الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكنهم - وهم الأكثر دراية بحاله وتحركاته - لم يرصدوا أنه ذهب إلى معلم كتابي واحد، ولم يفضحه رفاقه في السفر بأنه التقى بأي حبر أو كاهن، ومن غير الممكن أن يتردد سيدنا محمد إلى بيت معلم يعلمه دون أن يلاحظ ذلك أحد، فمكة المكرمة مدينة صغيرة المساحة؛ أحياؤها بل بيوتها معروفة لكل واحد من أهلها.
شبهة: القرآن وورقة والنصارى ونسبة تأليفهم له
.
قالوا: ورقة ألَّف القرآن، ونسبه هو ومحمد إلى الله.
والرد على الشبهة كما يلي:
الوجه الأول: إثبات أن القرآن من عند الله
.
لخص ابن كثير هذه المسألة في بداية تفسيره تحت هذه الآيات من سورة البقرة، فقال: قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} .
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارِضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك.
قال ابن عباس: {شُهَدَاءَكُمْ} أعوانكم، أي: قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك.
وقال السدي عن أبي مالك: شركاءكم أي: استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم.
وقال مجاهد: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} قال: ناس يشهدون به يعني: حكام الفصحاء.
وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص:{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49]،
وقال أيضًا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وقال في سورة هود:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وقال في سورة يونس:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 37، 38] وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم الله تعالى بذلك أيضًا في المدينة فقال في هذه الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي: (في) شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يعني: من مثل (هذا) القرآن؛ قاله مجاهد وقتادة، واختاره ابن جرير بدليل قوله:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13]، وقوله:{لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88]، وقال بعضهم: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني: من رجل أمي مثله. والصحيح الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} "ولن": لنفي التأبيد أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا، وهذه - أيضًا - معجزة أخرى، وهي أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدًا وكذلك وقع الأمر؛ لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟ !
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى؛ قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت
طبق ما أخبر سواءً بسواءٍ، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر؛ كما قال:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدىً؛ ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء، أو الخيل، أو الخمر، أو في مدح شخص معين، أو فرس، أو ناقة، أو حرب، أو كائنة، أو مخافة، أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواءً كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواءً تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا؛ لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وَعَدَ أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن؛ كما قال في الترغيب:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]، وقال:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]، وقال في الترهيب:{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء: 68]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)} [الملك: 16، 17] وقال في الزجر:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا