المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في ذكر شيء من آداب طالب العلم - مختصر الإفادات في ربع العبادات والآداب وزيادات

[ابن بلبان الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌كلمة ذكرى ووفاء

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌مولده ومشايخه:

- ‌ثناء العلماء عليه والآخذون عنه:

- ‌مصنفاته:

- ‌وفاته:

- ‌وصف النسخ المعتمدة في التحقيق

- ‌كِتَابُ الطَّهَارَةِ

- ‌بَابُ المِيَاهِ

- ‌فَصْلٌ في الآنِيَةِ

- ‌بَابُ الاسْتِنْجَاءِ

- ‌بَابُ السِّوَاكِ وَغَيْرِهِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ الوُضُوءِ

- ‌بَابُ مَسْحِ الخُفَّيْنِ

- ‌بَابُ نَواقِصِ الوُضُوءِ

- ‌بَابُ الغُسْلِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ التَّيَمُّمِ

- ‌بَابُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ الحَيْضِ

- ‌كتَابُ الصَّلَاةِ

- ‌بَابُ الأَذانِ والإِقامَةِ

- ‌بَابُ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌باب آداب المشي إلى الصلاة

- ‌بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ سُجُودِ السَّهُوِ

- ‌فَصْلُ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابٌ جَامِعٌ في النَّفْلِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ صَلاةِ الجَمَاعَةِ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ صَلاةِ أَهْلِ الأَعْذَارِ

- ‌بَابُ القَصْرِ

- ‌بَابُ الجَمْعِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ صَلاةِ الجُمُعَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ صَلاةِ العِيدَيْنِ

- ‌بَابُ صَلاةِ الكُسُوفِ

- ‌بَابُ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ

- ‌كَتَابُ الجَنَائِزِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ في الكَفَنِ

- ‌فَصْلٌ في الصَّلاةِ عَلَيْهِ

- ‌فَصْلٌ في حَمْلِهِ ودَفْنِهِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كتَابُ الزَّكَاةِ

- ‌بَابُ زَكاةِ السَّائِمَةِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الخَارِجِ مِنَ الأَرْضِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الأَثْمَانِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ زَكَاةِ العُرُوضِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الفِطْرِ

- ‌بَابُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ

- ‌بَابُ أَهْلِ الزَّكاةِ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الصِّيَامِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ في المُفَطِّراتِ

- ‌فَصْلٌ فيما يُكْرَهُ فيه وحُكْمُ قَضَائِهِ

- ‌بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ

- ‌بَابُ الاعْتِكَافِ

- ‌فَصْلٌ في حُكْمِ المَسْجِدِ

- ‌كِتَابُ الحَجِّ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ المَواقِيتِ

- ‌بَابُ الإحْرَامِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ مَحْظُورَاتِ الإحْرَامِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ الفِدْيةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ

- ‌بَابُ صَيْدِ الحَرَمَيْنِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ صِفَةِ الحَجِّ والعُمْرَةِ

- ‌فَصْلٌ في زِيَارَةِ قَبْرِهِ الشَّريفِ عليه السلام وَقَبْرِ صاحبيهِ، رضي الله عنهما

- ‌فَصْلٌ في صِفَةِ العُمْرَةِ

- ‌فَصْلٌ في أَرْكَانِ الحَجِّ والعُمْرَةِ وَوَاجِبَاتِهِمَا

- ‌بَابُ الفَواتِ والإحْصَارِ

- ‌بَابُ الهَدْي والأَضَاحِي

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كتابُ الجهاد

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ البَيْعِ

- ‌فَصْل

- ‌فَصْلٌ

- ‌‌‌فَصْل

- ‌فَصْل

- ‌‌‌فَصْل

- ‌فَصْل

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الآدَابِ

- ‌فَصْلٌ فِيمَا جَاءَ في فَضْلِ الاشْتِغَالِ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا

- ‌فَصْلٌ في ذِكْرِ شَيءٍ مِن آدابِ طَالِبِ العِلْمِ

- ‌بَابُ حُكْمِ السَّلامِ والمُصَافَحَةِ والتَّثاؤبِ والعُطَاسِ والاسْتِئْذانِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْل

- ‌فَصْلٌ فيما يُسْتَحب فِعْلُهُ بيمينِهِ وما يُستحب فِعْلُهُ بشمالِهِ

- ‌بَابُ آدَابِ الأَكْلِ والشُّرْبِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ الوَليمَةِ

- ‌فَصْلٌ في الكَسْبِ

- ‌بَابُ آدابِ النِّكَاحِ

- ‌فَصْل

- ‌فَصْلٌ

- ‌آدابُ الجِمَاعُ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ نَظَرِ الرِّجَالِ إِلى النِّساءِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ آدابِ النَّوْمِ والاستيقاظِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

- ‌بابٌ في اللَّعِبِ المُبَاحِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ في حُكْمِ الكَلْبِ

- ‌فَصْلٌ فِي حُكْمِ الحَيوانِ

- ‌فَصْلٌ في بِرِّ الوَالدينِ وصِلَة الرَّحِمِ

- ‌فَصْلٌ في الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الآثَارِ في فَضْلِ الصَّلاة عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ في الذِّكْر

- ‌فَصْلٌ في فَضْلِ حِلَقِ الذِّكْرِ والنَّدْبِ إِلى مُلازَمَتِها والنَّهيِ عن مُفارَقَتِها لِغَيْرِ عُذْرٍ

- ‌فَصْلٌ فِي الأَمْرِ بالمعروفِ والنَّهيِّ عَنِ المُنْكرِ

- ‌فَصْلٌ في الإِخلاص

- ‌خَاتِمَةٌ: في مَعْرِفَة الله تعالى وما يَجِبُ عَلَى المُكَلَّفِينَ مِنَ الاعْتِقادِ

- ‌البَابُ الأَوّل: في مَعْرِفَةِ اللهِ تعالى

- ‌فَصْلٌ

- ‌فصْلٌ

- ‌فَصْلٌ في أسماءِ الله تعالى وصفاته

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ في الرؤية

- ‌الباب الثاني: في الأَفعال

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌البَابُ الثَّالِثُ: في الأَحكام

- ‌فَصْلٌ في الإسلامِ والإيمانِ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌البَابُ الرَّابعِ: في بَقِيَّةِ السَّمْعياتِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌البَابُ الخَامِسُ: في النُّبُوّةِ والإمَامَةِ

- ‌فَصْلٌ في النُّبُوّةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌‌‌فَصْلٌفي الإِمَامِةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ في المُرْتَدِ

- ‌وصيَّة نافعة إن شاء الله تعالى

الفصل: ‌فصل في ذكر شيء من آداب طالب العلم

وقال سَهْلُ بن عبد الله التُّسْتَريُّ: من أرادَ النَّظَرَ إلى مَجَالِسِ الأَنبياءِ فلْيَنْظُر إلى مجالِسِ العُلَماءِ، فاعْرِفُوا لَهُمْ ذَلِكَ.

