الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - باب
3 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ.
فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ "مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ. قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1 - 3].
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ:"زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ:"لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ ". قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
[3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982 - مسلم: 160 - فتح: 1/ 22]
4 -
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ -وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ- فِي حَدِيثِهِ "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيِّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5] فَحَمِىَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ". تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ. وَتَابَعَهُ هِلالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ "بَوَادِرُهُ".
[3238، 4922، 4923، 4924، 4925، 4926، 4954، 6214 - مسلم: 161 - فتح: 1/ 27]
(يحيي) قرشيٌّ مخزوميٌّ مصريٌّ. (ابن بُكَيْر) تصغير بكر، وبكير: جد يحيى نسبه البخاريُّ إليه لشهرته، وإلَّا فاسم أبيه: عبد الله. (الليث) بمثلثة وهو ابن سعد بن عبد الرحمن الفهميُّ عالم أهل مصر، وكان حنفيَّ المذهب فيما قاله ابن خلكان، لكن المشهور أنه مجتهد وعن الشافعي أنه قال: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وفي رواية عنه:"ضيعه قومه" وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك (1).
(عن عُقَيْل) وهو بالتصغير: ابن خالد بن عقيل مكبر، أو هو قرشيٌّ أمويٌّ. (عن ابن شهاب) هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريُّ المدنيُّ وهو تابعيٌّ، ونسبه البخاريُّ،
(1) انظر: "تاريخ دمشق" 50/ 358، "تهذيب الكمال" 24/ 275، "سير أعلام النبلاء" 8/ 156، "تهذيب التهذيب" 8/ 415.
كغيره إلى جده الأصليِّ؛ لشهرته به. (ابن الزبير) بالتصغير.
(أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة) رواه في التفسير: "الصادقة"(1)، والمراد منهما: الرؤيا التي لا ضغث فيها، ومِنْ (2): للتبعيض، ولبيان الجنس، والرؤيا: مصدر كرجعى، وتختص بالمنام عند كثير، كاختصاص الرائي بالقلب، والرؤية بالعين.
وفيه: أن رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم وحيٌّ، فوصفها بالصالحة للإيضاح؛ لأن غيرها يُسمَّى حلمًا، كما ورد:"الرؤيا من الله والحلم من الشيطان"(3) وإن قيل: الرؤبا أعم من الوحي فيكون الوصف للتخصيص أي: لا السيئة، أو لا الكاذبة، المسمى ذلك بأضغاث أحلام. وصلاحها إما باعتبار صورتها، أو تعبيرها وذلك بأن يُلقِي الله تعالى في قلب النائم الأشياء، كما يخلقها في قلب اليقظان، فتكون في اليقظة، كما في المنام، وتكون علامة على أمور أخرى، كالغيم علامة للمطر، وكانت مدة الرؤيا سنة. انتهى.
(1) ستأتي برقم (4953) كتاب: التفسير، تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} .
(2)
التبعيض وبيان الجنس معنيان من معاني (من) والمعنى الأصلي لها: ابتداء الغاية في الزمان والمكان، نحو:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} و {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وتكون (من) أيضًا لانتهاء الغاية (بمعنى: إلى) وللبدل، وللاستعلاء (بمعنى: على) وبمعنى الباء، وللتعليل وللمجاوزة (بمعنى: عن) وللظرفية (بمعنى: في) و (بمعنى: عند)، وللفصل. وأكثر هذه المعاني فيها خلاف بين النحاة، يجيزها بعضهم وينكرها آخرون.
(3)
سيأتي برقم (3292) كتاب: بدأ الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده ورواه مسلم (2261) أول كتاب: الرؤيا.
وخرج بقوله: (من الوحى) ما زاد من دلائل نبوته من غير وَحْي كتسليم الحجر عليه وما سمعه من بحير الراهب في النوم؛ ذكر لزيادة الإيضاح، أو لدفع تَوَهُّمِ أن المراد بالرؤيا: رؤية العين، رؤيا بلا تنوين، كحُبْلَى.
(مثل فلق الصبح) منصوب نعتًا لمصدر محذوف أي: مجيئًا مثل، أو حالًا أي: مشبهة ضياء الصبح. (وفلق الصبح) وكذا فرقة الصبح بفتح أولهما، وثانيهما بمعنى ضيائه.
