الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر؛ فإن الشعراء يتَبجَّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم (1).
قال الماوردي: قال أهل التأويل: يريد بالشعراء، الذين إذا قالوا كذبوا، وإذا غضبوا سبوا (2).
موقف السنة من الشعر والشعراء:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحا يَرِيِه خير من أن يمتلئ شعرًا"(3).
وفي رواية مسلم عن أبي سعيد قال: "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله: "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا خير من أن يمتلئ شعرًا" (4).
فهذا الحديث في ظاهره يدل على التنفير من الشعر والحث على هجره واجتنابه؛ بل على تحريم تعاطيه. وصدّر البخاري ترجمته بقوله: باب ما يكره أن يكون الغالبُ على الإنسان الشعر حتى يصُدّهُ عن ذكر الله والقرآن.
قال ابن الأثير: هو مَوْرِيٌّ إذا أصاب جوفه الداء.
قال الأزهري: الوَرْيُ مثَال الرَّمْي: دَاء يُداخل الجَوف. يقال: رَجُلٌ مَوْرِيٌّ غَير مهموز. وقال الفرّاء: هُو الوَرَى بفتح الراء. وقال ثَعْلب: هو بالسُّكون: المَصْدَرُ وبالفَتْح: الاسم. وقال الجوهري: وَرَى القَيْحُ جَوْفَهُ يَرِيه وَرْيًا: أكَلَه. (5)
وقال النووي: قالوا؛ بل الصواب أن المراد أن يكون الشعر غالبًا عليه، مستوليًا عليه، بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/ 173، 174.
(2)
الحاوي في فقه الشافعي للماوردي 17/ 208.
(3)
أخرجه البخاري (5803) ومسلم (6030).
(4)
صحيح مسلم (6032).
(5)
النهاية في غريب الحديث والأثر 5/ 390.
يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا لأن جوفه ليس ممتلئا شعرا والله أعلم (1).
ويقول ابن الجوزي: هذا الحديث محمول على من جعل جميع شغله الشعر، فلم يحفظ شيئًا من القرآن ولا من العلم؛ لأنه إذا امتلأ الجوف بالشيء لم يبق فيه سعة لغيره. وقال أحمد بن حنبل: أكره من الشعر الهجاء والرقيقَ الذي يشبب بالنساء، فأما الكلام الجاهلي فما أنفعه! (2)
ويقول ابن عبد البر: أحسن ما قيل في تأويل هذا الحديث والله أعلم، أنه الذي قد غلب الشعر عليه، فامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شيء من الذكر غيره، ممن يخوض به في الباطل ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من الهذر واللغط والغيبة وقبيح القول ولا يذكر الله كثيرا. وهذا كله مما اجتمع العلماء على معنى ما قلت منه؛ ولهذا قلنا فيما روي عن ابن سيرين والشعبي ومن قال بقولهما من العلماء: الشعر كلام؛ فحسنه حسن وقبيحه قبيح أنه قول صحيح، وبالله التوفيق (3).
وبَعد ما ذُكِرَ نعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرّح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر، محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذكر، وتلاوة القرآن، وطاعة الله تعالى، وعلى الشعر القبيح المتضمّن للكذب والباطل، كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيّات، ونحو ذلك.
يقول ابن بطال: الشعر والرَجَز والحُداء كسائر الكلام، فما كان فيه ذكر تعظيم لله ووحدانيته وقدرته وإيثار طاعته وتصغير الدنيا والاستسلام له تعالى، فهو حسن مرغب فيه، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:"إن من الشعر حكمة"، وما كان منه كذبًا وفحشًا فهو الذي ذمه الله ورسوله" (4).
ما يرخص فيه من الشعر:
(1) شرح صحيح مسلم 15/ 14.
(2)
كشف المشكل من حديث الصحيحين لأبي الفرج ابن الجوزي 1/ 169.
