الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحديد النسل وتنظيمه
إعداد
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
أستاذ في قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وعرض لخطة البحث
الحمد لله ملهم الخير، دل عباده على طريق الصواب ثم ألزمهم به، ونبههم إلى مزالق الردى ثم حذرهم منها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فيحسن أن أضع القارئ الكريم أمام خطة لهذا البحث تبين له هيكله العام، وتسلسل جزئيات مسائله المرتبة بعضها على بعض حتى يكون على بينة من خارطة البحث ونهجه وكيفية تسلسله.
وهذه هي الخطة، وعلى نهجها بتوفيق الله نسير:
1 – تحرير محل البحث وتحديده.
2 – تمهيد: متى وكيف بدأت فكرة تحديد النسل أو تنظيمه؟
3 – حكم المسألة في الميزان الفقهي:
أ – مقدمة تتضمن بيان القاعدة الفقهية القائلة: ليس كل ما هو مشروع للفرد يشرع للجماعة.
ب – حكم تحديد النسل للأفراد.
جـ - حكم تحديد النسل في حق المجتمع بتوجيه من القادة.
4 – دراسة المسألة في الميزان الاجتماعي والديموغرافي.
5 – وأخيرًا المشكلات الجزئية التي تقتضي الحد من النسل أو تنظيمه محلولة، والمصلحة الكلية تتمثل دائمًا في أن يكون الزواج للإنجاب لا لمجرد المتعة والاقتران.
هذا وأسأل الله تعالى الرشد والتوفيق.
تحرير محل البحث وتحديده
كلمة (تحديد النسل) أو (تنظيم النسل) تعني في المصطلح الشائع اليوم كل ما قد يتبعه الزوجان من الوسائل والأسباب التي من شأنها أن تحول دون نشوء الحمل، كليًا أو جزئيًا، أي دائمًا أو في أحوال وفترات دون أخرى.
ويدخل في هذه الوسائل العلاجات المختلفة التي تلجأ إلى استعمالها الزوجة ومنها العزل الذي قد يمارسه الزوج لأسباب اقتصادية أو اجتماعية.
إذن فلا يدخل في هذا المصطلح الإجهاض بأنواعه، من كل ما يعد إسقاطًا للجنين أو لمادة الجنين بعد العلوق.
إن المراد بتحديد النسل في بحثنا هذا كل ما يدخل في مضمون العمل الوقائي ضد الحمل لا الوسائل العلاجية التي تتخذ لإسقاطه.
كما أن مرادنا بتحديد النسل هذا ذاك الذي يمارسه الزوجان ابتغاء هدف اقتصادي أو تربوي أو اجتماعي كما أوضحنا، فلا يدخل في بحثنا هذا ما قد يلجأ إليه مرتكبوا الفواحش، نساء أو رجالًا، من الوسائل الكفيلة بمنع الحمل، فإن لهذه الحالة موازين خاصة بها من النظر والاعتبار.
متى وكيف بدأت فكرة تحديد النسل؟
من المعروف لدى علماء التاريخ والاجتماع أنه سادت بعض العشائر البدائية في بعض العصور القديمة عادة قتل الأولاد لأسباب متعددة، لعل من أكثرها شيوعًا الرغبة في التخفيف من أعباء الحياة.. ولما كان البنون أكثر نفعًا لآبائهم في أعمال الإنتاج، فقد كانت البنات وحدهن ضحية هذه العادة، هذا ما يقرره كثير من الباحثين (1) .
غير أن هذه العادة لم تكن مضطردة، فكثيرًا ما كان الآباء يصطفون لأنفسهم البنات، فلا يقع القتل إلا على الذكور، مما يبعث على الريبة في السبب الذي افترضه أولئك الباحثون.
(1) انظر الأسرة والمجتمع للدكتور علي عبد الواحد وافي: ص 42 و 101.
ولقد شاع القتل لكل من الجنسين لدى كثير من القبائل البدائية في أستراليا وغيرها، إذ كثيرًا ما كانت الأم تحرص على التخلص من وليدها دون نظر إلى الجنس، ولعل ذلك كان يتم لمجرد أسباب شخصية تعود إلى رغبة الأم وربما الأب أيضًا، في التخفيف من مشقات التربية، وفي الركون إلى مزيد من الراحة والدعة.
وفي إسبرطه كانت التقاليد المتبعة تقضي بأن يختبر الوالد وليده الصغير فور ولادته، فإن وجده ضعيفًا أو مريضًا أو مشوهًا لم ير مانعًا من القضاء عليه بأيسر طريق (1) .
كما أن عادة قتل الأولاد كانت سارية عند كثير من القبائل العربية في الجاهلية، مثل كندة، وربيعة، وطيء، وتميم، وغيرها.. والصحيح أن الدوافع إلى ذلك كانت مختلفة، فربما كان الحامل على ذلك خوفًا من الفقر والإملاق، وفي هذه الحال كان الهلاك كان يقع على كل من الذكور والإناث، وربما كان خوفًا من العار أو سيرًا وراء بعض المعتقدات الأسطورية التي تقضي بكون الأنثى من الإنسان رجسًا من الشيطان، وفي هذه الحال كان القتل يستحر بالبنات وحدهن (2) .
وأيًا كان الأمر فإن التخلص من النسل أو كثرته لم تكن تعتمد عند تلك الجماعات والشعوب على أي طريقة وقائية سابقة، على نحو ما صورنا وحددنا في نقطة تحرير البحث.. بل كان يأخذ شكل التدارك للأمر من بعد الولادة بواسطة القتل.
(1) دائرة المعارف لفريد وجدي: 4/432، وقصة الزواج والعزوبة في العالم لعلي عبد الواحد وافي ص 122.
(2)
الأسرة والمجتمع: ص 102، وانظر لسان العرب مادة (وأد) .
وإذا استثنينا النظام الذي كان سائدًا في إسبرطه وأثينا فيما يتعلق بهذا الأمر، فإن هذا الذي كانت تقدم عليه سائر القبائل والشعوب الأخرى، إنما كانت مدفوعة إليه بدافع من جهالتها وبدائيتها في التعامل مع الحياة وأسبابها
…
ولم يكن لدى أي قبيلة أو فئة من مجموع أولئك الناس أي انطلاقة علمية أو ثقافية مهما ضؤلت قيمتها إلى تلك العادة المتبعة.
ولقد تقدمت الشعوب والأمم صعدًا فيما بعد على درب العلم والحضارة، فترك كثير منها كثيرًا من عاداتها وتقاليدها المتخلفة وراءها.. بما فيها هذه العادة ذاتها، وظل الأمر مستمرًا على ذلك أجيالًا متعاقبة من الزمن.
إلا أن الثلث الأخير من القرن الثامن عشر شهد ولادة جديدة لهذا الاتجاه بأسلوب متطور.. لقد ولد هذه المرة في رحم من المسوغات والحيثيات العلمية والحضارية بعد أن كانت ولادته الأولى ضمن ظلمات من تلافيف الجهل والخرافة.
