الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكبائر كالسِّحْرِ والرِّبا، وعقوقِ الوالدين، والقذف، وشُرْبِ الخَمْرِ، والفرارِ يوم الزَّحْفِ، والغيبَةِ والنَّميمَةِ وما أشبه ذلك، ولا شَكَّ أن بَعْضَ الكبائر أَعْظَمُ من بَعْضٍ، وأن الصغائِرَ دونَ الكبائر ما لم تتكرر وإثْمُها متفاوت أيضًا، والله أعلم.
وصيَّة نافعة إن شاء الله تعالى
حيثُ عَلِمْتَ يا أخي أن الاشتغالَ بالعِلْمِ من أفضلِ الطَّاعاتِ، وأَعْظَمِ القرُباتِ، وأنْفَعِ العباداتِ بل ينبغي أن يكون أفضلها على الإطلاق لتوقف معرفتها وصحتِها عليه بالاتفاق، فاعلم وفقني الله وإيَّاك أنَّه ليس المراد بالعِلْمِ مجردَ الاشتغال به، والإقبال عليه من القراءة والإقراءِ والكِتَابةِ والتَّأْليف وغير ذلك بلا عَمَلٍ يقودُ إِليه، وإنَّما المقصودُ الأَعظمُ منه الحِرْصُ على إحْكامِ العَمَلِ مع تطهير النُّفُّوسِ من المعاصي والزَّللِ، وتنزيهِهَا عن القبابح والرَّذائِلِ، وتبعيدِها عن القَواطعِ عن الله والشَّواغِلِ، وتصفيتِها من المعائب بالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ والإخلاص، والسَّعي التَّامِّ على ما فيه في الدَّارين النِّجاةُ والخلاصُ.
فَفَرْضٌ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكونَ مُهْتَمًا غايةَ الاهتمامِ بتحصيلِ ما فيه صلاحُ نَفْسِهِ ومُوجِبُ عدالتها عند الله وبين الأَنام، وأن يكون ساعيًا بجدٍّ واجتهاد في تفريغ قَلْبِهِ من قاذوراتِ الكِبْرِ والبُغْضِ والحَسَدِ والعناد، وأن يكون مُقْبِلًا على مولاهُ في سائِر الأَطوارِ مُعْرِضًا عن جمِيع الأَضدادِ والأَغيار، فإن كان كذلك فَهُوَ في الدُّنيا والأُخرى
حَميدٌ وسَعيدٌ، وكيفَمَا تَوَجّهَ رشيدٌ وسديدٌ، وإلَّا فهو شَقيٌّ وطريدٌ، وعن كُلِّ خَيْر قصيٌّ وبعيدٌ، وإن كان مُكِبًّا على العِلْمِ آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهَارِ معتنيًا بتحصيله غاية الاعتناء في السِّرِّ والجهار، إذ اشتغالُهُ به الأَوقاتِ ما أفادَهُ إلَّا مزيدَ غَضَبِ رَبِّ الأَرْضِ والسَّمَواتِ.
وحيثُ عَلِمتَ هذا فاعلم أنَّ مِنَ الفَرَائِضِ المُحَتِّمَةِ والواجبات المؤكَّدَةِ صَوْنَ اللِّسانِ عن الكَذِبِ والزُّورِ والفحشاءِ والغِيبَةِ والنَمِيمَةِ والباطِلِ، ومن المحرمات دماءُ المسلمين وأموالُهُم وأعراضُهُم إلَّا بحقِّهَا، فلا يَحِلُّ دَمُ المُسْلِمِ إلَّا أن يكفرَ بعد إيمانِهِ، أو يَزْنيَ بعد إحصانِهِ، أو يقتُلَ نَفْسًا بغير نَفْسٍ، وفرضٌ على كُلِّ أَحدٍ كَفُّ يَدِهِ عمَّا لا يَحِلُّ من مالٍ أو جَسَدٍ أو دمٍ.
