المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الخامس

- ‌حول تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌تنظيم النسل أو تحديدهفيالفقه الإسلاميإعدادالأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي

- ‌تنظيم النسل ورأي الدين فيهإعدادالدكتور/ محمد سيد طنطاوي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ د. الطيب سلامة

- ‌رأي في تنظيم العائلةوتحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌مسألة تحديد النسلإعدادالدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالدكتور مصطفى كمال التارزي

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ رجب بيوض التميمي

- ‌تناسل المسلمينبين التحديد والتنظيمإعدادالدكتور أحمد محمد جمال

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ محمد بن عبد الرحمن

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالأستاذ تجاني صابون محمد

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالحاج عبد الرحمن باه

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادالشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌تحديد النسل وتنظيمهإعدادالشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌تنظيم النسل وتحديدهإعدادأونج حاج عبد الحميد بن باكل

- ‌تحديد النسلإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تنظيم النسل وتحديده فيالإسلامإعدادالدكتور دوكوري أبو بكر

- ‌تنظيم الأسرةفي المجتمع الإسلاميالاتحاد العالمي لتنظيم الوالديةإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

- ‌تنظيم النسلوثيقة من المجلس الإسلامي الأعلىبالجمهورية الجزائرية

- ‌قوة الوعد الملزمةفي الشريعة والقانونإعدادالدكتورمحمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الوفاء بالوعدفي الفقه الإسلاميتحرير النقول ومراعاة الاصطلاحإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌الوفاء بالوعدإعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي

- ‌الوفاء بالوعد وحكم الإلزام بهإعدادالشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌الوفاء بالوعد في الفقه الإسلاميبقلمالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌الوفاء بالعهد وإنجاز الوعدإعدادفضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه

- ‌الوفاء بالوعدإعدادالشيخ شيت محمد الثاني

- ‌المرابحة للآمر بالشراءبيع المواعدةالمرابحة في المصارف الإسلاميةوحديث ((لا تبع ما ليس عندك))إعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌المرابحة للآمر بالشراءدراسة مقارنةإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌المرابحة للآمر بالشراءنظرات في التطبيق العمليإعدادالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور سامي حسن محمود

- ‌نظرة شمولية لطبيعة بيعالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌بيع المرابحة للآمر بالشراءفي المصارف الإسلاميةإعداددكتور رفيق يونس المصري

- ‌نظرة إلى عقدالمرابحة للآمر بالشراءإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعيوآراء الفقهاء المتقدمينفيهإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بحث السيد إيريك ترول شولتزعندراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك

- ‌بحث الدكتورأوصاف أحمدعنالأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفيالإسلامي

- ‌تغير قيمة العملة في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور عجيل جاسم النشيمي

- ‌النقود وتقلب قيمة العملةإعدادد. محمد سليمان الأشقر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادأ0 د يوسف محمود قاسم

- ‌أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزاماتإعدادد. على أحمد السالوس

- ‌تغير العملة الورقيةإعدادالدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌تذبذب قيمة النقود الورقيةوأثره على الحقوق والالتزاماتعلى ضوء قواعد الفقه الإسلامي

- ‌تغيير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌موقف الشريعة الإسلامية منربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعارإعدادعبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌مسألة تغير قيمة العملةوربطها بقائمة الأسعارإعدادالدكتور محمد تقي العثماني

- ‌المعاملات الإسلامية وتغيير العملةقيمة وعينًاإعدادالشيخ/ محمد الحاج الناصر

- ‌تغير قيمة العملةإعدادالشيخ محمد علي عبد الله

- ‌تغير قيمة العملة والأحكامالمتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌بيع الاسم التجاريإعدادالدكتور عجيل جاسم النشمي

- ‌بيع الحقوق المجردةإعدادالشيخ محمد تقي العثماني

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌الحقوق المعنوية:حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاريطبيعتهما وحكم شرائهماإعدادالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌بيع الأصل التجاري وحكمهفي الشريعة الإسلاميةإعدادالشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأصل التجاريإعدادالدكتور – محمود شمام

- ‌الحقوق المعنويةبيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور عبد الحليم محمود الجنديوالشيخ عبد العزيز محمد عيسى

- ‌الفقه الإسلامي والحقوق المعنويةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعهاإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بيع الاسم التجاري والترخيصإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكوالصور المشروعة فيهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌الإيجار الذي ينتهي بالتمليكإعدادالشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعدإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التأجير المنتهي بالتمليكإعدادالدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور يوسف القرضاوي

- ‌مسألة تحديد الأسعارإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌بحثتحديد أرباح التجارإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌العرفإعدادالشيخ خليل محيى الدين الميس

- ‌ موضوع العرف

- ‌العرفإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌نظرية العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم فاضل الدبو

- ‌العرفإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادد. عمر سليمان الأشقر

- ‌العرف (بحث فقهي مقارن)إعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌العرف في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌العرف بين الفقه والتطبيقإعدادمحمود شمام

- ‌العرف ودوره في عملية الاستنباطإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌العرفإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌منزلة العرف في التشريع الإسلاميإعدادالشيخ محمد عبده عمر

- ‌تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميةإعدادأ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌أفكار وآراء للعرض:المواجهة بين الشريعة والعلمنةإعدادالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌تطبيق الشريعةإعدادالدكتور صالح بن حميد

الفصل: ‌تحديد أرباح التجارإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

‌تحديد أرباح التجار

إعداد

الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على أفضل الأنبياء والمرسلين

المقدمة:

لا شك أنَّ اختلاط المسلمين اليوم بغيرهم، وتطور الحريات العامة، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان بقطع النظر عن الجنس، أو الدين أو اللغة، أو الإقليم، إضافة إلى سهولة المواصلات وسرعتها وتنوع وسائل الإنتاج، وتصاعد حاجات الإنسان، كلها مؤثرات بالغة الأهمية في نمو ربح التاجر، وتنوع مصادره، فإذا ما تضافرت كلها وترك لها الباب مفتوحًا، فإن تفاحش الربح والبحث عنه لا محالة سيؤدي إلى فوضى اجتماعية، وانتهاكات دينية تخل بسلامة المجتمع الإنساني بصفة عامة، كما ستهدر قيم المجتمع الإسلامي بصفة خاصة.

ويثبت ذلك ما يشاهد اليوم في النظام الرأسمالي الغربي، الذي أصبحت الشركات الكبرى هي التي تتحكم في مصيره مكرسة كل طاقات الدول لخدمة ربحها المتنامي بصرف النظر عن كل شيء يخدم الربح على أبشع صور الاستغلال، والاستنزاف.

وبموازاة ذلك تعيش مراكز البيروقراطية في المعسكر الاشتراكي جاعلة من طاقات الإنسان وسيلة لرفاهية مدراء المكاتب، والمؤسسات العسكرية على حساب حرية الفرد واختياره وتنمية جهوده، ليصبح عبد التوجيه الذي لا يرحم، ولا يسمن ولا يغني، ولعل ما يلاحظ اليوم من عجز النظامين عن حل أبسط المشاكل اليومية للإنسان يحتم علينا نحن المسلمين أن نرجع لنظريات الإسلام، بإبرازها للعالم كبديل قادر على تجنب كثير من مساوئ التجارب البشرية، التي أعطيت لها كل الفرصة الزمنية فعجزت عن حل أبسط مشاكل الفرد والجماعة، إذ في الوقت الذي يبحث خبراء العالم عن البدائل يجدر بنا نحن المسلمين أن نقدم لهم البديل جاهزًا، وقد أتت جل قواعده من الله لصالح عباده، ثم إن تلك التعاليم قد خضعت لمحك التجربة فأعطت أنها صالحة أيام ازدهار دولة الإسلام.

كما أن جُلَّ النظريات الصالحة في سجل الفكر البشري لعالم اليوم، إذا لم تكن مقتبسة في جلها من تعاليم الإسلام، فإنها أتت شديدة التأثر به، ونعني كل القوانين، سواء كانت في إطار نظريات اقتصادية أو قواعد مدنية، مما يحتم علينا نحن أصحاب تلك الشريعة الإسلامية الخالدة أن نعيد تجاربنا في الحياة استنادًا إليها وتطبيقًا لنصوصها، كما يجب علينا أن نتعرف على نصوصها، ونقدم أسسها لأبناء اليوم بأسلوب يحافظ على تعاليمها، وينسجم مع أساليبهم الدراسية.

ص: 2285

لذا، فإن جهود المجمع الفقهي الإسلامي بجدة بفضل الخبرة والحنكة، والاطلاع الواسع الذي يتميز به أمينه العام، العالم الجامع، والمجرب الغيور على وطنه الإسلامي، وعلى عقيدته الإسلامية الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، قد أحسن صنعًا بتنظيم هذه الندوات التي تقرب بعيد الفقه الإسلامي وتجمع شتاته من حنايا ذلك الزخم العظيم من المؤلفات الفقهية التي أصبحت تعج بها المكتبات ويلفها النسيان في طياته، بحيث أوشكت أن تدخل في عداد الرصيد التاريخي الذي يعتز به اليوم، ولا سبيل إلى تطبيقه، وليس لذلك من سبب سوى قصور الهمم والارتماء في أحضان المستورد من الغرب أو الشرق، والحكم بأنه الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمات كان ذلك المستورد هو السبب فيها.

وللمساهمة في هذا اللقاء المبارك سندرس الموضوع من خلال النقاط التالية:

1-

التعريف بالتجارة.

2-

بيع المرابحة.

3-

التسعير.

4-

سلامة الربح من العيوب الشرعية.

5-

تحريم الاحتكار.

6-

مبررات تدخل الدولة لتنظيم الربح.

7-

الخاتمة.

1-

التعريف بالتجارة:

لقد تمَّ تعريف التجارة في كتب التفسير وكتب الفقه حكمًا، كما ورد تعريفها في المعاجم لغة، وأيضًا ورد ذكر التجارة في كتاب الله العزيز عدة مرات، منها ما يدل على المعاوضة ومنها ومنها ما يدل على الربح الذي يناله العبد ثوابًا من ربه جزاء على فعله للصالحات، واجتنابه للمنهيات ففي موضوع المعاوضة، قال الله عز وجل في الآية 29 من سورة النساء:{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلَاّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}

قال القرطبي في تفسيره: التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الأجر الذي يعطيه الباري سبحانه وتعالى لعبده عوضًا عن الأعمال الصالحة.

ص: 2286

والتجارة نوعان:

تقلب في الحضر من غير نقله ولا سعر، وهذا تربص واحتكار وذكر أنه غير حسن.

والثاني: تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار، فهذا أليق بأهل المروءة وأعم جدوى ومنفعه غير أنه أكثر خطرًا وأعظم خوفًا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن المسافر لعلى "قلت" (1) . إلا ما وقى الله "قيل في التوارة" يا ابن آدم أحدث سفرًا أحدث لك رزقًا)) .

فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، غير أن قول الآية الكريمة "بالباطل" أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعًا "عندنا نحن المسلمين" من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد، كالخمر والخنزير، وغير ذلك، وخرج منها كل عقد جائز لا عوض فيه مثل الهبة والوقف.

هذا تعريف القرطبي للتجارة عند تفسيره للآية السالفة.

وأثناء تفسير المرجع المذكور لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] ، والتركيز على أن الله حذر من أكل أموال الناس بالباطل قال بأن الغبن اليسير لا يثير شبهة، وغايته من ذلك الربح العادي، فقال: إلا أن تكون أموال تجارة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

وقد ورد ذكر التجارة في القرآن الكريم عدة مرات نذكر منها ما يلي: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الآية 282 من سورة البقرة] .

ثم الآية: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [من الآية 24 من سورة التوبة] .

ومن الآية 37 من سورة النور، وهي:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية، ووردت التجارة بمعنى الأجر عند الله في الآية الكريمة:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [الآية 29 من سورة فاطر] .

ووردت بنفس هذا المعنى في الآية 10 من سورة الصف، وهي: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

} الآية، وورد لفظ التجارة يرمي لنفس المعاوضة المادية عند قول الله عز وجل:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الآية 11 من سورة الجمعة] .

(1) لخطر.

ص: 2287

وفي اللغة قال القاموس: التاجر الذي يبيع ويشتري، وبائع الخمر، الجمع تجار وتجار وتجر وتجر كرجال وعمال، وصحب وكتب، والحاذق بالأمر والناقة النافقة في التجارة وفي السوق كالتجارة، وأرض متجرة يتجر فيها، وإليها، وقد تجر تجرًا وتجارة وهو على أكر تاجرة على أكرم خيل عتاق.

وفي الحديث الشريف: ((التاجر الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)) ، وعن أبي داود قال: حدثنا مسدد، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرة، قال: كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نسمي السماسرة، فمر بنا النبي صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه، فقال:((يا معاشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) .

قال شمس الحق العظيم أبادي في كتابه عون المعبود على سنن أبي داود:

البيع لغة مبادلة المال بالمال، وكذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي، وإنما جمعه دلالة على اختلاف أنواعه، والحكمة في شرعية البيع أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه لا يبذله ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج (1) .

وما دمنا غير مطالبين بالحديث عن التجارة إلا في حدود تبيين الأساليب التي رسمها الفقه الإسلامي لمراقبة أرباح التاجر، فإننا نكتفي بهذا القدر اليسير من التعريف للتعرض بصفة وجيزة أيضًا لنماذج من المعاوضات التي يجني منها التاجر ربحًا، جاعلين الأساس هو تفسير القرطبي للآية الكريمة رقم 29 من سورة النساء حيث قال: إن الربح جائز بإجماع، وهو تفاوت الثمن الذي حصل التاجر بوساطته على بضاعة ما، والقدر الذي باعها به فيكون الربح هو الفرق الحاصل بين رأس المال، وبين قيمة الشراء الجديد، ولم يرَ القرطبي بأسًا في حصول التاجر على ربح يغبن غير فاحش على أن يكون الثمن الأصلي معروفًا، والشاري لم يغرر به ولم يكن جاهلًا لحال السوق غير أنه إذا وصل الثلث أصبح غبنًا فاحشًا يمكن مراجعة العقد بسببه، واستدل للتفاوت بعدة أحاديث منها حديث الأمة الزانية والقائل:((فليبعها ولو بضفير)) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في الحديث الشريف: ((لا تبعه)) يعني الفرس ولو أعطاكه بدرهم واحد وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعو الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) ، وقوله عليه السلام:((لا يبعْ حاضر لباد)) .

(1) عون المعبود على سنن أبي داود: 9/173.

ص: 2288

قال ابن وهب من المالكية، فيها تفصيل بين القليل والكثير، كالثلث ولا غيره، ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة إلى سن مبدأ التراضي، الذي يجعل كل واحد من الطرفين يمحص ماله وما عليه، ومن الأفضل احترام إرادتهما إذا أنشأت عقدًا تمت فيه استفادة كل واحد منهما بما في يد صاحبه، مما يحسبه ربحًا ساعة إبرام العقد.

على أن الربح لكي يكون عادلًا ينبغي أن يتميز بالعدل فلا يستنزف البطاقة المادية للشاري، ولا يبخس بضاعة ومجهود البائع، وهذا ما دعي إليه الحديث الشريف المتقدم ذكره ((التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)) .

ويكره للتاجر الحلف من أجل ترويج بضاعته، وعليه أن لا تشغله عن ذكر الله وعن الصلاة.

ولا يكون الربح مباحًا وسليمًا إلا إذا سلم من الغبن، والتدليس والنجش وجملة البيوع المنهي عنها كبيع الأشياء المحرمة من خمر وقمار، ولحم خنزير، وجملة أنواع بيوع الربا، فإذا سلم العقد من هذه الشوائب وحصل التاجر على ربح ولو كثيرًا فصرفه في أوجه البر فأعطي منه في النائبات وأدى زكاته، وأعان منه المسلمين في المجهود العام لفائدة نشر الإسلام والحفاظ عليه، واستثمره في الرواج الاقتصادي للتخفيف من البطالة، وتطوير وسائل الإنتاج العام لدولة الإسلام بصفة عامة كان من الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، والذين قال فيهم الله:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الآية 261 من سورة البقرة] .

فإن أنفق التاجر على الضعفاء والأيتام وأدى الزكاة وأعطى في النائبات كان من الذين عيَّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديث الشريف: ((ذهب أهل الدثور بالأجر)) من الوعيد النازل في المكتنزين بحكم قول الله عز وجل: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [الآيتان 34، 35 من سورة التوبة] .

فإذا ما تجنب التاجر المنهيات ولم يتعاط المحرمات، ولم يتخلف عن الجوانب في النائبات استحق شكر الناس في الدنيا ورحمة الخالق في الآخرة، ومن هنا نتبين أن مراقبة أرباح التاجر في الشريعة الإسلامية هدفها هو أن تنمو طبقة الموسرين وهم محبون عند الله وعند الناس يغبطهم المصلحون، ولا يضرهم حسد المسيئين.

ص: 2289

وإذا كان الفقه الإسلامي يفضل ترك الحرية للمتابعين ليحني كل واحد منهما منفعة أثناء تعاقده مع الآخر، فإنه إضافة إلى ذلك وضع الإطار الشامل لمراقبة الربح، حيث سن قواعد ونصوصًا تمكن من رقابة البيع، وما يحصل عنه مِنْ رِبْحٍ، ولم تترك القواعد مجالًا يمكن أن يمر منه التاجر إلى الربح، إلا ونظمته، فالمبدأ هو أن الإنسان يمكن أن يبيع ما له بما شاء بأقل مما كلفه، أو بأكثر منه، أو بنفس المبلغ.

غير أن تلك الحرية تفرض عليها قيود تهدف إلى تحقيق الصالح العام للجماعة، فإذا خفض المالك ثمن بضاعته، وتبين أن ذلك التخفيض من شأنه أن يضر ببقية التجار مما يمكن أن يحملهم على ترك تزويد السوق بما يحتاج إليه العامة، يؤمر المخفض بأن يبيع بمثل بيع السوق، وإلا فلينتقل عنه، وهذا المبدأ يجعلنا نقول بأن الربح في بعض صوره يتعلق بالنظام العام للجماعة، ولولي أمرها أن يراقبه، محافظة على المصالح العامة.

وإذا كان التاجر غير ملزم ببيان كل جزئيات بضاعته، فإنه إذا سئل أو تبرع بالإخبار تحتم عليه أن يقول الحقيقة رفعًا لكل لبس، وإذا أصاب البضاعة عيب مؤثر وجب عليه أن يبينه، قال خليل في مختصره "وجب تبيين ما يكره".

ويحرم النجش والاحتكار والغبن بالتغرير، ويحرم أن يدخل على سوم أخيه، ويحرم أن يبيع حاضر لباد وعليه مراعاة أحوال التسعير التي يفرضها الحاكم على السوق.

هذه إشارات لما يجب أن يتحلى به التاجر في سوق الأمة الإسلامية، فإذا طبقت بنزاهة أصبحنا أمام وضع اقتصادي يجعل الأمة الإسلامية كما هي نموذجًا في معتقدها وسلوكها، تكون كذلك نموذجًا في مبادلاتها التجارية، فتتحكم الروح الإنسانية، وتنتفي الطبقية، ويسود التآلف والتآخي بين مختلف طبقات المجتمع، وتعريف الفقه الإسلامي للبيع هو تعريفه للتجارة، ومن خلال دراسة أنواع البيوع نتعرف على الربح الجائز أو المنهي عنه، كما نتعرف على أنواع النهي، إذ بعض النهي يتعلق بعقاب الآخرة، وتبقى الرقابة فيه لضمير المسلم فيما بينه وبين ربه، بينما تبقى أنواع أخرى من الرقابة للحاكم التدخل في شأنها رعيًا لمصالح الناس.

قال صاحب التحفة الحكام:

ما يستجاز بيعه أقسام

أصول أو عروض أو طعام

أو ذهب أو فضة أو ثمر

أو حيوان والجميع يذكر

قال عبد السلام التسولي في شرح بيتي محمد بن عاصم هذين، ما ملخصه:

البيع لغة مصدر باع الشيء إذا خرجه من ملكه بعوض، أو أدخله فيه فهو من أسماء الأضداد يطلق على البيع والشراء.

ص: 2290

وهو إما بيع عين بعين، أو عرض بعرض، فإن بيع بالميزان يسمى مراطلة، وإن بيع بالعدد سمي مبادلة وإن عينا شرط فيه التناجز وسمي صرفًا ويجب على متعاطي البيع أن يعلم حكم الله فيه، وإن بيع بناجز في أحد العوضين ومؤجلًا في الثاني سمي سلمًا (1) .

قال ابن العربي في القبس على موطأ الإمام مالك: البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم.

2-

المرابحة:

قال ابن رشد في بداية المجتهد: "أجمع جمهور الفقهاء على أن البيع صنفان مساومة ومرابحة، وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا ما للدينار أو الدرهم".

ثم تعرض خلافهم حول ما يصح للبائع أن يضمه إلى ثمن السلعة من المصاريف التي تحملها عليها، أي ما يمكن أن يحسب من رأس المال، وما لا يمكن أن يحسب منه ولخص مذهب مالك في الزوائد التي تطرأ من بعد رأس المال في ثلاث حالات: هي قسم يعد من الثمن ويكون له حظ من الربح وهو ما كان مؤثرًا في عين المحل " محل العقد " كالخياطة والصبغ.

وقسم بعد من أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح، وهو ذلك الذي يمكن للبائع أن يتولاه بنفسه، ولا يؤثر في السلع ككراء البيوت التي توضع فيها ونقلها من مكان قريب.

وإن تطور الكراء والنقل اليوم ليعترضان على التسليم بإمكانية تطبيق هذا الحكم بدون خسارة التاجر.

وأما ما لا يحسب فيه التاجر الأمرين معًا فهو ما ليس له تأثير في حال المبيع، كالسمسرة، والطي والشد، فلا يحسب على عين السلعة ولا على الربح (2) .

وقد عزى ابن رشد لأبي حنيفة القول الآتي وأنه أقرب إلى الإنصاف وعدم تعرض أي من الطرفين لأي حيف والقول المنسوب لأبي حنيفة هو: أن البائع يحسب على رأس مال السلعة كلما نابه عليها من مصاريف النقل والإصلاح ثم يطلب ربحه من بعد ذلك كله.

قال أبو ثور، لا تجوز المرابحة إلا بالثمن الذي يشتري به البضاعة فقط، واختلف ابن القاسم، وأشهب فيمن اشترى سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها بعروض، أو بنقود فقط؟

(1) البهجة على شرح التحفة: 1/2.

(2)

بداية المجتهد:2/214.

ص: 2291

فابن القاسم أجاز بيعها بالعروض أو بالنقود، بينما أشهب لم يجز بيعها بالعروض مثلما شريت بها.

واختلفوا أيضًا في حكم من ابتاع سلعة مرابحة بثمن ذكره، ثم ظهر بعد ذلك، إما بإقراره وإما بالبينة أن الثمن كان أقل مما ذكر، والسلعة مازالت قائمة، فمالك وجماعة أعطوه الخيار بأخذها بالثمن الذي أعطاه فيها أو ردها إذا كانت موجودة، وفسخ البيع، بينما أبو حنيفة وزفر قال بأن المشتري على الخيار دائمًا، نظرًا لاكتشاف كذب البائع، وإعطائه أوصافًا تناقض الواقع، والفرق هو أن مالكًا الزم الشاري بأخذ السلعة الموجودة بنفس الثمن الصحيح، وأبو حنيفة منح الشاري الخيار على الإطلاق ولا يلزمه الأخذ بالثمن أن الزمه البائع به، وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة، بل يبقى البيع لازمًا لهما بعد حط الزيادة، وعن الشافعي القولان: القول بالخيار مطلقًا والقول باللزوم بعد الحط.

إن نفس الاتجاه الذي تناول به ابن رشد المرابحة بمختلف أساليبها لهو نفس الأسلوب الذي اتبعه الرافعي أثناء شرحه للمهذب، وأيضًا نفس الحالات التي تناولها السرخسي، وكتاب الأم للشافعي، إذ كل واحد منهم تناول مختلف أوجه الخلاف على حدة، وبما أننا نحاول من خلال هذا البحث أن نبين مختلف أوجه رقابة الفقه الإسلامي لأرباح التاجر ينبغي لنا أن نمر بسرعة على بعض أقوالهم في الموضوع من خلال ما يلي:

يجوز أن يبيع السلعة مرابحة، وهو: أن يقول رأسمالها مائة وقد بعتها برأس مالها درهم في كل عشرة، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بده، وبازده، وده وزاده (1) ، ولأنه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة إلا عشرة، ويجوز بيع بعضه مرابحة، فإن كان لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد والواحد قسم الثمن على أجزائه، وباعه ما يريد منه بحصته.

وإن كان مما يمكن أن يقسم، وزع الثمن على أجزائه بحسب حصة كل واحد منهما في المبيع، والأصل في هذا هو حديث الذهب الذهب. يدرك من هذا أن المرابحة بأحكامها جائزة.

ولكن كره بعض صورها ابن عباس وابن عمر ولم يجوزها إسحاق بن راهويه، واتفقوا على أنه إذا اشتري بثمن مؤجل لم يجز بمطلق بل يجب البيان، وقال الأوزاعي: يلزم العقد إذا أطلق، ويثبت الثمن في ذمته مؤجلًا، وقال أبو حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد يثبت للمشتري الخيار إذا لم يعلم بالتأجيل.

(1) ده عشرة بالفارسية، وبازده أحد عشر وده وازده اثنا عشر. انظر تفصيل هذا في فتح العزيز للرافعي شارحًا فيه المهذب للنووي 13/3.

ص: 2292

ووجه هذه المسائل بواعث مختلفة بينهم، بين متشدد ومخفف على البائع، أو على المشتري بحسب مداركهم، فالشافعي يجيز بيع السلعة برأس مالها أو أقل أو أكثر من البائع وغيره قبل نقد الثمن أو بعده.

وأحمد وأبو حنيفة ومالك لا يجوز عندهم بيعها بأقل من الثمن الذي ابتاعها به قبل نقد الثمن في المبيع الأول، ويجوز أن يبيع ما اشتراه مرابحة بالاتفاق، وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح.

قال في مجمع الأبحر: المرابحة بيع ما شراه بما شراه به، وزيادة، والتولية بيعه بلا زيادة والوضيعة بيعه بأنقص منه، قال الرافعي عند استعراضه لهذه الآراء بأنه يرى أن تضاف نفقات الصناعة، والطراز والنقل إلى رأس المال مع بيانها (1) ، وهذا رأي أرى أنه صادف الصواب وإن اتفقا على ثمن حط عنه منه شيء، فإن كان ذلك قبل إمضاء البيع عد من رأس المال، وإن كان من بعد إمضاء البيع عد تبرعًا وأصبح غير مطالب بإضافته إلى رأس المال.

وأجاز النووي في بعض أوجه الخلاف أن يقول رأس ماله عشرة مثلًا ويكون اشتراه بثمانية، وطرزه باثنين؛ لأن رأس المال هو كل ما وزن فيه في بعض الروايات، مع أن آخرين خالفوا وقالوا لا يقول إلا قام علي وقد أتينا بتفصيل ذلك عند السرخسي في مكان آخر من هذا البحث. وأصل مسألة المرابحة أحاديث عدة، أهمها الحديث الذي أخرجه مسلم والنسائي، وابن ماجه، عن عبادة بن الصامت باللفظ المشهور، وهو:((الذهب الذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء، يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيدا)) .

