الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرف ودوره في عملية الاستنباط
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريفه:
ذكروا للعرف تعريفات نذكر منها:
ما ذكره الجرجاني من أنه (ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول) .
وعرفه الأستاذ علي حيدر من شرح المجلة بأنه (الأمر الذي يتقرر بالنفوس ويكون مقبولًا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة) .
وحكى ابن عابدين الحنفي عن المستصفى أن العادة والعرف هي (ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول) .
وغيرها إلا أنها تعاريف مبتلاة ببعض الإشكالات.
ولعل أقرب التعاريف ما ذكره الأستاذ عبد الوهاب خلاف من أنه (ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك) ثم قال: ويسمى العادة.
ولا داعى للدخول في النقض والإبرام لأنها تعاريف لفظية.
ويفترق العرف عن الإجماع بأن الإجماع يعني الاتفاق السائد بينما يكفي في العرف سلوك الأكثرية وسيرة المجتمع.
تقسيماته:
أولًا: قسم تارة إلى العرف العام والعرف الخاص.
أما العرف العام فيراد منه ما يشترك فيه غالبية البشر دون ملاحظة زمان أو مكان أو ثقافة أو مستوى يقرب بذلك من (بناء العقلاء) .
ويمكننا أن نمثل له بالأمثلة التالية:
(أ) بناؤهم على رجوع الجاهل للعالم.
(ب) بناؤهم على عدم نقض اليقين بالشك.
(ج) شيوع بعض الألفاظ بينهم إلى الحد الذي يقدم هذه العادة على المعنى الحقيقي للفظ - كما يقول ابن عابدين. (1) ويؤكد ذلك أيضا الشيخ الطوسي. (2) .
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين ص: 113.
(2)
عدة الأصول: ج1 ص170.
ويرى مؤلف كتاب (نظرية العرف) أن كثيرًا من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في العالم تنظم في هذا القسم. (1) .
العرف الخاص:
وهو العرف المخصوص بحدود زمانية أو مكانية أو ثقافية معينة وتدخل هنا بعض المعاملات المتداولة في بعض الأعراف، وكذلك الألفاظ الخاصة بالبلدان، والعادات المحلية.
ثانيًا: قسموه إلى العرف القولي والعرف العملي:
أما القولي فيعطي الألفاظ عند العرف معان خاصة كإطلاق لفظ الولد عند بعضهم على خصوص الذكر، وأما العملي فهو ما يمارسونه بشكل عرفي وقد مثل له في (الأصول العامة) بشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات. (2) .
ثالثًا: قسموا العرف إلى الصحيح والفاسد:
أما الصحيح: فهو ما ينطبق والموازين الشرعية كتعارفهم على تقديم بعض المهر.
وأما الفاسد: فهو خلاف ذلك كتعارفهم على لعب القمار وشرب المسكرات وشيوع القوانين الوضعية.
مجالات العرف:
ذكروا للعرف مجالات أربعة هي:
أولًا: ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه مثل عقد الاستصناع ويتم الاستكشاف من خلال الامتداد بهذا العرف إلى زمان المعصوم عليه السلام وإثبات إقراره لهذا العرف ويصبح بذلك سُنَّة عبر هذا الإقرار.
ثانيًا: ما يرجع فيه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها للعرف كلفظ (الإناء) و (الصعيد) و (القرء) مما أخذ موضوعًا في لسان الأدلة.
وهذا الباب مهم جدًّا يكشف عن جانب من المرونة في الإسلام فمثلًا نجد أن مفاهيم (الغنى) و (الإسراف) و (التبذير) ترتبت عليها أحكام، ولكنها تختلف باختلاف الأزمة والأمكنة مما يجعلها ملائمة لتطورات المجتمع وتعقيداته وإمكاناته.
وهكذا بالنسبة لمفاهيم أخرى كمفهوم (في سبيل الله) في مجال مصاريف الزكاة و (القوة) وغير ذلك.
(1) نظرية العرف: ص33.
(2)
الأصول العامة؛ محمد نقي الحكيم: ص142
ثالثًا: ما يرجع فيه لاستكشاف مرادات المتكلمين عندما يطلقون الألفاظ ويدخل في هذا القسم ما يرجع للدلالات الالتزامية إذا كان منشأ الدلالة الملازمة العرفية كحكم الشارع مثلًا بطهارة الخمر إذا انقلب إلى خل الملازم عرفًا للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه.
رابعًا: ما يستكشف به ما يمكن الاحتجاج به وهو بناء العرف العام على الأخذ بالظواهر أو الأخذ بقول الثقة أي ما يستكشف به الحجة الأصولية.