فقد نشر القس والعالم الاقتصادي البريطاني (مالتوس) مقالًا بعنوان (تزايد السكان وتأثيره في تقدم المجتمع في المستقبل) وذلك في عام 1798 أوضح فيه أن وسائل الإنتاج وأسباب الرزق في الأرض محدودة، غير أنه لا يوجد حد لتزايد السكان وتضخم النسل. فإذا ترك الأمر بدون تنسيق، فإن المفروض أن يأتي يوم تضيق الأرض فيه بسكانها وتقل فيه وسائل العيش عن تلبية حاجاتهم.. ثم اقترح الكاتب القس لتنفيذ هذا التنسيق سبيلين اثنتين:
أولهما: ألا يتزوج الشباب إلا بعد أن يتقدم بهم السن.
ثانيهما: أن يبذل الأزواج بعد أن تظلهم الحياة الزوجية قصارى جهدهم في سبيل الإقلال من الإنجاب (1) .
(1) كان هذا المقال من أهم ما حمل داروين على طرح فرضيته المتعلقة بأصول الأنواع. وانظر مقدمة كتابه: أصل الأنواع.
وما كادت أصداء مقالته هذه تنتشر في ربوع أوروبا، حتى كتب الباحث الفرنسي فرنسيس بلاس Francis Palace مقالًا ينادي فيه بدعوة مالتوس، ويؤكد فيه ضرورة الحد من تزايد السكان. وبعد حين ظهر في أمريكا مقال للطبيب المشهور تشارلس كنورتون Charles Knorotton يؤيد فيه الفكرة ذاتها مقدمًا اقتراحاته ضمن آراء وتدابير طبية يمكن الاستفادة منها.
وسرعان ما لقيت هذه الدعوة رواجًا في الأوساط المختلفة، وصادفت من الغرب المقبل على بحر من التحلل لا شاطئ له ولا قرار، تربة صالحة، ووجد الباحثون عن اللذة والهاربون من مغارم المسئولية في الاستجابة لها ما يحقق بغيتهم ويعينهم على تحقيق أهدافهم وهذا شيء متوقع من أناس هذه هي حالهم.
ولكن لابد أن نتساءل: هل صدقت قواعد العلم، أو هل صدق الواقع الممتد من أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن العشرين، شيئًا من تصورات مالتوس؟ وأحسب أن قرنين من الزمن فيهما فرصة كافية للكشف عن حقيقة هذه النبوءة.. نبوءة تناقص وسائل الرزق عن عدد الأناسي الذين أحصاهم مالتوس في خياله الممتد إلى آفاق الزمن المقبل.
إن الذي أثبتته الدراسات العلمية الموضوعية، ودلت عليه تجارب الأمم ووقائع الأزمنة والتاريخ، نقيض ما قد تصوره مالتوس ومن انساقوا وراء افتراضاته، فلنشرح ذلك بالقدر الذي يتناسب وطبيعة هذا البحث، على أن نبدأ قبل كل شيء، فنستجلي حكم هذه المسألة في الميزان الشرعي، فقد كانت حقائق العلم ولا تزال لاحقة بحكم الشرع وخاضعة له، ذلك لأن حكم الشرع ليس إلا قرار خالق العلم وقواعده ومحال أن يقع بينهما أي تناقض أو تشاكس.
حكم المسألة في الميزان الفقهي
لهذه المسألة حكمان مختلفان، أولهما يتعلق بالأفراد، وثانيهما يتعلق بالمجتمع الذي تمثله الدولة وينطق باسمه الحاكم أو الإمام، فلنبدأ ببيان الحكم الأول منهما، وهو الحكم الذي يخاطب به الفرد صاحب العلاقة.
أولًا: عرض لأهم الأحاديث الواردة في هذه المسألة:
1 – روى البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل.
2 – روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((أوإنكم لتفعلون؟!)) قالها ثلاثًا، ((ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) .
3 – روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) . ورواه أيضًا بألفاظ مقاربة أبو داود والطبراني والإمام أحمد.
4 – روى مسلم والبخاري وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أن صلى الله عليه وسلم سُئل عن العزل، فقال:((لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر)) .
5 – روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ولم يفعل ذلك أحدكم؟)) ، ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، ((فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) .
6 – روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا (أي تسقي لنا) وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال:((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)) . ورواه أيضًا بألفاظ قريبة أبو داود والإمام أحمد.
7 – روى مسلم وابن ماجه والإمام أحمد عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة حديثًا طويلًا جاء فيه: ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك الوأد الخفي".
8 – وروى الترمذي والنسائي كل منهما عن طريق معمر، عن يحيى بن كثير عن جابر قال: كانت لنا جوار وكنا نعزل، فقال اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:((كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده)) .
ما الذي نفهمه من هذه الأحاديث؟
إذا استثنينا الحديث السابع من مجموع هذه الأحاديث، لاحظنا أن سائر الأحاديث الأخرى دالة على جواز العزل عن المرأة اتقاء الحمل، وإن كانت لا تخلو من دلالة علي الكراهة، فقول جابر في الحديث الأول: كنا نعزل على عهد رسول الله في قوة قوله: كان يعلم أننا نعزل وكان يقرنا على ذلك، وإلا لم يكن لقوله: على عهد رسول الله معنى.
وقد نقل الإمام النووي في مقدمة المجموع، أن مثل هذا التعبير من الصحابي يجعل الحديث في قوة المرفوع، بل عده البعض في حكم المرفوع، حتى وإن لم يضفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن نقل النووي الخلاف في ذلك قال: وظاهر استعمال كثير من المحدثين وأصحابنا في كتب الفقه أنه مرفوع مطلقًا، سواء أضافه أم لم يضفه، وهذا قوي، فإن الظاهر من قوله: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، الاحتجاج به وأنه فعل على وجه يحتج به، ولا يكون ذلك إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغه (1) .
(1) المجموع للنووي: 1/60، وانظر فتح الباري: 9/245.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: ((أوإنكم لتفعلون؟)) يحتمل الاستنكار على وجه الكراهة التنزيهية، ويحتمل الاستنكار على وجه التحريم، كما أن قوله في الحديث الثالث والرابع:((لا عليكم ألا تفعلوا)) ، يحتمل الإذن والنهي، إذ يحتمل أن يكون معنى هذه الجملة ليس عليكم أن تتركوا ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تعزلوا وعليكم إثم ذلك.
إلا أن نص الحديث السادس وهو قوله: ((اعزل عنها إن شئت)) رفع الاحتمال من كلا الجملتين، فبقيت الجملة الأولى دالة علي الكراهة، أما الثانية فدالة على عموم الإذن وعدم الحرج.
وإذن فإن سبعة أحاديث من مجموع ما أوردناه تدل على جواز العزل من حيث المبدأ ويقطع النظر عن الإباحة والكراهة. أما الحديث الذي يدل ظاهره على المنع فهو حديث جذامة بنت وهب، فما القول فيه؟
كيف نفهم حديث جذامة؟
نبدأ أولًا فنذكر الوجوه التي ذكرها العلماء في التوفيق بينه وبين الأحاديث الأخرى، ثم نختار من بين هذه الوجوه ما قد يبدو لنا أنه الأقرب والأوفق.
