الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الوَليمَةِ
وهي اسمٌ لِطَعَامِ العُرْسِ خاصَّةً، وهي سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ولو بشيءٍ قليل كَمُدَّينِ من شعيرٍ.
ويُسَنُّ ألَّا تَنْقُصَ على شاةٍ، والأَوْلَى الزِّيادَةُ عليها. والإِجابَةُ إليها واجبةٌ، إذا عيَّنَهُ داعٍ مسلمٌ يحرمُ هَجْرهُ ومكسبه طيبٌ في اليوم الأَول.
فإن كان المدعو مريضًا، أو يُمَرِّضُ أحدًا، أو مشغولًا بحفظِ مالٍ، أو كان شِدَّة حَرٍّ، أو بَرْدٍ، أو مَطَرٍ يبُلُّ الثِّيابَ، أو وَحْل، أو كان أجيرًا ولم يأذن له المستأجِرُ لم تَجِبْ.
والعبد كالحُرِّ إن أَذِنَ له سَيِّدُه، والمكاتَبُ إن أَضَرَّ بكسبِهِ لم يلزَمْهُ الحضورُ ولا أن يأذنَ له سيّدُهُ.
وتكْرَهُ إجابةُ من في مالِهِ حرامٌ كالأَكلِ منه، ومُعاملَتُهُ وَقَبُولُ هديَّتِهِ وهبتِهِ، ونحوِهِ، وَتَقْوَى الكَراهةُ وتضْعُفُ بِحَسَبِ كثرةِ الحرامِ
وَقِلَّتِهِ، وقيل: يَحْرُمُ. قال الأَزجيُّ (1): وهو قَياسُ المَذْهَبِ.
وسُئِلَ الإِمام أحمد عن الذي يُعامِلُ بالرِّبا، أَيُؤْكَلُ عِنْدَه؟ قال: لا. وقال صَاحِبُ الرِّعاية (2) فيها: لا يَأْكُلْ مُخْتَلِطًا بِحَرامٍ بلا ضرورةٍ، وإِن لم يَعْلَمْ أنّ في المالِ حرامًا، فالأَصلُ الإِبَاحَةُ ولا تحريمَ بالاحتمالِ، لكن التَّرْكَ حينئذٍ أولى؛ لأَنَّه لا يخفى على الورع.
قال أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: كُنَّا نَدَعُ سبعينَ بابًا من الحَلالِ مخافةَ أن نَقَعَ في بابٍ من الحرامِ.
وينبغي صَرْفُ الشُّبهاتِ في الأَبعدِ عن المنفعةِ، فالأَقربُ ما يدخُلُ في الباطنِ من الطّعامِ والشّرابِ ونحوه، ثمَّ ما ولي الظاهرَ من اللِّباسِ، فإن دعاهُ الجَفَلَى، أو في اليوم الثَّالِثِ، أو ذِمِّيٌّ كُرِهَتْ الإِجابة، وتُسَنُّ في اليوم الثَّاني. وإن دَعَتْهُ امرأة فكرجُلٍ، إلَّا مع خَلْوَةٍ مُحَرَّمَةٍ.
والجَفَلَى هي أن يَعُمَّ الدَّاعي بدعوته كان يقول: أيُّها النَّاسُ هَلُمُّوا إلى الطَّعامِ، أو يقول الرَّسُولُ: قد أُذِنَ لي أن أدعُوَ من لقيتُ أو من شئتُ أن يَحضر.
(1) هو: إسماعيل بن علي بن حسين الأزجي البغدادي المتوفى سنة 610 هـ، "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 66).
(2)
هو: أحمد بن حمدان بن شبيب بن همدان الحراني، ، توفي سنة 695 هـ، المصدر السابق (2/ 331).
فَائِدَ: وسَائِرُ الدَّعواتِ مباحة إلَّا العقيقةَ فَتُسَنُّ، والمأتَمَ ما يُعْمَلُ بعد الموت فتكره.
وَيُكْرَهُ لأَهْلِ الفَضْلِ والعِلْمِ الإِسراعُ إلى الإِجابَةِ والتَّسامُحُ فيه؛ لما فيه من البِذْلَةِ والدَّناءَةِ والشَرَهِ لا سِيَّما الحَاكِمِ، وقد قيل: ما وضعَ أحدٌ يدَهُ في قَصْعَةِ أَحَدٍ إلَّا ذَلَّ.
وإن حَضَرَ وهو صائم صَوْمًا واجبًا لم يُفْطِرْ، ودعا، وأخبَرَهم أَنَّه صائِمٌ ثُمَّ انْصَرَفَ، وإن كان مُفْطرًا اسْتُحِبَّ له الأَكْلُ، وإن كان صائمًا تَطَوُّعًا، وفي تركِهِ الأَكْلَ كَسْرُ قَلْبِ الدَّاعي، اسْتُحِبَّ له أن يُفْطِرَ، وإلَّا فإتمامُ الصَّوْم أَوْلَى.
ويَحْرُمُ شديدًا أخذُ شيءٍ من الطَّعامِ بغيرِ إِذن صاحبِهِ.
وإن دعاهُ اثنان أجابَ أسْبَقَهُما بالقولِ، فإن اسْتَوَيا، أجاب أدْيَنَهما، ثُمَّ أقْرَبَهما رَحِمًا، ثُمَّ جِوارًا، ثُمَّ يُقْرِعُ، فإن اتَّسَعَ الوقتُ لإِجابَتِهما وَجَبَ أن يُجيبَهُما.
