الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الأصل التجاري وحكمه
في الشريعة الإسلامية
إعداد
الشيخ مصطفى كمال التارزي
أستاذ بالجامعة الزيتونية
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل التجاري: هو مجموع أموال مادية ومعنوية تخصص لمزاولة مهنة تجارية (1) وهو المعروف عند رجال القانون في مصر بالمحل التجاري (2) .
أما الملكية التجارية: فهي ما للتاجر من حق المحل التجاري (3) وهي الاستقرار بالمحل التجاري بعد انتهاء المدة وحماية حقوق التاجر المادية والمعنوية التي تقررت له عليه.
فبعد أن كان حق الملكية مقتصرًا على الأشياء المادية امتد إلى الأشياء المعنوية واعتبر القانون الوضعي أن لكل إنسان حق التصرف في نتاج عمله وحمايته مهما كان نوع العمل وانبثق عن هذا المبدأ حق الملكية الأدبية لحماية الإنتاج الذهني وحق الملكية الفنية لحماية الإنتاج الفني وحق الملكية الصناعية لحماية الاهتراء وحق الملكية التجارية لحماية مجهود التاجر في تكوين الحرفاء والسمعة التجارية وترويج التجارة (4) .
وفكرة الملكية التجارية والمحل التجاري بمفهوميهما الجديدين فكرة أقرتها القوانين الأوروبية في القرن التاسع عشر وتبنتها في هذا القرن بعض الدول الإسلامية في قوانينها التجارية، فقد أقرها التشريع التونسي مثلًا في أكتوبر 1926م (5) ، كما أقرها التشريع المصري سنة 1940م (6) .
(1) الدكتور مصطفى كمال طه، القانون التجاري 1/751.
(2)
الملكية التجارية: رشيد الصباغ ص 8.
(3)
الدكتور مصطفى كمال طه، القانون التجاري 1/751.
(4)
الملكية التجارية: رشيد الصباغ ص 8.
(5)
الملكية التجارية، رشيد الصباغ: ص 11.
(6)
القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/752.
أنواع الملكية:
والملك في الفقه الإسلامي ينقسم حسب وروده على العين أو المنفعة إلى أنواع:
1-
ملك عين ومنفعة: وهي الأملاك الواردة على الأعيان.
2-
ملك عين بدون منفعة: كالوصية بالرقبة لجهة وبالمنفعة لأخرى.
3-
ملك منفعة بدون عين: وهو على نوعين: ملك مؤبد كالوصية بالمنافع: وملك غير مؤبد ومنه الإجارة (1) .
كما ذكر الفقهاء أن من خصائص الملك: أن العين لا تقبل التوقيت أما ملكية المنفعة فالأصل فيها التوقيت ومثلوا لها بالإجارة والإعارة (2) .
واعتبر الفقهاء الإجارة من أسباب الملك الناقص، لأن المستأجر مالك لمنفعة العين الموجودة خلال مدة الإجارة فقط، ولهذا اقتضت القواعد العامة الضابطة للإجارة أن هذا العقد ينتهي بمجرد انتهاء المدة المشروطة بين المتعاقدين، وعلى المستأجر أن يتخلى عن العين المؤجرة لانقضاء حقه فيها ولا حق له في البقاء في المحل إلا بعقد جديد وهو نتيجة لحق المالك في العقار وتطبيق للشروط التي تضمنها عقد الإجارة.
ولكن ظروفًا خاصة وأسبابًا جديدة قد طرأت في بعض المجتمعات وبخاصة في المدن الكبرى استوجبت إدخال بعض التعديلات في القواعد العامة وإصدار أحكام جديدة مناسبة لها وأمكن بها ضمان حقوق الطرفين المؤجر والمستأجر.
أهم الأسباب الطارئة:
1-
تزايد عدد السكان وبروز ظاهرة النزوح إلى المدن.
2-
توفير مواطن الشغل فيها أكثر من غيرها.
3-
تخلف حركة البناء فيها عن تلبية الطلب المتزايد على المحلات التجارية.
4-
اشتداد المنافسة في اقتناء المحلات.
5-
ارتفاع أسعار الكراء أضعافًا مضاعفة.
6-
بروز فكرة أصحاب اكتساح القوي للضعيف.
7-
تردد أصحاب الأملاك في التزاماتهم للمستأجرين بالمدد التي يرغبون فيها.
8-
خوف المستأجرين من ضياع حقوقهم أمام تكالب الراغبين في محلات تجاراتهم وتقديم عروض مشطة في ذلك (3) .
الأصل التجاري:
زد على ذلك أن مفهوم الملكية الذي كان مقصورا على الأشياء المادية والذي امتد في هذا الزمان إلى الأشياء المعنوية وظهر به حق الملكية الصناعية والأدبية والفنية والتجارية قد اكتسب به المستأجر الذي كان لا يملك إلا حق الانتفاع بمقتضى عقد الإيجار حقا جديدا بموجب الملكية التجارية، وهو مسمى الأصل التجاري أو المحل التجاري أقرته القوانين التجارية المصرية وفتاوى شرعية كثيرة من جهات متعددة من العالم الإسلامي، وهذا الحق يمكنه من البقاء في متجره رغم إرادة المالك، بل مكنه كذلك من التصرف في هذا الحق وبيعه.
(1) الأشباه والنظائر: ص 351.
(2)
المدخل الفقهي العام ص272 و 273، للدكتور مصطفى الزرقاء.