الوجه الأول: وذكره النووي في شرحه على مسلم، ويفهم من كلام الطحاوي في شرح معاني الآثار أن حديث جذامة يحمل النهي فيه على كراهة التنزيه، ويحمل الإذن الوارد في الأحاديث الأخرى على عدم الحرمة، فيكون القدر المشترك في دلالة الأحاديث كلها هو كراهة التنزيه (1) .
(1) النووي على مسلم: 10/8، وشرح معاني الآثار للطحاوي: 3/30.
الوجه الثاني: تضعيف حديث جذامة بسبب كثرة الأحاديث الصحيحة المعارضة له، وبسبب أن حديث تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود أكثر طرقًا، إذ أن النسائي قد أخرجه من طريق هشام وعلي بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مطيع عن أبي سعيد.. ومن طريق ابن عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة.. ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل، فقال: زعم أبو سعيد.. إلخ، قال: فسألت أبا سلمة: أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجل عنه.
فهذا الطريق الأخير وإن كان فيه مجهول، إلا أنه معزز بالطرق المذكورة الأخرى وهي في مجموعها، بالإضافة إلى الأحاديث الأخرى الصريحة في جواز العزل، تقضي بضعف حديث جذامة المنفرد في مضمونه عن كل ما قد روي عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
الوجه الثالث: أن مضمون حديث جذامة وهو المنع، كان معمولًا به في أول الإسلام، ثم إنه نسخ فيما بعد بالأحاديث الأخرى الدالة على الجواز.
الوجه الرابع: وإليه ذهب ابن حزم، أن حديث جذامة هو الذي يجب العمل به، لثبوته في الصحيح، ولاضطراب الطرق الواردة للحديث المقابل له، ولأن حديث جذامة دال على المنع، فهو رافع لحكم الإباحة الأصلية، وهذا أمر متيقن، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت وأن النسخ المتيقن قد بطل، فقد ادعى الباطل، ونفى ما لا علم له به، وأتى بما لا دليل عليه (1) .
(1) المحلى لابن حزم: 10/88.
الوجه الذي نرجحه:
إن القول بتضعيف حديث جذامة للأسباب التي ذكرناها قول لا يستند فيما نرى إلى دليل صحيح، ذلك لأن دعوى التعارض في أصلها غير صحيحة، بل غاية الأمر أن قوله عليه الصلاة والسلام:((ذلك الوأد الخفي)) يشير إلى كراهة العزل تنزيهًا، وليس فيه ما يقطع بالدلالة على التحريم، مع ملاحظة أن أقواله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخرى دالة على أصل الجواز الصادق بالكراهة والإباحة، فانتفى التعارض، فانتفى بذلك موجب الشذوذ الباعث على التضعيف.
وقد قال الحافظ ابن حجر عن هذا الوجه: وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن (1) .
وأما القول بأن مضمون حديث جذامة، وهو النهي، كان ساريًا في أول الإسلام، ثم نسخته الأحاديث الأخرى الدالة على الجواز، فيرده أن من شروط النسخ معرفة تاريخ كل من الناسخ والمنسوخ، وليس ثمة ما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بحكم التحريم أولًا، ثم أخبرهم بعد حين بحكم الجواز.
وأما قول ابن حزم بأن المنع في حديث جذامة جاء نسخًا لأحاديث الإباحة الأصلية، فيرده قول جابر رضي الله عنه فيما رواه الستة ما عدا أبا داود: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، فلو لم يكن جواز العزل مستمرًا إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، لما قال جابر ذلك، ولأوضح أن آخر ما استقر عليه الحكم هو التحريم.
ويرده أيضًا أن كلامه هذا يعني أن حديث تكذيب النبي لليهود منسوخ، فيقال له عندئذ عين ما يقوله هو لنا، ويطالب هو نفسه بالدليل الذي يثبت أن حديث تكذيب اليهود منسوخ ولا دليل، ذلك لأن دعواه بأن حديث جذامة قد نسخ الإباحة الأصلية، ليست أولى من دعوانا نحن بأن حديث تكذيب النبي لليهود قد نسخ حديث جذامة، هذا كله نقض إجمالي.
أما النقض التفصيلي فهو أن يقال لابن حزم: ليس ثمة أي تعارض، كما قد أوضحنا، ومن ثم فإن اللجوء إلى القول بالنسخ غير وارد في هذا الصدد مطلقًا.
إذن فقد بقي الوجه الأول الذي رويناه عن النووي وأيده الحافظ ابن حجر والطحاوي وجماهير الفقهاء والمحدثين، وهو الوجه المتعين الذي لا محيد عنه، وهو أن العزل (كأداة من أدوات التحايل لمنع الحمل) جائز مع الكراهة التنزيهية.
(1) فتح الباري: 9/248.
حكم العزل عند الفقهاء بناء على هذه الأحاديث:
ذهب الأئمة الأربعة اعتمادًا منهم على مجموع الأحاديث المذكورة إلى جواز عزل الرجل ماءه عن زوجته مع الكراهة التنزيهية.
واتفق الأئمة الثلاثة (مالك وأحمد وأبو حنيفة) على أن ذلك مشروط برضا الزوجة، واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من وافق الجمهور في هذا الشرط، ومنهم من خالفه فأجازه بدون ذلك. قال الإمام النووي: العزل هو أن يجامع، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وهو مكروه عندنا في كل حال، ولكل امرأة سواء رضيت أم لا. إلى أن قال: وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم، وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم (1) .
وقال ابن جزي من فقهاء المالكية: لا يجوز العزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها (2) .
وقال ابن قدامة من فقهاء الحنابلة: ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها. قال القاضي: ظاهر كلام الإمام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل (3) .
وقال الإمام الكاساني، وهو من أئمة الحنفية: ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير رضاها، لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد، ولها في الولد حق، وبالعزل يموت الولد، فكان سببًا لفوات حقها، وإن كان العزل برضاها لا يكره؛ لأنها رضيت بفوات حقها (4) .
(1) شرح مسلم للنووي: 10/9.
(2)
القوانين الفقهية:160.
(3)
المغني لابن قدامة: 7/228.
(4)
بدائع الصنائع: 2/334.
قلت: والمقصود بالكراهة في كلام الكاساني كراهية التحريم، لأن الحنفية إذا أطلقوا الكراهة انصرفت إليها بمصطلحهم.
فقد تحصل من هذا أن الأئمة الأربعة متفقون على جواز العزل عن الزوجة، إذا كان ذلك برضاها، وإلا فالأئمة الثلاثة متفقون على التحريم، وللشافعية في ذلك وجهان، رجح الإمام النووي منهما عدم التحريم.
ولعل الذي يقتضيه الدليل ويتفق مع القواعد الفقهية ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط رضا الزوجة، أما الدليل فما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وأما القاعدة فهي قولهم (الضرر يزال) وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) بيان ذلك أن للزوجة في الولد حقًا مع الزوج، وفي توفيت هذا الحق إضرار بها.