تَنْبِيهٌ: وإن عَلِمَ أنَّ في الدَّعْوةِ مُنْكَرًا، كالزّمْرِ، والخَمْرِ، والعُودِ، والطَّبْلِ، ونحوه، أو آنيَةِ ذَهبٍ أو فِضةٍ أو فُرُشًا مُحَرَّمَةً، وأَمْكنه إزالتُهُ لَزِمَهُ الحُضُورُ والإِنكارُ، وإن لم يَقْدِرْ لم يَحْضُرْ.
فإن لم يَعْلَمْ حَتَّى حَضَر وشاهَدَهُ، أزالَه وَجَلَسَ، فإن لم يَقْدِرْ على الإِنكارِ انصرف.
وإن عَلِمَ به ولم يَرَه، ولم يَسْمَعْهُ، فله الجلُوسُ والأَكْلُ، وله الانصرافُ. وإن شاهَدَ سُتُورًا معَلَّقَة فيها صُوَرُ حيوانٍ، وأمكنَه حَطُّها، أو قَطْعُ رُؤوسِها، فَعَل وَجَلَس، وإن لم يُمْكِنْه ذلك، كُرِهَ الجلوسُ، إلا أن تُزالَ.
وإن عَلِمَ بها قبلَ الدُّخولِ كُرِهَ الدُّخولُ، وإن كانت مَبْسُوطَةً أو على وِسادة، فلا بأس بها.
وَيَحْرُمُ تَعْليقُ ما فيه صُورَةُ حيوانٍ، وسَتْرُ الجُدُرِ به، وتَصْويرُهُ، فإن قَطَعَ رأسَ الصُّورةِ أو ما لا تَبْقَى الحياةُ بعد ذهابِهِ؛ كَصَدْرِها وَبَطْنِها، أو صُوِّرَتْ بلا رَأْسٍ، أو بلا صَدْرٍ أو بلا بَطْنٍ، أو جَعَل رأسها مُنْفَصِلًا عن بَدَنِها، أو رأْسٌ بلا بَدَنٍ، فلا كَراهَةَ.
ويُكْرَهُ سَتْرُ حيطانٍ بسُتُورٍ لا صُوَرَ فيها، أو فيها صُوَرُ غيرِ حَيوانٍ. وَيَحْرُمُ بحريرٍ مُطْلقًا بلا ضرورةٍ فيهما، وحيثُ حَرُمَ الحريرُ حَرُمُ الجُلوسُ معه.
واعلم أنَّهُ يَحْرُمُ الأَكْلُ بغيرِ إذنٍ صَرِيحٍ أو قَرِينَةٍ، ولو من بَيْتِ قَرِيبِهِ أو صديقِهِ، وإن لم يكن مُحرزًا عنه كأخْذِ الدَّراهِمِ. والدُّعاءُ إلى الوَليمَةِ أُذِنَ فيه لتقديمِ الطعامِ إذا أُكمِلَ وَضْعُه، ولم يُلْحَظِ انتظارُ من يأتي، وليس ذَلِكَ إذنًا في الدُّخول إلَّا بقرينَةٍ، ولا يَمْلِكُ الطَّعامَ الذي قُدِّمَ إليه، بل يَهْلِكُ على مِلْكِ صاحبِهِ، فلا يَجُوزُ لِلضِّيفانِ قَسْمُهُ. ولو حَلَفَ ألَّا يَهَبُه، فأضافَهُ، لم يَحْنَثْ.
وَيُسَنُّ إعلانُ النكاح، والضرْبُ بدُفٍّ مُباحٍ، وهو الذي لَيْسَ فيه حِلَقٌ ولا صُنُوج، وَيُكْرَهُ للرِّجَال. ولا بَأْسَ بِهِ في الخِتَانِ، وقُدومِ الغائبِ ونحوِهما، ويَحْرُمُ في غَيْرِ ذلك.
وَتَحْرُمُ كُلُّ مَلْهَاةٍ مُطْلقًا كَمِزْمَارٍ، وَطَبْلٍ، وطُنْبُورٍ، ورَبابٍ، وجَنْكٍ، ونايٍ، وَمَعْزَفَةٍ، وجُفانَةٍ، وعُودٍ، وزَمّارَةِ الرَّاعي ونَحْوِ ذَلِكَ، سواءٌ اسْتُعْمِلَتْ لحُزْنٍ أو سُرورٍ.
ويُكْرَهُ الغِنَاءُ واستماعُهُ بلا آلةِ لَهْوٍ، ويحرمان معها لقوله عليه السلام:"الغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفاق في القَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الماءُ الزَّرْعَ"(1).
وسُئِلَ الشِّبْليُّ عن الغناءِ فقال: أحقٌّ هو؟ قيل: لا، فقال: فماذا بعد الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ.
ويُباحُ الغَزَلُ في العُرْسِ، وأما الشِّعْرُ فهو كالكلامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وقبيحُهُ قَبِيحٌ؛ فَيَحْرُمُ منه ما كان هجوًا، أو فُحْشًا، أو تشبيبًا بامرأَةٍ بِعَيْنها محرمةٍ، أو بِأَمْرَدَ، أو خَمْرٍ ونحو ذَلِكَ، أو إطنابًا في مدح النّاسِ بما ليس فيهم، ويفسُقُ بِذَلِكَ.
(1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 279) من حديث جابر بن عبد الله، وإسناده ضعيف؛ فيه محمد بن صالح الأشج، وعبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد لا يحتج بهما، وفيه أبو الزبير محمد بن مسلم، لم يصرح بالتحديث، وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 248):"في رفعه نظر والموقوف أصح".