ويختلف هذا القسم الرابع عن القسم الأول بأن هذا يشير إلى الأصول المستكشفة بينما يركز الأول على الفروع الفقهية ويمكن جمعها تحت عنوان واحد فيقال ما يستكشف به الحجة أو الحكم الفرعي.
هل العرف أصل قائم برأسه؟
إذا استعرضنا مجالات العرف الماضية وجدنا أنه لا يشكل أصلًا قائما برأسه في قبال الأصول الفهية الأخرى.
فالمجالان الأول والرابع يرجعان إلى السنة عبر اعتمادهما على الإقرار والإمضاء الشرعي والسنة قامت على معقد العرف (أي الحجة أو الحكم) ولم تقم على العرف نفسه حتى نقول بحجية كل ما قام العرف عليه، وأما المجالان الآخران فهما يشخصان صغيرات السنة.
ولكن يبدو من البعض اعتبار العرف دليلًا مستقلًا برأسه.
قال ابن عابدين: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب ما نترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة هكذا، ذكر فخر الإسلام انتهى كلام الأشباه وفي شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص. (1) .
ولا يمكن الشك في عدم صحة كونه أصلًا مستقلًا في الكشف عن واقع التشريع الإسلامي، لأن العرف يخطئ بلا شك ولا يعرف الكثير من المصالح والمفاسد الواقعية فليس له حجية مستقلة وإنما هو كما مر يكشف عن السنة إذا امتد إلى عصر المعصوم ولم يتم ردع عنه – وبتعبير آخر يبقى العرف دليلًا ظنيًّا وكاشفًا ناقصًا إلا أن يتم تتميم كشفه وسد نقصه بدليل آخر.
والذي أعتقده أن مصطلح (الأصل) يستعمل استعمالات متنوعة وربما كان المراد هنا أن العرف قد يكون مرجعًا يحتاج إليه للوصول إلى الحكم لا أن يراد به كونه أصلًا في قبال أصول الفقه الأخرى، والشاهد على ذلك ما عبروا عنه بقولهم:(تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعبادة) وهم بذلك يشيرون إلى مجال استكشاف مراد المتكلمين.
(1) رسائل ابن عابدين: 2 /113.
الأدلة على حجية العرف:
والمقصود بها الأدلة على اعتباره أصلًا بذاته وهي متعددة:
منها: ما استدل به بعض العلماء – كما ذكر ابن عادبين – من قوله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [سورة الأعراف: الآية 199] ، باعتبار أن المراد بالعرف هو عادات الناس وممارستهم.
إلا أن الآية كما هو ظاهر تشير إلى ما ارتكزت عليه النفوس والعقول من تصورات عن العدالة، وما عاد معروفًا لدى الجميع بالحسن وهو بعيد عن مسائل الأعراف حتى لو كانت عامة وأكثر التصاقًا بمسألة الفطرة المرتكزة في جميع النفوس، ولا أقل من الاحتمال فيبطل الاستدلال، وربما يؤيد هذا الاحتمال برواية صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير في قوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قال: " ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس ".
ومنها: رواية عبد الله بن مسعود ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) وقد استدل به السرخسي في المبسوط وابن الهمام وقد أشكل على الرواية بأنها مقطوعة يحتمل أن تكون كلامًا، لابن مسعود لا رواية عن النبي صلى الله علية وسلم، وهذا ما أكده ابن عابدين حين نقل قول العلاء إذ قال: لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه أخرجه الإمام. أحمد في مسنده. (1) .
على أن الاستدلال هنا أضيق من المدعى فما أكثر الأعراف غير المعللة بالحسن ومع ذلك فالحديث يشير إلى صغريات حكم العقل أو الإجماع.
ومنها: قولهم أن الشارع راعى الكثير من أعراف العرب واعتبر الإمام مالك عمل أهل المدينة إجماعًا كافيًا ودليلًا شرعيًّا عند عدم النص.
والحقيقة أن ذلك لتوافق تلك الأعراف مع تعاليم الشارع وكشفها عنها لا غير لا لأنها مراجع أصلية يرجع إليها كمقررة للحكم الشرعي.
ولم أجد أدلة قوية أخرى يعتمد عليها في البين.
وخلاصة البحث:
إن العرف ليس أصلًا من أصول الفقه وإنما يرجع إليه في بعض المجالات للكشف عن السنة أو تشخيص المرادات.
الشيخ محمد علي التسخيري.
(1) رسائل ابن عابدين2 /113.