الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزامات
إعداد
د. على أحمد السالوس
أستاذ بقسم الفقه والأصول
كلية الشريعة جامعة قطر
المحتوى
تقديم
المبحث الأول:الاستقرار النسبى للنقود السلعية
المبحث الثاني: بيان السنة المطهرة
المبحث الثالث: أثر تغير قيمة العملة عند الفقهاء
المطلب الأول: أقوال المالكية
المطلب الثاني: أقوال الشافعية
المطلب الثالث: أقوال الحنابلة
المطلب الرابع: أقوال الحنفية
المطلب الخامس: رأي أهل الظاهر
المطلب السادس رأي ابن تيمية
المطلب السابع: القوانين الوضعية
نتائج الدراسة
الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
تقديم
الحمد لله حمدا طيبا طاهرا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل ونصلى ونسلم على رسوله المصطفى خير البشر وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
كانت البشرية في مهدها تسير على نظام المقايضة في التعامل فعانت الكثير لما لهذا النظام من عيوب ثم اهتدى الإنسان بفضل الله تعالى إلى استخدام النقود والنقود تعرف تعريفا وظيفيا لا وصفيا فهي: أي شيء يكون مقياسا للقيمة ووسيلة للتبادل ويحظى بالقبول العام.
وتعددت الأشياء التي استخدمها الإنسان في النقود إلى أن اهتدى إلى استخدام الذهب والفضة فلم ينافسهما أي شيء آخر لما لكل منهما من خصائص مميزة من حيث البقاء دون تلف والتجزئة إلى قطع وعدم التغير بالاستعمال أو التخزين.. إلخ.
وعندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت النقود التي يتعامل بها الناس هي الدنانير الذهبية والدراهم الفضية فشرع الرسول الكريم من الأحكام ما ينظم تعامل المسلمين بهذين المعدنين: الذهب والفضة وهذه الأحكام التي تعرف في الفقه الإسلامي بأحكام الصرف والأحاديث الشريفة التي تبينها كثيرة مشهورة.
منها ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (1)
وما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز)) (2) .
(1) أخرجه مسلم.
(2)
متفق عليه.
وما رواه أبو بكرة رضي الله عنه -قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا)) (1) .
وما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار لا فضل بينهما والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) (3) وهذه بعض الأحاديث الشريفة التي تبين أحكام الصرف ويؤخذ منها أن الصرف كي يتم صحيحا بغير ربا يشترط فيه ما يأتي:
أولا: التماثل بغير زيادة أو نقصان عند تبادل ذهب بذهب ومثله دينار بدينار أو تبادل فضة بفضة ومثلها درهم بدرهم.
ويسقط هذا الشرط إذا كان بيع الذهب أو الدينار بالفضة أو الدرهم وبيع الفضة أو الدرهم بالذهب أو الدينار.
ثانيا: القبض في المجلس قبل الافتراق فلا يباع غائب بحاضر ولا يتأخر القبض وإنما هاء وهاء ويدا بيد.
فإذا افترق المتصارفان قبل أن يتقابضا فالصرف فاسد بغير خلاف.
وأحكام الصرف واضحة كل الوضوح وتطبيقها في عصر التشريع كان سهلا ميسرا وظل الأمر كذلك ما دامت نقود عصر التشريع قائمة ثم تطورت النقود على مر العصور حتى وصلت إلى ما نراه في عصرنا فبرزت مشكلات في التطبيق بعضها أمكن حله بسهولة مثل تعدد الأجناس فاعتبر تعدد الأجناس بتعدد جهات الإصدار بمعنى أن الورق النقدي المصري جنس والسعودي جنس والقطري جنس وهكذا.
ولعل ابرز المشكلات ما يتصل بالقبض في المجلس حيث يتعذر التقايض في كثير من الحالات وهنا يمكن أن يقوم مقام القبض الفعلي للنقد الوسائل العصرية المختلفة كالحوالة والشيك والتلكس وكل ما يعد في العرف قبضا كما قامت السفتجة قديما مقام القبض ولكن لا يجوز تأخير القبض أو ما يقوم مقامه ولذلك نجد أسواق النقد العالمية تعلن عن سعر الصرف الحال وسعر الصرف المؤجل وتجعل المؤجل بزيادة ترتبط بسعر الفائدة أي الربا.
والحديث عن هذا الموضع يطول كثيرا وقد انتهيت من دراسته في كتاب عنوانه " النقود واستبدال العملات "
(1) أخرجه الشيخان
(2)
متفق عليه و " هاء هاء " أي خذ وهات
(3)
أخرجه مسلم.
المبحث الأول
الاستقرار النسبي للنقود السلعية
في عصر التشريع كان الغالب في سعر الصرف الدينار بعشرة دراهم ولذا كان نصاب الزكاة عشرين دينارا أو مائتي درهم وبالبحث في النصاب ووزن كل من الدينار والدرهم نجد أن قيمة الذهب كانت سبعة أضعاف قيمة الفضة ومع أن الذهب والفضة يتميزان بالاستقرار النسبي غير أن العلاقة بينهما لم تظل ثابتة فتغير سعر الصرف من وقت لآخر بل وجدنا في عصرنا - الفضة تهبط إلى ما يقرب من واحد في المائة (1 %) من قيمة الذهب.
كما أن العلاقة بينهما وبين باقي الأشياء لم تظل ثابتة مثال هذا عندما غلت الإبل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فزاد مقدار الدية من النقدين.
إن هذه الزيادة تعنى أن النقود انخفضت قيمتها بالنسبة للإبل ولكن الأمر لم يكن قاصرا على الإبل فغيرها قد يرتفع ثمنه وقد ينخفض وارتفاع الثمن يعنى انخفاض قيمة النقود وانخفاض ثمن السلع يعنى ارتفاع النقود.
غير أن الزيادة أو النقصان لم تكن بالصورة التي شهدها عصرنا عصر النقود الورقية وعلى الأخص بعد التخلي عن الغطاء الذهبي ولجوء بعض الدول أو اضطرارها إلى خفض قيمة ورقها النقدي.
والغلاء الفاحش الذي ساد عصرنا لم يكن سائدا في الدول الإسلامية من قبل لالتزامها بمنهج الإسلام أو قربها منه فالاقتصاد الإسلامي يعنى زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع وترشيد الاستهلاك. والإسلام يمنع الوسائل التي تؤدى إلى غلاء الأسعار كما هو معلوم لمن يدرس البيوع المنهي عنها وينهى عن ظلم المسلمين بكسر سَكَّتِهِم وإفساد أموالهم.