فَهَذهِ نُبْذَةٌ يَسِيرةٌ مِمَّا جاءَ في فضيلَةِ الاشتغالِ بالعِلْمِ، ولو اسْتقْصِيَ ذَلِكَ لَبَلَغَ عِدَّةَ مُجَلَّداتٍ؛ لكن في هذا القَدْرِ كِفَايَةٌ لمن وَفَّقَهُ اللهُ لِرضَاهُ، وكفاهُ شَرَّ خَلْقِهِ ونفسِهِ وهواهُ، ومِنَ الشَّيطَانِ وأَعْوانِهِ وأَوليائِهِ حَماهُ، فَنَسْأَلُ اللهَ تعالى بِمَنِّهِ أن يُوَفِّقَنا لِلْعِلْمِ والعَمَلِ، ويَعْصِمَنَا من الغرورِ والزَّيْغِ والزَّلَلِ، ويُجيرَنا من مُوجِباتِ النَّدَمِ، ويغفرَ لَنَا ما زَلّتْ بِهِ القَدَم، وأن يَهْديَنا سواءَ السَّبيلِ، ويُلْهِمَنا اتباعَ النَّبِيِّ الجليل صلى الله عليه وسلم، وأن يَمُنَّ علينا بِحُسْنِ الخِتَامِ وسترِهِ الجَمِيل، إنَّه سبحانه وتعالى حَسْبُنا وَنِعْمَ الوكيل، ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله العلي العظيم.

‌فَصْلٌ في ذِكْرِ شَيءٍ مِن آدابِ طَالِبِ العِلْمِ

أعلم أَنَّهُ أَوَّلُ ما يَجِبُ على الطَّالِبِ إخلاصُ النِّيَّةِ، فإنَّهُ إن لم يُقدم النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ الخالِصَةَ لم يكن عليه نُورٌ، ولا على عِلْمِهِ نُورٌ، بل ولا ينفعُهُ عِلْمُهُ ولا يَنْتَفعُ بِهِ غيرُهُ، فيجبُ عليه أن يَنْوِيَ بِطَلبِهِ العِلْمَ التَّقَرُّبَ إلى مولاهُ بمعرِفَةِ الحلالِ لِيَتْبَعَهُ وَمَعْرِفَةِ الحرام ليجتَنِبَه، ولتكونَ عبادتُهُ للهِ تعالى على بصيرةٍ فتكونَ نافعةً صحيحةً؛ فإنّ

ص: 326

عابدَ الله تعالى على جَهْلٍ إفسادُهُ في الدِّينِ أكثرُ من إصْلاحِهِ، وإن أَكْثَرَ العِبَادَةَ واستوْعَبَ أنواعَها بزيادة.

وَيَقْصِدُ أيضًا تَعليمَ الجَاهِل وإرشادَهُ ودلالتهُ على مولاهُ وما يُقَرِّبُهُ منه، ولا تقْصِدُ بِطَلَبِهِ العِلْمَ اقتناصَ عَرَضِ الدُّنيا والرِّفْعَةَ والتَّعاظُمَ على أقرانِهِ والتَّكَبُرَ على غيره، وَصَرْفَ وجُوهِ النَّاسِ إليه؛ فإن قَاصِدَ ذَلِكَ لا خَيْرَ فيه ولا بركة، بل يكون سعيُه كهباءٍ مَنْثُورٍ، بل لو بقي على جَهْلِهِ لكانَ أحسنَ في حَقِّهِ وأكرمَ، وأصونَ لِعِرْضِهِ وأحكم، وأبعدَ عن عذاب اللهِ وأَسْلَمَ.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عز وجل، لا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا من الدُّنْيا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ".

رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة (1).

وقال عليه السلام: "مَنْ طَلبَ العِلْمَ لِيُجارِيَ بِهِ العُلماء، أو ليُمَارِيَ بِهِ السُّفَهاء، أو يَصْرِفَ به وجوهَ النَّاسِ إِليه، أَدْخَلَهُ اللهُ النَّار". رواه التِّرْمذي عن كعب بن مالك (2).

(1) أخرجه أحمد (2/ 338)، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وابن حبان (78) وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 61):"بإسناد جيد".

(2)

أخرجه الترمذي (2654)، والطبراني في "الكبير"(19/ 100)، وإسناده ضعيف، لكنَّه قوي بشواهده، وقد خرجته في تحقيقي لـ "فضل علم السلف" لابن رجب ص 89.

ص: 327

وعن حماد بن سلمة: مَنْ طَلَب الحديثَ لِغَيْرِ اللهِ مُكِرَ بِهِ.

فينبغي للعَاقلِ إذا عَزَمَ على طَلَبِ العِلْمِ أن يَسأَلَ اللهَ بِعَزْمٍ وَصِدْقٍ وإخلاصِ نِيَّةٍ أن يُوَفِّقَهُ للعَمَلِ به ويعينه عليه، وأن يُخَلِّصَهُ من الدَّعاوى والكِبْرِ والتَّرَافُع وتزكِيَةِ النَّفْسِ، وأن يُيَسِّرَ لَهُ شَيْخًا صَالِحًا، عَارِفًا نَاصِحًا مُخْلِصًا، عَدْلًا نَاسِكًا، يُبادرُ على بركة الله تعالى بلا تَوَقُّفٍ ولا تَأْخِيرٍ مُسْتعينًا بالله.

قال عليه السلام: "احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ باللهِ، ولا تَعْجَزْ"(1).

وَليُجِدَّ الطَّالِبُ في طَلَبِهِ غايةَ ما يمكِنُهُ، قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنالُ العِلْمُ بِرَاحَةِ الجَسَدِ.

وقال الشَّافعيُّ رضي الله عنه: لا يَطْلُبُ هذا العِلْمَ من يطلبه بالتملُّلِ وغِنَى النَّفْسِ فَيُفْلحَ، ولكن مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ، وضيق العَيْشِ، وخِدْمَةِ العِلْمِ، أفلَحَ.

ولْيُجِلَّ الطَّالِبُ الشَّيْخَ وَيعظِّمْهُ ويتواضَعْ مَعَهُ غايةَ ما يُمْكِنُهُ، فيكونَ بين يديه كأَنَّهُ لا وجودَ لَهُ، قال مُغِيرَةُ: كُنَّا نَهابُ إبْراهيم كما نهاب الأَمير (2). وقال الشَّافِعي: كُنا نَجْلِسُ بين يدي مَالك وكَأَنَّ الطَّيْرَ على رؤوسِنا.

(1) أخرجه مسلم (4/ 2052) من حديث أبي هريرة.

(2)

إبراهيم هو النخعي، والأثر أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"(1/ 184).