ثم إن العزل من شأنه أن يفوت عليها لذة الجماع، فإن كان ذلك بدون رضاها فقد أضر بها.
ثم إن ثمة شرطًا آخر، هو في حكم المتفق عليه لدى الجميع، لدخوله تحت سلطان هذه القاعدة، ألا وهو أن لا يستتبع العزل أو ما يقوم مقامه ضررًا بالزوج أو الزوجة، فلو توقع الضرر من ذلك بعلم طبيب موثوق به وعادل، حرم اتخاذ تلك الوسيلة أيًا كانت.
(1) أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلًا، وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت.
يدخل في حكم العزل سائر الأسباب الوقائية:
الآن وقد علمنا حكم العزل وأدلته وشرائطه، فإننا نقول: إنه يقاس عليه كل ما قد يشبهه من الوسائل التي يتقي بها الزوجان أو أحدهما الحمل، كالحبوب التي تستعملها النساء، وكاللجوء إلى الجماع في الأوقات التي لا يتوقع فيها العلوق، ونحو ذلك من الوسائل التي قد يبدعها الأطباء لتحقيق هذا الغرض.
فكل ما اتفق عليه الزوجان من ذلك ولم يستتبع ضررًا بالجسم أو النفس بناء على مشورة طبيب موثوق، جاز استعماله مع كراهة التنزيه.
ونحن كما تعلم إنما نتحدث عن الزوجين وما قد يكون بينهما من لقاء مشروع، فأما الزنا وما قد يترتب عليه من محاولات لعدم العلوق، فلا شأن لنا بالحديث عنه في هذا المقام.
لا رخصة في استعمال وسائل لاستئصال النسل:
اتفق جماهير العلماء على أنه لا يجوز استعمال شيء من الوسائل التي من شأنها القضاء على النسل قضاء مبرمًا، سواء في ذلك الرجل والمرأة، وسواء أكان ذلك باتفاق بينهما أم بدونه، وسواء أكان الدافع دينيًا أم غيره (1) .
وذلك كأن يستعمل الرجل علاجًا من شأنه استئصال الطاقة على الجماع، وكإجراء عملية لرحم المرأة يفقدها صلاحية الحمل والإنجاب، ويدخل في ذلك ما يسمى اليوم بربط البوقين.
(1) انظر الأنوار للأردبيلي: 2/41، ومغني المحتاج: 3/126، والإقناع على شرح أبي شجاع: 4/40.
دليل حرمة ذلك أنه يدخل تحت ما يعد تغييرًا لجانب ذاتي من خلق الله عز وجل، وليس للإنسان أن يستقل بشيء من هذا التغيير، يقول الله عز وجل مبينًا ما أخذه إبليس على نفسه من بذل كل جهد لإغواء الصفوة من عباده:{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (النساء: 118 - 119) .
ومن أجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنميص وتزجيج الحاجبين وتفليج الأسنان والوشم، إذ كل ذلك داخل في مسمى التغيير الذاتي، بخلاف ما يدخل في معنى التهذيب والعناية كحلق الشعر والعناية به، وقص الأظافر وتكحيل العين ونحو ذلك.
وقد علمنا أن استئصال الشهوة الجنسية أو وسيلة القدرة على الإنجاب من أوضح أمثلة التغيير الذاتي لخلق الله، وقد حذر البيان الإلهي منه كما قد رأينا.
ولكن قد يرد علي ما قلناه السؤال التالي:
أرأيت لو أن طبيبين عادلين مختصين قررا أن فلانة من الناس يعرضها الحمل لخطر موت غالبي أو مؤكد، وأن ذلك يعود إلى حالة مرضية، الشأن أن تلازمها حتى الموت، ألا يجوز لها في هذه الحالة ربط البوقين، وهي معالجة تمنع الحمل منعًا دائمًا؟
مقتضى القواعد الفقهية أن يجوز لها الإقدام على هذا العمل استثناء من القاعدة العامة لاسيما وأن مرضها الطارئ قد تولى هو تغيير جانب ذاتي في حياتها إذ أفقدها القدرة على تحمل أعباء الحمل، فكان الربط الذي أقدمت عليه انسجامًا مع واقع التغيير الذي ابتلاها الله تعالى به. وكم من فرق بين هذه المرأة وتلك التي تتمتع بصحتها التامة وواقعها السوي، فتقدم على اجتثاث قابلية الحمل وأسبابه، لا شك أن هذه الثانية دون الأولى هي التي يصدق عليها أنها قد غيرت من خلق الله، والله أعلم.
كان هذا بيانًَا لحكم هذه المسألة في حق الأفراد أصحاب العلاقة المباشرة.
والآن ما هو حكم هذه المسألة في حق المجتمع المتمثل في الدولة إذ توجه وتأمر وتنهى؟
إننا نقول بكلمة موجزة شاملة: إن الدولة لا تستطيع أن تستفيد شيئًا من أحكام الجواز الذي أوضحناه في حق كل من الزوجين، ولا يحق لها أن تعتمد على شيء من أدلة ذلك الحكم في أي إجراء توجيهي تتخذه إلا أن يكون توجيهًا للناس إلى الحكم الشرعي ذاته، ذلك لأن الدولة ليست هي صاحب العلاقة المباشرة في الموضوع، وليست لها أي سلطة أو ولاية على شيء من أركانه.
وهذا الفرق في الحكم يتجلى في كل ما كان الجواز فيه على سبيل الرخصة والتوسعة، فإن حكم الجواز فيه يسري في حق الأفراد أصحاب العلاقة المباشرة، ولكنه يبقى في عمومه، وبالنظر لعامة الناس ومجموعهم على أصل العزيمة التي اقتضتها المصلحة العامة.
أرأيت إلى الطلاق؟ إنه حق أعطاه الشارع لصاحب العلاقة وهو الزوج بشروط وقيود معروفة، فهل للدولة أن تفرض لنفسها صلاحية ممارسة هذا الحق وصلاحية فرضه على من تشاء من الناس، أي بأن تجبر من تشاء على الطلاق أو بأن توقع هي الطلاق عنه عندما ترى أن المصلحة تقضي بذلك، محتجة بعموم الأدلة الناطقة بمشروعية الطلاق؟
كذلك أحكام الحد من النسل، فإنما هي عائدة – من حيث هي رخصة – إلي الشخصين اللذين يمثلان أركان القضية، فليس إذن للحاكم أن يحتج بهذا الحق لهما، فيبني عليه دعوة عامة إلي الحد من النسل، ويثير لذلك الدوافع والمرغبات، بل يشرع له الإلزامات الأدبية أو الجزائية بالوسائل المختلفة.
وأصل هذا الذي نقرره أن المباح في الشرع نوعان:
نوع يتفق مع حكم الأصل، بأن ينطوي على فائدة ومصلحة عامة للفرد والمجتمع، كالتمتع بالطيبات وتناول المنتفعات التي لا ضرر فيها، فحكم الإباحة في هذا النوع ماض في حكم الفرد والجماعة، يقضي به الفرد في حق نفسه، ويقضي به الحاكم لمجتمعه، دون إجبار ولا إلزام إلا في حق المصلحة العامة.
