الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الشيخ د. الطيب سلامة
عضو المجلس الإسلامي الأعلى – أستاذ بالجامعة الزيتونية
بسم الله الرحمن الرحيم
تنظيم النسل وتحديده
البحث في هذا الموضوع يتناول عدة قضايا
أهمها اثنتان:
الأولى: التوقي من حصول الإخصاب الذي به يبدأ الحمل.
• بسط إجمالي.
• تنظيم النسل وتحديده.
• ما هو النسل؟
• حكمة التناسل ومنزلة الذرية في حياة الناس.
• النسل كما يرضاه الإسلام.
• هل من شروط الإنجاب حسن القيام؟
• موقف الشريعة الإسلامية من التعرض للإخصاب.
• الإنجاب في القرآن.
• الإنجاب في السنة الشريفة.
1-
اتجاه الجواز.
2-
اتجاه القائلين بعدم الجواز.
الرد على القائلين بالمنع.
• حكم التوقي من الحمل عند أئمة المذاهب.
1-
في المذهب المالكي.
- خلاصة المذهب المالكي.
2-
عند الشافعية.
3-
عند الحنفية.
4-
عند الحنابلة.
- خلاصة المذاهب.
الثانية: الإجهاض والإعقام:
• تقديم.
• حكم الإجهاض.
• حكم الإعقام.
• القرار في النسل يتبع الحق في الولد.
القضية الأولى في هذا البحث
التوقي من حصول الإخصاب الذي به يبدأ الحمل
بسط إجمالي:
لا نعدو الحق والواقع إذا نحن قلنا: إن البحث في هذا الموضوع هو بحث في صميم البناء الهيكلي للأسرة البشرية التي بها يتواصل الوجود الدنيوي ويعمر الكون كما أراد الله تعالى أن يعمر، وتتم الخلافة في الأرض للإنسان كما أراد الله أن يحصل ذلك ويتم.
وإذا كان الحجر الأساسي في بناء هيكل الأسرة إنما هو الزواج الذي حثت عليه الأديان السماوية ورغبت فيه الفطرة الإنسانية، فإن لهذا الزواج مأملين عظيمين وغايتين شريفتين:
- أولى هاتين الغايتين – إعفاف النفس وإحصان الفرج وكفى بذلك نبلا أن الإنسان يرتفع عن مصاف العجماوات، ويتنزه عن الدنس والرذيلة والفجور.
- وثانية الغايتين – التناسل والإنجاب اللذان أودع الله تعالى في تركيبه الجبلة الحيوانية عموما، وخص الجبلة البشرية بالرغبة في ذلك تقترن بحب البقاء، وتحقيق الآمال، وبقاء الذكر، والتطلع لامتداد الأجل.
- وإذا كان بقاء الإنسان في ذاته منتهيا إلى حد قصير في هذا الوجود الدنيوي، فإن بقاءه في نسله وبنسله قد يستمر ما استمر الملوان..
- وإذا كان من العسير جدا أن يحقق الإنسان بنفسه كل الآمال والأحلام التي ظل يحلم بها ويمني النفس، فإن تحقيق ذلك قد يصبح ميسورا مأمولا إن هو عول في الباقي على ربه وعلى ما وهبه من ذرية صالحة.
وقد اشتاقت (حنة) امرأة عمران إلى الولد لما أسنت فدعت ربها، ولما أحست بالحمل نذرت ما في بطنها محررا من شواغل الدنيا لخدمة بيت المقدس، وبذلك تحقق بنسلها ما لم يتيسر لها تحقيقه بشخصها، ولكن جرت المقادير بغير ما اشتهت حنة.
كما اشتاق زكريا إلى الذرية الصالحة لما رأى من أمر مريم التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكان هو الكافل لها، وكان قد انقرض أهل بيته، فدخل محرابه للصلاة في جوف الليل وحكى عنه القرآن توجهه وقوله:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (2)
- وإذا كان بقاء الإنسان حيا بالذكر لا يتم إلا بما يحقق من عمل صالح أو من علم بثه في صدور الرجال أو من أبناء ينشئون تنشئة طيبة، فإن أيسر الأمور الثلاثة بقاء الذكر عن طريق الذرية الطيبة والأبناء الصالحين؛ لأن ذلك رهين العناية بهم وحسن القيام على تهذيبهم وتربيتهم، وهذا ليس بالعسير على كافة الآباء والأمهات في حين أن الأعمال الصالحة وبث العلم في صدور الرجال لا يحققان هذه الغاية إلا متى بلغ صاحبهما مبلغ النباهة ورفعة الشأن وحسن الأحدوثة، وليس الوصول إلى ذلك إلا لمن وفقهم الله ويسر لهم الطريق وكلل مساعيهم بالنجاح والفوز.
ولقد جاء من أوصاف الصالحين الذين سماهم القرآن عباد الرحمن أنهم هم الذين يدعون ربهم أن يهب لهم أزواجا وذرية – إذ الذرية من الأزواج حتما – ما تقر به أعينهم ويرضي طموحهم إلى مزيد الصلاح والخير فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3) .
فقد دعوا أن يمنحهم الله الخير عن طريق الأزواج والذرية وقدموا ذلك على دعائهم لأنفسهم مباشرة مع أن المعروف من سنة الدعاء هو تقديم النفس على الغير، فيقول الداعي الملتزم بآداب الدعاء مثلا: اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وارحم جميع المسلمين.
(1) 35 – 37 / آل عمران.
(2)
38 / آل عمران.
(3)
74/ الفرقان.
والظاهر أن ذلك التقديم لأمرين:
-أحدهما أن دعاءهم للأزواج والذرية هو دعاء للنفس في الواقع؛ لأن صلاح الأزواج والذرية ينتفع به الأب بلا شك.
-وثانيهما أن هذا التقديم لإبراز ما للآباء من آمال تعلق على الأبناء هي أقرب للتحقيق من سواها، وما لهؤلاء الآباء من حرص على الأزواج والأبناء يفوق الحرص على النفس من باب ويؤثرون على أنفسهم، وإن كان هذا الإيثار لا يخلف خصاصة.
-وهكذا فإن الإنجاب مطمح عظيم تتعلق به أسمى الغايات وتتوقف عليه أزكى المآرب وأشرف المقاصد.
-وكفى بالوالد شرفا ونبلا ومكانة وفخرا أن يولد له من صلبه من يعبد الله ويتقيه، وقد خلق تعالى المخلوقات من جن وإنس ليعبدوه، وحصر خلقهم في ذلك الشأن فقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
-وأن يولد له من صلبه من يسهم بقسطه في إعلاء كلمة الحق وإقرار القيم والموازين القسطاس ويحمل الأمانة على خير الوجوه كما حملها عباد الله المقربون.
-مما أسلفنا عن الإنجاب والذرية – وما أسلفنا غير نبذة – قد اكتسب هذا الموضوع قداسة وأهمية بالغة دفعت بالباحثين في أمر تحديد النسل إلى مزيد من الحذر أحيانا وإلى الخوف من الوقوع فيما يغضب الله أحيانا أخرى.
-ولعل الأهم من الحذر والخوف أن يتوصل العلماء والباحثون إلى إنارة السبيل أمام الأفراد والمجتمعات وأمام الماسكين بأزمة السياسة والحكم في العالم الإسلامي حتى لا تحيد الأسرة المسلمة عن منهج دينها الحنيف، وفي دينها من التعاليم والأحكام المرنة التي ترعى المصالح الثابتة والآنية ما يضمن لها أن تعيش عصرها على خير الوجوه وأمثل الطرق، وأن تستغني عن استيراد الأنماط والنماذج المنبترة النزقة التي لا تقاس فضلا عن كونها تلبس.
(1) 56/ الذاريات.
-إن الأسر المسلمة اليوم في هذا العصر تعيش مذبذبة بين أصالة حضارتها الإسلامية، التي طمس صفاءها الجهل بها والتغاضي عنها، وبين زيف حضارة قائمة في بلاد الغرب بناها أهلها على مادية جامحة، لها بريقها ولها مغرياتها فتهافت الأغرار على نارها تهافت الفراش.
-بين هذه وتلك تعيش الأسرة المسلمة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ترقب الهداية من الله وتبحث عن العون من أهل العلم والخير والتقى لتجد سبيلها الواضحة القويمة حتى لا تتفرق بها السبل كما هو الواقع والمحسوس.
ولها في هذا المجمع الفقهي الكريم وأسرته من العلماء والباحثين الجلة خير مرشد ومعين خصوصا حين يحتسب عمله لله تعالى راجيا أن ينفع به أمة الإسلام متخذا شعاره من شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه القرآن إياه في قوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1)
ومن المتأكد أن نشير في خاتمة هذا التقديم إلى أن موضوع تنظيم النسل وتحديده قد كان من القضايا الثانوية التي أثارها المتسرون توقيا من حمل الإماء وأثارها بعض الأزواج في حالات قليلة لأسباب عارضة، أما الزوجات فقلما كان الأمر يعنيهن أو يفكرن فيه بحكم أن المرأة لا تكره أن تكون ولودا ودودا ولا يعجزها تدبير بيتها وقوام أمره في حدود نفقات الزوج وقدرته، أما السلطة السياسية فقد تخلت عن هذه القضية لنظر السلطة القضائية باعتبار أنها من الأحوال الشخصية شأنها شأن الزواج والطلاق والإيلاء وغيرها.
لكن تغير واقع الحياة عما كان عليه فصار أمر النسل في يومنا هذا موضع عناية المرأة باعتبار أنها خرجت من البيت لتعمل خارجه وصارت تكره أن تكون ولودا ودودا وتعجز عن تدبير البيت وقوام أمره إلا بمال وفير فخرجت تسعى لهذا المال وتروم سد الحاجة فلم تصل إلى سدها ولن تصل.
كما صار موضع عناية فائقة من السلطة السياسية، فنادى البعض بتكثير النسل لمجابهة عدد آخر من الأعداد، وعد المتواني في الإنجاب متوانيا في خدمة وطنه، وهو بالتالي لا يبعد كثيرا عن أرباب الخيانة الذين خانوا أوطانهم.
(1) 108/ يوسف.
في حين نادى البعض الآخر بضرورة تحديد النسل والحرص عليه والإسراع به قبل أن تحل الكارثة التي لا يستبعد أن تصيب العالم كله، ويبني نظريته على حسابات عدة يدخل فيها الاقتصاد والإنتاج والتشغيل والإسكان وفتح المدارس وإقامة المستشفيات وتعبيد الطرقات وبناء المسارح والملاهي ونصب المحاكم وتخصيص السجون
…
و
…
و
…
و
…
حتى أمر المناخ وكمية الأوكسجين في الهواء أصبحت مهددة بتزايد النسل تزايدا لا يخضع للمقاييس المحددة.
وكما أشاد الفريق الأول بالمكثرين من النسل ونوه بخصالهم وليكونوا أسوة لمن سواهم، فقد توسع في البذل والعطاء لهؤلاء المستجيبين ورفع من درجاتهم الاجتماعية حتى عادت الأسر تتباهى بعدد الأبناء وكثرتهم بقلة العدد.
كما أشاد الفريق الثاني بالمقلين من الإنجاب واعتبروا فيهم مثالا للتحضر والمعاصرة وسموهم بالواعين والمنسجمين مع حياة الرقي وقالوا عنهم بالفرنسية (Les gens biens) يعني (الناس الكيسون الظرفاء) وبذلوا لهم وسائل الحد من الإخصاب مجانا من ميزان الدولة وأخفوا عنهم ما تخلفه الأدوية والآلات التي توضع في الأرحام من انعكاسات سيئة، وألزموا الأطباء والأعوان الصحيين بأن يغيروا الحقائق العلمية، وأوكلوا أمر العناية بتحديد النسل وتقليله إلى وزارات أو إلى دواوين مجت الأسماع أساليبها الدعائية واشمأزت الأذواق والأخلاق من شعاراتها السمجة وتوضيحاتها وبياناتها المثيرة للسخط والمنفرة، ورغم الإنفاق السخي والمجانية الكاملة لمن يقبلون ورغم العقوبة بالحرمان من بعض المنح والعلاوات لمن يزيدون على الولد الثالث، فإن الحصيلة بقيت هزيلة باعترافهم وبقيت النسبة المؤملة في تحديد النسل تتراءى لهم بعيدة المنال..