ص: 328

ولا يَتَعاظَمْ على أحدٍ من خَلْقِ اللهِ بِسَبَبِ طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ؛ لأَنَّ معظمَ نَفْعِ العلم له، وحينئِذٍ إن لم يكن عامِلًا به فالجاهِلُ خَيْرٌ منه، فكيف يَصِحُّ لَه أن يترافَعَ على من هو خيرٌ منه، بل ذلك حُمْقٌ عَظِيمٌ لِصَاحِبِهِ.

وقد يكونُ علمُه ضررًا عليه وعلى غيره إن لم يَعْمَلْ به، فالجاهِلُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ لأَنَّ الجاهِلَ قد يُعْذَرُ في الجُمْلَةِ بخلافِهِ هو إِذْ لا عُذْرَ لَهُ أَصْلًا.

ولا يَرْتَفِعْ على أَحَدٍ من جُلسائِهِ في مَحَلِّ الدَّرْسِ ولو كان دونَهُ، لأَنَّهم سواءٌ في الأَخْذِ عن الشَّيْخِ، بل يجلِسُ أينما انتهى به المجلسُ. ولا يَجْلِسْ بين يديه مُتَرَبِّعًا، ولا مُحْتَبيًا، ولا مُسْتَندًا، ولا مُتكئًا، ولا مُنْحَنِيًا، ولا ناصِبًا ظهرَهُ بِلا عُذْرٍ، بل جاثيًا على ركبتَيْهِ مُعْتَدِلَ الجلوسِ بسكينةٍ ووقارٍ، فيقعُدُ قِعْدَةَ المتعلمينَ لا قِعْدَةَ المُعَلِّمين، فإنه بقدرِ إجلالِهِ للشَّيْخِ والتَأَدُّبِ بين يديه ومعَهُ يكونُ انتفاعُهُ بعلمِهِ، فيعتَقِدُ أهليتَه ورجحانَهُ في قَوْلهِ وَنَظَرِهِ وفهمِهِ.

ولا يَضْحَكْ، ولا يُكْثِر الكلامَ، ولا يرْفَعْ صَوْتَهُ، وإذا دَخَلَ عليه فليكن مُتَأَدِبًا مُتَطَهِّرًا مُتَطَيِّبًا، ويعتقدُ في نفسِهِ وهو بين يديه كَمَالَ الجَهْلِ، وأن خَطَأَ الشَّيْخِ أصَحُّ من صَوَابِ نَفْسِهِ.

قال بَعْضُهم: مَنْ لَمْ يَرَ خَطَأَ الشَّيْخِ خَيْرًا من صَوابِ نَفْسِهِ لم

ص: 329

ينتفعْ به. وكان بَعْضُهُم إذا ذَهَبَ إلى شَيْخِهِ يَتَصَدَّقُ بشيءٍ، ويقول: اللَّهُمَّ استر عَيْبَ مُعَلِّمِي عني ولا تُذْهِبْ بركَةَ عِلْمِهِ مني.

ولا يُظْهِرْ بين يديهِ أَّنَّهُ عَارِفٌ أو حَافِظٌ أو نَبيلٌ أو نحو ذَلِكَ. فلو أَلقى إِليه شيئًا يَعْلَمُهُ يُظْهِرُ لَهُ أنَّهُ خالي الذِّهْنِ منه، وَأنَّهُ ما سَمِعَهُ قط من غَيْرِهِ، وإن أَخْطَأَ في شيء أو سَبَقَ لِسانُهُ أعادَ السُّؤالَ بِلُطفٍ وَحُسْنِ عبارةٍ وأدبٍ لعله يتذكر، فلا يقولُ له هذا خطأ، أو ما قالَ به أحد، أو غيركَ قال خلاف هذا، أو لا أُسلِّمُ لَكَ، وشبهها، فلا ينبغي للطَّالِبِ أن يُواجِهَ الشَّيْخَ بشيءٍ من ذَلِكَ، فإنَّهُ أمر مذمومٌ وصاحبه مخطئٌ ملُومٌ.

وقد يُقال إِنه مأْزُورٌ ومَأْثُومٌ؛ لأَنَّ إساءةَ الأَدب تَمْنَعُ صاحِبَها بُلوغَ الأَرَبِ، وتُبَعِّدُهُ من كُلِّ خَيْرٍ، وتجْلُبُ له كُلَّ غمٍّ وهمٍّ وضير، وتسدُّ عنه أبوابَ الفوائد، وتَحْرِمُهُ جَمِيلَ العَوائِدِ، وَتُسَلِّطُ عليه لسانَ كُلِّ أَحَدٍ من عارفٍ وجَاهِلٍ ومُعانِدٍ.

إذْ نفوسُ السَّادَةِ العُلَمَاءِ كَرام؛ لأَنَّهُم لم يعتادوا خُشونَةَ الكلامِ، ولا المخاطبةَ بعباراتِ اللئامِ، ولا المشافهةَ بما تشَافَهُ به العوامِ؛ لأَنَّ الله تعالى ميّزَهَمُ بما فهمه عبادُهُ الموفَّقُونَ بقوله سبحانه:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وبقوله جل من قائل قولًا يعتقده الحكماء:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

ص: 330

أَمَرَ سبحانه بِسُؤَالِهم والرُّجوعِ إلى بيانِهِم في كتابه المكنون بقوله عز قائلًا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43].

والحاصِلُ أَن الآياتِ والأَحاديثَ والآثَارَ الواردَةَ في تعظيمِ العُلمَاءِ والتَّأَدُّبِ مَعَهُم، واحترامِهِم، ومحبتِهِم، واعتقادِهِم، والرُّجوعِ إِليهِمْ، وسُؤالِهِم، أَشْهَرُ من أن تُشْهَرَ وأجل من أن تُحْصَرَ، لكن في هذا القَدْرِ كفايةٌ للعاقِلِ النَّبِيل القَابِلِ للكمَالِ والتَحْصيل، وأما ذو الغَبَاوَةِ وَنَقْصِ العَقْلِ والأَدَبِ فلا يفيدُهُ التَّطْوِيل، ولو تُلِيت عليه التَّوراةُ والإِنْجِيل.

وينبغي للشَّيخِ أن يُقْبِلَ بكُلِّيَّتِهِ على الطَّالِبِ عند قراءَتِهِ عليه، ويُصغي إليه، من غيْرِ لَهْوٍ بحديثٍ أو غيره مِمَّا هو أجنبيٌّ عن ذلِك بلا ضَرُورةٍ. وَلَيَحْذَرِ الطَّالِبُ من قَطْعِهِ إملاءَ الشَّيْخِ وتقريرَهُ بِسُؤالٍ أو غيرِهِ، فإذا عَرَضَ لَهُ سُؤالٌ صَبَرَ إلى فراغِهِ مِمّا هو فيه، فإن لم يَمُرَّ سُؤالُه في تقريرِهِ سَأَلهُ عنه إذا سَكَتَ.