وروى أبو داود بنحوه، وفي آخره ((وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدًا بيد كيف شئنا)) .

قال النووي ما معناه: يمكن أن يضيف إلى رأس المال نفقات للصناعة والعمل والنقل، مع بيانها وإيضاحها لمن ابتاعها (2) وآداب تلك الإضافة قال فيها النووي: وعند إضافة شيء إلى الثمن فلا يقول اشتريته، أي المحل بكذا، ولكن يقول: قام علي بكذا، مثل ذلك أن يشتري ثوبًا بخمسة دراهم ثم يقصره بدرهم، ويطرزه بدرهم فلا يقول: اشتريته بستة، ولكن يقول: قام على بستة فيصح له الربح بعد ذلك، ويكون قد احترز من الكذب، يمزج المصاريف مع رأس المال وهو غير مباح عند الجمهور (3) .

(1) فتح العزيز نفس المرجع.

(2)

قد لخصت هذه الأقوال من فتح العزيز 13 /1-5.

(3)

المبسوط للسرخسي 13 /81.

ص: 2293

وإذا ذكر الثمن فيحرم عليه الكذب، ولكن إذا قال: قامت علي بكذا جاز له إدخال كل التكاليف إلا أن إفصاحه عن مبلغ ما كلفته يلزم أن يقول الحقيقة بأمانة، وإذا لم يسأل، أو لم يرد ذكر رأس المال، فليس مطالبًا، إلا في بيع المرابحة فإنه يجب عليه ذكر الحقيقة مفصلة.

وإذا اشترى سلعة بها عيب عليه أن يبينه، وإذا أصابها عيب ثان عنده، كان عليه أن يميز بينهما، لأن الأول من رأس المال والثاني من التكاليف.

وتنظر الشريعة إلى بيع المرابحة بدقة متميزة، ذلك أن الإنسان إذا سكت وباع متاعه بدون استعمال وسائل الغش أو التدليس أو الغبن، فإن ربحه يكون حلالًا، ولا يلزم بأن يعطي تفاصيل جزئيات لا تضر بالثمن ولم يسأل عنها للحديث الشريف ((دعو الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)) أو كما قال.

أما إذا تعرض هو من تلقاء نفسه للتعريف بالثمن أو سأله عن الشاري، فعندما يحرم الكذب ويلزم بأن يميز بين رأس المال والتكاليف، وبين ما جنى من المحل عما كان مرتبطًا به كولد الدابة وثمار الأشجار وما إلى ذلك.

فلابن مسعود وأبي حنيفة أن البائع لسلعةٍ ما عند ضم التكاليف إلى ثمنها فلا يقول رأسمالها، بل يقول قامت على بكذا لأن قوله اشتريت بكذا أكثر من الثمن الحقيقي فيه كذب.

وحديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الخلابة لمسلم)) ، والخلابة بأنواعها معروفة، ومنها الكذب والتدليس والغش، وكتمان العيب. وعلى هذا يقول أبو حنيفة:"لا يقول شريته بكذا، وإنما يقول قام على بكذا".

وإذا أضاف النفقات الأخرى لثمن الشراء ثم ظهرت الحقيقة، للشاري الخيار في أخذه بكل ثمنه أو تركه.

قال في المهذب: فإن ظهر للمشتري خيانة المرابحة خير في أخذه بكل ثمنه، وعند أبي يوسف يحط من الثمن قدر الخيانة مع حصتها من الربح وعند محمد يخير (1) .

ومنهم من أبطل العقد مثل شيخ الإسلام ابن تميمة في فتاويه، وللنووي عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الدارمي والحاكم، والترمذي وحسنه.

ثم قال المهذب بالحرف: "قوله: ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن". كذا هو مقرر في المذهب أنه لا يرابح إلا على الثمن الأخير، وعند أبي حنيفة تمتنع المرابحة إذا شراه ثانية بأقل مما باعه أولًا، وعند الصاحبين محمد وأبي يوسف موافقة المصنف من جواز المرابحة على الثمن الأخير (2) .

(1) المجموع13 /6 للنووي، وبهامشة فتح العزيز للرافعي والكلام له.

(2)

المبسوط للسرخسي 13 /87 وما بعدها إلى نهاية باب المرابحة.

ص: 2294

وعند أبي حنيفة لا يلزم البائع بتبين بعض العيوب الظاهرة التي طرأت للمحل عنده مثل حرق النار أو قرض الفأرة، أي لا يجب عليه أن يقول: اشتريته سليمًا فأصابه هذا العيب عندي، وعلة هذا عنده أن ظهور العيب كافٍ لنزع مقابله من الثمن "لأن الفائت وصف بلا صنع أحد" هذا فيما يتعلق ببيان الثمن قبل العيب.

أما العيب نفسه فيجب بيانه بالكتاب والسنة والإجماع لحديث العداء بن خالد الذي روته الجماعة، وهو: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا ما باع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للعداء بن خالد بيع المسلم للمسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة)) (1) .

هذا إذا كان البيع مرابحة والعيب خفيف، أما إذا وصل العيب إلى درجة تسوق إلى الغبن فإن التساهلات المنسوبة إلى أبي حنيفة قبل سياق لفظ الحديث، لا بد من عدم التمسك بها. وإلا يكون الحكم الذي أعطاه لهذه المسألة غير معلل.

قال الإمام الباجي في المنتقى ما ملخصه:

قال مالك في الأمر المجتمع عليه: عندنا في البز يشتريه الرجل ببلد ثم يقدم به بلدًا آخر فيبيعه مرابحة، إنه لا يحسب فيه أجر السماسرة ولا أجر الطي ولا الشد ولا النفقة ولا كراء البيت، فأما كراء البز في حملانه فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك فإن ربحه على ذلك بعد العلم به فلا بأس به.

وأما القصارة والصبغ والخياطة وما أشبه ذلك فعند مالك، فإنه يحسب فيه الربح كما يحسب في البز.

وكراء البز في حمله فهو يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح، إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك كله.

وأما الثمار، وكراء الرقيق والدواب، فقد قال ابن القاسم في المدونة: من اكترى ذلك كله زمانًا إذا لم تحل الأسواق فلا بأس أن يبيع مرابحة بلا تبيين إلا أن يطول الحال فإن عليه آنذاك التبيين، لإمكانية تغير حال السوق؛ وعزي لابن القاسم عن مالك أن من اشترى سلعة فحالت أسواقها، فلا يبيع مرابحة حتى يبين، وإن زادت الأسواق، لأن الناس في الطريق أرغب وظاهر المذهب المنع من ذلك".

(1) المجموع شرح المهذب13 /6.

ص: 2295

وإنما جاز أن يراعى اختلاف الأسواق دون زيادة العين أو نقصها، ووجه آخر هو أن بقاء السلعة مدة طويلة يدل على غلاء شرائها، وعلى زهد الناس في عينها ولذا لم يجز (1) . كتم حالها فعليه أن لا يبيع مرابحة حتى يبين جميع أحوالها وأوصافها. قال ابن حبيب: ليس عليه أن يبين، وقال ابن القاسم: في الزيادة أعجب لي أن لا يبيع حتى يبين ولم يفصل بين قرب المدة وطولها، وهذا في زيادة العين والقيمة، فأما النقص من ذلك فمانع من البيع، إلا أن يبين.

استطرد أبو الوليد مواقف الإمام مالك في هذه المسألة إلى أن قال: "ولو اشترى سلعًا فباع بعضها مرابحة، فلا يخلو أن تكون غير مكيلة أو موزونة، كالثياب والحيوان، فإن كانت معينة لم يجز أن يبيع بعضها مرابحة حتى يبين، قاله ابن القاسم وزاد ابن عبدوس كذلك الرجلان يشتريان البز فيقسِّمانه، لا يبيع أحدهما مرابحة حتى يبين حاله، ووجه ذلك إذا شملهما عقد بيع، فلا يختص بعضها بحصة من الثمن إلا بعد التقويم، والتقويم قد تدخله الزيادة، والنقصان. فلا يلزم ذلك المشتري حتى يبين له، فإن لم يبين فللمشتري الرد إن شاء ما لم تفت، فإن فاتت فالقيمة يوم القبض".

ومن الصور المهمة التي تعرض لها أبو الوليد في شرحه للموطأ مسألة بيع "سلعة مرابحة قامت عليه بمائة للعشرة أحد عشر، ثم جاء بعد ذلك أنا قامت عليه بتسعين يحتمل أن يكون البائع غلط، وظن أنها قامت عليه بمائة فباع، ثم جاء العلم أنها قامت عليه بتسعين أو أن البائع زاد في الثمن عمدًا، فإذا أحب عند اتضاح الأمر أن يأخذها بجميع الثمن فله ذلك أو يردها، ولا يلزم البائع بالثمن الأول إلا إذا رضي، أي لا يلزم بتفويتها له بتسعين إلا برضى للبائع وفي المسألة خلاف أخذنا هنا بشطره، وأما أيهما له الخيار، فإذا لم تفت السلعة فالخيار للبائع بين أن يرد، أو يحبس بجميع الثمن، فإن رد خير البائع بين أن يرد أو يحط، الكذب وربحه فيتم البيع".

قال مالك: وإن باع رجل سلعة مرابحة، فقال: قامت على بمائة دينار ثم جاء بعد ذلك أنها قامت بمائة وعشرين دينارًا خير المبتاع، فإن شاء أعطى البائع قيمة السلعة يوم قبضها، وإن شاء أعطى الثمن الذي ابتاع به على حساب ما ربحه بالغًا ما بلغ، إلا أن يكون ذلك أقل من الثمن الذي ابتاع به السلعة فليس له أن ينقص رب السلعة من الثمن الذي ابتاعها به، لأنه قد كان رضي بذلك، وإنما جاء رب السلعة يطلب الفضل فليس للمبتاع في هذا حجة على البائع، بأن يضع من الثمن الذي ابتاع به على البرنامج (2) .

(1) المنتقى 5 /47.

(2)

المدونة الكبرى ص32.

ص: 2296

وهذا ما ذهب إليه ابن رشد في البيان والتحصيل حيث أكد أن أقدمية الشيء عند البائع تحول بينه، وبين بيعه مرابحة، إلا إذا بيَّن حالها يوم الشراء، ثم يوضح الأوصاف التي طرأت عليها عنده، فإن باع مرابحة أو مساومة، وقد طال مكث المبتاع عنده ولم يبين فهو بيع غش وخديعة، وإن فعل وظهر للشاري عكس الأوصاف التي أخذها عليها كان له الخيار، بين الرد والإمساك، ويرد في الفوات إلى القيمة إذا كانت أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة، في البيع.

وفى حكم آخر أنه يحكم له بحكم من باع وزاد في الثمن وكذب به، وتكون القيمة في ذلك يوم القبض للمبيع كالثمن الصحيح في بيع الكذب، فتكون فيه القيمة إذا فات يوم القبض إلا أن تكون أقل من قيمتها يوم البيع فلا ينقص من ذلك شيئًا، وإن كانت أكثر من الذي باع به فلا يزاد عليه وهو مذهب سنحون (1) .

ويمكن أن نلخص جميع أقوال المالكية في أن المدونة تعرضت لنحو اثنين وعشرين نموذجًا من الحالات التي يمكن أن يتم عليها بيع المرابحة، فشددت على مراقبة الربح فيها حتى لا يتم شراء لشيء مجهول، ثم دفع فيه ربح غير عادل، قال خليل في المختصر: جاز مرابحة والأحب خلافه، ولو على مقوم، وهل مطلقًا أو إن كان عند المشتري؟ تأويلان وحسب ربح ماله عين قائمة كصبغ وطرز وخياطة وفتل وكعهد وتطرية، وأصل ما زاد في الثمن كحمولة وشد، وطي أعيد أجرتهما وكراء بيت لسلعة إلى آخر الفصل.

لقد تعرض المختصر في هذا الفصل لكل أنواع المرابحة التي رأينا الخلاف في شأنها فبين مواقف المالكية منها.

قال شارحه الرهوني لابن المواز عن محمد بن رشد:"يضم إلى رأس المال منها ماله عين قائمة في المتاع، ويكون له قسطه من الربح، ولا يضم إليه ما لا تأثير له في عين المتاع مما يمكن توليه بنفسه لا في رأس المال ولا في ربحه، وما لا يمكن توليه بنفسه، مثل كراء المتاع ونقله من بلد والسمسرة فيما جرت العادة فيه بأن لا يباع إلا بواسطة فيضم ما ألزمه عليه إلى رأس المال ولا يكون له قسط من الربح"(2) .

(1) البيان والتحصيل 8 /373.

(2)

انتهى بلفظه من حاشية الإمام الرهوني5 /206.

ص: 2297

ولا أستطيع فهم هذا الموقف بسهولة لأن التاجر عليه أن يحسب الربح بعد كل الخسارة وأجرة هذه الأشياء هي من تكاليفه التي إذا لم تحسب في الربح تعرض الخسارة.

وهذه الحالات طالبوا البائع فيها بالإخبار عند البيع فكالزيادة، فإن أراد أن يبيع مرابحة أخبر بالثمن، ولكن يمكنه أن يخبر أيضًا بالتكاليف، وإذا أخذ الفوائد – أو الربح أو الناتج – لم يلزمه تبين مقدار ما جنى، ولابن المنذر عن أحمد أنه يلزمه تبيين ذلك، وعند ابن قدامة أنه إذا صدق في الأوصاف من غير تغرير جاز عدم التعرض لما سلف في المنافع.

ومن المراقبة على أرباح التاجر مواقفهم من التولية، وهي:

أن يقول: ولني ما اشتريته بالثمن، فقال: وليتك. صح إذا كان الثمن معلومًا لهما، فإن جهله أحدهما لم يصح.

ولو اشترى ثوبين بخمسة دراهم فلا يجوز أن يبيع أحدهما بخمسة بلا بيان.

وإذا أخبر أن رأس المال مائة مثلًا، وعلي أنه يبيع المحل برأس المال وربح 10 % جاز، وفيه أقوال بالكراهة نجمل أقوال المجموع فيها في الفقرات التالية:

متى باع شيئًا برأس مال وربح عشرة ثم علم بتبيينه أو إقراره أن رأس ماله تسعون فالبيع صحيح، لأنه زيادة في "الثمن" فلم يمنع صحة العقد كالعيب، وللمشتري الرجوع على البائع بما زاد في رأس المال، وهو عشرة وحطها من الربح (1) .

فإذا رفع المال ليزيد من الربح الذي هو عشرة في المائة، فأمام هذه الحالة أبو حنيفة منح الشاري الخيار بين الأخذ بكل الثمن أو الترك قياسًا على الموقف من المحل المعيب.

وعند الشافعي في أحد قولين عنه يخير بين الأخذ بكل الثمن، أو الترك، ونفس الحكم عند أحمد بن حنبل حسب رأي ابن قدامة، وخالفه الخرقي، إذ لم يمنح الشاري الخيار، إذ يرى أن الشاري رضي بالمحل ولزم البيع، وهذا القول يوافق القول الثاني للشافعي، فقد حصل البيع برأس مال وحصة من الربح، فهو موافق للمعاملات الشرعية، وعليه فيلزم، هذا على شرط السلامة، أما مع وجود العيب فيجب التبيين، وعند ظهوره بدون علم، فإن الشاري له أن يمسك بالمحل إذا رغب فيه بنفس الثمن، أو يرده، ومنهم من قال بأن أرش العيب يعتبر هبة من الشاري للبائع إذا علم ولم يطالب بالرد أو أخذ الأرش ومنهم من قال بانتقاض العقد، ومنهم من قال بالرد، وهذه كلها أقوال مشروحة في العيوب، إذ لا يهمنا منها هنا إلا ما يتعلق بثبوت المواقف الفقهية في شأن مراقبة أرباح التاجر، إذ لا بأس بناء على ذلك من استطراد نماذج موجزة جدًا من أقوال المذاهب في الموضوع.

(1) المبسوط 13 /86.

ص: 2298

قال أبو الخطاب من الحنابلة: يحط أرش العيب من الثمن ويخير بالباقى.

قال الشافعي يحطه من الثمن ويقول تقول علي بكذا، وعقب النووي أن المبيع إذا جنى فقداه المشتري لم يلحق ذلك بالثمن، ولم يخبره في المرابحة؟ لأن هذا الأرش لم يزد به المبيع قيمة، يتضح من كل ما سبق أن المرابحة تصرف جائز، وأن الخلافات المسجلة في شأنها ليست جوهرية، كما يتضح أن مراقبة أرباح التاجر فيها منصوص عليها بما فيه الكفاية، وأنها تهدف إلى تحقيق الأساسيات العامة، التي تبنى عليها سلامة الربح في الشريعة الإسلامية، وهي:

- التوازن بين مجهود التاجر، وضرورة احترام ملكيته الخاصة، وبين مصالح الأمة، بعدم استنزاف طاقاتها المادية بأرباح استغلالية.

- سلامة الربح المحصل عليه من بيع المرابحة من العيوب الشرعية التي تعلق بالعقد فتجعله إما باطلًا أو قابلًا للإبطال، أو ساري المفعول، ولكن أحد طرفيه ارتكب إثمًا، وأصبح ما جناه من ربح بواسطته من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، أن بيع المرابحة اليوم يزداد أهمية لكونه الصورة الرائجة أكثر من غيرها في المعاملات التجارية المعاصرة.

ذلك أن دور الصناعة، والمتاجر الكبيرة، ودور النشر، والمؤسسات المالية بصفة عامة كثيرًا ما تعلن أنها تبيع بضائعها بربح لا يتجاوز مبلغًا معينًا في المائة، غير أن الصور الفقهية التي عالج بها علماء الشريعة المشكل حفاظًا على سلامة الربح من الشوائب، وعلى المشتري تبقى معرفة المؤسسات التجارية اليوم، إذ قليلًا ما نجد مؤسسة تذكر رأس مال بضاعتها بصدق.

لعدم تحرز الإنسان اليوم من الكذب في غالب الأحوال من جهة ومن جهة ثانية، لأن المعاملات في الفقه الإسلامي ظلت مرتبطة بالشعور الديني مما جعل الإنسان ينظر من خلالها إلى رقابة الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومن هنا تتضح خطورة بيع المرابحة اليوم ودوره في أرباح التاجر كما يدرك من خلال النصوص الإسلامية التي تعرضت إليه مدى صلاحيتها لتطبق على المؤسسات التي تتناول هذا النوع من البيوعات. علمًا بأن كثيرًا منها يطالب بأرباح تبلغ نسبة معينة بعد تحصيل رأس المال مثل 30 % أو 40 %، فإذا لم تراع أحكام ذلك اتسمت كل تلك البيوع بالغرر.

ص: 2299

3-

التسعير:

التعريف:

قال في القاموس: السعر بالكسر: الذي يقوم عليه الثمن الجمع أسعار وأسعر وسعر وتسعيرًا اتفقوا على سعر معين.

سعر الشيء قدر له سعرًا، والجمع أسعار كما رأينا، أما تعريفة حكمًا فلا يبعد عن هذا، قال النووي في المجموع شرح المهذب، التسعير:

هو جعل سعر معلوم ينتهي إليه ثمن الشيء، وأسعرته بالألف لغة، ويقال سعر إذا زادت قيمته وليس له سعر إذا رخص، والجمع أسعار مثل حمل وأحمال (1) .

والتسعير من بين الوسائل التي تتأتى عن طريقها مراقبة أرباح التاجر، ولا شك أنه من أهمها في هذا العصر، على أن النصوص الواردة فيه بالخصوص جعلت العلماء ينظرون إلى مسطرة ضربة على السلع بحذر شديد.

لأن الحرية التي منح الله للتجار أثناء تبادلهم في بيع المعاوضة، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير لأهل المدينة كلها مبادئ أصلية ثابتة، فالله قال في كتابه العزيز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ

} الآية.

وحديث أنس من القادم يكرس نفس مبادئ حرية التبادل، وعدم التدخل.

غير أن تطور الأوضاع واختلاط المسلمين بغيرهم، إضافة إلى ضعف روح الإيمان في النفوس كانت عوامل مؤثرة في أن تجعل نوعًا من الرقابة على السوق، وإلا لشاعت فوضى البيع، وفشى الاستغلال وحصل بعض الناس على أرباح غير عادلة، إما لضخامتها، وإما لعدم جواز العقود التي كانت سببًا فيها.

لقد بقي إعطاء الحرية للمتبايعين هو الأصل استنادًا إلى مبدأ الرضائية الذي هو من ابتكارات الشريعة الإسلامية مع أن حالات عدة عرفت في الصدر الأول من دولة الإسلام جعلت الفقهاء يفتون بجواز التسعير في بعض الحالات كما يحرمونه في حالات أخرى، فما هي الحالات التي يجوز فيها التسعير، وما هي تلك التي لا يجوز فيها؟ وما هي المواقف المتباينة لفقهاء المذاهب في التسعير؟

(1) المجموع وشرحه فتح العزيز 13 /21.

ص: 2300

لا شك أن ضعف الرقابة الدينية على إنسان اليوم من داخل نفسه تجعل طمعه ليس له حد، وفي كثير من الحالات يجره إلى انتهاك تعاليم شريعه الله، الشيء الذي يحتم على العلماء البحث عن قيود تمكن المجتمع الإسلامي من تفادي تلاعب المتلاعبين، سواء تعلق الأمر بحرية التصرف، وما ينتج عنها من ربح يجنيه التجار لقاء مخاطرتهم بأنفسهم أحيانًا، ولقاء مجهودهم الدائم أحيانًا أخرى، وسواء تعلق بالحيلولة بين هؤلاء التجار، وبين استنزاف زبائهم بطريق الاستغلال. لقد أصبح هذا باعثًا على تنظيم حال السوق ومراقبة أرباح التاجر، غير أن تلك المراقبة ليست مبتكرة في أسسها، وأهدافها العامة، وإن كانت بسبب تنوع مستجدات الحياة تتعرف كل يوم على وضع جديد لا تنظم أحواله إلا عن طريق القياس، واستخلاص الأحكام من المبادئ العامة، على أن تبقى الرضائية وعدم الإضرار بالناس مبدآن خالدان، ومن خلال تباين هاتين الوضعيتين الرضائية، وعدم الإضرار بالناس، رأى بعض العلماء أن مبدأ حرية التملك والتصرف في الإسلام لا تسمح بالتدخل، معتمدين على حديث أنس القادم عندما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم.

ومنهم من بنى على تدخل عمر في بعض الحالات لتنظيم حال السوق حذرًا من كساد المواد، وفقدها بعدم استجلابها وأيضًا عدم ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه للمستغلين فيمتصون شرايين الأمة بأرباح ظالمة وغير منظمة.

سنحاول تبيين نماذج من تلك المواقف في الفقرات القادمة، ومنها ندرك أن الشريعة الإسلامية جعلت هدفها هو رعاية المصالح المتبادلة لكل أطراف المعامل، إذ لا يجب أن يترك المستغلون يتلاعبون بأموالهم الناس لفائدة حساباتهم الخاصة، كما يجب عدم التحجير على التجار بترك أية رقابة تمنعهم من الربح وتجعلهم يتركونه، فتشتد حاجة الناس إلى السلع، ولن تجد من يمتهن توريدها إليهم.

فعلى فكرة خلق التوازن بين ربح التاجر من جهة وعدم مضرة الناس من جهة ثانية تمحورت أحكام أرباح التاجر في الفقه الإسلامي، كما سنشاهد في الفقرات القادمة بحول الله.

- السعر في المدينة، على ساكنها أفضل السلام:

غلا السعر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله سعر لنا فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ((إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال)) .

ص: 2301

قال ابن القيم: "وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فيكون ظلمًا وحرامًا إذا أريد به منع الناس من الربح المباح الذي أحله الله لهم بقوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، كإرغام على بيع الأشياء المحرمة، أو تعديل صور البيع إلى أوضاع تخالف صورتها الشرعية، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المألوف، أرباح معتادة تؤخذ بدون غش ولا خديعة، ولا غبن، ولا تغرير، فإن حديث أنس بن مالك السابق نهي عن التدخل في مثل هذه الحالة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن ألقى الله

)) .

أما إذا كان التسعير يرمي إلى العدل بين الناس كتدخل الحاكم لإرغام التجار على إخراج بضاعة اختزنوها برغم شدة حاجة الناس إليها لهدف بيعها بأثمان باهظة أو لتسويقها إلى جهات أخرى لمزيد الربح، فإن التسعير هنا حتى تباع بثمن المثل يكون أقرب إلى عدل الله وإلى سنة نبيه الكريم، الذي سنبين في موضوع آخر أحكامها من الاحتكار فتدخل السلطة الحاكمة لإحقاق الحق، رعيًا لمصالح عامة الناس هو خدمة للعدل وإجراء التسعير أمر واجب (1) .

لقد حرمت الشريعة الإسلامية إجراءات الحصر "المونويول" وهو أن تقوم سلطة ما يمنع غير طائفة معينة من بيع مادة بذاتها، أو مواد، وكل من شاركهم في بيعها تعاقبه، فهذا ظلم، وتسعير مخالف لشرع الله وتجب مراقبة الربح الحاصل منه، لأنه ينافي غاية الشريعة في حرية البيع، قال ابن القيم:" ومِنْ ذلك أنْ يلزم بأن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا أناس يخصون بذلك فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب. فهذا من البغي في الأرض والفساد، والظلم الذي يحبس به قطر السماء وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا، كان ذلك ظلمًا للناس ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلمًا للمشترين منهم (2) . وعند المالكية تناول الباجي التسعير من خلال أوجه عدة تستهدف كلها قيام توازن تحميه السلطة الإسلامية بين احترام الإرادة وضمان الربح للتجار من جهة، وبين توفير حاجات الناس بتزويد السوق بما يحتاج إليه من جهة ثانية، وأهم ما يمكن أن تستشهد به من ذلك في موضوعنا هذا ما يلى:

المعتبر في ذلك ما عليه جمهور الناس فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد اليسير بحط السعر أمر من حطه باللحاق بهم، وإن زاد واحد، أو عدد قليل لم يؤمر الجمهور باللحاق بهم، والمقصود بهذا هم أهل السوق، أما الجالب فلا يمنع من أن يبيع بأقل من ثمن السوق.

(1) ابن القيم في الطرق الحكمية: ص244، دون التقيد بالألفاظ.

(2)

نقلت هذه الجملة بالحرف لأهميتها من نفس المرجع السابق: ص30، وهي منقولة أيضًا في كلام ابن القيم.

ص: 2302

والذي تطبق عليه هذه الأقوال هو ما يكال أو يوزن، وأما غيرهما فلا يحمل الناس فيه على سعر معين. ومنع مالك من أن يحد لأهل السوق سعر لا يتجاوزونه، وبمنعه قال عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وأرخص فيه سعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن ويحيي بن سعيد الأنصاري، وروى أشهب عن مالك أن صاحب السوق يمكن أن يسعر للجزارين بأثمان لا تنفرهم من السوق، على أن لا يكون في ذلك إجبار لهم ببيع أموالهم بثمن معين خشية الوقوع فيما تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ((بل إن الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة

)) .