ونوع آخر لا يتفق مع حكم الأصل من الإباحة الأصلية العامة، وإنما دخله حكم العفو أو الإباحة (بتسامح في التعبير) من أجل عارض يتعلق بأشخاص بأعيانهم. فحكم العفو أو الإباحة يبقى خاصًا في نطاق هؤلاء الأشخاص الذين تعلقت بهم أحوال عارضة اقتضت التخفيف في أمر كان أصله يقتضي عدم الإباحة.
ونحن نعلم أن النكاح إنما شرع في أصله من أجل النسل، ولحكمة بقاء النوع. وقد قال عليه الصلاة والسلام:((تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) (1) .
(1) رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال، مرسلًا.
فالسعي إلى إيقاف النسل أو تقليصه مناف لأصل ما شرع النكاح من أجله ولكن الشارع الحكيم جل جلاله رخص للزوجين في محاولة جزئية وفردية للحد من النسل نظرا لظروف أو مصالح شخصية قد تكتنفهما أو تكتنف أحدهما أما الحكم العام فباق على أصله وهو المنع والحاكم العام هو الأمين على ذلك.
وفي بيان هذا الأصل يقول الإمام الشاطبي: إن المباح ضربان: أحدهما أن يكون خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني ألا يكون كذلك. فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له. فيكون مطلوبًا ومحبوبًا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوهما مباح في نفسه، وإباحته بالجزء، وهو خادم لأصل ضروري وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب، فالأمر به راجع إلي حقيقة كلية، لا إلى اعتبار جزئي.. ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين. والثاني: إما أن يكون خادمًا لما ينقض أصلًا من الأصول الثلاثة المعتبرة أو لا يكون خادمًا لشيء كالطلاق، فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي: إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر حرامًا لذلك المطلوب ونقضًا عليه كان مبغضًا، ولم يكن فعله أولى من تركه، إلا لعارض أقوى وعدم إقامة حدود الله، وهو من حيث كان جزئيًا في هذا الشخص وفي هذا الزمان مباح وحلال (1) .
(1) الموافقات للشاطبي: 1/28، وانظر مبحث تنظيم الأسرة للشيخ أبو زهرة، وهو من بحوث المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية.
أقول وقد يعبر عن هذا الأصل الذي قررناه بالقاعدة الفقهية القائلة: ليس كل ما هو مشروع للفرد مشروعا للجماعة. وهي قاعدة فرعية مخرجة على القاعدة المعروفة الكبرى: تصرف الحاكم منوط بالمصلحة. أي بما أنه وكيل عن الأمة في رعاية مصالحها فقد وجب عليه أن يلتزم جانب الحيطة في الأمر فلا يغامر بمصالحها ولا ينزل عن السعي إلى تحقيق أعلى درجات الصلاح لها. هذا مع العلم بأن أفراد الأمة لو مارسوا بأنفسهم حقوقهم ومصالحهم جاز لكل منهم أن يغامر بمصالحه كما يحب.
مثال ذلك أن للفرد من الناس أن يقتدي في صلاته بفاسق إن شاء ذلك.. غير أن الحاكم لا يجوز له أن يعتمد على هذا الحكم، فينصب للناس إمامًا فاسقًا.
ومثاله أيضًا أن ولي المقتول يملك أن يعفو عن القصاص على الدية أو جزء منها.. غير أن الحاكم لا يملك مثل هذا الحق، ولا يستطيع أن يلزم ولي المقتول به (1) .
وحيثما يعطي الشارع الزوجين حق إيقاف النسل أو يمنعهما منه، طبق ما رأينا آنفًا، فإنما ذلك لمصلحة تتعلق بهما، ولأمر عائد إليهما، وقد يكون المجتمع شريكًا لهما في المصلحة في بعض الأحيان.
فتعميم الدولة حكم الإباحة أو الحظر، هدر لمصلحة الأفراد، وتجاوز لواجب الحيطة في رعاية أمر العامة.
ولو أن هؤلاء الذين يظلون يفتون للحاكم بالدعوة إلي تحديد النسل، تنبهوا إلي هذه القاعدة التي ما ينبغي أن تخفى على باحث بل طالب علم – لعلموا أنهم مبطلون فيما يفتون به، وأنهم إنما يستلبون بذلك حقًا أعطاه الشارع للأفراد أصحاب العلاقة، ليملكوه لمن لا حق لهم في امتلاكه أو التصرف به.
وأخيرًا فإننا نلاحظ أن خلاصة ما ذكرناه من أحكام هذه المسألة وما لم نذكره مما يتعلق بحالات الإجهاض وأحكامه – إنما هي في مجموعها رعاية لحقوق ثلاثة تعود إلي ثلاثة أطراف، وهي حق الأبوين، وحق المجتمع، وحق الجنين.
فمن رعاية هذه الحقوق الثلاثة والتنسيق فيما بينها، تتكامل أحكام تحديد النسل وقاية (وهو ما فرغنا من بيانه) وعلاجًا (وهو ما لم نذكره في هذا المقام)(2) .
(1) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 109.
(2)
قلنا عند تحرير محل هذا البحث: إن موضوع الإجهاض وأحكامه مفصول في مصطلح الباحثين اليوم عن موضوع تحديد أو تنظيم النسل، ولذا لم نشأ أن نفتح ملف البحث في هذا المقام.
دراسة المسألة في الميزان الاجتماعي والديموغرافي
دأب طائفة من الباحثين السطحيين علي إهمال الحكم الشرعي وعدم الوقوف عنده بأي تقدير، كلما كان الحكم متعلقًا بقضية اجتماعية سجل علماء الاجتماع في حقها حكمًا مخالفًا، ونظرة مغايرة لنظر الشرع ومن أبرز مظاهر السذاجة عند هذه الطائفة من الناس، أنهم ينعتون حديث علماء الاجتماع بالقرار العلمي، ويصفون حكم الشريعة الإسلامية بالنظرة الدينية.
ولسنا الآن بصدد تحليل هذه الظاهرة الفكرية المتخلفة التي تبعث علي الإشفاق، ولكني أشعر نظرًا لوجود هذه الطائفة فعلًا أن ثغرة ما قد تبقى في تضاعيف هذا البحث إن لم أتبع بيان الحكم الفقهي بما يؤيده من تهافت الكلام الذي يردده من ينعتون أنفسهم بعلماء الاقتصاد أو الاجتماع أو العلماء الديموغرافيين، بدءًا من مالتوس إلي كل من يهيم وراء كلامه في عصرنا هذا.
ومعلوم أنهم جميعًا يرفعون – في بلادنا العربية والإسلامية – شعار الدعوة إلى تحديد النسل أو تنظيمه.. والكلمتان توأمان في المدلول وإن اختلفتا في المظهر والنعومة.