ولْيحذَرِ الطَّالِبُ غايَةَ الحَذَرِ من إظهارِ أَنَّهُ أَهْلُ فَضْلٍ وصَاحِبُ عِلْمٍ وَفَهْمٍ، وهو ليسَ كَذَلِكَ؛ لأَن النَّاس تغترُّ به حينئِذٍ فيتوهمونَ أنّهُ أهْلُ عِلْمٍ فيسألونَهُ فيُفتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ، فيَضِلُّ ويُضِلُّ غيرَهُ لتحليلهِ وتحريمِهِ بهواهُ، فيكونُ ممن يفتري الكَذِبَ على اللَّهِ ورسولهِ، فَيَدْخُلُ تحت قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ

ص: 331

لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116 - 117]، ويكونُ حينئِذٍ مِمَّن قَالَ فيهم عليه السلام:"المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ، كَلابِسِ ثَوْبي زُورٍ"، متفق عليه (1).

والمُتَشَبِّعُ هو الذي يُظْهِرُ الشِّبَعَ وليس بشَبْعانَ، ومعنَاهُ هنا أن يُظْهِرَ أَنَّهُ حَصَلَ له فضيلة في العِلْمِ أو غيره، والواقِعُ أنها ما حصلت، فيكونُ مُزَوِّرًا ومُلَبِّسًا حالَهُ على النَّاس بأن يتزيَّا بزِيِّ أَهْلِ العِلْمِ أو الزُّهْدِ أو الثّرْوةِ ليغتَرَّ بِه النَّاسُ، وليس هو بِتِلْكَ الصِّفةِ، وسببُ هذا فَقْدُ العُلماءِ أو قلّتُهُمْ. وكما قَالَ عليه السلام:"إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، ولكن يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إذا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَساء جُهَالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"(2).

إذا عَلِمتَ ذلِكَ فاعلَمْ أَنّه لا ينبغي لأَحدٍ أن يتزيَّا بِزي يُظَنُّ فيه بسَببِهِ أَنَّه عَالِم أو فقيهٌ أو نحو ذَلِكَ حَتَّى يكون فيه أَهليَّة لِذَلِكَ، بأن يكونَ قَادِرًا على إلقاءِ العِلْمِ لأَهْلِهِ، وعلى فَهْمِ السُّؤالِ ومرادِ السَّائِل، وعلى رَدِّ الجَوابِ المُطَابِقِ لَهُ المُوافِقِ للحقِّ، وألا يكون من المُزَوِّرينَ على النَّاس والكذّابينَ على الله ورسوله.

(1) البخاري (9/ 317)، ومسلم (3/ 1681) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (1/ 194)، ومسلم (4/ 2058) من حديث عبد الله بن عمرو.

ص: 332

فلا يَغْتَرَّ بِمَحْمَدَةِ النَّاس لَهُ ووصفِهِ بالفَضْلِ والعِلْمِ والكمالِ، لأَن هذا شأْنُ سُخَفاءِ العُقُولِ الخَالينَ من المنقولِ والمَعْقول؛ لأَن ذلك لا يُكْسِبُهُ الفضلَ والعلمَ والكمالَ، وإِنَّما يُكْسِبُهُ إياه الجِدُّ والاجتهادُ، وتَلَقّيهِ من فُحُولِ الرِّجالِ، فهو أعرفُ بنفسِهِ وبحالِهِ من كُلِّ أَحَدٍ غيرِه، إِذْ ما من ضريرٍ إلَّا وهو أعرفُ بحالِهِ بنفسِهِ من ألفِ بصيرٍ.

واعلم أنه لا ينبغي لأَحَدٍ أن يمدحَ أحدًا ويَصِفُهُ بالعِلْمِ والكَمالِ ونحو ذَلِك من حميد الخِصَالِ، حَتَّى يكونَ مُتَّصفًا بما يصِفَهُ بِهِ في حقيقةِ الحَالِ، وإلَّا يكونُ شاهدَ زورٍ كذّابًا ضارًّا لنفسِهِ غاشًّا لِمَن يمدحُهُ.

وإن كان الممدوحُ نَاقِصَ العَقْلِ قَليلَ الدّين والفَهْمِ اغترَّ بِذَلِكَ وَصَدَّقَهُ، فيتركُ التَّعَلُّمَ واكتسابَ الكَمالِ اغْترارًا بالمَدْحَةِ التي لم تُصَادِفْ مَحَلًّا، ولم تُوافِقْ شَرْعًا ولا عُرْفًا ولا عَقْلًا، فيكونُ ذلك سبَبًا لِقَطْعِهِ عن الخَيْرِ والصَّلاحِ، ووسيلةً لغرورِهِ وحِرْمانِهِ ما بِهِ الفوزُ والفلاحُ، وذريعةً لتركِهِ الطَّلَبَ الذي له بِهِ في الدَّارين النَّجَاةُ والنَّجاحُ.

وقد قالَ كثيرٌ من العلماءِ العَاملين: احذر المدحَ كما تحذَر الذَّمَّ. ولا شَكَّ أَنَّه كلام موفَّقِينَ، إِذْ رُبَّ مَدْحَةٍ واحدةٍ قد تكون أَضَرَّ من ألفِ ذَمَّةٍ لما يترتبُ عليها من القطع عن التَّحْصيلِ، وعن الاشتغالِ

ص: 333

بالعِلْمِ واكتسابِ ما به التَّكميلُ، وإعطاءِ النَّفْسِ حظَّها لِفَرْطِ الجَهالاتِ، فيبقى الفَاسِقُ بِذَلِكَ مُصرًّا على السيّئاتِ، وهذه مصيبةٌ بل أعظمُ المصيباتِ، وقد كَثُرَتْ وعَمَّتْ في هذا الزمانِ الذي غالِبُ أهلِهِ حُثالات، وما حظُّ عاقليهِ وصالِحيهِ إلَّا كثيرَ الحسراتِ، فَنَتَوَسَّلُ إلى اللَّهِ بِبَرَكَةِ نبينا محمدٍ سيِّدِ السَّادَاتِ أن يعصمنا من ذلك (1)، ومن سَائِرِ الهَلَكَاتِ.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مُدحَ الفَاسِقُ غَضِبَ الرَّبُّ، واهتَزَّ لِذَلِكَ العَرْشُ"(2).

وليجتَهِد الطَّالِبُ غَايَةَ الاجتهادِ في العَمَلِ بمَا سَمعَ من الحديث في فَضائِلِ الأَعمالِ، فإن هذا آكدُ شيءٍ في حَقِّهِ وأنفَعُ ما يكونُ له وأعون شيء له على تحصيل العلم. فقد قال الله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].

وقال علي رضي الله عنه: إِن رجلًا قال: يا رَسُول اللهِ، ما يَنْفِي عنِي حُجَّةَ الجَهْلِ؟ ، قال:"العِلْمُ"، قال: فما يَنْفِي عَني حُجَّةَ

(1) هذا الدُّعاء غير مشروع؛ كما قرَّره شِيخ الإِسلام ابن تيمية في كتاب "قاعدة جليلة في التَّوسل والوسيلة" فانظره إن شئت.

