الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن الوجوه المفحمة في رد هذه الفرية: إبطال نسبة هذه الأبيات إلى عصر الجاهلية من عدة وجوه، وما هي إلا أبيات مولدة في العصور الإسلامية اقتبس صاحبها بعض الأساليب والكلمات من القرآن الكريم على ما درج عليه أهل الأدب قديما وحديثا فلا شبهة في هذا ولا اقتباس وإليك الكلام مفصلًا في:
الوجه الخامس: إن امرئ القيس وغيره من الشعراء قد نحلت عليهم العديد من القصائد فضلا عن الأبيات
.
بل نُحل على بعضهم قصص كاملة لا خطم لها ولا أزمة، وقضية نحل الشعر ونسبته لقدماء الشعراء أمر معروف لا يستطيع أحد إنكاره.
النحل في اللغة: قال ابن منظور: انْتَحَل فلانٌ شِعْر فلانٍ إِذا ادّعاه أَنه قائلُه. وتَنَحَّلَه: ادَّعاه وهو لغيره، ويقال: نُحِل الشاعرُ قصيدةً إِذا نُسِبَت إِليه وهي من قِيلِ غيره (1).
وقال الرازي: نَحَلَهُ القول من باب قطع أي أضاف إليه قولًا قاله غيره وادَّعاه عليه، وانْتَحَل فُلان شِعْر غيره، أو قوله غيره إذا ادَّعاه لنفسه، وتَنَحّل مثله وفُلان يَنْتَحِلُ مذهب كذا وقبيلة كذا إذا انتسب إليه (2).
يقول محمد بن سلام الجمحي: وفى الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير، لا خير فيه ولا حجة في عربيةٍ ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف. وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي.
وقد اختلف العلماء بعدُ في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه (3).
(1) لسان العرب مادة: (ن ح ل).
(2)
مختار الصحاح، مادة:(ن ح ل).
(3)
في كتابه "طبقات فحول الشعراء" 1/ 5.
ويقول: فلما راجَعَتِ العَرَبُ رِوَايةَ الشِّعْرِ وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قومٌ قَلَّتِ وقائعُهم وأشعارُهم فأرادوا أن يَلْحَقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت. وليس يُشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون (1).
وقال: وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار (2).
وسبب ذلك ما يقول الأستاذ محمود محمد شاكر: الشعر الجاهلي المحض له مشكلة قائمة برأسها، يشركه في بعضها الشعر في صدر الإسلام. وكلاهما يعتمد اعتمادًا يكاد يكون تامًّا على الرواية المتسلسلة في بوادي الجاهلية وحواضرها، ثم في بوادي الإسلام وحواضره إلى أن يصل إلى عهد رواية العلماء، وتقييد ما يَرْوُونَه كتابة في بعض الأحيان أو إملاءً على أصحابهم وتلاميذهم أحيانًا أخرى. وهذه الفترة واقعة ما بين سنة 150 قبل الهجرة تقريبا إلى نحو سنة ثمانين بعد الهجرة. وهذه فترة طويلة جدا، مئتان وثلاثون سنة أو تزيد تُعَرِّضُ الرواية المتنقلة عن طريق السماع والحفظ، لعيوب لا يمكن اتقاؤها. (3)
وثمة عوامل خلال هذه السنين تُعَرِّض هذا المنقول للنسيان أو الزيادة والنقصان أو التحريف والتبديل.
يقول الأستاذ شاكر: جاء عصر الرواة العلماء، وجعلوا همهم تتبع الشعر والشعراء في قبيلة بعد قبيلة وحي بعد حتى لقوا في رحلتهم عوارض في تلقِّي الشعر: فقُرب عهد الشاعر أو بُعدُه من زمان العلماء الرواة له أثر في الرواية، وكذلك طول القصيدة أو قصرها له أثر آخر،
(1) السابق 1/ 46.
(2)
السابق 1/ 48.
(3)
نمط صعب ونمط مخيف صـ 38.
وشهرة الشاعر لها أثر، كما عرضت للعلماء أنفسهم عوارض فيما سمعوه فحفظوه أو قيدوه من نسيانٍ لبعض ما حفظ، ومن لحوق الضياع أو التلف ببعض ما قيدوه وكتبوه، ومن تباعد الأيام أو تدانيها من وقت روايتهم، ثم إن القصيدة الواحدة قد رواها عدد مختلف من العلماء الرواة القدماء عن رواة مختلفين من رواة البادية في أماكن مختلفة من بلاد العرب، وفي أحوال يختلف بعضها عن بعض فإذا قدرنا العوارض التي ذكرناها آنفا لم نجد مناصًا من أن يلحق هذه القصيدة ضرب أو ضروب من الاختلاف، فيختلف عدد أبياتها تقديمًا وتأخيرًا، وتختلف نسبتها أحيانًا، فتنسب إلى شاعرين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، من قبيلة واحدة أو من قبائل مختلفة. بل ربما دخلت في بعض روايتها أبيات لشاعر آخر على وزنها وقافيتها من قبيلته أو غير قبيلته، على قدر ما يتميز به كل راو من الدقة والضبط أو الغفلة والنسيان (1).
