الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَحْرُمُ التَّعَرُّض لِمُنكرٍ فُعِلَ قديمًا، وَكشْفُ مَسْتورٍ، وإشاعَتُهُ، وتَتَبُّعُهُ سِيَّما بالبيِّنَةِ.
وَيَجِبُ هُجْرانُ المبتدعينَ الدَّاعينَ إِلى الضَّلالَةِ مع العَجْزِ عن إِصْلاحِهِمْ، والإِنكارِ عليهم أو لم يَأْمَنِ الاغترار.
فَائِدَةٌ: يَجِبُ على القادِرِ الدَّفعُ عَنْ نَفْسِهِ وحرمتِهِ، وَيَجوزُ عن مالِهِ، وَيَلْزَمُهُ الدَّفْعُ عن أخيه المُسْلِمِ؛ وكذا عن مالِهِ وحرمتِهِ إن أمكنَهُ، ويَسْقُطُ إن عَلِمَ أَنَّهُ لا يُفِيدُ.
وعليه إنجاؤهُ من غَرَقٍ وَحَرْقٍ ونحوهما كالمجاعَةِ مع القُدْرَةِ.
واعلم أَنّهُ لا يُعْتَدُّ بِشَيءٍ مِنَ العِبادات ولا يَنْفَعُ عِنْدَ اللهِ ذَرَّةً إلَّا مع النِّيَّةِ الصَّحيحَةِ الشَّرْعيةِ والإِخلاص، فَلأَجْلِ هذا خَتَمْتُ كِتاب الآدابِ بِنُبْذةٍ يَسيرةٍ منه ليتنبَّه عليه.
فَصْلٌ في الإِخلاص
قال الله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وقال عليه السلام: "قَالَ اللهُ تَعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّركاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فيه غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ"، رواه مسلم (1).
(1)(4/ 2289)، من حديث أبي هريرة.
وقال عليه السلام: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ"، رواه البخاري، ومسلم (1).
وَمَعنَى "سَمَّع" - بتشديد الميم - أَظْهَرَ عملَهُ للنَّاسِ رياءً، وَسَمَّعَ اللهُ به أي فَضَحَهُ يَوْمَ القِيامَةِ.
ومعنى: "رَاءَى" أَظْهَرَ للنَّاسِ العمل الصَّالح لِيعْظُمَ عِنْدَهُم، وليس هو كذلك! و"رَاءَى اللهُ بِهِ" أي أَظْهَر سَرِيرَتَهُ على رؤوسِ الخلائِقِ.
وقال عليه السلام: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسَامِكُم ولا إِلى صُوَرِكُمْ، ولكن يَنْظُرُ إِلى قُلُوبِكُم"، رواه مسلم (2).
وقال عليه السلام: "إِنَّما الأَعْمالُ بالنِّياتِ، وإِنَّما لِكُلِّ امْرئ؛ ما نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ ورسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ ورسولهِ، ومَنْ كانتِ هِجْرَتُهُ لدُنيا يُصيبُها أَوْ امرأَة يَنْكِحُها فَهِجْرَتُهُ إِلى ما هاجَرَ إِليه"، رواه البخاري ومسلم (3).
وقال عليه السلام: "أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ القَليلُ مِنَ العَمَلِ"، رواه الحاكم (4).
(1) البخاري (11/ 335)، ومسلم (4/ 2289)، من حديث جندب بن عبد الله.
(2)
(4/ 1986، 1987)، من حديث أبي هريرة.
(3)
البخاري (1/ 9)، ومسلم (3/ 1515)، من حديث عمر بن الخطاب.
(4)
(4/ 306)، من حديث معاذ بن جبل، وإسناده ضعيف ومنقطع، فيه عبيد الله بن زحر يخطئ، وعمرو بن مرة لم يرو عن معاذ.
وقال عليه السلام: "أَخْلِصوا أَعْمالكم؛ فإنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ إلَّا ما خلُصَ لَهُ"، رواه الدارقطني (1).
