الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد ولا إلى تهافت وتخاذل؛ بل القرآن كله على تنوع قراءاته يصدق بعضه بعضًا، ويبين بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم. وذلك من غير شك يفيد تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف.
ومعنى هذا: أن القرآن يُعجز إذا قرئ بهذه القراءة، ويُعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية، ويُعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة، وهلم جرًا. ومن هنا تتعدد المعجزات بتعدد تلك الوجوه والحروف.
ولا ريب أن ذلك أدل على صدق محمد؛ لأنه أعظم في اشتمال القرآن على مناح جمة في الإعجاز وفي البيان على كل حرف ووجه وبكل لهجة ولسان. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} . (1)
سبب الاقتصار على قراءة الأئمة المشهورين:
فإن قيل: فهذا سبب الخلاف وأصله مستمد من الوحي، فما السبب في الاقتصار على قراءة هؤلاء القراء؟ فهذا جوابه:
1 - اشتهارهم بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة به والاتفاق على الأخذ عنه
.
لما جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد، وأمر بأن يرسل للآفاق مصاحف على ما جمعه، كما تقدم، وكانت كتابتها مجردة من الشكل والنقط، فقرأ أهل كل مصر في مصحفهم وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. . .
ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد قراءته وفاقًا لبدعهم كمن قال من المعتزلة {وَكلَّمَ - الله - مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] بالنصب على الهاء - رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم، فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف أئمةً مشهورين بالثقة، والأمانة بالنقل، وحسن كمال الدين، وكمال العلم، أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء واشتهر أمرهم. . . ولم
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 127).
تخرج قراءتهم عن خط مصحفهم، فمنهم بالمدينة أبو جعفر وشيبة ونافع، وبمكة: عبد الله بن كثير وابن محيصن والأعرج، وبالكوفة يحيى بن وثَّاب وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وبالشام عبد الله بن عامر وعطية بن قيس الكلابي ويحيى بن الحارث الزماري، وبالبصرة عبد الله بن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي.
ثم إن القراء بعد ذلك تفرقوا في البلاد، وخلفهم أمم بعد أمم. إلا أنهم كان فيهم المتفق وغيره. فلما كثر الاختلاف، وعسر الضبط، وشق الائتلاف، وظهر التخليط، وانتشر التفريط، واشتبه متواتر القراءات بفاذِّها، ومشهورها بشاذِّها، فمن ثَمّ وضع الأئمة لذلك ميزانًا يرجع إليه، ومعيارًا يعول عليه، وهو السند والرسم والعربية فكل ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط مصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات على سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى سقط شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ (1).
والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجلّ منهم أو مثلهم إلى عدد أكثر من السبعة هو أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرين جدًا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا - مما يوافق خط المصحف - على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة به والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إمامًا واحدًا ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه غير الأئمة هؤلاء من القراءات ولا القراءة بها، كقراءة يعقوب الحضرمي وأبي جعفر المدني وشيبة وغيرهم.
ولقد أسهم المؤلفون في القراءات في الاقتصار على عدد معين؛ لأنهم إذ يؤلفون مقتصرين على عدد مخصوص من أئمة القراء يكون ذلك من دواعي شهرتهم، وإن كان غيرهم أجل منهم قدرًا فيتوهم الناس بعدُ أن هؤلاء الذين اقتصر التأليف على قراءتهم هم الأئمة المعتبرون في القراءات، وقد صنف ابن جبر المكي كتابًا في القراءات، فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إمامًا (2).
(1) محاسن التأويل (1/ 295: 296) باختصار.
(2)
فتح الباري لابن حجر (8/ 648)، والإتقان (1/ 224)، والإبانة لمكي بن أبي طالب (46: 63).