فهل يجوز أن نسكت ونترك أمر الإنجاب والتناسل موكولا لاجتهاد زوج غير مسؤول أو لشهوة زوجة ناشز أو لحكم السياسة تعتد برأيها ولا تعتبر أحكام الدين ولا اجتهاد العلماء الذين لا يخشون في الحق لومة لائم؟
اللهم إنه لا يجوز أن نسكت عن هذا التذبذب والتسيب، بل علينا أن نقول للمسلمين ما قاله شرعهم ثم ندعو أن يوفقنا الله وإياهم إلى الهدى وصراط الله المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين – آمين.
ما هو النسل؟
النسل في اللسان العربي هو الولد والذرية، والثلاثي منه – من باب كتب، وتختلف المادتان نسل وولد بأن أولاهما مشعرة بالكثرة فيقال: نسلت الناقة أي بولد كثير، بخلاف ولدت ومن هنا أشعرت كلمة النسل بالكم دون كلمة الولد.
قال في القاموس
النسل = الخلق والولد نسل = ولد كأنسل، وتناسلوا = أنسل بعضهم بعضا.
وجاء في المصباح المنير اقتران مادة نسل بمعنى الكثرة، فقال: النسل الولد، ونسل نسلا من باب ضرب (1) كثر نسله.
ولعل المراد المطابق لكلمة النسل هي كلمة الذرية، بحكم إفادة كل منهما لمعنى الخلق ومعنى الكثرة.
قال في القاموس:
ذرأ كجعل = خلق، والشيء كثره ومنه الذرية، لنسل الثقلين.
وجاء في المصباح أيضا:
والذرية: النسل، والذرية فُعْلِيَّة من الذَّرِّ وهم الصغار (2) وتكون الذرية واحدا وجمعا (3) .
ولم ترد كلمة النسل بصيغة الاسم في القرآن إلا مرتين إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (4) .
وإذا اعتبرنا سبب النزول وأنها نزلت في نفاق الأخنس بن شريق الذي كان يتظاهر بالإيمان ولكنه عمد إلى زرع لبعض المسلمين فأحرقه وإلى حمرهم فعقرها، فكشف الله حقيقة أمره.
وحينئذ فالمراد بالحرث في الآية هو الزرع كما أن المراد بالنسل الحيوان فأدركنا أن النسل كما يقال على ولد الإنسان يقال كذلك على ولد الحيوان.
وثانية المرتين في سورة السجدة في قوله تعالى:
والنسل هنا هو نسل الإنسان أي ذريته.
(1) الصواب من باب دخل؛ لأن نسل التي من باب ضرب معناها أسرع في العدو ومنه قوله تعالى: {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} .
(2)
ومنه تسمية صغار النحل بالذر.
(3)
انظر المصباح=95/1 (ط 1315هـ) .
(4)
204-205 البقرة.
(5)
6-7/ السجدة.
وفي حين وردت مادة نسل في القرآن مرتين بصيغة الاسم – كما بينا – فقد وردت كذلك مرتين فقط بصيغة الفعل في قوله تعالى في سورة الأنبياء:
{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (1) . وفي قوله تعالى في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (2) .
والفعل المكرر في الآيتين بمعنى يسرعون وبابه: ضَرَبَ.
وإن كلمة الذرية قد وردت في عديد من سور القرآن وآياته بما لا يقل عن اثنتين وثلاثين مرة وكلها بصيغة الاسم (ذرية) المفرد، مذكرا أو موصوفا أو مضافا، وبعضها بصيغة الجمع (ذرياتنا – ذرياتهم) وأكثر ما ورد من هذه الأسماء جاء مرادا بها النسل والعقب والأبناء وقلما وردت بمدلول مجانب كإطلاق الذرية على الطائفة مثل قوله تعالى:{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} (3)
ولم تطلق الذرية في الاستعمال القرآني على ولد الحيوان كما كان الشأن بالنسبة لكلمة النسل، فثبت أن اسم الذرية أخص من النسل.
ولعل وقوع الاختيار على كلمة النسل في عنوان الموضوع الذي نحن بصدده وهو:
تنظيم النسل وتحديده دون كلمة الذرية اعتبارا لكون عملية التنظيم والتحديد هذه إنما تبدأ من البداية، أي من الحيوان المنوي الذي هو بداية الخلق، وبعد أطوار من النمو، ومنذ نفخ الروح يصح إطلاق الذرية على الجنين.
(1) 96/الأنبياء.
(2)
51/يس.
(3)
83/يونس
حكمة التناسل ومنزلة الذرية في حياة الناس:-
شاءت حكمة الباري التي لا تجارى أن يقوم تواصل الحياة في هذا الكون على نظام المباشرة والتناسل بين المخلوقات، سواء في ذلك أصناف الحيوان وأصناف النبات.
وقد شاءت حكمته تعالى أن يخضع توالد النبات إلى نظام دقيق وعجيب هو آية للمتدبرين، وأن يخضع تناسل الحيوان إلى غريزة ماضية لا تفتر ولا تني بل تضمن استمرار الأنواع بقدر وموازنة في نطاق ما رسمته الآية الكريمة في قوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) .
وميز الإنسان من بين أصناف الحيوان بفطرة حسنة تكفل له البقاء وتوفر له المتعة والخير في الدارين، ولم يترك الإنسان كما ترك الحيوان إلى الغريزة التي تحدد تحركاته وتسير حياته، بل أعطي مع فطرة الله الحسنة التي فطر الناس عليها عقلا مفكرا ووجدانا هو عالم النفس والشعور، وفوق كل ذلك وضحت له مسالك الهداية والرشاد عن طريق ما جاءه من الدين القيم رحمة من الله وتكريما وحفظا.
وهكذا شرف الإنسان عامة بشرف خطاب الله من خلال خطابه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأتباع محمد رضوان الله عليهم حين قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
وبهذا الشرف فارق الإنسان أصناف الحيوان لأنه لا يتناسل بالغريزة، ولا يتناسل الذكر مع أية أنثى وجدها ولا تقبل الأنثى أو تطلب أي ذكر صادفته، وإنما التناسل لدى الإنسان أمانة يتحمل تبعتها حيًّا وميتًا وهو عمل اختياري هادف وتعامل مدني يتوقف على القدرة والتمييز والأهلية.
والتناسل عند الإنسان لا يكون إلا بالزواج وإلا عد فسوقًا وظلمًا وهبوطًا عن أدنى مستوى الإنسانية، فصار الزواج في حد ذاته غاية ووسيلة وهو غاية؛ لأنه يوفر للإنسان نعمة لا تنتجها المعامل والأيدي ولا تابع في المتاجر والأسواق وإنما هي نعمة من الله وآية من آيات خلقه، هي نعمة السكن ونعمة المودة والرحمة قال تعالى:{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (4) .
(1) 49/القمر
(2)
30/الروم
(3)
12 / الروم
(4)
198 / الأعراف
ثم هو وسيلة لآية أخرى من آيات الله الكبرى ونعمة من نعمه الجلية، إنه طريق لإنجاب الأبناء والحفدة إنجابًا يكون حافزًا على تعظيم الخالق وتقواه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (1)
ويكون مؤملًا لخير من الله وبركة ورزق الطيبات قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (2) .
وهل في الدنيا أو في حياة الناس شيء يعادل منزلة الأبناء الصالحين أو يسد مسد الذرية الصالحة؟ لقد شاءت حكمته تعالى أن يجعلهم من زينة الحياة الدنيا حين قال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (3) بل جعلهم المحور لكل زينة في هذه الحياة حتى إن الإنسان لتنقطع صلته بكل زينة إذا ما انقطعت حياته الدنيوية باستثناء زينة الذرية والأولاد فيهم يستمر بقاؤه وذكره، وعن طريقهم يتواصل عمله فلا ينقطع بحكم أن الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته (4) .
وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(5) .
(1) 1/ النساء
(2)
72 /النحل
(3)
46/ الكهف
(4)
كما جاء ذلك في حديث ابن عمر المتفق عليه، والذي يقول في أوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
…
إلخ) .
(5)
رواه مسلم – مشكاة المصابيح: 71/1 - عدد 203 (ط، أولى دمشق1380/1961) .
وهكذا تبقى صلة الميت بالدنيا ويستمر عمله كما لو كان حيًا عن طريق العقب والذرية، ولقد جاءت الآثار تؤكد أن الآباء ينتفعون بصلاح الأبناء ولو كانوا قد تبوءوا أماكنهم من الجنة، أخرج مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب كان يقول:" إن الرجل لَيُرْفَعُ بدعاء ولده من بعده. وقال بيديه نحو السماء ورفعها (1) قال الإمام السيوطي في تعليقه على هذا الخبر: قال ابن عبد البر: هذا - أي الذي كان يقول سعيد بن المسيب - لا يدرك بالرأي، وقد روي بإسناد جيد مرفوعًا، ثم أخرج - أي ابن عبد البر - من طريق أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن المؤمن ليرفع له الدرجة في الجنة، فيقول: يا رب بم هذا؟ فيقال له: بدعاء ولدك من بعدك " (2) .
وقد نَزَّلَ الله تعالى محبة الأبناء والحفدة سويداء القلوب فحفظ بذلك مصالحهم، وأمن عيشهم فلم يحتج إلى حرص يحفز الآباء لمزيد العناية وحسن القوامة عليهم، بل قد يدعو الأمر إلى تنبيه هؤلاء الآباء إلى الأخذ بالحذر في سعيهم وحدبهم على الأبناء، حتى لا ينقلب الأمر إلى وبال عليهم أو إلى فتنة يفتنون بها في حياتهم، فقال تعالى مرشدًا ومحذرًا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) .
(1) الموطأ، قرآن (العمل في الدعاء)، انظر: السيوطي، تنوير الحوالك 1/169.
(2)
انظر: تنوير الحوالك170/1 (ط مصر 1356/1937) .
(3)
14-15/التغابن.
كما قال تعالى في بيان المنهج الرشيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) .
ولم ينقص هذا الإرشاد ولا هذا التحذير من عاطفة الأبوة المتأججة بل استمر تأججها ضمانًا لبقاء العطف والرحمة وضمانًا لاستمرار الحياة وبقاء النوع البشري. وهذا أسوتنا الحسنة وسيد الأنام صلى الله عليه وسلم يستجيب لأزكى مشاعر الأبوة فينزل من أعلى المنبر ويقطع خطبته لأصحابه من أجل الحسن والحسين رضي الله عنهما، أخرج الترمذي من طريق الحسين بن حريث عن عبد الله بن بريدة (3) قال سمعت أبا بريدة رضي الله عنه يقول:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذا جاء الحسن والحسين عليهما السلام، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: " صدق الله العظيم {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " (4)
(1) 9/المنافقون.
(2)
37/ سبأ.
(3)
هو أبو عبد الله بريدة بن الحصيب (بضم الأول وفتح الثاني فيهما) الأسلمى روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه: عبد الله وسليمان، وعبد الله بن أوس الخزاعي، والشعبي والمليح بن أسامة وغيرهم – شهد خيبر، وَفَتَحَ مكة واستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه ذكر ابن سعد أن وفاته كانت في خلافة يزيد بن معاوية سنة (63هـ) ابن حجر. التهذيب: 54/1-55، عدد 797.
(4)
قال الترمذي: حديث حسن غريب، انظر سننه: مناقب 30، وانظر عارضة الأحوذي: 195/13. (ط دار الكتاب العربي، بيروت) .
