الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الجماع في نهار رمضان جهلا بتحريمه
.
اختلف الفقهاء في حكم الجماع في نهار رمضان جهلا بتحريمه، على أربعة أقوال:
القول الأول:
من جامع في نهار رمضان جهلا بتحريمه، إن كان قريب عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، بحيث يخفى عليه كون هذا مفطرا، لم يفطر، وإن كان مخالطا للمسلمين، بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر، وهذا هو الأصح من مذهب الشافعية
(1)
.
دليل القول الأول:
من كان قريب عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، لم يفطر؛ لأنه لا يأثم، فأشبه الناسي، وإن كان مخالطا للمسلمين، بحيث لا يخفى عليه تحريمه، أفطر؛ لأنه مقصر في السؤال، والبحث، عن أمر ظاهر مشتهر
(2)
.
القول الثاني:
يفسد صوم من جامع في نهار رمضان جهلا بتحريمه، ويجب عليه القضاء، والكفارة، وهذا ما ذهب إليه الحنفية
(3)
، وأحد القولين عند المالكية
(4)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: (ما لك؟ ) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(هل تجد رقبة تعتقها؟ ) قال: لا، قال:(فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين)، قال: لا، فقال:(فهل تجد إطعام ستين مسكينا) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر قال:
(1)
ينظر: المجموع، للنووي 6/ 324، وروضة الطالبين، للنووي 2/ 363، وتحفة المحتاج، لابن حجر 3/ 398.
(2)
ينظر: المجموع، للنووي 6/ 324.
(3)
ينظر: البناية، للعيني 4/ 109، والبحر الرائق، لابن نجيم 2/ 315، وحاشية الطحطاوي ص:667.
(4)
ينظر: التبصرة للخمي 2/ 792، وشفاء الغليل، لابن غازي المكناسي 1/ 300، وحاشية العدوي 1/ 455.
(أين السائل؟ ) فقال: أنا، قال:(خذها، فتصدق به) فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:(أطعمه أهلك)
(1)
.
وجه الاستدلال بالحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بالكفارة، ولم يسأله عن حاله هل تعمد، أو جهل، أو نسي؟ مع أنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، وليس كلهم يعرف الفرق بين أحكام الخطأ، والعمد
(2)
.
يمكن أن يناقش:
لا يسلم بأن الرجل كان جاهلا بتحريم الجماع في نهار رمضان؛ لأنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (هلكت) ، ولو كان جاهلا بالتحريم، لما عد فعلته من المهلكات، بل عبارته تدل على أنه كان يعلم تغليظ حرمة الجماع في نهار رمضان؛ لذلك جاء نادما يسأل عن كفارة لفعله.
الدليل الثاني:
مجرد الجهل ليس بعذر في دار الإسلام، خاصة فيما ظهر، واشتهر من الأحكام، كالجماع في نهار رمضان
(3)
.
يمكن أن يناقش:
قد يكون في دار الإسلام من هو حديث عهد بالإسلام، فلم تبلغه هذه الأحكام.
القول الثالث:
يفسد صوم من جامع في نهار رمضان جهلا بتحريمه، ويجب عليه القضاء فقط، وهذا هو المعتمد عند المالكية
(4)
، والمذهب عند الحنابلة
(5)
.
(1)
سبق تخريجه ص: 198.
(2)
ينظر: التبصرة، للخمي 2/ 791.
(3)
ينظر: البحر الرائق، لابن نجيم المصري 2/ 315.
(4)
ينظر: التبصرة للخمي 2/ 792، وشفاء الغليل، لابن غازي المكناسي 1/ 300، وحاشية العدوي 1/ 455.
(5)
ينظر: المغني، لابن قدامة 3/ 131، والكافي، لابن قدامة 1/ 443، والشرح الكبير، لعبدالرحمن ابن قدامة 3/ 42.
دليل القول الثالث:
حديث شداد بن أوس رضي الله عنه بينما هو يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، فمر على رجل يحتجم بعد ما مضى من الشهر ثماني عشرة ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أفطر الحاجم والمحجوم)
(1)
.
وجه الاستدلال بالحديث:
أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) في حق رجلين رآهما يحجم أحدهما صاحبه، من جهلهما بتحريمه؛ يدل على أن الجهل لا يعذر به
(2)
، لكن تسقط عنه الكفارة؛ لأنه لم يقصد انتهاك صومه، والكفارة شُرعت لتكفير الذنب، ولا ذنب على الجاهل
(3)
.
يمكن أن يناقش:
يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يعذرهما بالجهل بالمفطر؛ لأنهما كانا في دار الإسلام، وبين ظهرانيهم النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله متيسر، فلم يعذرهما.
القول الرابع:
من جامع في نهار رمضان جهلا بتحريمه فصومه صحيح مطلقا، وهذا ما ذهب إليه بعض الشافعية
(4)
، وأبو الخطاب
(5)
من الحنابلة
(6)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الصوم، باب: في الصائم يحتجم (2369) 2/ 308، والترمذي في سننه، أبواب: الصوم، باب: كراهية الحجامة للصائم (774) 3/ 135، وابن ماجه في سننه، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الحجامة للصائم (1681) 1/ 537، وصححه الألباني في تحقيقه لأحاديث مشكاة المصابيح 1/ 625.
(2)
ينظر: المغني، لابن قدامة 3/ 131، والكافي، لابن قدامة 1/ 443، والشرح الكبير، لعبدالرحمن ابن قدامة 3/ 42.
(3)
ينظر: التبصرة للخمي 2/ 792، وشفاء الغليل، لابن غازي المكناسي 1/ 300.
(4)
ينظر: فتح الوهاب، للسنيكي 1/ 144، وتحفة المحتاج، لابن حجر 3/ 398.
(5)
هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني، أبو الخطاب البغدادي، أحد أئمة المذهب الحنبلي وأعيانه، ولد في ثاني شوال سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، درس الفقه على القاضي أبي يعلى، ولزمه حتى برع في المذهب، والخلاف، وصار إمام وقته، ودرّس، وأفتى، وقصده الطلبة، وصنف كتبا عديدة في المذهب، كان الكيا الهراسي إذا رأى أبا الخطاب مقبلا قال: قد جاء الفقه، توفي رحمه الله في ثالث عشرين جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة، ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد رحمه الله. ينظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب 270 - 290.
(6)
ينظر: المغني، لابن قدامة 3/ 131، والكافي، لابن قدامة 1/ 443، والشرح الكبير، لعبدالرحمن ابن قدامة 3/ 42.
دليل القول الرابع:
الجهل عذر يمنع التأثيم؛ فيمنع الفطر، كالنسيان، ومن كان معذورا بجهله، لم تلزمه كفارة ذنبه
(1)
.
يمكن أن يناقش:
لا يسلم بأن الجهل يكون عذرا مطلقا، فمن كان بين المسلمين، والوصول للعلم، والعلماء، سهل متيسر عليه، ووقع في أمر لا يكاد تحريمه يخفى على عامة الناس، كالجماع في نهار رمضان، فلا وجه لعذره بالجهل؟
الترجيح:
يظهر -والله أعلم- رجحان القول الأول؛ القائل بصحة صوم من جامع جهلا بتحريم الجماع في نهار رمضان، إذا كان مثله يخفى عليه تحريم الجماع في الصوم؛ لوجاهة ما استدلوا به، ولتطرق الاحتمال، والمناقشة على ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى.
(1)
ينظر: الكافي، لابن قدامة 1/ 443.