قال ابن عبد ربه: وكان خَلفٌ الأحمرُ أَروَى الناسِ للشِّعرِ وَأَعْلَمَهُمْ بِجَيِّدِه. . . . وكان خلف مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن، وينَحله الشعراء. . . وكذلك كان يفعل حمّادٌ الرواية، يَخلط الشعر القديم بأبيات له، قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتًا فجازت عليه إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر، قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ
…
من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا (2)
وقال السيوطي: قال ابنُ فارس: . . . عن الخليل قال: إن النَّحَارير ربَّما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللَّبس والتَّعنيت (3).
وقال أبو الطيب في مراتب النحويين: أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا محمد بن يزيد قال: كان خلف الأحمر يُضْرَب به المثلُ في عَمل الشعر، وكان يعمل على ألْسنة الناس فيشبه كلَّ
(1) السابق من صـ 39: صـ 42 ملخصًا بتصرف.
(2)
العقد الفريد 2/ 319، وانظر تفاصيل نسبة شعر ابن أخت تأبّط شَرًّا مع ذكر الراجح فيها والفوائد الغزيرة في كتاب نمط صعب ونمط مخيف من صـ 44: صـ 61.
(3)
في كتاب "المزهر في علوم اللغة" 1/ 135.
شعر يقوله بشعر الذي يضَعُه عليه، ثم نَسَك فكان يختم القرآن في كلّ يوم وليلة، فلما نَسك خرج إلى أهل الكوفة فعرَّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس فقالوا له: أنتَ كنتَ عندنا في ذلك الوقت أوثقَ منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم (1).
وقال الصفدي: خلف الأحمر الشاعر صاحب البراعة في الآداب، حمل عنه ديوانه أبو نواس، وتوفي في حدود الثمانين ومائة. وكان راوية ثقة علّامة، لم يكن فيه ما يعاب به إلا أنه كان يعمل القصيدة يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء، وينحلها أعيان الشعراء، كـ أبي داود، والإيادي، وتأبَّط شرًا، والشنفرى وغيرهم، فلا يفرَّق بين ألفاظه وألفاظهم، ويرويها جلَّة العلماء لذلك الشاعر الذي نحله إيّاها، فمّما نحله الشّنفرى القصيدة المعروفة بلامية العرب:
أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم
…
فإني إلى قومٍ سواكم لأميل (2).
وقال أبو الحسن الجرجاني: وهو يناقش من يعترض عليه بأن شعر المتقدمين كان فيه من متانة الكلام، وجزالة المنطق وفخامة الشعر، ما يصعب معه أن ينسج على منواله، ولو حاول أحد أن يقول قصيدة أو يقرضَ بيتًا يُقارب شعر امرئ القيس وزهير، في فخامته، وقوة أسْره، وصلابة معجَمه لوجده أبعد من العيّوق مُتناولًا، وأصعبَ من الكبريت الأحمر مطلبًا!
فرد على المعترض قائلًا: أحلتك على ما قالت العلماء في حمّاد وخلَف وابن دأْب وأضرابِهم، ممن نحلَ القدماءَ شعره فاندمج في أثناء شعرهم، وغلب في أضعافه، وصعُب على أهل العناية إفرادُه، وتعسّر، مع شدة الصعوبة حتى تكلّف فلْي الدواوين، واستقراءُ القصائد فنُفِي منها ما لعلّه أمتن وأفخم، وأجمع لوجوه الجوْدة وأسباب الاختيار مما أثبت وقُبِل (3).
إن هذه النقولات تثبت أن وقوع النحل في شعر العرب أمر حاصل، وقد مرَّ كلامُ المتقدمين، الذين عرفوا كلام العرب وأشعارهم، وسبقوا المُحْدَثِينَ والمستشرقين.
(1) المزهر 1/ 140. 139 وبعدها فصَّل السيوطي وذكر الأمثلة على هذا المصنوع المنسوب لكبار الشعراء.
(2)
الوافي بالوفيات للصفدي في ترجمة خلف الأحمر: 4/ 374. ومعجم الأدباء لياقوت الحموي: 4/ 179.
(3)
الوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني صـ 24.