(3)
الملكية التجارية، رشيد الصباغ: ص 8.
عناصر الأصل التجاري:
الأصل التجاري يتكون من جملة عناصر مادية ومعنوية:
فالعناصر المادية هي:
1-
البضائع: وهي المنقولات المعدة للبيع سواء كانت مصنوعة أو مواد أولية معدة للتصنيع.
2-
المعدات أو المهمات: وهي المنقولات التي تستعمل في استغلال المحل من الآلات التي تستعمل في صنع المنتجات وإصلاحها وسيارات النقل والمكاتب والمقاعد والخزائن والآلات الكاتبة.
أما العناصر المعنوية فهي:
1-
الاتصال بالحرفاء: وهم مجموع الأشخاص الذين يعتادون التعامل مع التاجر ومستوى العملاء (الحرفاء) وعددهم وهو يمثل جانبًا كبيرًا من قيمته، إذ كثرة الحرفاء ناتجة غالبًا عن جهد يبذله المستأجر في حسن المعاملة، وتفهم حاجة الحرفاء.
2-
السمعة التجارية: اشتهار المحل بجودة منتجاته مما يسكبه شهرة بين الجمهور.
3-
الاسم التجاري / هذا الاسم الذي يستخدمه التاجر فردًا كان أو شركة في مزاولة تجارته لتمييز محله التجاري من نظائره فالأمر يقتضي إحاطته بضمانات تكفل حمايته ومنع الغير من استعماله منعًا من وقوع الالتباس الذي ينتج عنه تذليل الجمهور والإضرار بسمعة التاجر.
4-
العنوان الجاري: وهو رمز يختاره التاجر كشعر خارجي لتمييز المنتجات فيه تجارته.
5-
الحق في الإجارة: في الحالات التي يكون فيها التاجر مستأجرا للمحل الذي يزاول فيه تجارته.
6-
حق الملكية الصناعية: وهو ما يهم براءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية والعلامات التجارية والاسم التجاري.
7-
الرخص والإجازات: ما تصدره الإدارة العامة من حق استغلال مقهى أو مشروب أو تبغ: وتعد هذه الرخص والإجازات عنصرًا من عناصر المحل التجاري (1) .
وهذه هي جملة العناصر المكونة للأصل التجاري عادة ولكن العناصر الأساسية للمحل التجاري لا يتعين أن تكون جميعها، فالعنوان التجاري والاسم التجاري والحق في الإجارة والاتصال بالعملاء (الحرفاء) والسمعة التجارية قد تكفي لتكوين محل تجارى على أنه من النادر أن تجتمع هذه العناصر كلها في محل تجاري معين، فأهمية هذه العناصر تختلف باختلاف طبيعة الاستغلال فقد تعد الحقوق الفنية في مؤسسة نشر هي العنصر الهام في الأصل التجاري، كما يكون المهم في مشروع صناعي هي المهمات والآلات (2) .
وأهم هذه العناصر في الاعتبار هي الحق في العملاء (الحرفاء) والسمعة التجارية، لأن المحل التجاري لا يمكن أن يكون قابلًا للحياة بدون اتصال بالعملاء أو سمعة تجارية.
وعلى كل فلا أستطيع أن أبين كل التفاصيل الواردة في هذا الموضوع إذ أفردت له تأليف متعددة تدرس في كليات الحقوق والتجارة من الجهة القانونية ولكن أردت أن أبرز الجوانب التي يتكون منها الأصل التجاري في العصر الحديث حتى يتضح للجميع ما هو المراد بالأصل التجاري الذي قصدنا أن نبين حكمه من الوجهة الفقهية الشرعية.
(1) القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/753، 754 وما بعدها 763.
(2)
القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/753، 754 وما بعدها 763.
الإجارة في الشريعة الإسلامية:
إن القاعدة العامة الضابطة للإجارة في الشريعة لا تحتلف عن مفهوم الإجارة العام الذي يقتضي بأن ينتهي العقد بانتهاء المدة المشروطة بين المتعاقدين، وعلى المستأجر أن يتخل عن العين المؤجرة لانقضاء حقه فيها ولا حق له في البقاء في المحل إلا بعقد جديد.
ولأجل ذلك فلا يجوز للمستأجر بعد انتهاء المدة أن يتصرف في العقار بأي وجه من الوجوه وما يأخذه من مال بعقد أو بغيره لا يحل له شرعًا.
أما ما يأخذه المستأجر مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار المؤجر لشخص آخر يحل محله قبل انتهاء المدة فهو جائز شرعًا؛ لأنه في حقيقته بيع للمدة الباقية من المنفعة المستحقة بعقد الإجارة وقد أجاز هذا البيع الشيخ عليش في فتواه حيث إنه قال:
الذي يدور عليه الجواب في ذلك أن الساكن الذي أخذ الخلو إن كان يملك منفعة الحانوت مدة فأسكنها غيره وأخذ على ذلك مالًا، فإن كان الآخذ بيده إجارة صحيحة من الناظر أو الوكيل بشروطها فهو سائغ له الأخذ على تلك المنفعة التي يملكها (1) ، والعين ليست مملوكة بالإجارة كالمبيع لأن المعقود عليه هو المنفعة وبه قال مالك وأبو حنيفة (2) .