وإذا تقرر التسعير قال ابن حبيب يجمع الإمام وجوه أهل السوق ثم يتشاور معهم ليتم القرار مستجيبًا لمصالح الكل، وفي هذا المضمار لا يسعر على الجانب وحتى إن رضي فالحبوب التي بها قوت أهل البلد، فإنه يمنع تسعيرها (1) وعندنا في المغرب اليوم تطبق الدولة هذه القاعدة فتشتري الحبوب من عند من يرغب في البيع من الفلاحين بأثمان مرتفعة تشجيعًا لهم على مواصلة حراثتها، وإذا كان المبدأ هو عدم إلزام الإنسان ببيع ماله، فإن استثناءات ترد على هذه القاعدة فتشتري الحبوب من عند من يرغب في البيع من الفلاحين بأثمان مرتفعة تشجيعًا لهم على مواصلة حراثتها، وإذا كان المبدأ هو عدم إلزام الإنسان ببيع ماله، فإن استثناءات ترد على هذا المبدأ منها إضافة إلى إلزام أصحاب الحصر بيع المواد التي انفردوا باستيرادها لأهل البلد، أن يلزم الإنسان ببيع ماله لأداء الحقوق المرتبة عليه، كالنفقة وقضاء الدين، ومثل البناء والغرس في أرض الغير فإن لرب الأرض أخذه بثمن المثل ويرغم الباني أو الغارس على أخذ ذلك الثمن، ومن ذلك الأخذ بالشفعة فإن صاحب الشقص المشفوع فيه يلزم بأخذ نفس الثمن الذي خرج من يده، ومن عليه كفَّارة يعتق رقبة أو إطعام فإنه يجبر على شرائها بثمن المثل ويجبر على ذلك الشاري ولا يسمح له بأن يمتنع من أداء ما أخذ بحجة أنه رأى فيه ربحًا.

كما منع كثير من الفقهاء على المحترفين لتعاطي عمل معين يحتاج إليه السكان باستمرار، من أن يشتركوا فيما بينهم لأنهم إذا فعلوا أغلوا عليهم الأجرة، وقال ابن القيم إنه ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى، والحمالين كلهم من الاشتراك لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كالدلالين وغيرهم بخلاف الصنائع فإن اشتراك أصحابها مباح، لعلة تسهيل العمل عليهم، حتى يزودوا السوق بما يحتاج إليه الناس.

(1) أورد هذه الأقوال بإسهاب أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي في كتابه المنتقى شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله.

ص: 2303

وكذلك على والي الحسبة أن يمنع المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم لما في ذلك من ظلم البائع، ويمنع أولئك الذين يتواطؤون على شراء سلعة معينة مشتركين ثم يبيعونها فيما بينهم ويقتسمون الربح، لأن إقرارهم على ذلك من الظلم والعدوان الوارد النهي عنه صريحًا؛ يقول الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، [الآية 2 من سورة المائدة] .

قال ابن القيم وهذا أعظم إثمًا من تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش ثم عقد ابن القيم فصلًا لتسعير الأجور وأفتى بأن لولي الأمر أن يلزم أصحاب الحرف بأجل المثل لحاجة الناس إلى عملهم، وتضررها من تواطئهم على رفع الأجور وحسب نظري أنها هي علة منعهم من الاتفاق على ذلك.

وكذلك لمن بيده الأمر أن يتدخل لدى أصحاب المصانع ليلزمهم ببيع السلاح للمجاهدين بثمن المثل، فالله أوجب الجهاد بالنفس والمال، يقول ابن القيم: فكيف لا يوجب على أرباب السلاح بذله بقيمته، أي بثمن المثل وعدم استغلال الحاجة.

وعلق ابن القيم تعليقًا جيدًا محللًا فيه أسباب عدم التسعير في المدينة أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز ولا من يبيع طحينًا ولا خبزًا"، فكانوا يخدمون أنفسهم، وكان من يقدم بالحبوب لا يجد من يتلقاه ويحاول الشراء من عنده ليرفع السعر على أهل البلد، ويشتري من عند البادي بأقل ثمن فيعرض مصالح الطرفين للضرر، ولهذا الحديث:"الجالب مرزوق والمحتكر ملعون"، ولم يكن كذلك في المدينة أصحاب حرف أخرى كأصحاب النسيج، حيث كانت تستورد الثياب من اليمن، والشام وغيرهما، وقد تابع الرافعي ابن القيم على أقواله في التسعير وقد تناول العلماء التسعير من وجهين:

1-

إذا كان سعر غالبًا على سوق البلد فأراد إنسان أن ينزل عن ذلك السعر عند مالك يمنع، وحجة مالك الحديث الذي رواه في الموطأ ونصه:(عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق فقال له عمر: "إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا") .

ص: 2304

ولمالك أن الإنسان إذا خالف السعر الغالب في السوق وحط منه لم يجز ترك ذلك، وذكر قولة عمر بن عبد العزيز المستند على الحديث السابق فإنما السعر بيد الله.

2-

قال ابن رشد في البيان والتحصيل، أما الجلابون فلا خلاف أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوا، وإنما حمل الشاذ منهم على أن يبيع بمثل أهل السوق أو يرتحل عنهم تطبيقًا لقول عمر السابق (1) .

وتمسك مالك بنظرية عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله فعندهم أن الجلابين إذا باعوا لأهل السوق بأكثر من الربح المعتاد، فإنهم يمنعون من ذلك وقيل أيضًا إذا اشتري من عندهم أصحاب الدكاكين بالجملة ثم أرادوا البيع بالتقسيط بأثمان مرتفعة، قيل أنهم كالجلابون فلا يتركون على اختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا بأرباح معقولة، وعلى صاحب السوق أن يطلع على ما كلفتهم تلك البضائع ثم يجعل لهم ربحًا لائقًا، وينهاهم عن الزيادة عليه، ويستمر في تفقد السوق لمنعهم من الزيادة على الربح المعتاد، وينزل العقاب بمن خالف، وهذا القول الأخير منسوب أيضًا من طريق أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به ابن المسيب، ويحيى بن سعيد والليث وربيعة (2) ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقال للتجار لا تبيعوا إلا بكذا بما هو أقل من الثمن، وإذا ضرب لهم الربح، فلا يجوز لهم أن يصعدوا الثمن عنه استنزافًا لأموال الناس بغير حق، قال ابن رشد هذا عند مالك، أما عند الشافعي فيستند إلى قصة عمر مع حاطب بن بلتعة حيث لقيه يحمل عدلين من الزبيب ثم قال بكم تبيع؟ قال حاطب مدين لكل درهم، فقال عمر قد قدمت عير من الطائف وهم يغترون بسعرك فإما أن تبيع بسعر أرفع، وإما أن تدخل السوق ثم تبيع كيف شئت، إلا أن عمر قدم على حاطب بعد قليل وقال له: إنما قلت لك آنفًا ليس عزمة، ولكن نصيحة فبع كيف شئت وأين شئت فإنما أردت الخير لأهل البلد.

قال الشافعي: "وهذا الحديث ليس بخلاف لما رواه مالك ولكنه روي بعض الحديث أو رواه عنه من رواه فأتي بأول الحديث، وترك آخره، وبآخره أخذنا، قال الشافعي: لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب خاطر، إلا في الحالات التي تلزمهم وهذا ليس منها"(3) .

(1) البيان والتحصيل لابن رشد: 9 /313، وما بعدها من باب التسعير فقد أورد مختلف أقوال مالك وأصحابه من التسعير.

(2)

نفسه

(3)

الأم، للشافعي: ج4.

ص: 2305

وقال الباجي بأن السعر الذي يلزم البائع باللحاق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد أو العدد اليسير بحط السعر لم يؤمروا باللحاق بسعرهم، لأن الذي يجب أن تراعى أحواله هو الجمهور (1) .

وقال القصار من المالكية بأن البغداديين فهموا من قول مالك عدم السماح بمخالفة أسعار الجمهور سواء بالنقص أو بالزيادة.

وعند الحنفية قال محمد بن الحسن: يمكن للجالب أن يبيع بسعر أرخص من سعر السوق. ولهم خلافات أخرى في مسألة أن يحد لأهل السوق حدًّا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، فهذا منع منه الجمهور حتى مالك نفسه، ولأشهب أن صاحب السوق يباح له أن يسعر للجزارين أنواع اللحوم وإن خالفوا تسعيره أخرجوا من السوق، على ألا يكون ذلك شأنه أن يحملهم على مغادرة السوق، وعلة هذا هو عدم السماح للتجار برفع الأسعار على الناس رفعًا غير مناسب لأرباح عادلة، وبأثمان مناسبة. قال أبو الوليد الباجي ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس (2) .

قال ابن تيمية: "وأما إذا امتنع التجار من بيع ما عندهم مما يحتاج الناس إليه فإنهم يؤمرون بالواجب ويعاقبون على الامتناع، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع"(3) .

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: منع من الزيادة على ثمن المثل، فأصبح هذا قاعدة على أن من وجبت عليه المعاوضة ألزم بإعطاء ثمن المثل، فتدخل الدولة هنا لمنع العارض من استغلال الحاجة والحصول على ربح فاحش هو الموافق لروح الشريعة، وغايتها، وتذهب النصوص الإسلامية إلى أبعد من ذلك فنجعل بيع ما بيد التاجر واجبًا، وأن لا يعطي له غير ثمن مثل، من ذلك الأدوات التي يحتاج إليها الحاج فيجب أن تفوت له بثمن المثل، وكذلك بيع السلاح للمجاهدين ناهيك عن بيع أقوات الناس فإن تفاحش الثمن فيها من الضرر الذي يجب إزالته.

(1) المنتقى:5 /18.

(2)

في فتح العزيز:13 /37، يروى عن الباجي.

(3)

9 /254.

ص: 2306

وعزى الرافعي لابن القيم الجوزية موقفًا رائعًا يتناسب وما ينبغي أن تقوم به المصالح الإسلامية اليوم لفائدة المسلمين، ذلك أنه أوجب على مالك الدار التي اضطر ناس إلى السكنى فيها، وهم لا يجدون سواها، أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك، أوجب على صاحبه أن يبذله بلا نزاع، والخلاف الحاصل هل يحل له أن يأخذ ثمنه أم لا؟ إلا أنهم أجمعوا أيضًا على أنه إذا أخذ ذلك الثمن فلا يمكن أن يعطى أكثر من ثمن المثل، وأفتى كثيرون بوجوب بذل ذلك مجانًا استنادًا إلى قول الله عز وجل:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ، [الآيات 4-7 من سورة الماعون] .

قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة هو إعارة القدر والفأس والدلو وغيرها من الأدوات الضرورية.

إلى أن قال ابن القيم: (وحاجة الناس إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع ولأن كل الناس يحتاجون إليها، فلو مكن من هي بيده من الاختيار في الثمن لرفع ثمنها إلى درجة المضرة الفادحة بهم) .

وأبعد العلماء عن التدخل في بيع المعاوضة هو الشافعي، ومع ذلك فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يبذله له بثمن المثل فإذا رفع للقاضي أمر المحتكر بيع ما زاد على قوته وقوت أهله بثمن المثل، فإن أبى حبسه (1) ، فإن أصر تجار المواد الغذائية على مواصلة البيع بما فوق الثمن المعتاد جاز للقاضي أن يستشير أهل البلد ثم يسعر مراعيًا المصالح العامة في تصرفاته.

وعن خلافهم حول بيع ما بيد المحتكر: فإن أبا حنيفة يلحقه بالمحجور عليهم بسبب الدين ثم يبيع عليه البضائع التي دعت الحاجة إليها، وقال أصحاب أبو حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر إلا إذا تعلق به – أي السعر – حق العامة.

ولمالك وأحمد أن كل مسترسل بمنزلة الجالب الجاهل لحال السوق إذ يجب على الحاضر أن لا يبيع من هؤلاء.

(1) نفس المرجع: ص41.

ص: 2307

وقال: إن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل، وورد عن مالك أنه لا يجوز للإمام التسعير، وأحاديث الباب ترد عليه، وللشافعية جواز التسعير (1) . إذا دعت إليه الضرورة، ولبى حاجة الجماعة، وسيبقى في طليعة البحوث الجيدة التي تكلمت عن التسعير بصفته إحدى وسائل تحديد أرباح التاجر ما كتبه العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وقد سبقت إشارات إليه، ولأهميته فسنحاول تلخيص بعض أحكامه فيما يلي:

1-

من التسعير ما هو ظلم أو حرام وذلك إذا اتبع لإكراه الناس على بيع أموالهم بثمن لا يرضيهم، أو منعهم مما أباح الله لهم.

2-

ويكون جائزًا إذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم من الزيادة على عوض المثل فيكون هنا جائزًا بل واجبًا.

وأساس حكم الأول هو حديث أنس عن غلاء السعر بالمدينة وعرض طلب السعر على النبي صلى الله عليه وسلم وامتناعه عن التسعير خشية المضرة بأحد، لقد روينا الحديث في مكان آخر من هذه النقطة.

ومن ظلم التسعير تأجير محل تجاري على واجهة الطريق، أو في القرية على ألا يبيع أحد غيره تلك البضائع التي تباع به، فهذا ظلم وإضرار بالناس، ومثل ذلك حصر نوع من الأطعمة والسلع على ناس معينين ومنحهم امتياز بيعها، فهذا إجراء جائز، وظلم تبع، من أن هؤلاء يجب التسعير عليهم، وإلزامهم البيع بثمن المثل ففي هذه الحالة التسعير واجب بلا نزاع.

وخشية استغلال الحاجة وطلب أثمان غير لائقة، منع أبو حنيفة وأصحابه: القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة من أن يكونوا شركة بينهم لأنهم إذا فعلوا أغلوا على الناس وقت الحاجة إليهم، ولوالي الحسبة أن يراقب كل أصحاب حرفة حتى لا يكونوا شركة هدفها رفع الأسعار على الناس عند الحاجة إلى شيء من الأشياء التي ينتجونها أو يتعاطونها، خصوصًا مما تدعو الحاجة إليه باستمرار.

(1) فتح العزيز: 13 /44، من تحليل لابن القيم الجوزية.

ص: 2308

بخلاف الصنائع فإن الشركة فيها محمودة من أجل توفير حاجات توفير حاجات الناس وخفض الأثمنة وضمان تزويد السوق بما يطلبه الجمهور، فكل من ينتج شيئًا، أو يحس حرفة إنجاز ذلك واجبًا عليه، إذا احتاج الناس إلى عمله، وعليه أن يفوته لهم بثمن المثل ولا يستغل حاجتهم، فيطلب ربحًا خياليًا، ولا يستغلون ضعفه، ويفرضون عليه البيع بثمن أقل من ثمن المثل حسب تقلب أحوال السوق.

وأثناء تحليل أحوال السوق، وأنواع سبل حكم التسعير تعرض ابن القيم لقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن اللتبية المشهورة، وملخصها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كلف ابن اللتبية بجمع صدقات بني سليم، فلما قدم حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الرجل يقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال:((إني لأستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي)) إلى آخر الحديث الذي رواه الشيخان، والموضوع الذي من أجله سيق هنا هو التذكير بأن لولي الأمر نزع أي ملك استحوذ عليه الإنسان من طريق غير مشروع سواء بعوض أو بغير عوض، وأحرى إذا كان ربحًا أتاه من قبل نفوذه أثناء قيامه بالولاية لبعض أمور المسلمين.

ومن خلال الحديث عن أمور التسعير تعرض ابن القيم الجوزية لمراقبة الربح عن طريق المزارعة فقال: ومنهم من احتج ((بأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المخابرة)) ، ولكن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو الظلم، فإنهم كانوا يشترطون ما على المذيانات وإقبال الجداول وشيئًا من التبن يختص به صاحب الأرض ويقتسمون الباقي.

وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع فإن المعاملة مبناها العدل من الجانبين وهذه المعاملة من جنس المشاركة لا من باب المعاوضة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المشاركة العادلة هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلمًا، وإن صدق التاجر رزقه الله من حيث لا يحتسب، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للتاجر الصدوق بنزول البركة، وما قصة عروة بن أبي الجعد إلا تكريس لنظرة الإسلام المشجعة للتجارة الصادقة، ففي الموطأ عن عروة بن أبي الجعد، قال عرض للنبي صلى الله عليه وسلم، جلب فأعطانى دينارًا فقال:((أي عروة إيت الجلب فاشتري لنا شاة)) فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما - أو قال: أقودهما - فلقينى رجل فساومنى فبعت شاة بدينار، فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم وهذه شاتكم، وقال:((وصنعت كيف؟)) فحدثته الحديث فقال: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه)) ، فلقد رأيتنى أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع ويهم هذا البحث أن نبين أن كل ربح نتج عن إذعان أو اشتراط شرط ظالم مهما كان مصدره الشركة

أو بيع البراءة، أو النجش أو الغش، أو التدليس، أو الغبن، أو بيع المحرمات، فإن الفقه الإسلامي لا يقره كربح، ولا نرى أن في ذكرنا لهذه الأشياء مرة ثانية هنا تكرار مشينًا لأنها تتعلق دائمًا بالثمن الذي هو محل التسعير.

ص: 2309

وعلى ما تقدم فإن على دولة الإسلام التدخل الفعلي حسب نظرنا لتضرب السعر المناسب على الضروريات التي بدون شك أنها أصبحت كثيرة ومتنوعة، ويساهم تعدد مصادر إنتاجها وعدم معرفتها عند الجميع في رفع الأثمان على الناس، ولذا فحسب نظري تكون مراقبتها اليوم أقرب إلى روح ما يهدف إليه الفقه الإسلامي.

وقد حرم التملك بوساطة التلاعب بالأسعار، والأصل فيه حديث معقل بن يسار قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًّا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة)) ، رواه أحمد والطبراني.

ويدخل في الربح غير المشروع استيلاء جهة واحدة على سلعة معينة، والاستبداد ببيعها بحسب الثمن الذي يضمن لها أرباحًا خيالية سواء كانت تلك الجهة شخصًا طبيعيًّا أو اعتباريًّا.

ومن مراقبة الريح عدم ترك الأشياء الكبرى ذات النفع العام يتصرف فيها غير الدولة كالبترول، والفوسفات، وما يطلق عليه الركاز بصفة عامة.

والأصل في هذا اجتهاد عمر رضي الله عنه حين قدم اثنان على أبي بكر، وقالا بأنهما كان يستغلان سبخة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكتب لهما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكيتها، وكتب في الصك إشهاد عمر على ذلك، فذهب الرجلان بالصك إلى عمر فلما رأه مزقه، ومنع من تنفيذ هذا التمليك بحجة أن تلك السبخة من المال العام، الذي يجب أن تبقى ملكيته للدولة، ثم أخذ سيدنا أبو بكر الصديق بهذا الاجتهاد لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين.

ص: 2310

وقد ذهب المالكية: إلى أن ما يستخرج من الأرض إذا كان له نفع عام كبير فهو ملك للدولة، وذهب الحنابلة إلى أن ما يستخرج من باطن الأرض فيه الزكاة، إذا كان مستخرجه ممن تلزمهم الزكاة وذهب الحنفية إلى أن في الركاز الخمس قياسًا على الغنيمة، ولا يعتبر البترول داخلًا في تعريف الركاز (1) .

يبدو من هذا أن الفقه الإسلامي وقف مواقف متطورة جدًّا من تنظيم الملكية العامة والخاصة قبل أن تتعرض إليها النظم الأخرى شرقية كانت أو غربية، وبهذا نرى أن التسعير من أهم الوسائل التي طبقها الفقه الإسلامي لتنظيم ربح التاجر المسلم، أو الذي يبيع في دار الإسلام.

4-

سلامة الربح من العيوب الشرعية:

يتميز الفقه الإسلامي أصولًا وفروعًا بسن كثير من القواعد التي يمكن أن يراقب عن طريقها ربح التاجر حتى يسلم من كل شائبة عملية، أو شرعية ليصل إلى صاحبه، وليست عليه فيه تبعة، أمام الله والناس.

فهناك رقابة اجتماعية تصاحب التاجر وهذه تشكل قاسمًا مشتركًا بين أبناء البشرية كلهم، إذ تراهم ناقمين على البائع الغشاش والكذاب والمدلس، والمتعاطي لجميع صنوف الخديعة، وإن مرد هذا إضافة إلى سجايا الإنسان هو أن الكتب السماوية استمرت في تحريم مثل هذه الرذائل، جاعلة منها جرائم يعاقب الله عليها الإنسان في آخرته.

ثم أتت القوانين الوضعية فحرمت هي بدورها القدر الفادح من تلك العيوب، وللاهتمام البالغ الذي خصها به الفقه الإسلامي فإننا سنقدم نماذج من أحكامه تجاهها فيما يلى:

بيع النجش:

بيع النجش وصورته أن يأتي شخص من غير المتبايعين، قبل إنهاء البيع يساوم بثمن أكثر من أجل أن يحمل الشاري على الزيادة في الثمن الحقيقي، ولم تكن نيته الحقيقية أن يشتري.

والدليل على حرمته الحديث الشريف، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التناجش، وذلك من حديث عمر وهو:" لا يَبِعْ أحدكم على بيع أخيه"، حتى يبتاع أو يذر وهي رواية البخاري.

وروى أحمد عن ابن عمر: ((لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له)) ، قال النووي رحمه الله في المهذب ما نصه:"ويحرم أن يدخل على سوم أخيه وهو أن يجيء إلى رجل أنعم لغيره في سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه أو يجيء إلى المشتري فيعرض عليه مثل السلعة، بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن، لما روي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)) الحديث لأن في ذلك إفسادًا وإنجاشًا. فلم يحل"(2) .

(1) سعيد حوري في كتابه الإسلام: ص426.

(2)

المجموع لشرح المهذب، للنووي: م13 ،ص16.

ص: 2311

إن بيع النجش متفق عليه على إثم صاحبه الذي قام به، والخلاف الحاصل يعني بالخيار أو عدمه ومن أوجه خلافاتهم:

فأهل الظاهر قالوا: فاسد، وقال مالك: هو كالعيب، والمشتري بالخيار، إن شاء أن يرد رد، وإن شاء أن يمسك أمسك، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، إن وقع إثم وجاز البيع.

وسبب اختلافهم يرجع إلى خلافهم حول الحكم الذي يترتب على النهي فهل يتضمن فساد المنهي عنه؟ والجمهور على أن النهي إذا ورد لمعنى في المنهي أنه يتضمن الفساد مثل النهي عن الربا والغرر، وإذا ورد الأمر من خارج لم يتضمن الفساد (1) .

وهذا هو المرتكز الذي اعتمد عليه، الذين قالو بسريان البيع في هذه الحالة سواء أعطي الخيار في الرد، أو لم يعط.

وللباجي في شرحه المنتقي أنواع المبيعات التي نُهي عنها خشية حصول ربح بطريق غير مشروعه فعن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يبيع بعضكم على بيع بعض)) وقال مالك أيضًا، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبيع حاضر لباد)) .

والمقصود هو عدم جواز التدخل بين المتابعين ليفسد على أحدهما صفقته من الآخر ليشتريها هو لنفسه بغية الحصول على ربح يستغل فيه الجهل أو الخديعة.

وعن تلقي الركبان الغاية منه التلقي لمن يجلب السلع إلى الحضر، ومن فعل ينهى فإن تمادى أدب.

والبوادي المنهي عن البيع لهم في القول الراجح عند مالك هو أهل العمود لئلا يرخص ما بأيديهم خصوصًا وإنهم لا يعرفون بكم طلع عليهم نتاج ما تحت أيديهم فمنع الحضري من البيع للبدوي قبل أن يدخل السوق متفق عليه.

(1) بداية المجتهد: 2 /165.

ص: 2312

الخلابة:

وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلابة)) وهي الخديعة ككتم العيوب، أو قوله إنها تساوي أكثر من قيمتها، وأعطي فيها أكثر مما أعطي، وقد روى حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) ، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش لأنه من باب الخديعة في البيع وإظهار الناجش للمبتاع أن البضاعة تساوي أكثر مما اشتراها به.

هذا وقد حذرت الشريعة أثناء وضع الإطار العام لترويج التجارة للتاجر من محاولة ربح عن طريق نوع آخر من الغش، وهو عدم وفاء المكيال والميزان، فعن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إذا جئت أرضًا يوفون المكيال والميزان فأطل المقام عندهم، وإذا جئت أرضًا ينقصون المكيال الميزان فأقلل المقام عندهم بها.

وقد نهى عن بيع المجازفة مما يعد عدًّا، وأجاز أبو الوليد بيع الجزاف فيما يكال، والذي يحتاط منه مالك حسبما تشير إليه أمهات كتب المذهب هو عدم قيام توازن بين ربح التاجر وبين ضرورة تزويد السوق بما يحتاج إليه المسلمون، والكل ينبغي أن تراعى فيه أحكام الله في سلامة المبيع من العيوب، وعدم استعمال وسائل احتيالية.

ويمنع جميع فقهاء المذاهب الإسلامية استغلال الجهل، أو عدم معرفة حال السوق، أو الحاجة الماسة، أو الكتمان، أو استعمال وسائل احتيالية تدفع الشاري إلى إنهاء صفقة ما كان ليقدم عليها لو علم بحقيقة الأمور.

ومع ذلك فإنهما متفقون على وجوب احترام إرادة المتبايعين، لأن احترامهما هو الكفيل بأن يمحص كل واحد من أفراد العلاقة، ماله وما عليه بطريقة تفرض توازنًا يكفل للتاجر ربحًا يشجعه على تزويد السوق بما يحتاج إليه، فلا تفرض رقابة عمياء تبتز أموال الناس، وتحول بينهم وبين الغفلة التي ورد النص على أن الله يرزق بعضهم من بعض من خلالها، لكن لا يكون ذلك بطمع جشع يستنزف طاقة الشاري، ويدر ربحًا على التاجر، يمكن أن يقال عنه بأنه ربح استغلالي، ولا بد من سلامة الربح – حتى يسلم به الفقه الإسلامي للتاجر – من تلقي الركبان، والغش والتدليس، وبيع البادي للحاضر، والأنواع المنهي عنها في بيع المرابحة، وقد تقدمت إشارات إليها، كما سبقت عدة إشارات إلى هذه العيوب ويحرم أن يبيع الإنسان على بيع أخيه ومثاله أن يجيء شخص إلى آخر في مدة الخيار فيقول له افسخ العقد وأنا أبيعك أجود منه بهذا الثمن، أو مثله بأقل من هذا الثمن، فإن قبل وفسخ البيع الأول وباع له صح البيع الأخير، وأتم البائع والمشترى الأخير.

ص: 2313

ومستند النهي عن هذا النوع من البيع الحديث الشريف: ((لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له)) ، متفق عليه ورواه أحمد، عن ابن عمر وعند الشيخين عن أبي هريرة في البخاري، عن عقبة بن عامر عن مسلم.

ويحرم أن يدخل على سوم أخية، وهو أن يجد اثنين اتفقا على بيع سلعة معينة بثمن، ثم يزيد في ثمنها ليفسد على الأول شراءه (1) .

وعند بعض الشافعية على أن البيع والسوم على السوم لا يحرم إلا إذا لحق البائع غبنًا، أما إذا لم يحصل الغبن فلا يحرم البيع على البيع أو السوم على السوم (2) .

وللشوكاني رأي في هذا الشأن إذ يقسم الأحاديث الواردة في السوم على السوم أو البيع، على البيع إلى: أحاديث نصيحة وهي أعم مطلقًا من الأحاديث القاضية بتحريم أنواع من البيع فيبنى العام على الخاص.

وهذا غير مسلم في نظري، لأن النهي تلو النهي تقوية لضرورة تجنب الفعل المنهي عنه. وقد استندت جماعة على جواز السوم على السوم بحديث أنس، الذي رواه أحمد والترمذي، وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عنه، وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي، وأعله ابن القطان بجهل حال أبي بكر الحنفي، ونقل عن البخاري أنه قال لم يصح حديثه، ولفظ الحديث عن أبي داوود وأحمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه فقال رجل هما عليَّ بدرهم، ثم قال آخر: هما عليَّ بدرهمين

إلخ.