ولقد أعرب صلى الله عليه وسلم عن عاطفة الأبوة في غير ما مرة ذلك أنه خرج ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته فاطمة رضي الله عنهم، وهو يقول عن الأبناء:" إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله ". (1) وقال حين أبصر الحسن والحسين: ((اللهم إني أحبهما فأحبهما)) (2) . وفي حديث آخر كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحسن والحسين هما ريحاناتي من الدنيا)) (3) .
وحين سئل صلى الله عليه وسلم: أي أهل بيتك أحب إليك قال: " الحسن والحسين، وكان يقول لفاطمة ادعي ابني ". فيشمهما ويضمهما إليه، تلكم هي حكمة التناسل، وهذه هي منزلة الأبناء في قلوب الناس وفي حياتهم التي يحيونها.
النسل كما يرضاه الإسلام:
لا أحد فيما نعلم ينازع أن الشريعة الإسلامية، حثت على الزواج ودعت إلى التناسل ورغبت في التكاثر، والنصوص في هذا من الكتاب والسنة معلومة وعديدة: قال تعالى في بيان شرعه في رسله وأخرى في خلقه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (4) ونوه القرآن بزكرياء حين دعا ربه ليرزقه ذرية طيبة فقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} (5)
وقد جاء في حديث أنس المتفق عليه: " وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وهل يراد النكاح إلا من أجل الذرية والنسل؟ أخرج ابن ماجه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء "(6) .
كما أخرج عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انكحوا فإني مكاثر بكم "(7) .
(1) أخرجه الترمذي من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها، وزعم أنه لا يعرفه إلا من طريق سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة الذي قال: وفي الباب عن ابن عمر والأشعث بن قيس رضي الله عنهما.
(2)
حديث البراء بن عازب، أخرجه الترمذي: مناقب (30) وقال: حديث حسن صحيح
(3)
حديث أنس أخرجه الترمذي مناقب (30) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث أنس.
(4)
38/الرعد.
(5)
38/آل عمران.
(6)
سنن ابن ماجه: نكاح (1) .
(7)
سنن ابن ماجه: نكاح (8) .
ومما هو نص في أن المراد من الزواج التناسل والتكاثر ما أخرجه أبو داود بسنده عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا – ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم "(1) .
نعم لا خلاف أن الإسلام لا يرضي التبتل ولا رهبانية النصارى، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه قال:" رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا "(2) ونظيره ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق زيد بن أخزم الطائي وغيره قالوا: حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل وزاد زيد بن أخزم: وقرأ قتادة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (3)
كما لا يرضى الإسلام لمن هفا إلى الزواج – وحري به أن يهفو – أن يخبط خبط العشواء بل عليه أن يتخير القرين الكفء والصالح، لأن هذا القرين سيصبح أقرب الناس إليه وألصقهم به وأشركهم في متاعه، وليس هذا القريب بالمنفك عن قرينه المشدود إليه بعقد الزواج حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، وليس في حياة القرينين – قران زواج – مسؤولية أثقل ولا عمل أدق وأخطر من إنجاب الذرية وتنشئتهم التنشئة الصالحة والطيبة، لذا وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الطاهرة معالم الطريق، وذلك بوضع المقاييس الصحيحة والموازين القسط في هذا المضمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " وفي رواية: " إذا أتاكم - وأخرى: إذا جاءكم - من ترضون دينه وخلقه. . . " إلخ (4) .
(1) سنن أبي داود: نكاح (3) وللنسائي مثله.
(2)
سنن الترمذي: نكاح (2) سنن ابن ماجه: نكاح (2) . وفي رواية الطبري أن عثمان بن مظعون قال: يا رسول الله أتأذن لي في الاختصاء؟ قال: " إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة ". الشوكاني. النيل: 299/6-230 (ط لبنان، دار الجيل 1973) .
(3)
عين المصدرين.
(4)
رواه الترمذي: نكاح (3) وابن ماجه، نكاح (46) من طريق عبد الحميد بن سليمان الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورجح الترمذي أنه مرسل ثم رواه من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه وحسنه.
والمعتبر في القرين سواء كان زوجًا أو زوجة من الاستعداد والخصال ما يتحققه مع السكن وحسن العشرة سواء قبل الإنجاب أو بعده، ثم حسن القوامة على سير الأسرة وعلى تربية الأبناء وتعليمهم وسد حاجاتهم بعد الإنجاب؛ لذا جاءت بعض الأحاديث ترشد إلى تخير الزوجة كما تتخير التربة فقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن عائشة رضي الله عنها ((تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم)) (1) .
ولن يوفق الزوجان في بحثهما عن الكفء وعن حياة راضية حتى يضعا في الاعتبار الإيمان والتدين قبل كل اعتبار آخر من مال أو جمال أو نسب، وفي الزوجة المؤمنة نسوق حديث ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأي المال نتخذ؟ - قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعيره، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في أثره فقال: يا رسول الله: أي المال نتخذ؟ فقال: " ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة ". (2) وليس أمر الآخرة بالهين إذا لم تعن عليه الزوجة ولم تستعن فيه بزوجها، ولقد جاء الخطاب عامًّا لأرباب التكليف والمسؤولية من الذين آمنوا فقال الحق تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (3) والمخاطب في الآية كل مكلف من المؤمنين في خاصة نفسه من جهة، وفي عامة أهله من جهة أخرى، وبذلك تتوافر دواعي الوقاية لكل فرد.
وفي اختيار الدين قال صلى الله عليه وسلم: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك "(4) .
وقد لا يجتزي الزوج بالزوجة المؤمنة المتدينة، بل قد يطلب فوق ذلك أن تكون الزوجة صالحة فما المراد بالزوجة الصالحة؟ هي التي سماها الحديث بهذا الاسم وهي التي عرفها صلى الله عليه وسلم في قوله الصادق:" ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله (5) فليست الزوجة صالحة حتى يشمل صلاحها نفع زوجها وأبنائها، وليس الزوج صالحًا حتى يكون صالحًا لأهله، وهل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا حين قال: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (6)
(1) رواه ابن ماجه من طريق الحارث بن عمران المدني الذي قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، انظر: نكاح: (46) .
(2)
ابن ماجه: نكاح: (5) . ورواه الترمذي في التفسير وحسنه.
(3)
6/التحريم.
(4)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه أصحاب الصحاح إلا الترمذي، ولمسلم والترمذي قريب منه، انظر الشوكاني النيل: 232/6-233.
(5)
رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، نكاح:(5) ورواه النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعن ابن عباس عند أبي داود والحاكم بلفظ:(ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته) ونحوه عن ثوبان عن الترمذي.
(6)
هو حديث عائشة أخرجه الترمذي، انظر: مناقب (63) ومن حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه انظر: نكاح (50) .
ثم ماذا بعد الزوجة الصالحة والزوج الصالح غير الأبناء الصالحين؟ نعم إن الإسلام يكره تقليل النسل ويكره الامتناع عن الزواج وعن الإنجاب
…
ولكن أي نسل هذا الذي يكره قلته ويحب الكثرة منه؟ إنه النسل الصالح الذي تزداد الأمة بازدياده مكانة ورجحانًا، وليس النسل الذي تصبح به الأمة غثاء كثغاء السيل، عن ثوبان مولى رسول الله قال:" توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ". – فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ". فقال قائل: يا رسول الله! . وما الوهن؟ قال: " حب الدنيا وكراهية الموت "(1) .
فهل يبقى بعد هذا شك أن المفهوم الصحيح للأمة الإسلامية ليس هو العدد الكثير الوهن حتى صار في الكثرة والتفاهة أشبه بالغثاء؟ إنما مفهوم الأمة الإسلامية مراد منه الكيف أولًا وبالذات وهذا الكيف يأخذ في الاعتبار – حتما وبالأساس – ما ينشأ عليه الفرد من إيمان قوي وتربية فاضلة وسلوك حضاري قويم.
هذه الأمة الإسلامية بجوهرها وبعرضها بحيث لا يعد من اختل إيمانه واعتلت تربيته وفسد سلوكه في عداد أفراد الأمة الإسلامية إلا على ضرب من التجوز، أو باعتبار التقسيم الجغرافي للكرة الأرضية.
وهذه حقيقة تكاد تصبح بديهية لا ينكرها عالم، ولا يقول بخلافها إلا من قصرت مداركه عن التصور السليم لمفهوم الأمة الإسلامية كأمة متميزة لها حضارة إنسانية فريدة ولها شرعة ومنهاج من الله رب العالمين.
وسيرًا في ضوء هذا المقصد التشريعي الواضح أفتى بعض المتأخرين من علماء الحنفية وغيرهم أنه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان فالأولى الإمساك عن الإنجاب، ويرى البعض أن الأولوية تكون في الإمساك عن الزواج من أصله إذا أمكن إعفاف النفس بالصوم مثلًا.
(1) أخرجه الإمام أحمد بلفظ قريب من هذه انظر: 278/5 وهذا اللفظ لأبي داود انظر: ملاحم (5) عدد 4297، قال في التعليق عليه في مشكاة المصابيح: إنه حديث صحيح، انظر: الحديث عدد 5369.
هل من شروط الإنجاب حسن القيام؟
ليس غريبًا بعد كل الذي أسلفنا أن نفهم أن القيود على الإنجاب التي تفرضها قاعدة: " لا ضرر ولا ضرار " وقاعدة: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة جديرة بالاعتبار نظرًا لوضع الأمة الإسلامية اليوم ونظرًا لوضع القيم والأخلاق والمعاملات في عالمنا المعاصر.
هل ليجوز للفقيه المسلم – وخصوصًا إن كان يواكب الحياة في هذا العصر – أن يدعو إلى كثرة الإنجاب وأن يدعي تأثم المنظمين لنسلهم أو المحددين لهذا النسل بحسب قدرتهم على أداء الأمانة وبحسب طاقاتهم على الاضطلاع بالمسئولية: مسؤولية التكوين الإيماني السليم، وحسن التنشئة والتربية، ومسؤولية سد الحاجة والإنفاق من المال الحلال؟
هل يجوز لهذا الفقيه المسلم أن يقف عند نصوص الترغيب في كثرة النسل وينسى النصوص الكثيرة التي تعتبر هذا النسل مسؤولية عظيمة سواء المصرحة بذلك أو الملمحة إليه؟
ألم يقل القرآن على لسان زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (1) فطلب الذرية الطيبة لا ذرية فحسب؛ لأن الذرية غير الطيبة ليست نعمة يصح بها التوجه والدعاء، وإنما هي مصيبة يجب التعوذ منها، ثم ألم يقل القرآن أيضًا على لسان عباد الرحمن:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (2) فهل كان يصح من هؤلاء الصالحين أن يقنعوا بغير الذرية التي تقر بها العين؟ وهل يستوي عند الله الصالح والطالح من الذرية أم إن الله تعالى يقول: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (3) وكيف ترجى عبادة الله – وهي صلاح من فاقد الصلاح؟
(1) 38/آل عمران.
(2)
74/الفرقان.
(3)
56/الذاريات.
أما السنة المطهرة فقد اعتبرت الإنجاب مثل الزواج مسؤولية وعملًا يترتب عليه الثواب والعقاب، فقد روى البخاري بسنده من طريق بشر بن محمد السختياني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته ")) ، قال:" أو حسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه "(1) .
وهل يعذر الرجل إن هو أهمل الإنفاق على الأهل مع القدرة عليه؟ ألا يكون مآله السجن بجريمة إهمال العيال؟ وفيه ورد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت، وفي رواية: من يعول "(2) .
فكيف يعذر عند الله بجريمة إهمال التربية والإخلال بحسن التنشئة الدينية والأخلاقية والسلوكية؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء. هل تحس فيها من جدعاء؟ "(3)
والقائل في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
" لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع "(4) .
فيه تفضيل تأديب الأبناء، على عمل آخر وهو التصدق ببعض المال من وجهين:
- الوجه الأول: أن العمل الأول واجب والثاني تطوع.
- الوجه الثاني: أن ثواب العمل الأول أوفر عند الله وأجزل لأهميته.