جاء في البيان والتحصيل: 6/474 ما يأتي:
قال محمد بن رشد: (الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير القائمة التي تجوز عددا بغير وزن فإذا قطعت فردت ناقصة غش بها الناس فكان ذلك من الفساد في الأرض وقد جاء في تفسير قوله عز وجل قال: {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} إنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم لأنه كان نهاهم عن ذلك وقيل: إنهم أرادوا بذلك تراضيهم فيما بينهم بالربا الذي كان نهاهم عنه وقيل: إنهم أرادوا بذلك منعهم للزكاة وأولى ما قيل في ذلك: إنهم بذلك جميع ذلك وأما قطع الدنانير المقطوعة فليس قطعها من الفساد في الأرض وإنما هو مكروه) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر به وبأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه للمصلحة العامة ويعطي أجرة الصناع من بيت المال فإن التجارة فيها بابا عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضًا وضرب لهم فلوسا أخرى: أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
وأيضًا فإذا اختلفت مقادير الفلوس صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه ينهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)) فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسًا ويتجر بذلك: حصل بها المقصود من الثمنية) (1)
وقال ابن القيم:
(فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوَّم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوّم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطى صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافا ويأخذ أثقالا اكثر منها لصارت متجرا أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولابد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعة تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات)(2) وفي المعيار المعرب لأبي العباس الونشريسي: (ج6/ص407) تحت عنوان: (ما يجب على الوالي أن يفعله إزاء مرتكبي التزوير في النقود) نجد ما يأتي (ولا يغفل النظر أن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة مخلوطة بالنحاس بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله ويشرد به من خلفه لعلهم يتقون عظيم ما نزل به من العقوبة ويحبسه بعد على قدر ما يرى ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم ويرتجي لهم الزلفي عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله المكيال والميزان والإمداد والأقفزة والأرطال والأواقي) .
(1) الفتاوى:29/469
(2)
أعلام الموقعين: 2/132
المبحث الثاني
بيان السنة المطهرة
مما يعد أصلا في موضوعنا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم (1) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
وفي لفظ بعضهم: ((أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير)) .
فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو بالدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعا آجلا وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد من اشترى بدراهم ليس معه إلا الدنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟
مثلا إذا باع بمائة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف يوم الأداء فاصبح الدينار مثلا بأحد عشر درهما أفيأخذ الألف أم ألفا ومائة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمائة درهم يمكن صرفها بمائة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مائة الدينار يوم البيع؟
بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كري لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر أعطوه بسعر السوق.
(1) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي:2/44 وبين الشيخ أحمد شاكر صحته مرفوعا وموقوفا انظر المسند: 7/50 رواية: 4883 والشيخ الألباني ضعفه مرفوعا وقَوَّى وَقْفَه (إرواء الغليل: 5/173) ولكن تضعيفه ليس بحجة لأنه يعنى تضعيف من احتج به الإمام مسلم ولا يتسع المجال هنا للمزيد وانظر في فقه الحديث على سبيل المثال مشكل الآثار للطحاوي: 2/95-97 وفتاوى ابن تيمية 29/519 وإعلام الموقعين لابن القيم: 4/408.
فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلا في أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين.
ومن السنة المطهرة ما يبين أن الأموال الربوية ينظر فيها إلى المثل قدرا ولا عبرة بالقيمة ويوضح هذا حديث تمر خيبر المشهور حيث قيل للرسول صلى الله عليه وسلم إنا نبتاع الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال صلى الله عليه وسلم ((لا تفعل)) وفي رواية: ((إنه عين الربا – بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنينًا)) .
ومما يعد أصلا في موضوعنا كذلك ما رواه أبو داود في سننه عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن مسكن فليكتسب مسكنا)) وما رواه أحمد في مسنده عن المستورد أيضًا قال:
((من ولي لنا عملا فلم يكن له زوجة فليتزوج، أو خادم فليتخذ خادمًا، أو مسكن فليتخذ مسكنا، أو دابة فليتخذ دابة)) (1) .
قال الخطابي في معالم السنن هذا يتأول على وجهين:
أحدهما أنه إنما أباح اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجرة مثله.
والوجه الآخر أن للعامل السكنى والخدمة فإن لم يكن له مسكن ولا خادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه منه مثله، ويكترى له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله.
وفي عون المعبود (8/161) جاء في شرح الحديث:
يحل له أن يأخذ مما في تصرفه من مال بيت المال قدر مهر زوجة ونفقتها وكسوتها وكذلك ما لا بد منه من غير إسراف وتنعم وذكر بعد هذا قول الخطابي.
يؤخذ من هذا الحديث الشريف أن أجر العامل مرتبط بتوفير تمام الكفاية ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعا لتغير قيمة العملة وهذا يختلف عن الالتزام بالدين كما بينه حديث ابن عمر.
(1) انظر كتاب الخراج والفيء والإمارة في سننه باب في أرزاق العمال وانظر مسند أحمد 4/229-230 والحديث سكت عنه هو والمنذري ولكن السيوطي مع تساهله في التصحيح ذكره في الجامع الصغير ورمز له لعلامة الضعف فلم يوافقه المناوي وذكر في غيض القدير قول الهيثمي رجاله ثقات أثبات وراجعت الحديث ونظرت في كتب الرجال فوجدت الحق مع المناوي والهيثمي فأبو داود يرويه هكذا " حدثنا موسى بن مروان الرقى أخبرنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير ابن نفير عن المستورد بن شداد قال وهذا الإسناد متصل بغير انقطاع ورجاله كلهم ثقات غير مجروحين وفي المسند نجد ثلاث روايات للحديث عن عبد الرحمن بن جبير من أربعة طرق عن المستورد فالحديث يرويه عن المستورد بن شداد إذن جبير بن نفير عند أبي داود وعبد الرحمن بن جبير عند أحمد
المبحث الثالث
أثر تغير القيمة عند الفقهاء
بعد الحديث عن بيان السنة المطهرة نأتي إلى الفقه الإسلامي لنرى ماذا قال السادة الفقهاء والقول عند الحنفية يطول ذكره وعلى الأخص بعد رسالة ابن عابدين في النقود ولهذا أبدأ بغيرهم ثم أنتهي إليهم.
المطلب الأول
أقوال المالكية
في المدونة الكبرى: (4/25) يذكر ابن وهب قول الإمام مالك: " كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا " ويقول بعد هذا: وأخبرني حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس بنحو ذلك وأخبرني عقبة بن نافع عن خالد بن يزيد أن عطاء بن أبي رباح كان يقول بنحو ذلك أيضًا.
وفي البيان والتحصيل (6/629) لابن رشد (الجد) نجد ما يأتي:
عن مالك في رجل قال لرجل: أدفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم قال ابن القاسم ليس عليه إلا عدة الدراهم التي دفع يومئذ لأنه نصف دينار وليس عليه أن يخرج دينارا فيصرفه وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام قال سحنون قال ابن القاسم يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم وأما إن كان إنما دفع إليه دينارا فصرفه فله نصف دينار بالغا ما بلغ.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسألة قال ابن القاسم وليس إلا عدة دراهم التي دفع وصوابه قال مالك فإن المسالة في قوله بدليل تفسير ابن القاسم بقوله يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم (6/429) .
