الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال جامعو تفسير (هنري واسكات):
سبب فقدان النسخة العبرانية أن الفرقة الأبيونية التي كانت تنكر ألوهية المسيح حرفت هذه النسخة وضاعت بعد فتنة (يروشالمن)، وقال البعض إن: الناصريين أو اليهود الذين دخلوا في الملة المسيحية حرفوا الإنجيل العبراني، وأخرجت الفرقة الأبيونية فقرات كثيرة منه.
ويشير أبو موسى الحريري في كتابه "قس ونبي" إلى عقائد بعض الفرق الأبيونية الهرطوقية التي ادعت أن المسيح يتحول برضاه من صورة إلى صورة، فقد ألقى في صلبه شبهه على سمعان، وصُلب سمعان بدلًا عنه، فيما هو ارتفع إلى السماء حيًا إلى الذي أرسله، ماكرًا بجميع الذين مكروا للقبض عليه، لأنه كان غير منظور للجميع (1).
الوجه الثاني: اعتقاد الأبيونيين ليس كاعتقاد ورقة ولا المسلمين
.
اعتقاد الطائفة الأبيونية وكذلك سائر عقائد النصارى في هذا الوقت يختلف عن اعتقاد ورقة ومحمد صلى الله عليه وسلم.
هذه هي عقيدة الأبيونية وبعض الفرق الأخرى التي ظهرت في القرن الثاني الميلادي التي اعتقد البعض أن الإسلام أخذ منها عقيدته:
1 -
فالأبيونيون وغيرهم كانوا يؤمنون بأن المسيح ولد ولادة طبيعية من علاقة جنسية مباشرة بين مريم ورجل (سواء كان هذا الرجل هو يوسف النجار أو بانتيرا أو غيرهما)، وكانوا يتجنبون ذِكر هل هذه العلاقة كانت عن زواج أم زنى؟
وذلك الاعتقاد عند الأبيونيين (ويُسمون بالأبيونيين المتشدِّدين) والكيرنثيين والكسائيين في ذلك، بينما اختلفوا في الرجل الذي باشر مريم.
وأما الناصريون (ويُسمون بالأبيونيين المعتدلين) فأقروا بالولادة العذراوية للمسيح؛ أي: أن مريم فتاة عذراء لم يقتحمها ذكر، وأن المسيح له طبيعة مغايرة لسائر الأنبياء، سواء كانت طبيعة ملائكيًا أو غير ذلك.
(1) قس ونبي (129).
أما عند المسلمين فيؤمنون بما جاء في القرآن بأن المسيح خلق من روح مخلوقة، أنزلها الله مع جبريل لتُجعل في مريم؛ فيتكون المسيح من بعد ذلك بداخلها، فلم يكن هناك مباشرة بين رجل وامرأة، ولا أن المسيح له طبيعة ملائكية؛ بل له طبيعة بشرية، وذلك لقوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 16 - 22].
فإن الأبيونيين نفوا ألوهية المسيح لإنكارهم ميلاده العذراوي، وكانوا يفترضون أنه لو صح لديهم ميلاده العذراوي لجاز لهم احتمال تأليهه.
أما القرآن فينفي أي احتمالات على ألوهية المسيح، مع التأكيد على أنه لم يكن هناك مباشرة بين رجل وامرأة لإنجابه (1).
2 -
الإقرار بصلب المسيح وقتله. وشاركهم الكيرنثون، والكسائيون، والناصريون في ذلك. أما عند المسلمين فيؤمنون بما جاء في القرآن بنفي صلب المسيح وبنفي قتله (2).
3 -
إنكار قيامة المصلوب بعد موته، وأنكروا عقيدة الفداء أو الخلاص أو الكفارة عن خطيئة آدم بدم المصلوب، وهذا عند: الأبيونيين، والكيرنثيين، والكسائيين في ذلك، أما الناصريون فأقروا بقيامة المصلوب بعد موته.
(1) انظر بحث (ألوهية المسيح) في هذه الموسوعة.
(2)
انظر بحث (الصلب والفداء) في هذه الموسوعة.
أما القرآن فلا يثبت الصلب أصلًا.