وهو القائل أيضًا في حديث " ما نحل والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن "(5)
ثم أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يأمرنا في حديثه الذي رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك إذ قال صلى الله عليه وسلم: " أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم "(6) .
فالواضح من هذا الحديث أن المأمور به هو إكرام الأولاد وذلك بالإحسان في تربيتهم وتأديبهم، لأن أدبهم هو الحد الأدنى والمقدار المفروض اللذان لا يجوز النزول عنهما.
(1) البخاري: وصايا (9) ، بهذا اللفظ ورواه مسلم بلفظ قريب.
(2)
حديث: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، رواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
(3)
حديث أبي هريرة متفق عليه، اللفظ لمالك في الموطأ: جنائز (52) ولأبي داود: سنة (17) عدد 4714.
(4)
رواه الترمذي: بر (33)، وقال: حديث حسن غريب.
(5)
رواه الترمذي بر (33)، قال: حديث غريب وهو عندي حديث مرسل
(6)
ابن ماجه: أدب (3) عدد 3671.
موقف الشريعة الإسلامية
من التعرض للإخصاب
لا أحب أن أقول منع الإخصاب لأن ذلك بيد الله وحده وليس الإنسان بقادر على منع الإخصاب، بل هو يتعاطى بعض الأسباب لمحاولة ذلك سواء بالوسائل البدائية الطبيعية كالعزل الذي اعتاد الفقهاء إطلاقه على منع الإخصاب، أو بما يقول مقام العزل من اتخاذ الحائل الذي يحول دون التقاء بويضة المرأة بالحيوان المنوي للرجل وهو الالتقاء الذي قد يتم عن طريق الإخصاب.
أو بالوسائل العلمية والتي لا تمنع التقاء الماءين، وإنما تفسد المناخ الطبيعي الذي يتم فيه الإخصاب عادة في الرحم، وقد يكون ذلك باستعمال بعض الأدوية والعقاقير أو باستعمال بعض الآلات التي توضع في الرحم فيصبح رافضا أن يستقر فيه أي شيء، على أن هذه الأدوية والعقاقير وهذه الآلات قد لا تتلائم مع أبدان بعض النساء أو أنها تصبح بتكرر الاستعمال لا تتلاءم معها لهذا احتاجت العملية إلى بحوث وفحوص وتجارب ومؤسسات ونفقات.
وإذا كانت الأحكام الشرعية في هذا الموضوع (موضوع العزل – أو موضوع التعرض للإخصاب بالطرق المستحدثة) قد أنيطت بما يترتب على ذلك بما يترتب على ذلك من تقليل النسل، فإن الوسائل الحديثة المستعملة في هذا المضمار والتي حلت محل الوسائل الطبيعية القديمة الخالية من مادة تؤثر على البدن، سواء على الأمد القريب أو البعيد
…
قلت فإن هذه الوسائل الحديثة ليست كلها مباحة الاستعمال وليس حكمها واحدًا بالنسبة لكل النساء.
لأننا إذا أخذنا بالقاعدتين الكليتين الشرعيتين وهما:
أ- لا ضرر ولا ضرار
ب- ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
نجد أن الشريعة تمنع كل دواء أو كل عقار أو آلة تلحق بمستعملها ضررًا عاجلًا أو آجلًا في سبيل التصدي للإخصاب والتوقي من الحمل والمتحمل للإثم والوزر هو الطبيب في الدرجة الأولى ولو لم يكن عالمًا، لأنه لا يعذر بجهله، ولأنه من المفروض في حقه أن لا يتعاطى مثل هذا الأمر قبل التأكيد والحصول على الخبرة، ويشارك الطبيب في هذا الوزر المتلقي للعلاج ذكرًا أو أنثى بشرط علمه بالخطر أو المضرة والله تعالى يقول:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) بعد هذا التفصيل في الوسائل، وبعد إخراج وسائل محاولة منع الإخصاب أو التوقي من الحمل الضار، لأنها ممنوعة لذاتها شرعًا فيكون المقدم عليها آثمًا وواقعًا تحت طائلة العقاب والتعزير، فإن البحث يبقى في وسائل محاولة منع الإخصاب أو التوقي من الحمل التي – لا ضرر فيها، هل يسمح الإسلام بتعاطيها بقصد تنظيم النسل أو تقليله وتحديده؟ فنقول وبالله التوفيق.
(1) 195/ البقرة.
الإنجاب في القرآن:
لم يأت في كتاب الله تعالى ما هو نص في هذا الموضوع، بل جاء ما هو أشمل وأعم، وما يمكن أن نعتبره إطارًا لبحث الموضوع وفهمه، من ذلك:
1-
قضية خلق البنين والحفدة، وإن هذا الخلق بقدر من الله وحده لا شريك له، ولا دخل للعبد المخلوق فيه، فهذه حينئذ قضية إيمانية مسلمة وبديهية لدى المؤمنين عالمهم وجاهلهم، كقوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} . وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} فالواهب للذرية والمانع هو الخالق تعالى وليس للإنسان في ذلك دخل ولا طول.
قال الإمام ابن العربي: " لا خلاف بين أهل السنة في أن الأمور تجري على قضاء الله وقدره وعلم سابق وقضاء مقدم، وإن كان علقها بالأسباب، فلاحظ للأسباب فيها إلا أنها علامات على وجود ما قدر وعلم وخلق، فأما أن يكون لها تأثير أو ينسب إليها عمل فلا سبيل في التوحيد إلى ذلك "(1) قلت: أراد ابن العربي بهذا الكلام وهو يتحدث عن حكم العزل عن المرأة أن يستبعد كل الأوهام التي قد تعتبر أن العزل إبطال للخلق أو تعرض للقدر وقد جاءت جميع نصوص السنة في موضوع العزل تقر هذه الحقيقة على النحو الذي قررها القرآن الكريم، وكل من الكتاب والسنة وحي من رب العالمين رب السماوات والأرض قال تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2)
2-
إن الذرية أمانة ومسئولية باعتبار أنهم من زينة الحياة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وباعتبار أنهم من مفاتن الحياة {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وباعتبار أنهم في رعاية خالقهم ورازقهم {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم خشية إمْلَاقٍ} وباعتبار ما في هذه المسؤولية من مزالق {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .
وما ورد في كتاب الله تعالى من هذه الآيات وغيرها كاف لنعلم أن النسل والذرية إنما هو إعداد ومسؤولية خطيرة وليس كثرة بها يكثر الطغام والتشتيت والضياع.
(1) أنظر: عارضة الأحوذي: 75/5-76 (ط دار الكتاب العربي بيروت) .
(2)
49-50/الشورى.
الإنجاب في السنة الشريفة:
أما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالكلام وارد على العزل في عديد من الأحاديث على اختلاف رواتها ودرجاتهم وعلى اختلاف دواوين السنة التي خرجتها.
وحاصل ما روته أهم هذه الدواوين – وأعني بذلك الموطأ – ومسند الإمام أحمد – وسنن الدرامي – والصحاح الستة – من أحاديث الباب ما يزيد عن الاثنين وثمانين حديثًا، وترجع أغلب هذه الأحاديث إلى صاحبيين جليلين هما: أبو سعيد الخدري – وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعة أو في حكم المرفوعة وحديث واحد عن كل من عمر – وجذامة – وأنس وأسامة – وأبي سعيد الزرقي رضي الله عنهم وهي أحاديث مرفوعة أو معتمدة، وفي الباب آثار أو أحاديث مقطوعة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص وعن أم ولد لأبي أيوب الأنصاري – وفيه فتوى لسعيد بن المسيب ولو تأملنا في كل هذه الأحاديث وهذه المرويات لوجدنا أنها تعضد بعضها بعضا في اتجاهين:
1-
اتجاه الجواز: ويمكن إرجاع هذه الأحاديث وهي الأغلبية الغالبة إلى أصول أربعة وهي:
الأول: عمل الصحابة وأفعالهم إذ علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وسكت عنها ولم ينكرها عليهم، دل ذلك على الجواز، وتحديث الصحابي بهذا الأمر يعد في درجة الحديث المرفوع، من هذه أحاديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ومنها هذا الحديث المتفق عليه واللفظ لمسلم قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عن القرآن "(1)
في رواية أخرى لمسلم:
كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا " (2) .
(1) البخاري: نكاح: (96)(باب العزل) مسلم: طلاق (32) ابن ماجه: نكاح (30)(باب العزل) عدد 1927 واللفظ لمسلم.
(2)
مسلم: طلاق (34) .
الثاني: أحاديث أثبتت أنه صلى الله عليه وسلم أبدى عجبه من عزل أصحابه عن نسائهم أو أبدى استفساره عن سبب اللجوء إلى هذا العزل، ورغم ذلك لم ينههم ولم يقل: لا تفعلوا، من ذلك حديث أبي سعيد الخدري ومثله عن جابر وهو متفق عليه ولفظه للبخاري:
عن أبي سعيد الخدري قال:
" أصبنا سببيا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أو إنكم لتفعلون؟ (قالها ثلاثًا) ما من نسمه كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة "(1)
في رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخبر:
" أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيًا، ونحب المال، كيف ترى في العزل؟
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو إنكم تفعلون ذلك؟ لا عليكم أن لا تفعلوا فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة " (2) .
وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
((" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال:
أو إنكم تفعلون؟ - قالوا: نعم – قال: فلا عليكم أن لا تفعلوا، فإن
الله تعالى لم يقض لنفس أن يخلقها إلا هي كائنة)) (3) .
(1) البخاري: نكاح: (96)(باب العزل) مسلم: طلاق: (19) .
(2)
البخاري قدر (4)(باب وكان أمر الله قدرا مقدورا) الدارمي: نكاح: (36)(باب في العزل) ابن ماجه: نكاح: (30)(باب العزل) عدد 1926.
(3)
انظر المسند: 57/3.
ومن ذلك استفساره عن سبب عزلهم دون إنكار عليهم كما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه أخبر سعد بن أبي وقاص أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لم تفعل ذلك؟)) ، فقال الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لو كان ذلك ضارًّا ضر فارس والروم)) .
قال مسلم: وقال زهير في روايته: "إن كان لذلك فلا! ما ضار ذلك فارس ولا الروم ". (1) . ومن الواضح أن صيغة السؤال: ((لم تفعل ذلك؟)) قد أذهبت احتمال المنع، لأن العزل لو كان ممنوعًا لما وقع الاستفسار عن سببه، ولكان الجواب بالنهي:((لا تفعل)) بدل ذلك، وتأكيدًا لهذا المعنى (أي استبعاد المنع للعزل) جاء هذا الحديث عند مسلم من طريقي عبيد الله بن عمر القواريري وأحمد بن عبدة عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ولم يفعل ذلك أحدكم؟)) ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، ((فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) (2) .
وهو عن أبي داود من طريق إسحاق بن إسماعيل الطالقاني مع اختلاف طفيف (3) أما الترمذي فيرويه من طريقي ابن أبي عمر وقتيبة عن سفيان بن عيينة، ونسب الزيادة وهي (ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم) إلى شيخه ابن أبي عمر خاصة (4) .
(1) مسلم: طلاق: (40) .
(2)
مسلم: طلاق (26) .
(3)
أبو داود: نكاح (48) عدد 2170.
(4)
الترمذي: نكاح: (39)(باب ما جاء في كراهية العزل) .
الثالث: ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم مما يفيد الإذن بالعزل لأصحابه، بل وما يفيد إنكاره مقالة اليهود التي شبهت العزل بالموءودة الصغرى، أما إذنه صلى الله عليه وسلم بالعزل فقد جاء فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل؟ قال:((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها)) ، قال: فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، قال:((قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)) (1) .
وفي رواية أخرى لأحمد، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أصبنا سبيًا يوم حنين، فكنا نلتمس فداءهن، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال:((اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو كائن، فليس من كل الماء يكون الولد)) (2) . وطرقه عند مسلم عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري، سمعه يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال:((ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)) (3) .