وفى البيان والتحصيل أيضًا (6/487 – 488) .
وسألته أي مالك عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوب عليه من صرف عشرين بدينار أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم بدينار فقال أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه فأما أن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ إلا مثل ما أعطاه.
فقيل له: أرأيت إن باعه ثوبا بثلاثة دراهم ولا يسمى له صرف كذا وكذا والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار.
قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا أخذ بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم وإنما قال بثلاث دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار ارتفع الصرف أو خفض وقد كان بيع من بيوع أهل مصر يبيعون الثياب بكذا وكذا درهما من صرف كذا وكذا دينار فيسألون عن ذلك كثيرا فهو كذا.
قال محمد بن رشد هذا كما ذكر وهو مما لا اختلاف فيه إذا باع كذا وكذا درهما ولم يقل من صرف كذا فله عدد الدراهم التي سمى ارتفع الصرف أو اتضع وإذا قال بكذا وكذا درهماً وصرف كذا وكذا فلا تكون له الدراهم التي سمى إذا لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار فله ذلك الجزء وكذلك إذا قال: أبيعك بنصف دينار من ضرب وعشرين درهما بدينار، فإنما له عشرة دراهم إذا لم يسم نصف الدينار إلا ليتبين به الدراهم التي أراد البيع بها من الدينار (6/487-488) .
وقال الدردير:
وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة (وإن عدمت) في بلد المعاملة وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضا أو يقوم العرض بعين من المتجددة ويتصدق بما يغش به الناس أدبا للغاش فجاز للحاكم كالمكتسب أن يتصدق به على الفقراء (1) .
وقال أيضًا:
(ورَدُّ) المقترض على المقرض (مثله) قدرًا وصفةً (أو) رَدَّ (عينه إن لم يتغير) في ذاته عنده ولا يضر بغير تغير السوق فإن تغير تعين رد مثله (وجاز أفضل) أي رد أفضل مما اقترضه صفة لأنه من قضاء إذا كان بلا شرط وإلا منع الأفضل والعادة كالشرط ويتعين رَدُّ مثله (2) .
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/23
(2)
الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/106
وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير:
(قوله: أي فالواجب قضاء المثل أي ولو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفا بدرهم أو بالعكس وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمائة وسبعين وبالعكس وكذا إذا كان المحبوب بمائة وعشرين ثم صار بمائتين أو بالعكس وهكذا قوله فالقيمة يوم الحكم وهو متأخر عن يوم انعدامها وعن يوم الاستحقاق والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم وحينئذ فتعتبر القيمة يوم طلبها وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس وبه قال بعضهم وقال بعضهم هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله قال الأجهوري: كمن عليه طعام امتنع ربه من أخذه حتى غلا فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه وتبين ظلمه (1) .
وفي المعيار المعرب تحت عنوان الحكم إذا بدلت سكة التعامل بأخرى يقول المؤلف وسئل عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضى له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فبأيهما يقضى له؟
فأجاب: لا يجب للبائع قِبَلَ المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبا لتعذره.
(1) بلغة السالك 2/23
ومن باع بالدراهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها إلا أن يتطوع المشتري بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلا منه (1) .
وتحت عنوان ما الحكم فيمن أقرض غيره مالا من سكة ألغى التعامل بها؟ قال صاحب المعيار:
سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟
فأجاب أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه أشبيليه قال نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى.
أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب.
قال: وأرسل إلى ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة وقال لي الصواب فيها فتواي فاحكم بها ولا تخالفها أو نحو هذا من الكلام.
وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتى بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض أخبرني به الشيخ أبو عبد الله بن فرج عنه وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماما بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد ثم غيرت دراهم تلك البلد إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد.
وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دارهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة وكانت حجته في ذلك أن السلطان منع من إرجائها وحرم التعامل بها وهو خطأ من الفتوى.
(1) الكتاب المذكور 6/ 461-462 والمسئول هو أبو سعيد بن لب
وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (1) ومن أقوال المالكية السابقة نرى ما يأتي:
1-
القرض يرد بمثله في كل شيء والزيادة على المثل من الربا.
2-
تغير السعر لا يؤثر في وجوب رد القرض بمثله قدرا وصفة وكذلك الدين الناشيء عن البيع وإن كان التغير فاحشا كعشرة أضعاف مثلا.
3-
يجوز الاتفاق وقت عقد البيع على عملة بسعر الصرف حينئذ ولكن لا يجوز هذا في القرض.
4-
إبطال التعامل بالدنانير أو الدراهم أو الفلوس لا يمنع وجوب رد المثل ما دامت موجودة في بلد المعاملة فإن عدمت يلجا إلى القيمة يوم المطالبة عند التحاكم وذلك لتعذر المثل.
وفسر الصاوي هذا بقوله (وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس وبه قال بعضهم وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله) . وأفتى ابن عتاب بأن صاحب الدين يأخذ قيمة السكة المقطوعة من الذهب وأفتى ابن عبد البر بأخذ السكة الأخيرة
5-
يمكن أن تكون القيمة مقدرة بغير الذهب والفضة وقال سحنون: القيمة لا تكون إلا بالذهب والورق راجع البيان والتحصيل: (7/ 412)
(1) المرجع السابق 6/ 163-164
المطلب الثاني
أقوال الشافعية
قال الإمام الشافعي في كتاب الأم: (3/ 28) :
ومن سلف فلوسا أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف أو باع بها ومن أسلف رجلا دراهم على أنها بدينار أو بنصف دينار فليس عليه إلا مثل دراهمه وليس له عليه دينار ولا نصف دينار وإن استسلفه نصف دينار فأعطاه دينارا فقال: خذ لنفسك نصفه وبع لي نصفه بدراهم ففعل ذلك كان له عليه نصف دينار ذهب ولو كان قال له: بعه بدراهم ثم خذ لنفسك نصفه ورد علي نصفه كانت له عليه دراهم لأنه حينئذ إنما أسلفه دراهم لا نصف دينار ".
وقال الشيرازي في المهذب:
ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثل ولهذا يقال: الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل وفيما لا مثل له وجهان إحدهما يجب عليه القيمة لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات. (والثاني) يجب عليه مثله في الخلقة والصورة (1)
وقال أيضًا: ما له مثل إذا عدم وجبت قيمته.
قال الشيخ أبو حامد: إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة (2) .
وقال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة ولا الزرنيخية ولا المحمول عليها ولو تعامل بها الناس فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له إلا ما أقرض وقيل: قيمتها يوم حرمت ولا يصح القرض إلا في مال معلوم فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن أو طعاما غير معلوم الكيل لم يصح لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك لم يمكنه القضاء (3) .
وقال النووي:
ولو أقرضه نقدًا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه (4)
وقال ابن حجر الهيثمي:
ويرد وجوبا حيث لا استبدال المثل في المثلي ولو نقدا أبطله السلطان لأنه أقرب إلى حقه وفي المتقوم ويأتي ضابطهما في الغصب برد المثل صورة (5)
وفي شرح الشرواني لما سبق قال:
(قوله: ولو نقدًا أبطله السلطان) فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا (6)
وأقوال الشافعية والإمام واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.
(1) المجموع شرح المهذب 12/ 185 0
(2)
المجموع شرح المهذب 12/ 187
(3)
المجموع شرح المهذب 12/ 181
(4)
روضة الطالبين 4/ 37
(5)
تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 5/ 44
(6)
حاشية الشرواني: 5/ 44
المطلب الثالث
أقوال الحنابلة
قال ابن قدامه في المغنى (4/ 356-358) :
وإن كانت الدراهم يتعامل بها عددا فاستقرض عددا رد عددا وإن استقرض وزنا رد وزنا وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعى، واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عددا وأعطاه بالبصرة عددا لأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل به الناس فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بها وزنا فرد وزنا.
ويجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أسلف سلفا مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله إن ذلك جائز وإن للمسلف أخذ ذلك ولأن المكيل والموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله فكذا ههنا فأما غير المكيل والموزون ففيه وجهان أحدهما: يجب رد قيمته يوم القض لأنه لا مثل له فيضمنه بقيمته كحال الإتلاف والغصب، الثاني: يجب رد مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله ويخالف الإتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر والقرض أسهل، ولهذا جازت النسيئة فيه فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريبا فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم تعذر المثل؛ لأن القيمة ثبتت في ذمته حينئذ وإذا قلنا: تجب القيمة وجبت حين القرض لأنها حينئذ ثبتت في ذمته.
وقال في موضع آخر: (4/ 364-365) :
ولو أقرضه تسعين دينارًا بمائة عددًا والوزن واحد وإن كانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز، وإن كانت تنفق برؤوسها فلا، وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة، لأن التسعين من المائة تقوم مقام التسعين التي أقرضه إياها ويستفضل عشرة، ولا يجوز اشتراط الزيادة، وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن كثر عددها.
ثم قال المستقرض: يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره لو لم يتغير وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله وإن كان القرض فلوسا أو مسكرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في مكله، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال يقومها كم تساوى يوم أخذها ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها وقال مالك والليث بن سعد والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه؛ لأن ذلك ليس بعيب حدث فجرى مجرى نقص سعرها ولنا أن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق أو قليلا لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت (1) .
وما ذكره ابن قدامه يوضح المذهب ويغنى عما جاء في كثير من كتب الحنابلة وأضيف هنا ثلاث مواد جاءت في مجلة الأحكام الشرعية وهي في الفقه الحنبلي:
مادة (748) :
لا يلزم المقترض رد عين مال المقرض ولو كان باقيا لكن لو رد المثلى بعينه من غير أن يتعيب لزم المقرض قبوله ولو تغير السعر أما المتقوم إذا رده بعينه لا يلزمه قبوله وإن لم يتغير سعره.
مادة (749) :
المكيلات والموزونات يجب رد مثلها فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الأعواز، وكذلك الفلوس والأوراق النقدية. أما غير ذلك فيجب فيه رد القيمة، فالجوهر ونحوه مما تختلف قيمته كثيرا تلزم قيمته يوم القبض.
مادة (750) :
إذا كان القرض فلوسا أو دراهم مكسرة أو أوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، أما إذا حرم السلطان التعامل بها فتجب قيمتها يوم القرض ويلزمه الدفع من غير جنسها إن جرى فيها ربا الفضل، وكذا الحكم في سائر الديون وفي ثمن لم يقبض وفي أجرة وعوض خلع وعتق ومتلف وثمن مقبوض لزم البائع رده.
(1) المغنى 4/ 365 وانظر الشرح الكبير 4/358 ومطالب أولى النهى 3/ 241-243 المبدع 4/ 207
المطلب الرابع
أقوال الحنفية
قال المرغيناني في الهداية:
ولو استقرض فلوسًا نافقة فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يجب عليه مثلها لأنه إعارة وموجبة رد العين: معنى، والثمنية فضل فيه، إذ القرض لا يختص به وعندهما تجب قيمتها لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها كما إذا استقرض مثليًا فانقطع لكن عند أبي يوسف رحمه الله يوم القبض وعند محمد رحمه الله يوم الكساد على ما مر من قبل وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع وقول محمد رحمه الله انظر للجانبين وقول أبي يوسف أيسر (1)
وقال ابن الهمام في فتح القدير شارحًا ما سبق (2)
(قوله: ولو استقرض فلوسًا فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله مثلها) عددا اتفقت الروايات عنه بذلك وأما إذا استقرض دراهم غالبه الغش فقال أبو يوسف في قياس قول أبي حنيفة عليه مثلها ولست أروي ذلك عنه ولكن الرواية في الفلوس إذا أقرضها ثم كسدت قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم القرض في الفلوس والدراهم، وقال محمد: عليه قيمتها في آخر وقت نفاقها وجاء قوله لأنه أي القرض إعارة وموجبة أي موجب عقد الإعارة رد العين إذ لو كان استبدالا حقيقة موجبا لرد المثل استلزم الربا للنسيئة فكان موجبا رد العين إلا أن ما تضمنه هذا العقد لما كان تمليك المنفعة بالاستهلاك لا مع بقاء العين لزم تضمنه لتمليك العين فبالضرورة اكتفى برد العين معنى وذلك برد المثل ولذا يجبر المغصوب منه على قبول المثل إذا أتى به الغاصب في غصب المثلي بلا انقطاع مع إن موجب الغصب رد العين وذلك حاصل بالكاسد (والثمنية فضل في القرض) غير لازم فيه ولذا يجوز استقراضها بعد الكساد وكذا يجوز استقراض كل مثلى وعددي متقارب ولا ثمنية (ولهما أنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبضها فيجب رد قيمتها) وهذا لأن القرض وإن لم يقتض وصف الثمنية لا يقتض سقوط اعتبارها إذا كان المقبوض قرضا موصوفا بها لأن الأوصاف معتبرة في الديون لأنها تعرف بها بخلاف الأعيان المشار إليها بوصفها لغوا؛ لأنها تعرف بذواتها وتأخير دليلهما بحسب عادة المصنف ظاهر في اختياره قولهما ثم أصل الاختلاف في وقت الضمان اختلافهما فيمن غصب مثليا فانقطع وجبت القيمة عند أبي يوسف يوم الغصب وعند محمد يوم القضاء وقولهما انظر المقرض من قول أبي حنيفة لأن في رد المثل أضرارا به ثم قول أبي يوسف انظر له أيضًا من قول محمد لأن قيمته يوم القرض اكثر من قيمته يوم الانقطاع فكان قول محمد انظر المستقرض من قول أبي يوسف وقول أبي يوسف أيسر لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها بخلاف ضبط وقت الانقطاع فإنه عسر فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك.