ومما جاء في إنكار بعض أبيات الشبهة المفتراة صراحة ما قال محمود الآلوسي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)} [عبس: 17] قال الإمام: إن الجملة الأولى تدلى على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفًا، والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا، ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن، وما نسب إلى امرئ القيس "قتل الإنسان ما أكفره" فلا أصل له، ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد أراد الاقتباس لا جاهلي (1).
فهذا كلام من ذاق أشعار العرب، وأَلِف أساليبهم، حيث لم يخف عليه ركاكة الألفاظ وضعف السبك.
وإنَّ امرأَ القيس خاصة لما له من قِدَم السبق والإجادة في ميدان الشعر والبيان تمَّ نحله الكثير من الشعر.
قال الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم: استفاضت أخباره على ألسنة الرواة، وزخرت بها كتب الأدب والتراجم والتاريخ، ونسجت حول سيرته القصص، وصيغت الأساطير، واختلط فيها الصحيح بالزائف، وامتزج الحق بالباطل، وتناول المؤرخون والأدباء بالبحث والنقد والتحليل، وخاصة في العصر الحديث. . . وفي جميع أطوار حياته منذ حداثته وطراءة سنه، إلى آخر أيامه، قال الشعر وصاغ القريض. . . وأصبح عند الناس قدر وافر من قصيده، فنحلوه كل شعر جُهِلَ قَائِلُهُ، أو خَمُلَ صَاحِبُهُ، من جيد يعسر تمييزه عن شعره، ورديء سفساف مهلهل النسج، سقيم المعنى.
وللعلماء من القدماء حول هذا الشعر وتحقيق نسبته إليه أقوال معروفة مشهورة (2).
وإنه إذا نُسِبَت الأبيات موضع الشبهة إلى امرئ القيس أو إلى ديوانه دون سند أو
(1) روح المعاني 30/ 44.
(2)
في مقدمة دراسته عن امرئ القيس وشعره.
برهان، فلا شك حينئذ في أنها منحولة ومكذوبة عليه، ومع ذلك فإنه حتى في المنحول الذي يذكره مَنْ جَمَعَ شِعْرَ امْرِئِ القَيْسِ وَمَا نُحِلَ عَلَيهِ لَا يَذْكُرُها.
بل إن بعض أبيات الشبهة جاء منسوبا بالفعل إلى غير امرئ القيس، وغاية ما ذكر في كتب بعض المتقدمين بيتان فقط منسوبان لامرئ القيس وافقت ألفاظهما لفظ القرآن الكريم:
قال الإمام الذهبي: قال ابن النّجّار: كان كاتبًا (1) سديدًا بليغًا وحيدًا، فاضلًا، أديبًا، مقتدرا على الارتجال. . . وله يد باسطة في النّحو واللّغة، إلى أن قال: أنشدني عبد العظيم بن عبد القويّ المنذري، أخبرنا عليّ بن ظافر الأزدي، أنشدني الوزير مؤيّد الدّين القمّي النائب في الوزارة الناصرية لنفسه:
يشتهي الإنسان في الصّيف الشّتا
…
فإذا ما جاءه أنكره
فهو لا يرضى بعيشٍ واحد
…
قتل الإنسان ما أكفره. (2)
فهذا الذهبي يروي البيتين منسوبين للوزير محمد القمي.
وكذلك فعل التيفاشي (ت 651 هـ) أيضًا: فنَسَبَ البيتين إلى يحيى بن صاعد. (3)
فهذان إمامان متقدمان على المناوي قد نسبا البيتين إلى غير امرئ القيس.
ومن أبيات الشبهة التي جاءت منسوبة إلى امرئ القيس:
أنا منْ قومٍ كرامٍ يطعمونَ الطيباتِ
…
بجفانٍ كالجوابي وقدورٍ راسياتِ
فهذان البيتان فقط ذكرهما بعض الأدباء منسوبين إلى امرئ القيس، ومع ذلك فقد أنكروهما وشككوا في صحة نسبتهما إليه، فذكر ابن أبي الأصبع عندما تكلم عن الإيداع أو التضمين، وما قيل من وقوع ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] قال: على أن بعض الرواة ذكر أنه وضعه بعض الزنادقة، وتكلم على الآية الكريمة، وأن امرأ القيس لم يصح أنه تلفظ به (4).
(1) يعني (محمد بن محمد بن عبد الكريم بن برز المعروف بمؤيد الدين القمي) والنص المذكور من ترجمته.
(2)
تاريخ الإسلام 45/ 408 و 409 في ترجمة القمي.
(3)
سرور النفوس بمدارك الحواس الخمس 1/ 239.
(4)
تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر صـ 486.