أما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من تكذيب لليهود في ادعائهم أن العزل هو الموءودة الصغرى فقد جاء ذلك فيما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري بسند قال فيه ابن القيم: وحسبك بهذا السند صحة فكلهم ثقات حفاظ.
عن أبي سعيد الخدري، أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى، فقال:((كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) (4) .
ومثلها رواية الترمذي، عن جابر بن عبد الله قال: قلنا: يا رسول الله، إنا كنا نعزل، فزعمت اليهود أنها الموءودة الصغرى، فقال:((كذبت اليهود، إن الله إذا أراد أن يخلقه لم يمنعه)) (5) .
قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، والبراء، وأبي هريرة، وأبي سعيد، فقول الصحابة رضي الله عنهم بلسان جابر: إنا كنا نعزل مشعر بأنهم توقفوا عن ذلك بسبب ما بلغهم من قولة اليهود، فلم يقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا التوقف الناشئ عن أكذوبة اليهود، بل أجاب بتفنيد الأكذوبة وبذلك زال المانع المسبب للخوف والانقطاع.
(1) مسلم: طلاق: (29) - أبو داود: نكاح (48)(باب ما جاء في العزل) عدد 2173 ابن ماجه: مقدمة (10)(باب في القدر) عدد 89 أحمد: 3/312 – واللفظ له وهو قريب جدا من لفظ مسلم.
(2)
أحمد: 47/3.
(3)
مسلم: طلاق: (27) .
(4)
أبو داود: نكاح: (48)(باب ما جاء في العزل) عدد 2171.
(5)
الترمذي: نكاح: (38)(باب ما جاء في العزل)، ومثله للإمام أحمد عن أبي سعيد انظر المسند: 53/3.57/3.33/3
الرابع: ما دارت حوله كل أحاديث الباب بدون استثناء تقريبًا، وهو أن الأمر يتعلق بقدر الله ومشيئته، ولن يغير العزل أو عدمه من هذا القدر شيئًا، لأن الأسباب ليست هي المنشئة لمسبباتها، وإنما المنشئ والخالق هو الله تعالى، ففي الحديث المتفق عليه، وهو الحديث الوحيد الذي اقتصر عليه مالك في الموطأ في هذا الباب باعتبار أنه جامع، ثم ساق بعده جملة من الآثار تبين اختلاف العمل لدى عدد من الصحابة أنه قال: عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله ابن محيريز، أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه، فسألته عن العزل، قال أبو سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة، وأحببنا الفداء، فأردنا أن نعزل، فقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟ فسألناه عن ذلك، فقال:((ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) (1) .
وفي رواية أحمد لهذا الحديث: ((ما عليكم أن تعزلوا، فإن الله قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة)) ، وفي حديث أنس بن مالك عند الإمام أحمد ما يزيد المسألة تقريرًا وبيانًا، فقد جاء عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله عز وجل منها - أو: لخرج منها - ولد - الشك منه، أي من ثمامة - وليخلقن الله نفسًا هو خالقها "(2) .
فما عليكم سواء عزلتم أم تركتم، فالله تعالى هو خالق كل نفس هو مقدر أن يخلقها، فليس الماء هو المؤثر وليس المكان الذي يكون فيه الماء هو المؤثر، وليس عند هذا السبب يكون المسبب باطراد، فقد روى أحمد، عن سعيد بن المسيب في غير موضع أنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال:((ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء)) (3) .
فالخالق والرازق الذي يعلم ما في الأرحام والذي يشاء ويقدر هو الله وحده الذي لا يعارض قدره بعزل ولا بغيره كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في العزل: ((أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره قراره، فإنما ذلك القدر)) (4) .
(1) الموطأ: طلاق: (95)(باب ما جاء في العزل) أحمد: 63/3 البخاري: مغازي: (32)(باب غزوة بنى المصطلق)، مسلم: طلاق: (17)، أبو داود: نكاح: (48) ، (باب ما جاء في العزل) عدد 2172.
(2)
انظر: المسند: 3/140 وللبزار مثله، وله شاهدان للطبراني في الكبير عن ابن عباس، وفي الأوسط عن ابن مسعود.
(3)
انظر المسند: 93/3.82/3.59/3.49/3
(4)
هو حديث أبي سعيد أيضا رواه أحمد، انظر المسند: 78/3.53/3
وقد استشعر بعض أهل الورع والصلاح النهي عن العزل من قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم: ((ما عليكم أن لا تفعلوا)) كالذي جاء في مسلم تعقيبًا على حديث أبي سعيد من طريق أبي الربيع الزهرانى، وأبي كامل الجحدري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((لا عليكم أن تفعلوا ذاكم فإنما هو القدر)) (1) .
قلت: جاء في مسلم قوله: قال محمد (يعني ابن سيرين)، وقوله: لا عليكم
…
أقرب إلى النهي.
وجاء تعقيبًا على الحديث الموالي وهو مثله، لكنه من طريق محمد بن المثنى قوله: قال ابن عون: فحدثت به الحسن (أي البصري)، فقال: والله لكأن هذا زجر (2) .
وعندي أن الذي دفع بالرجلين من سلفنا الصالح إلى هذا الاستشعار إنما هو مزيد الورع والأخذ بالأحوط، وهو ما دعا القرطبي إلى القول: كأن هؤلاء فهموا من (لا) النهي عما سألوا عنه، فكأنه قال:((لا تعزلوا، عليكم أن لا تفعلوا)) ، فيكون ((وعليكم أن لا تفعلوا)) تأكيدًا للنهي في لا تعزله) .
وفي هذا الكلام من الكلفة والتقدير ما حمل المتعقبين على القول بأن الأصل عدم التقدير (3) وزعم بعضهم أن النهي عن الفعل مفهوم من الكلام، لأن المستفاد من صريح العبارة نفي الحرج عن عدم الفعل فمعنى: لا عليكم أن لا تفعلوا، لا حرج عليكم في ترك العزل، فأفهم ذلك ثبوت الحرج في الفعل، ولو أراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا.
وفي هذا التأويل ما لا يخفي من التكلف في اعتماد الفروض دون تحقيق والدليل على ذلك أنه يمكن السير في مجال الافتراضات لإثبات الحكم المقابل، فيقال: لو أراد صلى الله عليه وسلم المنع لما عبر بنفي الحرج أصلًا، بل لقال: لا تفعلوا، فإن الله قد حرمه عليكم، ولكنه لم يقل ذلك فلا منع ولا حرمة، كما يمكن أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن لا تفعلوا)) هو على تقدير (لا عليكم أن تفعلوا أو أن لا تفعلوا) فحذف الفعل المثبت مع حرف التسوية (أو) لغرض ندبهم إلى التوكل على الله الذي بيده وحده تصريف الأمر، وهو المعنى الذي ألمح إليه القاضي أبو الوليد الباجي كما سيأتي قريبًا.
وليس هذا ببعيد في النتيجة – عن الافتراض القائل بأن (لا) في (لا أن لا تفعلوا) زائدة، قلت: وزيادتها واردة في لسان العرب الفصيح، وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الأنبياء:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إذ المراد من الآية كما قال المفسرون: وممنوع على قرية قدرنا إهلاكها أن يرجعوا عن ضلالتهم إلى الإيمان مادام قد حق عليهم الهلاك وقدر، فكانت (لا) زائدة للتوكيد والتأويل السليم لمدلول عبارته صلى الله عليه وسلم فيما فهمه الإمام النووي في شرحه على مسلم، وكذلك فيما أشار إليه القاضي أبو الوليد الباجي في منتقاه على موطأ مالك.
(1) مسلم: طلاق: (22) .
(2)
مسلم: طلاق: (23) .
(3)
الشوكاني، نيل الأوطار: 348/6 (ط-دار الجيل بيروت 1973) .
أما الإمام النووي فقد قال: معناه ما عليكم ضرر في ترك العزل، لأن كل نفس قدر الله تعالى خلقها لابد أن يخلقها سواء عزلتم أم لا، وما لم يقدر خلقها لا يقع سواء عزلتم أم لا، فلا فائدة في عزلكم، فإنه إن كان الله تعالى قدر خلقها سبقكم الماء فلا ينفع حرصكم في منع الخلق (1) .
وأما القاضي أبو الوليد الباجي فقد قال كلامًا في غاية الدقة والاختصار والرشاقة إذ أفاد أن قوله صلى الله عليه وسلم: " ما عليكم أن لا تفعلوا " هو ندب منه صلى الله عليه وسلم إلى نهاية التوكل وإشارة إلى فضيلة من عول على ذلك (2) .
وعندي أن كلام الباجي – رحمه الله – هو الذي عنده ينتهي الفهم السليم لمدلول هذه العبارة، وبه ينكشف المقصد الأسمى لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 – اتجاه القائلين بعدم الجواز مطلقًا أو بالجواز المشروط ومستند المانعين مطلقًا حديث جذامة بنت وهب الأسدية الذي رواه الإمام مسلم قال: حدثنا عبيد الله بن سعيد، ومحمد بن أبي عمر قالا: حدثنا المقرئ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا)) ، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ذلك الوأد الخفي)) زاد عبيد الله في حديثه عن المقرئ وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (3) .
وجه الاستدلال بهذا الحديث لدى من قال بحرمة العزل كأبي محمد ابن حزم قالوا: الأصل في الأشياء الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع، إنما تأتي ناقلة عن البراءة الأصلية.
فقول جابر رضي الله عنه: (كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيئًا ينهى عنه لنهى عنه القرآن) هو لتقرير حكم الإباحة على وفق البراءة الأصلية، وقد ارتفع هذا الحكم بورود النهي عن العزل ممن أنزل عليه القرآن حين قال:((ذلك الوأد الخفي)) ، وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} .
(1) انظر: شرح مسلم: 10/10-11 (دار الفكر، ط – ثانية بيروت 1972-1393) .
(2)
انظر: المنتقى: 142/4 (مط السعادة – ط – أولى القاهرة 1332 هـ) .
(3)
مسلم: طلاق: (38) أحمد: 434/6.361/6 ابن ماجه: نكاح: (61) (باب الغيل) عدد 2011.
الرد على القائلين بالمنع:
رد عليهم بوجوه متعددة نجملها فيما يلي:
أ – إن الأحاديث التي جاءت على خلاف حديث جذامة كثيرة ومتعاضدة في إثبات الجواز لا المنع، زد على ذلك أن بعضها يحكي عمل الصحابة كالآثار التي رواها مالك في الموطأ والتي بينت رأي وعمل سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم (1) .
قال ابن القيم: وقد رويت الرخصة فيه (أي في العزل) عن عشرة من الصحابة: علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن عباس، والحسن بن علي، وخباب بن الأرت، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود رضي الله عنهم (2) .
ويروى عن بعض هؤلاء أنهم كانوا يكرهون العزل مثل علي ومثل ابن مسعود رضي الله عنهما، وقد صح عنه أنه قال: العزل الموءودة الصغرى، كما صح عن أبي أمامة أنه سئل عنه، فقال: ما كنت أرى مسلمًا يفعله.
وعن نافع، عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما ضرب على العزل بعض بنيه، وعن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا ينهيان عن العزل. قال ابن القيم: وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها (3) .
ب – إن حديث جذامة الذي هو مستند القائلين بحرمة العزل لا يقوم به الدليل؛ لأنه معارض بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم، والذي جاء فيه:((كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) ، وهو الحديث الذي قال فيه ابن القيم كما سبق أن أشرنا: حسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ (4) .
وهكذا نرى أن موقف العلماء أمام هذين المتعارضين، حديث أبي سعيد (كذبت اليهود) وحديث جذامة (ذاك الوأد الخفي) كان دائرًا بين الترجيح والجمع.
(1) الموطأ: طلاق: (96) ، (97) ، (99) ، (100) .
(2)
انظر زاد المعاد: 16/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) .
(3)
انظر زاد المعاد: 17/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) .