(1) انظر الهداية 6/ 278 -279 مع شروحه العناية وفتح القدير والكفاية
(2)
الهداية 6/ 278-280
وقال صاحب الكفاية: (6/ 279 -280) :
قوله: (وأصل الاختلاف) أي أصل الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وإنما قيدنا به لأنه بنى هذا الاختلاف في غصب المثلي كالرطب مثلا وفيه كان الاختلاف بينهما نظير الاختلاف الذي نحن فيه كذا في النهاية وفي فوائد الخبازي: وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع، إلا أن هناك نعتبر القيمة يوم الخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله، وهنا لا يقول به؛ لأن إيجاب قيمتها من الفضة يوم الخصومة لا يفسد، لأن قيمتها كاسدة وعينها سواء، بل إيجاب العين كاسدة، أعدل من قيمتها كاسدة فوجب مثلها كاسدة وعندهما لما وجب اعتبار قيمتها رايجة إما يوم القبض أو آخر يوم كانت رايجه فيه فكسدت كان إيجاب قيمتها من الفضة أولى من إيجاب عينها كاسدة كما في المبسوط وقول محمد رحمه الله انظر في حق المقرض بالنظر إلى قول أبي حنيفة رحمه الله وكذا في حق المستقرض بالنسبة إلى قول أبي يوسف رحمه الله وفي فتاوى قاضيخان رحمه الله قال محمد رحمه الله: عليه قيمتها في آخر يوم كانت رايجة وعليه الفتوى وقول أبي يوسف رحمه الله أيسر أي للمفتى أو القاضي لأن قيمته يوم القبض معلومة ويوم الانقطاع لا يعرف إلا بحرج.
وقال صاحب العناية (6/ 279- 280) :
ولا شك أن قيمة يوم القبض أكثر من قيمة يوم الانقطاع وهو ضرر بالمستقرض فكان قول محمد انظر للجانبين وقول أبي يوسف أيسر لأن قيمته يوم القبض معلومة للمقرض والمستقرض وسائر الناس وقيمة يوم الانقطاع تشتبه على الناس ويختلفون فيها فكان قوله أيسر.
هذا ما جاء في الهداية وشروحه الثلاثة وهو يتعلق بحالة الكساد والانقطاع غير أن العلامة ابن عابدين أغنانا عن الرجوع إلى كثير من كتب الحنفية ببحثه القيم " تنبيه الرقود على مسائل النقود " قال في البداية: هذه الرسالة سميتها تنبيه الرقود على مسائل النقود، من رخص وغلاء وكساد وانقطاع. جمعت فيها ما وقفت عليه من كلام أئمتنا ذوى الارتقاء والارتفاع، ضامًا إلى ذلك ما يستحسنه ذوو الإصغاء والاستماع.... إلخ. ورسالة ابن عابدين تقع في عشر صفحات، والكتب التي جمع فيها المتفق عليه والمختلف فيه، وفي بعضها ما يعارض بعضها الآخر. ورأينا من ينقل بعض ما ذكره ابن عابدين منسوبا لأصحابه دون النظر إلى ما ذكره في موضع آخر معارضا الرأي الأول بل أخذ أحد الرأيين على أنه المذهب الحنفي.
لذلك رأيت أن أبين خلاصة ما جاء في الرسالة كلها.
بعد أن انتهى ابن عابدين من التعريف برسالته بدأها بما يأتي قال في الولواجية في الفصل الخامس من كتاب البيوع:
رجل اشترى ثوبا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلًا فسد البيع، لأنه هلك الثمن وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس إلا ذلك وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار ونظير هذا ما نص في كتاب الصرف إذا اشترى شيئا بالفلوس ثم كسدت قبل القبض بطل الشراء يعنى فسد ولو رجعت لا يفسد اهـ.
وفي جواهر الفتاوى قال القاضي الإمام الزاهدي أبو نضر الحسين بن علي: إذ باع شيئا بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائما في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه أو اتصل بزيادة بمصنع من المشتري، أو أحدث فيه صنعة متقومة مثل إن كان ثوبا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس مثل إن كان حنطة فطحنها أو سمسما فعصره أو وسمة فضربها نيلا (1) فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض وإن كان من ذوات القيم كالثوب والحيوان فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودا وقت البيع لم يكسد ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة ويجب على المستأجر أجر المثل وإن كان قرضا أو مهرا يجب رد مثله هذا كله قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. (اهـ) انتهى.
وفي الفصل الخامس من التتارخانية: إذ اشترى شيئا بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك وعن أبي يوسف إن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضًا وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد وعليه الفتوى. وفي عيون المسائل: عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان، لأنه حينئذ يصير هالكا ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقد لا يفسد البيع لأنه لا يهلك ولكنه تعيب، وكان للبائع الخيار إن شاء قال أعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير انتهى. وتمامه فيها وكذا في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية والحاصل إنها إما أن لا تروج وإما أن تنقطع وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص فإن كانت كاسدة لا تروج يفسد البيع وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع، وإن زادت فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري كما سيأتي وكذا أن انتقصت لا يفسد البيع وليس للبائع غيرها وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه.
(1) الوسمة: نبات عشبى زراعي للصباغ. النيل: مادة للصباغ مستخرجة من النبات. والصباغ نفسه
وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي في رسالة سماها بذل المجهود في مسالة تغير النقود: اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس وكان كل منهما نافقا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع (و) الانقطاع عن أيدي الناس كالكساد (و) حكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائما ومثله إن كان هالكا وكان مثليا وإلا فقيمته وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا وهذا عند الإمام الأعظم وقالا: لا يبطل البيع لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئا بالرطبة ثم انقطع وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف: يوم البيع، وعند محمد: يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف وفي المحيط والتتمة والحقائق على قول محمد يفتي رفقا بالناس (58-59) .
وبعد هذا الجزء من رسالته ذكر المراد بالكساد والانقطاع فقال:
الكساد لغة – كما في المصباح- من كسد الشيء، يكسد من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات فهو كاسد وكسيد يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله وكسدت السوق فهي كاسدة بغير هاء في الصحاح وبالهاء في التهذيب ويقال أصل الكساد الفساد.