ويحرُمُ على كُلِّ أَحَدٍ أن يسعى بقدمِهِ إلى ما لا يَحِلُّ له، وأن يُباشِرَ بِجَسَدِهِ أو فَرْجِهِ ما لا يَحِلُّ له، وأن يَسْمَعَ ما لا يَحِلُّ له سماعُهُ من غيبَةٍ ونميمَةٍ وكَذِبَةٍ وغير ذلك، وأن يُبْصِرَ بعينِهِ ما لا يَحِلُّ له كالنَّظَرَ إلى الأَمردِ بِشَهْوَةٍ عند الأَكثر ومطلقًا عند كثيرين أو إِلى الأَجنَبية مُطْلقًا؛ لأَن الله تعالى حَرَّمَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ.
وَفَرْضٌ على كُلِّ أَحَدٍ أن يَكُفّ جميعَ شَرِّهِ عن جميع خَلْقِ الله، فلا يُؤْذِيَ أَحَدًا بيدٍ، ولا رِجْلٍ، ولا لِسَانٍ، ولا عَيْنٍ، ولا سَمْعِ، ولا اعتِقادٍ، ولا في مالٍ وإن قَلَّ كَخَرْدَلَةٍ، ولا عِرْضٍ وإن سَهُلَ، ولا في شيءٍ من الأَشياءِ مطلقًا.
وليُحْسِن إلى جميع خلقِ اللهِ ما استطاعَ إن الله يُحِبُّ المحسنين.
وعَلَيْكَ بِأَكْلِ الطَّيِّبِ وهو الحلال لأَن ذلك أساسُ العِباداتِ كُلِّها، وعمادُ الخَيْراتِ بِأَسْرِها، فليهتَمَّ بذلك العاقِلُ أَعْظَمَ الاهتمام إن رامَ سلامةَ دينِهِ على الدَّوامِ، وإن فَرَّطَ في ذلك وتساهَلَ ولم يُبَالِ من أين يتناوله فقد تَعِسَ وخابَ وخَسِرَ واجترم، وسينْدَمُ حين لا ينفعُهُ النَّدَمُ.
واجْتَهِدْ رَحِمَكَ الله غايَة الاجتهادِ أن يكون ذلك من كَسْبِكَ المُبَاحِ لأَن أفضل ما أَكَلَ المرءُ من كَسْبِهِ باتفاقِ علماءِ الإسلام كما أرشدَ إلى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا ما تلبسُهُ وتنامُ عليه، وكُلُّ ما تنفِقُهُ فرضٌ عَلَيْكَ أن يكون كُلُّ ذلك من الحلال.
فلا يَحِلُّ لأَحَدٍ أن يَأْكُلَ إلَّا حلالًا، ولا يَشْرَبَ إلَّا حلالًا، ولا يسكُنَ ولا يركب إلَّا حلالًا، ولا يَسْتَعْمِلَ شيئًا مِمَّا يُنْتَفعُ به إلًا حلالًا.
واعلم أن وراء الحَلالِ أمورًا مشتبهاتٍ من تركَهَا سَلِمَ ومَنْ أخذ بشيءٍ منها كان كالرَّاعي حَولَ الحِمى يُوشِكُ أن يَقَعَ فيه.
وحَرَّمَ الله أَكْلَ المالِ بالباطِل، ومِنَ الباطل الغَصْبُ والتَّعدي والخيانَةُ والرِّبا والقِمارُ والغَررُ والنَّجْشُ والخديعة.
وحَرَّمَ سبحانه أكل الميتةِ والدَّمِ وَلَحْمِ الخِنْزيرِ وما أهلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وما ذُبِحَ على النُّصُبِ.
والخَمْرُ نَجِسَةُ العَيْن قَد حَرَّمَ الله قليلها وكثيرَها كيف ما كان على أيِّ وجهٍ كان، وبيَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الخمر أمُّ الفواحِشِ وأكْبَرُ الكبائر (1) وأن من شربها لم تُقبل صلاته أربعين يومًا (2)، وبيَّن عليه السلام أن ما أسكَرَ كثيرهُ من الأَشْرِبَةِ فقليلُهُ حرامٌ (3) وكُلُّ ما خامَرَ العَقْل وأسْكَرَ من كُلِّ شرابٍ فهو خمر.