وحكي تسكين اللام، وإنما يقال ذلك لما كان واضحًا بَيّنًا قبل. والفلق: مصدر كالانفلاق والصحيح: أنه معنى مفلوق، وهو اسم للصبح، فأضيف أحدهما للآخرة لاختلاف اللفظين فالإضافة فيه للبيان، وقد جاء الفلق منفردًا عن الصبح، كما في {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وقيل: لما كان الفلق اسمًا للصبح ويستعمل في غيره أضيف للصبح للتخصيص من إضافة العام للخاص، كما يقال: عين الشيء ونفسه.
إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا؛ لئلا يفجأه الملك، ويأتيه بصريح النبوة بغتة فلا تتحملها القوى البشرية، فبُدئ بأوائل خصال النبوة (حبب إليه الخلاء) ببناء (حبب) للمفعول، والخلاء بالمد والقصر، وبالتذكير والتأنيث، وبالصرف وعدمه: الخلوة، بأن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وإنما حببت إليه الخلوة؛ لأن معها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق؛ ليجد الوحيُ منه مكانًا سهلًا لا حزنًا. وفيه: تنبيهٌ على فضل العزلة؛ لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرغه لله تعالى؛ فيتفجر منه ينابيع الحكمة.
(بغار) وهو نقب في الجبل، وجمعه غيران وهو قريب من معنى
الكهف. (حراء) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد وحكي فتحها، والقصر وهو مصروف إن أريد المكان، وغير مصروف إن أريد البقعة، كنظائره من أعلام الأمكنة: وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منًى (1).
(فيتحنث) بحاء مهملة وبمثلثة أي: يتجنب الحنث أي: الإثم، بأن يتعبد، كما يأتي وهو معنى يتحنَّف بالفاء، كما روي كذلك أي: يتبع دين الحنيفة أي: دين إبراهيم عليه السلام، والفاء تبدل ثاء. (فيه) أي: في غار حراء، وخصَّ حراء بالتعبد فيه لمزيد فضله على غيره؛ لأنه منزوٍ مجموع للتحنث وينظر منه الكعبة المعظمة، والنظر إليها عبادة، فكان له صلى الله عليه وسلم فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتحنث، والنظر إلى الكعبة (وهو) أي: التحنث: التعبد، فسر الزهريُّ بهذه الجملة التحنث مُدْرِجًا لها في الحديث (2).
(1) انظر: "معجم البلدان" 2/ 233.
(2)
الإدراج في الحديث هو ما يدخله الراوي على الأصل المروي من زيادة غيرت سياق سنده أو متنه وذلك لغرض من الأغراض، كبيان اللغة، أو التفسير للمعنى، أو التقييد للمطلق ونحو ذاك، وهو أقسام إدراج في الإسناد وهي إذا كانت المخالفة بسبب تغير السياق في السند، ومدرج في المتن وذلك إذ كانت المخالفة في ذات المتن، بأن يدمج موقوفًا بمرفوع في أول الحديث، أو آخره، أو وسطه.
ويعرف الإدراج بأمورٍ منها: وروده منفصلًا من طريق آخر، تصريح الراوي بذلك، استحالة كونه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، بيانه من إمام متبحر. أمَّا عن حكمه: فلا خوف بين العلماء أن تعمد الإدراج في الحديث حرام لا يجوز فعله في متن أو سند لتضمنه عزو القول لغير قائله تعمية على القراء، وقد فسَّروا الجواز على من تجوز له رواية الحديث بالمعنى، بحيث يتحقق فيه الآتي:
(الليالي) ظرف ليتحنث، وأراد بالليالي ما يشمل الأيام، وغلبها على الأيام؛ لأنها أنسب للخلوة.
(ذوات العدد) صفة لليالي منصوب بالكسرة، وأبهم العدد؛ لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيؤه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام، ثم سبعة أيام، ثم شهر، والتعبد المذكور يحتمل أن يكون بشرع الأنبياء قبله على القول بأنه قبل النبوة كان متعبدًا بشرعٍ، إما بشرع إبراهيم، أو نوح، أو موسى، أو عيسى، أو ما ثبت أنه شرع على الخلاف المشهور فيه (قبل) تنازع فيه يخلو ويتحنث.
(ينزع) بفتح الياء، وكسر الزاي أي: قبل أن يحنَّ ويشتاق إلى أهله فيرجع إليهم يقال: نزع إلى أهله إذا حنَّ واشتاق إليهم.
(ويتزود) بالرفع عطفًا على يتحنث أي: يتخذ الزاد (لذلك) أي: للخلوة وللتعبد.