أما إذا أراد المستأجر الاستقرار بالمحل فله أمران؛ إما أن يجدد عقد الإجارة عند انتهاء المدة، وإما أن يدفع للمالك أو ناظر الوقف عوضًا معجلًا ويلتزم له بمقدار كراء سنوي أو شهري مقابل استمراره بالمحل ويتصرف بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة، ونحو ذلك فلا يبقى لصاحب الحانوت أو الدار من منفعتهما إلا بمقدار ذلك الكراء السنوي أو الشهري وما زاد على ذلك فهو ملك لدافع العوض فيكون المستأجر قد اشترى حق الاستمرار في المحل من المالك، وهو مسمى بيع الخلو عند من أجاز هذا النوع من البيع، ومن أنواع الخلو الذي يثبت فيه للمستأجر حق الاستمرار.
خلو المفتاح بتونس: وهو المعروف بمصر بخلو الحوانيت وهو عبارة عن أن يتسلم الإنسان من مالك أو ناظر وقف عقارًا على أن يدفع له مقدارًا من المال معجلًا، ويكون ما صرفه خلوا له ويلتزم به بقدر من الكراء سنوي أو شهري ويتصرف به بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة، لأنه أصبح شريكًا لصاحب الرقبة في المنفعة ويبقى لصاحب الحانوت الكراء السنوي أو الشهري، وما زاد فهو مالك لدافع العوض ويجري العرف باستحقاق المستأجر حق القرار أبدًا ولو لم ينص في العقد على المدة وهذا جاز به العرف في بعض البلدان الإسلامية كتونس ومصر والمغرب الأقصى.
(1) فتح العلي المالك، الشيخ محمد عليش: 2/146 طبعة بولاق 1301هـ.
(2)
روضة الطالب، للإمام النووي: 5/208.
وهذا النوع من التعامل أقره متأخرو المالكية وأفتى به الشيخ ناصر الدين اللقاني على مانقله الشيخ عليش في فتاويه ونصها: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في خلوات الحوانيت التي صارت عرفًا بين الناس في هذه البلدة وغيرها، وبذل الناس في ذلك مالًا كثيرًا حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهبًا، فهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفى ذلك من خلو حانوته؟ فأجاب:" نعم، إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملًا بما عليه الناس. وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال، وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه، فإنه يوفى من خلو حانوته والله سبحانه أعلم بذلك "(1) ، ولم تكن إباحة حق الخلو خاصة بالمذهب المالكي، فقد قال الحموي في شرح الأشباه والنظائر:" وقد اشتهرت نسبة مسألة الخلو إلى مذهب عالم المدينة مالك بن أنس والحال أنه ليس فيها نص عنه ولا عن أحد من أصحابه حتى قال البدر العراقي: إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لمسألة الخلو فيما أعلم، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي بناها على العرف وخرجها عليه وهو من أهل التخريج فيعتبر تخريجه وإن نوزع فيه وقد اشتهرت فتياه في المشارق والمغارب وتلقاها علماء عصر بالقبول وهبت عليها نسميات الصبا والقبول "(2) .
ويقول الشيخ ابن عابدين: نقلًا من فتاوى العلامة عبد الرحمن العبادي " ولكن لا ينبغي أن يفتى باعتبار العرف مطلقًا خوفًا من أن ينفتح باب القياس عليه في كثير من المنكرات والبدع، نعم يفتى به فيما دعت إليه الحاجة وجرت به في المدد المديدة العادة وتعارفه الأعيان بلا نكير كالخلو المتعارف في الحوانيت، وهو أن يجعل الواقف أو المتولي أو المالك على الحانوت قدرًا معينًا يؤخذ من الساكن ويعطيه به تمسكًا شرعيًا، فلا يملك صاحب الحانوت بعد ذلك إخراج الساكن الذي ثبت له الخلو ولا إجارتها لغيره مالم يدفع له المبلغ المرقوم فيفتى بجواز ذلك قياسًا على بيع الوفاء الذي تعارفه المتأخرون احتيالًا عن الربا "، ثم قال:" في مجموع النوازل: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعًا لاضطرار الناس إلى ذلك، ومن القواعد الكلية: إذا ضاق الأمر اتسع حكمه فيندرج تحتها أمثال ذلك مما دعت إليه الضرورة "(3) .
وموضوع الأصل التجاري أو المحل الجاري الذي هو موضوع بحثنا وصدرت فيه قوانين وضعية ضبطت عناصره وحدوده ليس بالموضوع الجديد على المجتمعات الإسلامية لأنه موضوع بحث كذلك عند علماء الفقه بحثًا مستفيضًا بغير هذه المصطلحات الجديدة.
فالقانون الوضعي أمام رغبة مالك العقار الذي يطالب بحرية التصرف والانتفاع بعقاره حسب البنود التي وقع الاتفاق عليها في العقد الذي يوجب انتهاء تصرف المستأجر بانتهاء المدة وبموجب ذلك فلا حق له في البقاء في المحل في أي حال من الأحوال.
وبين رغبة المستأجر الذي استكملت عنده عناصر الأصل التجاري الأصلية المادية والمعنوية والذي يدعي أن إخراجه من المحل عند انتهاء المدة يلحق به ضررًا فادحًا لأن المحل الذي استأجره جهزه تجهيزًا يتناسب مع سمعته وطاقة استيعابه وهذا التجهيز لا يصلح لغير هذا المحل وأنه من ناحية أخرى أكسب المحل شيئًا جديدًا له قيمة تجارية معتبرة تفوت بفوات هذا المحل، وهي السمعة التجارية والاسم التجاري والملكية الصناعية والرخص والإجازات وأن خروجه يضيع عليه كل هذه الحقوق التي اكستبها بعد جهود وأتعاب ونفقات باهظة زيادة على ما يعتبره رجال القانون التجاري من أن استقرار التاجر في عمله ضمان لحلقات النمو التجاري في البلاد وأن إخراجه تفويت لهذه المصلحة العامة.
(1) فتاوى الشيخ عليش فتح العلي المالك: 2/166.
(2)
الأشباه والنظائر: ص 197 لابن نجيم.
(3)
4/17 من خاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين.
وأمام هذا النزاع القديم بين الملكية العقارية والملكية التجارية حاول القانون الوضعي إيجاد حلول وسط تضمن التوازن وعدم الإجحاف بأي جانب حتى يتحقق التعايش والتكافل بين كل القطاعات، فقد مكن من جهة المستأجر من الاستقرار في المحل ضمانًا لبقاء الأصل التجاري واكتمال حقه في الملكية التجارية (1) .
ومكن المالك من جهة أخرى من عقاره بعد تعويض الخسائر كافة التي تنجر للمستأجر من إنهاء العقد وهو إخلاء العقار ويسمى هذا عندهم بغرامة الحرمان تفاديًا من إجبار المالك على قبول الإجارة المؤبدة رغم إرادته إذا تحقق الأصل التجاري للمستأجر لأن البقاء يتعارض مع حق الملكية العقارية الذي يفرض عليه قيدًا لا يتحمله.
وإذا امتنع المالك من دفع الغرامة مكن المستأجر من الاستمرار في المحل كما مكن من بيع الأصل التجاري.
والواقع أنه ليس في هذا القانون الوضعي الجديد شيء زائد عما هو معروف عند بعض فقهاء الشريعة الإسلامية سوى غرامة الحرمان، وإلا فإن مسألة استمرارية المستأجر في المحل بدون عوض وبدون إذن المالك بحثت بحثًا مستفيضًا في كتب الفقه وصدرت فيها فتاوى بالجواز من بعض العلماء.
واصطلح أهل المغرب على تسمية هذا النوع من العقود التي تثبت للمستأجر حق التبقية (الجلسة) وهي عقد كراء على شرك متعارف " والشرط هو التبقية وهي كراء الجلوس والإقامة بدكانه على الدوام والاستمرار ويوضح الشيح التماق (2) المصلحة في إجازة الجلسة في كتابه إزالة الدلسة عن وجه الجلسة: بأن العقد في مصلحة الوقف حتى يعمر في وقت الرواج والكساد فيستفيد الواقف ويطمئن المكتري على نفسه ولا يتعرض للخروج إن غلا السوق وارتفعت الأكرية حتى أصبحت الحوانيت لا تعرف إلا بإضافتها إلى معمرها وتصير له يد فيها يقدم بها على غيره فإذا بدا له الخروج منها تخلى عنها لغيره وأخذ منه بدلًا على ذلك وليس لصاحب المحل إلا الكراء أو أجر المثل.
(1) الملكية التجارية، رشيد الصباغ ص9.
(2)
هو الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن التماق الغرناطي الفاسي، المتوفى سنة 1151هـ، وهو صاحب رسالة إزالة الدلسة عن وجه الجلسة وهي مخطوطة ضمن مجموع للعالم الشيخ محمد المنوني بالمغرب.
أما أهل تونس فقد اصطلحوا على تسمية هذا النوع من العقود المؤبدة بالنصبة أو الراغلة أو العدة، ويذكر الشيخ محمد السنوسي في كتابه مطلع الدراري (1) سبب نشوء خلو النصبة أن " الأصل فيه أن الغرباء الوافدين على البلاد كانوا إذا اكترى أحدهم حانوتًا بغير عمارة وأنفق عليها ما يحتاجه من الخزائن وآلة الصناعة والموازين وأراد المالك أو ناظر الأوقاف إخراجه بعد انقضاء أمد الكراء شكا من خسارة ما استكمل به عمارة المحل، وحيث إن المالكين وناظري الأوقاف لم يجعلوا لحوانيتهم ما يلزم للصناعة المعد لها الحانوت مع كونهم أكروه لإقامة تلك الصنائع وتحمل المكترون وحدهم مصاريف ذلك وقع الحكم بأن المكتري إذا كان على تلك الصفة ووضع ما يلزم من العمارة بإذن المالك فلا يصح إخراجه إلا أن يقبل المالك تلك الموضوعات بدون خسارة وإلا فيبقى المكتري بكرائه متمتعًا بخلوه.
ولما عجز المالكون عن تعويض مصاريف الموضوعات اضطروا لإيفائهم فتصرف المكترون بأنفسهم وأكروا لغيرهم وباعوا مكانهم على أن لا يأخذ المالك إلا مقدار الكراء وما زاد عليه يبقى لمستأجر العمارة " (2) .
