الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - تم ترشيح هؤلاء القراء السبعة للأخذ عنهم دون غيرهم على أساس من الموثوقية والحيادية المطلقة
.
قال ابن مجاهد وهو يبين منهجه في اختيار القراء السبعة: اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام، ورويت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين توسعة ورحمة للمسلمين وبعض ذلك قريب من بعض.
وحمَلَةُ القرآن متفاضلون في حمله، ولنقلة الحروف منازل في نقل حروفه، وأنا ذاكر منازلهم، ودال على الأئمة منهم، ومخبر عن القراءة التي عليها الناس بالحجاز والعراق والشام، وشارح مذاهب أهل القراءة، ومبين اختلافهم واتفاقهم إن شاء الله وإياه أسأل التوفيق بمنه. (1)
فبين هنا أن الأئمة من القراء هم أصحاب القراءة التي عليها الناس، ثم قال مؤكدًا فكرته (2): فمن حملة القرآن المعرب، العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلمات، البصير بعيب القراءات، المنتقد للآثار فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين، ومنهم من يعرب ولا يلحن ولا علم له بغير ذلك؛ فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ولا يقدر على تحويل لسانه، فهو مطبوع على كلامه.
ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم، لا يعرف الإعراب ولا غيره فذلك الحافظ فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده، فيُضَيِّعُ الإعرابَ لشدة تشابهه، وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة؛ لأنه لا يعتمد على علم بالعربية، ولا بصر بالمعاني يرجع إليه، وإنما اعتماده على حفظه وسماعه، وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع، وتشتبه عليه الحروف؛ فيقرأ بلحن لا يعرفه، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدقًا، فيحمل ذلك عنه قد نسيه ووهم فيه وجسر على لزومه والإصرار عليه، أو يكون قد قرأ على من نسى وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم، فذلك لا يقلد القراءة ولا يحتج بنقله.
(1) السبعة (1/ 45).
(2)
إعجاز القراءات القرآنية - دراسة في تاريخ القراءات واتجاهات القراء - تأليف/ صبري الأشوح (69: 70).
فهو هنا يؤكد على شرط من شروط القراءة وهو: موافقة العربية، ثم يشير إلى الشرط الآخر، وهو: صحة السند بقوله:
ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعًا.
ويكشف لنا ابن مجاهد عن أن اختيار الناس لم يكن مجرد تبعية أو تقليدًا أو انسياقًا أعمى؛ بل كان انتقاء واعيًا وبصيرة نافذة فيقول: (1)
وأما الآثار التي رويت في الحروف فكالآثار التي رويت في الأحكام، منها المجتمع عليه السائر المعروف، ومنها المتروك المكروه عند الناس المعيب من أخذ به، وإن كان قد روى وحفظ، ومنها ما توهم فيه من رواه فضيع روايته ونسى سماعه لطول عهده فإذا عرض على أهله عرفوا توهمه وردوه على من حمله، وربما سقطت روايته لذلك بإصراره على لزومه وتركه الانصراف عنه، ولعل كثيرًا ممن تُرك حديثه واتُهم في روايته كانت هذه علته، وإنما ينتقد ذلك أهل العلم بالأخبار والحرام والحلال والأحكام، وليس انتقاد ذلك إلى من لا يعرف الحديث ولا يبصر الرواية والاختلاف، كذلك ما روى من الآثار في حروف القرآن منها المعرب السائر الواضح، ومنها المعرب الواضح غير السائر، ومنها اللغة الشاذة القليلة، ومنها الضعيف المعنى في الإعراب غير أنه قد قرئ به، ومنها ما توهم فيه فغلط به، فهو لحن غير جائز عند من لا يبصر من العربية إلا اليسير، ومنها اللحن الخفي الذي لا يعرفه إلا العالم النحرير، وبكلٍّ قد جاءت الآثار في القراءات.
ويقول ابن مجاهد أيضًا مؤكدًا على أن اختياره لم يكن سوى اختيار الناس الخاصة منهم والعامة: والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوليهم تلقيًا، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن
(1) إعجاز القراءات القرآنية (70).
التابعين أجمعت الخاصة والعامة على قراءته، وسلكوا فيها طريقه، وتمسكوا بمذهبه على ما رُوي عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر وعمر بن عبد العزيز وعامر الشعبي، ثم ساق بإسناده عن هؤلاء بألفاظ متقاربة قولهم: قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول. وفي رواية: القراءة سنة فاقرءوا كما قرأ أولكم.
وقال ابن مجاهد - وهو يترجم للقراء السبعة الذين أجمعت الأمة على قبول قراءتهم ويبين مكانتهم -: على قراءة نافع اجتمع الناس بالمدينة العامة منهم والخاصة (1).