4 -
تحريم الذبائح في القربان: عند الأبيونيين، والكيرنثيين، والكسائيين، والناصريين. أما في الإسلام فأباح تلك الذبائح وأمر بها في الشعائر.
5 -
الاغتسال الكامل للبدن كل يوم لأداء الطقوس: عند الأبيونيين، والكيرنثيين، والكسائيين، والناصريين.
وهذا يختلف عن الوضوء عند المسلمين، فما يُغسل في الوضوء إلا بعضُ الأعضاء وهي: الوجه، واليدان إلى المرفقين، والرجلان إلى الكعبين، ويُمسح بالرأس، أما عندهم فيُغسل جميع البدن.
6 -
المسيح نبي لا إله ولا ابن الإله؛ وذلك عند الأبيونيين والكيرنثيين، إلا ما كان عند الكسائيين والناصريين من اختلافٍ في طبيعة المسيح.
مما سبق يتضح أنه إن كان ورقة أبيوني متشدد، وصاغ لمحمد القرآن من الإنجيل ووافق عقائدهم فيتبين خطأ ذلك الادعاء بوضوحٍ عند المقارنة المجردة ما بين العقائد التي أتى بها القرآن وعقائد الفرق النصرانية المختلفة، فنؤكد على أنه لا يوجد اتفاق تام بين العقائد التي أتى بها القرآن وأي عقيدة أخرى بشرية أرضية أو إلهية تم تحريفها من قِبل البشر كما حدث لليهودية والنصرانية.
وإن كان هناك حق في الأديان الأخرى المخالفة للإسلام، فليس معنى ذلك أنه خطأ، بل إن الإسلام يقرُّ بكل حق أيًّا كان قائله أو كاتبه.
الوجه الثالث: ورقة لم يكن أبيونيًا بل كان يبحث عن الحق في النصرانية، وحاول جاهدًا أن يتتبع الحق فيها ويترك ما فيها من باطل.
نحن المسلمين نعتقد أن دين النصارى قد حُرِّف (1)، فكان ممن يريد اتباع الحق من النصارى يتلاشى ما يغلب على ظنه أن به تحريفًا، ويتبع ما كان يوافق منهج الأنبياء في التوحيد والإصلاح وما يصل إليه من خلال بحثه فيعتقد أنه الحق الذي لم يحرف.
قال المناوي: والظاهر أن ورقة لم يكن متمسكًا بالمبدل من النصرانية بل بالصحيح منها الذي هو الحق (2).
قال عبد القادر البغدادي: وحاصل ما ذكره البقاعيِّ في شأن ورقة بن نوفل: أنه ممن وحّد الله في الجاهلية، فخالف قريشًا وسائر العرب في عبادة الأوثان وسائر أنواع الإشراك، وعرف بعقله الصحيح أنهم أخطئوا دين أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ووحّد الله تعالى واجتهد في تطلب الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ليعرف أحب الوجوه إلى الله تعالى في العبادة.
فلم يكتف بما هداه إليه عقله، بل ضرب في الأرض ليأخذ علمه عن أهل العلم بكتب الله المنزلة من عنده، الضابطة للأديان، فأداه سؤاله أهلَ الذكر الذين أمر الله بسؤالهم إلى أن اتبع الدين الذي أوجبه الله في ذلك الزمان، وهو الناسخ لشريعة موسى عليه السلام دين النصرانية، ولم يتبعهم في التبديل؛ بل في التوحيد، وصار يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشر به موسى وعيسى عليهما السلام (3).
وحتى لو كان ورقة أبيوني المذهب فهل هذا هو الداعي لكرهه للنصارى؛ حيث إنه كتب ما يسبهم في القرآن - كما تدعون - فللرد على ذلك نقول:
1 -
القرآن ذمَّ أناسًا من النصارى ومدح أناسًا آخرين منهم؛ فهذا يدل على إنصاف القرآن، وأن ورقة لو كان هو الذي كتبه لتعرض بالسب واللعن لهم جميعًا بسبب أو بدون سبب لينصر مذهبه؛ قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
(1) انظر بحث (تحريف الكتاب المقدس) في هذه الموسوعة.
(2)
فيض القدير 6/ 401.
(3)
خزانة الأدب 1/ 437.