والحاصِلُ أن الدَّلائل من الكتابِ والسُّنَّةِ على وجُوب الإِخلاصِ في كُلِّ عبادةٍ أكثر من أن تُحْصَرَ وأَشْهَرُ من أن تُشْهَرَ، واستِقْصاءُ ذَلِكَ لا يليق بهذا المختصر، فالواجِبُ على العاقِلِ ألَّا يُشْرِكَ بعبادَةِ رَبِّهِ أحدًا حَتَى يكونَ عملُهُ عبادةً؛ وإلَّا فمتى لاحظَ في عَمَلِهِ أحدًا من الخلق فليسَ بعامِلٍ لله وإنما هو مُراءٍ، والرِّياءُ ليس بعبادةٍ بل هو مَعْصيةٌ من أكبرِ المعاصي، يُحْبطُ العِبادَةَ ويُصَيّرُ المُتَعَبِّدَ آثِمًا، وكيف لا وقد سماه صلى الله عليه وسلم الشِّرْكَ الخفيَّ.
قال عليه السلام: "الشِّرْكُ الخَفي أن يَعْمَلَ الرَّجُلُ لِمكانِ الرَّجُلِ"، رواه الحاكم (2).
فالإِخلاصُ هو ألَّا يُريدَ العَبْدُ بعبادتِهِ إلَّا التَّقرُّبَ إِلى الله سبحانه، قال الأُستاذ القُشيريُّ رحمه الله في "رسالته": الإِخلاصُ إفراد الحَق سبحانه وتعالى في الطَّاعةِ بالقَصْدِ، وهو أن يريد بطاعتِهِ
(1) أخرجه البزار (7/ 214)، والبيهقي في "الشعب"(6836)، من حديث الضحاك بن قيس؛ وفي إسناده إبراهيم بن مشجر فيه ضعف وبه أعله الهيثمي في "المجمع"(10/ 221)، والضحاك بن قيس هذا مختلف في صحبته كما قال المنذري في "الترغيب"(1/ 61).
(2)
(4/ 329)، من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده ضعيف فيه دراج أبو السمح ضعيف الرِّواية.
التَّقرُّبَ إلى الله دون شيءٍ آخر من تَصَنُّعٍ لِمَخْلوقٍ أو اكتسابِ مَحْمَدةٍ عِنْد النَّاسِ أو صِحَّةِ مَدْحٍ من المَخْلوقِ، أو معنىً من المعاني سوى التَّقرب إِلى الله.
ويَصِحُّ أن يقال: الإِخلاصُ تصفيةُ الفِعْلِ عن ملاحظَةِ المَخلوقين، ويَصِحُّ أن يقال: الإِخلاص التَّوقي عن ملاحظة الأَشخاص.
وَقَدْ ورَدَ خَبَرٌ مُسْنَد أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ عن جبريل عن الله سبحانه تعالى أنه قال: "الإِخْلاصُ سِرٌّ مِنْ سِرّي استودعتُهُ قلب من أحببتُ من عبادي"(1).
ونقل فيها عن الأُستاذ أبي على الدَّقاق رحمه الله تعالى، قال: الإِخلاصُ التَّوقي عن ملاحظة الخَلْقِ، والصِّدق التَّنقي عن مطالعةِ النَّفْسِ، فالمخلصُ لا رياءَ لهُ، والصَّادِقُ لا إعجاب لَهُ.
وعن ذي النُّون المصري أنّه قال: الإِخلاصُ لا يتمُّ إلَّا بالصِّدْقِ، والصبر عليه، والصِّدْقُ لا يتمُّ إلَّا بالإِخلاص فيه والمداومة عليه.
وقال أيضًا: ثلاثٌ من عَلامَاتِ الإِخلاص: استواءُ المَدْحِ والذَّمِّ من العَامَّةِ، ونسيان رُؤيةِ الأَعمالِ في الأَعمال، واقتضاءُ ثوابِ العَمَلِ في الآخِرَةِ.