وما قيل في النصبة يقال في الكدك وهو ما يزيده المستأجر في الحوانيت بماله سواء كان مثبتًا كالبناء أو غير مثبت كالرفوف وآلات الصناعة، ويقال كذلك في الكردار وهي الزيادة في المزارع كالسواقي والقناطر والمباني التي للزارع وحكم كل من الكدك والكردار أنهما مملوكان لصاحبهما أي المستأجر ويثبتان له حق القرار، فلا يجوز انتزاع العين المستأجرة منه وتأجيرها لغيره بعد انتهاء المدة ما دام يدفع أجر المثل، يقول الشيخ التماق في حكم الجلسة في كتابه المتقدم الذكر مصرحًا بإباحته وبأنه ليس في ذلك ما يقتضي المنع والتحريم إذا اعتبر بيع الجلسة من قبيل العرف المصطلح عليه بالمغرب " والأمر إذا اتخذه عرفًا وعادة أهل المروءات والجمهور من الناس لا ينبغي أن يكون حرامًا والعرف في الجلسة من هذا النوع سيما وقد أطبق على هذا العرف أهل العلم والدين من قضاة ومفتين ومدرسين وغيرهم وعلى هذا لم يبق إلا التسليم بجوازها وحليتها "(3) .
(1) كتاب جليل للشيخ العلامة محمد السنوسي سماه كتاب مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري فيه مقارنة قيمة بين القانون العقاري الوضعى والفقه الإسلامي.
(2)
مطلع الدراري: ص 162.
(3)
العرف والعمل في المذهب المالكي، لمؤلفه الدكتور عمر الحيدي: ص 47.
وقد اعتبر الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة جواز إبقاء المستأجر من الضرورة العامة المؤقتة " وذلك أن يعرض الأضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي، من سلامة الأمة وإبقاء قوتها أو نحو ذلك.. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة. وأنها تقتضي تغييرًا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة ".
ومن أمثلة هذه الرخصة الكراء المؤبد الذي جرت فتوى علماء الأندلس كابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع لما تحتاجه الأرض من قوة الخدمة ووفرة المصاريف لطول تبويرها.
وزهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها ولإباية الباني أو الغارس أن يبني أو يغرس، ثم يقلع ما أحدثه في الأرض فأفتى ابن سراج وابن منظور بكرائها على التأبيد ورأيا أن التأبيد لا ضرر فيه لأنها باقية غير زائلة (1) .
ثم تبعهما على ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في أحكام الوقف، وجرى العمل بذلك في المغرب في فاس وتونس في العقد المسمى في تونس بالنصبة والخلو وفي فاس بالجلسة والجزاء.
ومنها فتوى علماء بخارى من الحنفية ببيع الوفاء في الكروم لحاجة غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها كل سنة فاحتاجوا إلى اقتراض ما ينفقونه عليها (2) .
وإذا كانت المصلحة أو الضرورة أو الرخصة هي التي من أجلها مكن المستأجر من التمتع بحق التبقية في الماضي، ومن أجل ذلك صدرت فتاوى في تغليب العرف الخاص على العرف العام وحرمان المالك من التصرف في عقاره بموجب انتهاء مدة العقد، فإن هذه المصلحة أو الضرورة أو الرخصة تبدو أقوى وأظهر في هذا الزمان بعد أن أصبح المستأجر مقيدًا غالبًا في كل الخطوات التي يخطوها بإجراءات معينة كما هو ملزم بالتحصيل على رخصة أو رخص تمكنه من ترويج تجارته أو صنعته والرضوخ إلى إجراءات إدارية قد تكون معقدة وتتطلب مددًا متباينة يبذل في سبيلها جهدًا كبيرًا زيادة عما يبذله من مال لتجهيز المحل التجاري بطريقة فنية وإبرازه بمظهر جذاب يغري الحرفاء وتهيئة كل المعدات اللازمة لضمان تجارة رابحة.
وعلى كل فقوانين الملكية التجارية التونسية وإن استمدت بعض أحكامها من القوانين الوضعية الغربية، فإن جانبًا كبيرًا منها كان يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأصبحت الملكية التجارية بمفهومها العام تمثل عرفًا خاصًا في تونس وغيرها من البلاد الإسلامية التي وضعت قوانين تجارية ضبطت فيها أصول التعامل في الأصل التجاري، لا سيما وأن ما أثبتته القوانين الجاري بها العمل في تونس أو في بعض بلدان العالم الإسلامي من اعتبار الأصل التجاري موجبًا لاستمرارية التاجر في المحل لا يختلف في موضوعه أو نتيجته عما جرى به العمل في السابق بناء على فتاوى صادرة من علماء أجلاء، وما أقره بعض علماء الإسلام من تمكين المالك في هذه الصورة إذا لم يرض بالأجر المنصوص عليه في العقد هو ما أقره القانون الحديث من تمكين المالك من المطالبة بتعديل حق الكراء إلى أجر المثل، واشترط العلامة بدر الدين القرافي في رسالته الدرة المنيفة أن المستأجر لا يتمتع بحق الخلو إلا إذا كان مالكًا لمنفعة الحانوت مدة، وأما إذا لم يكن مالكًا للمنفعة بإجارة فلا عبرة بذلك الخلو (3) ، وهذا من الشروط التي يقرها قانون الملكية التجارية في ثبوت الأصل التجاري.
(1) ذكرت فتواها في المعيار للنونشريسي.
(2)
مقاصد الشريعة، الطاهر بن عاشور: ص 134.
(3)
الدرة المنيفة في الفراغ عن الوظيفة نشرت في مجلة الحياة الثقافية التونسية عدد 14 – 15 سنة 1981م.