وعند الفقهاء: أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت وهكذا في الهداية والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصح انتهي هذه عبارة الغزي في رسالته (ص 59-60) .
وقال بعد هذا:
وفي الذخيرة البرهانية بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري، وإذا انتقصت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع.
وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع انتهى. (وقوله) : يوم وقع البيع أي في صورة البيع، (وقوله) : ويوم وقع القبض أي في صورة القبض كما نبه عليه في النهر. وبه علم أن في الانقطاع قولين: الأول فساد البيع كما في صورة الكساد، والثاني: أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار كما مر عن المضمرات، وكذا في الرخص والغلاء قولان أيضًا: الأول ليس له غيرها، والثاني له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى كما يأتي. وقال العلامة الغزي عقب ما قدمناه: عند هذا إذا كسدت أو انقطعت أما إذا غلت قيمتها أو انقطعت فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع كذا في فتح القدير وفي البزازية معزيا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولًا: ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانيا: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى (ص 60) .
والدراهم التي ورد ذكرها جاء الحديث عنها بعد ذلك حيث قال: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثله. قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها، يعنى البخارية والطبرية واليزيدية. وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها. قال القدوري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا فالدراهم البخارية فلوس على صفة مخصوصة، والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس) (ص 62) .
وما ذكره ابن عابدين من أن الرخص والغلاء فيه قولان جاء ما يعارضه، حيث نقل عن مجمع الفتاوى قوله: لو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق (ص 61) .
وقال: قال الإمام الإسبيجابى في شرح الطحاوي: (وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد)(ص 62) .
وأشار إلى مثل هذا في فتاوى قاضيخان. (انظر ص 60) . وحاول ابن عابدين أن يزيل هذا التعارض فقال:
(فإن قلت) : يشكل على هذا ما ذكر في مجمع الفتاوى من قوله ولو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق انتهى (قلت) : لا يشكل لأن أبا يوسف كان يقول أولًا بمقالة الإمام ثم رجع عنها وقال ثانيا: الواجب عليه قيمتها كما نقلناه فيما سبق عن البزازية وصاحب الخلاصة والذخيرة فحكاية الاتفاق بناء على موافقته للإمام أولًا كما لا يخفى والله تعالى أعلم) . (ص 61) .
وقال في موضع آخر (ص 63، 64) :
بقي الكلام فيما إذا نقصت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها وكذا المشتري أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبي يوسف ويوم الكساد عند محمد والمحل محتاج إلى التحرير. اهـ (وفي) حمله الدراهم في كلام البحر على التي لم يغلب غشها نظر ظاهر، إذ ليس المراد إلا الغالبة الغش كما قدمناه وصرح به شراح الهداية وغيرهم (والذي) يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعا، ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها (وبهذا) يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى، وهذا احسن مما قدمناه عن الغزي ويدل عليه عبارتهم بحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعا فما في الخلاصة ونحوها أولى، وهذا ما نقله السيد محمد أبو السعود في حاشية منلا مسكين عن شيخه ونص عبارته: قيد بالكساد لأنها لو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع وكذا لو غلت وازدادت ولا يتخير المشتري.
وفي الخلاصة والبزازية: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني: أولًا ليس عليه غيرها وقال الثاني ثانيا: عليه قيمتها يوم البيع والقبض وعليه الفتوى انتهي. أي يوم البيع في البيع ويوم القبض في القرض كذا في النهر (واعلم) أن الضمير في قوله: قيد بالكساد لأنها إلخ للدراهم التي غلب غشها وحينئذ فما ذكره مما يقتضي لزوم المثل بالإجماع بعد الغلاء والرخص حيث قال فالبيع على حاله بالإجماع ولا يتخير البائع إلخ لا ينافي حكاية الخلاف عن الخلاصة والبزازية فيما إذا غلت الفلوس أو رخصت هل يلزمه القيمة لو ليس عليه غيرها؟ هذا حاصل ما أشار إليه شيخنا من التوفيق قال شيخنا: وإذ علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض كان الحكم معلوما بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا نقصت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع، فلا يكون له سواه وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشري في البندقى والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود. انتهي ما في الحاشية، وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه. اهـ.
وبعد هذا أشار ابن عابدين إلى الأخذ بالفتوى عند الاختلاف في الكساد والانقطاع فقال: (وفي الذخيرة الفتوى: على قول أبي يوسف، وفي التتمة والمختار والحقائق: يقول محمد يفتي رفقا بالناس
…
إلخ) (انظر ص 64) ثم ذكر تنبيها يتعلق بالشراء بنوع مطلق من الأثمان غير مسمى. ثم ختم رسالته بما يلي:
(ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعا والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعا أو قرضا بناء على ما قدمناه وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت: فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض فيختار المشتري ما هو أكثر رخصا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصا على حساب ما هو اكثر رخصا فقد ينقص نوع من النقود قرشا ونوع آخر قرشين فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشا للبائع يحسب عليه قرشا آخر نظرا إلى نقص النوع الآخر وهذا مما لا شك في عدم جوازه وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم فجزم بعد تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر وأنه يفتى بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته أما في هذه الصورة فلا لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد أضراره ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف فعدم النظر له بالكلية (مخالف) لما أمر به من اختيار الأنفع له فالصلح حينئذ أحوط خصوصا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل ولا الأكثر كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل الحالة مخالف لما قدمته من حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلا وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.
ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفا أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلا ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشا من الريال أو الذهب مثلا لم يحصل البائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنا لسلعته لكن قد يقال لما كان راضيا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيا به وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا وفي الحديث: لا ضرر ولا ضرار ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد كأن صار مثلا ما كان قيمته مائة قرش من الريال السعودي يساوى تسعين وكذا سائر الأنواع أما ذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوى تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوى التسعين بمائة فقد اختص الضرر به وإن ألزمنا المشترى بدفعه بتسعين اختص الضرر به فينبغي وقوع الصلح على الأوسط والله تعالى أعلم) .
من أقوال الحنفية السابقة نرى ما يأتي:
1-
إجماع أئمتهم على أن ما ثبت في الذمة من النقود الذهبية أو الفضية يؤدي بمثله دون نظر إلى تغير القيمة.
2-
الخلاف حول الفلوس والدراهم غالبة الغش لا المغلوبة والخلاف فيما يجب أداؤه في ثلاث حالات هي: الكساد والانقطاع وتغير القيمة:
(أ) فيرى الإمام وجوب المثل في جميع الحالات.
(ب) ويرى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق في جميع الحالات أيضًا بعد أن كان موافقا لرأى الإمام في حالة تغير القيمة
(ج) ويرى محمد رأي الإمام عند تغير القيمة وفي الحالتين الأخريين يرى وجوب القيمة لكن يوم الكساد أو الانقطاع.
