الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)} أرأيت كيف يردد المستشرقون شبهة عفا عليها الدهر، وطوتها السنون، وبيَّن الله فسادها قبل خمسة عشر قرنًا من الزمن، ثم جاءوا يلوكونها ويدندنون بها تشويهًا للإسلام، وتشكيكًا في عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقله وبدنه. (1)
الوجه الثاني: مَرَاتِب الْوَحْيِ مَرَاتِب عَدِيدَة
بيّن القرآن الكريم أنواع الوحي بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51].
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه إلا وحيًا يوحي الله إليه كيف شاء، أو إلهامًا، وإما غيره {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يقول: أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى نبيه عليه السلام {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} يقول: أو يرسل الله من ملائكته رسولًا إما جبرائيل عليه السلام، وإما غيره {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} يقول: فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء، يعني: ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي، وغير ذلك من الرسالة والوحي. (2)
وقد بينت لنا السنة هذه المراتب.
إِحْدَاهَا: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَكَانَتْ مَبْدَأَ وَحْيِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الوحي الرُّؤيا الصَّالِحةُ في النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُو التَّعَبُّدُ - الليالي ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ؟ قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أرسلني" فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فغطني الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أرسلني فَقَالَ:
(1) رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء السنة النبوية الشريفة (1/ 378).
(2)
تفسير الطبري (11/ 162).
اقْرَأْ؟ فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ فأخَذَني فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أرسلني فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)}، فَرَجَعَ بِهَا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نفسي". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَالله مَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ العبرانيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ الله عَلَى مُوسَى عليه السلام يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِي هُمْ"؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عودي، وَإِنْ يدركني يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّي وَفَتَرَ الوحي. (1)
الثَّانِيَةُ: مَا كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ فِي رَوْعِهِ وَقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ كَمَا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتّقُوا الله وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ الله، فَإِنَّ مَا عِنْدَ الله لَا يُنَالُ إلَّا بِطَاعَتِهِ". (2)
الثَّالِثَةُ: أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَمَثّلُ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُخَاطِبَهُ حَتَّى يَعِيَ عَنْهُ مَا يَقُولُ لَهُ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَانَ يَرَاهُ الصَّحَابَةُ أَحْيَانًا.
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا
(1) رواه البخاري (3).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة 8/ 129، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2866).
أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أخبرني عَنِ الإِسْلَامِ. . . . الحديث وفيه: ثُمَّ قَالَ لي: "يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ؟ ". قُلْتُ الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ". (1)
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي مِثْلِ صَلْصلَةِ الْجَرَسِ، وَكَانَ أَشَدّهُ عَلَيْهِ فَيَتَلَبّسُ بِهِ الْمَلَكُ حَتّى إنّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصّدُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ يَأْتِيكَ الوحي؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَحْيَانًا يأتيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ - وَهُو أشَدُّهُ عَلَىَّ - فَيُفْصَمُ عَنِّى وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لي الْمَلَكُ رَجُلًا فيكلمني فَأَعِى مَا يَقُولُ". قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوحي في الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. (2)
قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَفَرَّغَ سَمْعُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَبْقَى فِيهِ وَلَا فِي قَلْبه مَكَان لِغَيْرِ صَوْت الْمَلَك. (3)
قال ابن الجوزي: إنما شبهه بالجرس؛ لأنه صوت متدارك لا يفهمه في أول وهلة حتى يتثبت ولذلك قال: "وهو أشده علي"، وقوله:"فيفصم عني" أي يقلع عني وينجلي ما يغشاني منه. وأصله من الفصم وهو القطع، وقولها:(وإن جبينه) للإنسان جبينان والجبهة بينهما، وقوله:(ليتفصد) بمعنى: يسيل عرقًا كما يفصد العرق، وكان صلى الله عليه وسلم يلقى مشقة شديدة لثقل ما يلقى عليه من القرآن، فيعتريه ما يعتري المحموم، وكان ذلك من هيبة الكلام، وتعظيم المتكلم، وجمع الفهم للوعي، وخوف التحريف لنقص العقول من غير
(1) رواه البخاري (4499) عن أبي هريرة، ومسلم (102) واللفظ له.
(2)
البخاري (2)، ومسلم (2333).
(3)
شرح مسلم للنووي 8/ 46.