حكم الأصل التجاري:
وبناء على كل ما تقدم يمكن أن نقول إن ثبوت الأصل التجاري يمكن المستأجر من الاستقرار في المحل رغم إرادة المالك اعتبارًا للمصلحة أو الرخصة أو الضرورة.
مع العلم أن رأي فقهاء المسلمين في هذه القضية وأمثالها ليس متحدًا، فإذا تعرضنا في بحثنا هذا إلى من أجاز إبقاء المستأجر في المحل نظرًا لما ترتب له من حقوق في الزيادات المادية والمعنوية التي قام بها في المحل التجاري
…
فليس معنى ذلك أن القول بالجواز هو المشهور، بل هو تخريج لمعاملات المسلمين على ما جرى عليه العرف الخاص في بعض البلدان الإسلامية بفتاوى من علماء أجلاء من المغرب والمشرق.
المانعون للعمل بالأعراف الخاصة:
أما المانعون لهذا النوع من المعاملة، فإنهم يقررون بأنه لا حق للمستأجر في البقاء في المحل بعد انتهاء المدة إلا برضا المالك، بل إن منهم من يشجب الاستناد إلى الأعراف الخاصة التي تخالف القواعد الشرعية ويندد بأصحابها. والقائمين عليها، بل يعتبرها بعضهم من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به (1) .
ويقررون أن أموال بدل الخلوات لا تحل لأصحابها، وأن أكلها حرام، إذ هو ناشئ عن الإضرار بالأوقاف وأصحاب العقارات.
وأن الذين يتعاملون بالأعراف الخاصة المخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية ولما تعورف عند فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم هو خروج عن الجادة.
وأن الشيخ ميارة من علماء المغرب، لما سئل عن الجلسة المتعارفة في المغرب قال:" أما مسألة الجلسة فلم أقف على نص فيها ولا أظنه يوجد لأنها محض اصطلاح من المتأخرين ولأنها اشتملت على أمور مخالفة للشريعة الإسلامية ".
وبمثل هذا أجاب الشيخ عبد الواحد بن عاشر، إذ صرح بأن مسألة الجلسة التي حدثت لا أصل لها في الشرع.
وأشار الجلالي إلى أن الجلسة " أحدثها أهل الغصوبات من أنواع الجور وقد وقع التشكي بظلمها أيام حياة العلماء حفاظ المذهب، كالحميدي والسراج، ووقع الاهتمام بقطعها فلم الجور معينًا ولا ناصرًا من أهل الدولة، وتعصب أصحابها بذوي الجور والظلم، وبقي أمرها كذلك إلى أن قدم السلطان أحمد المنصور فرفع إليه أمرها فقطعها، واستبد أرباب الأصول بمنفعة رباعهم واضمحل ذلك الباطل وهكذا كان الحال عام 1013هـ ".
وعلى نفس الرأي عبر المسناوي فقد جاء في كلامه " وبالجملة فأمر الجلسة مما غص به الناس قديمًا وحديثًا لتحكم العوائد على القواعد وغلبة العامة على الخاصة مع الجهل منهم "(2) .
وذكر الشيخ محمد السنوسي الحفيد أن محمد باي بتونس حاول إبطال العمل بالنصبات بعاصمة تونس استنادًا لكلام أبي الفداء الشيخ إسماعيل التميمي، فلم يتيسر ذلك له لما يطرأ على ذلك من ضرر كبير على مالكي النصبات، وهم جم غفير (3) .
إن من أجازها من علماء الحنفية قاسها على من أجاز بيع الوفاء أو عدها من باب جواز تقليد آراء المذاهب تحقيقًا للرخصة والضرورة، وهم يقررون أن حكم الزيادة التي أحدثها المستأجر في المحل:
إن كانت برضا المالك مما لا يجوز قلعه فله الرجوع على المالك بما بذل من مال.
وإذا كانت الزيادة مما تنقل أو تحول فله أخذ ما أضافه أو مطالبة المالك بدفع قيمة ما أضاف والمالك مخير.
يقول الشيخ عليش في فتاويه (4) : " فإن أذن المالك للساكن في وضع شيء من خشبه أو نحوه كان باقيًا على ملك الساكن وللمالك إخراجه ويأخذ قيمته أو شيئه بعد إخراجه ".
أما إذا كانت الزيادة التي قام بها المستأجر بلا إذن المالك فلا رجوع عليه بشيء ويخير صاحب العقار بين أن يدفع له ما زاد أو قيمته مقلوعًا، يقول الشيخ عليش:" أما العمارة بلا إذن المالك فلا يحاسب بها وله أخذ عين شيئه أو قيمته بعد قلعه "(5) .
وبهذا يتبين أن لا حق للمستأجر في جميع الحالات من البقاء في المحل، ويرى بعض العلماء أن العمل بهذه الأحكام العرفية هو الذي شجع التجار على الاستقرار بالمحلات بعد انقضاء الأجل ولو لم تكن هناك ضرورة ملحة ونفر أصحاب رؤوس الأموال من التمادي في البناء.
ولو أخذت الدولة على عاتقها تكوين الأسواق أو شجعت رؤوس الأموال على بناء محلات تفي بحاجة التجار لانحل المشكل من الأساس.
والحل السريع في هذا الموضوع، هو أن يقع التعاقد على مدة يراها المستأجر كافية للتحصيل على الرخص اللازمة لجبر المصاريف الكافية لإعداد المحل التجاري مع ما يؤمله من أرباح بالتراضي مع المالك ولو طالت المدة، وإذا انتهى لأمد المتفق عليه استرجع المالك عقاره أو جدد الكراء.