وما حَرُمَ حَرُمَ بَيْعُهُ وأَكْلُ ثَمَنِهِ والانتفاعُ بهِ.
والحشيشَةُ نَجِسَة يَحْرُمُ قليلُهَا وكثيرُها وهي عِنْدَ شيخِ الإسلامِ ابن تَيميَةِ كالخَمْرِ حَتَّى في وجوب الحَدِّ (4).
ومن أَعْظَمِ الواجباتِ بِرُّ الوالدين وإن كانا فاسقين، وطاعتُهُما في غَيْرِ معصيةِ الله تعالى وإن كانا عاصيين، فإن كانا كافرين فليصاحِبْهُما في الدُّنيا معروفًا، ولا يطعهما في معصية الله تعالى، إذْ لا طاعَةَ لمخلوقٍ في معصية الخَالِقِ.
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(11372) من حديث ابن عباس وإسناده ضعيف، فيه ثلاثة ضعفاء.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 176)، وابن حبان (5357) وغيرها من حديث عبد الله بن عمرو وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الترمذي (1866) وأبو داود (3681) من حديث جابر بن عبد الله وهو صحيح: انظر شواهده في "جامع الأصول"(3112، 3113، 3121).
(4)
ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية" ص 116.
وعلى الوالدينِ أن يُعَلِّمَا ولدَهُما القراءَةَ والكِتَابَةَ، وما ينتفعُ به في دينِهِ من الفَرائِضِ والسُّنَنِ، وإن وَرَّثَاهُ أن يُوَرِّثَاهُ حَلالًا وإلَّا فرزقُهُ على اللهِ خالِقِهِ ورازقِهِ لا عليهما فيكِلانِ أَمْرَهُ في رزقِهِ وغيره إلى اللهِ سبحانه إِذْ ما من دابةٍ في الأَرض إلَّا على الله رزقها ويعلم مُسْتَقرَّهَا ومُسْتَوْدَعَها.
وعلى المؤمن أن يستغفرَ الله سبحانِهِ لأَبويه المؤمنين، ويَحْرُمُ استغفارُهُ للكافر منهما، وعليه أن يَصِلَ رَحِمَهُ، وَتَتَأَكَّدُ صِلَةُ الرَّحِمِ الكاشِحِ أي المُبْغِضِ، وعليه موالاةُ المؤمنينَ والنَّصيحةُ لهم، وعليه أيضًا النَّصيحَةُ لإمامِهِ وطاعتُهُ في غَيْرِ معصية الله تعالى، والذَّبُّ عنه، والجهادُ بين يديه إذا كان قادرًا، وعليه اعتقادُ إِمامَتِهِ فإن من فارقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسلامِ من عُنُقِهِ، وإن باتَ ليلةً لا يعتقدُ فيها إمامته فمات على ذَلِكَ كانت ميتتهُ على ذلك ميتةً جاهليةً.
ولا يبلُغُ أَحَدٌ حقيقةَ الإيمانِ حَتَّى يُحِبَّ لأَخيه المؤمن ما يحب لنفسه من الخَيْرِ، ولا حقيقةَ الوَرَع حَتَّى يَدَع ما لا بَأْسَ به خَوْفًا من أن يَجُرَّهُ إلى ما به بأْسٌ.
ومِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرءِ تَرْكُهُ ما لا يعنيه.
ومن حَقِّ المؤمنِ على المؤمن أن يُسَلِّمَ عليه إذا لَقِيَهُ، ويعُودَهُ إذا مَرِضَ، ويُشَمتَهُ إذا عَطَسَ فَحَمِدَ الله تعالى، وأن يَشْهَدَ جنازتَهُ إذا
مات، ويحفظَهُ إذا غابَ في السِّرِ والعلانية، ولا يهجرُ أخاه فَوْقَ ثلاثِ ليالٍ، والسَّلامُ عليه يخرجُهُ من ذَلِكَ، لكن يتأكَّد في حَقِّهِ أن يُكَلِّمَهُ بعد ذَلِكَ.
