الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين، والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف. أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة. (1)
الوجه التاسع: المقصد من الزيادة بيان المعنى
.
قال ابن عادل: المقصود من الزيادة بيان المعنى فقط. (2)
الشبهة الثالثة: نزول القرآن على سبعة أحرف يخالف قول الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
.
نص الشبهة:
يقولون: إن أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف تثبت الاختلاف في القرآن مع أن القرآن نفسه يرفع الاختلاف عن نفسه إذ يقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} ، وذلك تناقض ولا ندري أيهما يكون الصادق.
والجواب: الاختلاف هنا بمعنى التنويع في طرق الأداء، اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتنافر وتناقض (3).
إن الاختلاف الذي تثبته تلك الأحاديث غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن. وهذا كاف في دفع التناقض فكلاهما صادق. وبيان ذلك أن الأحاديث الشريفة تثبت الاختلاف بمعنى التنويع في طرق أداء القرآن والنطق بألفاظه في دائرة محدودة لا تعدو سبعة أحرف، وبشرط التلقي فيها كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أمَّا القرآن فينفي الاختلاف بمعنى التناقض
(1) مجموع الفتاوى 13/ 395.
(2)
تفسير اللباب لابن عادل 16/ 36.
(3)
فيض القدير شرح الجامع الصغير (2/ 87).
والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه مع ثبوت التنويع في وجوه التلفظ والأداء السابق، ومعنى ذلك أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يلزم منه تناقض، ولا تخاذل، ولا تضاد، ولا تدافع بين مدلولات القرآن ومعانيه، وتعاليمه ومراميه بعضها مع بعض؛ بل القرآن كله سلسلة واحدة متصلة الحلقات، محكمة السور والآيات، متآخذة المبادئ والغايات مهما تعددت طرق قراءته، ومهما تنوعت فنون أدائه (1).
ولابن الجزري كلام نفيس يتصل بهذا الموضوع قال: وأما حقيقة اختلاف هذه السبعة الأحرف المنصوص عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وفائدته؛ فإن الاختلاف المشار إليه في ذلك اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض؛ فإن هذا محال أن يكون في كلام الله تعالى، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} ، وقد تدبرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناها لا تخلو من ثلاثة أحوال:
(أحدها) اختلاف اللفظ والمعنى واحد. (الثاني) اختلافهما جميعًا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد. (الثالث) اختلافهما جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد؛ بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد.
فأما الأول: كالاختلاف في (الصراط، وعليهم، ويؤده، والقدس، ويحسب) ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط.
وأما الثاني: فنحو (مالك، وملك) في الفاتحة؛ لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى؛ لأنه مالك يوم الدين وملكه، وكذا (يكذبون، ويكذبون) لأن المراد بهما هم المنافقون؛ لأنهم
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن 1/ 185، وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي 1/ 83، وقال الكردي: فاختلاف هذه الأحرف إنما هو اختلاف ألفاظ وتلاوة، لا اختلاف معان موجبة لاختلاف أحكامه (مثال ذلك) ما رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كنت عند عثمان رضي الله عنه وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبى بن كعب فيها "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين" و"لا تبديل للخلق" قال فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين وكتب "لخلق الله" ومحا فأمهل وكتب "فمهل" وكتب "لم يتسنه" ألحق فيها هاء والقراءة في المصاحف على هذا الإصلاح.
يكذِّبون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويَكذِبون في أخبارهم، وكذا (كيف ننشرها) بالراء والزاي؛ لأن المراد بهما هي العظام وذلك أن الله أنشرها أي أحياها، وأنشزها أي رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت فضمن الله تعالى المعنيين في القراءتين.
وأما الثالث: فنحو (وظنوا أنهم قد كذبوا) بالتشديد والتخفيف، وكذا (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) بفتح اللام ورفع الأخرى وبكسر الأولى وفتح الثانية، وكذا (للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) بالتسمية والتجهيل، وكذا قال (لقد علمت) بضم التاء وفتحها، وكذلك ما قرئ شاذًا (وهو يطعم ولا يطعم) عكس القراءة المشهورة، وكذلك (يطعم ولا يطعم) على التسمية فيهما؛ فإن ذلك كله وإن اختلف لفظًا ومعنى وامتنع اجتماعه في شيء واحد؛ فإنه يجتمع من وجه آخر يمتنع فيه التضاد والتناقض، فأما وجه تشديد (كذبوا) فالمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم، ووجه التخفيف: وتوهم المرسَل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به فالظن في الأولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل، والظن في القراءة الثانية شك والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم. وأما وجه فتح اللام الأولى ورفع الثانية من (لتزول) فهو أن يكون أن مخففة من الثقيلة أي: وإن مكرهم كان من الشدة بحيث تقتلع منه الجبال الراسيات من مواضعها، وفي القراءة الثانية إن نافية أي: ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام ففي الأولى تكون الجبال حقيقة وفي الثانية مجازًا. وأما وجه (من بعد ما فتنوا) على التجهيل فهو إن الضمير يعود للذين هاجروا وفي التسمية يعود إلى (الخاسرون). وأما وجه ضم تاء علمت فإنه اسند العلم إلى موسى حديثًا منه لفرعون حيث قال: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)} ، فقال موسى على نفسه:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} ، فأخبر موسى عليه السلام عن نفسه بالعلم بذلك أي أن العالم ذلك ليس بمجنون، وقراءة فتح التاء أنه أسند هذا العلم لفرعون مخاطبة من موسى له بذلك على وجه التقريع لشدة معاندته للحق بعد علمه، وكذلك وجه قراءة الجماعة
(يطعم) بالتسمية (ولا يطعم) على التجهيل أن الضمير في "وهو" يعود إلى الله تعالى، أي: والله تعالى يرزق الخلق ولا يرزقه أحد، والضمير في هذه القراءة يعود إلى الولي أي: والوالي المتخذ يرزق أحدًا، والضمير في القراءة الثالثة إلى الله تعالى أي: والله يطعم من يشاء ولا يطعم من يشاء. فليس في شيء من القراءات تناف وتضاد ولا تناقض. وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقد وجب قبوله ولم يسع أحدًا من الأمة رده ولزم الإيمان به وأن كله منزل من عند الله؛ إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علمًا وعملًا، ولا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنًا أن ذلك تعارض وإلى ذلك أشار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله:"لا تختلفوا في القرآن ولا تتنازعوا فيه، فإنه لا يختلف ولا يتساقط"، ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة، حدودها وقراءتها وأمر الله فيها واحد، ولو كان من الحرفين حرف يأمر بشيء ينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف ولكنه جامع ذلك كله، ومن قرأ على قراءة فلا يدعها رغبة عنها؛ فإنه من كفر بحرف منه كفر به كله".
قلت: وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لأحد المختلفين "أحسنت" وفي الحديث الآخر "أصبت" وفي الآخر "هكذا أنزلت" فصوب النبي صلى الله عليه وسلم قراءة كل من المختلفين، وقطع بأنها كذلك أنزلت من عند الله، وبهذا افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء؛ فإن اختلاف القراء كل حق وصواب نزل من عند الله وهو كلامه لا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي والحق في نفس الأمر فيه واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر نقطع بذلك ونؤمن به، ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم إنما هو من حيث إنه كان أضبط له وأكثر قراءة وإقراء به، وملازمة له، وميلًا إليه، لا غير ذلك. وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما