الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرف
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
ذهب كثير من العلماء إلى أن العرف هو العادة وأنهما لفظان مترادفان معناهما واحد والعرف والعادة هو ما يغلب على الناس من قول أو فعل أو ترك، والعرف كما يذكر الأصوليون ينقسم إلى أقسام عدة هي:
العرف اللفظي أو القولي:
وهو أن يتعارف قوم إطلاق اللفظ على معنى غير المعنى الموضوع له أصلًا بحيث يتبادر إلى الأفهام ذلك المعنى عند النطق به من غير قرينة تبين ذلك (1) ومثال العرف القولي من باب الوقف قول الفقهاء في حبس يقول صاحبه (وهو حبس على ولدي) ، أنه يدخل فيه البنات إذا كان لفظ الولد يطلق على الذكر والأنثى في عرف بلد الواقف أو لم يكن هناك عرف، أما إذا كان عرفهم إطلاقه على الذكر فقط فإنه يختص بالذكور ولا يدخل فيه الإناث وإن كان معنى الولد لغة يعم الصنفين.
ويراعى العرف القولي وإن لم يوافق لغة العرب أو ما جاء في لسان الشارع، ومثال ذلك تعارف الناس في التفرقة بين اللحم والسمك فمن حلف ألا يأكل لحمًا، فأكل سمكًا لا يحنث حيث أن السمك لا يسمى في العرف لحمًا، وإن سمي به في قوله تعالى:{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} (2) .
ويعتد بالعرف القولي متى كان عامًّا لبلد أو قوم، وتحمل عليه ألفاظ المتكلمين من أهل تلك البلد بإطلاق سواء في ذلك العقود والالتزامات والأيمان والنذور، أما إذا كان العرف خاصًّا بالمتكلم دون قومه حمل لفظه عند المالكية على عرفه الخاص في الأيمان والنذور والطلاق، أما العقود والالتزامات العامة فإنما يرجع فيها إلى العرف العام أو الوضع اللغوي أن لم يكن هناك عرف عام.
(1) انظر الموافقات، للشاطبي: 2 /284.
(2)
[سورة فاطر: الآية 12] .
العرف العملي:
وهو ما اعتاد الناس فعله في معاملاتهم وتصرفاتهم ومثال ذلك الزوجان يختلفان في المهر بعد البناء فيدعي الزوج أنه دفعه لها وتنكر الزوجة ذلك، فقد قال الإمام مالك رحمه الله: إن القول للزوج لأن العرف بالمدينة كان جاريًّا بدفع المهر قبل الدخول، وتطرد هذه القاعدة في كل بلد له مثل عرف أهل المدينة وكذلك عند المالكية من حاز عقارًا عشر سنين، ثم قام شخص يدعي استحقاق ذلك العقار دون تقديم حجة مقنعة على سكوته طيلة تلك المدة كغيابه أو عدم علمه فإنه لا ينتفع بالبينة التي تثبت له أصل الملك وذلك لأن العرف قد جرى بعدم سكوت شخص على ملكية آخر لأرض يملكها هو وكذلك فيما إذا سكتا عن تسمية المهر وكانت هناك عادة جارية بقدر الصداق فإنه يحكم بهذا القدر.
العرف الفعلي الخاص بفرد:
حكى فيه شهاب الدين القرافي الإجماع على عدم الاعتداد به وأنكر عليه بعض الفقهاء المالكية حكاية الإجماع هذه، وأوردوا أنه يمكن الاعتداد بالعرف الفعلي الخاص وساقوا لذلك مثلًا فيما إذا وكل أحد الناس آخرًا في شراء ثوب له، فاشترى له ما لا يناسب عادته، فإن الوكيل ملزم بما اشترى وليس الموكل.
العرف الجاري بالترك:
ومثال هذا هو تسامح الناس في ثمار الغصن الخارج عن حدود البساتين، فمن وجد شيئا من مثل هذا الثمر جاز له أكله دون توقف على إذن صاحب البستان وذلك لأن أصحاب البساتين يتسامحون في مثله ولا يتعرضون لمن يلتقطه.