(4)
انظر زاد المعاد: 17/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) .
أما المرجحون فمنهم من ضعف حديث جذامة لمعارضته لما هو أكثر منه طرقًا، وهو حديث أبي سعيد، ومنهم من ادعى أنه منسوخ، ولا يمكن الجزم بهذا حتى يعلم التاريخ، وحاول الطحاوي أن يعرض صورة لنسخ حديث جذامة فقال: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولًا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه.
وقد تعقب هذا الافتراض كل من الإمامين ابن رشد ثم ابن العربي فقالا: بأنه لا يجزم بشيء تبعًا لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه (1) ومنهم من قدح في حديث جذامة وضعفه بأن الزيادة التي في آخره (وهي: وإذا الموءودة سئلت) تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، وقد روى الحديث مالك ويحيى بن أيوب، عن أبي الأسود فلم يذكراها، كما حذفها أهل السنن الأربع (2) .
أما إمكانية الجمع فقد قال بها بعض العلماء ومنهم البيهقي حين حمل حديث جذامة على التنزيه دون التحريم.
ومنهم ابن القيم حين قال: (الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدًا حقيقة، وإنما سماه وأدًا خفيًّا في حديث جذامة؛ لأن الرجل إنما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، ولكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفًا، فلذلك وصفه بكونه خفيًّا)(3)
قال الشوكاني: وهذا الجمع قوي (يعني ما فعله ابن القيم) وقال شيخ الإسلام ابن حجر: فهذه عدة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع. جـ - إن حديث جذامة الذي تمسك به أبو محمد ابن حزم ليس صريحًا في المنع والحرمة إذ لا يلزم من تسمية العزل وأدًا خفيًّا على طريقة التشبيه أن يصبح حرامًا مثل الوأد؛ لأن التشبيه لا يفيد المطابقة وتمام المماثلة إلا على ضرب من الادعاء والمبالغة، وهذا مقبول في مجال التحسينات البلاغية وليس مقبولًا في مجال الحقائق وتحديد الحدود.
(1) ابن حجر، الفتح 309/9 (ط-دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت) .
(2)
عن الشوكاني انظر: نيل الأوطار: 349/6-350.
(3)
ابن حجر، الفتح 309/9 (ط-دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت) . عن الشوكاني انظر: نيل الأوطار: 349/6-350.
وقد أنكر الإمام علي رضي الله عنه وافقه على ذلك عمر رضي الله عنه أن تكون موءودة ما لم تمر بالتارات السبع كما جاء في رواية القاضى أبي يعلى وغيره بإسناده عن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه قال: (جلس إلى عمر علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون (يعني اليهود) أنها الموءودة الصغري قال على رضي الله عنه: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع: حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر.
ولا يخفى أن الإمام عليًّا رضي الله عنه يشير إلى قول الحق تعالى في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) .
وجاء في فتح الباري ما يعضد هذه الرواية عن علي قال:
وعند عبد الرزاق وجه آخر: عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدًا، وقال: المني يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا ثم يكسى لحمًا قال: والعزل قبل ذلك كله.
ثم قال شيخ الإسلام: وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن عدي بن الخيار عن علي نحوه في قصة حرب عند عمر، وسنده جيد (2) .
وهكذا يتضح أن جوانب الافتراق أكثر من نواحي الشبه بين العزل والوأد فهل يصح سحب حكم الوأد على العزل؟ ولا جامع بينهما إلا مقصد خفي كما سلف عن ابن القيم بيان ذلك.
(1) 12-14 /المؤمنون.
(2)
فتح الباري: 309/9-310.
حكم التوقي من الحمل عند أئمة المذاهب:
انطلق أئمة المذاهب السنية في بحثهم عن حكم العزل باعتباره الوسيلة المعروفة والمتداولة للتوقي من الحمل، من بحثهم فيما شرع له الزواج وهو أمران:
الأول: إعفاف النفس بمسايرة الفطرة السليمة، والاستجابة للشهوة البشرية في نطاق ما حدده الشرع العزيز.
الثاني: إنجاب البنين الذين زين الله تعالى حبهم للناس لأن بوجودهم يبقى الذكر، وبصلاحهم تقر العين، ومعهم يكون الأنس والمتعة، فشهوة إتيان النساء وشهوة إنجاب البنين هما من الشهوات التي زينها الله تعالى في قلوب الناس وجعلها متاع الحياة الدنيا ليبتليهم في هذه الحياة كما جاء في قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (1) .
- أما الإنجاب فهو ألصق بالقضية الثانية (قضية الإجهاض) وهناك سيكون البحث عن صاحب الحق فيه.
- وأما إعفاف الذي لا يتم إلا بإطفاء الشهوة المتأججة عن طريق ما شرع من الجماع فقد بات من المتفق عليه بين سائر العلماء وأئمة المذاهب أنه حق للرجل دون خلاف في ذلك.
- وإنما الخلاف في المرأة هل هو من حقها مثل الرجل أو لا؟ وعلى هذا الحق ينبني حق العزل لمن يكون؟
في المذهب المالكي:
أما المرأة الحرة فحقها في الوطء ثابت عند مالك، ولها المطالبة به إن قصد الزوج بتركه إلحاق الضرر بها.
وبناء على هذا الحق لم يجز للزوج أن يعزل عنها إلا بإذنها، وهذا ما صرح به مالك في الموطأ حيث قال:((ولا يعزل الرجل عن المرأة إلى الحرة إلا بإذنها)) (2) .
(1) 14/آل عمران.
(2)
الموطأ: كتاب الطلاق (باب ما جاء في العزل) .
وحكى الزرقاني عن ابن عبد البر أن الترخيص في العزل (هو قول جمهور الفقهاء) وذلك إثر ذكر عدد من الصحابة كانوا يفعلون ذلك أو يرون الرخصة فيه (1) .
ومهد الحافظ لحكاية الخلاف عن السلف في العزل بقوله:
(وفي العزل أيضًا إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها) .
ثم قال: (وقد اختلف السلف في حكم العزل، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل)(2) .
وقد وافق ابن هبيرة على حكاية ابن عبد البر للإجماع، وتعقب الحافظ ذلك بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلًا، ومن هذا يتبين بوضوح أن للزوجة الحرة كلمتها في كل ما يتعلق بحياتها الجنسية، وليست الكلمة في ذلك للزوج وحده، ومن باب أولى أن الكلمة ليست للزوجة وحدها، وهل يتم شيء سواء في الإنجاب أو في طلب اللذة وإعفاف النفس دون اجتماع الطرفين؟ هذا حكم العزل عن الزوجة الحرة، أما الأمة فلا يخلو حالها إما أن تكون سرية أو زوجة.
فإن كانت سرية عند مالكها فقد غلب مالك رسوخها في الرق على رسوخها وحقها في الفراش فقال: "لا بأس أن يعزل عن أمته بغير إذنها".
لأن مراعاة حقها في الفراش قد يؤدي إلي أنها تحمل فتصبح أم ولد فيضيع ثمنها على المالك وإن كانت زوجة مملوكة لغير زوجها فالحق دائر بن أطراف ثلاثة: الزوج بما له من حق في الوطء والسيد بحقه في الملكية والأبناء، والأمة الزوجة بحقها في الاستمتاع الذي خوله لها عقد الزواج
…
غلب مالك حق الزوج في الوطء وحق السيد في الملكية "ومن كانت تحته أمة قوم فلا يعزل إلا بإذنهم وفي هذا عدم اعتبار لحق الزوجة المملوكة في المتعة؛ لأنها غير راسخة في الفراش مثل رسوخ الحرة، وعدم اعتبار حقها في الإنجاب لأن الأبناء يتبعونها في الرق وملكيتهم لمالكها ".
(1) انظر شرحه على الموطأ: 228/3 (دار الفكر للطباعة والنشر/ 1981-1401) .
(2)
انظر الفتح 308/9 (ط- دار المعرفة بيروت) .
ومن عجيب ما جاء عن علماء المالكية ما قاله القاضى أبو الوليد الباجي تعقيبا على إمامه وتغليبا لجانب الإنسانية في الزوجة المملوكة إذ قال: "وعندي أن للأمة فيه حقا قد ثبت بعقد النكاح، فلا يجوز له أن يعزل إلا بإذنها لأنه وطء زوجته (يريد وليس وطء مملوكته) فللزوجة حق فيه والله أعلم"(1)"وهذا الرأي هو الذي مال إليه القاضي أبو بكر بن العربي حيث قال: "اتفقوا على أن لا عزل عن الأمة المتزوجة إلا بإذن مولاها وهذا ضعيف فإن الوطء حق الزوجين" (2) وعلى هذا الرأي درج القاضي عياض حين حكى رأى بعض شيوخه فقال: "ورأي بعض شيوخنا إذنها أيضا لحق الزوجية" (3) .
واعتبر الزرقاني أن ذلك موافق لمذهبي أبي حنيفة وأحمد كما حكى أن مذهب الشافعية القول بالكراهة مطلقا في كل حال في كل امرأة وإن رضيت؛ لأنه طريق إلى قطع النسل.
خلاصة المذهب المالكي:
جاء ذلك فيما لخصه الزرقاني حين قال:
"ولا يحرم (العزل) في مملوكته ولا زوجته الأمة رضيت أم لا؛ لأن عليه ضرارا في أمته بصيرورتها أم ولد، وفي زوجته الرقيقة لمصير ولدها رقيقا.
أما الحرة فإن أذنت لم يحرم، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يحرم" (4) .
عند الشافعية:
جاء في كلام الحافظ ابن حجر وردده أن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلا (5)، وهذا مغاير لما صرح به صاحب المهذب إذ قال: "وإن كانت حرة فإن كان بإذنها جاز (يريد العزل) ؛ لأن الحق لهما (يريد: حق الاستمتاع والوطء) وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم؛ لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني: يحرم؛ لأنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه (6)
فأفهم كلامه أن الحق المشترك بين الزوج وزوجته الحرة إنما هو الاستمتاع دون الإنزال وهذا الفصل بين الاستمتاع والإنزال مخالف لما تقدم في المذهب المالكي عن ابن عبد البر أنه قال: "
…
ليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل". وقد حكى القاضي أبو بكر بن العربي عن الشافعي وأبي حنيفة أنهما يقولان: "لا حق لها إلا في وطئة واحدة يستقر بها المهر" واستنكر القول بمنع العزل على من يقول بأن المرأة لا حق لها في الوطء، وقال: "والعجب أن يكون لها حق في العزل عند العلماء، ولا حق لها في أصل الوطء " (7) .
(1) المنتقي: 143/4 (مطبعة السعادة – ط – أولى القاهرة 1332 هـ) .
(2)
عارضة الأحوذي: 77/5 (ط- دار الكتاب العربي – بيروت) .
(3)
الزرقاني، شرح الموطأ: 229/3.
(4)
الزرقاني، شرح الموطأ: 229/3.
(5)
فتح الباري: 308/9.
(6)
الشيرازي: المهذب: 67/2 (دار المعرفة – ط – ثانية بيروت: /1959-1379) .
(7)
انظر عارضة الأحوذي 77/5.
وتعقب الحافظ كلامه فقال: "ما نقله عن الشافعي غريب والمعروف عند أصحابه أنه لا حق لها أصلا (1) ".
قلت: الإشكال الذي عرضه ابن العربي قائم، لأن من لا حق لها في أصل الوطء لا موجب لأخذ رأيها في العزل إلا إذا كان الإنزال شيئا مغايرا للوطء كما أوهمه صاحب المهذب فيما أسلفنا نقله.
وسواء قيل بأن الحرة لا حق لها في الجماع أصلا أو قيل: لها حق في الاستمتاع دون الإنزال، أو قيل بأن الحق لهما، فإن أقوال الشافعية تعددت في بيان الحكم.
فقد حكى الدمشقي في رحمة الأمة: (أن العزل عن الحرة ولو بغير إذنها جائز على المرجح من مذهب الشافعي، لكن نهى عنه، فالأولى تركه)(2) .