(2)

أخرجه الخطيب في "تاريخه"(8/ 428) من طريق أبي خلف عن أنس، وإسناده واهٍ؛ أبو خلف هذا منكر الحديث، والحديث ضعفه الحافظ العراقي وابن حجر كما في "فيض القدير"(1/ 441).

ص: 334

العِلْمِ؟ قال: "العَمَلُ"(1).

وقال عليه السلام: "إذا عَلِمَ العَالِمُ، فَلَمْ يَعْمَلْ كانَ كالمصباح يُضِيءُ للنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ"(2)

وقال عليه السلام: "إنَّ أناسًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يَطّلعونَ إلى أناسٍ مَنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: بِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ؟ فَوَاللهِ ما دَخَلْنَا الجَنَّةِ إلَّا بما تَعَلَّمْنَا مِنكمْ، فيقولونَ: إنَّا كُنَّا نَقُولُ ولا نَفْعَلُ"(3).

(1) أخرجه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي"(29) من حديث علي، وإسناده ضعيف؛ فيه أبو صادق لم يدرك عليًّا، وعبد الله بن خِداش ضعيف، وأطلق عليه الكذب ابن عمار كما في "التقريب".

(2)

أخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة"(1/ 321، 322) والخطيب في "اقتضاء العلم العمل"(69) من حديث سُلَيك الغطفاني، وإسناده ضعيف جدًّا؛ فيه سليمان بن عمرو أبو داود النخعي كذاب كما في "الميزان"(2/ 216) ويغني عنه ما أخرجه الطبراني في "الكبير"(1/ 178)، والخطيب في "اقتضاء العلم" (70) من حديث جُنْدبِ بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ العَالِمِ الذي يُعَلِّمُ النَّاسَ الخَيْرَ ويَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّراجِ يُضِيءُ للنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ".

وقال الحافظ المنذري في "الترغيب"(1/ 173): "إسناده حسن إن شاء الله" وهو كما قال.

(3)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 150)، والخطيب في "اقتضاء العلم"(73) من حديث الوليد بن عقبة، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 185):"فيه أبو بكر عبد الله بن حكيم الداهري؛ وهو ضعيف جدًّا" وفيه كذلك زهير بن عباد جهله الدارقطني.

ص: 335

وعن عمرو بن قيس بن المُلائي قال: إذا بَلَغَكَ شيءٌ مِنَ الخَيْرِ فاعْمَل بِهِ ولو مَرَّةً يمُنْ من أهْلِهِ (1).

وقال وكيع: إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به. وقال إبراهيم بن إسماعيل بن مُجَمِّع: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به (2).

وقال الإِمام أحمد بن حنبل: ما كتبتُ حديثًا إلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بي في الحديث أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احتَجَمَ وَأَعْطَى أبا طَيْبَةَ دينارًا، فأعطيتُ الحَجَّام دينارًا حين احتَجَمتُ (3).

وليحذر من التَّثْقيل على الشَّيْخِ بالإِطالةِ لئلا يُضْجِرَهُ ويملَّهُ.

قال الخطيب: وإذا حَدَّثَهُ فَيَجِبُ أن يأخُذ منه العفو، ولا يُضْجِرَهُ، قال: والإضجارُ يغيرُ الأَفهام، ويُفسِدُ الأَخلاقَ، ويحيلُ الطِّباع (4).

وقد كان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقًا، فلم يزالوا به حَتَّى ساء خلقه.

(1) ذكره الخطيب في"الجامع"(1/ 143، 144).

(2)

ذكره الخطيب في "الجامع"(1/ 143، 144).

(3)

"الجامع لأخلاق الراوي" للخطيب (1/ 144).

(4)

"الجامع لأخلاق الراوي"(1/ 214، 218).

ص: 336

وعن محمد بن سيرين أنه سأله رَجُلُ عن حديث وقد أرادَ أن يَقُومَ فقال: إنَّكَ إن كلَّفْتَني ما لم أُطِقْ ساءَك ماسَرَّك مني من خُلُقٍ (1).

قال ابن الصلاح: يُخْشى على فَاعِلِ ذلِكَ أن يُحْرَمَ الانتفاع.

قال الشيخ زين الدِّين عبد الرحيم العراقي في "شرح ألفيته": إن أبا العباس أحمد بن عبد الرحمن المرادي كان كَبِرَ وَعَجَزَ عن الإسماعِ حَتَّى كُنَّا نتَأَلّفهُ على قراءةِ الشيء اليسير، فَقَرَأَ عليه بعضُ أصحابِنا فيما بَلَغني "العُمْدَة" بإجازِتِه من عبد الدائِمِ، وأطالَ عليه فَأَضْجَرَهُ، فكان يقول له الشَّيخ: لا أَحْياكَ اللَّهُ أن ترويَها. ونَحْو ذَلِكَ، فماتَ الطَّالِبُ بعد قليلٍ، ولم ينتَفع بِما سمعه عليه (2).

فليكن تحفُّظُ الطَّالِب للعلْمِ على التدريج قليلًا قليلًا، ولا يأْخُذْ نَفْسَهُ بما لا تطيقُهُ، ففي الحديث الصحيح:"خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ ما تُطِيقُونَ"(3).

وعن الثَّوري قال: كنت آتي الأَعمش ومنصورًا فَأَسْمَعُ أربعةَ أحاديث خمسة، ثُمَّ أنصرِفُ كراهيةَ أن تكثُر وتَغْلِبَ.

(1)"الجامع"(1/ 215).

(2)

من قول عمرو بن قيس الملائي إذا بلغك

إلى هنا نقله المصنف من شرح الحافظ العراقي على الألفية" (2/ 227 - 229).

(3)

أخرجه البخاري (4/ 213)، ومسلم (2/ 811) من حديث عائشة.

ص: 337

وروي نحو ذلك عن شعبة، وابن علية، ومَعْمَر. وعن الزُّهري: من طلب العلم جُمْلَةً فاته جُمْلَةً، وإنما يُدْرَكُ العِلْمُ حديثٌ وحديثان.

- وقال أيضًا: إن هذا العلمَ إن أخذتَهُ بالمُكاثَرَةِ له غَلَبَكَ، ولكن خُذْهُ مع الأَيام والليالي أَخْذًا رفيقًا تَظْفَرْ بِهِ.

وروي عن الشَّافعي رضي الله عنه: من حَفِظَ كُلَّ يَوْمٍ مسألةً تفقَّه في سَنَةٍ، ومن حَفِظَ كُلَّ يوم مَسْأَلتَيْنِ تَفقَّه في سنتين، أو نحو ذلك.