ولعلهم هنا لم ينتبهوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل بالإيجاب الذي وجهه الأول وقبل بالزيادة التي أعطاها الآخر والمسألة مشهورة لأنها أصل من أصول تحريم المسألة.

ولم يرَ البخاري بأسًا في بيع المغانم بالمزايدة، وسوى ابن العربي بين البيع بالمزايدة في شتى الأصناف ولذا لا يضر كره التخطي لعمل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بنى كراهته للمسألة على قضية عين، وهي بيع المدبر، ولا نرى أن يقاس عليها غيرهما من المبايعات الأخرى.

(1) هذه الأقوال كلها أوردها النووي في المجموع، والسرخسي في المبسوط وبداية المجتهد لابن رشد.

(2)

نفسه: ص18.

ص: 2314

تلقي الركبان:

ولجهل أهل البادية بالسوق، ولئلا يستغل جهلهم المرابون، ثم يشترون من عندهم فيرفعون السعر على السوق، أو يحسبونهم على البيع بالتقسيط بسعر مرتفع فقد نهى الحديث عن ذلك، وهذا مجمل قول الفقهاء في الموضوع، فأصل المسألة هو حديث ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)) ، رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الترمذي بلفظ لا يبيع حاضر لباد.

وقد رواه أحمد بسند آخر، عن أبي زيد، عن أبيه بلفظ آخر، هو: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل فلينصح له.

لم ير الشافعي في الأم أن الحديثين يقتضيان المنع، وقالت الحنفية بأن المنع هنا يختص بزمن الغلاء، وقال ابن حجر في فتح الباري أن المنع انيط بالبادي، لظنة جهله بحال السوق، وإمكانية غبنه.

وقال مالك: لا يلحق أهل القرى المترددون على السوق بالباد، لأنهم يعرفون أحوال السوق.

والجمهور على منع المسألة إذا كان المبيع مما تدعو الحاجة إليه. ولم يعرضه البدوي على الحضري، وهذه التخصيصات هنا كلها استنباطية.

ووردت أقوال عن عطاء ومجاهد وأبي حنيفة، أنه يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقًا، وتمسكوا بحديث النصيحة، وقال بعضهم أن حديث بيع الباد للحاضر منسوخ.

والشوكاني يعترض على النسخ ويتمسك هنا بحمل العام على الخاص ويدخل المسألة في بيع المسلم للمسلم بدون غش ولا تدليس، ولا غبن ولا ربا، ويؤيد عدم النسخ موقف الشافعي من المسألة لأنه صحيح البيع، ولم ينفِ الإثم، فأي حاضر باع لباد فهو عاص، إذا علم بالحديث، والبيع لازم غير مفسوخ.

ويحرم تلقي الركبان ويخبرهم بكساد ما معهم من المتاع لغبنهم فيه، لأن عمر نهى عنه، ولأنه تدليس، وإن فعل ودخلوا البلد وتبين لهم الغبن كان لهم الخيار لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تلقوا الجلب فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق)) ، وهذا الحديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر، وهو نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، وبهذا اللفظ رواه الجماعة إلا البخاري.

وأورد الشافعي في الأم، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تلقوا السلع، فمن تلقى فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق)) (1) .

(1) الأم:3 /93.

ص: 2315

ومن هنا جوز الشافعي البيع وحكم بإثم المتلقي، واعتبر ابن القيم الجوزية تلقي الركبان من المنكرات للنهي الحاصل فيه (1) ، لكون الباد لا يعرض ثمن السلع فيشتري منه الحضري بثمن بخس، كما أنه لا يجوز لأهل السوق أن يبيعوا للقادم من خارج البلد بثمن يغاير ما يبيعون به لأهل البلد، ولوالي الحسبة مراقبة ذلك.

قال ابن القيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: " ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري من المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار، إذا دخل السوق، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن".

ولابن حجر أن التلقي يكره عند من لا يقول بتحريمه لسببين:

الأول: أن يضر بأهل البلد بأن يشتري السلعة بثمن بخس، ثم يبيعها لهم بثمن مرتفع.

الثاني: أن يلبس السعر على الواردين (2) .

وحول النهي الوارد في حديث تلقي الركبان اختلف أصحاب المذاهب على الأقوال التالية:

الشافعية، والحنابلة عندهم يثبت الخيار بمجرد تلقي الركبان رحمة عندهم بالباد، لئلا يقع في شرك الحاضر لصيانة القادم من الخديعة، وعن ابن المنذر أن مالكًا حمل النهي على مراعاة منفعة أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى رأي مالك جنح الكوفيون والأوزاعي، إلا أن ثبوت الخيار لصاحب السلعة لا لأهل البلد دليل على قوة حجة الشافعية في هذه المسألة.

وشرط إمام الحرمين في النهي أن يكذب المتلقي على صاحب السلعة حتى يشتري منه بأقل من الثمن المثل (3) ، وأطلق الشوكاني المسألة على عمومها في النهي.

(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص242.

(2)

المجموع، للنووي وشرحه؛ فتح العزيز، للرافعي: 13 /24، وما بعدها إلى نهاية الباب.

(3)

المجموع، للنووي وشرحه؛ فتح العزيز، للرافعي: 13 /24، وما بعدها إلى نهاية الباب: ص26.

ص: 2316

يمكن أن نخرج من هذه الأقوال بنتيجة أساسية، وهي أن الفقه الإسلامي أثناء تحديده لمسطرة سلامة الربح من العيوب الشرعية، بين جميع الصور التي إن تم البيع عليها يكون مباحًا، والربح منه من أكثر أنواع الرزق شرفًا لأن المهنة الوحيدة التي تعاطاها نبينا عليه الصلاة والسلام وهي التجارة، فيجب أن تبقى لها حرمتها سلامة ما يجني منها من أي عيب يحرمه على صاحبه، أو يكون له نقدًا في عرضه عند الناس.

ومن ثم أتت العيوب التي أشرنا إلى بعضها، وتركنا تلك المألوفة، مثل الغبن والتدليس والإكراه، لأنها معلومة، وكتبت فيها مواضيع خاصة بها، من مختلف فقهاء المذاهب، ولأن موضوعنا ليس في عيوب الرضا.

الاحتكار:

الحكرة:

التعريف: قال في القاموس: الحكر الظلم وإساءة المعاشرة، والفعل كضرب، والسمن بالعسل يلعقهما الصبي والقعب الصغير، والشيء القليل وبضمان، وبالتحريك ما احتكر أي احتبس انتظارًا لغلائه، كالحكر كصرد، وفاعله حكر واللجاجة والاستبداد بالشيء، حكر كفرح فهو حكر، والماء المجتمع، والتحكر الاحتكار، والتحصر والمحاكرة الملاحة، والحكرة بالضم اسم من الاحتكار ومخلاف بالطائف.

الاحتكار حكمًا:

يحرم الاحتكار في الأقوات، وهو أن يشتري البضائع في وقت الغلاء، ويمسكها رغم حاجة الناس إليها حتى يرتفع ثمنها، ومن الحنابلة من قال يكره ولا يحرم، ولا يمكن أن ينظر إلى المحتكر بالسلامة بعد حديث عمر: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يحتكر إلا خاطئ)) .

وعلى هذا الحديث استند أصحاب الكراهة، لأن لفظة الخطأ لا تدل على التحريم علمًا بأن المخطئ هو المذنب والعاصي.

وقد روى أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ)) .

وزادوا في إسناده "أبو معشر"، وهو ضعيف وقد وثقه بعضهم.

وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمر: ((من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه)) ، رواه أحمد والبزار وابن أبي شيبة.

المهم هو أن هذه الأحاديث بعضها يقوي بعضًا فتشكل حجة كافية على عدم جواز الاحتكار.

ص: 2317

ويرى الشافعية أن المحرم، هو احتكار الأقوات خاصة لا غيرها، وذهب الشوكاني إلى أن الاحتكار حرام من غير فرق بين الأقوات وغيرها.

ويقصد بالاحتكار المنهي عنه ذلك الذي يشتري البضاعة القليلة في السوق ويمتنع من بيعها حتى يرتفع ثمنها، أما إذا كان اليسر، وجمع بضاعة حتى قلت ثم أخذ يبيعها بثمنها المعتاد أي ثمن المثل فهذا مستحسن ويثاب عليه، كما سيأتي عن ابن مسعود.

وللنووي في شرحه لمسلم عند حديث معمر بن عبد الله مرفوعًا من احتكر فهو خاطئ. قال النووي: الخاطئ بالهمزة هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره حتى يرتفع ثمنه.

وأخرج ابن ماجه والحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)) .

وعن الحاكم من رواية ابن إسحاق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله)) ، وإن صح هذا الحديث فيكون أشنع وعد.

وقد اختلف العلماء في النوع الذي يعني بالاحتكار، فطائفة ترى على أنه خاص بما يقتات به، ومنهم من عممه على كل ما يقتات به، أو غيره من أنواع المكتسبات التي تدعو الضروريات إليها، وفي المنتقى قال عمر بن الخطاب: لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء وليمسك كيف شاء الله.

قال أبو الوليد قصد أمير المؤمنين من هذا الحكم أن يمنع الناس من الاحتكار في سوق المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، لأن غالب أحوالها غلاء الأسعار وقلة الأقوات.

وعرف أبو الوليد في شرحه لكلام عمر في الموطأ الاحتكار، فقال: الاحتكار هو الادخار للبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق، فأما الادخار للقوت، فليس من باب الاحتكار.

والإجماع على أن صاحب السلعة يمنع من الاحتكار، وفي أيام عدم الشدة والحاجة فروى ابن القاسم عن مالك أنه لا بأس به، لإمكانية حصول الناس على شدة حاجتهم من عند غيره.

وروى ابن الماجشون، عن مالك أن احتكار الطعام يمنع منه في كل وقت. وأما غير الطعام فلا يمنع من احتكار إلا في وقت الشدة، وسوى ابن المواز، وابن القاسم بين الطعام وبين الكتان، إذ يمنع من احتكار ما أضر بالنسا.

ص: 2318

وقد استثنى من التدخل في الملك لمنع الاحتكار، المزارع الذي يدخل محصوله الزراعي سواء في اليسر أو العسر أو نتاج كسبه فإنهما لا يمنعان.

أما الفئة الثانية، وهي التي تجب مراقبتها لمنعها من الاحتكار، فهم من صار إليهم الطعام بابتياعه من سوق البلد، فإن منع الاحتكار يجوز في حقهم، وفي وقتين: أحدهما أن يبتاعه في وقت الضرورة، ثم يحصل على أكثر من حاجته ويمتنع من البيع للناس حتى يحصل على أرباح أكثر من اللازم.

والثاني أن يشتري وقت اليسر كثيرًا من المواد التي لا يجوز احتكارها، ثم يدخرها حتى تشتد حاجة الناس لها، فلا يبيعها لهم إلا بأثمان عالية، أو لا يبيعها، علمًا بأن من عنده طعام مخزون عليه أن يخرجه للناس في ساعة الشدة، وسيأتي مزيد من بيان حكم ذلك، وتابع أبو الوليد في المنتقى كلامه عن حديث عمر، فقال بأن قولة أمير المؤمنين: فذلك ضيف عمر معناه عدم التدخل في شؤونه في السوق إذ لا يمكن أن يرغمه أحد على البيع أو عدم البيع، أو إرغامه على البيع بأقل من الثمن.

ثم أورد قصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع حاطب ابن أبي بلتعة في بيع الزبيب وهي مذكورة في مكان آخر من هذا البحث.

وقد استخلص كثير من العلماء عدم جواز أي ربح يجنى من الاحتكار تطبيقًا للأحاديث الشريفة التي روينا بعضها في بداية هذه النقطة من هذا البحث.

وأيضًا استندوا على الحديث الذي رواه الموطأ، عن عمر بن الخطاب، وهو الحديث المتقدم " لا يعمد رجال

" (1) .

قال الباجي قصد منع الاحتكار في المدينة، ونحن نرى استنادًا إلى مواقف عمر أنه يحرم الاحتكار قياسًا على ذلك في كل بلد إسلامي، ولنرجع إلى التفريعات التي استخرجها أبو الوليد من الآثار التي رواها عن الاحتكار إذ قسم دراسته إلى أربعة أبواب هي:

1-

بيان معنى الاحتكار.

2-

الوقت الذي يمنع فيه الاحتكار.

3-

ما يمنع من احتكاره.

4-

ما يمنع من الاحتكار.

1-

قال في النقطة الأولى بأن الاحتكار هو الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق.

(1) المنتقى على الموطأ، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفي: سنة 494هـ: 5 /17.

ص: 2319

ولا يكون ممنوعًا عنده إلا إذا تم الشراء زمن قلة السلع، وشدة الحاجة إليها، أما إن اشتراها زمن الرخاء وادخرها حتى يرتفع السوق، ويكثر الطلب وباعها فلا شيء عليه، ويتعلق المنع بمن يشتري كما قلنا وقت الغلاء أكثر من قوته فيدخره لطلب الربح الفاحش، فإما أن يبيعه لأهل البلد، أو ينقله إلى مكان آخر ليبيعه أيضًا بربح مرتفع كما سبقت إشارة إلى ذلك.

2-

أما عن الوقت الذي يمنع فيه الادخار فذلك المنع تراعى فيه حالتان:

(أ) حالة الضرورة والضيق ففي هذا الظرف يجب أن يمنع الاحتكار وقال الباجي: إنه لا خلاف في ذلك، ولقد وجدنا جل كتب المذاهب متفقة على هذا الحكم.

(ب) الثانية ورد فيها خلاف داخل المذهب المالكي، فعند ابن القاسم عن مالك أنه لا يمنع في ساعة الرخاء، وروى ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون عن مالك أن احتكار الطعام يمنع في كل وقت، أما غير الطعام فلا يمنع احتكاره إلا فيوقت الضرورة إليه ومن طرف الأغلبية.

3-

والذي يمنع احتكاره فعن ابن القاسم عن مالك: أن الطعام وغيره من الكتان والقطن، وجميع ما يحتاج إليه ذلك سواء فيمنع من احتكاره، ما أضر بالناس، ووجه ذلك أن هذا مما تدعو الحاجة إليه لمصالح الناس، فوجب أن يمنع من إدخال المضرة عليهم باحتكاره كالطعام.

4-

أما الذي يمنع من الاحتكار فهم الناس الذين صارت إليهم المواد التي يريدون احتكارها بالشراء، فأما من اكتسبها كنتاج كسب، أو ثمار زراعة فليس بمحتكر إذا ادخرها.

إلا أن مالكًا أفتى بأنه إذا كانت الحاجة وفي البلد طعام مخزون أمر خازنه بإخراجه، فإن امتنع أخرج عليه، ثم أمر ببيعه بثمنه، فإن لم يعلم ثمنه فبسعره يوم احتكاره (1) .

واتفقت أقوال المجموع على شرح المهذب للنووي، مع ما قاله الباجي، وخصوصًا في الحكم على الشراء وقت الرخاء وادخاره إلى زمن الغلاء، وبيعه بثمن المثل يوم تفويته، قال النووي:"ومن أصحابنا من قال بأن الاحتكار يكره ولا يحرم"، ثم رد بأن تلك الأقوال لا يلتفت إليها لمخالفتها للفظ أحاديث متعددة، دلت كلها على أن الاحتكار حرام.

وقد استدل النووي على جواز شراء السلع أيام الرخاء، وادخارها إلى وقت الشدة بالآثار التالية:

(1) الباجي في المنتقى: 5 /15 و16و17.

ص: 2320

"روى أبو الزناد قال: قلت: لسعيد بن المسيب بلغني عنك أنك قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحتكر بالمدينة إلا خاطئ)) (1)، وأنت تحتكر قال: ليس هذا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها، فأما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه فيضعه، فإن احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير، وأما غير الأقوات فيجوز احتكاره (2) ، واستدل على أن النهي الوارد في احتكار الطعام، والسكوت عن غيره جعل ادخاره مباحًا وفي شرحه المسمى فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي، أورد حديثًا عن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس)) (3) .

واستدل الرافعي أيضًا للنهي عن الاحتكار: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًّا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" رواه أحمد، الطبراني في المعجم الكبير.

وقد روى أيضًا: "أيما أهل قرية أصبح فيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله".

قال الرافعي: هذه الأحاديث كلها لا شك أنها تستنهض الهمم للاستدلال على عدم جواز الاحتكار.

وللشافعية أن المحرم هو احتكار الأقوات خاصة، ووافقتهم الزيدية، وكذلك الإمامية من فرق الشيعة حيث رأى فقهاؤهم أن المحرم من الاحتكار هو احتكار الأطعمة، وأخذ الشوكاني بحرمة الاحتكار بناء على الأحاديث المروية أعلاه.

وفرق العلماء بين الاحتكار والادخار، فالاحتكار خزن السلعة وحبسها عن طلابها حتى يتحكم المختزن في حال السوق فيبيعه بأثمان عالية، وهذا حرام، قال الرافعي بالإجماع، وكل سلعة – أضاف الرافعي – يصيب الناس ضرر من احتكارها تلحق باحتكار الطعام.

أما اشتراء الإنسان لما يمكن أن يحتاج إليه وقت اليسر، وادخاره لوقت الحاجة، أو شراء كثير من السلع وقت الرخاء، وادخارها إلى وقت الشدة وإخراجها للناس وبيعها لهم بأثمان معتادة فهذا محبوب، واستدل لجواز هذا النوع الأخير بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم: من إعطائه لكل واحدة من زوجاته رضي الله عنهن مائة وسق من خيبر للنفقة

(1) زاد هنا لفظ "المدينة".

(2)

المجموع شرح المهذب، للنووي: 13 /44.

(3)

الحديث رواه ابن ماجه، وفي إسناده الهيثم بن رافع، وقد روي حديثًا منكرًا، وفي إسناده أيضًا أبو يحيى المكي وهو مجهول.

ص: 2321

وأرى شخصيًّا أن ما ورد في الآية 47 من سورة يوسف لخير دليل على جواز هذا الإجراء أي إجراء شراء السلع أيام الرخاء، وإخراجها عند الشدة وبيعها بأثمان مناسبة، فقد قال الله عز وجل:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} .

فالآية وردت على سبيل الإخبار ولكن لم ترد بصيغة التحذير مما فعله أصحاب العزيز خصوصًا وأن الأمر صادر إليهم من نبي، ولم يرد نسخ لهذا الإجراء.

قال ابن أرسلان في شرح السنن: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنة، واتفقت مواقف الطائفة الإمامية من الشيعة مع أهل السنة والجماعة على تعريف الاحتكار، وجملة الأحكام التي تنطبق على المحتكر، والأحوال التي يجوز لولي الأمر التدخل فيها لجعل حد لاحتكار المحتكر.

فهذا الطوسي شيخ الإمامية ووجههم في عصره قال ما ملخصه:

الاحتكار هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع، ولا يكون الاحتكار في شيء سوى هذه الأجناس، وإنما يكون الاحتكار إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شيء منها. ولا يوجد في البلد غيره، فأما مع وجود أمثاله فلا بأس أن يحبسه صاحبه ويطلب بذلك الفضل (1) .

وقد أوضح بأنه إذا ضاق بالناس الحال كان على السلطان أن يلزم المحتكرين ببيع ما عندهم، ولكنه لا يلزمهم على البيع بثمن معين، وأيضًا قال بأن غير الأشياء التي ذكرها فلا احتكار فيها.

إن أقوال الإمامية هذه هي نفس الأقوال التي مرت معنا عند فقهاء مذاهب السنة، وحتى الخلاف الحاصل في الأنواع التي يحصل فيها الاحتكار، سبق أن رأيناه عندهم بأسلوب مقارب لهذا، إذن فتحريم الربح عن طريق الاحتكار هو المربح فلا مجال للتردد في أن الربح المحصل عليه من قبل بيع غير مشروع اعتبر غير مشروع، مثل الربح الحاصل عن طريق الغبن، أو التدليس، أو الغش أو التناجش، أو أي نوع من أنواع الخلابة.

وكذلك عن طريق الاحتكار الذي وردت فيه أحاديث عدة منها:

روى ابن عساكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتكر على أمتي أربعين يومًا وتصدق به لم يقبل منه ويرى ابن قدامة في المغني أن الاحتكار لا يتم إلا إذا استكمل ثلاثة شروط هي:

(1) النهاية في مجرد الفقه والفتاوي لشيخ الطائفة أبي محمد بن الحسن بن علي الطوسي.

ص: 2322

1-

أن يكون المحتكر حصل عليه من احتكره بواسطة الشراء، فلا يكون من جلبة ولا من غلة ممتلكاته، واتفق مع المالكية في أن ادخار غلة ملك الإنسان لا يعد احتكارًا.

2-

الثاني أن يكون قوتًا، ما عدا الزيت والعسل والبهائم، فادخارها لا يعد احتكارًا.

3-

أن يضيق على الناس بشرائه

ويستنتج من هذه الأقوال عدم جواز الاحتكار، وضرورة مراقبة أرباح التجار حتى لا يتم جنيها من هذا المورد، ومن تتحكم فيه منهم الروح الدينية فلتكن وازعًا له حتى لا يحرم أمواله بجني ربح من مورد حرام كهذا.

6-

مبررات التدخل في تنظيم أرباح التاجر:

يمكن أن نخرج من كل ما سبق بملاحظات أساسية وهي أن مراقبة أرباح التاجر لها أكثر من أصل في الشريعة الإسلامية، وذلك في كل ربح يجنيه التاجر، سواء نتج عن عقد مساومة، أو عقد مرابحة، إذ من حيث التنظيم وضمان مصلحة الطرفين ضبطت القواعد المنظمة لكل عقد على حدة، فأصبح كل طرف يجد السند الشرعي، والذي يحمي حقوقه من الضياع، والموئل الذي يرجع إليه عند الخلاف فيحميه من الظلم، ويمكنه من جني آثار معاملاته بعيدًا عن الاحتكار، أو الاستغلال أو استنزاف الغير.

فمبررات تدخل السلطة في أرباح التاجر ضيقة، بسبب حديث أنس حول سعر المدينة واستنادًا إلى الآية الكريمة:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .

وحديث: (دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض....) .

أمام هذه النصوص التي تسير في المبدأ الرباني الخالد والقائل: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [الآية 71 من سورة النحل] .

وقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الآية 32 من سورة الزخرف] .

وجد الحاكم سلطته ضيقة جدًّا، تجاه حرية التبادل التجاري، إذ ليس لأية سلطة مهما كانت تشريعية أو تنظيمية، الحق المطلق في تقرير نزع ملكية الأفراد، أو الجماعة، أو الحد من تصرفاتهم في المعاوضات، دون رضاهم.

غير أن حكمة الشارع من منظور الوسطية التي تدعو إلى الاعتدال في كل شيء، ولم تترك الأمر فوضى، يتحكم فيه التجار في رقاب الناس، باستغلال فرصة الحاجة ليستنزفوا كل إمكانياتهم وبذا أتت تحذيرات الكتاب والسنة واضعة الإطار المنظم لكل المعاملات فلا إفراط، ولا تفريط، ومن خلال ذلك جعلت الرقابة على التاجر ذات وجهين: أحدهما يصاحب ضميره وخلجات فكره، لأنه يتعلق بالإيمان الداخلي، فينبهه أن هناك معاملات محرمة يمكن أن يجني من ورائها ربحًا، إلا أنه إن فعل وسلم من عقاب السلطات الحاكمة، فلن يسلم من عقاب الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

ص: 2323

وقد ينجم هذا عن ارتكاب الغش أو التدليس بصورة تنطلي على زبونه، فينفذ العقد، ويحصل الربح، لكن الغشاش أو المدلس، أو المرتكب لعيب من صنوف الخلابة، سينال عذاب الآخرة.

كما يمكن أن يقال إنه خارج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بحكم الحديث الشريف: ((من غشنا فليس منا)) وقصة الحديث معروفة، وهي شاهد على ضرورة مراقبة أرباح التاجر أثناء تحصيله لها.

فقد وقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على رجل يبيع طعامًا في المدينة فأدخل فيه يده فوجد بداخله بللًا فقال الحديث: ((من غشنا فليس منا)) ، ومن المعلوم أن هذه الصفات أي الغش والكذب والخيانة والغبن وما مثلها من وسائل الخداع تعتبر من الباطل الذي قال الله فيه:

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

ومن خلال هذه النصوص وما مثلها مما أشرنا إليه في النقط المكونة لهذا البحث، وبالخصوص اجتهاد عمر بن الخطاب:"لا يعمد رجال بأيديهم فضل" الحديث المتقدم، وأصرح من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)) ، وفي رواية: خاطئ ((ومن دخل في شيء من أسعار المسلمين ليلغيه عليهم)) الحديث، كل هذه الآثار تمكن من القول بأن على حكام المسلمين اليوم واجب التدخل لتنظيم السوق وتحديد أرباح التجار، وتكريسها لخدمة الأمة أولًا ولضمان مصالح التجار غير المستغلين ثانيًا.

ومما يبرر ضرورة هذا التدخل هو كون السوق لم تبق إسلامية محضه، فسيطرة غير المسلمين على كثير من وسائل الإنتاج في الدول الإسلامية، واختلاط الباعة من مختلف الجنسيات والعقائد نرى أنه كافٍ لتبرير وجوب تدخل السلطات في كل بلد إسلامي لضبط حالة السوق، وتنظيم أرباح التجار، والحرص على سلامتها من الشوائب.

وهل هناك تبرير أكثر من تفشي ظاهرة تعاطي الربا في جل المجتمعات الإسلامية، حتى أن كثيرًا من شباب الأمة الإسلامية يوشك أن يأتي اليوم الذي يصبح جاهلًا لما يعرف بالربا، لشيوع تعاطيه داخل الأقطار الإسلامية.

وأيضًا بعض من صور البيوعات المنهي عنها هي أيضًا تكاد تكون مجهولة كذلك.

ص: 2324

الخاتمة:

إن أهم ما يمكن أن تهتم به المؤسسات الإسلامية في نظرنا انطلاقًا من توصيات المجمع الفقهي، لهو القيام بمجهود علمي وتنظيمي لسن قانون تجاري إسلامي موحد، إذ من خلاله يستطيع المسلم معرفة سبل التعامل مع المؤسسات المصرفية سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه، وما هي المعاملات الربوية التي من تعاطاها، قد أذن بحرب من الله ورسوله؟ وما هي الصبغ التي وجد لها العلماء طرقًا أدخلتها في دائرة المباح؟ لأن المسألة ليست حديثة على الساحة الإسلامية، وقد كان الرعيل الأول من المسلمين حائرًا في جواز أو عدم جواز بعض المعاملات مما حدا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى قولته المشهورة ثلاثًا: وودت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى يبين لنا الحكم فيها، الجد والكلالة وأبواب من الربا، هذا معنى كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وإذا كان هو لم يتضح له الحكم الراجح فيها فما بالك بأبناء اليوم ومدرستهم ليست إسلامية إلى حد تعريف الأجيال بكل دراسات الحرام والحلال، وشارعهم ليس إسلاميًّا إلى حيث لا يبيع فيه غير المسلمين، بل إن الاختلاط في المدرسة والشارع، وحتى البيوت والمصانع والمتاجر، وعدم تحكم الروح الإسلامية في كثير من النفوس تحتم سن قواعد تنظيمية وزجرية تستبعد تعامل المسلمين مع كل بيع وشراء لا يرضي الله.

