الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشيئة الله تعالى، إِذْ لا يَجِبُ عليه سبحانه شيءٌ، فإِن شاءَ سبحانه قبلها كَرَمًا منه وفضلًا، وإِن شاءَ رَدّها حِكْمَةً منه وعدلًا.
وأما مع عَدَمِ الإخلاصِ فإِنَّها مردودةٌ على عامِلِها قطعًا؛ لأَن الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلَّا طيبًا، فالمُرائي مذمومٌ غَيْرُ محمودٍ بل هو مَأْثومٌ وعنِ الرَّبِ مطرودٌ، وعمله المشوبُ بالرياءِ عليه مردود، وكيف لا وقد أَتَى ذَنْبًا من أكبرِ الكبائِرِ، بل هو الشِّرْكُ الأَصغر عند أولي العقولِ والبصائر، فعقابُهُ عليه عظيمٌ إن لم يَعْفُ عنه الرَّبُّ الغفور الرحيم.
والحاصل أن الكتاب والسُّنَّةَ مشحونانِ مَنْطُوقًا ومفهومًا بِرَدِّ كُلِّ عَمَلٍ فُعِلَ رَياءً من فَرْضٍ وَنَفْلٍ كَصَوْمٍ وصلاةٍ وَصَدَقَةٍ وغيرها، ولم يُستثن من ذلك الصَّلاةُ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولا غيرُها.
فمن رَجَا قَبُولَ العَمل مِنَ الصَّلاةِ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وغيرها فعليه بالإخلاصِ التَّامِ الذي نَطَقَ به الكتابُ والسُّنَّةُ وأجمع عليه أئمة الإسلام، نَسْأَلُ الله تعالى التوفيقَ على ذلك بفَضْلِهِ على الدَّوامِ، وأن يُلحقَنَا بصالحِي خلقِهِ من أَهْلِ الإخلاصِ في الأَنام.
فَصْلٌ
والأَكْمَلُ الجَمْعُ بين الصَّلاةِ والسَّلامِ، فإن اقتَصَرَ على أحدهما لم يُكْرَه عِنْدَنا، وكُرِهَ عند الأَكثر، وَحَرُمَ عند بعضهم.
وَيُسَنُّ أن يُصلِّي على الآلِ والأَصحاب مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وتجوزُ على غير الأَنْبياء استقلالًا، نص الإمام أحمد على ذلك، وكرهَهُ الأَكثر، وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُم.
تَنْبِيهٌ: ومحبته صلى الله عليه وسلم فَرْضُ عَيْنٍ على كُلِّ مُسْلِمٍ، فَيُقَدِّمُ حُبَّهُ صلى الله عليه وسلم على نَفْسِهِ وزوجتِهِ وولدِهِ ومالِهِ ووالدِهِ والنَّاس أجمعين، فلو قَدَّمَ حبَّ شيءٍ على حُبِّهِ صلى الله عليه وسلم عصى اللهَ ورسولَهُ أبلغَ العصيانِ، وباءَ بغضبِ الملكِ الدَّيَانِ بقوله سبحانه:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24].
فهذا وعيدٌ بليغٌ من الله تعالى لمن يكون به شيءٌ مِمَّا ذُكِرَ في الآيةِ أَحَبَّ إِليه مِنَ الله ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ، ويُقاسُ ما لم يُذْكَرْ في الآيةِ على ما ذُكِرَ فيها، فمتى كان شيءٌ أَحَبَّ إِليه من الله ورسوله وجِهَادٍ في سبيله، أو أَحَبَّ إِليه من واحدٍ منهم لم يكن صَادِقًا في الإيمان؛ لأَن هذا من الكبائِرِ العِظَامِ بدليل أن الله تعالى تَوَعَّدَ عليه، وكُلُّ ما توعد عليه من الذُّنوبِ فهو من الكبائرِ كالذي فيه حَدٌّ في الدُّنيا؛ وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ
أَحَبَّ إِليهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ والنَّاسِ أَجْمَعينَ" (1).