(إلى خديجة) أي: أم المؤمنين. (لمثلها) أي: لمثل الليالي، وتخصيص خديجة بالذكر بعد تعبيره بالأهل؛ للتفسير عن الإبهام، أو للتنبيه على اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. (حتى) غاية لمحذوف أي: واستمر ما ذكره إلى أن (جاءه الحق) أي: الوحي، وعبر في كتاب: تعبير الرؤيا (1) بقوله: "حتى فجئه" بكسر الجيم من
أن يكون عالمًا بالعربية وما هو في أساليب الكلام، أن يكون عارفًا بخواص التراكيب ومفهومات الخطاب والله أعلم. انظر:"مقدمة ابن الصلاح" ص 130، "النخبة النبهانية" ص 33، "تدريب الراوي" 2/ 435، "التقريب والتيسير" ص 36، "النكت على كتاب ابن الصلاح" ص 813، "الباعث الحثيث" ص 70.
(1)
ستأتي برقم (6982) كتاب: التعبير، باب: أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي.
الفجأة، والمراد: أنه جاء بغتة؛ لأنه لم يكن متوقعًا مجيء الوحي. (فجاءه الملك) أي: جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان، وهو ابن أربعين سنة، والفاء هنا تفسيرية وتفصيلية لما في مدخولها من تفسير وبيان ما قبلها من الإجمال، كما في قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
(اقرأ) الأمر به لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه، أو للطلب على بابه فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال.
(ما أنا بقارئ) ما: نافية، أو استفهامية، وما قيل: إنها ليست استفهامية لدخول الباء في خبرها وهي لا تدخل على ما الاستفهامية. رُدَّ بأنها تدخل عليها عند الأخفش (1)، وبورود الخبر بصيغة: كيف أقرأ؟ وبصيغة ماذا أقرأ؟ (فغطني) بمعجمه ثم مهملة أي: ضمني وعصرني، ويروى:"فغتني" بالتاء بدل الطاء أي: حبس نفسي.
(الجهد) هو بالنصب والرفع مع فتح الجيم وضمها: المشقة، فهو على الأول: مفعول أي: بلغ الغطُّ منَّى الجهْدَ، وعلى الثاني: فاعل أي: بلغ منِّي الجهدُ مبلغَه. (أرسلني) أي: أطلقني. (فغطني الثالثة) الحكمة في غطه: أن يفرغ قلبه عن النظر إلى أمر الدنيا، ويقبل بكليته إلى ما يلقى إليه، وفي تكريره ذلك زيادة في ذلك، ففيه: أن المعلِّم ينبغي أن يحتاط للمتعلم في تنبيهه وإحضار مجامع قلبه وأن لا يضرب متعلِّمًا أكثر من ثلاث ضربات.
(فقال اقرأ باسم ربك) أي مفتتحًا به، ولا دلالة في ترك البسملة
(1) وهو مذهب ردَّه كثيرٌ من النحاة، والراجح هنا كونها -أي: ما- نافية عاملة؛ لأنها بمعنى ليست.
هنا على أنها ليست من أوائل السور؛ لأنها وإن لم تنزل حينئذ فنزلت بعد ذلك، كبقية القرآن (1). (خلق الإنسان من علق) خصه بالذكر؛ لأنه أشرف المخلوقات، والعلق جمع علقة: وهي الدم المنعقد، وفيما ذكر دليل للجمهور على أن سورة اقرأ باسم ربك أول ما نزل وقول من قال: إن أول ما نزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} عملًا بالرواية الآتية في الباب فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} محمول على أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي.
فرجع بها أي بالآيات المقروءة. (يرجف) بضم الجيم: حال من رسول الله أي: يخفق ويضطرب: (فؤاده) أي: قلبه، وقيل: باطنه. (زملوني زملوني) من التزميل وهو التلفيف والتدثير؛ وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفف، والجمع في زملوني للتعظيم، أو لخديجة ومن حضرها، وإلا فالقياس أن يقال: زمليني، لأنه إنما دخل عليها.
(الروع) بفتح الراء: الفزع، وهو المراد هنا، وبضمها: النفس وموضع الفزع من القلب. (الخبر) أي ما جرى من مجيء الملك والغظ وغيرهما.
(لقد خشيت على نفسي) أي: الموت من شدة الرعب، أو أن لا أطيق حمل أعباء الوحي؛ لما لقيته أولًا عند لقاء الملك وليس معناه الشك في أن ما أتى به من عند الله؛ إذ لا شك عنده إنه من الله، وأكد خشيته باللام، و (قد)(2) تنبيهًا على تمكنها من قلبه، وخوفه على نفسه.
(1) ظاهر كلامه أن البسملة من أوائل السور.
(2)
وهو جواب القسم محذوف، أي: والله لقد خشيت.