أما من يدعي أن حياة اليوم والاختلاط بالعالم، والمصالح المتبادلة أصبحت تفرض نوعًا من التعامل في ظل تجاهل أحكام الشريعة، إذ من يقول بذلك أو يقبله لهو مخرب لبناء هذه الأمة التي لم يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، ولا يستطيع أي مكابر يقول بأن المسلمين حسب لهم أي حساب، أو طلعت شمس عظمتهم أو تحكمت دولتهم في أهم مصادر اقتصاد العالم، وأصبحت لا تغرب شمسها، ما عدا في الفترة التي تحكمت فيهم شريعة الله، بجعلهم القرآن دستورهم والسنة النبوية المطهرة تشريعاتهم التنظيمية، ونبراسهم الذي يهتدون به.

بقيت إشارة أخرى: وهي أن من ادعى بأن قوانين الغرب أو الشرق اليوم، قد احتوت على جميع التطلعات الإنسانية بصفة أكثر شمولية من نظريات الفقه الإسلامي، يعتبر جاهلًا لهذا الفقه، الذي بدون شك، ومن منطلق تجربة طويلة، وممارسة ميدانية اهتمت بمقارنة الفقه الإسلامي بغيره من القوانين الغربية، نستطيع الحكم بأن نظريات وآراء وفتاوي فقهاء الإسلام، أكثر استجابة في جوهرها مما وصلت إليه القوانين الوضعية على مختلف اتجاهاتها، وكذلك الاجتهادات القضائية على مختلف مراكز إصدارها. علمًا بأن الشريعة وسعت دائرة المباح، مما أكسبها مرونة تستجيب لتطورات كل عصر.

ص: 2325

إلا أن عدم جمع وتنظيمه، وتقديمه بأسلوب مقبول يبقى مسئولية علماء اليوم، ومن بين تلك النظريات الشمولية ومراقبتها لأحوال جميع أصناف المعاملات هادفة إلى خلق توازن اجتماعي، عن طريق التربية والتوجيه والتشريع، ولم تقتصر الشريعة على مراقبة ربح التاجر في هذه الحالات التي رأينا في النقط التي تعرضنا إليها أعلاه، بل إن الشريعة ذهبت إلى بعد من ذلك في تنظيم المعاملات، ومراقبة جميع صنوف الحياة العامة، حتى لا يطغى جانب تحت أية طائلة على مصالح الجانب الآخر.

وكأمثلة على ذلك نسوق الحالات الآتية:

لولي الأمر أن يلزم أصحاب الصناعات إلى إنتاج البضائع، التي تنتجها معاملهم وليس لهم أن يطالبوا بغير أجور المثل للعمال، وثمن المثل للبضائع، ولهذا السبب رأى بعض أصحاب أحمد، والشافعي بأن تعليم هذه الصناعات فرض كفاية، ومحاسبة ولاة الأمر المشرفين على تنظيم تلك الأمور واجب على ولي الأمر أيضًا بحكم حديث أبي اللتبية (1) .

المهم أن الأعمال التي تنفع العموم، إذا انفرد شخص واحد بصنعها تصبح فرض عين عليه. وإن تخصص في صناعتها عدة أفراد أصبحت فرض كفاية عليهم جميعًا، يمكن أن يقوم به واحد منهم وأثموا جميعًا إن لم يقم به أحدهم، ويلزمون بالقيام به، إذا لم يفعلوا أو أحدهم من تلقاء نفسه.

وهكذا نظمت نظريات الفقه الإسلامي كل معاملة يمكن أن يجني منها التاجر ربحًا، وأعطت لكل صورة اسمها وبينت أحكامها، حتى لا يقع الناس في الحرام، وحتى لا يتعرض أحد أطراف المعاملة لحيف من الطرف الآخر.

وإذا ما رجعنا لأصول المبيعات المنهي عن الربح عن طريقها، نرى أنها قليلة جدًّا، إذا ما قيست بتلك التي ترك الربح فيها مباحًا إذا سلم من الشوائب، أما المنهي عنها فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد في شأنها ما نصه.

"وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها تحريم عين البيع، والثاني الربا، والثالث الغرر، والرابع الشروط التي تؤول إلى واحد من هذه أو لمجموعتها".

وهذه الأربعة هي في الحقيقة الفساد، وذلك أن النهي تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو مبيع لا لأمر من خارج، وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج فمنها الغش، ومنها الضرر، ومنها ما هو لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه، ومنها لأنها محرمة البيع" (2) ، مثل النجاسات.

(1) في قضية توليته على صدقات بني سليم فلما أتى قال: "هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الحديث المشهور"(إني لأستعمل الرجل على العمل منكم) الحديث

(2)

بداية المجتهد:2 /125.

ص: 2326

وإذا كان لا يهمنا هنا أن نستقصي كل حال على حدة، فيمكن أن نستخرج من هذه الإشارات عند ابن رشد الحفيد أن دائرة المبيعات التي يمكن أن يجني منها التاجر أرباحًا كثيرة، ومتنوعة، وربحه فيها إذا سلم من أي عيب يجعله مع النبيين؛ الحديث السابق، وتعاطيه للتجارة الشريفة من أشرف وسائل التكسب للرزق.

والاستنتاج الثاني: هو أن الربح ليس متروكًا للفوضى، أو التصرفات العمياء، وإنما هو مدروس في الشريعة الإسلامية بكيفية تضمن قيام مجتمع متكافل تنظم معاملاته قواعد وسطية الشريعة السمحة، فلا ضرر ولا ضرار.

وفي ختام هذه الكلام فلا بد من التأكيد على شكر الجهات الحكومية في كثير من الأقطار الإسلامية التي جعلت الشريعة الإسلامية هي الأصل لكل تشريع واحترام قواعدها هو الشرط، لتطبيق أي قانون استهدف تقريب المعارف من الحاكمين والمحكومين.

غير أن كثرة النظريات الفقهية ومسطرة تأليفها، والأسلوب الذي ألفت عليه أصبحت عوائق في وجه من أراد الاستفادة منها، هو أمر لا مجال لتذليله إلا عن طريق مجهود الدول بتكريس أهم الطاقات العلمية والمادية لخدمة تلك المؤلفات واستخلاص نصوص منها تلائم مناهج الدراسة اليوم، وتوضح للشباب بأن العيب ليس من تقصير نصوص الشريعة ولكن من عدم فهم أهلها لها.

وإننا لنتفاءل خيرًا بوجود بعض المؤسسات المهتمة على مستوى العالم الإسلامي كالمجمع الفقهي فيما يرجع للتشريع، ومحاولة تقريبه من أجيال الغد، وإذا ما وجدت معه مؤسسات أخرى مهتمة، فإن هذا كله يبشر بالخير، غير أن الإطار وحده لا يكفي والأسماء لا تخدم الأهداف، ولا توصل للغايات إلا إذا صاحبها وترجمها رصد الوسائل المالية الكافية، حتى يتم التنظيم والإنتاج، ومن ثم تتأتى إمكانية التطبيق والله يلهمنا سبل الرشاد إنه ولي التوفيق وبيده الخير إنه سميع مجيب.

الدكتور حمداتي شهبينا ماء العينين.

ص: 2327

مناقشة البحوث

تحديد أرباح التجار

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في هذه الجلسة موضوع " تحديد أرباح التجار "، والعارض هو فضيلة الشيح محمد المختار السلامي، والمقرر هو الشيخ محمد عطا السيد.

وكتب في هذا أبحاث خمسة وهي بحث الشيخ المختار، وبحث الشيخ عطا، وبحث الشيخ علي التسخيري والشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين والدكتور يوسف القرضاوي.

ونرجو الاختصار ما أمكن في العرض والمناقشة، لأن بعد انتهاء هذه الجلسة الصباحية الأولى ستكون – بإذن الله – فترة استراحة ثم نستأنف الجلسة للموضوع الثاني وهو موضوع " العرف ".

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

الموضوع كما تفضل السيد الرئيس هو مسألة " تحديد الأسعار "، وهذه المسألة " تحديد الأسعار ": اتصلت بأربعة عروض وسأرتبها حسب الترتيب الحرفي لأصحابها.

فأقدم أولًا: بحث فضيلة الشيخ علي التسخيري، ثم بحث فضيلة الشيخ عطا السيد، ثم بحث فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، ثم ملخص بحث الشيخ حمداتي ماء العينين.

ص: 2328

الشيخ علي التسخيري: كتب بحثه وبعد أن قدم له بمقدمة قال: فإن الأصل البينة هو حرية البائعين والمشترين في التعامل بأي سعر كان أما التحديد فيجب أن يتم طبق حركة استثنائية، وعلى أساس من سلطة حكومية ولائية، أو قواعد ثانوية تنفي الضرر والحرج وغيرها، وستلاحظ اختلاف المواقف فيما يلي، ثم ذكر أقوال العلماء، فذكر رأي العالم الكبير المنتظري وما جاء في نهاية الشيخ الطوسي، واستخلص وقال في المبسوط الشيخ الطوسي: لا يجوز للإمام ولا النائب عنه أن يسعر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام وغيره سواء كان في حال الغلاء أو في حال الرخص بلا خلاف فإذا ثبت ذلك فإذا خالف إنسان من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه فلا اعتراض لأحد عليه. ثم أخذ نصوص التسعير، ففي مفتاح الكرامة " وفي الوسيلة والمختلف والإيضاح

إلخ ".

وقال العلامة في المنتهى: " على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع وليس له أن يجبرهم على التسعير بل يتركهم يبيعون كيف شاؤوا ".

ثم نقل بعض الأقوال عن المذاهب: عن المذهب المالكي، وكذلك المذهب الشافعي، ثم أخذ يحتج ويبين أدلة الطرفين، فبين أن دليل النافين هو احترام الملكية العامة، هذا كدليل عام، والدليل الثاني هو الحديث المروي الذي رواه محمد بن يعقوب بسنده عن حذيفة بن منصور عن الإمام الصادق أنه نفذ الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث بين أن في سنده ضعفًا، لأنه قال: إلا في حذيفة ومحمد بن سنان، وقال سماحة الشيخ المنتظري في سنده: إنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة ومحمد بن سنان والظاهر أن الأمر فيهما سهل.

وما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيد أيضًا، وهو في نفس المعنى ثم أخذ يستدل للمجيزين.

فاستدل أولا بمسألة الولاية التي يملكها الحاكم الشرعي على الأوضاع العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية، فله حق التدخل لتعديل الأسعار، كما أن له حق التدخل في مختلف المجالات المباحة ومن الطبيعي أن الحكومة والقدرة على الإدارة العامة تتطلبان بلا ريب هذه الولاية لملء منطقة الفراغ التنظيمي.

ثانيا: وجود الضرر:

ثالثا: استند إلى سد الذريعة، والمصالح المرسلة قال: باعتبارها أصولا قائمة برأسها ونحن لا نقول بذلك.

ص: 2329

على ضوء هذه الأدلة انتقل الشيخ التسخيري فيقول: رغم أن الإسلام اعترف تمامًا بالملكية الخاصة والحرية الاقتصادية إلا أن الإنسان مستخلف في المال، ثم بين وظيفة المال الاجتماعية، وانتهى إلى أنه مما يوضح لنا أن الملكية في الإسلام ليست حقا مطلقًا وإنما هي حق تتبعه مسئولية وعلى ضوء هذا فإذا أريد استغلال الملكية لصالح جشع المالك واستفادته من حاجة الناس إليها للتضييق عليهم والوصول إلى الربح المضاعف فإن ذلك مما يتنافى وطبيعة المسئولية التي أشرنا إليها.

والذي يشخص الضرورة الاجتماعية أو المصلحة الاجتماعية العليا هو ولي الأمر العادل عبر تشاوره مع ذوي الخبرة.

ثم يقول: وعملية التسعير إذا نظر إليها في هذا الإطار كانت عملية طبيعية بلا ريب.

ثم تحدث على مرحلتين مرحلة ما قبل الإنتاج ومرحلة ما بعد الإنتاج – بمعنى أن ما تنتجه الأرض والمواد الخام هو لا دخل فيها، أما مرحلة ما بعد الإنتاج البشري فإن القوانين تعمل عملها ولكن في أطر معينة يرضاها الإسلام للسوق الإسلامية السليمة والتي تذكرها لنا النصوص الإسلامية الكثيرة، إذ لا يوجد في هذه السوق احتكار ولا إجحاف ولا غش ولا تبان لرفع القيم حتى التباني الرسمي، ولا ندرة مصطنعة، كما يتوفر فيها ما يحتاجه المجتمع حيث يجب كفاية توفير ذلك. واستخلص إلى أنه ليس غلاء السعر أو كون الطعام غير مسعر، وأمثال ذلك سببًا للتدخل، أما إذا حصل إجحاف في البين أو الاحتكار وما إلى ذلك مما يتنافى والشكل الإسلامي للسوق فإن لولي الأمر التدخل لإرجاع الحالة إلى الوضع الطبيعي بلا ريب.

وانتهى إلى أن الظاهر أن النصوص تؤكد على حرية التسعير ما لم يتطلب الموقف ذلك وحتى لو أمكن تلافي الحاجة بالأمر بتقليل السعر دون تحديد لتعيين ذلك، فهي حالة استثنائية لا يصار إليها إلا عند الضرورة أو اقتضاء المصلحة العامة الملزمة لذلك.

وإننا إذا تأملنا الخلاف بين العلماء ونصوصهم واستدلالاتهم وجدنا أن هذا يشير إلى الحالة الطبيعية فيحرم، وذلك يشير للحالة الثانوية فيجيز، فهم في الواقع متفقون كما يظهر.

والخلاصة من ملاحظة الأدلة والنصوص والفتاوي يتلخص ما يلي:

أولا: إن الأسعار متروكة للمالكين يسيرون بها حسب العرض والطلب وفي الجو الطبيعي لهما دونما صيرورة إلى ندرة كاذبة واحتكار مذموم.

ثانيا: في الحالات التي تتطلب الضرورة أو المصلحة الاجتماعية تدخل ولي الأمر فإن له بمقتضى ولايته التدخل، والله أعلم هذه هي الأولى.

ص: 2330

البحث الثاني: هو مقدم من إعداد الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد بين الهدف من تحديد أرباح التجار، هو حماية المشتري حتى لا يظلم في شراء ضرورياته ومستلزماته ثم ذهب إلى الهدف من ذلك أيضا هو محاربة الاحتكار والسوق السوداء وقال: لا شك أن هذه أهداف جميلة تتمشى مع ما تهدف إليه الشريعة الغراء من الرحمة بين الناس والعدل والرضا والطمأنينة في البيع ثم بين ما يمكن أن يعترض على هذا بالحرية التي جاءت في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .

وأن الأصل في المسألة هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .

ثم ذكر ما يقوله القرطبي حول هذه الآية، فأخذ منه على أن الجمهور على جواز الغبن في التجارة، إذا عرف قدر ذلك ما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: عرف قدر ذلك أم لم يعرف فهو جائز، بمعنى الغبن، إذا كان رشيدًا حرًّا بالغًا. وقالت فرقة – القول الثاني -: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود وقال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح – أي عدد القول بالغبن – لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية: ((فليبعها ولو بضفير)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعمر:((لا تبتعه – يعني الفرس – ولو أعطاكه بدرهم واحد)) (فرس الصدقة) .

ثانيا: ما روي في الحديث من رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر للناس، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رجلًا قال: سعر لنا يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((إنما يرفع الله ويخفض، إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) قال له آخر: سعر، قال:((أدعو الله)) .

ص: 2331

ثم بعد أن علق على ذلك وتتبع الروايات، قال: ويبدو أن تغير أحوال الناس وظهور عنصر الجشع وفقدان الأمانة والتقوى في معاملاتهم، وكذلك اتساع الأوضاع التجارية دفع الفقهاء إلى البحث عن حكم البيع بالزيادة المتفاحشة على الثمن المعتاد، ويبدو أن هناك اتفاقًا ظاهرًا في أنه متى علم البائع والمشتري قيمة السلعة التي تباع بها في الأسواق وحصل الغبن بزيادة في الثمن غير معتادة، أو نقص فيه كذلك فالبيع صحيح ولا حرمة فيه، ولو كان البيع فوق فائدة الربا بكثير، وما مثل هذا إلا كزارع وضع قليلا من الحب في أرضه فأنبتت عشرة من الأرادب، فالطريق مشروع والكسب حلال ورزق ساقه الله إلى التاجر والزارع، أما إذا جهلت قيمة السلعة فإن استسلم أحدهما لصاحبه بأن أخبره بجهله وتحدث عن بيع الاستئمان، ثم تحدث عن الغبن وحكمه، لأنه إذا بلغ الثلث يرد. واستخلص إلى أن الذي يتضح من هذا كله: أن الرأي الراجح هو ترك البضائع بغير تحديد سعر، أو تحديد أرباح للتجار على أن تقوم الدولة بواجبها في توفير البضائع وأنواعها، محاربة للغلاء أو الاحتكار أو السوق السوداء كما عليها إقامة الدين بين الناس، وإحياء ضمائرهم بالتقوى، والبعد عن إجحاف الناس وظلمهم أو استغلال حاجتهم للشراء وجهلهم بالأسعار، فعلى الدولة ترك تحديد الأسعار، أو تحديد أرباح التجار مع نشر الوعي الديني وحث الناس على تقوى الله في هذا المجال ومخافته.

ثم ذكر رأيه، فقال: إلا أنني أرى أن الأمر إذا استشرى جدًّا وصارت طبقة من الناس لا تخشى الله ولا ترحم الناس كما يحصل فيما يسمونه اليوم بالسوق السوداء، فعلى الدولة واجب محاربة هذه الطبقة، ومحاربة ما يفعلونه بخلق التنافس الصالح في التجارة وتوفير البضائع وأنواعها، وتوعية الناس بكل الوسائل بالأسعار المعقولة للبضائع جملة، جملة. ولا شك أن هذا من أهم مهام الدولة.

فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: أولًا ابتدأ بحثه بتحديد الموضوع فقال: قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر.

وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المارد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان (التسعير) .

على أن التسعير لا يقتصر على التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع ونحوهم

وكذلك هذا الموضوع لا يشمل (الغبن) ، لأن (الغبن) شيء آخر وتحدث بعض الأمر عن الغبن، ثم انتقل لبيان معنى التجارة ومعنى الربح، وتتبع الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة التجارة، ثم ذكر عنوانًا هو:" ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال ".

وذكر حديث الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) وبعد أن تتبع النصوص من هذا النحو استخلص سؤالا، وهو: هل حددت النصوص نسبة للربح؟

فيقول: ولكن إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقى رأس المال سالمًا. فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟

الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الرشيدة، وقبل ذلك القرآن الكريم، لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خمسًا، أو عشرًا، مثلا، يتقيد بها ولا يزاد عليها.

ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة، ثم أخذ يستدل على هذا المعنى ويؤكده، وانتهى إلى أن المقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًّا معينًا، أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقاته كلها.

ص: 2332

وأكد بعد ذلك هذا ولم أجد في كلام الفقهاء – في حدود ما أتيح لي الاطلاع عليه ولم أبحث كل البحث – ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته.

ثم يشتم من كلام الزيلعي أن التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة، فقد عرف الزيلعي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة، ولكنه لم يبين المراد بالقيمة، وهل هي ثمن المثل؟ أو القيمة هي ثمن الشراء؟

ثم بين مشروعية الربح إلى مائة بالمائة وأورد الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وقعت في حياته وأقرها كحديث حكيم بن حزام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له أن يبارك له في تجارته.

ثم انتقل إلى أكثر من هذا وهو مشروعية الربح أكثر من ذلك.

ومن الأدلة على مشروعية الربح بغير حد – إذا لم يأتِ عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما – ما صح أن الزبير بن العوام رضي الله عنه، أنه اشترى أرض الغابة بمائة وسبعين ألفًا وباعها بمليون وستمائة ألف.

ثم قال، وأحب أن أنبه على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها – وقد بين عدة وقائع والحديث والواقعة – ثم قال:

وأحب أن أنبه هنا على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها في العصر النبوي والعصر الراشدي، على جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلى ضعف رأس المال، أو أضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلى هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام – إن صح – وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها، ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع، ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس.

ثم بين الربح المحرم، وربح الاتجار بالمحرمات، ثم الربح عن طريق الغش والتدليس، ثم التدليس بإخفاء سعر الوقت في بيع الاستئمان، وما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من البيوع وأسباب ذلك ثم قال:

فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أنه ليس له أن يغتنم – أي التاجر – فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين.

ص: 2333

وبين الربح عن طريق الغبن الفاحش فقال:

ينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب وأتى بنصوص تؤكد ذلك، ثم تحدث عن الاحتكار، وعن المواد التي يدخلها الاحتكار، وترجيحه أن كل ما يحتاج إليه الإنسان يدخله الاحتكار. وختم الحديث بهذه الخاتمة التي تعبر عن رأيه.

وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية، وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب، دون تلاعب أو تدليس أو تدخل مفتعل، لإغلاء الأسعار على عموم الناس

فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضى عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح التجار بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع، وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالى. وهذا هو موضوع (التسعير) ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، وما شروطه

إلخ، وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص والخلاصة التي نخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي:

1-

أن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامى.

2-

أن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديلها، بل وجد في السنة ما يدل على جواز بلوغ الربح إلى ضعف رأس المال أو أضعافه.

3-

أن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلى هدي السلف وأبعد عن الشبهات.

4-

أن الربح لا يحل للتاجر المسلم، إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام، فأما إذا اشتلمت على محرم كالاتجار في الأعيان المحرمة أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوها فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا.

5-

أن القول بأن التجار أن يربحوا بالحلال ما شاؤوا، في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها.

ص: 2334

البحث الرابع، هو بحث الشيخ حمداتي ماء العينين: هو افتتحه بمقدمة حول تحديد الأرباح ثم عرف التجارة من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعرضت لذكر التجارة، وفي المبحث الثاني عرف بيع المرابحة المتعارف عليه، واستخلص ضرورة مراقبة أرباح التجار من هذا النوع، وأن وجوب مزيد أحكام في التنظيم وفي المبحث الثالث حلل أحكام التسعير، بعد تعريفه يبين أن الأساس هو الحديث الشريف، والقائل أن الله هو القابض، الباسط، والرازق، والمسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال، غير أن تبدل الأحوال واختلاط المسلمين بغيرهم حمل عمر على التدخل في شأن أحوال السوق، واستعرض أقوال أمهات الكتب، وفي المبحث الرابع استعرض بعض الشواذ التي يجب أن يسلم منها البيع، حتى يكون الربح الذي يجنيه منه التاجر ملكًا حلالًا، مبينًا من خلال هذه النقطة جملة من البيع المنهي عنها كالخلابة بجميع صورها، وتلقي الركبان، وغيرها من البيوع الفاسدة بحكم القرآن والحديث وفي النقطة الخامسة تكلم عن الاحتكار بصفته إحدى الوسائل التي تمكن التاجر " من أرباح يجب أن يحال بينهم وبينها، لما فيه من مضرة للمسلمين، ومخالفة للنصوص الصريحة في السنة. أما النقطة السادسة، فقد خصصها لما سماه " بمبررات تدخل الدولة في أرباح التجار " مبينًا أنها ترتكز على عدم تمكن روح الإسلام من الناس، وعدم تحرج الإنسان اليوم من الكذب، وقال بالحرف: يمكن أن نخرج من كل ما سبق بملاحظات أساسية هي أن مراقبة وتحديد أرباح التاجر لها أكثر من أصل في الشريعة الإسلامية، سواء أكان الربح عن طريق عقد مساومة أو عقد بيع. فقد نظمت كتب الفقه الإسلامي ذلك تنظيمًا محكمًا، وبعد أن عدد الصور التي اعتمدها لمبررات التدخل لتحديد ربح التجار ومراقبتهم، أنهى بخاتمة هذا مجملها:

إن أهم ما يمكن أن تهتم به المؤسسات الإسلامية – في نظرنا – انطلاقًا من توصيات المجمع الفقهي هو سن قانون إسلامي تجاري، يستطيع المسلم بوساطته التعامل مع المصارف داخل العالم الإسلامي وخارجه بعيدًا عن الربا، فقال بأن التجربة أعطت على أن الشريعة الإسلامية أكثر استجابة لتلبية جميع المستجدات بإيجاد الحلول الصالحات لها، ولكنها مهمشة مع الأسف من أبنائها قبل غيرهم، وألح على أن الشعارات والتوصيات وفتاوى العلماء وحدها لا تكفي، ما لم تقم الجهات الرسمية في العالم الإسلامي بتبني الشريعة تطبيقًا لا ادعاء، هذا هو ملخص البحث.

ص: 2335

البحث الخامس، هو البحث الذي تقدمت به وسأختصر على بعضه، هو – في نظري – أن هذا العنوان يحتمل:

أولًا: تحديد مقدار نسبة الربح من رأس المال من قبل الشارع، والتزام المؤمن بتطبيق حكم الشريعة، وهذا أمر لم أجد فيما وقفت عليه نصًا، لا في القرآن ولا في السنة ولا في كتب الفقهاء، يحدد الربح بنسبة لا يجوز تجاوزها، خاصة وأن التاجر معرض للخسارة والربح على حد سواء، فلما كانت خسارته لا تضمن، وكساد سلعه لا يضمن فكذلك ربحه ينبغي أن يكون فيه ما يغطي نفقاته، واحتمال خسارته التي ربما تصل إلى رأس المال كله.

ثانيا: يحتمل هذا العنوان تحديد النسبة التي إذا تجاوزها غدا التاجر غابنًا للمشتري، وهذه قضية أخرى هي قضية " الغبن " واختلاف الفقهاء فيها.

الثالث: وهو الذي أرى أنه هو المقصود بالعنوان، هو تدخل السلطة لتحديد ربح التجار، وهو " التسعير " والتسعير: أوسع تعريف وجدته للتسعير هو الذي جاء في (مطالب أولي النهى) ، هو تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا، وإجبارهم على التبايع بما قدره.

وحكم التسعير: لا شك أن التسعير تقييد لحرية البائع، وعدم اعتبار لرضاه أو سخطه بالقيمة التي يحددها صاحب السلطة، وعنصر الرضا شرط أساسي لسلامة العقود، والضغط على إرادة البائع لبيع سلعته بثمن محدد من إرادة صاحب السلطة هو إكراه، وأمر السلطان إكراه بالإجماع، إلا أن هذا الإكراه، هل هو إكراه بحق فلا إثم فيه، أو هو إكراه بغير حق، فالحاكم المسعر آثم، أو المقام مقام تفصيل؟ للإجابة عن هذا لا غنى عن الرجوع إلى القرآن والسنة، أما القرآن فلا نجد فيه في التسعير إلا الآية العامة التي هي قاعدة من قواعد التعامل، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .

فالنهي عن أكل المال بالباطل، واشتراط الرضا في التعامل من القواعد العامة التي تتنزل على الوقائع بالاجتهاد.

ص: 2336

ثانيا: السنة:

فمن ذلك الحديث الذي رواه أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سعر لنا، فقال:((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)) ، أخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال: حسن صحيح وكذلك الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، والحديث الذي رواه أبو هريرة فالأحاديث متصلة عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك تتفق كلها:

أولًا: على أن الأسعار ارتفعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيا: أن الصحابة طلبوا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم لتحديد السعر.

ثالثا: أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من التسعير.