والهجرانُ المأذونُ فيه هَجْرُ ذوي البِدَعِ، والمُجاهرينَ بالمعاصي ولا يَقْدِرُ على موعِظَتِهم أو لا يقبلونها مِنْهُ، ولا غيبةَ لهؤلاءِ في ذِكْرِ حالهم على وَجْهِ النَصيحَةِ كَذِكْرِ حالِ المُشَاورِ فيه لأَجْلِ نِكَاحٍ أو شَرِكَةٍ أو مُعَامَلَةٍ أو غير ذلك، وبيان ذلك فرضٌ لوجوبِ النَّصيحَةِ.
ومن مكارِمِ الأَخلاقِ أن تعفو عن من ظَلَمَكَ، وتُعْطِيَ من حَرَمَكَ، وتَصِلَ من قَطَعَكَ.
وَعَلَيْكَ بالصَّدَقَةِ، وأَفْضَلُ الصَّدَقة على ذي الرَّحِمِ الكاشِح أي المُعادي المُباغِض، وحسنُ الجوار مأمورٌ به مُرَغَّبٌ فيه فإن للجارِ حقًّا وحُرْمَةً، وليس حُسْنُ الجوار كَفَّ الأَذى عن الجار، لأَن كَفّ الأَذى عن الجار وغيره فَرْضٌ مُتَأكِّد على كُلّ أَحَدٍ، ولكنه تَحَمَّلُ الأَذَى من الجارِ ما لم يكن معصيَةً.
ولا يَحِلُّ لأَحَدٍ أن يتعمدَ سَمَاعَ شيءٍ من الباطل، ولا أن يَتَلَذَّذَ بسماعٍ صَوْتِ امرأَةٍ أجنبية، ولا أن يَسْمَعَ شيئًا من الملاهي والغِنَاءِ، ولا قراءَةُ القُرآنِ باللُّحونِ المُرجّعَةِ كترجيعِ الغِنَاء.
فَليُجِلَّ كِتَابِ الله أن يتلُوَهُ إلَّا بسكينةٍ ووقارٍ، وترتيلٍ في الجَهْرِ والإسْرارِ، مع حضورِ قَلْبٍ وخشوعٍ وَتَذَلُلٍ وخضوعٍ، وهِمَّةٍ قويَّةٍ ونِيَّةٍ سَوِيَّةٍ، وطويَّةٍ صحيحةٍ، وعزيمَةٍ ربيحَةٍ، مع حُزْنٍ وَتَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ وَتَفَكُّرٍ، وبما يوقِنُ التّالي أن الله يرضى به ويثيب عليه وْيُقَرِّبُ مِنْهُ ويُزلفُ لديه، ويلطفُ به ويرحمُهُ بين يديه.
واعلم أن من الفرائِضِ المُؤَكَّدَةِ والواجبات المحتَّمةِ الأَمرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر على كل من بُسطت يده في الأَرض وعلى كل من تصل يده إلى ذلك، فمن عجز بِيَدِهِ فبلسانِهِ وَقَلْبِهِ، فإن لم يقدر بِلسَانِهِ فبقلبِهِ وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ.
وَفَرْضٌ على كُلِّ مُؤمِنٍ أن يريد بِكُلِّ قَوْلٍ وعَمَلٍ وَنِيَّهٍ وجهَ الله سبحانه وتعالى، ومن أراد بشيء غير وجه الله لم يقبل منه؛ لأَنَّه رياء وتعالى الله أن يقبل عملًا أُشرِك به غيرُه؛ إذ الرياء هو الشِّرْكُ الأَصغر.
واعلم أن التَّوْبة فريضة من كُل ذَنْبٍ على الفَوْرِ من غَيْرِ إصرارٍ. والإصرار: المَقَامُ على الذَّنْبِ واعتقادِ العَوْدِ إليه أو إِلى مثله. ولا صَغيرةَ مع الإصرارِ ولا كبيرة مع الاستغفارِ.