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للحرة فإن الجواز يكون أولى بالنسبة لغيرها، ودون توقف على إذن السيد في الأمة.
والقول بالجواز هو الذي حكاه الحافظ عن الغزالي وغيره، ثم قال:"وهو المصحح عند المتأخرين"(3)
وقد صرح الغزالي في الإحياء بإباحة العزل وصحح ذلك في المذهب إذ قال: "والصحيح عندنا أن ذلك مباح "(4) . ثم ينفي أن يكون حكم العزل الكراهة بمعنى التحريم أو التنزيه، ولا ينفي القول بالكراهة بمعنى ترك فضيلة وترك الأولى كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة يعني أنه ترك فعل الأفضل.
وعلل الغزالي نفي كراهة التحريم والتنزيه "بأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل، وليس بارتكاب نهي"(5) .
(1) فتح الباري 309/9.
(2)
انظر رحمة الأمة في اختلاف الأئمة: 224 (دار الكتب العلمية – ط – أولى – بيروت 1407/1987) .
(3)
انظر: فتح الباري: 309/9.
(4)
انظر إحياء علوم الدين: 51/2 – (دار المعرفة – بيروت) .
(5)
انظر إحياء علوم الدين: 51/2 – (دار المعرفة – بيروت) .
وهذا الجواز الذي صححه الغزالي في المذهب وصححه الحافظ عند المتأخرين هو الذي عزاه ابن جزي في القوانين إلى الإمام الشافعي حيث قال: "لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها ولا عن الزوجة الأمة إلا بإذن سيدها لحقه في النسل، ويجوز عن السرية بغير إذنها وأجازه الشافعي مطلقا"(1) .
أما حكم العزل كما جاء في المهذب فهو دائر بين الكراهة والحرمة حيث قال: " (فصل) ويكره العزل لما روت جذامة بنت وهب
…
إلخ".
ثم يفصل بين أمته وزوجته المملوكة وزوجته الحرة، فلا حرمة فيه عن أمته؛ لأن الاستمتاع لا حق لها فيه، ولا حرمة فيه عن زوجته الرقيقة؛ لأنه يلحقه العار باسترقاق ولده منها.
ثم يقول في الحرة: وإن كانت حرة، فإن كان بإذنها جاز لأن الحق لهما، وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم؛ لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني يحرم؛ لأنه يقطع النسل من غير ضرر يحلقه (2) ومن وجوه الخلاف في المذهب الشافعي ما حكاه الروياني في منع العزل مطلقا كمذهب ابن حزم (3) .
عند الحنفية:
سلك الحنفية في بيان حق الزوجة الحرة في الوطء وما يترتب على ذلك من طلب إذنها للعزل عنها على وفق المشهور في باقى المذاهب السنية فقالوا: إن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وإن المتسري بها يعزل عنها بغير إذنها وفي الزوجة الرقيقة قال أبو حنيفة مثل قول مالك: إن الإذن لسيدها، وهو القول الراجح عن محمد بن الحسن، أما أبو يوسف فيرى أن الإذن لها، وعن محمد أنه جنح لما قاله أبو يوسف وهذا ما نقله صاحب الهداية إذ قال:"إذا تزوج أمة فالإذن في العزل إلى المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن الإذن في العزل إليها؛ لأن الوطء حقها حتى تثبت لها ولاية المطالبة، وفي العزل تنقيص حقها، فيشترط رضاها كما في الحرة، بخلاف الأمة المملوكة لأنه لا مطالبة لها فلا يعتبر رضاها"(4) .
(1) انظر: القوانين الفقهية: 217 الدار العربية للكتاب - ليبيا - تونس: 1988
(2)
انظر المهذب: 67/2.
(3)
عن فتح الباري 308/9.
(4)
المرغياني: الهداية: 217/1 (ط-المكتبة الإسلامية) .
عند الحنابلة:
المعروف عن الإمام أحمد انه لم يخالف مالكا ولا أبا حنيفة في حكم العزل ولا في حق المرأة في الوطء، فقد فصل هو الآخر فعلق الإباحة على إذن الحرة، وقال بالحرمة إن لم تأذن وجعل الحق للسيد في العزل عن الزوجة الرقيقة لحقه في الولد ولم يبح دون إذنه.
قال ابن القيم: وهذا منصوص أحمد رحمه الله (1) .
ومن أصحاب أحمد من منع العزل بكل حال، كما قال بمنعه أبو محمد بن حزم الظاهري، ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة، ولا يباح دون إذنها حرة كانت أو أمة.
قال ابن القيم: "فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال ومن حرمه مطلقا احتج بما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة رضي الله عنهما"(2) .
خلاصة المذاهب:
مما أسلفنا من أقوال علماء المذاهب السنية يتبين لنا من هؤلاء العلماء من قال بالجواز مطلقا بناء على عدم وجود نص صريح في النهي. ومنهم من قال بالمنع مطلقا، إستنادا إلي حديث مسلم عن جذامة بنت وهب أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي.
ومنهم الجمهور الذين فصلوا بين الحرة والأمة الزوجة أو السرية، وحجتهم ما رواه عبد الرزاق بسند صحيح عنده عن ابن عباس أنه قال:((تستأمر الحرة في العزل، ولا تستأمر الأمة السرية، فإن كانت أمة تحت حر، فعليه أن يستأمرها)) .
قال الحافظ: (وهذا نص في المسألة، فلو كان مرفوعا لم يجز العدول عنه)(3) .
(1) انظر: زاد المعاد: 1604 (المطبعة المصرية القاهرة) .
(2)
انظر: زاد المعاد: 16/4 (المطبعة المصرية القاهرة) .
(3)
فتح الباري: 308/9.
القضية الثانية
الإجهاض والإعقام
تقديم:
الإجهاض هو إسقاط الجنين قبل تمام خلقه أي قبل موعد ولادته وتمام استعداده للحياة خارج رحم أمه.
وقد أدرك الفقهاء ما أدركه الأطباء منذ قرون متطاولة من أن تكوين الجنين في الرحم يمر بسبعة أطوار، تبدأ بالتقاء المائين الأمر الذي قد ينشأ عنه اللقاح والإخصاب، وعندما يتم ذلك تبحث البويضة عن مكان عيشها واستقرارها إلى زمن الانفصال وهو زمن الولادة، ومكان عيشها، هو مكان ما ميسر لها في جدار رحم الأم، فتعلق به لتمتص قوتها الذي يأتيها رغدًا في كل حين بإذن ربها، وعلى هذا العطاء تنمو وتقطع مراحلها مرحلة بعد مرحلة إلى نهاية المطاف، وفي ذلك آية من آيات الخلق العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فالأطوار السبعة مقسومة إلى قسمين، الفاصل والمميز بينهما هو نفخ الروح الذي ينتقل به الجنين من حياة إلى حياة، من حياة الإعداد والنمو إلي حياة الحس والحركة، والفارق بين الحياتين أن حياة الإعداد والنمو هي حياة خلية نمت حتى صارت كتلة من الخلايا، مارة بمراحل انطلاقا من مرحلة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، ومسافة كل مرحلة أربعون يوما، وفي ختام المائة والعشرين يوما يقدر الله نفخ الروح وعندها يتغير كل شيء وتبدأ مرحلة الحس والحركة، لأن الجنين أصبح يحس وأصبح يتحرك وأصبحت الحامل به أما تتعامل معه وتؤثر فيه، ونستطيع أن نقول: إن تربيته تبدأ من هذا الحد.
ونعني بذلك تربيته الجسمانية وما سيكون لها من استعداد وطاقة لتغذية عقل مدرك ونفس كبيرة، وقد ردد حكماء العصر: أن العقل السليم في الجسم السليم.
إن حياة الجنين في مرحلته الثانية هي حياة مخلوق له روح ويمر بمراحل الاكتمال لينزل إلى دنيا الناس بشرا سويا.
وبناء على الفارق الواضح بين مرحلة الإعداد والنمو أو مرحلة التكوين الجسمي المحض، ومرحلة الحس والحركة، وهي مرحلة ما بعد نفخ الروح، حيث أصبح الجنين يحس فتحس الأم بإحساسه ويألم فتألم الأم بآلامه.
أدرك الأطباء الفرق الكبير بين إجهاض المرأة قبل نهاية الشهر الرابع أي قبل نفخ الروح، والجنين حينئذ ليس إلا كتلة من الخلايا أو قطعة من اللحم خالية من حياة ذوي الأرواح وإنما حياتها مثل حياة عالم الجمادات، وبين الإجهاض بعد نفخ الروح، فالإجهاض في المرحلة الأولى ليس فيه خطورة على الأم كالإجهاض في المرحلة الثانية.
بناء على هذه المدركات التي اشترك فيها علماء التشريح وعلماء الشريعة حصل الإجماع على الأمرين التاليين:
الأول: إن الإجهاض ليس كالعزل، إذ في الإجهاض جناية على موجود بخلاف العزل.
الثاني: إن الإجهاض قبل نفخ الروح ليس كالإجهاض بعده؛ لأن الإجهاض قبل نفخ الروح جناية على أصل الجنين وبذرته، أما بعده فالجناية على كائن مخلوق له روح.
حكم الإجهاض
اتفق علماء المسلمين على أن إسقاط الحمل ومحاربته بعد نفخ الروح جناية محرمة؛ لأنها جناية على حي، وأوجبوا فيها الدية إن نزل حيا، والغرة إن نزل ميتا، وهذا إذا لم تدع ضرورة إلي إسقاطه أو إزالته مثل ضرورة المحافظة على حياة الأم عملا بقاعدة: ارتكاب أخف الضررين وقاعدة: الأصل المستقر قبل الفرع المنتظر، ومثيلتها: لا يعدم الأصل من أجل الحصول على الفرع.
فليس في هذا الأمر خيار للأبوين ولا لغيرهما؛ لأن الحق لله والحكم متعين، فيتعين إسقاطه إذا توقف على ذلك إنقاذ حياة الأم، وثبت ذلك من طريق موثوق، كما يتعين إبقاؤه واحترام حياته كما تحترم حياة كل إنسان – فيما عدا ذلك.
أما قبل نفخ الروح يعني قبل نهاية الشهر الرابع من الإخصاب فقد جرى في ذلك خلاف بين العلماء، ومبنى هذا الخلاف شيئان:
أ - هل يعتد بحياة الإعداد والنمو؟ وهل لها حرمة كحياة من نفخت فيه الروح؟
ب - لمن الحق في الولد؟ هل للأب؟ أو للأبوين؟ أو لهما وللأمة جميعا؟
من العلماء من اعتبر حياة المادة التي منها يتكون الجنين قبل نفخ الروح ولم يفرق بينهما وبين حياة الجنين بعد نفخ الروح، باعتبار أن الوجود حاصل في الكل، وأن الحياة أمر لا ريب فيه في الكل، وإن اختلفت هذه الحياة تبعا للأطوار التي يمر بها هذا الجنين، وبناء على ذلك لا يجوز الإجهاض بدون عذر معتبر شرعا، وتشتد الحركة من طور لآخر فليست حرمة إسقاطه قبل نفخ الروح كالحرمة فيما بعد ذلك بدليل ما أسلفنا من وجوب الدية في حالات، ووجوب الغرة في حالات أخرى، مع ما يقترن به ذلك من تعزير يقدره القاضي بحسب جسامة الجريمة فليس إسقاط الحمل في طور النطفة كإسقاطه في طور العلقة وهكذا.
ومن هؤلاء العلماء الإمام الغزالي وهو وإن بدا موقفه غير متشدد في أمر العزل إذ جوزه ولو كان الباعث عليه استبقاء جمال المرأة أو الخوف من خطر الطلق والولادة، فإنه يعتبر الإجهاض جناية على موجود حاصل إذ قال:"وليس هذا - أي العزل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل وله أيضا مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت علقة ومضغة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا"(1) .
