساء: الآية 58) .
وقوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (سورة المائدة: الآية 8)
وبقوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
التوقيع
وبتأمله يتضح أنه في مقابلة فوات منفعة غير محقق وقوعها، لكن نظرًا إلى المخالفة المترتبة على تفويت فرصة اكتساب المنفعة صارت أهم عائق لتفويتها اتجه القول بضمان هذه المنفعة.
ومثل ذلك مسألة العربون فإن المشتري يبذل مبلغًا من المال مقدمًا عند تمام عقد الشراء على أن يكون له الخيار مدة معلومة فإن قرر الشراء صار العربون جزءًا من الثمن وإن قرر عدم الشراء صار العربون مستحقًا للبائع في مقابل عدم تكمنه من عرض بضاعته بعد ارتباطه مع المشتري بعقد البيع المعلق، ووجه استحقاق البائع للعربون في حال عدول المشتري عن الشراء أنه في مقابلة تفويت فرص بيع هذه السلعة بثمن أكبر من ثمن بيعها على المشتري بيعًا معلقًا يحتمل العدول عنه ، وفيما يلي نص عن ابن قدامة من كتابه المغني فيما يتعلق بمسألة العربون واختلاف العلماء فيها. وانفرد الإمام أحمد رحمه الله بالقول بصحة العربون واستحقاق البائع إياه في حال العدول عن الشراء.
قال رحمه الله ما نصه:
" والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع يقال عربون وأربون وعربان وأربان، قال أحمد لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه."
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجازه، وقال ابن سيرين لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا وقال أحمد: هذا في معناه واختار ابن الخطاب أنه لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون)) . رواه ابن ماجه ولأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة معها درهمًا وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى نافع عن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم قلت لأحمد تذهب إليه قال أي شيء أقول هذا عمر رضي الله عنه وضعف الحديث المروي، روى هذه القصة الأثرم بإسناده.
وقد لخص الدكتور عبد الرزاق السنهوري رحمه الله في كتابه مصادر الحق أدلة القولين ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون، فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه: ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي:
أولا: إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون، ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول ولي الخيار: متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.
ثانيًا: إن أحمد يجيز بيع العربون ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا قال أحمد هذا في معناه.
ثالثًا: ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع بذكر مدة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار) .اهـ.
ومما تقدم يظهر لنا جواز الحكم على المماطل وهو قادر على الوفاء بضمان ما ينقص على الدائن بسبب مماطلته وليه وإن ضمن عقد الالتزام بالحق شرطًا جزائيًّا لقاء المماطلة واللي بقدر فوات المنفعة، فهو شرط محترم واجب الوفاء لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حرامًا)) ولما ورد في صحيح البخاري في باب (ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم) . وقال ابن عون، عن ابن سيرين: قال رجل لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب، عن ابن سيرين:((أن رجلاً باع طعامًا وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت، فقضى عليه)) اهـ. وفي الجزء الرابع من بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله قوله: وقال في رواية الميمونى: ولا بأس بالعربون، وفي رواية الأثرم: وقد قيل له: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان، فقال: ليس بشيء، واحتج بما روى نافع عن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دارًا بشجر، فإن رضي عمر وإلا له كذا وكذا، قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقال هذا، قال: أي شيء أقول هذا عمر رضي الله عنه. اهـ.
ولا يقال بأن هذه الزيادة المترتبة على الدائن المماطل بدون حق سواء كانت عقوبة دل عليها حديث: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) أو كانت مقتضى شرط جزائي اشتمله عقد الالتزام لا يقال بأن هذه هي الزيادة الربوية الجاهلية – أتربي أم تقضي. فهي تختلف اختلافًا ببعدها عنها وأهم وجوه الاختلاف ما يلي:
أولًا: أن الزيادة الربوية زيادة في غير مقابلة وهي اتفاق بين الدائن والمدين على تأجيل سداد الدين إلى أجل معين في مقابلة زيادة معينة لقاء الاتفاق على التأجيل. بينما الزيادة على الحق المستحق لقاء المماطلة بدون حق هي في مقابل تفويت منفعة على الدائن على سبيل الغصب والتعدي، وهي في نفس الأمر عقوبة مالية سببها الظلم والعدوان.