(كلَّا)(1) نفي ورَدْعٌ عن هذه الخشية أي: لا تقل ذلك، أو لا خوف عليك. (ما يخزيك) بضم الياء، وبالمعجمة، وبزايٍ مكسورة، وبياء من الخزي وهو الفضيحة، والهوان، وفي نسخة:"يحزنك" بفتح الياء،
(1)(كلَّا) حرف ردع وزجر. هذا مذهب الخليل، وسيبويه، وعامة البصريين. وذهب الكسائي، وتلميذه نُصير بن يوسف، ومحمد بن أحمد بن واصل، إلى أنها تكون بمعنى "حقًّا". ومذهب النضر بن شميل أنها بمعنى "نَعَمْ". وركب ابن مالك هذه المذاهب الثلاثة، فجعلها مذهبًا واحدًا.
قال في "التسهيل": (كلَّا) حرف ردع وزجر، وقد تُؤؤل بـ "حقًّا"، وتساوي "إِيْ" معنى واستعمالًا.
وذهب أبو حاتم إلى أنها تكون ردًّا للكلام الأول، وتكون للاستفتاح بمعنى:"ألا"، ووافقه الزجّاج. وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أنها تكون على وجهين: أحدهما أن تكون ردًّا لكلام قبلها، فيجوز الوقف عليها، وما بعدها استئناف. والآخر: أن تكون صلة للكلام، فتكون بمعنى:"إِيْ". وقيل: إِن "كلّا" بمعنى: "سوف".
وعدة ما جاء في القرآن من لفظ: "كلّا" ثلاثة وثلاثون موضعًا، تتضمنها خمس عشرة سورة. وليس في النصف الأول منها شيء. قيل: وحكمة ذَلِكَ: أن النصف الأخير نزل أكثره بمكة، وأكثرها جبَابرة. فتكرّرت هذه الكلمة على وجه التهديد، والتعنيف لهم، والإِنكار عليهم، بخلاف النصف الأول، وما نزل منه في اليهود، لم يحتج إلى إيرادها فيه، لذلّهم وصغارهم.
واختلف في "كلّا": هل هي بسيطة، أو مركَّبة؟ ومذهب الجمهور: أنها بسيطة. وذهب ثعلب إلى أنها مركّبة من كاف التشبيه و"لا" التي للردّ، وزيد بعد الكاف لام، فشدّدت، لتخرج عن معناها التشبيهي. وقال صاحب "رصف المباني": هي بسيطة عند النحويين، إِلا ابن العريف جعلها مركّبة من "كَلْ" و"لا". وهذا كلام خَلْفٌ، لأن "كَلْ" لم يأت لها معنى في الحروف، فلا سبيل إلى ادعاء التركيب من أجل "لا" والله سبحانه أعلم.
وبالمهملة، وبزايٍ مضمومة، أو بضم الياء، وبزايٍ مكسورة وبنون فيهما من الحزن، يقال: حزنه، وأحزنه.
(أبدًا) نصب على الظرف. (إنك) بكسر الهمزة (1) لوقوعها في الابتداء على جملة وقعت جوابًا عن سؤالٍ وهو: هل سبب ذلك الاتصاف بمكارم الأخلاق، أو غيره؟ (لتصل الرحم) أي: لتحسن للأرقارب بالمال، أو بالزيارة، أو بالخدمة، أو بغير ذلك. (تحمل الكلَّ) هو بفتح الكاف وتشديد اللام: من لا يستقل بأمره، أو الثقْل بكسر المثلثة وسكون القاف وفتحها: وهو كل ما يتكلف له أي: إنك لتعين الضعيف وترفع ما عليه من الثقل.
(وتكسب المعدوم) بفتح الفوقية أي: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك وكسب يتعدى بنفسه إلى واحد نحو: كسبت المال،
(1) تكسر همزة (إن) في ثمانية مواضع:
أحدها: ابتداء الكلام، نحو:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} .
الثاني: صلة الموصول، نحو:{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ} .
الثالث: جواب القسم، نحو:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} .
الرابع: إذا حُكيت بالقول، نحو:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} .
الخامس: أن تقع موقع الحال، نحو:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} .
السادس: أن تكون قبل لام معلِّقة، نحو {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} .
السابع: أن تقع بعد حيث، نحو قولهم: من حيث إنك فاضل.
الثامن: أن تكون واقعة موقع خبر اسم عين، نحو:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} .
ويجب فتح همزة (أن) في كل موضع يلزم فيه تأويلها مع اسمها وخبرها بمصدر.
