الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 - بيان سبب عدم إسلام جميع فصحاء العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
-.
لأنهم كانوا يشكُّون؛ ففيهم من يشك في إثبات الصانع، وفيهم من يشك في التوحيد، وفيهم من يشك في النبوة، ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم عام الفتح، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، فشهد. قال: أما آن لك أن تشهد أني رسول الله؟ قال: أمّا هذه ففي النفس منها شيء".
فكانت وجوه شكوكهم مختلفة وطرق شبههم متباينة، فمنهم من قلت شبههه، وتأمل الحجة حق تأملها، ولم يستكبر فأسلم. ومنهم من كثرت شبهه أو أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله؛ فلذلك وقف أمره، ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة - لتوافوا إلى القبول جملة واحدة.
8 - بيان سبب أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات
.
فإن قيل: فلِمَ زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله، مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلّا قلتم: إنَّ من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه من هذه الطرق الغريبة، كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه الله عنه ضربًا من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضربًا من المنع، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه، ليتكامل ما أراده الله من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين، لم يعجز عن نظم مثلها، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة؟ .
فالجواب: أنه لو صح ذلك لكل من أمكنه نظم ربع بيت، أو مصراع من بيت أن ينظم القصائد، ويقول الأشعار، وصح لكل ناطق قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة، نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة، ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن، على أن ذلك لو لم يكن معجزًا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه
ومنع من مقدار الفصاحة في نظمه، كان أبلغ في الأعجوبة إذا صُرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا من معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب، على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادّعاه أيكن مَن قَبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة، والبلاغة وحسن النظم، وعجيب الرصف؛ لأنهم لم يتحدوا إليهن ولم تلزمهم حجته، فلما لم يوجد في كلام مَن قَبله مثله عُلم أنَّ ما ادعاه القائل بالصِرفة ظاهر البطلان.
وفيه معنى آخر وهو: أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلامًا مطمعًا لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم، ومن كان متناهيًا في فصاحته، لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال، فإن قال: صاحب السؤال إنه قد يطمع في ذلك.
قيل له: أنت تزيد على هذا فتزعم أن كلام الآدمي يضارع القرآن، وقد يزيد عليه في الفصاحة، ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظًا ومعنًى؛ ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه، ويحسبه ظان من أمره، والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد، ونحن نبيّن بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب؛ ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ببين الغلط، وأن هذا التقدير من جنس مَن حكي الله - تعالى - قولُه في محكم كتابه:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 18 - 25]؛ فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله، وأن ذلك من قول البشر؛ لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته. (1)
9 -
سبب انصراف الفصحاء عن نقد القرآن: ولولا أن القرآن له وجوه الإعجاز، لما تحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل - أي التصنع - للمقابلة، والتصنع
(1) إعجاز القرآن للباقلاني 1/ 25 - 28.