الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأغلب ما وصف بالشذوذ من القراءات كان بسبب مخالفة الرسم العثماني أو بسبب عدم توافر النقل (1)، وليس من أجل مخالفة العربية، إلا في النادر، مما نقله ثقة ولا وجه له في العربية، ولا يصدر مثل هذا إلا سهوًا بشريًا، وقد نبه عليه المحققون والقراء الضابطون (2).
مع أن القرآن دُوِّن في مصحف عثمان لم يتحول الأساس في تلاوته يومًا إلى الاعتماد على المصحف المكتوب؛ بل ظل الاعتماد منذ وجود الرسول صلى الله عليه وسلم على الرواية بالسند الصحيح المتواتر عنه، فالأساس دائمًا الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تلقاه شفويًا عنه صحابته (3)، وعنهم تلقاه التابعون، وتوالى ذلك بالسند المتواتر جيلًا بعد جيل (4).
وقد كان التعويل في ذلك على أن القرآن محفوظ في الصدور قبل أن يحفظه كونه محفوظًا في مصحف، وأن القراءة الصحيحة لن تكون أي نطق محتمل لخط المصحف؛ بل لا بد أن تكون رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
ومن ثم ظهر نوع آخر من القراءات الشاذة التي سببها عدم صحة السند، أو عدم وجوده أصلًا، فتكون القراءة إما من قبيل الخطأ والسهو، أو من قبيل الكذب والافتراء، وهذا كله يندرج تحت القراءات الشاذة اصطلاحًا، ووجه الشذوذ هنا أن القارئ لم يخالف من هو أوثق منه؛ بل خالف الأمة كلها (6).
ثانيًا: مزايا الرسم العثماني:
(1) انظر فيما سبق شروط القراءة الصحيحة.
(2)
المنهاج في الحكم على القراءات د. إبراهيم بن سعيد الدوسري (1/ 18)، إعجاز القراءات القرآنية (59).
(3)
هذه العبارة فيها تجوز؛ لأنه ليس كل واحد من الصحابة تلقى كل آية من القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته؛ بل من الصحابة من تلقى منه صلى الله عليه وسلم بعض السور وتلقى البعض الآخر من غيره من الصحابة، ومنهم من حفظ القرآن كله في حياته، ومنهم من أتم حفظه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فالحاصل: أن مجموع الصحابة حفظ جميع القرآن، وليس جميع الصحابة حفظ جميع القرآن منه وفي حياته صلى الله عليه وسلم. راجع شبهة (لم يحفظ القرآن إلا أربعة).
(4)
مقدمة السبعة للدكتور شوقي ضيف (11).
(5)
إعجاز القراءات القرآنية (60).
(6)
راجع في ذلك مزايا جمع عثمان رضي الله عنه.
لهذا الرسم مزايا وفوائد:
الفائدة الأولى: الدلالة في القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر الإمكان، وذلك أن قاعدة الرسم لوحظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر كتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر. فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل؛ وذلك ليعلم جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل. وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة بحرف الأصل رسمت به. مثال الكلمة تكتب بصورة واحدة وتقرأ بوجوه متعددة قوله تعالى:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] رسمت في المصحف العثماني هكذا: (إن هدان لساحران) من غير نقط، ولا شكل، ولا تشديد، ولا تخفيف في نوني إن وهذان، ومن غير ألف، ولا ياء بعد الذال من هذان.
ومجيء الرسم كما ترى كان صالحًا عندهم لأن يقرأ بالوجوه الأربعة التي وردت كلها بأسانيد صحيحة.
أولها: قراءة نافع ومن معه إذ يشددون نون - إنَّ ويخففون - هذَان - بالألف.
ثانيها: قراءة ابن كثير وحده إذ يخفف النون في - إنْ - ويشدد النون - في هذان.
ثالثها: قراءة حفص إذ يخفف النون في - إنْ - وهذان بالألف.
رابعها: قراءة أبي عمرو بتشديد - إنَّ - وبالياء وتخفيف النون في - هذين، فتدبر هذه الطريقة المثلى الضابطة لوجوه القراءة لتعلم أن سلفنا الصالح كان في قواعد رسمه للمصحف أبعد منا نظرًا وأهدى سبيلًا.