رابعًا: أنه لم يستجب لطلبهم، معللًا رفضه بكون التسعير مظلمة، يخشى أن يطلبه أحد بها يوم القيامة، وإن الظلم حرام.فظاهر الأحاديث تقتضي المنع من التسعير أيضا، كما أن ظاهر القرآن يقضي بالمنع أيضًا، ولذلك فإن بالرجوع إلى كلام فقهاء الأئمة الأربعة نجدهم يجمعون على أن الأصل في التسعير هو التحريم، فمذهب الحنفية: فقد جاء في الفتاوي الهندية: (ولا يسعر بإجماع) ، ومذهب المالكية، سئل ابن القاسم عن قول مالك:" ينبغي للحاكم إذا غلا السعر واحتاج الناس أن يبيعوا ما عندهم من فضل الطعام أن يبيعوا؟ قال: إنما ما يريد مالك طعام التجار الذين خزنوا للبيع من طعام جميع الناس، إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك "، ولم يقل مالك: يباع عليهم، ولكن قال: يأمر أي السلطان بإخراجه، وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما عندهم مما فضل عن قوت عيالهم كيف شاؤوا، ولا يسعر عليهم. قيل: فإن سألوا الناس ما لا يحتمل من الثمن قال: هو ما لهم يفعلون فيه ما أحبوا، لا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم. هم أحق بأموالهم، ولا أرى أن يسعر عليهم. وما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون إلا يبيعوا، وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أراد العدل. ومذهب الشافعية، هو يحرم التسعير ولو في وقت الغلاء، بأن يأمر الوالي السوقة بألا يبيعوا أمتعتهم.

ص: 2337

ومذهب أحمد، قال ابن حامد: ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا هو مذهب الشافعي، وكما استدل أصحاب المذاهب على أن الأصل في التسعير المنع بالقرآن والسنة. وكذلك استدلوا المنع بالمصلحة التي يجب مراعاتها وبالعدل الذي هو المعيار الذي يجب أن يضبط تدخل صاحب السلطة يقول الشوكاني: ووجه المنع من التسعير أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من النظر إلى مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، فالشوكاني يثير قاعدة مقطوعًا بها، إن الحاكم ليس له أن يحابي طرفًا ليستفيد طرف آخر، ولما كانت مصلحة البائع أن يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه، دون أن يلزم أحدًا بالشراء منه، وكانت مصلحة المشتري أن يحصل على مرغوبه بأقل ثمن ممكن، ولما تعارضت المصلحتان وجب على الحاكم أن يعتزل عن التدخل، وأن يترك لكل من المتبايعين الاجتهاد لمصلحة نفسه، ذلك هو شأن البيع الذي هو باتفاق مبني على المكايسة، والمماسكة. فهذه النظرية التي يدافع عنها الشوكاني هي نظرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، وقبول كل طرف بالنتائج المترتبة على ذلك، فكما يعجز الحاكم عند رخص الأسعار وخسارة التجار أن يفرض على المشترين سعرًا أرفع، فكذلك ليس له إذا غلت الأسعار أن يخفض منها لفائدة المشترين، وهذه النظرية هي نظرية سليمة في بادئ الرأي لو كانت الحياة تجري على نسق وفرة العرض وقلته، ووفرة الطلب وضآلته، ولكن التجار قد يتدخلون لإعطاء صورة مفتعلة ليوفروا لأنفسهم أرباحًا أكثر، كما سنبينه.

فهذه النصوص التي ذكرناها، والأدلة المستندة للقواعد التي حللناها، يعارضها من ناحية أخرى أدلة وقواعد يمكن الاستناد إليها، فمن ذلك الاحتكار فقد ورد في الاحتكار أحاديث كثيرة رويت بطرق متعددة تدل على تحريمه، فقد روى مسلم قال: كان سعيد بن المسيب يحدث أن عمر بن عبد الله العدوي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر فهو خاطئ)) .

إن تتبع المذاهب في الاحتكار يدل على اتفاق المذاهب في الحقيقة وإن ظهر اختلاف بينها – بعد أن بينت كل المذاهب في الاحتكار في بادئ الرأي – ذلك أن المذاهب الأربعة تتفق على أن الاحتكار المحرم هو ما كان طريق التحصيل عليه الشراء من السوق، وإن المنتج والجالب للسلعة من مكان بعيد حر التصرف في سلعته، له بيعها وادخارها.

ص: 2338

ثانيا: إن الادخار في الوقت الذي يكثر فيه العرض كثرة تفوق الطلب لا حرمة فيه، بل هو مستحب حتى لا تهبط الأسعار هبوطًا يعزف معه المنتج عن الإنتاج.

ثالثا: أن العلة التي يظهر بين الحين والآخر مؤثرة في الترحيم هو قولهم: تعلق حق العامة إذا لم يضر ذلك بالناس. والضرر – كما صرح به ابن العربي – هو غلاء الأسعار، ومن هذه النقطة يظهر وجه ربط الاحتكار بالتسعير، لماذا أتيت به؟

فالمذاهب الأربعة تحرم الاحتكار، وتعطي المحتسب الحق في التدخل حفاظًا على استقرار الأسعار، فهم جميعًا يعتبرون أن استقرار الأسعار مصلحة عامة، وأن الحرية مصلحة خاصة تهدر في مقابلة المصلحة العامة. وأما التفرقة بين الطعام وغيره واختلافهم في تحديد الأطعمة، وإدخال اللباس وعدم إدخاله، إنما هو اختلاف في التدقيق في النظر، فمن تعمق في تقدير الحاجات الإنسانية التي لا بد منها لم يقصر تحريم الاحتكار على القمح والشعير، ومن رأى أن ذلك هو الضروري لبقاء الحياة قصر التحريم، والذي يظهر أن الاحتكار على مستويين المستوى الأول: ما تستطيع المجموعة مقاومته بالامتناع عن الشراء حتى يضطر المحتكرون إلى النزول بسلعهم للسوق. وهو مستوى من التوكل عند المؤمن ورضا بالمقدور، وعند غير المؤمن مستوى متدنٍ، وعلى كل فإن تهافت البشر على ما ليس ضروريًّا لحياتهم يتحملون بتهافتهم قسطًا من اندفاع المحتكر للاحتكار، فالمسئولية موزعة ولذا رأى أكثر الفقهاء أنه لا حرمة فيه والمستوى الثاني: هو أن لا تستطيع المجموعة التأثير على المحتكرين لكون الاحتكار في عيش البشر وما لا يصبرون على اقتنائه، وهنا فالاحتكار طلبًا للغلاء حرام إذ ترضخ الجماعة للأسعار التي يفرضها المحتكرون، فمن راعى هذه الدقة قصر التحريم على الضروري، ومن راعى أن المستوى العام للمجموعات البشرية أنها لا تصبر على المفقود عمم في تحريم الاحتكار.

وعلى كل فإن التأثير في غلاء الأسعار هو الذي أباح للمحتسب التدخل وحرم الاحتكار على المحتكر.

ص: 2339

وبجانب الاحتكار أيضًا – ما يدل على تدخل الحاكم للتسعير – فقد ورد في الشريعة ما يبيح انتقال الملك بقيمة المثل إلى غير صاحبه وبدون رضاه، فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن عبد الله بن عمر من أعتق شركًا له في عبد فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عنه ما عتق.

فالحديث نص على أن المعتق لنصيبه من العبد المشترك عليه إن كان واجدًا أن يدفع إلى شركائه قيمة حصصهم بعد أن يقوم العبد بقيمة المثل، ومن ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري وأحمد، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) ، أجمع العلماء على جواز الأخذ بالشفعة وهي في حقيقتها إجبار المشتري على تمكين الشريك من الحصة التي اشتراها بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهي تتضمن خروج الملك عن مالكه بغير رضاه، وأن القيمة محددة هي ثمن الشراء ليس له أي أدنى حظ من الربح.

فإذا كان الشارع قد أباح انتزاع ملكية العبد من سيده جبرًا وبسعر محدد هو سعر المثل لتحقق العتق الذي يتشوف له الشارع، وإذا كان الشارع قد أجبر المشتري للشقص على بيع شقصه بالثمن الذي اشتراه به الدفع الضرر عن الشريك وهي مصلحة جزئية لا أفضلية للشريك إلا بالسبق الزمني في التملك، فالتسعير أولى بالقبول، ولذا فإن العلماء بعد اتفاقهم على منع التسعير، أخذوا ينظرون في القضية نظرة جديدة، ومن ذلك ما ذكره ابن العربي في العارضة، وقال سائر العلماء بظاهر الحديث أي بمنع التسعير، ثم قال: والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومقادير الأحوال وحال الرجال والله الموفق للصواب وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم واستلموا إلى ربهم وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى.

فابن العربي نظر إلى القواعد الشرعية فرأى أنها جاءت بالعدل وأن لا يمكن المهرة من الإثراء بوساطة التلاعب في الأسواق وإغلاء الأسعار وأن الحاكم قد نصب لإقامة العدل بين الناس، وأن سياسة البشر الذين يغلب عليهم تقوى الله والإيثار تخالف سياسة البشر الذين همهم ملء خزائنهم والاستئثار وطغيان حب الذات والأنانية ولو بالتضييق على الناس فما حكم به صلى الله عليه وسلم حق في الوقت الذي حكم به.

ص: 2340

معنى ذلك أن هذه قضية عين لا عموم لها، هذه من ناحية ومن ناحية أخرى فإن نص الحديث لا يدل على أن الغلاء كان نتيجة عبث بالسوق وإنما ارتفع الثمن في سوق المدينة تبعا لعوامل موضوعية لا دخل للتجار فيها، ولذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالكشف عن الفاعل في الغلاء بقوله:((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)) فارتفاع الأسعار عهده كانت متسببة عن تصرف إلهي حكيم في الكون تعرف آثاره ولله الحجة البالغة وهو ما يفهم عنه الرواية الأخرى بل أدعو الله.

إذن هما اتجاهان الأول لأصحاب المذاهب لا يتدخل السلطان ولا نائبه في التسعير أصلًا. الاتجاه الثاني أن للسلطان أو نائبه حق التدخل في التسعير إلا أن هذا التدخل في التسعير للمصلحة قد اختلف فيه الفقهاء تبعًا لتحديدهم للمصلحة المسوغة لذلك كما أن ميادين التدخل قد تكون في السلع المعروضة في السوق عند التجار وقد تكون في السلع المجلوبة وقد تكون في الخدمات البشرية، وقد تكون في الانتفاع بالمباني والآلات.

القسم الأول – تدخل السلطة في أثمان المبيعات:

الحنفية يقول الطوري، إن الثمن حق البائع وإليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون تعديًّا فاحشًا وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير، والتعدي الفاحش هو تضعيف القيمة، يقول في الدر المختار وأفاد أن التسعير في القوتين (أي قوت البشر والأنعام) ثم قال لكن إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا العامة فيسعر عليهم الحاكم بناء على قول أبي يوسف، فالحصكفي جعل القول بتسعير الحاكم في غير القوتين إذا أضر بالعامة غير منصوص لأئمة المذهب، ولكنه مخرج على قول أبي يوسف أن كل ما أضر حبسه بالناس فهو احتكار في أصل مذهب الحنفية أن الإمام أو نائبه لا يتدخل في تسعير قيم المبيعات إلا في القوت إذا تلاعب التجار بالسوق حتى بلغ الضعف نصًّا في المذهب وغير القوت قياسًا على القوت.

المالكية: سئل القاضي أبو عمر بن منظور عن التسعير، فكان مما أجاب به أهل الأسواق والحوانيت الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملًا، ويبيعون ذلك على أيديهم قيل هم كالجلاب الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق قاله عبد الله بن محمد والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وقيل إنهم بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس، وأن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه وينهى عن الزيادة ويتفقد السوق فيمنع من الزيادة على ما حد، ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق إن كان البائع معتادًا لذلك مشتهرًا به، وهو قول مالك في سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به من السلف جماعة، ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من غير نظر ما يشترون به وإلا أن يقول لهم فيما اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل. وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما، مما يكون نتيجته ما فيه ضرر.

ص: 2341

فابن منظور يرى أن على صاحب السوق أن يتدخل بتحديد الثمن كلما تعسف أهل السوق من التجار في مقتضى الحرية، وظلموا الناس دون أن يربط مجال التسعير بقوت أو غيره، والذي ذهب إليه ابن عرفه أن التسعير إنما يكون في القوت خاصة لقوله في تعريفه (تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه)، علق الرصاع على هذا بقوله: أخرج به غير المأكول لأنه لا يسعر.

وما ذهب إليه منظور من أن الحاكم يسعر على أهل السوق بعد أن ينظر في شرائهم ويترك لهم من الربح ما لا ضرر فيه على العامة وأنه لا يحل له أن يحدد ثمنًا دون نظر إلى معطيات موضوعية للتسعير، وإن هذا أمر متفق عليه يؤكد ذلك ما في سماع أشهب إذ قال صاحب السوق: بيعوا على ثلث رطل من الضان ونصف رطل من الإبل (يعني أن الدرهم يشتري به ثلث رطل أو نصف رطل)، قال مالك: ما أرى به بأسًا إذا سعر عليهم شيئًا يكون فيه ربح يقول لهم من غير اشتطاط.

الشافعية: اقتصر صاحب تكملة المجموع على نقل كلام ابن القيم.

الحنابلة: الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، يقول ابن القيم: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز.

فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعارضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عرض المثل فهو جائز بل واجب.

وابن القيم يلتقي مع ابن العربي، في أن التسعير لا يحكم عليه حكم مطلق ولكن ينظر الظلم فهو واجب، وبهذا يصبح الخلاف هو في تحقيق المناط أي في بيان الأحوال التي تحقق فيها الظلم لصاحب السلعة، فيكون تصرف صاحب السوق حرامًا، وفي الأحوال التي ظلم فيها أرباب السلع غيرهم فيكون رفع ظلمهم واجبا.

ص: 2342

أنواع صاحب السلعة:

الجالب والمنتج: قد يكون صاحب السلعة جالبًا للسلعة والرأي الغالب أن الجالب لا يسعر عليه، أصله ما رواه مالك في موطئه أن بلغه، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه قال لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء أو الصيف، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله، فهذا الحديث يدل على حرية الجالب في التسعير لا يتسلط عليه، وكذلك المنتج يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه لا يتسلط عليه الحاكم فيحدد له الثمن إلا أنه إذا كان أهل السوق قد جرى بينهم سعر فجاء الجالب ليرفع في الثمن أو ليخفض فيه فإنه لا يتعرض له في تحديد الثمن، ولكن هل يرفع من السوق أولًا؟ خلاف، فمالك اعتمد ما رواه من حديث عمر رضي الله تعالى عنه مع حاطب بن أبي بلتعة فعن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلعة، وهو يبيع له زبيبًا بالسوق فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا، فهم بعضهم أن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أقل مما يبيع غيره، فنهاه عمر عن ذلك ليحط من الثمن ويسير مع ثمن أهل السوق، وقيل بل إن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أكثر مما يبيع به غيره وهذا مفضٍ للخصام بين من يخفض في الثمن وأهل السوق، ولذلك لم يفرق كثير من العلماء في الخروج عن الثمن بين الزيادة والنقص، قال ابن القصار: اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حط سعرًا، فقال البغداديون أراد: باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية بدرهم، وقال قوم من البصريين أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة فيفسد على أهل السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة، قال ابن القصار وعنه أن الأمرين جميعًا ممنوعان ورأي ابن رشد هذا – الذي أيده – هو غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك فعله لوجه الناس، ويؤجر إن فعله لوجه الله بهذا عقب صاحب الطرق الحكيمة.

يتبين مما سبق أن التسعير لا يعطي لصاحب السلطة الحق في التعسف في الحكم وفرض السعر على الناس حسب تقديره الخاص ولا يمكنه من التسعير بالاعتماد على رأي المشترين وإنما يجمع هيئة تتألف من التجار والخبراء، ويعتمد المعطيات الحقيقية من ثمن الشراء وما يرغب التجار في الاستمرار على القيام بدورهم من إيصال السلع إلى الراغبين فيها، وعلى هذا فالسعر غير ثابت وإنما هو تابع لتقلب السوق واختلاف القيم، يقول صاحب التيسير في أحكام التسعير: يجب على صاحب السوق الموكل لمصلحته أن يجعل لهم من الربح ما يشبه ويمنعهم من الزيادة عليه ويتفقدهم في ذلك ويلزمهم إياه كيفما يتقلب السعر زيادة أو نقصانًا.

ص: 2343

مخالفة التسعير:

إذا تدخل صاحب السلطة وسعر على الناس فإنه يجب أن يطاع، لأن القضية محل خلاف وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ويلزم كل الناس احترام حكمه ما دام غير مناقض لأصل يقيني.

وإذا خالف البائع وباع أكثر من القيمة فالبيع صحيح، ففي الفتاوي الهندية إن سعر فباع الخباز بأكثر مما سعر جاز بيعه، ويقول الشربيني: فلو سعر الإمام عزر مخالفه بأن باع بأزيد مما سعر لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخالفة وصح البيع إذا لم يعهد الحجر على المختص في ملكه أن يبيع بثمن معين، والتعزيز عند الحنفية لا يكون إلا إذا تكرر من التاجر المخالفة، يقول الطوري: وينبغي للقاضي والسلطان أن لا يجعل بعقوبة من باع فوق ما سعر به بل يعظه ويزجره، وإن رفع إليه ثانيًا فعل به كذلك وهدده وإن رفع إليه ثالثًا حبسه وغرره حتى يمتنع عنه ويمتنع الضرر عن الناس.

أما حكم الشراء بالسعر المحدد:

يقول الطوري: ومن باع منهم بما قدره الإمام صح لأنه غير مكره على البيع، كذا في الهداية وفي المحيط إن كان البائع يخاف إذا زاد في الثمن على ما قدره أو نقص في البيع يضربه الإمام، أو من يقوم مقامه، لا يحل للمشتري ذلك لأنه في معنى نقص في البيع يضربه الإمام، أو من يقوم مقامه، لا يحل للمشتري ذلك لأنه في معنى المكره والحيلة في ذلك أن يقول له – أن يقول المشتري للبائع – تبيعني بما تحب وعند الحنابلة يبطل البيع إذا هدد المشتري البائع ويكره الشراء بالتسعير وإن هدد من خالفه حرم البيع وبطل، لأن الوعيد إكراه.

وفيما قاله الحنابلة نظر، ذلك أن الإكراه المؤثر في العقد هو الإكراه التعسفي الذي تسلط فيه القوي على الضعيف فيخضعه لإرادته، أما إذا كان الإكراه تطبيقًا لمقتضيات الشرع فلا حرمة فيه ولا بطلان، كما يكره الشفيع المشتري للشقص على تحويله له بثمنه، وكما يكره الشريك شريكه على البيع فيما لا يقبل القسمة، وكما تكره الزوجة زوجها على تنفيذ قضاء القاضي بالنفقة عليها حسبما قدره.

ص: 2344

أما التسعير في عصرنا الحاضر:

أن التسعير في عصرنا الحاضر يختلف عن التسعير في العصور السابقة، كما أنه يختلف أمره من بلد ومن بضاعة إلى بضاعة أخرى ويتبين ذلك مما يأتي:

أولًا: جرت بعض البلدان التي لها قوة مالية تغطي احتياجاتها أو تفوقها أنها لا تتدخل في التوريد ذلك أن عملتها لها من الغطاء ما يضمن رواجها بقيمتها، وهذه الدول تبني اقتصادها على قاعدة العرض والطلب، فترفع الأثمان أو تنخفض تبعًا لهذه القاعدة ولا يرى الحاكم أنه في حاجة إلى التدخل وأن عدم تدخله يضمن تدفق السلع للأسواق والمزاحمة، خاصة وقد غدت وسائل النقل وإيصال السلع تشمل البر والبحر والجو، وأصبح التجار في هذه البلدان يعتمدون لتحقيق الأرباح دوران رأس المال، قلما يلجأون إلى الاحتكار.

ثانيا: جرت بعض البلدان ذات الاقتصاد الضعيف أن تتدخل في الحركة الاقتصادية من عدة نواح:

(أ) لما كانت عملتها لا قيمة لها خارج حدودها، وهي غير ملزمة بمقايضتها لما كانت كذلك كان التوريد خاضعًا لتمكين المورد من العملة التي يقبلها البائع خارج الحدود الوطنية، وهذه العملة ليست من مجهود المورد ولكنها مجهود الأمة، وبهذا الاعتبار، فالمورد يملك رأس مال ناقص تكمله له الدولة من ثروة الأمة، وتنظيم شئون الدولة حصر قائمة الموردين حسب شروط وتنظيمات، وبهذا فإنه يحق للدولة أن تحدد سعر البيع كما تراقب سعر الشراء وهو ما نص عليه ابن القيم لما قال: أن يلزم – أي الحاكم – الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا ناس معروفون – إذا وقع هذا – فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل وألا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد العلماء، لأنه إذا منع غيرهم من أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوًا كان ذلك ظلمًا للناس.

(ب) إن الدولة تجد نفسها ملزمة لظروفها الاقتصادية والاجتماعية أن توقف غلاء المعيشة وتيسر على ذوي الدخل المحدود اقتناء بعض الضروريات بثمن أخفض من قيمتها الحقيقية، وتعوض ذلك من صندوق الخزينة الفارق بين القيمتين، وهنا لا بد لها من أن تحدد ثمن البيع لأنها في حقيقة الأمر أسهمت في رأس المال، فهي شريكة ومن يشاركها قد دخل على أنه لا يزيد على الثمن الذي حددته.

فيظهر أن تدخل الدولة في التسعير هو نتيجة ضعف في الاقتصاد الوطني وأنه كلما كان الاقتصاد قويًّا كانت الدولة في غنى عن ذلك.

والله أعلم وهو حسبنا ونعم والوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 2345

الدكتور محمد عطا السيد:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك.

أود أن أقدم فأقول إن هذه المسألة – أيضًا – من المسائل التي تعاني منها كثير من شعوبنا الإسلامية، بالذات الشعوب ذات الاقتصاد الضعيف، فقد هيمن في هذه الشعوب فئة معينة من التجار ممن ينتسبون إلى التجارة وفرضوا أساليب معينة، وإجراءات معينة، واتجاهات معينة جعلت من أسعار البضائع – يعني – جعلت فيها غلاء سبب معاناة شديدة وحرجًا كبيرًا لهذه الشعوب، والذي يزور الآن كثيرًا من هذه البلاد الإسلامية يجد أن هذه الشعوب: توجد البضائع قي الأسواق، وبضائع أساسية وضرورية لقوتهم وقوت عيالهم يرونها بأعينهم ولا يستطيعون شراء هذه البضائع نسبة للغلاء المتفاحش الذي تباع به هذه السلع، ولذلك أرى – أسأل الله سبحانه وتعالى – أن يوفق هذا المجمع، أن يخرج أيضا بقرار حازم، وفقهي واضح للفئات الثلاثة، وهو ما يبين حدود وحقوق التجار وأيضًا حدود وحقوق التجار وأيضا حدود وحقوق ولاة الأمور في هذه المسألة، وكذلك أيضًا حقوق وحدود عامة المسلمين – فهذه المسألة – هذه المعاناة التي ذكرت ليس فقط هو أنهم يعانون في عدم شراء مستلزماتهم، ولكن تسببت في كثير جدًّا من المفاسد، بأن لجأ عدد كبير من هؤلاء إلى أن يستعملوا وسائل فاسدة لكي يزيدوا من دخولهم ويقابلوا هذا الغلاء، لأنهم وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يعالجوا أطفالهم أو يشتروا لهم من المستلزمات الضرورية التي تكفل لهم العيش الصالح، ولذلك تسببت أيضا في مفاسد عديدة في مجتمعنا حتى يحصل الناس على ما يكفل لهم المعيشة لهم ولأطفالهم، فإذن هي مسألة مهمة، وأود – إن شاء الله – أن يوفق اللجنة والمجمع في الخروج فيها برأي واضح، كما ذكر فضيلة المقدم جزاه الله كل خير، أن هذه المسألة يدور فيها – في رأيي، وباختصار – أن الله سبحانه وتعالى كفل في هذه المسألة حقها، وهي حرية الرضا التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .

ص: 2346

فهذا الحق كفله الله عز وجل في كتابه وهو الرضا لكل من يملك، من حقه إذا كان يملك سلعة ويريد أن يبيعها بمطلق رضاه، وله مطلق التصرف، وهذا ما كفلته الشريعة للمالك الحقيقي لأي سلعة، بينت السنة هذا الحق، عندما قال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم غلا السعر يا رسول الله فسعر لنا، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر، وقال:((إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال)) . والنبي صلى الله عليه وسلم هو أرأف الناس بالمسلمين، ولو كان هنالك أي حرج يشكو منه المسلمون، وكانت فيه وسيلة معينة لأن يحدد السعر لفعل، ولكنه بما أوتي من مجامع الكلم ذكر أن هذه مظلمة، وهي في الحقيقة مظلمة، لأنها تنفي حقًّا مؤكدًا في كتاب الله تعالى، وهي هذا الرضا الذي كفله الله تعالى للمتبايعين، لأنهما يملكان هذه السلعة من حقهما. النبي صلى الله عليه وسلم أكد أن هذه المسألة مظلمة وفي رأيي في كل العصور تظل مظلمة أن يتدخل الوالي لتحديد السعر، وقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، لكن هل وقف الشارع الكريم عند هذا الحد، وجلس يترك هذه الفئة تهيمن على الناس وتأكل أموالهم؟ أبدًا هنالك حديث مهم جدًّا أوردته في البحث وما أظن عددًا من البحوث الأخرى أورد هذا الحديث، وهو حديث صحيح بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم بينما رفض أن يحدد الأسعار، أو أن يأتي بهذه المظلمة، لكن بين فيه قاعدة مهمة جدًا – والحديث هو حديث صحيح رواه مسلم والبخاري وغيرهما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يبع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) فالمتأمل لهذا الحديث يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد فيه حرية التجارة، وحرية التجارة هذه من المسائل – اليوم – التي تعرف فيها الاتفاقيات والمبادلات بين الدول، وبين الأشخاص، وتراقب الدول بعضها بعضًا مراقبة شديدة، في مدى ما تكفله هذه الدولة من حرية وما تكفله لبضائعها، وما تكفله الدولة الأخرى، فأصبح هذا مبدأ هامًّا للنشاط التجاري الصحي بين الدول وبين الأفراد، وأكده النبي صلى الله عليه وسلم منذ زمن بعيد ورفض التسعير لأنه مظلمة ولكنه قال:((لا يبع حاضر لباد)) ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة كما ذكر شراح الحديث ((لا يبع حاضر لباد)) هي أن يأتي البدوي بسلعة يريد التسارع في بيعها، مثل الخضار، اللحم، الفواكه، من هذه الأشياء يأتي بها، يريد أن يبيعها سريعًا ويرجع، فيأتي إليه الحضري ويقول له: دعني أغالي لك في بيعها، وكما ذكر ابن عباس في شرح هذا الحديث قال: أن يكون له سمسارًا، فقال: منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لأن في ذلك إضرارًا بالغير، فإذن هذا الحديث فيه مبدأ مهم جدًّا في المسألة التي نناقشها الآن وهي أنه بينما أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن التسعير مظلمة وسلب الحق أكده الله عز وجل في كتابه الكريم، بين أن لولاة الأمور – وقد بدأ ذلك الفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولنا فيه أسوة – أن لهم التدخل بكل الوسائل الممكنة، وبكل الطرق الممكنة للحد من الغلاء، فتصرفه بأن منع أن لا يبيع حاضر لباد، هذا تصرف واضح، والحكمة منه واضحة، وإذن لولاة الأمور أن يقفوا ويمتنعوا عن هذه المظلمة، وهي في الحقيقة ليست مظلمة فقط، بل تكفل للناس حرية الرضا وحرية التجارة وحسن التعامل بين الناس، لكن في نفس الوقت للدولة إذا تحرت ووجدت أن هنالك أي عوامل أو أي عناصر أو أي مجموعة من الناس تعمل وتخطط أو تجهد لكي ترفع لأسعار وتغنى – كما هذه الفئة من الناس التي ذكرها فضيلة الشيخ المقدم – على الدولة أن تحاربها بكل الوسائل للدولة أن تسن من اللوائح ما يكفل سوقًا صالحة، ورخاء في الأسواق، وعلى الناس طاعة هذه الدولة في هذه المسألة، والمسائل التي – أيضا – تقوم بها الدولة هي على الدولة وعلى ولاة الأمور في الدول الإسلامية مهام عظيمة وهي توفير البضائع للناس، وهذه مسألة – طبعًا- حسب ما يفتح الله عز وجل إذا توفرت هذه البضائع صارت السوق سوقًا حرة وللناس حرية التعامل فيها وحرية والتداول، وكذلك في رأيي أن على الدولة الصالحة التي تقتدي أو تشعر بواجبها في هذا الدين أن تحيي ضمائر الناس بالتقوى، النبي صلى الله عليه وسلم مدح التاجر الصدوق الأمين، وقال: إنه مع النبيين والصديقين والشهداء، وبين الخيارات المختلفة حتى تكفل هذا الرضا، وهذا التسامح في البيع، فإذن الدولة يجب زيادة على ما يجب تكفله من وفرة البضائع حتى تحارب السوق السوداء وغيرها من الأشياء، وما تكفله الدولة أيضًا من إحياء الضمائر بالتقوى والعمل الصالح والنزاع بين الناس في هذه الأمور، أنا في رأيي هذه مهمة كبيرة جدًّا على ولاة الأمور، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق في التدخل، وشكرًا.