فاجتَهِدْ وَفَّقَكَ الله على أن تكون محبتُكَ لَه صادِقَةً صادرةً من صميمِ القَلْبِ بلا رياءٍ ولا مُنافَقَةٍ، وعلامةُ ذلك أن تلزمَ الطاعةَ ما استطعت اتباعًا له ومُوافَقَةً.
ومن أعْظَمِ شُعُبِ الإيمانِ تعظيمُه صلى الله عليه وسلم كما أرشدنا الله إلى ذلك في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
…
} الآية [الحجرات: 2]، فلا يَحِلُّ لأَحَدٍ أن يَرْفَعَ صوته فوق صوته، ولا أن يناديَه من وراء الحجرات، ولا أن يناديَه باسمه بأن يقول: يا محمد، يا أحمد، ونحو ذلك، بل يقول: يا رسول الله، يا نبي الله، ونحو ذلك، فقد دلت هذه الآية على وجوب تعظيمه والتأدب معه في القول، ويقاس عليه غيره.
وقد ذكر الإمام الحليمي تعظيمَهُ في كتابه، وَقَرَّرَ أن التَّعظيم مَنْزِلَةٌ فَوْقَ المَحَبَّةِ، ثُمَّ قال: فَحَقٌّ علينا أن نُحِبَّهُ ونُجِلَّهُ ونُعظِّمَهُ أكثرَ وأوفَرَ من إجلالِ كُلِّ عَبْدٍ سَيِّدَهُ وَكُلِّ وَلَدٍ والدَهُ، قال: وَبِمِثْلِ هذا نَطَقَ الكتَابُ وَوَرَدَتْ أوامِرُ الله تعالى، وكذا قال تلميذُهُ أبو بكر البيهقيُّ في "شُعَبِهِ" أن تعظيمه غير محبته.
وقال: ألا ترى أَّنَّكَ تُحِبُّ الوَلَدَ ولا تُعظِّمُهُ تعظيمَ الوالِدِ، وكذلك السّيد قد يُحِبُّ المملوك ولا يعظِّمُهُ، والمملوك قد لا يُحِبُّ
(1) أخرجه البخاري (1/ 58)، ومسلم (1/ 67) من حديث أنس رضي الله عنه.
السَّيدَ ثُمَّ يعظمه، قال: فعرف بهذا أن للتعظيم حقيقةً سوى حقيقة المحبّة (1).
وقال صاحبُ كتاب "النصائح" أبو إبراهيمَ إِسحاقُ بنُ إبراهيمَ التُّجيبيُّ المالِكيُّ: واجبٌ أي مُتَأكّدٌ على كُلِّ مُؤْمِنٍ متى ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم أو ذُكِرَ عِنْدَه أن يَخْضَعَ وَيَخْشَعَ وَيَتَوقَّرَ وَيُسَكِّنَ من حَرَكتِهِ، ويأخُذَ في هيبتِهِ وإجلالِهِ بما كان يأخذ به نَفْسَهُ لو كان بين يَدَيه، وَيَتأَدَّبَ بما أَدَّبنا اللَّهُ به، وهذه كانت سيرة السَّلفِ الصَّالح معه صلى الله عليه وسلم، ونحن مأمورون بالاقتداءِ بهم (2).
فمنزلة ذكره صلى الله عليه وسلم وحديثه الشريف منزلة ذاته عليه السلام، فتأدَّبْ معهما كتأدُّبِ السّلَف الصالح مع ذاته عليه السلام، فينبغي لمن أراد التحديث أن يستعمل ما رواه الثقات.
عن الإمام مالك رضي الله عنه أنَّه كان إِذا أرادَ أن يُحدِّث تَوَضَّأَ على صَدْرِ فراشِهِ وَسَرَّحَ لحيتَهُ، وتمكَّن في جُلُوسِهِ بوقارٍ وهيبَةٍ وَحَدَّث، فقيل له في ذلك فقال: أُحِبُّ أن أُعَظِّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أُحَدِّثَ إلَّا على طهارةٍ مُتَمكِّنًا.
(1)"المنهاج في شعب الإيمان" للحليمي (2/ 124، 125)، و"شعب الإيمان" للبيهقي (2/ 193)
(2)
نقله المصنف عن "كنز الراغبين" للناجي (12/ أ).