الفائدة الثانية: إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة، وذلك نحو قطع كلمة أم في قوله تعالى:{أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109]، ووصلها في قوله تعالى:{أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] إذ كتبت هكذا {أَمَّنْ} بإدغام الميم
الأولى في الثانية وكتابتهما ميمًا واحدة مشددة فقط؛ أم الأولى في الكتابة للدلالة على أنها أم المنقطعة التي بمعنى بل، ووصل أم الثانية للدلالة على أنها ليست كتلك.
الفائدة الثالثة: الدلالة على معنى خفي دقيق كزيادة الياء في كتابة كلمة "أيد" من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وإذ كتبت هكذا {بِأَيْدٍ} ، وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
ومن هذا القبيل كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:
(ويدعو الإنسان)، (يمحو الله الباطل)، (يوم يدعو الداع)، (سندعوا الزبانية) فإنها كتبت في المصحف العثماني هكذا:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.
قالوا: والسر في حذفها من {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} هو الدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير؛ بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير. والسر في حذفها من {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله.
والسر في حذفها من {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} والإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين. والسر في حذفها من {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش. ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي: والسر في حذفها من هذه الأربعة سرعة وقوع الفعل، وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود.
الفائدة الرابعة: الدلالة على أصل الحركة مثل كتابة الكسرة ياء في قوله سبحانه {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إذ تكتب هكذا {وإيتاءى ذي القربى} ، ومثل كتابة الضمة واوًا في قوله سبحانه:{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} إذ كتبت هكذا {سأوريكم دَارَ الْفَاسِقِينَ}
ومثل ذلك الدلالة على أصل الحرف، نحو الصلاة والزكاة إذ كتبا هكذا: الصلَوة الزكَوة؛ ليفهم أن الألف فيهما منقلبة عن واو. من غير نقط ولا شكل كما سبق.
الفائدة الخامسة: إفادة بعض اللغات الفصيحة، وذلك مثل كتابة هاء التأنيث تاء مفتوحة في بعض المواضع؛ للإيذان بجواز الوقف عليها بالتاء على لغة (طيئ) نحو:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وفي الأعراف، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} في التحريم، {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} في الأنفال، {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)} في الدخان.
ومثل: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ. .} في الكهف، كتبت كلمة {نَبْغِ} بحذف الياء على لغة هذيل التي تحذف لام الفعل المضارع المعتل من غير دخول جازم عليه.
ومثل قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كتبت بحذف الياء هكذا {يَأْتِ} للدلالة على لغة هذيل.
الفائدة السادسة: حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال، ولا يتكلوا على هذا الرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة. وينضوي تحت هذه الفائدة مزيتان.
إحداهما: التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده. فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من المصحف مهما تكن قاعدة رسمه واصطلاح كتابته. فقد تخطئ المطبعة في الطبع، وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده كالقلقلة، والإظهار، والإخفاء، والإدغام، والروم، والإشمام ونحوها فضلًا عن خفاء تطبيقها.
ولهذا قرر العلماء أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها؛ بل لا بد من التثبت في الأداء والقراءة بالأخذ عن حافظ ثقة. وإن كنت في شك فقل لي بربك: هل يستطيع المصحف بأي رسم يكون أن يدل قارئًا أيًا كان على النطق الصحيح بفواتح السور
الكريمة؟ مثل {كهيعص، حم، عسق، طسم} ؟ ، ومن هذا الباب الروم والإشمام في قوله سبحانه {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} من كلمة {لَا تَأْمَنَّا} .
المزية الثانية: اتصال السند برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك خاصة من خواص هذه الأمة الإسلامية امتازت بها على سائر الأمم.
قال ابن حزم: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل. وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من كتب اليهود ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا. إنما يبلغون إلى شمعون ونحوه، ثم قال: وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق. وأما النقل المشتمل على طريق فيه كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى. وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا صاحب نبي أو تابعي، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص (1).
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 306: 309) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عدد 32، تاريخ القرآن الكريم لـ محمد طاهر الكردي (1/ 120).