ص: 2347

الدكتور منذر قحف:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

أنا في الحقيقة عندي بضعة نقاط وأرجو أن أدعو أيضًا إخواني الاقتصاديين الحاضرين لأن يتكلموا في هذا الموضوع، أحب أن أبدأ بالنقطة الأخيرة التي انتهى إليها الأخ الدكتور حمد عطا السيد، الحقيقة واضع المسلمين وواقع دولهم أن الدولة كانت المتسبب الأول والأكبر، وفي معظم الأحيان الوحيد في ما نسيمه من جشع التجار، واحتكار التجار، وانتفاعهم، والحقيقة أن الدولة هي المنتفعة أيضًا، الدولة بمعنى موظفيها، بمعنى من يتدخل، من يضع هذه اللوائح، من ينفذ هذه اللوائح، من يعطي التراخيص، ومن يمنع التراخيص، هي كانت المتسببة وهي المنتفعة وهؤلاء كما هو مألوف وملحوظ ومرئي هم شركاء ما يسمى بفئة التجار الجشعة، هذا واقع المسلمين، وهذا تدل عليه تجربة الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية خلال نصف قرن من الزمان، ليست فئة التجار هي المشكلة بل أن تنظيمات الدولة وتراخيصها وفئة البيروقراطية التي في الدولة هي التي سببت وعملت وانتفعت من هذه التدخلات، التسعير: أظن ينبغي أن نميز تمييزًا مهمًّا بين تسعير على فرد كما ورد في المثال الذي " أعتق عبدًا له فيه شرك " هذا تسعير على فرد، والتسعير هنا بسعر المثل بسعر السوق بمعنى آخر، بالسعر الذي يتكون بحرية التداول بالسوق، وبين التسعير على الأمة كلها، التسعير على الأمة أمر يمنع السلع، يمنع تداولها، يمنع الإنتاج، يؤثر على كفاءة الإنتاج إلى حدود بعيدة، وهذا أمر مجرب، لا شك أن هناك بعض الظروف التي تقتضي نوعًا من تدخل الدولة، الظروف الاستثنائية، ظروف عدم وجود المواد أصلًا، عدم توفرها، ظروف بطبيعتها استثنائية جدًا، فإذا جعل من هذا الاستثناء القليل النادر، إذا جعل منه قاعدة أدى ذلك إلى هبوط عام في الاقتصاد وفي كفاءة الإنتاج وكفاءة التوزيع، وأدى إلى تسلط فئات هي أكثرها من الفئات التي تصنع هذه الأنظمة وتضع هذه اللوائح، بعض السلع بطبيعتها تتضمن معنى الاحتكار، سلعة لا تنتج إلا باستعمال أموال كبيرة ولا يمكن توزيعها بطريقة تنافسية، مثل الكهرباء مثلا، إنتاج الكهرباء، هذا قد يأتي به موضوع أن تحدد الدولة أو أن تشترك الدولة في تحديد نوع ما من الأسعار على الناس بحيث تتوازن مصالح المستهلك والمنتج، وحتى في هذه السلع يلاحظ أن تدخل الدولة بالتسعير يؤدي في معظم الأحيان إلى عدم موافقة المنتجين لهذه السلع للتطورات الفنية الحديثة، بأن يتخلف الإنتاج عندهم وأن تبقى طريقة الإنتاج بطرق قديمة غير متطورة، وهذا أيضًا أمر ينبغي أن يلحظ كثيرًا عند التسعير حتى في مثل هذه الأحوال، كنت أود أن يركز الموضوع على مسألة تحديد أرباح التجار التي أشار إليها الدكتور القرضاوي، وهي موضوع مختلف عن مسألة التسعير، أحب أن أستمع من السادة العلماء إلى رأي في ما هي العناصر التي يلحظها التاجر المسلم؟ الضمير المسلم، عندما يحدد سعره، عندما يحدد ربحه دون تدخل الدولة، دون أي شيء، ما هي العناصر؟ ما هي المؤثرات التي تجعله يقبل بربح ما ولا يقبل بربح آخر؟ وهل يختلف الإنسان المسلم في هذا عن غيره من غير المسلمين؟ وهل يؤثر الإسلام بأن يجعل في نفس الإنسان عناصر واتجاهات تؤثر وتحدد له منحاه في ما يقبله من ربح، وما لا يقبل به؟ هذا غير تدخل الدولة أيضًا في تحديد الأسعار وهي نقطة مهمة جدًّا في دراسة نفسية الإنسان المسلم مقارنة مع غيرها في سلوكه الاقتصادي أكتفي بهذا والحمد لله رب العالمين.

ص: 2348

الشيخ محمد علي التسخيري:

شكرًا سيدي الرئيس.

أولًا: أود أن أشكر أستاذنا السيخ السلامي على هذا العرض الجيد الجامع فحياه الله، ولم يبقَ لي أي كلام يرتبط بمقالي، وإنما أردت أن أؤيد ما تفضل به الأخ الدكتور المتحدث قبلي الدكتور منذر، من أن الحكومات اليوم أحيانا يكون لها دورها المؤثر في رفع الأسعار، وفي إيجاد هذه الأزمات التي نلاحظها وأعتقد أن هناك عوامل في هذا المعنى منها وجود اتجاهات – واقعًا – اشتراكية جافة جدًّا حتى عند من ينتسبون إلى الإسلام ويؤمنون –واقعًا- بالإسلام ولكنهم متأثرون تماما بالتخطيط المركزي القوي، الحديدي للأسعار، فهؤلاء يتدخلون وفق هذه الاتجاهات، وبالتالي يخلقون نوعًا من التضييق لا مبرر له، وربما دلتنا التجارب الواقعة اليوم على أنهم إذا فسحوا المجال فإنهم يرفعون التضييق عن الشعب من جهة، ويرجع السعر إلى حالته الطبيعية من جهة أخرى هذه التجارب عشناها عملًا في كثير من التطبيقات، الشيء الآخر، هؤلاء يعمدون إلى رفع أسعار خدماتهم التي يقدمونها للشعب، أو الضرائب التي يأخذونها على التراخيص وأمثال ذلك، وهي بالتالي تعطي مبررًا طبيعيًّا لأصحاب السلع لرفع الأسعار، هذه الأمور يجب أن تلحظ عندما يريد ولي الأمر أن يتدخل لتحديد الأسعار فلعله هو أو عماله هم السبب في رفع هذه الأسعار، الشيء الآخر الذي أشير إليه أننا لو غضضنا النظر عن التطبيقات الحالية، ولي الأمر يستطيع – اليوم – من خلال تقديمه الخدمات والتسهيلات والعملة الصعبة وأمثال ذلك، وهذا ما أشار إليه أستاذنا السلامي أيضا، من خلال تقديم هذه الخدمات يستطيع أن يشترط على التجار أن يدخلوا في إطار التحديدات العامة للأسعار، والقوانين العامة للسوق، يعني يستطيع الاشتراط من خلال تقديمه لهذه الخدمات (الماء، والأمن وما إلى ذلك) كل هذه الأمور تقدم على شرط أن يلتزم التجار بما يحقق العدالة في السوق الإسلامية، لا أرى مانعًا بهذا الاشتراط، وشكرًا.

ص: 2349

الدكتور يوسف محمود قاسم:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أقدم خالص شكري إلى فضيلة الأستاذ الشيخ المفتي محمد المختار السلامي، على هذا العرض الوافي بالنسبة للأبحاث، وبالنسبة لبحث فضيلته بالذات، الذي أشار فيه إلى آراء مجموعة كبيرة من السلف الصالح، ثم إلى بعض الآراء المعاصرة التي اختار هو ترجيحها، في الواقع من هذا العرض الذي سمعناه يبدو أن هنالك أصلًا قاعدة أصلية متفق عليها مسلمة في الكتاب والسنة وهو أن (التسعير حرام)" إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني أرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " فهو صلى الله عليه وسلم رفض أن يسعر؛ لأنه مظلمة، كما قرر ذلك علماء السنة، لكن وكما وضح العلامة ابن القيم أن هنالك استثناء، إذا تعنت التجار على أن يضروا بمصالح الناس وأن يرفعوا السعر عليهم ظلمًا وعدوانًا، فهنا يجوز لولي الأمر أن يتدخل لرفع الظلم، وعبارة ابن القيم:" يجوز بل يجب عليه لأن من اختصاصه ولاية المظالم، ورفع الظلم عن الناس " في الحقيقة أيضا، الدول المعاصرة في الدول النامية، الدولة النامية في الواقع هذه الدولة واقعة في ورطة، نتيجة عدم توضيح الأمور من الناحية الفقهية لها، لأننا كثيرًا ما قرأنا وسمعنا في الستينيات فتاوى كثيرة تبرر للدول المتسلطة أن تحدد السعر، والتسعير جائز، والتسعير والمصلحة، وهكذا، والكل يفتي، هذا أوقع الدولة الآن في ورطة لماذا؟ لأنه في الواقع التسعير من غير ضوابط يؤدي إلى ظلم ظاهر، كما أكد ذلك الحديث التسعير الذي تكلم عنه ابن القيم وابن تيميه وغيرهم، هو لرفع الظلم إذن تدخل استثنائي ولفترة محددة فيرفع الظلم، تتدخل الدولة لترفع الظلم عن الناس حتى يعود السعر إلى المجرى الطبيعي إلى العرض والطلب، ولذلك عبارة ابن القيم لا زالت في ذهني، أما إذا كان ارتفاع السعر راجعًا إلى قلة الشيء أو إلى كثرة الخلق، فهذا إلى الله، ولا يجوز التدخل، هذا مذهب ابن القيم، إذن القاعدة ما هي؟ القاعدة هي العرض والطلب، هذا هو الأساس متى يجوز التدخل استثناء؟ لرفع الظلم، على الدولة أن تتدخل لترفع الظلم، ثم ترفع يدها بعد ذلك عندما تعود الأسعار إلى مجراها إلى العرض والطلب، فضيلة الشيخ السلامي – جزاه الله خيرًا – أشار إلى عبارة، يقول: وعلى الدولة أن تعوض التجار من الخزانة العامة، هذه هي الكارثة الواقعة فيها كل الدول النامية الآن، موضوع الدعم، لِمَ الدعم؟ الدعم نتيجة عدم تبصير الدولة بأن التسعير حرام، فغالت مغالاة لا حد لها في التسعير، بطبيعة الحال يصرخ التجار، لأن التسعير يصادر كل أرباحهم، فتأتي الدولة سرًّا وتعوضهم الربح المعقول من خزينة الدولة، خزينة الدولة الآن تتحمل في سلعة واحدة في بعض الدول مليارين من أجل سلعة واحدة فيقول لك: الدعم ويأتي صندوق النقد الدولي ليتدخل، والدنيا تصرخ، والمشاكل التي لا حد لها، هذا من عدم ضبط قاعدة التسعير وبحمد الله حينما أثير هذا الموضوع أمام المجمع الموقر والذي له الكلمة العليا بين علماء المسلمين، والمسلمون ينتظرون كلمة الحق، التسعير حرام إلا إذا كان هنالك ظلم من التجار فتتدخل الدولة لرفع الظلم فقط، ثم ترفع يدها ليعود المجرى الطبيعي، مجرى العرض والطلب، وأكرر عبارة ابن القيم:" أما إذا كان ارتفاع السعر راجعًا إلى كثرة الخلق أو إلى قلة الشيء فهذا إلى الله " وشكرًا لكم. والسلام عليكم.

ص: 2350

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في تعليق الأخ منذر قحف أنه يرى أن هذا الموضوع ما كان ينبغي أن يبسط على هذا النحو، وأن الذي كان يأمله هو أن يعرف هل الإسلام يحدد للمؤمن نفسية خاصة في تحديد أرباحه، أو لا؟ ولست أدري هل كان معنا الأستاذ منذر قحف من الأول أو لا؟ لكن هذا أول ما ابتدأت به حديثي، فقد قلت: إنني لم أجد أي نص، لا في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال العلماء، يوجب على المؤمن أن لا يبيع إلا بربح محدد، بل الواقع الذي وجدناه في تعاليق الصحابة والتابعين، أنهم باعوا بخسارة، وباعوا بربح متوسط، وباعوا بربح يبلغ أضعاف الأضعاف فالقضية هي قضية سوق، ثم إن الإسلام يدخل في قلب المؤمن تارة فيجعله قنوعًا راضيًّا، وتارة يدخل قلب المؤمن ولكن لا يصل به إلى هذا الحد، فهي ليست قضية واجب، لكن هي قضية تأديب سلوك، ونحن هنا لا نبين – لسنا في مقام التبيين – القضايا السلوكية الخاصة التي يرغب فيها، ولكن في مقام الحقوق، فالموضوع يوضع لبيان ما يجب، وما يحرم، ومن باع ولو بأضعاف لا شيء عليه وشكرًا.

الشيخ خليل محيي الدين الميس:

بسم الله الرحمن الرحيم

كنا ننتظر من سماحة العلامة أن يبدأ بعنوانين بارزين وهما: التسعير والاحتكار، كل منهما تسلط مرفوض مبدئيًّا، فالتسعير تسلط الحاكم على الفرد، والاحتكار تحكم الفرد في الجماعة كل منهما من حيث المبدأ مرفوض إلا للضرورة، ولكن ماذا نقول إذا اجتمع كل من التسعير والاحتكار في يد واحدة، كما عليه الأمر في كثير من دول ذات نظام معين في الحكم؟ فهي المحتكرة، وهي المسعرة، وهي المضيقة على عباد الله في كلا الأمرين، كما أن هنالك تسعيرًا فيه توسعة، وهذا واضح في دول معينة، عندما تسعر إنتاجًا معينًا للتشجيع وتسعر للمواطنين أسعارًا معينة لمحاصيلهم الزراعية، فهي تعطي ربما فوق ما يستحقون، بينما دول أخرى تظلمهم في كلا الأمرين، ومن هنا فالاحتكار بالجملة والتسعير للتضييق كلاهما قيد على الحرية، هذا من حيث المبدأ ولكن لهذا المبدأ استثناءات إذا خرج المواطن عن أخلاقيته تدخل الحاكم ليرده إلى صوابه، وشكرًا والسلام عليكم.

ص: 2351

الدكتور محمد عمر الزبير:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طبيعة السوق اختلفت اختلافًا كبيرًا وجوهريًّا عن طبيعة السوق في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت القوى تتوازن لتحقق السعر العادل بين أطراف المتعاملين في تلك السوق، أما وقد تغيرت تلك الآلية في هذه الأسواق الحاضرة، فيجب أن تتنزل الأحكام على قضايا الواقع ودراسة واقع هذه الأسواق، فالتعارض والتنافر بين مصالح الأفراد في هذه السوق، هذا التعرض هو الظاهرة السائدة في هذه الأسواق، ولا بد من تدخل فئة من الفئات المعنية بتحقيق هذا التعادل والتوازن، الدولة لا بد أن تتدخل في تلك الأحوال، وأقول ليست هذه أحوالًا استثنائية، وإنما ظاهرة الاحتكار في هذه الأسواق هي الظاهرة العامة، فلا توجد تلك الأسواق السائدة في العصور السابقة، أختلف مع زميلي الدكتور منذر في هذه القضية، فإذا كانت الدولة هي المسببة في إثارة هذا التعارض وهذا الارتفاع في هذه الأسواق، إلا أن الدولة أيضًا لها دور كبير جدًّا في القيام بالتوازن بين هذه المصالح، وأعتقد أن التدخل واجب لإقامة العدل بين أفراد المجتمع وشكرًا.

ص: 2352

الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:

بسم الله الرحمن الرحيم

أقدم الشكر الجزيل للشيخ المختار السلامي، على تلخيصه الجيد، واهتدائه إلى النقاط المهمة في كل بحث من البحوث التي أسند إليه تلخيصها.

والحقيقة أن الموضوع اليوم هو موضوع شامل، وحيوي لأنه يهم السوق الإسلامية، والمواطن الإسلامي، فتحديد أرباح التاجر تتمحور تحتها عدة محاور، البيع – كما نعلم – هو بيع مساومة أو مرابحة، والمرابحة خطيرة في عصرنا لأنها أصبحت هي البيع الذي يكاد يشمل جل الساحة الإسلامية، فلا بد من النظر الإسلامي إليه، ولا بد من تنبيه حتى إذا لم نقل التدخل المباشر، لا بد من يقظة أولي الأمر لتتبع حال السوق، والحال أن الذين يبيعون في الأسواق لم يتلقوا أثناء دراستهم الدراسات الكاملة التي تبين لهم الحلال والحرام في البيع، والتي تعرفهم على مواطن الغبن الفاحش المحرم في الشريعة، وتبين لهم المواد التي يحرم بيعها للمسلمين، وتبين لهم غير ذلك من الأشياء التي يجب أن يتجنبها المسلمون في سوقهم، ففي هذه الحالة، تدخل السلطة هنا لا يقول به باحث من الباحثين الزملاء الذين تكلموا في الموضوع والذين لخص الشيخ المختار كلامهم، لا في المرابحة، ولا في التسعير، ولا في تحريم الاحتكار ومراقبته ومنعه، لا نقول بأن يكون التدخل أعمى يوكل إلى سلطة ظالمة تربت في أحضان الغرب وسياسته، والتي تفرض على المسلمين ما درسته في الغرب، وما تلقته، وما ارتبطت به مصالحها فيه، ولكن نقول تدخل السلطة الشرعية المسلمة التي تريد أن تعيد للإسلام توازنه الذي كان يهدف إليه الرسول صلى الله عليه وسلم والذي قام به خلفاؤه من بعده، وأكرر هنا قضية عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة، حيث قال له:" إما أن تبيع بمثل ما باعت به العير التي قدمت من الطائف، وإما أن تنتقل عن السوق "، ثم أكرر الحديث الذي قال:((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلي عليهم، كان حقًّا على الله أن يقعده على عظم من النار)) حقيقة أنه بين الآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وما ورد في القرآن الكريم مما يؤكد أن القرآن يريد أن يعطي الحرية للمسلمين في تبايعهم وما ورد من أحاديث في ذلك، وبين اختلاط المسلمين بغيرهم، وبين احتكار التجار، وبين رغبتهم في الأرباح التي تستنزف كل طاقة المسلم، وبين حتى أولئك الذين يقدمون بتجارتهم من أجل أن يحطموا السوق حتى يتنحى عنه الناس، وهي ظاهرة ألح عليها الإمام مالك، كل هذه الأوضاع يجد فيها الحاكم سلطته ضيقة للتدخل، ولكن لا يمنع هذا أن يتدخل الحاكم لحماية المسلمين من استغلال التجار استغلالًا بشعًا، كما لا يمنع الحاكم من أن يتدخل، حتى لا تفرض على التجار قيود تمنعهم من استجلاب السلع إلى المسلمين، لهذا فأنا لا أريد أن أتدخل هنا لأسرد الحجج لأني أكون كجالب تمر لخيبر، ولكن أقول بأن البحوث هي بين أيديكم، وقد حللنا فيها أقوال العلماء، وأخذنا بأقوال الخلاف العالي أي المذاهب الأربعة، وحتى مذاهب الشيعة ولكن الشيء الذي ينبغي أن نخرج به أوضاعنا اليوم كمسلمين تفرض علينا فرضًا أن تتضافر جهود العلماء والحاكمين تنظم أحوال السوق لتصبح سوقًا إسلامية، وشكرًا لكم والسلام عليكم.

ص: 2353

الدكتور يوسف القرضاوي:

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما تلقيت التكليف من الأمانة العامة للمجمع حول موضوع " تحديد أرباح التجار"، في الحقيقة كان الذي في ذهني أن الموضوع هو ليس موضوع " التسعير " وإلا طلب الحديث عن موضوع التسعير، ولذلك انصرف همي وذهني من أول الأمر إلى البحث عن هذا الموضوع – موضوع تحديد الربح _ وهو لم يحظَ بالبحث من قبل ذلك، وأحمد الله أنه بالبحث لم أجد من العلماء من حدد نسبة معينة إلا ما نقلته عن الزيلعي الحنفي من تفسيره وتعريفه للتعدي الفاحش في قول صاحب الهداية وغيره:" إذا تعدى أرباب الطعام تعديًّا فاحشا جاز للسلطان أو نائبه أن يتدخل للتسعير مشورة أهل الرأي والبصيرة "، فهو قال: إن التعدي الفاحش أن يبيع بضعف القيمة، ولكن لم أفهم ولم أعرف بالضبط ما الذي يريده من ضعف القيمة، هل قيمة المثل – وهذا يتعلق بموضوع الغبن وغيره – أو قيمة الثمن الذي اشترى به؟ هنا يدخل مسألة الربح، لم يحدد بالضبط، وكنت سمعت من بعض الإخوة أن المالكية يقولون أو قال بعضهم – بعضهم قال: إن هذا في حاشية الدسوقي، ولم أستطع أن أعثر على نص في هذا – إنهم يقولون بالثلث، بتحديد الربح بالثلث، وأنه يستحب أن لا يزيد على ذلك، ولعل الإخوة من علماء المذهب المالكي وهم متوافرون هنا أقدر على تحديد هذا الكلام ومصدره، ولكني – كما ذكر فضيلة الأخ الشيخ السلامي وقد أحسن في تلخيصه للبحوث – حفظه الله- وجدت في السنة المشرفة ما يدل على أن يكون الربح مائة في المائة كما في حديث عروة بن الجعد الباقي وهو في البخاري وعند أبي داوود والترمذي وعند الإمام أحمد، وهو الذي اشترى الشاتين بدينار حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع في الطريق إحداهما بدينار وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتك، قال:((وصنعت كيف؟)) فحدثه الحديث، فقال:((اللهم بارك له صفقة يمينه)) قالوا: فكان لو تاجر في التراب لربح فيه، وقال عن نفسه كنت أقف في كناسة الكوفة – سوق هناك – فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشاهد أنه ربح مائة في المائة في دقائق، يعني في مشوار واحد، وذكرت قصة الزبير والغابة، وكيف باعها عبد الله بن الزبير – وقد اشترى بمائة وسبعين ألفًا – بمليون وستمائة ألف، أي بحوالي تسعة أضعاف، فليس إذن هناك ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح، لأننا لا نستطيع أن نأخذ من هذا حكمًا عامًا مطردًا، لأن هذه كما يقول الأصوليون: وقائع أعيان، وإنما تعطينا المبدأ، إنه ليس هناك تحريم لربح معين، ولكن كيف نحدد النسبة للربح لو أدرنا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل هذا، كما أشرت إلى أن هناك اعتبارات عددية تتدخل في تحديد نسبة الربح، من يبيع حالًا غير من يبيع آجلاء، ومن يبيع قليلًا غير من يبيع كثيرًا، وصاحب رأس المال القليل التافه غير صاحب رأس المال الكبير، ومن يبيع سلعًا تتداول بسرعة بطبيعتها غير من يبيع السلع المعمرة كما يقولون أو يبيع أرضًا تبقى سنين حتى يبيعها التاجر المدير أو التاجر المتربص كما يعبر المذهب المالكي، هذه كلها تختلف، فلا يمكن تحديد ربح معين، ولكن هنا في الحقيقة الشيء المهم: أنه لو أن التاجر المسلم التزم بأحكام الإسلام وبتوجيهاته في البيع والشراء، فإنه لا يمكن في أغلب الأحوال إلا أن يربح قليلًا، لأن مسألة منع الاحتكار، ومنع الربا، ومنع التدليس، ومنع الحلف، وأن يجعل الله بضاعته أو ينفق سلعته بالحلف الكاذب، أو إذا باع مدح وإذا اشترى يذم، إلى آخره، كل هذه الأشياء حتى تزيين السلعة كما قال الإمام الغزالي بالكلام – وهذا يدخل فيه معظم الدعايات التجارية والإعلانات التجارية– فالتاجر لو التزم بهذه التعليمات كلها قلما يربح إلا القليل وخاصة من يبيع السلع اليومية والضرورية للناس، أما إذا اعتمد التلاعب وتدخل بعوامل مفتعلة وأصبح هناك احتكار، فلا بد من التسعير، لا ينبغي أن نصدر فتوى كما توجه بعض الإخوة أن التسعير حرام، لا، الأصل هو عدم التسعير، إنما إذا وجدت عوامل مختلفة كما توجد في كثير من بلاد المسلمين الآن، لا بد أن يسعر ولي الأمر حفظًا لمصالح عموم الناس، وبعض الإخوة بتباكون على التجار، والواقع أننا يجب أن نتباكى على المستهلكين، التجار يكسبون الملايين، ولكن الآن المستهلكون هم الضحية، ثم إن التسعير ليس على التجار فقط، التسعير على المنتجين أيضا، لأن الزارع والصانع وصاحب السلعة (منتج السلعة) يجب أن يسعر عليه، هنا شيء آخر – يعني الحقيقة أحببت تصحيح بعض الأشياء – كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة:" إما أن ترفع السعر أو ترفع من سوقنا "، وبعض الإخوة يرى أن عمر لا يمكن أن يقول هذا وأن الإنسان ممكن أن يتسامح ويبيع بأقل من السعر، ولكن هذا أحيانًا يكون خطرًا على المجموع، وهذه حيلة يفعلها بعض التجار الرأسماليين، وهي من صنع اليهود الآن قد يتدخل في السوق ويغرقه بسلعة معينة في أول الأمر ويبيع بأرخص ليضرب التجار الآخرين ويضرب السلعة، ثم يحتكر بعد ذلك، فأحيانًا إذا وجد هذا، هذا لا يكون لوجه الله ولا لوجه الناس إنما لوجه صاحبه ولمنفعته، وعمر كان خبيرًا وبصيرًا وملهمًا، فأراد أن يكون العدل هو الحاكم، كثير من الإخوة ينقلون عن ابن القيم كل الكلام الذي نقل عن ابن القيم، إن هذا لقلة الشيء أو لكثرة الخلق، وإنه إلزام بالعدل الذي ألزم الله الناس به، وإن التسعير منه ما هو ظلم ومنه ما

كله كلام ابن تيمية، يعني ابن القيم نقل كلام شيخه – شيخ الإسلام ابن تيمية – في رسالة الحسبة، وأفرغه في الطرق الحكيمة، فمن العدل ومن الأمانة العلمية أن ينسب هذا إلى الإمام ابن تيمية، كذلك ما قاله الشوكاني في "نيل الأوطار " هو كلام الصنعاني في " سبل السلام " وهو سابق عليه فينبغي أن ينسب إليه. أكتفي بهذا القدر وشكرًا.

