الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه العاشر: إن فساد معاني الأبيات بما لا يقتضيه واقع العرب وعقيدتها الجاهلية يفضح كذب ادعائها على الشعر الجاهلي كله.
الوجه الحادي عشر: مخالفة الشبهة لمقتضى العقل وانعدام المنهج العلمي في تقريرها.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: تحدي القرآن للعرب وعجز فصحائهم عن الإتيان بمثل القرآن، وإقرارهم بأنه ليس من قبيل الشعر
.
لو كان هناك مطعن في القرآن من حيث لغته ودلالته، أو بيانه وبلاغته، أو ألفاظه ومعانيه، لكان أعداء القرآن من مشركي العرب أتوا به قبل أن يتحداهم القرآن. . . إذ قد اجتمع في كفار قريش أقوى عامِلَين للتشكيك في القرآن الكريم.
العامل الأول: كونهم أهل اللغة، وفصحائها، وفيهم فطاحل الشعراء والخطباء. (1)
العامل الثاني: رغبتهم الجامحة في إطفاء نور الله تعالى، والحرص على جحده وتكذيبه بعد أن عاب آلهتهم، وسفه أديانهم وأحلامهم. بل زاد الأمر عليهم حين تحداهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة أو آية من ممثله، فلم يأتوا بشيء.
قال تعالى - أول ما تحداهم -: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33، 34]، فلما انقطعوا قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا
(1) يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير 2/ 115، 120: كانوا في معرفة اللغة، والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية؛ إذ مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك. وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل! فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به، فلما لم يأتوا بها علمنا عجزهم عنها، فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتًا معتادًا فهو إذن تفاوت ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزًا.
ويقول الزرقاني في مناهل العرفان 2/ 278: القرآن معجز خصوصًا أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى به؛ فأعجز أساطين الفصحاء، وأعيا مقاويل البلغاء، وأخرس ألسنة فحول البيان من أهل صناعة اللسان، وذلك في عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز في هذا الميدان، وفي أمة كانت مواهبها محشودة للتفوق في هذه الناحية، وإذا كان أهل الصناعة هؤلاء قد عجزوا عن معارضة القرآن فغيرهم أشد عجزا وأفحش عيا.
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13، 14]، فلما عجزوا هذه المرة أيضًا طاولهم مرة أخرى وقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].
يقول القاضي عياض: فلم يزل يقرعهم النبي صلى الله عليه وسلم أشد التقريع، ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم، ويذم آلهتهم وإياهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب والإغراء بالافتراء، وقولهم: إن هذا إلا قول البشر، إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر وإفك افتراه، وأساطير الأولين، . . .، وقد قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فعلوا ولا قدروا، ومَنْ تعاطَى ذلك من سُخَفَائِهِم كمسيلمة كُشِفَ عَوَارُهُ لِجَمِيْعِهم (1).
ويقول: تحديهم بأن يأتوا بمثله قاطع، وهو أبلغ في التعجيز، وأحرى بالتقريع، والاحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم، وهو أبهر آية، وأقمع دلالة، وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال بل صبروا على الجلاء والقتل، وتجرعوا كاسات الصغار والذل، وكانوا من شموخ الأنف، وإباءة الضيم بحيث لا يؤثرون ذلك اختيارا، ولا يرضونه إلا اضطرارا، وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم والشغل بها أهون عليهم وأسرع بالنجح وقطع العذر وإفحام الخصم لديهم وهم ممن لهم قدرة على الكلام وقدوة في المعرفة به لجميع الأنام (2).
ويقول ابن عاشور: الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته، اعترافا بالحق وربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح، مع أنهم
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 261.
(2)
السابق 1/ 267.
أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا، وترغيبا وزجرا، قد خُصوا من بين الأمم بقوة الذهن، وشدة الحافظة، وفصاحة اللسان، وتبيان المعاني، فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني، ولا يجمح بهم عسير من المقامات (1).
وقال مالك بن نبي: لم يذكر التاريخ أن أحدًا قد أجاب على هذا التحدي، وبهذا يمكن أن نستخلص أنه قد ظل دون تعقيب وإن إعجازه الأدبي قد أفحم فعلا عبقرية ذلك العصر. فكان عجزُهم بعد ذلك أشنعَ وأبشعَ وسَجَّلَ الله عليهم الهزيمة أبد الدهر فلم يفعلوا ولن يفعلوا فافتضح أمرهم.