ثانيًا: أن الزيادة الربوية اتفاق بين الدائن والمدين لقاء تأجيل السداد فهي زيادة في مقابلة الانتظار لزمن مستقبل وعلى سبيل التراضي فالمدين لا يسمى في هذه الحال مماطلًا ولا معتديًا ولا ظالمًا بسبب تأخيره سداد حق دائنه بينما الزيادة عل حق الدائن في مقابلة اللي والمطل بغير حق وضمان لمنفعة فائتة بسبب المماطلة.
ويعتبر المماطل ظالمًا ومعتديًا ومفوتًا منفعة دائنة باحتباس حقه عنده بدون حق فهي زيادة لم تكن موضوع اتفاق على اعتبار التأخير في مقابلتها وإنما هي في مقابلة تفويت منفعة على سبيل الظلم والعدوان بالمماطلة وهي كذلك عقوبة اقتضاها اللي والمماطلة.
ومما تقدم يتضح أن مسائل ضمان قيمة المنفعة على من تسبب في فواتها لها أحوال، منها:
الحالة الأولى: من تسبب بجنايته على عضو إنسان ففاتت منفعة ذلك العضو فلا نعلم خلافًا بين أهل العلم في حال تعذر القصاص في ضمان دية هذه المنفعة.
الحالة الثانية: من غصب عينًا فحبسها عن صاحبها حتى تغير سعرها بنقص فالذي عليه المحققون من أخل العلم ضمان هذا النقص على من تسبب في حصوله. وقد تقدم النص من بعضهم على هذه المسألة وهو الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.
الحالة الثالثة: من كان له حق على أخر فمطله أداء حقه بغير حق حتى أحوجه إلى شكايته وغرم بسبب ذلك غرمًا على وجه معتاد فالذي عليه المحققون من أهل العلم إلزام المماطل بضمان ما غرمه خصمه في سبيل المطالبة بحقه وقد نص على هذه المسألة أكثر من واحد من أهل العلم ومحققيهم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهما.
الحالة الرابعة: ضمان المنفعة الفائتة بسبب الإخلال بما جرى عليه التعاقد إذا كان في العقد نص على ذلك وهذه مسألة الشرط الجوائي وقد صدر باعتبار الشرط الجزائي قرار من مجلس هيئة كبار العلماء جرى ذكر نصه في هذا البحث.
الحالة الخامسة: ضمان قيمة منفعة مظنونة الوقوع للتسبب في ضياع فرصة الانتفاع وهذه مسألة العربون ولا يخفى أنها من مفردات الإمام أحمد وقد أخذ بها مجموعة من أهل التحقيق قديمًا وحديثًا.
الحالة السادسة: تضمين المماطل ما يترتب على الدائن من نقص في مقدار دينه بسبب تغير السعر أو بسبب الحرمان من إدارة هذا الدين وتقليبه في الأسواق التجارية وذلك بالحكم له بذلك النقص على مماطلة عقوبة له على ظلمه وعدوانه ومماطلته والحجة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) وقوله صلى الله عليه وسلم ((مطل الغني ظلم)) .
وقد يكون من عموم الاستدلال ما في تغريم السارق غرم ما سرقه مرتين للمسروق له مما لا تتوفر فيه شروط القطع وذلك على سبيل العقوبة بالمال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى: (روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((فيمن سرق من الثمر المعلق قبل أو يؤويه إلى الجرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين ، وفيمن سرق من الماشية قبل أن يؤدي إلى السراج أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين)) . وكذلك قضى عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها وبذلك كله قال طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره. وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع. فأضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنهم القطع، وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمدًا أنه يضعف عليه الدية لأن دية الذمي نصف دية المسلم وأخذ بذلك أحمد بن حنبل) اهـ.
وبهذا يتضح أن العقوبة بالمال أمر مشروع وأن تمليك المعتدى عليه بالسرقة ما زاد عن حقه المسروق معتبر ولا تعتبر هذه الزيادة من قبيل الربا وإنما هي عقوبة للجاني وتعويض عن منفعة تفوت بحرمان المجني عليه من الانتفاع بماله مدة بقائه في يد الجاني، وهكذا الأمر بالنسبة لمطل الغني ولي الواجد، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الله بن سليمان بن منيع