بإمكاننا أن نكثف الأدلة العلمية المختلفة التي كشفت عن زيف افتراضات مالتوس وأشياعه في بيان النقاط التالية:
أولًا: إذا فرضنا أن المستند الذي أقام عليه مالتوس تصوراته، مستند علمي صحيح، يجب إذن أن يكون حقيقة راسخة تهيمن على علاقة الإنسان بوسائل الرزق والإنتاج من حيث الكم، علي طول الحياة الإنسانية فوق هذه الأرض. ذلك لأن الإنسان ذاته في كل عصر، وأسباب الرزق في محدوديتها أو عدم محدوديتها هي أسباب الرزق ذاتها في كل مكان وزمان.
فأين هو مصداق تصوره الذي بنى عليه اقتراحاته، على مساحة التاريخ الإنساني كله طولًا وعرضًا؟
لقد ظل الناس يتزاوجون فيتناسلون ويتكاثرون خلال قرون متطاولة مرت، وكانت أرزاق الأرض والسماء كما هي الآن، إن لم تكن أقل غنى منها اليوم فإنها لم تكن أكثر. ومع ذلك فإن شيئًا مما دار في خلد مالتوس لم يقع في أي مرحلة من مراحل ذلك التاريخ الطويل: لم تتناقص كمية الأرزاق أمام زيادة السكان، ولم يقع أي جيل في كمين المهلكة التي ينذر بها المالتوسيون اليوم (1) .
وطبيعي أن أنظمة المعيشة ومقوماتها ليست خاصة بإنسان هذا العصر وحده، بل هي لا تسمى أنظمة كونية ومقومات أساسية إلا إذا كانت مهيمنة علي حياة الأسرة الإنسانية كلها منذ فجر التاريخ.
قد يناقش بعض السطحيين هذا الكلام بأن من الثابت أن تزايد السكان في هذا العصر يسير بسرعة أكثر مما كان الحال عليه في الماضي، فنسبة تزايد السكان في العالم اليوم ما بين 4.3 % (إحصائيات هيئة الأمم المتحدة) وهي تكشف عن مدى التفاوت في سرعة التكاثر بين هذا العصر والعصور الخالية.
والجواب أن ملاحظة هذه النسبة في الزيادة يجب أن تقترن بها ملاحظة التفاوت الكبير في الطاقة الإنتاجية وثمراتها، ما بين عصرنا هذا وتلك العصور الغابرة، فإذا أخذنا هذا بعين الاعتبار، أدركنا أنه ما من زيادة في تكاثر السكان إلا وتتبعها زيادة في الطاقة الإنتاجية وأسباب المعيشة، ذلك لأن التقدم العلمي الذي أصبح عاملًا في خفض نسبة الوفيات هو ذاته الذي غدا عاملًا في تطوير الطاقات الإنتاجية ومضاعفة ثمراتها، ولا يستثنى من هذا التلازم الواضح إلا حالة الركود الذي قد تجنح إليه جماعة من الناس، فالذنب عندئذ إنما هو ذنب الكسل والركود لا ذنب النسل المتكاثر.
(1) من الواضح أننا نعني مجاعة عامة يفترض أنها ظهرت أو ستظهر من جراء سوء التناسب الكمي بين الإنسان ومدخرات الأرض فلا شأن لنا إذن بالمجاعات التي قد تقع لعورض وأسباب خاصة.
ثانيًا: إن أرباب هذه الدعوة، أقاموا دعوتهم على خطيئة كبرى في تقدير معنى الرزق الذي يحتاج إليه الإنسان، فلقد تصوروا أن الحاجات الإنسانية محصورة في الخيرات الثابتة في الأرض والمنافع الكامنة في أحشائها، بقطع النظر عن أي تفاعل يتم بينها وبين الإنسان، وهي بدون شك (علي هذا المعنى) منافع محصورة، سرعان ما يربو عليها نمو السكان وتكاثر الأفراد.
ولكن الأمر في واقعه ليس كذلك.
ليست مقومات العيش لبني الإنسان متمثلة في هذه المدخرات الثابتة من زيت وفحم وحديد وغير ذلك، وإنما هي كل ما قد يتوالد من تزاوج هذه المدخرات، مع ما قد يبذله الإنسان من جهد ويحققه من تدبير، في سبيل الوصول بهذه المنافع الطبيعية إلى أقصى درجات الاستفادة المتنوعة منها.
ومعلوم أن الإنسان كلما اكتشف سبل نفع جديدة من بعض خيرات الأرض، تكون له من ذلك رأس مال جديد لتحقيق مغانم جديدة في مجال النفع الإنساني الذي لا يكاد يقف عند حد.. ويمتد أثر هذا التلاقح من النفع المتوالد بشكل زاوية منفرجة تتسع قدر اتساع الجهد الإنساني.
وهذا شيء معروف ومفروغ منه لدى سائر علماء الاقتصاد والديمغرافيا اليوم، ولا نحسب أن أحدًا من المثقفين، فضلًا عن أهل الاختصاص يمتري فيه.
يقول الأستاذ فيدروف أمين الأكاديمية السوفياتية للعلوم بصدد نقده لتصورات مالتوس: وإذا كانت موارد الطبيعة محدودة حقًا، وكانت الحاجات الإنسانية غير محدودة فما وجه الاعتراض إذا على تلك النظرية؟ وجه الاعتراض عندنا أن موضع الاهتمام ينبغي أن يركز علي حاجات المجتمع الإنساني الأساسية وعلى وسائل سدها، لا على موارد الطبيعة ذاتها، كالفحم والزيت والحديد وغيرها، وكذلك ينبغي أن لا نغفل عن قيمة الإنسان وسعيه وتدبيره (1) .
(1) من مقال نشرته مجلة ستردي ريفبو، وانظر كتاب المجتمع العربي ومقاييس السكان للدكتور عبد الكريم اليافي.
ويقول العالم الديموغرافي الفرنسي الفريد سوفي: إن الاكتظاظ الذي قد تبدو سماته في بعض البلدان مرده إلى قلة الاستغلال لموارد الطبيعة وضعف اختصاص العمال والاعتماد علي الزراعة، فالاكتظاظ في نهاية التحليل كظاهرة من ظواهر التأخر يزول عند أخذ المجتمع بأسباب التقدم.
ثم يذكر الفريد سوفي في ختام كلامه مثال الصين الشعبية إذ كانت تعد من أكثر البلاد اكتظاظًا بالسكان، وقد أصبحت أخيرًا محتاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة نظرًا لتقدمها السريع (1) .
ويقول المستر هوبرت مارسين وزير داخلية بريطانيا عام 1943: إن بريطانيا إذا كانت تحب المحافظة على مستواها في الوقت الحاضر، والتقدم في سبيل الرقي والازدهار في المستقبل، فمن اللازم أن يتزايد فيها أفراد كل أسرة بنسبة 25 % على الأقل.
ولكن ما وجه العلاقة بين ازدياد كثافة السكان، وازدياد الأرزاق والطاقات الإنتاجية؟
هذا ما سنوضحه في البرهان الثالث، وهو:
ثالثًا: إن المتحمسين في الدعوة إلي تحديد النسل، يذهلون عن حقيقة ذات أهمية بالغة في ترسيخ دعائم الحضارة والمدنية في المجتمع، وهي حقيقة علمية لا مجال لإنكارها.