وكان الإمام الذي انتهت إليه القراءة بمكة وائتم به أهلها في عصره عبد الله بن كثير. (2)
وأول من أقرأ بالكوفة القراءة التي جمع عثمان رضي الله عنه الناس عليها أبو عبد الرحمن السلمي، واسمه: عبد الله بن حبيب. فجلس في المسجد الأعظم ونصب نفسه لتعليم الناس القرآن، ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة فيما ذكر (3)، فلما مات أبو عبد الرحمن رحمه الله تعالى خلفه في موضعه أبو بكر عاصم بن أبي النجود (4).
وكان عاصم مقدمًا في زمانه مشهورًا بالفصاحة معروفًا بالإتقان (5).
ثم بيَّن ابن مجاهد العلة في عدم انتشار قراءة عاصم في زمانه فقال: وإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة، وليست بالغالبة عليهم؛ لأن أضبط من أخذ عن عاصم أبو بكر بن عياش فيما يقال؛ لأنه تعلمها منه تعلما خمسًا خمسًا، وكان أهل الكوفة لا يأتمون في قراءة عاصم بأحد ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش، وكان أبو بكر لا يكاد
(1) السبعة في القراءات (1/ 62).
(2)
السابق (1/ 64).
(3)
السابق (1/ 67).
(4)
السابق (1/ 69).
(5)
السابق (1/ 70)، وإن كنا نجد من القراء كحفص من هو في عداد المجروحين عند المحدثين، ولكن تجريح حفص وعدم قبول هؤلاء القراء لجرح المحدثين لأكبر دليل علي عدم التفاتهم لهذا الأمر؛ بل وانتشار قراءة حفص في الآفاق - وهو ضعيف عند المحدثين - لأبلغ رد علي المحدثين بأن أصولهم لا تسير على معشر القراء.
يمكن من نفسه من أرادها منه، فقلَّت بالكوفة من أجل ذلك، وعز من يحسنها، وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات (1).
وكان حمزة ممن تجرد للقراءة ونصب نفسه لها.
وكان علي بن حمزة الكسائي قد قرأ على حمزة ونظر في وجوه القراءات، وكانت العربية علمه وصناعته، واختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة، وكان حمزة إمام أهل الكوفة في عصره، وكان إمام الناس في القراءة في عصره، وكان يأخذ الناس عنه ألفاظه بقراءته عليهم.
وأما البصرة فقام بالقراءة بها بعد التابعين جماعة منهم أبو عمرو بن العلاء.
قال أبو بكر: وكان مقدمًا في عصره عالمًا بالقراءة ووجوهها، قدوة في العلم باللغة، إمام الناس في العربية، وكان مع علمه باللغة وفقهه بالعربية متمسكًا بالآثار، لا يكاد
(1) وهنا يثور التساؤل عن السبب الذي حدا بابن مجاهد أن يخالف القاعدة التي وضعها لنفسه فيختار قراءة عاصم على الرغم من أن غالبية أهل الكوفة تركتها إلى قراءة حمزة؟ .
والإجابة هنا تشهد لابن مجاهد ولا تشهد عليه، ذلك أن اختياره الوحيد الذي خالف فيه القاعدة التي وضعها لنفسه يدل على أنه ليس من ذلك النوع من البشر الذي يسير مغمض العينين ومغيب العقل على القواعد، إذ لكل قاعدة استثناء، فلقد أكد ابن مجاهد أنه كان ينشد الحق أينما وُجد، فإن وافق اختيار الناس، وإلا فهو يختار لهم.
وهذا عين ما حدث عند اختياره لقراءة عاصم، فلقد أدرك - وهو الخبير بالقراءات - فضل هذه القراءة الذي لا يُنكر، ثم بحث في أسباب انصراف غالب أهل الكوفة عنها، فوجدها أسبابًا ذاتية غير موضوعية، ذلك أن الإمام العظيم عاصم بن أبي النجود كان إذا تكلم كاد يدخله خيلاء، فلعل هذا ما جعل العامة ينصرفون عن قراءته، فإذا أضفنا إلى هذا السبب أن شعبة وهو أحد راويي عاصم، والذي كان الناس في الكوفة يأتمون بروايته عن عاصم، كان هو الآخر لا يكاد يمكن نفسه من أرادها منه، ووصل إلى أن الناس لم ينكروا لقراءة عاصم فضلها، إلا أنهم حين سعوا إليها وجدوا نوعًا من الاستعلاء ربما جرح كبرياءهم فانصرفوا عنها إلى غيرها غير منكرين لفضلها.
من هنا اعتبر ابن مجاهد انصراف أهل الكوفة عن قراءة عاصم لقراءة حمزة. . . . . وأن عاصم كان يتمتع بذاكرة حافظة ليس لها نظير، قال عاصم: مرضت سنتين، فلما قرأت القرآن فما أخطأت حرفًا.
إذا علمنا ذلك كله أدركنا السر وراء تمسك ابن مجاهد بقراءة عاصم - خلافًا لقاعدة الشهرة - فأثبت أنه كان عقلًا فذًا مستقلًا. (إعجاز القراءات القرآنية 75: 77).