الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا إلَى الْإِيمَانِ بِهِدَايَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَوَفَّقَنَا لِمُدَاوَمَةِ الصَّلَاةِ بِعِنَايَتِهِ الْعَلِيَّةِ وَأَطْلَعَنَا عَلَى الْأُصُولِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَنَفِيَّةِ وَفَرَضَ عَلَيْنَا الزَّكَاةَ لِإِزَالَةِ الْوَسَخِ عَنْ الْأَمْوَالِ الْبَهِيَّةِ وَشَرَّفَنَا بِالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُمَا مُكَفِّرَانِ لِلذُّنُوبِ وَكَاشِفَانِ عَنْ ظُلَمِ الْمَعَاصِي وَغَيَاهِبِ الرُّيُوبِ حَمْدًا لَا يَكْتَنُّهُ كُنْهُهُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَهُوَ مِرْقَاةُ الْأُصُولِ وَمِعْرَاجُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ هُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ سِوَاهُ وَلَا مُنَازِعَ لِمَا عَدَلَهُ وَسَوَّاهُ وَالصَّلَاةُ عَلَى أَشْرَفِ الْخَلَائِقِ الْإِنْسِيَّةِ وَمَجْمَعِ الْخَلَائِقِ الْإِنْسِيَّةِ وَطَوْرِ التَّجَلِّيَاتِ الْإِحْسَانِيَّةِ وَمَهْبِطِ الْأَسْرَارِ الرَّوْحَانِيَّةِ وَتُرْجُمَانِ لِسَانِ الْقِدَمِ وَمَنْبَعِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْحِكَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي وَسَمَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَرَسَمَ الْإِحْلَالَ وَالْإِحْرَامَ عِلْمًا لِلدِّينِ الْمُبِينِ وَإِمَامًا لِلْحُكَّامِ وَمُوَطِّدًا لِلْمِلَّةِ وَمُمَهِّدًا لِلْإِسْلَامِ صَلَاةً مَمْدُودَةً مَدَاهَا بَاقِيَةَ الْوُصُولِ إلَى مُنْتَهَاهَا وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ قَاطِعُوا دَابِرِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَقَالِعُوا عِرْقِ أَهْلِ الْغَوَايَةِ وَالْجَهَالَةِ مَا تَجَلَّتْ وُجُوهُ الْإِسْلَامِ بِغُرَرِ التَّدْقِيقِ وَتَجَلَّتْ صُدُورُ الْأَحْكَامِ بِدُرَرِ التَّحْقِيقِ.
(وَبَعْدُ) فَيَقُولُ الْمُفْتَقِرُ إلَى الْمَلِكِ الْمَنَّانِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَدْعُوُّ بِشَيْخِ زَادَهْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً وَغَفَرَ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمَا وَإِلَيْهِ إنَّ الْكِتَابَ الْمُسَمَّى بِمُلْتَقَى الْأَبْحُرِ بَحْرٌ زَاخِرٌ وَغَيْثٌ مَاطِرٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرَ الْحَجْمِ وَوَجِيزَ النَّظْمِ لَكِنَّ جَمِيعَ الْوَاقِعَاتِ مِنْ الْمَسَائِلِ
قَدْ يُوجَدُ فِي قَعْرِهِ أَوْ فِي السَّاحِلِ وَهُوَ أَنْفَعُ مُتُونِ الْمَذْهَبِ وَأَجَلُّ وَأَتَمُّهَا فَائِدَةً وَأَكْمَلُ خَالٍ عَنْ الزَّوَائِدِ الْمُمِلَّةِ وَالِاخْتِصَارَاتِ الْمُخِلَّةِ وَشُهْرَتُهُ فَوْقَ الْأَطْنَابِ فِي مِدْحَتِهِ رَحِمَ اللَّهُ مُؤَلِّفَهُ وَتَغَمَّدَهُ بِمَغْفِرَتِهِ وَقَدْ شَرَحَهُ بَعْضٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَشَفَ عَنْ حَقَائِقِهِ الْمُسْتَجِنَّةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَطْنَبَ بِلَا فَائِدَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَزَ بِلَا رَبْطٍ وَلَا قَاعِدَةٍ لَا يُرَى فِيمَا قَالُوا شِفَاءً لِعَلِيلٍ وَلَا رِوَاءً لِغَلِيلٍ بَلْ لَا يَخْلُو مِنْ زَيَغَانِ الْأَبْصَارِ عَلَى النَّاظِرِينَ وَالتَّخَالُجِ فِي بَالِ أَكْثَرِ الْمُتَأَمِّلِينَ فَأَرَدْت تَبْيِينَ مَكْنُونِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمٍ وَغَامِضٍ وَتَحْقِيقَ لُبِّهِ مِنْ كُلِّ حُلْوٍ وَحَامِضٍ مِنْ غَيْرِ إطْنَابٍ مُمِلٍّ وَإِيجَازٍ مُخِلٍّ وَأَلْحَقْت بِهِ كَثِيرًا مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ مُتَوَغِّلًا فِي تَخْلِيصِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَتَمْيِيزِ الْقِشْرِ عَنْ اللُّبَابِ مَعَ قِلَّةِ الْبِضَاعَةِ وَكَثْرَةِ الْهُمُومِ وَالْآلَامِ وَاشْتِعَالِ نِيرَانِ شَدَائِدِ الطَّرِيقِ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَاخْتِلَالِ الْحَالِ وَتَرَاكُمِ بَوَاعِثِ الْمَلَالِ.