وَفَرْضٌ على كُلِّ إنسانٍ أن يجتهدَ غايَةَ الاجتهادِ في رَدِّ المظالِم إلى أهلها قَلّت أو جَلَّت، فإن توبتَهُ منها لا تَصِحُّ إلَّا بِرَدِّها ولو كانت مثقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ، فإن الله القادِرُ على كل شيءٍ يأتي بها، فَلْيَسْعَ العاقِلُ في خلاصِ نَفْسِهِ من حقوقِ العِباد وتفريغِهَا قبل أن لا يقدر
على ذلك، فإن أهمَّ الأَعمالِ وآكدها وأعظَمها نفعًا له وصلاحًا لدينه في الدُّنيا والأُخرة سعيُهُ في تفريغ ذِمَّتِهِ وتخليصِهَا إن كان ناصحًا لنفسه راحمًا لها، فإنَّه ما لَقِيَ العَبْدُ رَبَّهُ بِذَنْبٍ أَعْظَمُ من أن يلقاه بشيءٍ من حُقُوقِ العباد، وليس ثَمَّ دِرْهَم ولا دينارٌ يوفي منه.
وليس صاحِبُ الحَقِّ في ذلك الوقت أَهْلًا لأَن يَسْمَح أو يَعْفو لأَن كل أحد حينئذٍ لا يهمُّه إلَّا نفسُهُ، ولا يخطُرُ ببالِهِ إلَّا طَلَبُ نجاة نفسِهِ، فَيَودُّ أن يكون له حَقّ على أبيه وأخيهِ وصديقِهِ وغيرهم حَتَّى يتمسَّكَ به، ويُطالبَ ويشُحَّ به على من هو عنده بحيث لايسمحُ عن مقدارِ خردلةٍ منه، لأَن المرء حينئذ يفرُّ {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37] الآيات، فيؤخَذُ حينئذٍ من حسنات من عليه الحَقُّ إن كان له حسناتٌ ويوفى منها حُقُوقُ العِبَاد، فإن لم تُوفِّ أُخِذَ من سيئاتِ أصْحَابِ الحقوق وطُرِحَتْ على سيئاتِهِ فَتعظُم سيئاتُهُ وليسَ عِندَهُ شيءٌ من الحَسَناتِ، فهنالكَ تتضاعف الحسرات، وتَتَساكبُ العبرات ويندَمُ حين لا ينفع النَّدم، وتَزِلُّ به والعياذ بالله القَدَم، وَيَظْهَرُ لَهُ الحَقُّ اليقين، ولا يفيده حينئذٍ توبة ولا يَصِحُّ منه عَمَلٌ، أَلا ذَلِكَ هو الخُسرانُ المبين، فيكون ممن ضل سعيُهُ في الحياة الدُّنيا وهم يحسبون أنهم يُحْسنون صُنْعًا.
وَلْيَلْجإِ العبدُ إِلى الله جلَّ اسمُهُ فيما عَسُرَ عليه من انقياد نفسِهِ
لأَمْرِ اللهِ ومخالفتها نهيه، مُوقِنًا أنّهُ القَادِرُ الصَّالِحُ شأنَهُ والمالِكُ توفيقَهُ وتسديدَهُ، ولا يفارِقُ ذَلِكَ على ما فيه من حَسَنٍ أو قبيحٍ، ولا ييأسُ من رحمةِ الله تعالى بل يرجو رحمتَهُ ويخافُ عذابَهُ ويتذكَّرُ نعمتَهُ ويشكُرُ فَضْلَهُ عليه بتوفيقه للأعمال بفرائضِهِ وَتَرْكِ ما يَكرَهُ فعله، وَيَتَقَرَّبُ إِليه بما يَسّرَهُ له من نوافلِ الخَيْرِ، ويعلمُ أنَّه ضعيفٌ عاجز لا يقدِرُ على شيءٍ إلَّا ما قدرَهُ اللةُ ويسَّرَهُ عليه.
وليستعن بِذِكْرِ المَوْتِ وما بعده على تَرْكِ المعاصِي والزَّلاتِ، وعلى المُلازَمَةِ على فِعْلِ الخَيْراتِ والمُسَارَعَةِ إلى الطَاعاتِ، وليعرف قَدْر نِعْمَةِ اللهِ بإمهالِهِ إيَّاهُ مع مبارزتِهِ له بالمعاصي، وكم أَخَذَ غيرَهُ بذنبِهِ عاجِلًا قبل أن يُؤْخَذَ بالنَّواصِي.