واعلم أنَّهُ مِمَّا يُعينُ على دوامِ الحِفْظِ المُذَاكَرةُ. قال علي بن أبي طالب: تذاكروا هذا الحديث، إلَّا تفعلوا يُدْرَسْ.

وعن ابن مسعود: تَذاكروا الحديثَ، فإن حياتَهُ مذاكرتُهُ. وروي نحوه عن أبي سعيد الخُدري، وابن عباس.

وقال الخليلُ بن أحمد: ذَاكِرْ بِعِلْمِكَ تذكُرْ ما عِنْدَكَ، وتستفدْ ما ليس عندك.

وعن عبد الله بن المُعْتَز قال: من أكثرَ مذاكرةَ العلماءِ لم ينسَ ما عَلِمَ، واستفادَ ما لم يعلم.

ومن فوائِدِ مُذاكَرَةِ العِلْمِ: أنَّها تُقَوي النَّفْسَ، وتُثَبِّتُ الحفظَ، وتُذَكي القلب، وتَشْحَذُ الطبعَ، وتَبْسُطُ اللِّسانَ، وتجيدُ البيان، وتكشِفُ المُشْتَبِه، وتُوضِحُ المُلتَبِس، وتكْسِبُ أيضًا جَميلَ الذِّكْرِ وتُخَلِّدَهُ إلى آخِر الدَّهْر، كما قال الشَّاعر:

ص: 338

يموتُ قَوْمٌ فَيُحْيِي العِلْمُ ذكرَهم

والجهلُ يُلْحِقُ أَمواتًا بِأَمواتِ

وهذا كُلُّهُ مشروطٌ بقصدِ الإِفادةِ والاستفادةِ، وَقَصْدِ إظهارِ الحَقِّ، ونشرِ العِلْمِ مع سلامةِ الصَّدرِ من الغِش، والبُغْضِ، والحِقْدِ، ولينِ الجانب، واللطفِ بمن يذاكِرُهُ، وتحمُّلِ أذاهُ، والتَّأنِّي عليه مع الصَّبْرِ التَّامِ على جفائه.

وأما إذا قُصِدَ بذلك الرَّفعةُ، والتعاظُمُ، وإظهارُ الرِّئاسةُ، أو تعريفُ النَّاسِ مقامَهُ بأنَّهُ أعلمُ وَأَعْرَفُ أو أفْهَمُ، أو كان بترافُعٍ وَتَعاظُمٍ على من يذاكرُهُ، أو عدم صبر عليه لينظُرَ مأخذَهُ ومخلصَهُ، فإنها لا تَحِلُّ قطعًا، بل صاحبها آثِمٌ، ومن كُل خَيْرٍ خائِبٌ، وإلى كُلِّ شَرٍّ وضُرٍّ آيبٌ.

وليَكُن الطَّالِبُ مُصاحِبًا للإتقانِ، صابرًا على تناولِ العلم على التَّدريج بلا ضَجَرٍ وتوانٍ؛ لأَن قليل العلم مع الإِتقان خَيْرٌ وأنفعُ من كثيرِهِ بلا إتقانٍ.

فلا ينبغي للطَّالب أن يقتصرَ على سماع الحَدِيث ونحوِهِ وكُتُبِهِ دون معرفَتِهِ وَفَهْمِه.

قال أبو عاصم النَّبيل: الرِّئَاسةُ في الحديث بلا درايةٍ رئَاسة نَذْلَةٌ (1).

(1)"الجامع لأخلاق الراوي"(2/ 181).

ص: 339

وقال عبد الرحمن بن مهدي: الحِفْظُ الإتقانُ.

قال فارس بن الحسين:

يا طَالِبَ العِلْمِ الذي

ذَهَبَتْ بمدَّتِهِ الرِّواية

كُن في الرِّواية ذا العِنا

يَةِ بالرِّوَايَةِ والدِّرَايَة

وارْوِ القَليلَ وراعِهِ

فالعِلْمُ لَيْسَ لَهُ نهاية (1)

وَليَحْذَرِ الطَّالِبُ غايةَ الحَذَرِ أن يمنعَهُ التكبُّرُ والحياءُ عن طلبِ العِلْمِ؛ فإنّ الحياءَ هنا مذمومٌ، وصاحِبُهُ ملومٌ بل مأثوم؛ لأَن هذا الحياء في الحقيقةِ قِلّةُ حياءٍ مِنَ اللَّهِ تعالى وغِشٌ لنفسه، حيثُ يُبْقيهَا حائِرَة من الجهالة، راتعةً في ميادين البطالةِ، راضية بمقام أهل الذُّلِّ والنَّذالة.

وأما التَّكبرُ فإنه من حيث هو من أقبح العُيُوب بل من أعظمِ الذنوب، وأقوى أسباب البُعْدِ عن علَّام الغُيُوبِ؛ لكن إثْمُه هنا أشد وأعظمُ، والعقابُ عليه أحْتَمُ وَأَلْزَمُ، وكيف لا وقد مَنَعَ صاحبَهُ نيلَ الطَّريقِ الأَقْوَمِ.

قال مجاهد: لا ينالُ العِلْمُ مُسْتَحٍ ولا مستكبر، والله الموفق.

ويتأكد في حَقِّ الطَّالبِ الصبرُ على سُوءِ خُلُقِ الشيخ وجفوته، ولا يمنعهُ ذلك من الملازمةِ لما عندَهُ من التكبُّرِ والتَّعَاظُمِ.

(1) ذكره بسنده الإمام ابن الصَّلاح في "علوم الحديث" ص 226.

ص: 340

قال الشَّافعي: لا ينال الرَّجُلُ من هذا العِلْمِ حَالًا ينتفعُ بها حَتَّى يُطيلَ الاختلاف إلى العلماءِ، ويَصْبِرَ على جفوتهِم، ويحتمل الذُّلَّ في جنبِ الفائدةِ منهم.

وقال شيخُ القراء نافع: كُلُّ من قرأت عليه فأنا عبدُهُ (1).

وعن ابن مجاهد عن ابن الجهم: كُلُّ من أخذَ عن أحد فهو فتاهُ، وإن كان أعلى سِنًّا منه.

ويتأكَّدُ عليه أيضًا الدُّعاء لشيخه لأَنه أَنتجَهُ سعادةَ الدَّارين، والرِّفْعَة بين الثَّقلين، وأخرجَهُ من ظلماتِ الغَباوَةِ والجَهْلِ إلى نورِ العِلْمِ والفَهْمِ.

قال الإِمام أبو يوسف: ما تركتُ الدعاء لأَبي حنيفة مع أَبَوَيَّ أربعين سنةً، وكان يقول: من لم يعرف حقًّا لأُستاذه لم يفْلحْ أبدًا.

وليجتنبْ الطَّالِبُ إذا ظَفِرَ بشيخٍ أو بسماعٍ لشيخٍ أن يكتمَهُ لينفرد به عن أضرابه؛ فإن ذلِكَ لُؤْمٌ من فاعله، قال مالك: من بركة أهل الحديث إفادةُ بعضهم بعضًا، ونحوه عن ابن المبارك، ويحيى بن معين.