فكفار قريش الذين عجزوا كانوا أعلم الناس بأشعار العرب وأحفظهم له، وأعرفهم بمداخله ومخارجه، وقد كانوا مع ذلك أحرص الناس على بيان كذب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ما هو إلا ساحر أو كاهن أو شاعر، والله تعالى ردَّ عليهم بقوله:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)} [الحاقة: 41]، وقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} [يس: 69، 70]، فلم يستطيعوا تكذيب كلام الله تعالى، ولم يقدروا على أن يأتوا بدليل على كلامهم من كونه شاعرا إلا التهويش والتكذيب، ثم لو كان اقتبس في القرآن من ذلك الشعر المنسوب لامرئ القيس، لكان كفار قريش - وهم الحفاظ لشعره - أولَ من يستعين بذلك في رد كلام الله تعالى.
بل ولم يستطيعوا أن يخفوا أو ينكروا إعجاز القرآن وبلاغته وقوته، كما سيأتي بعد قليل. وإن من أعجب العجب أن يخرج علينا الأعجمي الذي لم يرضع اللسان العربي والذي لا يطيق الإبانة عن نفسه بلسان عربي، فيُخَطِّئُ - ما عجزت عنه العرب قاطبة - أحْكَمَ القَولِ وأبلغَهُ، يخطِّئُ الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بلسان عربي مبين.
(1) التحرير والتنوير 1/ 106.
إن هؤلاء الأعاجم الأغتام أخذوا يفتعلون الأسباب لتنقص القرآن وإلحاق المعابة به، أنه لم يكن سابقًا في بلاغته؛ بل اعتمد على بلاغة مَن سبقه من الشعراء والفصحاء كامرئ القيس وغيره، وأرادوا بذلك نفي أنه كلام الله وأنه صنع بشري يستعين بمَن سبق. (1)
قال السيوطي: لما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه؛ على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء، نادى عليهم بإظهار العجز، فقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] هذا وهم الفصحاء اللد، وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره، وإخفاء أمره فلو كان في مقدرتهم معارضته، لعدلوا إليها قطعا للحجة، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه؛ بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى، . . .، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم، وسبي ذراريهم وحرمهم، واستباحة أموالهم وقد كانوا آنف شيء وأشده حمية، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه؛ لأنه كان أهون عليهم (2).
وقال أيضًا: قال الجاحظ: بعث الله محمدا أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر، وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف فنصب لهم الحرب، ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديًا لهم بها وتقريعا لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيًّا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات فلم يرم
(1) الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي صـ 189.
(2)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/ 312.
ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولا طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكايد فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى عَلَى مَنْ هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة؟ وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه (1).
بل حدث منهم نقيض ذلك، فكان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب، فالوليد بن المغيرة شهد على نفسه وقومه من قبل بأن القرآن الكريم ليس من جنس شعر العرب، فضلًا عن أن يكون مقتبسًا منه.
وكما روى إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عباس: أن الوليدَ بنَ المغيرة جَاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَرأَ عليه القرآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أبا جهل فأتاه فقال: "يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا. قال: لِمَ؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برَجَزه ولا
(1) الإتقان في علوم القرآن 2/ 313.
بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} (1).
وروى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومسلم عن عبد الله بن الصامت واللفظ لمسلم: أن أنيسًا أخا أبي ذرٍّ، قال لأبي ذرٍّ: لقيت رجلًا بمكة على دينك. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أَقْرَاءِ الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
وفي رواية البخاري: فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاما ما هو بالشعر (2).
وروى مسلم أن ضماد بن ثعلبة الأزدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر (3).
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 550، والبيهقي في شعب الإيمان 1/ 156، ودلائل النبوة 2/ 198، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية صـ 158.
(2)
رواه البخاري (3648)، ومسلم (6513)، (6516).
يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير 23/ 62: لقد ظهرت حكمة علام الغيوب في ذلك؛ فإن المشركين لما سمعوا القرآن ابتدروا إلى الطعن في كونه منزّلًا من عند الله بقولهم في الرسول: هو شاعر، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة، وأُنيس بن جُنادة الغفاري، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} وبعد هذا، فإن إقامة الشعر لا يَخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية، فإذا جاء القرآن شعرًا قصَّر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقّه.