حجية العرف:
لم نجد فيما ساقه الفقهاء من أدلة الحجية العرف دليلًا قويًّا من كتاب أو سنة كما لم نجد في نفس الوقت أي دليل ضد الأخذ بالعرف الصحيح الذي لا يتنافى مع الشريعة
…
بل هناك مزايا عدة في الأخذ بالعرف الصحيح لتسهيل مجرى العدالة والوصول إلى الحكم العادل بين الناس، ولذلك اعتبر الفقهاء على اختلاف مذاهبهم العرف وجعلوه أصلًا ينبني عليه شطر عظيم من أحكام الفقه (1) .
(1) الشيخ أبو سنة، العرف والعادة: ص 23
ويقول الشيخ أبو زهرة: والفقه المالكي كالفقه الحنفي يأخذ بالعرف ويعتبره أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي بل إنه أوغل في احترام العرف أكثر من المذهب الحنفي لأن المصالح المرسلة من دعامة الفقه المالكي في الاستدلال، ولا شك أن مراعاة العرف الذي لا فساد فيه ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركه الفقيه بل يجب الأخذ به ولقد وجدنا المالكية يتركون القياس إذا خالفه العرف، وكذلك ورد عن القرطبي في باب الاستحسان أن من ضروبه ترك القياس لأجل العرف بل إن العرف يخصص العام ويقيد المطلق، عند المالكية (1) .
وقال العز بن عبد السلام الشافعي: (قاعدة الإيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطراب فالرجوع إلى اللغة)، وقال: قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف (2) .
ولا شك أن السؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن لتقدير المجمع، هو كيفية الأخذ بالعرف واعتباره حكما صالحًا والعرف ينقسم في هذا الشأن إلى ثلاثة أقسام.
1-
ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره كمراعاة الكفاءة في النكاح ووضع الدية على العاقلة في القتل الخطأ، والتحقيق أن الشريعة العادلة لا تجعل نفس العادة قانونًا إلا أن تكون العادة معقولة صالحة.
2-
ما يقوم الدليل على نفيه كعادة الجاهلية في التبرج وطوافهم بالبيت عراة ومناصرة الأخ لأخيه وإن كان ظالما.
3-
ما لم يقم الدليل الخاص على اعتباره أو نفيه، وهذا موضع نظر المجتهدين، فيذهب كثير منهم إلى مراعاته ويجعلونه أصلا من أصول الشريعة ليبنون عليه فتاوى وأحكاما، وأكثر ما تجد هذه الفتاوى في كتب المالكية والحنفية والحنابلة. وفي مراعاة مثل هذه الأعراف تسهيل على المسلمين فيما لا يتعارض مع الشريعة وتمكينهم من تكييف معاملاتهم وأوضاعهم بما يتناسب وبيئتهم من غير تعارض مع الشرع.
وهناك مسائل فقهية كثيرة بنيت على الاحتجاج بالعرف ومن ذلك تجويز المذاهب الأربعة لبيع المعاطاة، وقد جوزوه استنادًا على العرف لأن الشارع لم يوضح كيفية معينة للإيجاب والقبول بل ترك هذا كله للعرف، وحينئذ فإن المبيع يكون صحيحا بالمعاطاة. وكذلك تحديد الحرز في السرقة وهو بالجملة كل شيء جرت العادة بحفظ الشيء المسروق فيه. ومن هذه الحالات يتضح مدى أهمية العرف وصلته القوية بالشريعة الغراء.
(1) الشيخ أبو زهرة، الإمام مالك: ص 253.
(2)
نشر العرف: ص 3
والسؤال الآن: هل يراعى العرف الفاسد كما إذا جرى عرف الناس ببعض العقود الفاسدة مثلًا؟
ذهب كثير من الفقهاء إلى عدم مراعاة العرف الفاسد، وهو ما أرى الأخذ به لأن في مراعاة العرف الفاسد إقرارًا للناس على ما هم عليه من جهل بالفقه أو من عدم التقيد بالشريعة في معاملاتهم. وفي عدم الأخذ بالعرف الفاسد تطهير للمعاملات من سيء الأفهام وخروج بالناس إلى سعة الشريعة وتهذيبها ورحمتها وتوطينهم عليها. قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب أحد علماء تونس في القرن الثامن:(وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة ولو أنهم نقضوا عقود الفساد لم يستمر الناس على الفساد)، وقال الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياض التونسي في إحدى فتاويه:(والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام) .