وكان يَكْرَهُ أن يُحَدِّث في الطريقِ وهو قائم أو يستعجل، وقال: أُحِبُّ أن أَتَفَهَّمَ ما أُحَدِّثُ به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عنه أيضًا أنَّه كان يغتسل لذلك ويتبخَّر ويتطيَّب، فإن رفع أحد صوته في مجلسه زبَرَهُ وقال: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، فمن رَفَعَ صَوْته عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنَّما رَفَعَ صوته فَوْق صَوْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وكذلك ينبغي أن يَتَأَدَّبَ بهذهِ الآدابِ من حَضَرَ مَجْلِسَ التَّحديثِ، وهذا من جملةِ ما تُعْرَفُ به محبتُه صلى الله عليه وسلم وتعظيمُه وتوقيرُه، ومن الغرائبِ ما في كتاب "حلية الأَولياء" عن وهب بن منبِّهٍ أنَّه كان في بني إسرائيل رَجُلٌ عَصَى الله تعالى مائتي سَنَةٍ ثُمَّ ماتَ فَأَخَذوا بِرِجْلِهِ وألقَوْه على مَزْبَلةٍ، فَأَوحَى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اخْرُج فصَلِّ عليه، قال: يا ربِّ، بنو إسرائيل شَهِدوا أَنَّه عَصَاكَ مئتي سَنة، فأوحى الله، هكذا كان إلَّا أنَّه كان كُلَّما نَشَرَ التَّوراةَ أي فتحها للقراءة فيها ونظر إلى اسمِ مُحمَّدٍ قَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ على عينيه وصلى عليه فَشَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَغَفَرْتُ ذُنُوبَهُ وَزَوَّجْتُهُ
(1) انطر أخبار الإمام مالك هذه في "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (1/ 155، 162).
سبعين حوراء، أي مِنَ الحورِ العين (1).
وإذا كان أبو لَهَب عمُّ نبينا مع شدة كُفْرِهِ وقع له مَرَّةً في دهرِهِ الفَرَحُ به؛ وذلك لما بُشِّر بولادتِهِ فَنَفَعَهُ وخُفِّفَ عنه العذاب في البَرْزَخِ كُلَّ ليلةِ اثنين بسببه (2)، أفلا ينفع ذلك المسلمَ السُّنيَّ الذي كان طول عمره به مسرورًا وله محبًّا صادقًا؟ وكيف لا يحصل له منه إن شاء الله الخيرُ الكُلّيُّ والبركةُ، والرِّعايةُ والعنايةُ والشَّفاعةُ؟
والحاصِلُ أن الوقائع العجيبةَ من هذا القبيلِ وما يشابِهُهُ كثيرة، والآثار الدالةَ على ما حصل ببركته من الفوزِ للخلق شهيرة، فبذل الأَرواح، ونفائس الذخائر أَقلُّ قليلٍ في حُبِّ هذا النَّبِيِّ الكريم، والرسول العظيم الجليل الذي ما كان مثله ولا يكون، وكيف لا؟ وقد خَلَقَه الله قبل جميع المخلوقات من نوره الإلهي نُورِهِ المكنون (3)،
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 42) من طريق عبد المنعم بن إدريس عن أبيه، عن جده، عن وهب به.
وعبد المنعم هذا قال عنه الذهبي في "الميزان"(2/ 688): "ليس يعتمدُ عليه؛ تركه غير واحدٍ؛ وأفصح أحمد بن حنبل فقال: كان يكذب على وهب بن مُنبِّه، وقال البخاري: ذاهب الحديث".
ولا أعلم لماذا أورده المؤلف مع استغرابه له؛ فلعله تمهيدًا لكلامه الآتي الذي لم يحالفه فيه الصواب.
(2)
لم يرد هذا مرفوعًا وليس له سند؛ وإنما ذكره السهيلي كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح"(9/ 145) فلا يسلم للمؤلف الاستشهاد به.
(3)
جانب المؤلف الصواب؛ وزل قلمه في هذا الموضع حيث دلت الأحاديث =