ص: 2354

الدكتور عبد الله إبراهيم:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شكرًا لفضيلة الرئيس.

أحب أن أشارك في هذا البحث، وخاصة استجابة لما أثاره أحد الخبراء وهو الدكتور منذر قحف، حول العناصر المعتبرة في تحديد السعر، لأني لم أسمع أحدًا من الحاضرين تناولها بالمناقشة أو بالتفصيل هنا، الواقع أن التاجر حينما يتاجر إنما يطلب الربح، فهو إذن إنما يبيع بسعر يتضمن قيمة التكلفة مضافًا إليها مبلغًا آخر كالربح، وقيمة التكلفة وما يعتبر من الأمور التي يضاف، هناك قيمة التكلفة، قد بينها وتناولها الفقهاء بالتفصيل، كذلك تناولها الباحثون المعاصرون، بينما مسألة الربح المضاف إلى قيمة التكلفة، لم يتناولها إلا قليل منهم كما استمعنا إلى فضيلة الدكتور القرضاوي قبل قليل، وقد ذكرت – أيضًا – هذه المسألة من حيث قلة تناول الباحثين لها في بحثي المطروح أمامكم في (التأجير المنتهي بالتمليك) وكذلك (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) فإنهم لم يتناولوا الربح المضاف إلى قيمة التكلفة إلا قليل منهم، لعلهم اكتفوا بذلك إلى معالجة سعر السوق، وبالنسبة للأمور المعتبرة في تحديد قيمة التكلفة كما قلت إنه قد تناولها الفقهاء من قبل بالتفصيل، فإنهم قد ذكروا أمورًا عديدة يمكن اعتبارها من تكاليف الإنتاج، فيوضع لكل منها قيمته فتجمع هذه القيم كلها لتكون قيمة التكلفة، وبعد ذلك يضاف إليها ربح معين لتكون سعر البيع أو قيمته، ومن الأمور المعتبرة بتحديد قيمة التكلفة – كما ذكر الفقهاء – ثمن الشراء الأول على حسب الاصطلاح الحالي، ومنها أيضا ثمن العلف إذا كان هناك حيوان، ومن ذلك أيضًا ثمن النقل إلى غير ذلك من الأمور المبسطة وإن كانوا يتكلمون في هذه المسألة بالمرابحة، إلا أن مسألة تحديد قيمة التكلفة واحدة، سواء كانت في المرابحة أو في البيوع العادية، هذا ما أرى أنه من العناصر المعتبرة في تحديد السعر استجابة لما أثاره الدكتور منذر، وأما بالنسبة للربح المضاف إلى قيمة التكلفة الذي يندر تناوله من العلماء إلا عدد قليل منهم، ومنهم فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي في بحثه المطروح أمامنا الآن، فإنه قد ذكر كما استمعنا لكلامه أنه يمكن أن يصل إلى مائة في المائة وأكثر منه، ومن العلماء أو الباحثين الذين تناولوا هذه المسألة – كما اطلعت – الدكتور شوقي إسماعيل شحاته، ومنهم أيضا الدكتور محمد عبد الحليم عمر في بحثيهما المقدمين إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي المنعقد في الأردن في يونيو 1987 م، فإنهما مع ذلك لم يتناولا هذه المسألة بالتفصيل، مثلًا الدكتور شوقي شحاته فإنه ذكر بصفة عامة عندما ذكر في بحثه المقدم للمؤتمر المذكور – وهو مؤتمر يعقد بالتعاون باسم ندوة بين المجمع الملكي والبنك الإسلامي للتنمية بجدة – ذكر الدكتور شحاته عن الربحية أمرين:

أولا: ملاءمة الربحية لذات السلعة أو النشاط في ضوء أسعار السوق أو العمليات السابقة.

وثانيا: مدى الالتزام بالقرارات الخاصة بنسب تحديد نسب الربح، وقوانين الاستيراد، واللوائح التنفيذية.

ص: 2355

هذا ما ذكره الدكتور شحاته حول الربح المضاف إلى قيمة التكلفة.

وأما ما تناوله الدكتور محمد عبد الحليم عمر، فقد تناوله بشيء من التفصيل، فإنه قال في بحثه حول عنصر الربح كأحد عناصر الثمن الثلاثة، الثمن الأساسي أو الأول ثم الربح، فقال: إن هذا العنصر هو المقصود بالعملية وقال: والعلم به ذكره بالعقد شرط من شروط المرابحة، وإن كان ذكر هذا في المرابحة ونحن في المسألة عامة في المرابحة وغيرها، وذكر عن بعض البنوك الإسلامية، فإن بعض البنوك تذكره، والبعض الآخر لا يذكره بل يذكر ثمنًا إجماليًّا متضمنا الربح دون إشارة إلى ذلك، فقال عن هذا: وهذا أمر يجب تعديله بضرورة ذكر الربح في عقد البيع حتى يحقق الشرط العيني بالربح كأحد شروط المرابحة، وقال: ولا يكتفي في ذلك بذكره في عقد الوعد، حتى ولو أشير صراحة في عقد البيع على هذه الحالة.

أولًا: لأن عقد الوعد لا ينعقد بيعًا.

وثانيا: لأنه ربما يتم تغيير الربح بين مرحلة المواعدة ومرحلة البيع، لأية ظروف، مثل صدور قوانين أو قرارات من الدولة تنظم ذلك، ثم تناول كيفية حساب الربح المضاف إلى قيمة التكلفة وذكر:

أولا: اختلاف البنوك الإسلامية في كيفية حسابه، فقال: يحسب الربح كنسبة مئوية من ثمن الشراء، وجميع المصروفات في بعض البنوك ومصروفات محددة في بنوك أخرى، ويلفت النظر بعد ذلك إلى أن نسبة الربح يجب أن تختلف بحسب نوع البضاعة وعدم السداد بما يؤثر على إجمالي الثمن الذي يزيد في البيع الآجل عنه بالبيع النقدي، مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك يجب أن يكون محددًا بصفة قاطعة عند إبرام عقد البيع، ولا يقال مثلا ً إن نسبة الربح لسلعة ما 5 % إذا كان السداد على شهرين، و7 % إذا كان السداد على أربعة شهور، وقال: فإذا كان يجوز أن يكون هذا واضحًا قبل التعاقد فإنه إذا تم العقد على نسبة 5 % مثلًا، والسداد في مدة شهرين ثم تأخر المشتري عن السداد في الموعد المحدد، ألا تزاد نسبة الربح مقابل الأجل في هذه المرة، بل يعالج الموقف بأخذ الإجراءات المقررة للتوقف عن الدفع على أن بعض البنوك تلتزم بتحديد الربح بالنسبة المقررة من الدولة عندما تحدد الدولة بقرارات نسب الربح لكل سلعة مستوردة أو محلية لكل من المستورد أو تاجر الجملة والتجزئة وذكر أن بعض البنوك تحدد الربح بنسب ثابتة على جميع أنواع السلع: 18 % مسترشدة في ذلك بسعر فائدها الربوي السائد في السوق، هذا بعض ما تناوله العلماء والباحثون المعاصرون في مسألة الربح المقدم أو المضاف إلى قيمة التكلفة، ونحن كما أرى أننا في بحث تحديد السعر لا بد أن نناقش ونتخذ قرارًا بالنسبة للربح المضاف إلى قيمة التكلفة هذه، وليس فقط بالنسبة لقيمة التكلفة، وشكرًا.

ص: 2356

الشيخ أحمد بازيع الياسين:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:

الحقيقة في تحديد الأسعار تبرز سوق تسمى " السوق السوداء " وتختفي السلع، وتزيد المشاكل: تخفيض الأسعار والتأثير في تخفيض الأسعار ينتج بزيادة الإنتاج، وسوقنا في البلاد الإسلامية مع الأسف الشديد سوق تابعة للأسواق العالمية المحتكرة، وهناك موجود عصابات منتشرة في العالم تحتكر السلع، وتحد الأسعار لمصالحهم لتهديد الدول غير المنتجة، تهددهم سياسيًّا، وثقافيًّا، واجتماعيًّا، هناك عوامل أرغب في أن أبينها وألقي الضوء عليها، أيضا يتدخل في ارتفاع الأسعار، انخفاض العملة المحلية: انخفاض العملة المحلية أيضا أسبابها كثيرة وكلكم تعرفونها، ثم هناك سبب الاحتكار الناتج عن الجشع، ثم جمع السلطة مع التجارة، يعني لا يجوز أن يكون وزير تاجر أو أمير وتاجر، يعني لا يجوز الجمع بين الإمارة والتجارة، الأمر الثاني، عدم إعطاء رخص الاستيراد، ثم هنالك نقطة مهمة جدًا في الحقيقة وأنا أنادي من هذا المجمع المجتمع الإسلامي يجب عليه أن يكون مجتمعًا إنتاجيا، مع الأسف اليوم المجتمع الإسلامي مجتمع استهلاكي، فيجب أن يطالب في هذا جميع الأمة الإسلامية يجب عليها أن تتحول إلى أمة إنتاجية، البنوك الإسلامية ندعوها –الآن وبعد أن مضى على تأسيسها قرابة الخمسة عشر عامًا، أعتقد أنها نجحت في الخطوة الأولى، الخطوات التي يجب أن تتبع الخطوة الأولى، ونحن بدأنا فيها في بيت التمويل الكويتي – أن تسوق وتنسق بين البلاد العربية والإسلامية في منتجاتها الزراعية والصناعية لأن في التسويق والتنسيق في ما بين الدول العربية والبلاد الإسلامية في منتجاتها الزراعية والصناعية لأن في التسويق والتنسيق في ما بين الدول العربية والبلاد الإسلامية تأثيرًا بالغًا في تخفيض الأسعار، وتشغيل اليد العاملة الصانعة والزراعة، ونحن إن شاء الله قريبًا سوف نجتمع في جدة مع البنك الإسلامي للتنمية لتأسيس شركة في هذا الصدد هذا ما وددت أن أبينه في هذا المجال وشكرًا.

ص: 2357

الشيخ علي المغربي:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين.

شكرًا سيدى الرئيس.

قد كان للحديث والبحث القيم الذي قدمه الأستاذ مختار السلامي، أثر مستوفٍ لجميع المسائل التي تتعلق بالبحث هذا، وتعرض فيه لقضية حرية البيع وهي الأصل، يعني أن التاجر يكون له الحرية المطلقة في أن يبيع بما شاء، ربح الكثير أو القليل، وهذا له الحق فيه، وعدم التدخل من طرف الحاكم، وذكر الأستاذ في الأخير تدخل الحاكم في التسعير، وذكر أن هناك أمما قوية، وأممًا ضعيفة وهو حق، فالأمم القوية لها نظامها ولها تراتيبها في أسواقها، والأمم الضعيفة هي دائما في حاجة إلى من يعيلها، وهي في حاجة أيضا إلى الأمم القوية لتكون لها سندًا في الغالب، ومن هنا أصبح تدخل الحكام في كثير من الحالات في بعض البلاد الإسلامية، وقد لا تكون جميعها، هناك قوي أن لم يكن كليًّا فهو في الغالب، وهذا التدخل قد يراد منه في أول الأمر أن المتدخل لتحديد السعر وتنظيم التجارة وتسييرها واستيرادها وتوزيعها قد يكون المراد منه إدخال كثرة البضاعة في السوق أو رخصها في السوق، ولكننا في كثير من الأحيان نجد القضية عكس هذين الأمرين، فكثيرًا ما يكون التدخل سببًا لفقدان السلعة، أو لزيادة قيمها في السوق، وهذا عائد إلى أن الذين يقومون بالمسئوليات هم الحكام، والحاكم أصلًا لا يجمع بين التجارة وبين الحكم، فإذا دخل الحاكم في التجارة فكثيرًا ما يكون سببًا لفسادها، وكثيرًا ما يكون هذا التدخل أيضا سببًا لفقدان السلعة سواء السلع المنتجة في البلاد أو السلع المستوردة، فالسلع المنتجة في البلاد كثيرًا ما يكون تحديد السعر لها سببًا لفقدها، لأن المنتج إذا رأى نفسه ينتج السلعة أو البضاعة أو إنتاج الفواكه أو الحبوب أو غيرها، ورأى نفسه إذا أراد البيع لا يبيع بما تكلفت عليه به السلع وتكلفت به عليه البضاعة، هناك يتأخر وربما ذلك التأخر يؤدي إلى نقصان السلعة في السوق، فيكون ذلك التحديد سببًا للضرر، هذه ناحية موجودة في كثير من البلدان، كذلك قضية تحديد الربح، قلنا هذا في السوق، الحقيقة هي أن التحديد هذا، تحديد ربح التاجر، وقد تعرض الأساتذة إلى أن هذا التحديد غير جائز لأنه لم يرد به نص في الشارع، وهذا صحيح، ولكن عندما ننظر إلى الذمم بين العصر القديم الذي كان في العهد الماضي عهد الصحابة وعهد السابقين الأولين وبين الذمم في العصر الحاضر، فهذه الذمم الموجودة الآن عند كثير من التجار أنهم لا يخافون الله، وإنما لا يريدون إلا شيئًا واحدًا وهو الربح الفاحش، والاستغلال الكثير في الأمم، فإذا كان المجمع ترك هذه القضية من دون أن يضع لها بحثًا، ومن دون أن يضع لها حلًا، فإن التاجر الذي يربح المرة والمرتين ضعف ما تكلفت عليه البضاعة، ونقول له: إن هذا حلال لك ومباح، لأن الشارع لم يضع لك حدا، فهو يقول: أنا أتصرف تصرفًا شرعيًّا مباحًا، لا حق لأحد أن يعارضني في هذا، ولهذا فالقضية هي قضية نظر إلى الضعفاء، إلى المستضعفين من أفراد الأمة، وإذا نظرنا إلى أن الربا حرمه الله؛ لأن فيه فائدة عن المال، وقد تكون قليلة، ولكن نظرًا إلى أنه أخذ شيئًا ليس من حقه ثم بعد ذلك نأتي إلى التاجر فنقول له: لك أن تربح الضعف أو الضعفين، وهو حلال لك، فهنا لا بد وأن ننظر أيضًا إلى قضية الأمة، خصوصًا الكثرة الكثيرة من أفراد الأمة هم في حاجة إلى العون، وفي حاجة إلى النظر إليهم في هذه القضية، ولهذا فإن القضية هذه نرجو من المجمع الموقر أن ينظر فيها، وكثير من التجار من لهم إيمان، يسألون هذا السؤال ويقولون، ما هو المقدار الذي يمكن لنا أن نقف عنده؟ هل هو الثلث، أو النصف، أو المقدار؟ أعطونا مقدارًا، ولكن المسئول غالبًا ما دام ليس هناك نص محدد، لا يستطيع أن يقول له: قف عند هذا المقدار، وإنما نقول له: كن مؤمنا صالحًا، والإسلام يقول:" لا ضرر ولا ضرار " فلا تضر نفسك، ولا تضر بغيرك وشكرًا لكم.

ص: 2358

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم

عندي أمران أردت الحديث فيهما إتمامًا – هو طول البحث قد يتسبب عنه أن الإنسان يشرد ذهنه، وشرود الذهن هذا عارض لكل منا – فلما تحدثت عن الاحتكار والتسعير، قلت: إن الأصل في الاحتكار والتسعير هو التحريم ولكن قد يعرض لهما ما يوجب الاحتكار، وقد رأى بعض العلماء وجوب الاحتكار، كما إذا وردت سلع كثيرة من المنتجين، فلولا الاحتكار لها عزف الناس عن الإنتاج الوافر، فالاحتكار يكون ضمنيًّا لسلامة الاقتصاد، فجعل عالم لبنان فضيلة الشيخ خليل الميس: من أن الاحتكار والتسعير كلاهما ظلم، هذا كلام لا يصح على عمومه، ثم إنه ما جاء من كثرة ما دار على كثير من الألسنة: الدولة وهي المسئولة، واتهام الدول، نحن لسنا ضد الدول ولا مدافعين عن الدول ولكن الدول قد تكون لها من الظروف ما يفرض عليها، وواجبها أن تتدخل كلما كان في ذلك مصلحة للشعب، وإذا وقع الظلم في مرة من المرات أو الانحراف عن الحق، فليس معنى ذلك أن الدولة ليس لها أن تتدخل، وليس كل ما تتدخل فيه الدولة هو فساد، قضية ما جاء من أن الكلام هو لابن تيمية وليس لابن القيم، أنا قلت في كلامي بالضبط: الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد قابلت بين كلاميهما، ثم نقلت كلام ابن القيم باعتبار أن ابن القيم إنما تتلمذ على ابن تيمية، ثم أضاف ما أضاف، وابن تيمية لم يرد كلامه هذا فقط في رسالته بل إنما أيضًا ورد في الفتاوى، فهو قد ورد في الفتاوى، وأما في رسالته في أحكام السوق ورد في كلام ابن القيم والذي نقلت منه هو كلام ابن القيم فلما نقلت ابن القيم كنت أمينًا عندما أسندت الكلام لابن القيم أما كلام الشوكاني فإني أشكر فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، وحكم باطلاعه أن أصله للصنعاني، ولكن أقول: أنا عشت مع كتاب الله والحمد لله أكثر من خمسة عشر سنه أدرسه، وفي تدريسي لكتاب الله كنت أجد دائما نفس الكلام منقولًا عمن سبق، هذا أجده في كتاب آخر بنفس اللفظ، فهل يستطيع الإنسان أن يعرف المنبع الأساسي؟ في الواقع أنا عجزت عن إدراك المنبع الأساسي، ولذلك أنسب دائما الكلام لصاحبه الذي نقلت عنه، إذا كان ثقة عندي مطمئنا بلغ من العلم درجة، الأمر الثالث: هو ما تفضل به فضيلة الشيخ على المغربي: أن تحديد السعر لم يرد بالنص ولكن الذمة اليوم خربت فإذا ترك التجار وما يشاؤون

هذا ما بينته في كلامي، هذا متفقون عليه قدر ما هو متفق عليه، وقد بينت ما قاله ابن العربي وهو الأصل، وهذا كلام ابن العربي زاده بيانًا من عنده فشكرًا له، وأما أن يربح التاجر الضعف أو الضعفين: - اليوم بسرعة وهذا ما انتهيت إليه وأريد أن أؤكده لعله قد وقعت الغفلة عنه – الذي أريد أن أؤكده هو أن سرعة الانتقال وسهولة تحول السلعة من أمكنة إلى أمكنة وكثرة البشر الراغبين في التجارة، هو لا يجعل الحالة اليوم كحالتنا في القرون الماضية، وأنه إذا تركت الحرية للتجار للبيع، فإنه لا تغلي الأثمان، بل هي تنزل، لأن كل شخص يريد أن يشتري ويريد أن يربح ولو القليل، ويقع التنافس بين التجار وهنا يجعل الأرباح تنزل وشكرًا والسلام عليكم.

ص: 2359

دكتور محمد عثمان شبير:

بسم الله الرحمن الرحيم

بالنسبة لموضوع تحديد أرباح التجار من الموضوعات التي التبس الأمر فيها على الباحثين، فبعضهم تناول الموضوع من حيث السياسة الإسلامية للسوق الإسلامي، فبين الآداب الإسلامية التي ينبغي أن يراعيها التاجر في تجارته، ونظرية العرض والطلب، وغير ذلك، وبعضهم تناول موضوع " التسعير " وبعضهم تناول موضوع " المرابحة " وهكذا، فلذلك ينبغي على المجمع الموقر قبل أن يكلف الباحثين بكتابة موضوع في الموضوعات أن يضع خطة عمل أو خطة بحث للموضوع فإذا كان الموضوع من الناحية الاقتصادية فينبغي أن يشترك في هذه الخطة باحث اقتصادي وباحث شرعي.

الرئيس:

أعطونا ذات الموضوع يا شيخ، أما توجيه المجمع فالمجمع هو أدرى بأموره، فقط أعطونا ذات الموضوع، عندكم شيء أعطونا إياه.

دكتور محمد عثمان شبير:

هذه بعض الملاحظات، الملاحظات التي تتعلق بالموضوع، بالنسبة للتسعير إذا أردنا بالتسعير أو إذا أردنا بأرباح التجار أو تحديد أرباح التجار التسعير، فإن هذه القضية فرع عن أصل، والأصل هو الذي تكلمنا عنه بالأمس وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، فالمشاكل الاقتصادية التي يقع فيها المسلمون اليوم هي نتيجة الهيمنة الاقتصادية الغربية الرأسمالية على السوق الإسلامية العربية، فالتجار ليس لهم إلا أن يتبعوا تلك السياسة الرأسمالية، والسياسة الرأسمالية سياسة احتكارية تقوم على المنافسة غير الأخلاقية، وغير ذلك، ولذلك ليس للتاجر العربي أو المسلم إلا اتباع تلك السياسة والسير في ركاب هذه السياسة، فينبغي أن تكون دراسة الموضوع من الأصل ومن الأساس، والتسعير الذي تكلم عنه الفقهاء في زمانهم هو تسعير في مجتمع إسلامي، وفي دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبق الآداب الإسلامية، والأحكام الشرعية والعقيدة الإسلامية، وغير ذلك، والتسعير عند فقهاء المسلمين معدود من السياسة الشرعية، فالسياسة الشرعية يختلف حكمها تبعًا لاختلاف الأزمان والأمكنة والأعصار، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمه أو منعه؛ لأن الوقت أو لأن الظرف في ذلك الوقت لا يقتضي وجوب التسعير، لكن في بعض الأوقات اقتضى وجوب التسعير، فلا مانع، فالتسعير ليس أصلًا عامًّا نقول فيه بالحرمة أو بالجواز، وإنما هو حكم يتغير بتغير الزمان والمكان، وإذا أردنا بتحديد أرباح التجار وضع سياسة اقتصادية يتبعها التاجر المسلم، فأقول: إن التاجر المسلم عمله في التجارة رسالة ودعوة كالمعلم في المدرسة وفي الجامعة، فالمعلم يلتزم بأخلاقيات الإسلام في عمله، والتاجر يلتزم بأخلاقيات الإسلام في تجارته، ولذلك كثير من الدول فتحت بالتجار ولم تفتح بالسيف فتحت بالأخلاقيات، وأخلاقيات التاجر المسلم كما هو معروف لديكم ولذلك إذا أردنا أن نضع قواعد تتعلق بأخلاقيات التاجر المسلم وما ينبغي أن يراعيه في هذا الموضوع فأرى أن يوسع هذا البحث، وأن يقارن بين المنافسة غير الأخلاقية الموجودة في المجتمع الحالي، ويبين زيفها، وعوارها، وغير ذلك، وأن يطرح الموضوع من باب أوسع، وسبحانك اللهمَّ وبحمدك.

ص: 2360

الرئيس:

شكرًا، الوقت انتهى فهل ترون أن تختتم المناقشة؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين.

من مجموع الأبحاث والمداولات التي جرت يتبين أن الأصل الشرعي هو حرية التعامل في العرض والطلب، وينتج عن ذلك الأصل الشرعي وبدلالة النص، منع التسعير، وأنه لا يكون التدخل في التسعير إلا إذا توفرت المقتضيات الشرعية له، في أحوال: سمعتم التفصيل في بعضها، وقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة لهذا من أصحاب الفضيلة المشايخ: الشيخ المختار، الشيخ يوسف، الشيخ خليل، الأستاذ منذر، والمقرر الشيخ عطا.

مناسب؟

وبهذا ترفع الجلسة للاستراحة لربع ساعة، ثم نعود لبحث مسألة العرف.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ص: 2361

مناقشة القرار

الدكتور عبد الستار أبو غدة:

قرار رقم (8)

بشأن

تحديد أرباح التجار

قرر:

أولًا: الأصل الذي تقرر النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلَاّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}

ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.

ثالثا: أكدت الشريعة الإسلامية وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.

رابعا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا عن عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.

الرئيس:

والله أعلم.

أبو غدة:

والله أعلم.

ص: 2362

الرئيس:

ما شاء الله جزاكم الله كل خير، هل ترونه مناسبًا، نمشي؟

أبو غدة:

قرار رقم (8) .

الشيخ المختار السلامي:

فيه (ثالثًا: أكدت الشريعة الإسلامية وجوب) ، تمشي؟ أين الشيخ المختار (أكدت الشريعة الإسلامية وجوب سلامة) .

الرئيس:

(سلامة التعامل من أسباب الحرام) .

المختار السلامي:

لا. بمعنى أكدت بنفسها.. تصبح أفضل.

الرئيس:

أكدت وجوب، يعنى.

المختار السلامي:

نعم.

الأمين العام:

أكدت كذا.

المختار السلامي:

(أكدت الشريعة) قلت لك: تمشي، لكن.

الرئيس:

هو إذا أردتم إما عبارة

، أما العبارة المألوفة، فهو يعني

الشيخ المختار:

أكد على كذا أكثر

الرئيس:

تضافرت نصوص الشرع أو شيء من هذا القبيل، يعني....

الشيخ المختار أحمد السلامي:

نعم، لهذا أنا قلت لك عندي توقف بسيط لا مشكل.

ص: 2363

الرئيس:

عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} لأنه قيل هنا: عملًا بمطلق قول الله تعالى، لو قيل: وما في معنى من نصوص الكتاب والسنة.

أبو غدة:

نقول: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب....

الرئيس:

إيه، نعم. تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل.

الرئيس:

كذا يا شيخ، (تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل) .

الشيخ إبراهيم:

سيدي. أنا عندي على هذه الصياغة ثلاث ملاحظات، الأول: في أولًا أنا اشعر أن هذا لا يتماشى مع موضع الاستدلال ويدخلنا في شبهة الموافقة على أن يفعل الناس في أموالهم ما يشاؤون. أن نفعل في أموالنا ما نشاء.

الرئيس:

في إطار أحكام الشريعة يا شيخ، السطر الثاني.

الشيخ إبراهيم:

ثانيًا: أن الاستدلال بالآية الكريمة إنما هو يؤكد أن {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلَاّ أن تَكُونَ تِجَارَةً} فالتجارة هنا جاء: {عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} ، فهي ليست الأصل بل هي استثناء ولا يتوسع فيه ولا يقاس عليه.

ثالثًا: أن في الفقرة الرابعة تعبير (ولي الأمر) ، وكان أولى أن يستعمل (أولو الأمر) ، وهو التعبير القرآني. هذه ملاحظات ثلاث لا بد أن أبديها. وشكرًا.

الرئيس:

على كل هل ترون هذا أو نمشي؟

ص: 2364

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم (8)

بشأن

تحديد أرباح التجار

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي لمنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.

بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.

قرر:

أولا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .

ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التجار والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.

ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.

رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.

والله اعلم.

ص: 2365