(1) عمر بن عبد الكريم الحيدي: العرف والعمل في المذهب المالكي: ص 256.
(2)
عمر بن عبد الكريم الحيدي: ص 471.
(3)
محمد السنوسي الحفيد، مطلع الدراري ص:158.
(4)
الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/146.
(5)
الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/146.
الأصل التجاري بين الجواز والمنع:
إن المانعين للعمل بالأعراف الخاصة إنما منعوها لأنها لا تقوم في الغالب على دعائم الدين ولاتستند إلى نصوص واضحة معترف بها بين عامة الفقهاء، بل تقوم على خرافات وأباطيل، وأن الإسلام لما جاء أقر كثيرًا من أعراف الجاهلية ورفض ما كان رجسًا من عمل الشيطان، وهذا القدر هو محل اتفاق بين علماء المسلمين. ويبدو أن رفض عدد كبير من العلماء للفتاوى التي جوزت بيع الخلو وأقرت المستأجر في مقر عمله بعد انقضاء مدة الإجارة هو تغافل عن قيمة هؤلاء العلماء الذين بلغ عددهم منهم مرتبة الاجتهاد وجميعهم يعلم أنه لا يجوز في مجال القضاء والفتيا اعتماد أعراف تخالف أصلًا من أصول الشريعة كما لا يجوز اعتماد عرف يبطل واجبًا أو يبيح حرامًا، ونسوا أن المفتي أو القاضي أو العالم كثيرًا ما يعتمد قواعد أخرى كالتي تقرر وأن الضروريات تبيح المحظورات وأن الضرورة تقدر بقدرها وإذا ضاق الأمر اتسع حكمه وأن العادة محكمة.
وقد تقدم لنا أثناء البحث أن الشيخ الطاهر بن عاشور وغيره ممن تقدم ذكرهم أجازوا أنواع الخلوات اعتمادًا على الضرورة أو الرخصة أو غير ذلك.
ومسألة تخلي المستأجر عن الخلو ببدل وثبوت حق البقاء له في العقار بدون إذن المالك لو صدرت فيها فتوى واحدة في عصر من العصور في بلد واحد من بلاد الإسلام، لقلنا: إنه يجوز لهؤلاء أن يقولوا إن هذه المسألة وليدة عرف خاص لا يعتد به في الفقه عامة. ولكن الواقع أن هذه المسألة انقلبت إلى حاجة اجتماعية عاشت أربعة قرون أو خمسة، وتناولها بالدرس عدد كبير من العلماء من جهات متعددة من العالم الإسلامي – غير الشيخ القاني الذي اعتمدت فتواه – ولقيت القبول من أهل الذكر أمثال الشيخ شهاب الدين القرافي والعلامة الشيخ الأجهوري، والشيخ سالم السنهوري، والشيخ عليش، والشيخ باش مفتي إسماعيل التميمي، والشيخ باش مفتي إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام محمد بيرم الرابع، والشيخ باش مفتي الشاذلي بن صالح، والشيخ أحمد الغرقاوي المصري، والشيخ محمد المهدى الوزاني فلجميع هؤلاء وغيرهم فتاوى مدونة في كتب الفقه مع بيان طرق الاستنباط وهي كلها لاتبقي حجة للمانعين للعمل بالعرف الخاص ولاتدع لهم مجالًا لإنكار هذا النوع من الاجتهاد الذي حظى من العلماء بالقبول وتلقته الأمة الإسلامية بالتأييد والارتياح.
واعتقادي أنه لا يمكن أن ينظر إلى موضوع الأصل التجاري بمنظار ضيق على أنه لا يزيد على أن يكون عقد كراء عقار تجري عليه أحكام الإجارة العامة ككل عقار من العقارات بدون أن ينظر إلى ما يحيط بهذا العقد من اعتبارات خاصة لايصح أن يتغافل عنها أهل الإدراك والذكر، لأن المستأجر قد ينفق على بعض المحلات أكثر من قيمة المحل في تهيئة كمالات قد لانعطيها القيمة التي تستحقها، ولكنها على كل حال باهظة الثمن وهي التأثيث والزينة والتنسيق والأضواء ووسائل الدعاية ووسائل الراحة، وكل ذلك لجلب الحرفاء وكسب السمعة التجارية ومنافسة بقية التجار، ولا يؤمل عادة أن يكون للمحل مردود كامل إلا بعد مضي ست أو سبع سنوات.
فإخراج المكتري من المحل عند انتهاء مدة الكراء وهي سنتان في المحلات التجارية وهو لم يتحصل بعد على السمعة التي يعمل لتحقيقها، ولم يتمكن من إرجاع ريع المصاريف التي قام بها عادة، فإخراجه بدون اعتبار الأصل التجاري معناه إفلاسه وتحطيم كل ما شرع في بنائه وإفلاس المصارف التجارية التي تقوم وراء التجار.