3-
اختلف الحنفية في الإفتاء:
(أ) فمنهم من ذكر رأي الإمام على أنه إجماع المذهب.
(ب) ومنهم من أفتى برأي أحد الصاحبين.
(ج) ومنهم من فرق بين الكساد والانقطاع.
(د) ومنهم من أخذ برأي الإمام في بعض الحقوق وبرأي غيرها في بعضها الآخر.
4-
ما حدث في زمان ابن عابدين – المتوفي سنة 1252 هـ يبين أن اختلاف الإفتاء كان نتيجة لتفاوت الرخص عند ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص ولذ قيل بالصلح لمنع الضرر عن كل من المتبايعين ويرى ألا مبرر للخلاف لو تساوى الرخص ولذلك قال: (وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا وفي الحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد
…
الخ
المطلب الخامس
رأي أهل الظاهر
ذكر بعض الباحثين أن أهل الظاهر يرون رد القرض بقيمته لا بمثله، ونسبة هذا الرأي لأهل الظاهر فيه نظر.
قال ابن حزم في المحلى (8/ 462) :
(ولا يجوز في القرض إلا رد مثل ما اقترض، لا من سوى نوعه أصلا) وقال في موضع آخر (9/ 509) :
(والربا لا يجوز في البيع، والسلم، إلا في ستة أشياء فقط: في التمر والقمح، والشعير، والملح، والذهب والفضة، وهو في القرض في كل شيء فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر ولا من نوع آخر أصلا لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقدراه على ما ذكرنا في كتاب القرض من ديواننا هذا فأعني عن إعادته وهذا إجماع مقطوع به) .
المطلب السادس
رأى ابن تيمية
ونسب بعض الباحثين كذلك القول برد قيمة القرض لشيخ الإسلام ابن تيمية ولكنا نجد شيخ الإسلام ينص على ما يتفق مع ما ذكره ابن حزم آنفا من الإجماع المقطوع به.
قال في مجموع الفتاوى (29/ 535) :
لا يجب في القرض إلا رد المثل بلا زيادة.
والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال ولهذا سمى قرضا ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله وليس له أن يتشرط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته.
المطلب السابع
القوانين الوضعية
القوانين الوضعية التي تأخذ بها معظم البلاد الإسلامية أباحت الربا المحرم ولكن حسما للخلاف ودرءا للتنازع نراها هنا تنص على ما يأتي:
إذا كان محل الالتزام نقودا التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر (1)
(1) السويط السنهوري:1/ 387 وانظر شرح هذه المادة من القانون المدني وما يتصل بها.
نتائج الدراسة
من الدراسة السابقة يتضح ما يأتي:
* أولا: الالتزام بمنهج الإسلام في السياسة النقدية يحد من التضخم، ويساعد على منع الظلم الذي وقع بالناس نتيجة زيادة الأسعار زيادة فاحشة غير مقبولة. فربما استطعنا أن نقدم البديل في مجال النقود كما استطعنا تقديمه في مجال البنوك.
* ثانيا: بينت السنة المطهرة أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عند تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين.
كما بينت السنة المطهرة أيضًا أن أجر العامل مرتبط بتوفير تمام الكفاية ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعا لتغير قيمة العملة.
ويؤخذ من هذا البيان أن الدين إذا كان نقودا فالعبرة بقدر عددها الثابت في الذمة دون نظر إلى ارتفاع قيمة العملة أو انخفاضها على حين ينظر إلى هذا الارتفاع أو الانخفاض إذا كان الالتزام مرتبطا بتوفير قدر من السلع والخدمات.
ثالثا: النقود في عصر التشريع كانت الدنانير الذهبية والدراهم الفضية ولذلك أجمع الأئمة الأعلام على ما يتفق مع بيان السنة المطهرة من أن الدين إذا كان من مثل هذه النقود فإنه يؤدى بمثله قدرا وصفة دون نظر إلى تغير القيمة.
رابعاً: اختلف الفقهاء فيما يجب أداؤه في حالتي الكساد والانقطاع أما الغلاء والرخص فلا ينظر إليه ثم رأى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق لا المثل إذا كان الدين من الفلوس أو الدراهم التي تعد فلوسا أو غالبة الغش التي تأخذ حكم الفلوس.
الخاتمة
وفي ضوء ما سبق أختم هذه الدراسة بما يلي:
* أولًا: النقود مرجعها إلى العادة والاصطلاح وبينت هذا في كتاب النقود واستبدال العملات (ص 148-152) ولهذا كانت النقود الورقية نقدا قائما بذاته له ما للذهب والفضة من الأحكام وبهذا أفتى مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرهما.
وهذا يعنى أن بيان السنة المطهرة في الدنانير والدراهم ينطبق على نقود عصرنا وكل عصر.
وخلاف أبي يوسف في الفلوس لا يجري على النقود الورقية لأنه لم يعد الفلوس نقودا شرعية أو نقودا بالخلقة كالذهب والفضة فلو طبق رأيه في الفلوس على نقود عصرنا لأصبحنا في عصر بلا نقود.
* ثانيا: النقود الورقية نقود إلزامية ولذلك لا نشعر بمشكلة الكساد والانقطاع وإن كانت هذه المشكلة يمكن أن تقع في القليل النادر كما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية وفي مثل هذه الحالة يمكن الأخذ برأي بعض الأئمة في النظر إلى قيمة الدين.
* ثالثاً: الموضوع فيه بيان السنة الشريفة وإجماع لم يرد من يخالفه من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المجتهدين والاجتهاد يجب أن يكون في ضوء النص الإجماع.
* رابعاً: العقود المشروعة لا تشتمل على جهالة تفضي إلى الخلاف والنزاع ورد النقود الورقية بقيمتها تجعل المقرض لا يدري ماذا سيأخذ والمقترض بماذا سيطلب ولا يدري الاثنان المقياس الذي يلجآن إليه عند الخلاف في القول بالزيادة أو النقصان أو الثبات وتحديد مقدار الزيادة أو النقصان.
ولهذا وجدنا القوانين الوضعية مع سوئها وإباحتها الربا المحرم تنص على أن القرض يرد بمثله عددا دون نظر إلى القيمة.
* خامسًا: ما استقر في الفقه الإسلامي من رد القرض بمثله لا بقيمته وهو ما تسير عليه القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية وغيرها من بلدان العالم هو أيضًا ما أخذت به القوانين الدولية فالقروض الدولية ترد بمثلها عددا فكيف نطالب دولنا الإسلامية بترك هذه القوانين التي تتفق ولا تتعارض مع الفقه الإسلامي؟
* سادسًا: الذين دعوا إلى رد القرض بقيمته نظروا إلى الانخفاض فقط ولو أخذ بالقيمة لوجب النظر إلى الزيادة والنقصان معا.