(وَسَمَّيْته بِمَجْمَعِ الْأَنْهُرِ فِي شَرْحِ مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ) رَاجِيًا مِنْ الْمُنْصِفِ إذَا نَظَرَ فِيهِ بِعَيْنِ الرِّضَا وَوَجَدَ الْخَطَأَ أَنْ يُصَحِّحَ عَلَى مَا اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَهُمْ اللَّئِيمُ يَفْضَحُ وَالْكَرِيمُ يُصْلِحُ؛ لِأَنَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَمَنْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ يَكُونُ عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ مَعْذُورًا وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ بِلَوْمَةِ لَائِمٍ مَلُومًا مَدْحُورًا بَلْ يَكُونُ السَّعْيُ لَدَيْهِمْ مَشْكُورًا وَالْعَمَلُ الْخَيِّرُ بَيْنَ يَدَيْهِمْ مَقْبُولًا وَمَبْرُورًا وَمُبْتَغِيًا أَنْ يَجْعَلَهُ خَاصًّا لِوَجْهِ اللَّهِ الْغَفَّارِ وَوَسِيلَةً إلَى شَفَاعَةِ نَبِيِّهِ الْمُخْتَارِ وَشَرَعْت مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ الْفَيَّاضِ الْكَرِيمِ وَمُسْتَعِيذًا مِنْ كُلِّ حَاسِدٍ وَلَئِيمٍ وَذَلِكَ فِي يُمْنِ أَيَّامِ دَوْلَةِ السُّلْطَانِ الْأَكْرَمِ عَضُدِ سَلَاطِينِ الْأُمَمِ ظِلِّ اللَّهِ فِي بَسِيطِ الْأَرْضِ عَامِرِ الْمَعْمُورَةِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ قُطْبِ فَلَكِ السَّلْطَنَةِ الْغَرَّاءِ مَرْكَزِ دَائِرَةِ الْخِلَافَةِ الْعُلْيَا مَالِكِ أَزِمَّةِ أُمُورِ الْعَالَمِينَ حَافِظِ ثُغُورِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِنُصْرَةِ الدِّينِ الْمُبِينِ وَالشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ الْمَتِينِ الْمَنْصُورِ بِالتَّأْيِيدَاتِ الْفَائِضَةِ مِنْ السَّمَاءِ الْمُظَفَّرِ بِوُرُودِ الْجُنُودِ الْغَيْبِيَّةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ الْمُؤَيَّدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْوَهَّابِ بِالتَّوْفِيقِ الْمُسَدَّدِ بِنَصْرِ اللَّهِ الْفَتَّاحِ عَلَى التَّحْقِيقِ آمِرِ الْعِبَادِ بِإِقَامَةِ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ الْمَخْصُوصِ بِتَشْرِيفِ {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر: 39] أَنْوَرَ مِنْ بَدْرِ الدُّجَى فِي هَالَةِ الْبَرَايَا أَظْهَرَ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى فِي الْعَدَالَةِ بَيْنَ الرَّعَايَا مَلَاذِ أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ وَالْعُلَمَاءِ مَعَاذِ كَافَّةِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ حَامِي حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ مُرَوِّجِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ بِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ ضَابِطِ أَقْطَارِ الْأَمْصَارِ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ رَابِطِ أَطْرَافِ الْآفَاقِ بِالدَّوْلَةِ الْبَاهِرَةِ نَاصِبِ رَايَاتِ النَّصَفَةِ بَعْدَ انْدِرَاسِهَا مُظْهِرِ آثَارِ الْعَدَالَةِ عَقِيبَ انْطِمَاسِهَا مُؤَسِّسِ مَبَانِي الْإِنْصَافِ
قَالِعِ قَوَاعِدِ الْإِجْحَافِ مَالِكِ مَمَالِكِ الْآفَاقِ وَارِثِ سَرِيرِ السَّلْطَنَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ خَادِمِ الْحَرَمَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ مَالِكِ أَمَاجِدِ الْمَشْرِقَيْنِ.
هُوَ الْمَلِيكُ الَّذِي مَا زَالَ بَدْرَ هُدًى
…
يُطِيعُهُ الْخَلْقُ مِنْ عَرَبٍ وَمِنْ عَجَمِ
فَمُذْ أَقَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ حُرِسَتْ
…
جَوَانِبُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ الثُّلَمِ
سُلْطَانِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالرُّومِ وَالْخَاقَانِ السُّلْطَانِ الْغَازِي مُحَمَّد خَان بْنِ السُّلْطَانِ إبْرَاهِيم خَان بْنِ السُّلْطَانِ أَحْمَد خَان أَسْبَغَ اللَّهُ ظِلَالَ سَلْطَنَتِهِ عَلَى مُفَارِقِ الْعَالَمِينَ وَوَسَّعَ سِجَالَ نَوَالِ عَاطِفَتِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَا زَالَتْ سَمَاءُ دَوْلَتِهِ بِكَوَاكِبِ الْإِقْبَالِ مُزَيَّنَةً وَآيَاتُ أُبَّهَتِهِ عَلَى صَفَحَاتِ الْكَائِنَاتِ مُبَيَّنَةً وَأَقْمَارُ دَوْلَتِهِ ثَابِتَةً عَلَى بُرُوجِ الْكَمَالِ وَنُجُومُ عَظَمَتِهِ ثَاقِبَةً عَلَى ذَوِي الْإِقْبَالِ نَائِيَةً عَنْ سَمْتِ الزَّوَالِ
مَلِيكُ النَّدَى رُكْنُ الْهُدَى كَعْبَةُ الْعُلَى
…
قَرِينُ التُّقَى وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ أَجْمَعَا
إلَهِي بِدَمْعِ الْوَارِدِينَ لِزَمْزَمَ
…
وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَمَنْ سَعَى
أَطِلْ عُمْرَهُ وَاشْرَحْ بِفَضْلِك صَدْرَهُ
…
وَعَامِلِهِ بِالْإِنْعَامِ يَا سَامِعَ الدُّعَا
اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ افْتَتَحَهُ بِاسْمِ اللَّهِ وِفَاقًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَاقْتِفَاءً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَاقْتِدَاءً بِالْمُؤَلِّفِينَ الْعَارِفِينَ بِاَللَّهِ مَعَ إشَارَةٍ إلَى أَدَاءِ بَعْضِ مَا عَلَيْهِ مِنْ مَحَامِدِ الْكَرِيمِ فَقَالَ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الْبَاءُ حَرْفُ مَعْنَى وَلَهَا مَعَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا سِيبَوَيْهِ إلَّا مَعْنَى الْإِلْصَاقِ وَالِاخْتِلَاطِ وَذَكَرُوا أَنَّهَا لِلِاسْتِعَانَةِ وَقِيلَ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ ابْتِدَائِي كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ وَقَدَّرَ الْكُوفِيُّونَ بَدَأْتُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ مُتَأَخِّرًا عَنْ التَّسْمِيَةِ وَالِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْأَعْيَانِ إنْ كَانَ مَحْسُوسًا وَفِي الْأَذْهَانِ إنْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ بِهَيْئَتِهِ لِلزَّمَانِ هُوَ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَوْ مِنْ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ وَكُسِرَتْ الْبَاءُ لِتَشَابُهِ حَرَكَتِهَا عَمَلَهَا وَطُوِّلَتْ لِتَدُلَّ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ وَلَمْ تُحْذَفْ إلَّا مَعَ اسْمٍ وَاَللَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلذَّاتِ وَالصِّفَةِ مَعًا، وَهُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ عَلَمٌ لِمُوجِدِ الْعَالَمِ وَلَيْسَ بِمُشْتَقٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ مِنْ رَحِمَ بَعْدَ نَقْلِهِ إلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ لَا تُشْتَقُّ إلَّا مَعَ فِعْلَ لَازِمٍ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي بَابِ الْمَدْحِ مِثْلُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ وَبَدِيعُ السَّمَوَاتِ، وَفِي الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الرَّحِيمِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبَانِي لِزِيَادَةِ الْمَعَانِي وَهِيَ إمَّا بِحَسَبِ شُمُولِهِ لِلدَّارَيْنِ وَاخْتِصَاصِ الرَّحِيمِ بِالدُّنْيَا كَمَا وَقَعَ فِي الْأَثَرِ يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَ الدُّنْيَا وَإِمَّا بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْمَرْحُومِينَ وَقِلَّتِهِمْ كَمَا وَرَدَ يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ جَلَالَةِ النِّعَمِ وَدِقَّتِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي الرَّحْمَنِ مُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الرَّحْمَةِ