وإلى اثنين نحو: كسَّبت غيري المال، وما هنا منه، وفي نسخة:"تكسب" بضم الفوقية وصوبه الخطابي وغيره مع ضم الميم وحذف الواو من المعدوم أي: تعطى العائل وترفده (1).
(وتقري الضيف) بفتح أوَّله. يقال: قريت الضيف قرى بكسر القاف والقصر وقراء بفتحها والمد، وروي:"تقري" بضم أوَّله، والمعنى: تهيء له طعامه ونزله. (نوائب الحق) أي حوادثه، وخرج بالحق نوائب الباطل إذ النوائب تكون في الحق والباطل، قال لبيد:
نوائب من خير وشر كلاهما
…
فلا الخير ممدود ولا الشر لازبُ
أي: لازم، وبالجملة فمعنى كلام خديجة: أنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وجميل الصفات، وذكرت أمورًا هي [سبب](2) للسلامة من السوء والمكاره، ففيه: مدح الإنسان في وجهه لمصلحة، وأما حديث "احثوا في وجوه المداحين التراب"(3) فذاك في المدح بالباطل، أو المؤدي إلى باطل، وفيه: التأنيس لمن حصل لهم مخافة شيءٍ وذكر أسباب السلامة له، وذلك أبلغ دليل على كمال خديجة وجزالة رأيها، وعظيم فقهها؛ إذ جمعت فيما ذكرته أنواع أصول المكارم؛ لأن الإحسان إما للأقارب، وإما للأجانب، أو
(1) انظر: "أعلام الحديث" 1/ 129.
(2)
في (م)[سبل].
(3)
رواه مسلم (3002) كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير. عن همام بن الحارث، وأبو داود (4804) كتاب: الأدب، باب: في كراهية التمادح، والترمذي (2393) كتاب: الزهد، باب: ما جاء في كراهية المدحة والمداحين. عن مجاهد عن أبي معمر: وفي الباب عن أبي هريرة أيضًا. وابن ماجه (3742) كتاب: الأدب، باب: المدح من حديث المقداد بن عمرو.
بالبدن، أو بالمال، أو على من لا يستقلُّ بأمره، أو على غيره.
(فانطلقت به) أي: مضت به، وعَدَّاه بالباء؛ لأنها انطلقت مصاحبةً له، بخلاف ما لو عُدِّيَ بالهمزة، نحو: أذهبت، فإنه لا يلزم ذلك. (ورقة) بفتحات. (نوفل) بفتح النون والفاء. (العُزى) بضم العين تأنيث أعز: وهي صنم. (ابن عم خديجة) بنصب (ابن) بدلًا من ورقة، أو صفة له، ولا يجوز جره؛ لأنه يصير صفة لعبد العُزى، وليس كذلك ويكتب بالألف لا بدونها؛ لأنه لم يقع بين علمين، وتجتمع معه خديجة في أسد؛ لأنها بنت خويلد بن أسد. (تنصر) بنون أي: صار نصرانيًّا، وترك عبادة الأوثان، وقيل: إنما هو تبصر بموحدة، من البصيرة لكونه في زمن الجاهلية كان متبصرًا.
(في الجاهلية) هي ما قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لما كانوا عليه من الجهل، وقيل: هي زمن الفترة مطلقًا. (الكتاب العبراني) في مسلم كالبخاريِّ في تعبير الرؤيا (الكتاب العربي)(1) وصححه الزركشي، لاتفاقهما عليه. (من الإنجيل) هو إفعيل من النجل؛ لأن الأحكام منجولة منه أي: مستخرجة منه، ومنه أنجل فلان ولدًا. (بالعبرانية) متعلق بيكتب أي: يكتب باللغة العبرانية، وهي على الرواية الأولى، وأما على الثانية، "فبالعربية" كما في نسخة، وهي كالعبراني بكسر العين نسبة إلى العبْر بكسرها، وإسكان الموحدة، زيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سميت بذلك؛ لأن الخليل عليه
(1) ستأتي برقم (6982) كتاب: التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي. ومسلم (160) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصلاة والسلام تكلم بها لما عبر الفرات فارًّا من نمرود والحاصل كما قال النوويُّ: أنه تمكن في دين النصارى وكتابهم، وتصرف حتَّى صار يكتب الإنجيل إن شاء بالعربية، وإن شاء بالعبرانية (1)، على الروايتين، قيل: فهم من الحديث أن الإنجيل عبراني، ورُد بأنه ليس كذلك، وإنما هو سرياني، والعبراني إنما هو التوراة. (يا ابن عم) هو ابن عمها حقيقة، ورواه مسلم "أيْ عمِّ"(2) وهو مجاز جعلته عمًّا تعظيمًا وتوقيرًا لعادة العرب في خطاب الصغير للكبير.