وعن يحيى بن معين قال: من بَخِلَ بالحديث، وَكَتَمَ على النَّاس سماعَهُ لم يُفْلحْ.

(1) أي: كأني مملوك له.

ص: 341

وقال إسحاق بن راهويه: رأينا أقوامًا منعوا هذا السَّمَاع، فوالله ما أفلحوا ولا أنْجَحوا (1).

فينبغي للطَّالِبِ إفادةُ الحديثِ ونحوِه لمن لم يَسْمَعْه، والدِّلالةُ على الشيوخ، والتَّنبيهُ على رواياتِهم، فإِن أقلَّ ما يكونُ في ذلك النُّصْحُ للطّالِبِ، والحفظُ للمطلوب مع ما يكتَسِبُ به من جزيلِ الأَجر، وجميلِ الذِّكْرِ.

روى الخطيب بإسناده إلى ابن عباس رفعَه، قال:"إخواني، تناصَحُوا في العِلْمِ، ولا يكتُمْ بعضُكُمْ بَعْضًا؛ فإن خيانَةَ الرَّجُلِ في عِلْمِهِ أَشَدُّ من خيانَتِهِ في ماله"(2).

ثُمَّ روى عن الثَّوري قال: لِيُفدْ بعضُكُم بَعْضًا (3).

وأما ما روي عن بعض الأَئمة كشعبةَ، وسفيانَ الثوري، وابنِ جريج، وغيرِهم، أنَّه كَتَمَ العِلْمَ عن بعض النَّاسِ؛ فإنَّه محمولٌ على كتمه عمَّن لم يَرَوْهُ أهلًا، أو على من لم يقبَلِ الصَّوابَ إذا أُرْشِدَ إِليه أو نحو ذلك. وقد قال الخطيب: من أدَّاهُ -لجهلِهِ- فَرْطُ التِّيهِ والإعجابِ إلى المُحَامَاةِ عن الخطإِ والمُمَاراةِ في الصَّوابِ، فهو بذلكَ

(1) ذكرهما ابن الصلاح في "علوم الحديث" ص 224.

(2)

أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"(2/ 149) وإسناده ضعيف جدًّا؛ فيه عبد القدوس بن حبيب الكِلاعي، متروك كما في "الميزان" للذهبي (2/ 643).

(3)

"الجامع"(2/ 150).

ص: 342

الوصفِ مذمومٌ مَأْثومٌ، وَمُحْتَجِزُ الفائِدَةِ عنه غيرُ مُؤَنَّبٍ ولا ملومٌ.

وقال الخليل بن أحمد لأَبي عُبيدة مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى: لا تَرُدَّنَّ على مُعْجَبٍ خَطَأً، فيستفيد مِنْكَ عِلْمًا، ويتخذَكَ بِهِ عدوًّا (1).

ولتكن همةُ الطَّالِبِ تحصيلَ الفَائِدَةِ سواءٌ وقعت لَهُ بعلوّ أو نزولٍ، ولا يأنفْ أن يكتُبَ عمَّن هو دونَهُ ما يستفيدُهُ.

قال سفيانُ ووكيعٌ: لا يكونُ الرَّجُلُ من أهل الحديث حَتَّى يكتُبَ.

وقال وكيع: لا يكونُ الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى يأخُذَ عمن هو فَوْقَهُ، وعمن هو دونَهُ، وعمن هو مثلَهُ.

وكان ابن المبارك يكتُبُ عَمَّن هو دونَهُ، فقيل له في ذلك فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع لي (2).

وليحذَرِ الطَّالِبُ أن تكونَ همتُه تكثيرَ الشيوخِ لمجردِ اسمِ الكَثرَةِ وصِيتِها؛ فإن ذلك مما لا طائل تحتَهُ.

قال ابن الصَّلاح: وليس بِمُوفَّقٍ من ضَيَّعَ شيئًا من وقتِهِ في ذلك (3).

(1) كلام الخطيب والخليل بن أحمد في "الجامع لأخلاق الراوي"(2/ 154).

(2)

ذكر هذه الآثار الخطيب في "الجامع"(2/ 216، 219، 220).

(3)

"علوم الحديث" لابن الصلاح ص 225.

ص: 343

وأمَّا إذا قَصَدَ بذلِكَ تكثيرَ طُرُقِ الحديث والتَّثَبُّتَ في العُلُومِ فهو محمودٌ.

قال أبو حاتم: لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه.

وقال القاسم بن داود البغدادي: كتبت عن ستة آلاف شيخ (1).

وينبغي للطَّالِبِ أن يَسْمَعَ ويكتُبَ ما وقَعَ له من كتابٍ أو جُزءٍ على التَّمامِ ولا ينتَخِبْه، فربما احتاج بعد ذلك إلى رواية شيء مما لم ينتخِبْه فيندَم.

قال ابن المبارك: ما انتخبت على عالم قط إلَّا ندمت.

وقال: ما جاء من منتقٍ خَيْر قط (2)، لكن فِعْلُ مثل هذا لِعذرٍ لا بأس به، كما لو كان الشَّخصُ غريبًا يعسُرُ عليه طولُ الإِقامةِ، أو كان الشَّيخُ كبيرًا أو مُكْثرًا يعسر الأَخذ عنه كذلك.

وَليجتهدِ الطَّالبُ في الكتابةِ، فإنَّها من أعظم أسبابِ تحصيل العلم، ولا يقتَصِر على السَّماع فقط ولا على الحفظ فقط؛ لأَن ذلك قد يخونُ فيرجِعُ إلى الكِتَاتةِ إن كانَتْ، وإلَّا ذَهَبَ سعيُهُ وضاعَ تحصيلُهُ.

بل لولا الكتابةُ لضاعت غَالِبُ مصَالح النَّاس، ولضاعَ أكثر العلم، فهي أهم شيءٍ في حَقِّ طالبِ العلم، بل رأسُ مالِهِ فلا غنى له

(1) أخرجه الخطيب في "الجامع"(2/ 222).

(2)

"علوم الحديث" لابن الصَّلاح ص 225.

ص: 344

عنها، لا سيما في هذه الأَزمنةِ التي عَمَّتْ فيها الهمومُ، وتوالت فيها الغُمومُ التي هي أعظمُ أسباب النِّسيان، حَتَّى فَتَرَتْ بِذَلِكَ هِمَمُ أكثرِ النَّاسِ عن الحفظ والإِتقان، فَتَعيَّنَ حينئذٍ الاستعانَةُ بالكتَابَةِ لأَهلِ الجِدِّ والعرفانِ.