وإذا لم تظهر المصلحة بصفة جلية في منح صاحب الجلسة أو النصبة أو الحانوت حق البقاء عند العلماء الرافضين العمل بالعرف الخاص، فهل يترددون في إعطاء صاحب الأصل التجاري هذا الحق الذي مكن منه مقابل الجهود الكبيرة التي بذلها للتحصيل على الرخص والمصاريف الباهظة التي أنفقها في تحقيق عناصر الأصل التجاري، والتي بدونها لا يستطيع أن يحقق المتجر المناسب، ولا التغلب على منافسيه، ولأن في منعه من التمتع بحق الأصل التجاري إضرارًا به، بل هو في عرف التجارة إلقاء به إلى التهلكة. مع أن الرافضين العمل بالعرف الخاص يعتبرون من القواعد الشرعية المعترف بها بين الجميع أن الضرر يزال؟.
ومن جانب آخر، فإن عقد الإجارة هذا وإن لم ينص فيه على التبقية فهي معتبرة لأنها مفهومة ضمنا من المتعاقدين استنادا للعرف السائد بين التجار والذي أقرته القوانين التجارية.
وفي اعتقادي أننا لو نتمكن من تمديد مدة العقد إلى أجل لا يتغير فيه المحل غالبًا ويتمكن فيه المستأجر من تعويض مصاريفه لكنا أقرب إلى التوفيق بين من يرفض ومن يجيز، لا سيما وأن تحديد مدة الإجازة مبينة على اجتهادات وأعراف والإمام مالك يجيز كراء المسيل إلى سنين كثيرة أو إلى الأبد..
وهذا رأي اتجه إليه رجال القانون في تونس أخيرًا وقدموا فيه لائحة قانون للمصادقة عليها.
غرامة الحرمان:
لقد تقدم لنا أن قلنا أن القانون التجاري أثبت أن صاحب الأصل التجاري إذا كان مستأجرًا للعقار الذي أعده للتجارة يثبت له حق البقاء في المحل، وهذا الحكم يوافق ما ذهب إليه الفقهاء من حق إبقاء التاجر في المحل وتمكينه من بيع خلو النصبة والجلسة والحوانيت وغيرها اعتمادًا على العرف، وفي كل هذه الحالات لا أمل للمالك في التحصيل على عقاره إلا بالتراضي مع المستأجر فإذا لم يرض المستأجر لا يمكن المالك من عقاره.
ولكن القانون التجاري المعاصر أعطى جديدًا للمالك في استرجاع العقار رغم إرادة المستأجر، وذلك بعد أن يدفع المالك غرامة حرمان المستأجر عن حقوقه المادية والمعنوية التي يقدرها أهل الذكر في ميدان التجارة. وهذه الغرامة تمثل مجموع ما أنفقه التاجر على المحل وتعويض ما اكتسبه من حقوق الرخص والإجازات مع أن ضمان المالك للتاجر فيما زاده في المحل تقره القواعد الفقهية وتحديده موضوع اجتهادي.
ويمكن المالك بعد دفع الغرامة من أصله الذي كان محرومًا منه بدون توقف على رضا المستأجر، وفي نظري أن الغرامة بإعطاء هذا الحق الجديد للمال كانت أخف وطأة على المالك من أن يحرم من عقاره إلى الأبد.
تطور الأصل التجاري:
اعتاد الناس في المعاملات التجارية على أن المستأجر هو الذي يثبت له حق الخلو وهو الذي يثبت له الأصل التجاري وهو الذي يتمسك بالمحل بموجب هذا الأصل ولا يبقى للمالك إلا أجرة الكراء ويعطى التاجر حق التصرف في منفعة العقار أو إجارته أو رهنه أو بيعه وغير ذلك
…
أما إذا كان التاجر مالكًا لمحله فيثبت له كذلك الأصل التجاري إذا توافرت عناصره، كما يملك بيع خلو عقاره المعد للتجارة، كما جرت العادة أن المالك يكتفي بإجارة المحل، والتاجر هو الذي يتمسك بهذه الحقوق، وأمام القوانين التي صدرت وضمنت بصفة واضحة حقوق التاجر التجأ المالك إلى بيع محله المعد للتجارة وهو المسمى في تونس (بالهبوط)(1) .
وقد عرف عند الفقهاء بأنه بيع جزء من المنفعة مجردًا وهو جائز: قال الشيخ عليش في فتاويه إن الخلو إذا صح في الوقف ففي الملك أولى لأن المالك يجعل في ملكه ما يشاء. (2) .
ولقد عبر الفقهاء عن كل هذه البيوع بالخلو، أما رجال القانون فلا يطلقون الأصل التجاري إلا على ما توافرت عناصره.
كما التجأ بعض أصحاب العقارات إلى طريقة أخرى وهي مطالبة المستأجر بجعل توثقة مالية معتبرة تحت يد المالك تضاهي قيمة خلو هذا المحل ترجع إلى صاحبها عند تسليم المحل بانتهاء مدة العقد وهذه طريقة أخرى يتخلص بها المالك من تمسك التاجر بالمحل، أو من دفع غرامة الحرمان.
وهذا كله استمرار للصراع والتنازع بين المالك والمستأجر في ضمان أكثر ما يمكن من المنافع أو دفع أكثر ما يمكن من الأضرار.
والله أعلم.
الشيخ مصطفى كمال التارزي
(1) يسميه رجال القانون في تونس: " الخلو " ويعبر عنه القانون الفرنسى "Pas-De-Porte"، وهو غير الأصل التجاري المعروف عند رجال القانون بـ " الخلو " أيضًا، والذي يعرف عند رجال القانون الفرنسي باسم "Fonds De Commerce".
(2)
الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/16.