وليُفكِّر العاقِلُ في سالِفِ ذنبه وعاقبةِ أَمْرِهِ، ولعله لم يبق شيءٌ من أجله، فيتداركَ أمرَهُ بالتَّوبة النَّصُوحِ، ويُخَلِّصُ ذمتَهُ الخلاصَ التَّامِّ من حُقُوقِ الله سبحانه وحُقُوق العِباد، فيقضِي ما تركَهُ من العبادات من صلاةٍ وزكاةٍ ونَذْرٍ وغير ذلك من حقوق اللهِ الواجبة، ويُوفي ما عليه من الدُّيون والغُصوب والسَّرِقَةِ والأَمانات وغير ذلك من حقوقِ الآدميِّ المبينةِ على المشاحَّةِ، وينتظر الموت بصدقٍ ويقينٍ، ولا يتَهاون في الوصية كُلَّ ليلةٍ إن كان من الموقنين، فيكونَ في الدُّنيا إن كان عاملًا كَيِّسًا كأنَّهُ غريبٌ أو عابِرُ سبيل، وليعُدَّ نفسه من أهْلِ القُبورِ.
وإذا أَمْسَى فلا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بالصَّبَاحِ، وإذا أصْبَحَ فلا يُحَدِّثُ نفسهُ بالمساءِ، وليغتنم حياتَهُ قبل موته، وصحته قبل سُقْمِهِ، وفراغَهُ قبل شُغْلِهِ، وشبابَه قبل هرمِهِ، وغناهُ قبل فَقْرِهِ.
واعلم أن معنى اغتنام ذلك الاجتهادُ فيه بصالِح العَمَلِ لا تضييعُهُ في اللَّهو والكَسَل، وعلى هذا كان السَّلَفُ الصَّالحُ، ففازوا بالمَتْجَرِ الرَّابِح والمآل النَّاجح فليقتد بهم ولْيَحْذُ حذوهم نفعنا الله ببركاتهِمِ وأعاد علينا وعلى جميع المسلمين من صالح دعواتهم، ووفقنا لاتباعهم والاقتداء بهم.
تَتِمَّةٌ: أولى القُلُوبِ وأفضَلُهَا وأقربُها إلى خالِقها ورازقِهَا قَلْبٌ وعى علم دين الله سبحانه وشرائِعِهِ مِمَّا أَمَرَ به ونهى عنه، ومِمَّا دعا إليه وَخَصَّ في كتابه وعلى لسان رسوله عليه السلام، والفقهُ في ذلك والفهمُ فيه والتَّفهُّم والتَّفهيمُ أولى ما يشتَغِلُ به العاقل.
والعلمُ مع العمَلِ به أفضلُ الأَعمال وأنفسُ ما تُصرَفُ إليه الهِمَمُ في الحال والمآل، وأقرب العلماء إلى الله وأولاهُم به أكثرهم له خشيَةً وفيما عِنْدَه رغبة، وأدومُهم له مراقَبَةً.
والعلم دليلُ على الخيرات وقائدٌ إليها، والعِصْمَةُ بكتاب الله وسنة نبيه هي المعولُ في كُل الأُمور عليها، وفي اتباع سَبيلِ المؤمنين والسَّلَفِ الصَّالح النَّجاة والرَّشاد، وفي الرُّجوعِ إلى ما قالوهُ وتأولوهُ واستنبطوهُ غايةُ الصَّلاحِ والفلاحِ والسَّدادِ.
فَنَسْأَلُ الله بمنِّهِ وكرمِهِ أن يوفقنا لذلك، وأن يُجيرَنَا من العصبيةِ المُوقِعَةِ في المهالكِ، وأن يُلْحِقَنا بصالحِ الأمَّةِ، وأن يرزقنا بركة الأَئمة (1) وأن ينفعني والمسلمين بهذا الكتاب، وأن يجعلة خالصًا لوجه إنه الكريم الوهاب، وأن يغفر لي ما جنيتُهُ في هذا التَّأْليفِ، إِذْ ما عُصِمَ إلَّا مَلَكٌ أو رسولٌ أو نبيٌّ شريفٌ.