(3)
صحيح مسلم (868). قال النووي في شرح مسلم (6/ 157): ضبطناه بوجهين أشهرهما: ناعوس بالنون والعين هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني: قاموس بالقاف والميم، . . .، وقال أبو عبيد: قاموس البحر: وسطه، وقال بن دريد: لجته، وقال صاحب كتاب العين: قعره الأقصى، وقال الحربي قاموس البحر: قعره، وقال أبو مروان بن سراج: قاموس فاعول من قمسته إذا غمسته، فقاموس البحر: لجته التي تضطرب أمواجها ولا تستقر مياهها، وهي لفظة عربية صحيحة.
وفي قصة عتبة بن ربيعة حين جاء يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم على أن يترك دعوته، ويعرض عليه المال والملك والسلطان، فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن، فلما رجع إلى قومه وجلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني والله قد سمعت قولًا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم (1).
بل إن العرب عجزت والتزمت الصمت وما انبست لها شفة، ولا قالوا مثلا: قد كان يمكن لفصحائنا القدماء أن يأتوا بمثل هذا القرآن إنما علموا أن ذلك ليس من قبيل الكلام المعروف.
يقول الجاحظ: وهو يذكر إعجازَ القرآن: ولو أن رجلًا قرأ على رجلٍ منْ خُطبائِهم وبلغائِهم سورةً قصيرةً أو طويلةً؛ لتبيَّنَ له في نظامِها ومَخْرجها منْ لفظِها وطابَعِها أنه عاجزٌ عن مثلِها، ولو تَحدَّى بها أَبْلَغَ العربِ لأظهرَ عجزَه عنها. (2)
ويقول عبد القاهر الجرجاني: المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف، وطبائعهم التي لا تَتبَدَّل، أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلًا إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم كيف، وإن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أنَّ بأقصى الإقليم الذي هو فيه من يَبْأَى بنفسه (3)، ويُدِلُّ بشعرٍ يقوله، أو
(1) دلائل النبوة للبيهقي 2/ 79، السيرة النبوية لابن هشام (1/ 293).
(2)
رسائل الجاحظ 3/ 229، وانظر البيان والتبيين للجاحظ 3/ 29.
(3)
(بأى عليه يبأى بأوًا): فخر عليه وأظهر الكبر. لسان العرب (14/ 63، مادة: بأي).
خطبة يقوم بها، أو رسالة يعملها، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يُظْهِر ما عنده من الفضل، ويبذُلَ ما لديه من المُنَّة، حتى إنه ليتوصَّل إلى أن يكتب إليه، وأن يعرض كلامه عليه، ببعض العِلَل وبنوع من التَّمَحُّل، هذا وهو لم ير ذلك الإنسان قط، ولم يكن منه إليه ما يَهُزُّ ويُحَرِّك ويَهيجُ على تلك المعارضة، ويدعو إلى ذلك التَعَرُّض.
وإن كان المُدَّعِي بمرأى منه ومسمع، كان ذلك أَدعى له إلى مُباراته، وإلى إظهار ما عنده، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يُقَصِّر عنه، أو أنَّه منه أفضلُ.
فإن انضافَ إلى ذلك أن يَدْعُوَه الرجلُ إلى مُمَاتَنَتِه، ويُحَرِّكه لمُقاوَلته، فذلك الذي يُسهر ليله ويَسلُبُه القرار، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحدِّ في مناقضته.
وإذا كان هذا واجبًا بين نَفْسين لا يَرُومُ أحدُهما من مُباهاةِ صاحبه إلا ما يَجْرِي على الألسُن من ذِكْرِه بالفضل فقط، فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب، وفي مثل قريش ذوي الأنفس الأبيَّة والهمم العليَّة، والأنَفَة والحمية مَنْ يدَّعي النبوة، ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كَافَّة، وأنه بشير بالجنة ونذير بالنار، وأنه قد نَسَخَ به كل شريعةٍ تقدَّمته، ودِينٍ دان به الناس شَرْقًا وغربًا، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، إلى سائر ما صدع به صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: وحجتي أن الله تعالى قد أنزل كتابًا عربيًا مبينًا، تعرفون ألفاظه، وتفهمون معانيه، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، ولا بعشر سور منه، ولا بسورة واحدة، ولو جَهدتم جَهْدكم، واجتمع معكم الجن والإنس ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه، ويُبَيِّنوا سَرَفَه في دعواه، مع إمكان ذلك، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه؟ أم هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رياسة، ولهم دين ونِحلة، فَيُؤَلِّبَ عليهم الناس، ويُدَبِّرَ في إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وفي قَتْلِ صناديدهم وكبارهم، وسَبْي ذراريهم وأولادهم، وعُمْدتُه التي يجد بها السبيل إلى تَأَلُّفِ