(1) قال الحافظ العراقي في "تخريج الإِحياء"(4/ 376)، "رواه أبو القاسم القشيري في الرسالة من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف".
وقال أبو يعقوب السُّوسي: متى شَهدوا في إخلاصِهِم الإخلاص؛ احتاجَ إخلاصُهم إلى إخلاصٍ.
وقال أبو عثْمان المغربيّ: الإخلاصُ ما لا يكون للنَّفْسِ فيه حَظٌّ بحالٍ، وهذا إِخلاصُ العَوَّامِ، وإخلاصُ الخَواصِّ ما يَجْرِي عليهم لا بِهِمْ؛ فتبدو منهم الطَّاعاتُ وهم عنها بمعزلٍ، ولا يَقَعُ لهم عليها رؤيةٌ ولا بها اعتداد، فَذَلِكَ إخلاص الخواصِّ.
وقال أبو بكر الدَّقاق: نقصانُ كُلِّ مُخْلِصٍ في إخلاصِه رؤيةُ إخلاصِهِ، فإذا أرادَ الله أن يُخلِّص إخْلاصَهُ أَسْقَطَ عن إخلاصِهِ رؤيةَ إخْلاصِهِ فيكون مُخْلِصًا لا مخلصًا.
وقال سَهْلٌ: لا يَعْرِفُ الرِّياء إلَّا مُخْلِصٌ.
وقال حذيفةُ المُرْعشيُّ: الإخلاصُ أن تستويَ أفعالُ العَبْدِ في الظَّاهِرِ والباطِنِ.
وقال السريُّ: من تَزَيَّنَ للنَّاسِ بما ليس فيه سَقَطَ من عَيْنِ اللهِ.
وقال الفُضَيلُ: تَرْكُ العَمَلِ من أجلِ النَّاس رياءٌ، والعملُ لأَجل النَّاس شِرْكٌ، والإخلاص أن يعافيكَ اللهُ منهما.
وقال الجُنَيد: الإخلاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ العَبْدِ لا يعلمُهُ مَلَكٌ فيكتُبَهُ، ولا شيطانٌ فَيُفْسِدَهُ، ولا هوًى فَيُميلَهُ.
وقيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيءٍ أَشَدُّ على النَّفْسِ؟ فقال: الإخلاصُ، لأَنَّه لَيْسَ لها فيه نصيبٌ.
وسُئِلَ بعضهم عن الإخلاص فقال: ألَّا تشهدَ على علمك غير الله.
وقال بعضهم دخلت على سهل بن عبد الله يوم جُمُعَةٍ قَبْلَ الصَّلاةِ فرأيتُ في البَيْتِ حَيَّةً؛ فجعلتُ أُقَدِّمُ رَجْلًا وأُؤخِّرُ رجلًا أخرى، فقال: ادخُلْ لا يبلغ أحدٌ حقيقةَ الإيمان وعلى وجه الأَرض شيء يخافُهُ، ثُمَّ قال: هل لك في صلاةِ الجُمُعَةِ؟ فقلتُ: بيننا وبين المسجد مسيرة يوم وليلة، فَأخَذَ بيَدي فما كان إلَّا قليل حَتَّى رأيتُ المَسْجِدَ فدخلنا وصلينا الجُمُعَة ثُمَّ خَرَجنا، فَوَقَفَ ينظُرُ إلى النَّاسِ وهم يَخرجُونَ فقال: أهل لا إله إلَّا الله كثيرٌ والمُخْلِصون منهم قليلٌ (1).
وقال مكحولٌ: ما أخلصَ عَبْدٌ أَرْبَعِينَ يومًا إلَّا ظهرت ينابيعُ الحكمة من قَلْبِهِ على لسانِهِ. انتهى كلام القُشيري مُلْخصًا بلا أسانيد رَوْمًا للاختصار (2).