(ابن أخيك) تعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ابن [أخي](3) جدك ففيه: مجاز الحذف، أو مجاز التشبيه؛ لأن جد ورقة الثالث أخو جدِّ النبي صلى الله عليه وسلم الرابع، وإنما عبرت بذلك تعظيمًا له، واستعطافًا له، (الناموس) هو جبريل، وأصله: صاحب سر الخير ضد الجاسوس، يقال: نمست بفتح الميم، أنمس بكسرها أي: كتمت، ونامسته: ساررته. (على موسى) لم يقل على عيسى، مع أن ورقة تنصر تحقيقًا للرسالة؛ لأن نبوة موسى متفقٌ عليها عند أهل الكتابين، بخلاف نبوة عيسى فإن كثيرًا من اليهود ينكرونها؛ ولأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام، وكذا كتاب نبينا صلى الله عليه وسلم، بخلاف كتاب عيسى فإنه أمثال ومواعظ على أن الزبير بن بكار رواه عيسى. (يا ليتني) يا للتنبيه (4) كألا في نحو:
(1)"صحيح مسلم بشرح النووي" 2/ 203.
(2)
"صحيح مسلم"(160) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
من (م).
(4)
هذا مذهب جماعة من النحويين -قيل هم الكوفيون- يجعلون (يا) للتنبيه إذا وليها أحد خمسة أشياء، هي: الأمر، والدعاء، وليت -كما في الحديث-
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
أو للنداء والمنادى محذوف أي: يا محمدٌ. (فيها) أي: في مدة النبوة والدعوة. (جذعًا) بفتح الذال المعجمة، وبالنصب: خبر مقدرة (1) يؤيده قوله بَعْدُ: يا ليتني أكون حيًّا، أو على الحال من ضمير فيها، وخبر ليت: فيها، أو على أن ليت بمعنى أتمنى فتنصب الجزأين (2) نحو: يا ليت أيَّامَ الصبا رواجعًا (3)، أو بفعل محذوف أي: جعلت فيها جزعًا، وفي نسخة:"جذع" بالرفع خبر ليت، وفي أخرى:"جذع" بالسكون، والجذع: الصغير من البهائم، واستعير للإنسان أي: يا ليتني كنت شابًّا عند ظهور نبوتك حَتَّى أَقْوى على المبالغة في نصرتك، وإنما
وحبذا، ورُبَّ. فهي في هذه المواضع حرف تنبيه لا حرف نداء. قال بعضهم: وهو الصحيح. وذهب آخرون إلى أنها في كل ذلك حرف نداء والمنادى محذوف. وفضل ابن مالك فقال: إن (يا) إذا وليها أمر أو دعاء فهي حرف نداء، والمنادى محذوف. وإذا وليها (ليت)، أو (رُبَّ) أو (حبذا) فهي لمجرد التنبيه.
(1)
يعني خبر كان مقدرة. والتقدير: يا ليتني أكون فيها جذعًا.
(2)
المشهور في (ليت) رَفْعُ خبرها، وذهب الكسائي إلى جواز نصبه، ونُقل عن الفراء أيضًا. وذهب ابن سلام وجماعة من المتاخرين إلى جواز نصب الخبر مع إن وأخواتها، وخصَّه بعضهم بـ ليت وكأنّ ولعلّ. ومما جاء على ذلك قول ابن المعتز:
مرَّت بنا سَحَرًا طيرٌ فقلتُ لها
…
طُوباكِ يا ليتني إياك طُوباكِ
(3)
رجز قائله العجاج. انظر: الكتاب 2/ 142، و"طبقات فحول الشعراء" 65، و"المغني" 316، و"الموشح" 217، و"البحر" 4/ 444، و"الهمع" 1/ 134، و"الخزانة" 4/ 290. ومثله قول الشاعر:
ليت الشبابَ هو الرَّجيعَ على الفتى
…
والشَّيبَ كان هو البدئ الأوَّلُ
تمنَّى مستحيلًا وهو عود الشباب؛ لأن المستحيل يسوغ تمنيه إذا كان في فعل خير، أو لأن التمني ليس مقصودًا، بل المراد به: التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به، أو قاله تحسرًا لتحققه عدم عود الشباب (1).