لَيْسَتْ فِي الرَّحِيمِ فَقَصَدَ بِهِ رَحْمَةً زَائِدَةً بِوَجْهٍ مَا فَلَا يُنَافِيهِ مَا يُرْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا لِجَوَازِ حَمْلِهِمَا عَلَى الْجَلَائِلِ وَالدَّقَائِقِ وَاشْتِقَاقِهِمَا مِنْ الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ وَهُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَجْسَامِ فَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ - تَعَالَى - إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِي الَّتِي هِيَ انْفِعَالَاتٌ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِنْعَامِ أَوْ إرَادَتِهِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبَّبٌ عَنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ وَالِانْعِطَافِ فَيَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا مِنْ إطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى
(الْحَمْدُ) هُوَ الثَّنَاءُ لِتَعْظِيمِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ بِمَعْنَى الْمَدْحِ لَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْخِصَالِ الْجَمِيلَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالْمَدْحُ بِمَا فِيهِ وَمِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ تَقُولُ حَمِدْته لِعِلْمِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَمَدَحْته لِطُولِ قَامَتِهِ وَصَبَاحَةِ وَجْهِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] وَأَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ لَا يُقَالُ إلَّا فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ وَالْحَمْدُ يُقَالُ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ وَغَيْرِهَا نَقُولُ: حَمِدْته لِإِحْسَانِهِ إلَيَّ وَحَمِدْتُهُ لِعِلْمِهِ وَشَكَرْته لِإِحْسَانِهِ إلَيَّ فَكُلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حَمْدٍ شُكْرًا وَكُلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَدْحٍ حَمْدًا كَمَا فِي الْكَوَاشِيِّ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَيْ حَمِدَهُ - تَعَالَى - أَوْ حَمِدَ مُحِبِّيهِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ الْجِنْسِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْوُصُولِ أَنَّ الْعَهْدَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (لِلَّهِ) وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ الْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِهِ - تَعَالَى - الْحَمْدُ هَا هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ كُلُّ حَامِدِيَّةٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ - تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ كُلُّ مَحْمُودِيَّةٍ قَائِمَةٌ بِهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْ كُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَمْدِ فَحِينَئِذٍ يَشْمَلُ كُلًّا مِنْ مَعْنَيَيْهِ فَيُوَفَّى حَقُّ الْمَقَامِ
(الَّذِي وَفَّقَنَا) التَّوْفِيقُ: جَعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَ عِبَادِهِ مُوَافِقًا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَقِيلَ هُوَ اسْتِعْدَادُ الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّيْءِ وَقِيلَ هُوَ مُوَافَقَةُ تَدْبِيرِ الْعَبْدِ لِتَقْدِيرِ الْحَقِّ وَقِيلَ هُوَ الْأَمْرُ الْمُقَرِّبُ إلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَالْكَرَامَةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَقِيلَ هُوَ جَعْلُ الْأَسْبَابِ مُوَافِقَةً لِلْمُسَبِّبَاتِ (لِلتَّفَقُّهِ) الْفِقْهُ: هُوَ الْإِصَابَةُ وَالْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ وَهُوَ عِلْمٌ مُسْتَنْبَطٌ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَمُحْتَاجٌ إلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ فَقِيهًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاخْتَارَ التَّفَقُّهَ لِلْإِشَارَةِ إلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْ فِي الدِّينِ» وَإِلَى مَا فِي صِيغَةِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَنَّ حُصُولَ عِلْمِ الْفِقْهِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا (فِي الدِّينِ) الدِّينُ وَالْمِلَّةُ مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُطَاعُ تُسَمَّى دِينًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَجْمَعُ تُسَمَّى مِلَّةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُرْجَعُ إلَيْهَا تُسَمَّى مَذْهَبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّينَ مَنْسُوبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ يَدْعُو أَصْحَابَ الْعُقُولِ إلَى قَبُولِ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ، وَالْمِلَّةُ
إلَى النَّبِيِّ، وَالْمَذْهَبُ إلَى الْمُجْتَهِدِ (الَّذِي) الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ صِفَةٌ لِلدِّينِ (هُوَ) أَيْ الدِّينُ (حَبْلُهُ) وَوَصَفَ الْحَبْلَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْمَتَانَةِ بِقَوْلِهِ (الْمَتِينُ) أَيْ الصُّلْبُ الشَّدِيدُ (وَفَضْلُهُ) الْفَضْلُ ابْتِدَاءُ إحْسَانٍ بِلَا عِلَّةٍ (الْمُبِينُ) أَيْ الْمُوَضَّحُ (وَمِيرَاثُ) مَجَازٌ عَنْ الِانْتِقَالِ (الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ) فَالرَّسُولُ مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ مَلَكًا كَانَ أَوْ آدَمِيًّا وَكَذَا النَّبِيُّ إلَّا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْسِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَهُمَا إمَّا مُتَبَايِنَانِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ فَالرَّسُولُ جَاءَ بِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ، وَالنَّبِيُّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَإِنْ أُمِرَ بِالْإِبْلَاغِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، أَوْ مُتَرَادِفَانِ عَلَى مَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْخُطْبَةِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْ بُعِثَ لِلتَّبْلِيغِ، أَوْ الرَّسُولُ أَخَصُّ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (وَحُجَّتُهُ) أَيْ دَلِيلُهُ وَبُرْهَانُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ الدَّعْوَى مِنْ حَيْثُ إفَادَتُهُ الْبَيَانَ يُسَمَّى بَيِّنَةً، وَمِنْ حَيْثُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْخَصْمِ بِهِ يُسَمَّى حُجَّةً (الدَّامِغَةُ) الْقَاهِرَةُ الْمُذِلَّةُ لِلْخَصْمِ مِنْ الدَّمْعِ، وَهُوَ مِنْ الشِّجَاجِ الَّتِي بَلَغَتْ أُمَّ الدِّمَاغِ (عَنْ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ) أَكَّدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِرِعَايَةِ السَّجْعِ (وَمَحَجَّتُهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْحَاءِ وَالْجِيمِ جَادَّةُ الطَّرِيقِ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ (السَّالِكَةُ) أَيْ الرَّاقِيَةُ الْمُوَصِّلَةُ (إلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ) أَيْ أَعْلَى مَكَان فِي الْجَنَّةِ (وَالصَّلَاةُ) بِالرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَجُوزُ الْجَرُّ بِالْعَطْفِ عَلَى الِاسْمِ أَيْ بِالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كُتِبَتْ بِالْوَاوِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ الْمُفَخَّمِ فَالْمَعْنَى الْعَطْفُ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ - تَعَالَى الرَّحْمَةُ وَإِلَى الْمَلَكِ الِاسْتِغْفَارُ، وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ الدُّعَاءُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فِي الدُّعَاءِ حَقِيقَةٌ وَفِي غَيْرِهِ مَجَازٌ (وَالسَّلَامُ) أَيْ السَّلَامَةُ عَنْ الْآفَاتِ وَسُمِّيَتْ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ لِهَذَا وَتَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ وَتَعْرِيفُهُمَا كَتَعْرِيفِ الْحَمْدِ (عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ) أَيْ أَفْضَلِ مَخْلُوقِهِ (مُحَمَّدٍ) أَشْهَرِ أَسْمَائِهِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ أَلْفٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيلَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِلْإِلْهَامِ بِذَلِكَ وَالْمَعْنَى ذَاتٌ كَثُرَتْ خِصَالُهَا الْمَحْمُودَةُ أَوْ كَثُرَ الْحَمْدُ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَوْ كَثُرَ حَمْدُهُ تَعَالَى لَهُ (الْمَبْعُوثُ) إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْخِلَافِ (رَحْمَةً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَوْ الْمَفْعُولِ لَهُ (لِلْعَالَمِينَ) وَالْعَالَمُ اسْمٌ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى غَلَبَ مِنْهُ الْعُقَلَاءُ وَقِيلَ اسْمٌ لِذَوِي الْعِلْمِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَتَنَاوُلُهُ لِغَيْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِتْبَاعِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ النَّاسُ وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ) فِي الْآلِ اخْتِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ وَالصَّحْبُ جَمْعُ صَاحِبٍ وَهُوَ كُلُّ مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ أَوْ رَآهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَعَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافُ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ
وَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ مُخْتَصًّا بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
تَعْظِيمًا لَمْ يَدْعُ بِهِ لِغَيْرِهِمْ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَهُمْ (وَالتَّابِعِينَ) هُوَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ فِي آثَارِهِمْ (وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُؤَلِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ (وَبَعْدُ) مِنْ الظُّرُوفِ الْمَبْنِيَّةِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الْإِضَافَةِ أَيْ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ (فَيَقُولُ الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ الْغَنِيِّ) وَالْفَاءُ فِي فَيَقُولُ إمَّا عَلَى تَوَهُّمِ أَمَّا، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مَهْمَا مَحْذُوفَةً مِنْ الْكَلَامِ وَالْوَاوُ عِوَضٌ عَنْهَا (إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَلَبِيُّ) كَانَ إمَامًا وَخَطِيبًا بِجَامِعِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ بِمَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْمَحْمِيَّةِ وَمُدَرِّسًا بِدَارِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي بَنَاهَا سَعْدِيٌّ أَفَنْدِي وَمَاتَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ عُمَرُهُ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ وَزَادَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ فَتَوَجَّهَ (قَدْ سَأَلَنِي) أَيْ طَلَبَ مِنِّي (بَعْضُ طَالِبِي) جَمْعٌ مُضَافٌ إلَى (الِاسْتِفَادَةِ) .
وَلَوْ قَالَ بَعْضُ الْمُسْتَفِيدِينَ لَكَانَ أَوْلَى (أَنْ أَجْمَعَ لَهُ كِتَابًا يَشْتَمِلُ) صِفَةُ: كِتَابًا (عَلَى مَسَائِلِ الْقُدُورِيِّ وَالْمُخْتَارِ وَالْكَنْزِ وَالْوِقَايَةِ بِعِبَارَةٍ سَهْلَةٍ) الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِالسُّهُولَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفِكْرِ وَالدِّقَّةِ (غَيْرِ مُغْلَقَةٍ) أَيْ غَيْرِ مُشْكِلَةٍ (فَأَجَبْتُهُ) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً أَيْ أَعْطَيْته جَوَابًا بِأَنْ أَقُولَ قَبِلْت إيفَاءَ مَسْأَلَتِك (إلَى ذَلِكَ) أَيْ سُؤَالِ الْبَعْضِ.