ومن هؤلاء العلماء القائلين بالحرمة والمنع كل الذين قالوا بحرمة العزل إذ الحرمة عندهم هنا بالأولوية.
ومن العلماء من اعتبر حياة الجنين في الطور الأول (طور الإعداد والنمو وقبل نفخ الروح) حياة مادة ليست هي حياة الإنسان التي كرمها الله لاقترانها بالروح، فلا جناية إلا مع إزهاق الروح، وحيث لا روح في المادة الأولى التي منها الجنين فلا جناية وإذا لم يكن الحكم عند هؤلاء هو الحرمة
…
فهل الحكم هو الكراهة أو الإباحة؟ خلاف بينهم في ذلك، جاء في الذخيرة "لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن نفخ الروح، هل يباح لها ذلك أم لا؟ " اختلفوا فيه (2) .
ولقد ثبت علميا أن للإجهاض في مدة الحمل الأولي انعكاسات ومخلفات تتفاوت مضرتها وخطورتها بتقدم زمن الحمل وباختلاف أبدان الأمهات، وتشتد الخطورة إذا تكرر الإجهاض مع قصر الفواصل، وفي هذا دليل على أن الإجهاض فيه معاكسة للطبيعة ومناقضة لسيرها، وما كان كذلك لا يترجح القول فيه بالإباحة، بل الذي يقتضيه النظر الوجيه أن يدور الحكم بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه بحسب الأوضاع والحالات والأشخاص، أما القول بالإباحة فهو خلاف الراجح عند العلماء من الفقهاء والأطباء.
هذا في فترة الحمل الأولى، أما الفترة الثانية التي تعقب نفخ الروح فقد أسلفنا ذكر الاتفاق بين الفقهاء على حرمة إسقاط الحمل فيها بغير ضرورة وهذا هو الذي يراه الأطباء؛ لأنهم يقررون أن الأمر لا يخلو من خطورة ومجازفة بحياة الأم.
(1) الإحياء: 51/2.
(2)
عن شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة: 216 (دار القلم – القاهرة) .
حكم الإعقام
الإعقام من قولهم: أعقم الله رحمها فعقمت (على ما لم يسم فاعله) إذا لم تقبل الولد (1) والإعقام في المرأة يكون بإفساد رحمها حتى يصير رافضا للإخصاب أو بإفساد مائها أو بإفسادهما معا، وهو عبارة عن شل عضو أو إفساد جهاز في الجسم مما خلق الله، ولم تأت الشرائع بذلك أصلا ولم تبحه ولا أباحه العلم؛ لأنه ضرب من إفساد ما خلق الله تعالى والله لا يحب الفساد.
ويكون الإعقام في الرجل، فيقال: رجل عقيم، بمعنى لا يولد له، كما يقال امرأة عقيم؛ لأنه من الأوصاف التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، ويكون إعقام الرجل قديما بالخصاء، وصار اليوم بما يعرف بربط القنوات أو بتناول بعض العقاقير المفسدة لمائه إن صح ما بلغنا من بعض طلاب العلم في الطب.
وقد ورد في شأن الخصاء الحديث المتفق عليه، وهو عند البخاري من طريق قتيبة عن جرير عن إسماعيل عن قيس قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود -: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء - وللبخاري من طريق: محمد بن المثني عن يحيى في باب تزويج المعسر: وليس لنا نساء - فقلنا: ألا تستخصي؟ فنهانا عن ذلك"(2) .
قال الحافظ: "هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم" ثم بين سبب الحرمة فأفاد أن السبب يرجع إلى عدة مفاسد منها قطع النسل، ومنها تعذيب النفس والتشويه من إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك، ومنها أن فيه تغيير خلق الله وكفر النعمة.
وقد منعت الشريعة قطع نسل الحيوان، واستثنوا من ذلك الخصاء من أجل تطييب اللحم في الأنعام ما دامت في حال الصغر، حتى لا يشتد تعذيبها عند الكبر، فكيف يكون الحال في الإنسان؟ (3)
وتعضيدا لحديث البخاري نقل الحافظ ما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ قال: ((ليس منا من خصى أو اختصى)) .
هذا هو حكم الإعقام الذي به يقطع النسل بلا رجعة، مثل الإخصاء عند الرجال، أو استئصال الرحم عند المرأة لغير علاج، وإنما يقصد قطع النسل عن المرأة المعافاة".
أما إذا اتخذت وسائل الإعقام بقصد التصبير وإرجاء الحمل لأجل محدد بحيث يمكن إزالتها بزوال سببها والعودة إلى الإنجاب، فإن ذلك يأخذ حكم العزل، لأنه به أشبه ولأنه لا إفساد فيه ولا تغيير لخلق الله.
(1) قاله مختار الصحاح.
(2)
انظر: البخاري: كتاب (76) النكاح، باب (6) تزويج المعسر وباب (8) ما يكره من التبتل والخصاء.
(3)
فتح الباري: 118/9-119 بتصرف.
القرار في النسل يتبع الحق في الولد
لكن يبقي السؤال القائم كالتالي:
-من الذي يملك حق الولد وحق القرار في الإنجاب أو عدمه؟ هل هو الزوج وحده؟ أو الزوج بالاشتراك مع الزوجة؟ أو هما بالاشتراك مع الأمة التي تمثلها الدولة؟
اختلفت في ذلك أنظار العلماء إلى أربعة آراء:
الأول: إن الولد حق للوالد وحده، فإن شاء أنجب وإن شاء لم ينجب وذلك نظرا لكونه رب الأسرة، وهو المسؤول عن القيام على أبنائه نفقة وتأديبا وإعدادا للحياة الجادة كما يريدها الله تعالى، ومن هؤلاء الإمام الغزالي الذي جوز العزل للزوج دون توقف على إذن الزوجة فهو الذي يكون له القرار وتبعا لذلك له الإنجاب إن رامه.
الثاني: إن الولد حق للأبوين بالإشراك، ومن غير اختصاص أحدهما دون الآخر؛ لأن الأبناء من زينة الحياة ومتعها وليس ذلك للآباء دون الأمهات، ولأن الأم لا تقل مسؤوليتها عن الأب بل قد تفوق مسؤولية الأب إذا اعتبرنا أن مسؤوليتها التربوية للولد تبدأ من أيام الحمل وتعظم في مرحلة الطفولة الأولى.
ومن هؤلاء أئمة المذاهب الذين اشترطوا موافقة الزوجة للترخيص في العزل.
الثالث: إن الولد حق مشترك بين الوالدين والأمة مع تغليب حق الوالدين والقائلون بهذا هم العلماء من فقهاء الأمصار، الذين أفتوا بكراهة العزل وكراهة تحديد النسل مطلقا ولو باتفاق الأبوين، لأن الأمر لا يخصهما على انفراد، بل هو لهما على وجه الأمانة حتى يعد للأمة جيل المستقبل الصالح.
ومن القائلين بهذه الكراهة أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس في إحدى الروايتين عنه.
ومن أصحاب هذا الرأي الإمام النووي والشافعي وموفق الدين ابن قدامة الحنبلي.
الرابع: أن الولد حق مشترك بين الوالدين وبين الأمة مع التغليب المطلق لحق الأمة، وهو مذهب القائلين بحرمة العزل وحرمة كل ما يمنع الولد، فالأبوان بمثابة الوكيلين والوكيل معزول – كما يقول الفقهاء – عن غير المصلحة من هؤلاء أبو حاتم محمد بن حبان البستي الشافعي صاحب الصحيح والإمام أبو محمد بن حزم الأندلسي الظاهري.
وإذا قلنا بتحديد حق الأبوين وتغليب حق الأمة فهل للدولة أن تتكلم باسم الأمة لتقرر تحديد النسل أو الزيادة فيه؟
الجواب: لا يكون بنعم أو لا؛ لأن المسألة تتعلق بشرعية القرار الذي تتخذه الدولة لا من الناحية الشكلية باعتبار أنها دولة لها (الحق وحدها في أخذ القرار وحماية المصالح) ولكن من ناحية جوهر القرار وتمشيه مع روح الشريعة وعقيدة المسلم وإيمانه بربه. هذا الإيمان الذي تنكرت له العلمانية ولم يتنكر له العلم الصحيح.
ولكي يكون قرار الدولة الإسلامية في هذا الصدد مسموعا ومطبقا من المسلمين يتعين اعتبار ما يأتي:
1-
أن لا يكون علمانيا فيه إلزام لكل الأسر سواء بتقليل النسل أو بتنظيم الإنجاب أو المباعدة بين الولادات، أو كان المراد منه تكثير النسل بالترغيب في الزواج والمكافأة على الإنجاب، بل يكون قرارا يدعو الناس والأسر إلي الإتيان من ذلك ما في وسعهم وعلى حسب طاقتهم، وظروف عيشهم، والوسائل المتاحة لهم.
2-
أن يكون الباعث على القرار الالتزام بالمصالح الشرعية التي فيها مصلحة الأمة وحثها على السعي إلى غد أفضل وإلى تحقيق المزيد من المناعة والقوة، وليس الباعث ما يشير به الخبراء الأجانب ممن قامت تقديراتهم وأبحاثهم على معطيات مادية اقتصادية بحتة كأن المادة هي كل شيء، وكأن الاقتصاد هو الذي يرزق الذرية وهو الذي يقدر موتهم أو حياتهم وقد علمتنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أن المادة والمال قد يكون نقصهم عائقا أمام تحقيق الغايات، لكن لا يثنينا ذلك عن المضي قدما قصد تسخير المادة وتحصيل المال وتذليل الصعوبات، فلا نحدد النسل بدعوى نقص الموارد مع الإبقاء على استهلاك متهور غير رشيد، بل نرشد الاستهلاك ونتعلم حسن القناعة ونبقي على التناسل والنمو العادي للأمة، روى أحمد في مسنده من طريق هاشم بن القاسم وحسن بن موسى عن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال:
"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر، لم يجد لنا غيره قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة قال: قلت: كيف تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل"(1) إلى آخر الحديث فما كانت المادة لتعوق عن المهمات العسكرية وقضايا الجهاد، فكيف نتخذ منها تعلة لتحديد النسل؟ مع أن الذي يهدد نسلنا إنما هو تدهور القيم وانحطاط الأخلاق أو ما سماه بعض الحنفية بفساد الزمن الذي يبيح التحرز من الإنجاب.
3-
أن تكون الدولة ذات أخلاق ومصداقية: ذات أخلاق تدفعها إلى التعامل مع أحكام الإسلام بصدق، وذات مصداقية؛ لأنها لا تتناقض مع نفسها فالدولة إذا شجعت على كثرة النسل تفقد مصداقيتها إذا لم توفر لهذا النسل ما به ينشأ على الإيمان بالله والاستقامة وحسن التربية والإقبال على مختلف العلوم والمعارف.
والدولة إذا نفرت من كثرة النسل بدعوى العجز الاقتصادي ومحدودية الدخل والموارد بالنسبة للأمة لا يبقى شيء من مصداقيتها، ولا يسمع لها قول أو قرار أو رأي إذا هي بذرت الأموال في ميزانها للتصرف واستوردت المحظورات وأكثرت من شراء الكماليات وسمحت للأيدي أن تجول في الأموال والأملاك العمومية، وهل يدعو إلى الرشاد من لم يرشد؟
أمر النسل تكثيرا أو تحديدا أو تنظيما أو إعقاما أو إجهاضا له صلة بعقيدة المسلم وشريعته فلا يتقبل فيها المسلم ما يقوله العلمانيون ولو صادف الحق وواقع التشريع، حتى يسمع من علماء المسلمين الذين ورثوا عن الأنبياء أمر البلاغ لهذه الأمة ولعل أمر هذا البلاغ هو خير ما دعا إلى تأسيس مجمعنا الفقهي الإسلامي هذا.
والحمد لله بدءًا وختاما مع خير صلاة وأزكى سلام على الحبيب رسول الله.
الطيب سلامة
(1) المسند: 311/3.