ومراعاة العرف تقتضي تغير الأحكام ودورانها مع اعتراف الناس متى ما تكرر العرف وشاع واطرد العمل به وكان عاما، ولم يعطل أو يعارض حكمًا ثابتًا بنص أو أصلا قطعيًّا من أصول الشريعة. ولقد عقد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين فصلا بعنوان: تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وساق أمثلة كثيرة على ذلك، ثم قال في نهاية الفصل بعد تقريره مذهب المالكية بالقول بالعرف:(وهذا محض الفقه من أفتى بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما يكونا على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان) .
ولا يعد اختلاف الأحكام باختلاف العادات اختلافا في أصل خطاب الشارع، بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكمًا يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة، اقتضت حكما غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات. ولهذا السبب ترى فقهاء المذاهب لا يأخذون بفتاوى أئتمهم القائمة على رعاية العرف متى تحققوا أن العرف قد تغير وأن الواقعة أصبحت تستحق حكما آخر غير ما قرره الأئمة من قبل. وقد عدل عدد من فقهاء المالكية في فتاويهم عن المشهور في المذهب وبنوها على العرف. قال شهاب الدين القرافي في قواعده:(إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك فلا تجبره على عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أيًّا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضيين) .
وكذلك ترى فقهاء الحنفية يخالفون ما نص عليه أبو حنيفة في مسائل بناها على عرف كان جاريا في زمنه، وقالوا في وجه هذه المخالفة: إن أبا حنيفة لو كان في زمنهم لما وسعه إلا أن يفتي بما أفتوا به ولم يعدوا التصرف في الأحكام القائمة على العرف خروجا عن المذهب، وإنما هو الأخذ بأصل إمامهم الذي يقتضى الرجوع إلى العرف في الأحكام.
وقد يذكر بعض الفقهاء العرف في سياق الاستدلال على جواز أمر ويريدون ما كان جاريا في عهد النبوة أو بين أهل العلم، وليس الدليل في الحقيقة نفس العرف وإنما هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الذي لا ينعقد إلا عن دليل. ومثال هذا أن الإمام مالكًا خص قوله تعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [سورة البقرة: الآية 233] ، بغير ذوات الأقدار والشرف، وقال: إنه لا يجب على الشريفة إرضاع ولدها لأن العادة جارية بذلك، ولا يريد الإمام أن مجرد جريان العرف يسوغ هذا التخصص، وإنما أراد جريان العرف مع عدم إنكار أهل العلم من السلف فيرجع إلى الاستدلال بالإجماع. وقال بعض أهل العلم: عدم إرضاع الشريفة ولدها عادة عربية واستمر الأمر فيها بعد الإسلام إلى زمن مالك رضي الله عنه، ومن هذا القبيل اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة مستندين إلى العادة، وقالوا إن استمرار هذه العادة يشهد بصحة نقلها خلفًا عن سلف ويغلب على الظن أنها كانت جارية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وقد نبه إلى ذلك أيضًا ابن السبكي رحمه الله، فقال في جمع الجوامع:(والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصص إن أقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع) .
والذي نريد تقريره أخيرًا هو أن العرف أصل من الأصول التي يستند إليها في الوصول إلى الفتوى بالشروط والمواصفات المذكورة أعلاه وبمثل هذا الأصل يعلم أن الشريعة الإسلامية ملائمة لكل زمان ومكان، وليست كما يزعم الجهلاء أنها ضيقة المجال، فلا تفي بأحكام الحوادث، أو أنها قديمة العهد فلا تحفظ مصالح ما تجدد من الأزمان.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.
(1) انظر البحر المحيط، لللزركشي