(1) كان هذا التقرير من الفريد سوفي في الستينات، أما اليوم فقد يقول البعض: ولكن ها هي الصين تسعى اليوم إلى التخفيض من عدد سكانها.. والجواب أن العبرة من سياسة الصين تجاه كثافة السكان ما كانت تفعله أيام تخلفها، لا ما غدت تتجه إليه بعد تقدمها.. أي فإذا تقدمت البلاد العربية والإسلامية وغدت في مصاف العالم الثاني فإن لها أن تفكر في هذا الأمر إذا شاءت، ولكل حادث حديث.
هنالك ما يسمى عند علماء الديموغرافيا بمبدأ الاصطفاء، وهو يعني باختصار أن مرافق العمل الإنتاجي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات متعددة ومتنوعة فمنها ما هو فني، ومنها ما هو علمي، ومنها ما هو عضلي
…
إلخ ولابد أن يسد كل واحد من هذه المرافق بالعدد الكافي من الأشخاص الأكفاء.. غير أن الأشخاص الأكفاء لا يظهرون إلا ضمن مجموعة كثيرة من الناس عن طريق الاصطفاء، فالعباقرة العلميون لا يمكن العثور عليهم في ساحة لا يوجد فيها غيرهم، وإنما يتم اكتشافهم من خلال استعراض أناس كثيرين، وكذلك الفنيون، وكذلك غيرهم من ذوي القدرات أو الاختصاصات علي اختلافها.
وهكذا فإن من الثابت أن الأمة كلما كانت أكثر عددًا، كانت الصفوة فيها أكثر عددًا أو أكثر تنوعًا، ونتيجة لذلك تصبح فرص المهارات والاختصاصات أمامها أرحب وأوسع.
إذن فإن رأس المال الأول الذي لا غنى عنه لتحريك عجلة الحياة الإنتاجية إنما يتمثل في الفيض السكاني إذ يملأ رحب الأرض.
يتوهم بعض السطحيين أن عملية الاصطفاء هذه من شأنها أن تخلف وراءها كمية كبيرة من الناس الذين لا يمكن تصنيفهم مع أي فريق من العاملين، فيكونون بذلك عبئًا على المجتمع، وتبوء عملية الاصطفاء بالخسارة بدلًا من الربح.
ولا ريب أن هذا توهم باطل ينطوي على خطأ كبير في التقدير.. والحقيقة أن الكرم الإلهي قد وزع مزايا الملكات والطاقات بين سائر الناس، بحيث قل أن تجد – بالنسبة إلى الكثرة الكبرى – إنسانًا جردته الأقدار من كل طاقة فوقف هناك عالة على الناس.
غير أنه لا يمكن اكتشاف ما لدى الأفراد من ملكات وطاقات يتمتعون بها، وبتعبير أدق لا يمكن اكتشاف حاجة المجتمع إلى مواهبهم أو جهودهم إلا بعد ظهور صفوة العلماء والفنيين وأصحاب الاختصاصات المتنوعة حيث تتجلى من خلال خططهم ومشروعاتهم التي يتقدمون بها – الحاجة إلى ملكات أولئك الناس وطاقاتهم.. ذلك لأن مرافق الحياة كثيرة ومتوالدة، واحتياجات الإنسان أيضًا كثيرة ومتنوعة لا يكاد يحصرها عد، إلا أن وجه الحاجة إلى كثير من هذه المرافق والاحتياجات والتنبه إلى المشروعات المتوالدة عن بعضها، لا يستبين جليًا إلا بوجود تلك الصفوة المتنوعة من الناس قبل كل شيء.
وإليك هذا المثل: إن استخراجك لحجارة سليمة صالحة لتشييد بناء بها لا يتم في أي تربة أو مكان، إلا من خلال تجميع ركام من الرمال وفتات الحجارة تتكاثر أمامك، وقد تتوهم بادئ الأمر أن هذا الركام شيء لا يجدي شيئًا، ولكن ما أن تتهيأ الحجارة الكبيرة أمامك حتى تتنبه إلى أن ذاك الذي كنت تحسبه ركامًا لا فائدة منه شرط أساسي لإقامة بناء متماسك.
لا أظن أن بين هذا المثال والمجتمعات الإنسانية أي فارق إلا في اختلاف الجنس وتفاوت حجم المثال.
وتبدو لنا ثمرة هذا الذي نقول فيما نلاحظه من كثرة أصحاب الاختصاصات العميقة والمهارات المتنوعة في الأمم الكثيفة الأعداد (شريطة أن لا تكون كسولة ميالة إلى الدعة) .
ومن هبوط عدد هؤلاء الرجال في الأمم التي هي أقل عددًا إلي نسبة أقل بكثير مما يقتضيه الفرق العددي بين حجم كل من الأمتين.
ويقرر الدكتور عبد الكريم اليافي بالإضافة إلى هذا حقيقة أخرى إذ يقول: وربما كان في هذا ما يفسر حصول الابتكار والاختراع والكشوف في البلاد الكبيرة على أنه ربما يكون الأفراد في البلاد الصغيرة على درجة عالية من الثقافة ولكن الابتكار والاختراع والكشوف في الغالب من نصيب البلاد الكبيرة (1) .
ويقول جاك أوستروي في كتابه: الإسلام والتنمية الاقتصادية مؤكدًا هذه الحقيقة الهامة: وإذا كان الازدياد الكبير في السكان يشكل فيما يبدو أخطارًا اقتصادية لا يمكن إنكارها في بلاد أخرى، فإن هذا الواقع له جانب مفيد أيضًا، وهو تحول التركيب البشري في اتجاه اقتصادي مفيد بإنقاص عدد الأشخاص الذين لا ينتجون اقتصاديًا بالنسبة لعدد المنتجين، وبالتالي يحدث دفعًا مبدعًا له دور أساسي في عملية التنمية (2) .
(1) المجتمع العربي ومقاييس السكان: ص 33.
(2)
الإسلام والتنمية الاقتصادية لجاك استروي، ترجمة الدكتور نبيل الطويل: ص 28.
ويعدد الدكتور أحمد عبد العزيز النجار المشكلات الاقتصادية لتنمية المجتمعات المتخلفة بعد أن أوضح عوامل الإنتاج وبين أن الإنسان أهم هذه العوامل من حيث الكم ومن حيث الكيف، فيذكر منها: الخلل في العلاقة الكمية بين الناس المخططين والمنظمين من جهة، والعاملين من جهة أخرى قائلًا: الخلل في العلاقة بين نسب عوامل الإنتاج المختلفة، فرأس المال والمنظمون أقل نسبيًا من الأرض والموارد الطبيعية والعمل (غالبية العمال غير مهرة) وبالتالي فإن وسائل الإنتاج الكامنة لا تستغل استغلالًا كافيًا، ويصاحب الاستغلال السائد طاقة إنتاجية ضعيفة، ويصبح متوسط الدخل القومي للفرد منخفضًا.
