الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سيما أن القرآن قد اكتفى منهم في معرض التحدي بأن يأتوا بسورة من مثل أقصر سورة أي بمثل ثلاث آيات قصار من بين تلك الآلاف المؤلفة التي اشتمل عليها الكتاب العزيز، وأنت خبير بأن هؤلاء لم تكن لتعييهم تلك المساجلة وهم فرسان ذلك الميدان، وأئمة الفصاحة والبيان لو كان الأمر من صناعة محمد وإنشائه كما يزعم أولئك الخراصون، فما بالك وقد خرست ألسنتهم وخشعت أصوات الأجيال كلها من بعدهم، ومعلوم أن النابغة الفذ في أي عصر من العصور يستطيع أقرانه بيسر وسهولة أن يحاكوه مجتمعين ومنفردين في الشيء القليل على فرض أنهم لا يستطيعون معارضته في الجميع أو الشيء الكثير. (1)
الوجه الثالث: آيات العتاب
.
ومعنى هذا أن القرآن سجل في كثير من آياته بعض الوقائع التي اجتهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ووُجِّه إليه بسببها عتابًا، نشعر بلطفه تارة وبعنفه أخرى. ولا ريب أن العقل المنصف يحكم جازمًا بأن هذا القرآن كلام الله وحده؛ ولو كان كلام محمد ما سجل على نفسه هذه المواقف وهذا العتاب يتلوهما الناس؛ بل ويتقربون إلى الله بتلاوتهما حتى يوم المآب. (2)
لا أدل على أن الوحي القرآني خارج عن الذات المحمدية من مخالفة القرآن في عدة مواطن لاجتهاده الشخصي ولطبعه الخاص، ومعاتبته على بعض اجتهاداته:
مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 67، 68].
عن ابْنِ عَبَّاسٍ قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: "لمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ الله الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللهمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي. . . - الحديث وفيه -: فَلَمَّا أَسَرُوا الأسَارَى قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: "مَا تَرَوْنَ فِي
(1) مناهل العرفان 1/ 62 - 63.
(2)
مناهل العرفان في علوم القرآن 2/ 282 بتصرف يسير.
هَؤُلَاءِ الأسَارَى؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ الله هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً؛ فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى الله أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ "، قُلْتُ: لَا وَالله يَا رَسُولَ الله، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عُقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ - نَسِيبًا لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ" شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنَزَلَ الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} فَأَحَلَّ الله الْغَنِيمَةَ لَهُمْ"(1).
وتأمل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة؛ فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بُدئت بالعتاب على هذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها، وتطييب النفوس بها، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها. فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول الكلام - لو كان عن النفس مصدره - يمكن أن يصدر عنها آخره، ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟ كلا، وإنَّ هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين، لكان الثاني منهما إضرابًا عن الأول ماحيًا له، ولرجع آخر الفكر وفقًا لما جرى به العمل.
فأي داعٍ دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله، على ما فيه من تقريعٍ علني بغير حق، وتنغيصٍ لهذه الطعمة - المكسب - التي يراد جعلها حلالًا طيبًا؟ إنَّ الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن ها هنا البتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت
(1) مسلم (1763).