(وَأَضَفْت إلَيْهِ بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ) أَيْ يَفْتَقِرُ (إلَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَجْمَعِ وَنُبْذَةً) عِبَارَةٌ عَنْ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ زَادَهُ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً نَظَرًا إلَى أَنْفُسِهَا نُبْذَةً بِالْقِيَاسِ إلَى مَسَائِلِ سَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي جَمَعَهَا فِي كِتَابِهِ (مِنْ الْهِدَايَةِ وَصَرَّحْت بِذِكْرِ الْخِلَافِ) الْوَاقِعِ (بَيْنَ أَئِمَّتِنَا) الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الشَّيْبَانِيِّ وَالْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ الرَّبَّانِيِّ وَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ اخْتَرَعَ قَاعِدَةً فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ لِيُعْلَمَ مِنْهَا الْأَقْوَى وَالْأَرْجَحُ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى فَقَالَ.
(وَقَدَّمْت مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ مَا هُوَ الْأَرْجَحُ) الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَالْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ مَفْعُولُ قَدَّمْت.
(وَأَخَّرْت غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ الْأَرْجَحِ (إلَّا) الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَهُ (إنْ قَيَّدْته) وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى: غَيْرَهُ (بِمَا يُفِيدُ التَّرْجِيحَ) نَحْوَ قَوْلِهِ الصَّحِيحُ وَالْمُخْتَارُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى فَإِنَّ الْأَرْجَحَ حِينَئِذٍ مَا هُوَ الْمُقَيَّدُ بِهِ لَا الْمُقَدَّمُ.
(وَأَمَّا الْخِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ) مِنْ الْمَشَايِخِ (أَوْ) الْخِلَافُ الْوَاقِعُ (بَيْنَ) أَصْحَابِ (الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ) الَّتِي جَمَعَ هَذَا الْكِتَابُ مِنْهَا (فَكُلُّ مَا) أَيْ مَسْأَلَةٍ (صَدَّرْته بِلَفْظِ قِيلَ أَوْ قَالُوا إنْ) - وَصْلِيَّةٌ - (كَانَ مَقْرُونًا بِالْأَصَحِّ وَنَحْوِهِ) أَيْ الْمُخْتَارِ وَبِهِ يُفْتَى (فَإِنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُصَدَّرَ بِلَفْظِ قِيلَ أَوْ قَالُوا (مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ) أَيْ مَا لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ قِيلَ أَوْ قَالُوا (وَمَتَى) لِلشَّرْطِ هُنَا (ذَكَرْت لَفْظَ التَّثْنِيَةِ) كَقَوْلِهِ خِلَافًا لَهُمَا أَوْ قَالُوا أَوْ عِنْدَهُمَا (مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَرْجِعِهِمَا فَهُوَ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) أَمَّا لَوْ ذَكَرَ مَثَلًا مُحَمَّدًا ثُمَّ ذَكَرَ التَّثْنِيَةَ فَالْمُرَادُ الشَّيْخَانِ (وَلَمْ آلُ) مِنْ الْأَلْوِ وَهُوَ التَّقْصِيرُ (جُهْدًا) بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الِاجْتِهَادُ وَعَنْ الْفَرَّاءِ الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ الْأَلْوُ فِي قَوْلِهِمْ لَا آلُوك جُهْدًا مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَفْعُولَيْنِ وَالْمَعْنَى: لَا أَمْنَعُك جُهْدًا أَيْ لَمْ أُقَصِّرْ وَلَمْ أَتْرُكْ اجْتِهَادًا بَلْ اسْتَقْصَيْت (فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْأَقْوَى وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى) الصَّحِيحُ مُقَابِلُ الْفَاسِدِ