ويتابع فيقول: تؤدي قلة وجود أنظمة وانعدام الخبرة ونقص الأيدي العاملة الماهرة، وصعوبة الحصول علي رأس المال بتكاليف معدلة، إلى اعتماد الدول النامية الرئيسي على تصدير بعض الخدمات أو المواد الأولية أو نوع أو أكثر من السلع الزراعية واستيراد جميع السلع الاستثمارية ومعظم السلع الاستهلاكية.. ويعتبر هذا الارتباط الشديد بالأسواق الخارجية من أهم العوامل المسببة لمشاكل كثيرة في الدول النامية (1) .
أقول: ومن أبرز النتائج لهذه الظاهرة شيوع البطالة، حيث تقل الكثافة السكانية وذلك على النقيض مما يتوهمه السطحيون والبسطاء.. ذلك لأنها وإن كانت تشيع لأسباب شتى، إلا أن من أهم أسبابها أن تعوز الأمة وجود الصفوة الكافية فيها من المخططين والخبراء والمبدعين، فيبقى أكثر السبل إلي الحياة الإنتاجية مغلقة من جراء ذلك، فلا يجد كثير من الناس بسبب ذلك ما يعملون، وتذهب طاقاتهم الكامنة بددًا.
(1) المدخل إلى النظرية الاقتصادية في المنهج الإسلامي: ص 207.
وأخيرًا
المشكلات الجزئية محلولة
ثم إن أكثر الذين يتبنون الدعوة إلى ما يسمونه بـ (تنظيم النسل) وهي تسمية ملطفة عن الحقيقة التي هي – تحديد النسل – يتذرعون بأسباب ومقتضيات جزئية يلملمونها من هنا وهنك، ليقيموا عليها دعوتهم الكلية العامة هذه.
فهم يذكرون من هذه الأسباب والمقتضيات مثلًا ما قد تتعرض له المرأة أو بعض النساء من أوضار صحية مختلفة، إذا ما تلاحق الحمل بالحمل دون فاصل زمني كاف لإعادة المرأة الأم إلى نشاطها ومناعتها الصحية، أو ما قد يتعرض له الطفل من أمراض وأضرار بسبب الحمل المبكر الذي من شأنه أن يصرف الأم كليًا أو جزئيًا عن إمكانية منحه الرعاية الكافية، أو ما قد تفاجأ به الحامل من أوضاع صحية، وربما نفسية واجتماعية تقتضيها التخلص من حملها.. يذكرون أمثلة من هذا القبيل، ثم يتخذون منها حجة لقيامهم بحملة مركزة عامة في صفوف الناس جميعًا تهدف إلى حملهم على الإقلال من النسل ما أمكن، وخفض نسبة الكثافة السكانية فيهم بصورة عامة، أي بقطع النظر عن أي عارض من العوارض الجزئية ونحن نقول في تعليقنا على هذا الشكل، بل الطريقة من الاحتياج.
أولًا: ليس ثمة أي تناسب منطقي بين الاحتجاج بالوقائع الجزئية والقصد إلى توجيه الناس عمومًا نحو العمل على إقلال النسل ومقاومة الكثافة السكانية.
إن المشكلات الجزئية إنما يتم التغلب عليها بالحلول الجزئية المتعلقة بها، أما زعم السعي إلي القضاء عليها ضمن تيار عام من التغيير والتحويل، فإنه لا يمكن إلا أن يجر معه مشكلات أخرى أكثر عددًا وأشد خطورة وأهمية من تلك المشكلات الجزئية المتناثرة التي استعمل ذلك التيار العام للقضاء – فيما زعموا – عليها.
ثانيًا: إن كلًا من المنطق والشريعة الإسلامية قد تكفل بحل سائر المشكلات الجزئية التي قد تظهر في أي أسرة، مما يتعلق بأمر الحمل والإنجاب وقضايا الصحة والتربية ونحو ذلك. أجل فقد تكلفت الشريعة الإسلامية بحل ذلك، كما قد رأينا في الوقت ذاته الذي يدعو عامة الناس إلى الإكثار من النسل وإلى مسابقة الأمم الأخرى في هذا المضمار.
فقد علمنا أن الشريعة الإسلامية لا تمنع من اتفاق الزوجين على اتخاذ وسيلة وقائية ما لمنع الحمل، بالشروط التي أوضحناها، غير أن من المعلوم أيضًا أن هذا الحكم ليس إلا رخصة رخص الله بها لعباده، ليستعينوا بها في حل مشكلاتهم الجزئية العارضة، ومن ثم فإن هذه الرخصة لا تخلو من الكراهة التنزيهية في أكثر الأحيان. وهي في الحقيقة ليست إلا ذيلًا وتتميمًا للحكم الأساسي العام الذي تنهض عليه الحكمة الكبرى من ربط كل من الجنسين بالحياة الزوجية وإخضاع الإنسان (ذكرًا أو أنثى) لهذا المعنى الغريزي العجيب، تحقيقًا لتنمية النسل وتكاثر أفراد الأسرة الإنسانية المسلمة فوق الأرض ولا يضير بهذا الحكم الأساسي العام وجود رخصة استثنائية تذيله وتقيده، إذ ما من حكم من الأحكام الكلية إلا وله قيود ورخص استثنائية.
ومن ثم فإن واجب المسلمين والحالة هذه أن يطبقوا الحكم الكلي في مجاله الكلي العام وأن يضعوا قيوده واستثناءاته ورخصه في مواضعها الجزئية الخاصة بها بحيث لا يجعل من الاستثناءات الجزئية أداة نسف للقاعدة الكلية التي شرعها الله عز وجل.
والنتيجة التي تؤخذ من هذا الكلام أنه لا يجوز للدولة ولا لأي جهة عامة ولا لفئات الموجهين والمصلحين توجيه الناس عمومًا إلى الحد من النسل، مهما اختلفت الأسماء والمسوغات، كما لا يجوز – قولًا واحدًا – استخدام شيء من وسائل الإعلام لبث هذه الدعوة في صفوف الناس، أو لحملهم على مضمونها بشكل من الأشكال.. بل واجب هذه الفئات والأجهزة، وعلى رأسهم ممثلو الدولة تذكير الناس بالحكمة الكبرى التي شرع من أجلها الزواج وتشجيعهم بكل الوسائل الممكنة على الإكثار من النسل، كما أن من واجب هذه الفئات العامة ترك الرخص التي شرعها الله استجابة لظروف وأحوال جزئية طارئة يقدرها أصحاب العلاقة أنفسهم.
نعم لا بأس من بيان الحكم الشرعي العام والخاص للناس عامة، حتى يكونوا على بينة من أمرهم وعلى علم باليسر الذي ضمنته الشريعة لحياتهم.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا نعمة الاعتزاز بدينه وشريعته، وأن يلهم المسلمين جميعًا قادة وشعوبًا الرجوع إلى ما ضمن الله به عزنا وسعادتنا وتألفنا واجتماع شملنا، ألا وهو دين الله المتمثل في عقائده وتشريعاته وأخلاقه، إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين.
محمد سعيد رمضان البوطي