الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الخامس عشر: الآيات التي تجرد الرسول صلى الله عليه وسلم من نسبة القرآن إليه
.
وذلك أنك تقرأ القرآن فتجد فيه آيات كثيرة تجرد الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم من أن يكون له فيها حرف أو كلمة، وتصفه بأنه كان قبل نزول القرآن لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وتمتن عليه بأنَّ الله آتاه الكتاب والحكمة بعد أن كان بعيدا عنهما وغير مستعد لهما، ولم يكن عنده رجاء من قبل لأنْ يكون منهل هذا الفيض، ولا مشرق ذلك النور اقرأ قوله سبحانه في سورة النساء:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وقوله في ختام سورة الشورى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} ، وقوله في سورة القصص:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} .
بل كان صلى الله عليه وسلم يخاف انقطاع هذا المدد الفياض عنه، فإذا فتر الوحي عراه من الحزن على فترته، والتلهف على عودته ما يجعله يمشي في الشعاب والجبال كأنه يتلمسه، لولا أن طمأنه الله عليه. وأكثر من هذا وذاك أنه كان يخاف أن ينزع الله من قلبه ما أنزل عليه وحفظه إياه {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)} [الإسراء: 86، 87].
قل لي - وربك - هل يتصور منصف على وجه الأرض أن القرآن كلام محمد، بعد ما قصصنا عليك من هذه الآيات التي تجرده من إنشائه ووضعه، بل تجرده من رجاء نزوله عليه قبل مبعثه، ومن رجاء بقائه لديه بعد نزوله عليه؟ وهل يصح في الأذهان أن أحدًا يبتكر بعبقريته أمرًا هو مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ثم يقول للعالم في صراحة: ليس هذا الفخر فخري، وما هو من صنعي، وما كان لديَّ استعداد أن آتي بشيء منه، وأنتم تعرفونني وتعرفون استعدادي من قبل؟
ألا إن هذا يخالف العقل والمنطق، ويجافي العرف والعادة، وينافي مقررات علم النفس وعلم الاجتماع؛ فإن النفوس البشرية مجبولة على الرغبة في جلائل الأمور ومعاليها، مطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها، لا سيما إذا كان ذلك نابعًا منها وصادرًا عنها، وكان صاحب هذه النفس صدوقًا ما كذب قط، رافعًا عقيرته بزعامة الناس ودعوتهم إلى الحق. وليس شيء أجل شأنًا ولا أخلد ذكرًا من القرآن الكريم، الذي جمع الله به شمل أمة، وأقام به خير ملة، وأسس به أعظم دولة؛ فما كان لمحمد أن يزهد في هذا المجد الخالد، ولا أن يتنصل من نسبته إليه لو كان من وصفه وصنعه، وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به وبما جاء به!
وأي وجه لمحمد في أن يتنصل من نسبة القرآن إليه وهو صاحبه؟ إنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجد، فليس شيء أوجه له ولا أعلى ولا أمجد من أن يكون هذا القرآن كلامه، وإن كان يطلب هداية الناس؛ فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يُعجِزُ الجن والإنس بكلامه، ويتحدى كل جيل وقبيل ببيانه، ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه. ولو كان القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم لأثبت به ألوهيته بدلًا من نبوته؛ لأن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن إله كما بينا في الوجوه السالفة للإعجاز، وإذن لكانت تلك الألوهية أبلغ في نجاح دعوته، وأَرْجى في ترويج ديانته؛ لأن الناس تبهرهم الألوهية أكثر مما تبهرهم النبوة، ويشرفهم أنهم أتباع إله أكثر من أن يشرفهم أنهم أتباع رسول لم يخرج ولن يخرج يومًا من أرض العبودية، ولم يرتق ولن يرتقي يومًا إلى سماء الربوبية:
العبد عبد وإن تعالى
…
والمولى مولى وإن تنزل
ولهذا كان أعداء الرسل كثيرًا ما يعظم عليهم أن يخضعوا لرجل منهم، وكانوا يعجبون أن يُوحى إلى بشر مثلهم، ويقترحون أن يروا الله جهرة أو تنزل لهم الملائكة عيانًا. فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم صاحب هذا التنزيل، لخرج عن مستوى الخلق جملة، ولظهر في أفق الألوهية، يطل على العالم بعظمة تنقطع دونها الأعناق وتخضع لها الرقاب، وأن يحقق كل ما اقترحه معارضوه من الآيات؛ ولكنه اعترف بعبوديته حينذاك، وتبرأ من حوله وقوته إزاء هذا