وَمِمَّا يدلُّ على تأكدِ الكتابة الشِّعْرُ المنسوبُ للإِمامِ أحمدَ بنِ حنبل رضي الله عنه، وهو هذا:

مَنْ طَلَبَ العِلْمَ والحديثَ فلا

يَضْجَرْ من خمسةٍ يُقَاسِيها

دَراهِمٌ للعلوم يَجْمَعُها

وعِنْدَ نَشْرِ الحَديثِ يُفْنِيهَا

يُضْجِرُهُ الضَّرْبُ في دفاتِرِه

وكثرةُ اللّحْقِ في حواشِيها

يَغْسِلُ أَثوابَهُ وبَشْرَتَهُ

من أثَرِ الحِبْرِ ليسَ يُنْقِيهَا

يشيرُ إِلى أنَّه لكثرةِ كتابته يعلَقُ الحِبْرُ على أثوابِهِ وبشرته حَتَّى لا يكاد ينقى لكثرته.

وقد كان هذا دَأَبَهُ ودأبَ أضرابِهِ رضي الله عنهم، بل كان هو مع ذلك يكتب بالأُجرة رضي الله عنه.

وينبغي للطَّالِبِ ضبطُ كتابِهِ بالنَّقْطِ والشَّكْلِ ليُؤَديَهُ كما سَمِعَهُ، فإن لم يفعلْ ضَبَطَ المُشْكِلَ؛ لأَنه أعونُ له ولغيره.

وَيَجتَنِبُ الخَطَّ الدقيق؛ لأَنه لاينتفع به من نظرُهُ ضعيفٌ، وربما ضَعُفَ نَظَرُ كاتبِهِ بعد ذلك، فلا ينتفع به، كما قال الإِمام

ص: 345

أحمد بن حنبل لابن أخيه حَنْبَل بن إسحاق، ورآه يكتبُ خطًا دقيقًا: لا تَفْعَلْ، أحوجَ ما تكونُ إليه يخُونُكَ (1).

ومحلُّ هذا إذا كان لغير عُذْرٍ، فإن كان عذرٌ كضيق ما يكتُبُ فيه، أو كان رحَّالًا في طلبِ العِلْمِ يريد حمل كُتُبِهِ معه فتكونُ خفيفةً عليه فلا يُكْرَهُ ذَلِكَ.

ويستحَبُ له تحقيقُ الخَطِّ وتجويدُهُ دونَ المَشْقِ والتَّعْلِيقِ. وقد ذَكَر ابن قُتَيْبَةَ أن عمر بن الخطاب قال: شَرُّ الكِتَابَةِ المَشْقُ، وَشَرُّ القراءة الهَذْرَمَةُ، وأجودُ الخَطِ أَبْينُهُ (2).

والمشقُ: سُرْعَةُ الكتابَةِ، والهَذْرَمَةُ: بالذال المعجمة سرعةُ القراءَةِ.

ويُكْرَهُ أن يفصل في الخط بين ما أضيف إلى اسم الله، وبين اسم الله تعالى مثل عبد الله بن فلان، أو عبد الرحمن بن فلان وغير ذلك من الأَسماء، فيكتب عبد في آخر سطر ويكتب أول السَّطْرِ الآخر اسم الله وبقية النَّسَبِ، ومثلُهُ أن يكتُبَ في آخرِ السَّطْرِ قال رسول، وفي أول السَّطر الذي يليه الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي التَّحَفُّظ من ذَلِكَ.

(1)"الجامع لأخلاق الراوي"(1/ 261)

(2)

أخرجه الخطيب في "الجامع"(1/ 262).

ص: 346

ولا يختصُ المنع بأسماءِ الله بل الحُكْمُ كَذلِكَ في أسماء النّبيِّ صلى الله عليه وسلم والصحابة أيضًا، مثاله لو قال: سابُّ النبيِّ عليه السلام كافرٌ، وقاتلُ ابن الزُّبير في النَّارِ ونحو ذلك، فلا ينبغي أن يكتب "سابُّ" أو "قاتِلُ" في آخرِ سَطْرٍ وما بَعْدَ ذَلِكَ في سَطْرٍ آخَرَ.

وينبغي أيضًا اجتنابُ كل ما يُسْتَبْشَع، ولو وَقَع ذلك في غير المضافِ والمُضافِ إليه.

أما إذا لم يكن في شيءٍ من ذلك بعد اسم الله تعالى أو اسم نبيه أو اسم الصَّحابي ما ينافيه، بأن يكون الاسمُ آخِرَ الكِتَابِ أو آخر الحديث ونحو ذَلِكَ، أو يكونَ بعدَهُ شيءٌ مُلائِمٌ له غيرُ مُنَافٍ له فلا بأس بالفَصْلِ، نحو قوله في آخر البخاري:"سبحان الله العظيم"؛ فإنهُ إذا فَصَلَ بين المُضافِ والمضاف إليه كان أول السَّطرِ الله العظيم، فلا مُنافَاةَ في ذَلِكَ، ومع هذا جَمْعُهما في سطر واحد أولى.

وينبغي له أن يُحافِظَ على كَتْبِ الثَّنَاءِ على اللَّهِ عِنْدَ ذكرِ اسمه، نحو عز وجل، وتباركَ وتعالى، وما أَشْبَهَهما، وعلى الصَّلاةِ والسَّلامِ على النَّبِي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأَم من تكرُّرِ ذلك فإن أَجْرَهُ عظيمٌ، فيحافظُ على كتابة ذلك، وإن لم يَكُنْ مكتوبًا في الأَصْلِ الذي يَكتُبُ منه.

ص: 347

وكذلك يُحافِظُ على التَّرضي والتَّرَحُّمِ على الصَّحابَةِ والعلماءِ وسائرِ الأَخيار.

ويُكْرَهُ الرَّمْزُ للصَّلاةِ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، بأن يقتصر من ذلك على حرفين، ونحو ذلك ككتابَةِ "صلعم" إشارة إلى الصَّلاةِ والسَّلامِ.

ويُكْرَهُ حذفُ واحدٍ من الصَّلاةِ والسَّلامِ والاقتصار على أحدهما، وعِنْدَ الإِمام أحمد هو خلاف الأَوْلَى على الأَصَحِّ عنه.

قال حمزة الكتاني: كنتُ أَكتُبُ عند ذكر النَّبِيِّ صلَّى الله عليه، فرأيته في المنام فقال لي: ما لكَ لا تُتِمُّ الصَّلاة عليَّ؟ قال: فما كتبتُ بعد ذَلِكَ صلَّى الله عليه إلَّا كتبت وسلَّم.

وإذا كانت المحافظَةُ على كتابةِ الصَّلاة والسَّلام على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والثناءِ على الله سبحانه، والتَّرضي والتَّرَحمِ على الصحابة والعلماء والأَخيار مؤكدةً، فذلك في اللفظ آكَدُ إذا ذَكَرَ الشَّيخُ أو الرَّاوي واحدًا منهم، والله أعلم.

* * *

ص: 348