(ليتني أكون) في نسخة: "يا ليتني أكون". (إذ يخرجك) إذ بمعنى إذا (2)، كما في قوله تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] عكس إذا كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} ونكتة الأول تنزيل المستقبل المقطوع بمرفوعه منزل الماضى الواقع أو استحضاره في مشاهدة السامع تعجبًا، أو تعجيبًا، فلذلك قال:"أَوَمُخْرِجِيَّ هم" وهو تعجبا، واستبعادًا، أو مخرجيَّ بتشديد الياء المفتوحة؛ لأن أصله: مخرجوني: فحذفت النون للإضافة فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياءً، وأدغمت، ثم أبدلت الضمة قبل الواو كسرة.
و (هم) مبتدأ خبره مخرجيَّ ولا يجوز العكس؛ لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة، والهمزة للاستفهام الإنكاريّ، والواو بعدها مفتوحة للعطف على مقدر أي: أمعاديَّ ومخرجيَّ هم، فالهمزة
(1) كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يومًا
…
فأخبره بما فعل المشيب
(2)
إذ: ظرف لما مضى من الزمان، وإذا: ظرف لما يستقبل من الزمان متضمِّنة معنى الشرط. وذهب بعض المتأخرين إلى أن (إذا) تكون ظرفًا لما يستقبل من الزمان، فتكون بمعنى (إذا) وعليه المصنف هنا.
واقعة في محلها الأصليِّ من تصديرها الجملة، كما في قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} وخُصَّت بذلك؛ لأنها أصل الاستفهام (1)؛ ولأنها حرف واحد، فسقط ما قبل الأصل. أن يجاء بالهمزة بعد العاطف؛ لكونها للاستفهام نظير نحو:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ} (2)، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)} مع أن التمثيل بكيف تكفرون غير صحيح، إذ لم يتقدمه عاطف، فإنما يصح التمثيل بنحو:{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} .
(إِلا عُوْدِيَ) أي: لأن الإخراج عن المألوف موجب لذلك (يومُك) أي: يوم انتشار نبوتك، أو يوم يخرجك قومك. (مؤزرًا) أي: قويًّا بليغًا، من الأزر وهو القوة والعون. (ينشب) بفتح المعجمة أي: يلبث. (ورقة) بالرفع فاعل ينشب. (أن تُوفِّي) بفتح الهمزة بدل اشتمال من ورقة أي: لم تلبث وفاته.
(فَتَرَ الوَحْي) أي: احتبس بعد تتابعه في النزول سنتين، وقال ابن إسحاق: ثلاثًا، وقال ورقة في ذلك:
فإن يك حقًّا يا خديجة فاعملي
…
حديثكِ إيانا فأحمد مرسل
وجبرئيل يأتيه وميكال معهما
…
من الله وحي يشرح الصدر منزل
قيل: علم بهذا أن ورقة آمن لتصديقه رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويدل لإيمانه كذلك ما في السير: أنه قال له: أبشر فأنا أشهد أنك الذي بَشَّرَ به ابن مريم، وأنك على مثل ناموسِ موسى، وأنك نبيٌّ مرسل، وأنك
(1) كل أدوات الاستفهام أسماء عدا الهمزة وهل فهما حرفان.
(2)
الاستدلال بهذه الآية خطأ؛ لعدم وجود العاطف، وسيشير المصنف إلى ذلك بعد الاستدلال.
ستأمر بالجهاد وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك، وفي "مستدرك الحاكم":"لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين"(1).
(قال ابن شهاب) هو الزهري وصورة هذا تعليق، لكنه متصل، كما ستعلمه، وقاعدة البخاري في مثله: أنه إن كان صحيحًا عنده أتى فيه بصيغة الجزم، كقال أو ضعيفًا أتى فيه بصيغة المبني للمفعول، كقيل ورُويَ، فإن لم تقم قرينة على البناء على سند متقدم فهو مما حذف البخاريُّ سنده فيه لغرض، ككونه معروفًا عن الثقات ونحو ذلك، وربما وصله البخاريُّ في موضعٍ آخر وإن قامت قرينة على ذلك، كما هنا، فهو من المتصل صريحًا، فإن التقدير في قوله:(وأخبرني أبو سلمة) حدثنا يَحيى بن بُكير، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني أبو سلمة، فيكون الأوَّلُ: مما حدَّث به ابن شهاب عن عروة والثاني: مما حدث عن أبي سلمة، قالوا: وفي وأخبرني عاطفة له على ما رواه، أولًا عن عروة، كأنه قال أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا (وهو يُحَدّثُ) حال أي: قال جابر في حال تحديثه.