(3)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 22/ 196، وانظر الحاوي في فقه الشافعي للماوردي 17/ 208، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 150، 13/ 151.
(4)
شرح صحيح البخاري لابن بطال 9/ 319.
ما ورد في ذم الشعر والشعراء في القرآن أو في السنة، فإنما يُذَمُّ مَنْ أَسَرَفَ وكَذَبَ، فالغالب أن الشعراء يقولون الكذب، فيقذفون المحصنات، ويهجون الأبرياء، فوقع الذم على الأغلب، واستثنى الله منهم من لا يفعل ذلك، كما في آيات سورة الشعراء. وما ورد في السنة من ذم حفظ الشعر فالمقصود به الإكثار من ذلك حتى يشغله عن القرآن والسنة والتفقه في الدين، أو ما كان فيه تشبيب بالنساء ونحوه.
أما الشعر الذي فيه نصر للحق وأهله، ودفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وشرعه، ففيه تنزل نصوص مدح الشعر والشعراء، ومنها دعائه صلى الله عليه وسلم لحسان:"يا حسان! أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس"(1).
ودليل ذلك أيضًا ما أخرجه الإمام البخاري عن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعر حكمة (2).
قال ابن حجر: قوله: إن من الشعر حكمة؛ أي قولًا صادقًا مطابقًا للحق، وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى: أن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه (3).
وقال السندي: (من) تبعيضية يريد أن الشعر لا دخل له في الحسن والقبح، ولا يعتبر به حال المعاني في الحسن والقبح، والمدار إنما هو على المعاني لا على كون الكلام نثرًا أو نظمًا، فإنهما كيفيتان لأداء المعنى وطريقان إليه، ولكن المعنى: إن كان حسنًا وحكمة فذلك الشعر حكمة، وإذا كان قبيحًا فذلك الشعر كذلك، وإنما يذم الشعر شرعًا بناء على أنه غالبًا يكون مدحًا لمن لا يستحقه وغير ذلك (4).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام"(5).
(1) رواه البخاري (442)، مسلم (2485).
(2)
صحيح البخاري (5793).
(3)
فتح الباري 10/ 540.
(4)
حاشية السندي على سنن ابن ماجه 7/ 153.
(5)
الأدب المفرد (865)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (447).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح؛ خذ بالحسن ودع القبيح. ولقد رُويت من شعر كعب بن مالك أشعارًا منها القصيدة فيها أربعون بيتا ودون ذلك (1).
وقد أنشد كثير من الصحابة الشعر بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فروى مسلم عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ رَدِفْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ:"هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِى الصَّلْتِ شَيْئًا". قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: "هِيهِ". فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ: "هِيهِ". ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ: "هِيهِ". حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ". (2)
وأخرج بن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه (3).
وقال الماوردي: وقد استشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنه فيما سأله نافع بن الأزرق في معاني القرآن بأشعار العرب، ودل به على معانيه وقال: الشعر ديوان العرب، فما أنكره أحد منهم من الصحابة والتابعين (4).
وقال ابن الجوزي: قال حبيب بن أبي ثابت: كان ابن عباس يعجبه شعر زهير ويقضي له، وكان معاوية يعجبه شعر عدي ويقضي له، وكان ابن الزبير يعجبه شعر عنترة ويقضي له، قال: وإنما اختار ابن عباس شعر زهير؛ لأنه كان يختار من الشعر أكثره أمثالًا وأدله على العلم والخير، واختار معاوية شعر عدي؛ لأنه كان كثير الأخبار، واختار ابن الزبير شعر عنترة لشجاعته (5).
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (866)، وقال ابن حجر في الفتح 10/ 540: سنده حسن. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 731.
(2)
صحيح مسلم (6022).
(3)
ابن أبي شيبة (405)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح 10/ 540.
(4)
الحاوي في فقه الشافعي للماوردي 17/ 203.
(5)
كشف المشكل من حديث الصحيحين 1/ 169.