الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل وأحكامه، مسايرة للحكمة وأخباره، مطابقة للواقع، ألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105]، ولعلك تدرك معي أن تفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ كما قررنا تصرفٌ إلهيٌ حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة (1).
الوجه الثالث: الآية تدل على نوع خاص من النسخ
.
لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته؛ لكان دليله قاصرًا عن مدعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ وهو نسخ الحكم دون التلاوة، فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن، أما نسخ التلاوة مع الحكم أو مع بقائه فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل (2).
الوجه الرابع: إنكار وتشديد القول من أهل العلم على من قال بهذا القول (3)، مما يدل على بطلان قوله.
(1) مناهل العرفان (2/ 172).
(2)
مناهل العرفان (2/ 172)، النسخ في القرآن الكريم د/ مصطفى زيد (1/ 57).
(3)
يرى أبو مسلم أن النسخ (إبطال)؛ لأن فيه إلغاء الحكم بالمنسوخ، فلو وقع في القرآن لأتاه الباطل، وفي ذلك تكذيب لخبر الله تعالى، والكذب محال في خبره.
وأبو مسلم هذا قد اختلف العلماء في اسمه على تسعة أقوال أشهرها: محمد بن علي، وكان أديبًا مترسلًا بليغًا متكلمًا، وهو مفسر معتزلي. واختلف الباحثون في تبيين حقيقة ما ذهب إليه في النسخ لاضطراب النقل عنه، فحُكي عنه منع النسخ بين الشرائع، وحُكي عنه منع النسخ في القرآن وغير ذلك، وقيل إنه كان يخالف العلماء في النسخ من ناحية اللفظ، فكان يسميه تخصيصًا، وقد أنكر أن يكون في القرآن نسخًا، وأتى على الآيات التي تتحدث عن وجود النسخ في القرآن بتأويلات عقلية، ونقلها عنه الرازي في تفسيره، ورد عليها. وقد جمع أبو مسلم هذه الآيات في كتابه الشهير (جامع التأويل لمحكم التنزيل)، غير أن الشيخ سعيد الأنصاري رد عليه في تأويله للآيات في كتابه المشهور (ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل).
قال الجصاص: زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ؛ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب؛ قال: لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء، وشريعته ثابتة باقية إلى أن تقوم الساعة.
وقد كان هذا الرجل ذا حظ من البلاغة وكثير من علم اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد غير مظنون به غير ظاهر أمره، ولكنه بَعُدَ من التوفيق بإظهار هذه المقالة؛ إذ لم يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه، ونقل ذلك إلينا نقلا لا يرتابون به ولا يجيزون فيه التأويل، كما قد عقلت أن في القرآن عاما وخاصا ومحكما ومتشابها، فكان دافع وجود النسخ في القرآن والسنة كدافع خاصة وعامه، ومحكمة ومتشابهه؛ إذ كان ورود الجميع ونقله على وجه واحد، فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أمورا خرج بها عن أقاويل الأمة مع تعسف المعاني واستكراهها، وما أدري ما الذي ألجاه إلى ذلك؟
وأكثر ظني فيه أنه إنما أتى به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك، واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ونقلته الأمة (1).
قال أبو جعفر النحاس: فمن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ وكابر العيان واتبع غير سبيل المؤمنين (2).
قال ابن كثير: وقال أبو مسلم الأصفهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن. وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ. (3)
= مقدمات النسخ د. أسامة عبد العظيم (76: 79)، (شرح الكوكب المنير 3/ 535)(الحاشية).
(1)
أحكام القرآن (1/ 59).
(2)
الناسخ والمنسوخ (1/ 400).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 145).