(عن فترة الوَحْي) أي: عن احتباسه عن النزول. (بينا) أصله: بين فأشبعت الفتحة ألفًا، وقد تزاد عليها ما فتصير بينما وهي ظرف زمان لازم الإضافة إلى الجملة الاسمية، كما هنا، وهي تتضمن معنى الشرط، ولذلك احتاجت إلى الجواب، فإن لم يكن في جوابها مفاجاة فهو العامل فيها، وإن كان فيه ذلك كما هنا، وهو الأفصح، فالعامل
(1) انظر: "المستدرك" 2/ 609 كتاب: التاريخ من حديث عائشة. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
معنى المفأجاة، وتحتاج إلى جواب ليتمَّ به المعنى، كما ستعلمه. (إذ) للمفاجأة (1) وهل هي ظرف زمان، أو مكان، أو حرف للفاجأة، أو حرف زائد مؤكد، أقوال (2). وعلى الظرفية قال ابن جني (3): عاملها الفعل الذي بعدها؛ لأنها غير مضافة، وعامل بينا محذوف يفسره الفعل المذكور، وقال الشلوبين: إذ مضافة للجملة ولا يعمل فيها الفعل بعدها؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا في بينا؛ لأن المضاف إليه، لا يعمل فيما قبل المضاف، بل عاملها محذوف يدل عليه الكلام والمعنى أن في أثناء أوقات المشي فاجأني السماع.
(جالس) بالرفع خبر المبتدأ، وهو الملك، ورواه مسلم (4) بالنصب حالًا من الملك، والخبر محذوف أي: شاهدٌ أو حاضرٌ. (على كرسيٍّ) بضم الكاف وقد تكسر. (فَرُعِبْتُ) بضم الراء وكسر العين، وفي رواية: بفتح الراء وضم العين أي: فزعتُ.
(زَمِّلُوني زملوني) بالتكرار في أكثر النسخ، وفي بعضها مرة،
(1) لا تكون (إذ) للمفاجأة إلا بعد بينا أو بينما. وقد اختلف النحاة فيها على أقوال ذكرها المصنف.
(2)
انظر هذه الأقوال في "الجنى الداني" 189 - 190.
(3)
هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي اللغوي، له مصنفات في علوم النحو أبدع فيها وأحسن منها:"التلقين"، و"اللمع والتعاقب في العربية وشرح القوافي"، و"المذكر والمؤنث"، و"سر الصناعة"، و"الخصائص" وغيره. وذكر ابن جني بغداد ودرّس بها وأقرأ حتى مات في صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. انظر:"تاريخ بغداد" 11/ 313، "النجوم الزاهرة" 4/ 204، "اللباب" 1/ 243، "شذرات الذهب" 3/ 140 - 141.
(4)
انظر: "صحيح مسلم"(161) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواية مسلم (دثروني) وهو أنسب بقوله فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] أي: يا أيها المتدثر بثيابه، وعن عكرمة: المدثر بالنبوة وأعبائها.
(فأنذر) أي حذِّر بالعذاب من لم يؤمن بك، واقتصر على الإنذار؛ لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه.
(إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] في نسخة: "الآية"، وفسر الرجز هنا بالأوثان؛ لأن الرجز لغةً: العذاب فعبادتها سبب العذاب، وقيل: الرجز: الشرك، وقيل: الذنب، وقيل: الظلم. (فحَمِى الوَحْيُ) أي: كَثُرَ نزوله وازداد، كَحَمِيَتِ الشمس: كَثُرَتْ حرارتها. (وتتابع) في نسخة: "وتواتر" ولم يكتف عن ذلك بحمى؛ لأنه لا يستلزم الاستمرار والدوام والتواتر.
(تابعه) أي: يحيى بن بكير. (عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِيسيُّ، وكلاهما شيخ البخاريَّ، وكثيرًا ما يذكر البخاريُّ في هذا "الجامع" المتابعات، وهذا أوَّل موضعٍ منها، وتسُمَّى هذه المتابعة تامة؛ لأنه من أول الإسناد إلخ، فإن وقعت لا من الأول سميت ناقصة، كما يأتي في متابعة هلال، ثم النوعان ربما يترك المتابع عليه، كما هنا، وربما يذكر، كما يأتي آخر الباب وتسمى متابعة مقيدة.
(أبو صالح) هو عبد الله كاتب الليث، أو هو عبد الغفار بن داود البكريُّ الحرانيُّ أي: وتابع أبو صالح يحيى بن بكير عن الليث (وتابعه) أي: عقيل بن خالد شيخ الليث بقرينة قوله عن الزهريَّ. (هلال بن ردَّاد).
(عن الزهري) هو محمد بن مسلم بن شهاب (وقال يونس)