الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويمحو حياة ويثبت موتًا، وهكذا تعمل يد الله في خلقه وتشريعاته تغييرًا وتبديلًا، وهو الحق وحده لا يعروه تغيير ولا تبديل، ولا يتطرق إلى علمه محو ولا إثبات.
وخلاصة هذا التوجيه أن النسخ تبديل في المعلوم لا في العلم، وتغيير في المخلوق لا في الخالق، وكشف لنا وبيان عن بعض ما سبق به علم الله القديم المحيط بكل شيء، ولهذا ذهب كثير من علمائنا إلى تعريف النسخ بأنه بيان انتهاء الحكم الشرعي الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي، ثم قالوا: توجيهًا لهذا الاختيار، إن هذا التعريف دفعًا ظاهرًا للبداء وتقريرًا لكون النسخ تبديلًا في حقنا بيانًا محضًا في حق صاحب الشرع (1).
الوجه الثالث:
بيان معنى المحو والإثبات في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39].
والمحو والإثبات في الآية على قولين:
القول الأول: أن الآية عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر السياق.
قال ابن عطية: وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتخلص به مشكلها: أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل، وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي ثبتت في {أُمُّ الْكِتَابِ} وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها - ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت. وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم (2).
(1) مناهل العرفان (2/ 153: 152).
(2)
المحرر الوجيز (4/ 317).
قال الشوكاني: وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر، أو خير أو شرّ، ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]. (1)
القول الثاني: أن هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون البعض.
وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه:
أحدها: يمحو الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني: يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء في كتابٍ سوى أُم الكتاب، وهما كتابان أحدهما: أم الكتاب لا يغيره ولا يمحو منه شيئًا كما أراد، قاله عكرمة.
الثالث: أن الله عز وجل ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه أي الناسخ والمنسوخ، فيمحو المنسوخ، ويثبت الناسخ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد.
الرابع: أنه يمحو مَنْ قد جاء أجلُه ويثبت من لم يأت أجلُه، قاله الحسن.
الخامس: يغفر مما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره، قاله سعيد بن جبير.
السادس: أنه الرجل يقدم الطاعة ثم يختمها بالمعصية فتمحو ما قد سلف، والرجل يقدم المعصية ثم يختمها بالطاعة فتمحو ما قد سلف، وهذا القول مأثور عن ابن عباس أيضًا.
السابع: أن الحفظة من الملائكة يرفعون جميع أقواله وأفعاله، فيمحو الله عز وجل، منها ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب، قاله الضحاك. وثم أقوال أخرى ذكرها أهل العلم. (2)
والقول الأول هو الراجح.
فإن قال قائل: ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف بها القلم وليس الأمر بأنف،
(1) فتح القدير (3/ 124)، تفسير الرازي (19/ 64)، تفسير القرطبي (9/ 340)، تفسير ابن كثير (8/ 165).
(2)
تفسير الطبري (13/ 170: 165)، النكت والعيون (3/ 118: 117).