وعلى سبيل المثال:
إذا اقترض أحد من أخيه في الدول النفطية التي تعد نقودها أساسا ثمنا للنفط ثم انخفض النفط إلى الربع فما حق المقرض؟ أهو الربع فقط؟
فإذا أقرضه أربعة آلاف وهي ثمن قدر معين من النفط فبعد الانخفاض يكون ثمن هذا القدر ألفا فقط، فهل من حق المقترض أن يقول للمقرض: ليس لك عندي إلا ألف أو مقدرا كذا من النفط قيمة الألف بسعر اليوم وقيمة أربعة آلاف وقت الاقتراض؟ وإذا تركنا النقط وجئنا لغيره:
مثلا كيس الذرة وصل إلى مائتي جنيه ثم انخفض إلى خمسة وعشرين فإذا اقترض مائتين ليشتري كيس الذرة فهل بعد الانخفاض يرد كيس الذرة أو خمسة وعشرين جنيها فقط؟
* سابعًا: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار بحث لموضوع كلى لا يتجزأ فإما أن يؤخذ به في جميع الحقوق والالتزامات وإما ألا يؤخذ به في الجميع أيضًا.
فمن الظلم أن يؤخذ به في الحقوق ويترك في الالتزامات أو العكس ومن الظلم أيضًا أن يؤخذ به في بعض الحقوق أو الالتزامات دون بعضها الآخر والأكثر ظلما أن يؤخذ به في حق أو التزام لأحد دون أحد وعلى سبيل المثال أقول: لو أخذنا بأن القرض يرد بقيمته لا بمثله وكان لمصرف ما قروض مقدارها خمسة ملايين ولديه حسابات جارية مقدارها عشرون مليونا والحساب الجاري عقد قرض شرعا وقانونا كما هو معلوم ووصل التضخم إلى 10 % وزادت قروض المقترضين بهذه النسبة فيجب أيضًا أن تزيد قروض المقرضين 10 % أي أن الحسابات الجارية يسجل لأصحابها هذه الزيادة أفتفكر المصارف في هذا؟ أم أنها تريد زيادة القرض الذي هو حقها دون القرض الذي تلزم به؟
كما أن المصارف الإسلامية لا تأخذ ربحا عن عملها كمضارب إلا بعد عودة رأس المال كاملا فلو قلنا بالقيمة لا المثل فإن نسبة التضخم تضاف لرأس المال أولًا ثم يوزع الربح بعد هذا فهل ترى المصارف الإسلامية لو طبق هذا أنها ستأخذ أي ربح؟ أم أن كل ما تحققه من أرباح سيكون جزءا من التضخم؟
ثامنًا: زيادة التضخم تعنى انخفاض قيمة النقود ويلاحظ أن هذه الزيادة تفوق ما تحققه المصارف الإسلامية من أرباح وما تحدده البنوك الربوية من ربا.
فلو أن القرض يرد بقيمته فلا حاجة للاستثمار وللتعامل مع البنوك ويكفي أن تعطى الأموال مقترضا يحتفظ لنا بقيمة القرض ويتحمل زيادة التضخم التي تصل أحيانا إلى مئات في المائة.
تاسعًا: القرض عقد إرفاق له ثوابه وجزاؤه من الله عز وجل وقد ينتهي بالتصدق {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فكيف اتجهت الأنظار إلى المقترض بالذات ليتحمل فروق التضخم ومساوئ النظام؟
عاشرا: من حق المقرض أن يمنح ما يرى أنه أكثر ثباتا وأقل عرضة للانخفاض من حقه أن يقرض ذهبا أو فضة أو عملة يرى أنها أكثر نفعا له. ولعل هذا يساعد على وجود مخرج له يحجم عن الإقراض خوفا من انخفاض قيمة النقود الورقية فكأنه يدخر ما يرى أنه أنفع له ولكن ليس من حقه بعد هذا أن يطالب بغير المثل إذا جاء الأمر على خلاف ما توقع، فماذا يفعل من انخفضت قيمة مدخراته في غير حالي الإقراض؟
* حادي عشر: التضخم يعد من مساوئ النظام النقدي المعاصر، فهل المقترض هو الذي يتحمل هذه المساوئ؟
* أفلا يجب البحث عن أسباب التضخم وعلاجه، وعن عيوب النظام النقدي، ووسائل تجنبها؟
أفلا نبحث عن نظام نقدي إسلامي نقدمه للعالم كما قدمنا له مثلا البديل الإسلامي للبنوك الربوية؟
* ثاني عشر: في عصرنا ظهرت الدعوة إلى رد القيمة في القرض ولم نكد نسمع من يقول الالتزام بالقيمة في البيع الآجل الذي قد يمتد أكثر من عشرين سنة، تنخفض النقود خلالها إلى ما لا يمكن تصوره وقت البيع والمشتري يلتزم بالثمن المحدد عددا لا قيمة والبائع لا يطالب بأكثر من هذا، وليس من حقه إلا ما حدد عند عقد البيع.
فلو جاز النظر إلى القيمة لكان في مثل هذا البيع لا في القرض الذي يجب ألا يكون إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى.
* ثالث عشر: تغير قيمة النقود لا يظهر في القروض والديون فقط وإنما يظهر أيضًا في عقود أخرى فمؤجر العقار مثلا في معظم البلاد الإسلامية ليس من حقه إنهاء العقد واسترداد ما يملك إلا بموافقة المستأجر ولهذا يمتد العقد إلى عشرات السنين وقد تصبح قيمة الإيجار لا تزيد عن واحد أو اثنين في المائة من قيمة النقود عند بدء العقد.
فالنظر إلى تغيير قيمة النقود لا بد أن تكون شاملة عامة.
* رابع عشر: ومن الشمول والعموم أيضًا - وهو ضروري وهام جدا - أن ننظر إلى من يلتزم بالقيمة أو بالمثل.
فمثلا الأجير الخاص الذي يأخذ راتبا شهريا محددا عندما تنخفض قيمة النقود فهذا يعنى أن راتبه قد انخفض في الواقع العملي فإذا كان مقترضا ومدينا بثمن شراء ومستأجرا، فيكف نطالبه بالزيادة العددية التي تعوض نقص القيمة قبل أن نعوضه هو شخصيا عما أصابه من نقص في قيمة راتبه؟
وما تقوم به بعض البلاد من زيادة الراتب نظرا للغلاء بما يسمى " غلاء المعيشة " يتفق مع بيان السنة الشريفة من حيث المبدأ لكنه غالبا لا يحقق ما أراده الإسلام من تمام الكفاية.
هذا ما انتهيت إليه من دراستي للموضوع والله عز وجل أعلم بالصواب وله الحمد في الأولى والآخرة والصلاة والسلام على رسوله المصطفي.
الدكتور علي أحمد السالوس