وَأَسْأَلُهُ سبحانه أن يُوفقني وكُلُّ واقفٍ عليه للعمل به بما فيه من الوظائف، وأن يَحْشُرنا بكرمِهِ تحت لواء أهل العِلْمِ والاستقامَةِ والمعارف، مشمولين بشفاعَةِ النَّبِيِّ الكريم، مغمورينَ بِرَحْمَةِ الرَّبِّ الحليمِ الرَّحيمِ، وليكن هذا آخر ما أردت نقلُهُ في هذه المسودة، واللهُ المسؤولُ أن يُفَرِّجَ عن المسلمين كُلَّ هَمٍّ وغَمٍّ وشِدَّةٍ.
لكن العَبْدُ الفَقِيرُ المُعْتَرِفُ بعظيم الذنْبِ وَمزيدِ التَّقْصيرِ، الرَّاجي عَفو ربه القدير يرجوا من كُلّ واقفٍ عليها أو على ما نُقِلَ منها أن يدعو لي بِحُسْنِ الخِتامِ، وأن لا يؤاخذني بما زَلَّ بِهِ القَلَمُ وَجَنَتْ يدهُ من سوءِ الإلمام، وأن يَعْتَقِدَ لي العُذْرَ إذ هو شأنُ الكرام؛ فإن بضاعتي من العِلْمِ أندَرُ البضائِع، وصناعتي من الفَضْلِ أَقلُّ الصنائِع، إلَّا أَنه ألجأني إلى ذلك رغبتي في دعوة عَبْدٍ صالحٍ، ورجائي أن ينتفع به سالكٌ فالِحٌ، بإعانَةِ الله وتوفيقه إنَّه الكريمُ المانِحُ.
(1) البركة من الله تعالى؛ وهذا ليس من كلام السلف الصالح ولا من طريقتهم التي عليها المعول، وقد دعى المصنف قبل سطور إلى اتباع سبيل المؤمنين فنسأل الله أن يعفو عن المصنف فقد تأثر بعصره غفر الله له.
وصلى الله على سَيِّدنا مُحَمَّدِ الخاتمِ الفاتِحِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ الذين كُلٌّ منهم رابِحٌ وناجِحٌ، صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدِّين مُتكَرِّرَيْن في كُل وقْتٍ وحين، آمين آمين آمين، والحمد للَّهِ رب العالمين.
ووافق الفراغُ من تبييضها نهار الأربعاء بعد العصر تاسع عشر المحرم الحرام سنة سِت وخمسين وألف بمعونةِ الله تعالى وتوفيقه وإسعافه لمؤلفها محمد بن بدر الدِّين بن عبد القادر البَلْبَاني الخَزْرَجي عفا الله عنهم وعن جميع المسلمين ووفقه وكل واقف عليها للعمل بما فيها إنَّهُ أرحم الرَّاحمين.
قلت: وفرغت مِن تأليفها نهار الجُمُعَةِ بعد عصرها وهو الثامن من شهر رمضان المُعظَّم قدرهُ سنة خمسين وألف، وهذه النسخة ثاني نسخةٍ نقلتُهَا من المسودةِ المذكورة، والله أعلم، تمت وبالخير عمت بعون الله وحُسْنِ توفيقه (1).
(1) وفي آخر نسخة (أ) كتب الناسخ ما يلي: "ووقع فراغ هذه النسخة من كتابتها من النسخة الثانية من خط مؤلفها رحمه الله المذكور في صبيحة يوم الجمعة من شهر شوال مضى منه أربعة عشر يومًا سنة واحد ومائة بعد الألف، ناسخها العبد الفقير المعترف بعظيم الذنب والتقصير أحمد بن محمد بن أحمد القاطن بمدرسة السُّميساطية غفر الله له ذنوبه، وستر عيوبه أمين والمسلمين أجمعين، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".
وكتب بعده: "بلغ مقابلة على نسخة مؤلفه حسب الطاقة سنة 1148"، وكتب أيضًا:"وكاتب -أي الناسخ- هذه النسخة هو الشيخ أحمد الحنبلي هاجر من بعلبك إلى الشام 1095".