واعلم أنَّه يَجِبُ على كُلِّ متعبدٍ أن يُخلص عمله وعبادتَهُ من كُلِّ شائِبَةٍ رياءٍ حَتَّى تنفَعَهُ عند رَبِّهِ؛ لأَنَّها متى خالطها شائِبَةُ رياءٍ وإن قَلَّ
(1) ليت المصنف أعرض عن هذه القصة الساقطة وانتقى ما يُناسِبُ المقام مما هو موافق للسُّنَّة.
(2)
"الرسالة القشيرية"(ص 95، 96)، وتقدم الكلام على الرسالة القشيرية، وقد نقل منها بعض المواضع مِمَّا هو خلافُ السُّنَّة المطهرة فكن منه على حذرٍ والله الموفق.
أبطلَهَا وصارت وبالًا على صاحِبها، بل انقلبت معصيةً من أكبَر المعاصي؛ لأَن الرِّياء من الكبائرِ العِظَامِ، وهو ملاحظةُ شيءٍ من الخَلْقِ في الأَعمالِ.
قال أبو سليمان الدَّاراني: إذا أَخْلَصَ العَبْدُ انقطع عنه الرِّياء وَكَثْرَةُ الوسواس.
وفي الجُمْلَة والتَّفْصيلِ: الإخلاصُ أَعزُّ شيءٍ في الدُّنيا، وأنفعُ شيءٍ في الآخرة؛ لأَنَّه أصعبُ شيءٍ على النَّفْسِ فلا يقدِرُ العبدُ عليه إلَّا بمجاهدةٍ لها شديدةٍ، ومُخالَفَةٍ لها أكيدةِ، فإذا وُفِّقَ لِذَلِكَ فإنَّهُ أَجَلُّ نعمةٍ عظيمَةٍ، فالواجِبُ عليه حينئذ أن يَعْرِفَ قَدْرَها، ويشكُرَ مولاهُ الذي وفَّقَهُ لها، ومع هذا يَتَّهِمُ نفسَهُ غايةَ الاتهامِ، ولا يَقْطَعُ لها بالإخلاصِ إن كان من أهل العزائم والإخلاص والإنصاف؛ لأَن هذا المقام مقامُ الأَفرادِ من النِّساءِ والرِّجالِ، وصِفَةُ الأَخيارِ من ذوي الجِدِّ والاجتهادِ، وحالُ الأَبطالِ المُخالفين النَّفْسَ والشَّيطانَ والهوى في كُلِّ حال، ولا يقدِرُ على ذَلِكَ إلَّا من اعتنى به مولاهُ وَوَفَّقَهُ بفضلِهِ وهداهُ، وأزاحَ عنه شَرَّ نَفْسِهِ وشيطانِهِ وهواهُ.
فنسأَلُ الله بمنِّهِ وَكَرَمِهِ وفضلِهِ، وإحْسَانِهِ العميم أن يَهْدِيَنا ويُرْشِدَنا إلى الصِّراط المُستقيم، وأن يُوفِّقَنا للإخلاصِ في كُلِّ عملٍ لِيَصِحَّ ويستقيم، وأن يُلحِقَنا بعبادِهِ المُخْلصينَ وَحِزْبِهِ المُفْلحينَ، إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ، وَأَكْرَمُ الأَكرمين.
واعلم أنَّه قَد تَقَدَّم جُمْلَة من الإخلاصِ في الصَّلاةِ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فلتُعاود، وليكن هذا آخر ما أردناه من الآداب والله الموفق للعمل بها، إنَّهُ الكريمُ الوَهاب.
وهذا أوانُ الشُّروعِ في خاتِمَةِ الكِتَابِ المشتملةِ على بيانِ العَقِيدَةِ السُّنيَّة، واللهُ المسؤولُ أن يُوفِقنا لِحُسْنِ النِّيَّةِ، وأن يَعْصِمَنَا من كُلِّ عقيدةٍ بِدْعِيّةٍ، وأن يحفظَنَا من كُلِّ سيرةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ.
* * *